الفصل السادس

بعد استعادة السُّودان

(١) منشور الحاكم العام لخاصَّة السُّودان وعامَّتهم

«الحمد لله المحيط علمًا بكل شيء. وبعد فإنَّ سمو الأمير خديوي مصر «عباس باشا حلمي الثَّاني» — حرسه الله — قد اختارني لأن أكون سردارًا لجيشه وحاكمًا عامًّا للأقطار السُّودانية بعد اتِّفاقه مع دولة بريطانيا العُظمى على ذلك، فعهد إليَّ في رئاسة الجيش وإدارة شؤون السُّودان وساكنيه، فلبَّيت الدعوة الشريفة، وحمدت الله على حسن عنايته والأمير على حسن ظنه وجميل ثقته، وعاهدت الخالق الذي بيده نفسي ونفوسكم أن أراقبه فيكم، وأنصح في خدمة الأمير، ولا أترك بابًا يأتيكم منه الخير إلَّا فتحته، ولا منفذًا يأتيكم منه الشر إلَّا سددته، وأن أشيِّد بيدي أركان العدل بينكم، وأنشر لواء الإنصاف فوق رؤوسكم، وأسأل الله أن يُلهمني الصواب في أعمالي، ويعصمني من الخطأ والزَّلل، ويُرشدني إلى انتقاء الأمناء من العمال والحكام لتتمَّ رغائبي في الإصلاح ورغائبكم في النجاح.

ولمَّا كان من الفروض الأولية أن أبلغكم إرادتي، وأنشر بينكم رغبتي، عمدت إلى إذاعة هذا المنشور فجعلته باكورة أعمالي؛ لتعلموا منه الغرض الذي أرمي إليه، والطريق التي أريد أن تسلكوا فيها.

اعلموا أنَّ أساس الملك هو العدل، ولهذا لم تقم للسُّودان قائمة؛ لأنَّ ملكه تأسَّس على الجور والاعتساف، واغتصاب الحقوق، وظلم الرعية، وانحراف الحكَّام عن جادة العدل، واتِّباعهم طرق الغواية والضلال، وعدم مراقبة الله، وترك الرّفق بالعمل.

فأراد الله أن يسبغ عليكم رحمته بعد ذلك العذاب، فأزال أولئك الظُّلَّام، ومحا أثرهم، وقوَّض ملكهم؛ فأصبحوا لا تُرى إلَّا مساكنهم، وخلَّف بعدهم رجالًا ملأ قلوبهم رفقًا وعدلًا وهم حكامكم الآن. فأخلصوا لهم الطاعة ليخلصوا لكم العمل، وتيقنوا أنَّكم كالجسد وهم كالرأس، فلا يصلح الجسد إلَّا بصلاح الرأس، ولا يصلح الرأس إلَّا بصلاح الجسد.

ولقد صرفت عنايتي إلى انتخاب الحكَّام الأكْفاء، وأمَرْتهم بالرفق وتنفيذ الأوامر العادلة التي أصدرها لخيركم وخير بلادكم، فعليكم بطاعتهم؛ لأنَّ طاعتهم هي طاعتي، ومن عصاهم فقد عصاني ومن عصاني فقد عصى أولي الأمر، ومن فعل ذلك فقد أغضب الله.

وإنِّي أشهد الله أنَّ من رأيت به اعوجاجًا من هؤلاء الحكَّام قوَّمته بسيف العدل. كما أنِّي أُشهد الله أنَّ من رأيته منكم مخالفًا أو مخاصمًا من غير حقٍّ رميت به إلى أقصى درجات العقاب ليصلح الرأس والجسد معًا.

وقد بدأت بتشييد مساجدكم وإقامة شعائر دينكم المقدسة، وتسهيل طريق الحج إلى بيت الله الحرام. بعد أن حال بينكم وبينه أولئك الطُّغاة العصاة الذين استأصل الله شأفتهم.

فإذا تمَّ ذلك عمدت إلى التجارة، فأوسعت لكم ميدانها، وأجريت لكم سيول خيراتها، وأرضعتكم لُبَانة ربحها، وفعلت كلّ ما تسمح به حالة الحكومة من تعديل ضرائبها وضرائب الأطيان، وأجر النَّقل في السكك الحديدية والمراسلات البريدية والتلغرافية، هذا مع السعي في توسيع نطاق ثروتكم لترتعوا في بحبوحة الراحة والأمن، وتذوقوا حلاوة العدل، وتنسوا مرارة الظلم السابق.

فإيَّاكم ومخالفتي ومخالفة حكَّامكم، واعلموا أنِّي بقدر ما أكون شفوقًا لينًا مع ذي الاستقامة منكم، أكون صارمًا شديدًا على من يُخالف أوامري ويعمل على إبطالها.

فطهِّروا قلوبكم وأخلصوا سرائركم، وضعوا ثقتكم بي والحكام الذين ولَّيتهم عليكم، وانزعوا من نفوسكم الغل والضَّغائن، وانبذوا كلّ من كان مفسدًا للعقائد عاملًا على خراب البلاد مثيرًا للفتن مسببًا للقلاقل، فلقد بيَّنت لكم طريق الهدى.

والله المسؤول أن يكون لي عونًا على تنفيذ إرادة سمو الخديوي المعظَّم، وأن يمتِّعكم بالراحة والأمن والسَّعادة في ظل سموِّه. هذا وقد صفحت الحكومتان المصريَّة والإنكليزية، وصفح سموه، وصفحت عن سالف أعمالكم. فلا نؤاخذكم بما فات. ولي الأمل أن لا يُفرِّط منكم بعد ما فرط من قبلُ، والسلام.»

تحريرًا في أم درمان في ٢٨ فبراير سنة ١٩٠٠.

الموافق ٢٨ شوال سنة ١٣١٧

(ونجت)
سردار الجيش المصري
وحاكم السُّودان العام

(٢) الموظفون بعد استعادة السُّودان

جعل كبار الموظفين ورؤساء المصالح والقضاة المدنيون والمديرون والمفتشون من الإنكليز.

وعين نفر من السوريين والمصريين في وظائف الترجمة والحسابات والسكرتاريات ووظائف الكتَّاب والباشكتاب أمثال سعيد شقير بك «باشا» مدير حسابات السُّودان، وطنوس شحادة في إدارة المخابرات، ورفائيل خليل، وأمين حداد، وفرج شحادة، ودلين زلال، وسليم مشعلاني، وسليم شميل، وصموئيل عطية «بك»، ونجيب كاتبة، ونسيب فيليبيدس.

ومن الأقباط شاهين جرجس بك سكرتير عربي السردار، وروفائيل خليل، وواصف جرجس، وقديس عبد الملك.

ومن المسلمين؛ الشيخ محمد شاكر قاضي قضاة السُّودان، والشيخ محمد هارون مفتش المحاكم الشرعية، وأحمد هدايت سكرتير مدير المعارف بالخرطوم.

(٣) حادث الحدود بين الخديوي وكتشنر باشا

اشتهر حادث سياسي خطير باسم حادث الحدود، ونذكره فيما يلي:

كان الخديوي عباس حلمي الثَّاني يثق بالمرحوم محمد ماهر باشا — وكيل الحربية وقتئذٍ وهو والد معالي علي ماهر باشا رئيس الديوان الملكي والدكتور محمود ماهر بك والدكتور أحمد ماهر عضو الوفد المصري والدكتور أمين ماهر — ثقة كبرى لحبه للوطن حبًّا جمًّا. وكان هذا الحب يحمله على التألُّم من كلّ حادث يقع في الحربية يخالف مصلحة النِّظام العسكري. وكان كثير الاجتماع يومئذ بالخديوي. ثمَّ إنَّ الخديوي كان يجهر بانتقاداته في كلّ ما يراه مخالفًا لمصلحة البلاد، سواء في شؤون الحربية أم غيرها. وفي ذات ليلة قال الخديو على مائدة الطعام: «سيرى السردار منِّي درسًا قاسيًا في الحدود.» فوشى به أحد الذين حضروا تناول الطعام على المائدة الخديوية عند كتشنر باشا سردار الجيش في ذاك الوقت.

فدبَّر الإنكليز أمرهم وانتظروا ما يأتي به الغد القريب، لا سيما وأن الخديوي كان عازمًا على زيارة الحدود وتفقُّد فرق الجيش المصري هناك.

وفي مساء يوم ٩ يناير سنة ١٨٩٤ سافر الخديوي عباس وفي معيته المرحوم ماهر باشا الذي كان الإنكليز يعدونه عدوًّا لهم. وهناك استعرض الجنود وأبدى ملاحظته على ما رآه بالأورطة الثَّانية على مسمع من الضبَّاط الإنكليز؛ مما جعل كتشنر باشا يبلغ الخديوي بأن الضبَّاط الإنكليز متذمرون من هذه الملاحظات العلنية على بعضهم، ويعدُّونها إهانة لهم جميعًا، وأنَّهم عازمون على الاستقالة، ولا يسعه إلَّا عرض الأمر على قائد جيش الاحتلال والمعتمد الإنكليزي في مصر. فأفهمه الخديوي أنَّ ما لاحظه على الجيش المصري هو حقٌّ له، وأن هؤلاء الضبَّاط ليسوا في خدمته غير ضباط مصريين، وأنَّه لم يرد إهانة ضباط إنكليز قط. فتظاهر كتشنر باشا أمام الخديوي بالاقتناع وبعدول الضبَّاط عن الاستقالة وبعدم إبلاغ هذه الحادثة إلى المعتمد الإنكليزي وقائد جيش الاحتلال. وعندئذ لم يهتم الخديوي بتبليغ حكومته ما جرى بينه وبين السردار. ولكن هذا كان قد أبلغها إلى المعتمد الإنكليزي الذي تحادث مع وزارة الخارجية. ولم يشعر المرحوم رياض باشا — رئيس الوزارة — الذي لم يُحط علمًا بالأمر إلَّا والمعتمد الإنكليزي قد جاء بمطالب ثلاثة:
  • (١)

    ترضية الجناب العالي الخديوي للضباط الإنكليز ترضية رسمية بثنائه على نظام الجيش وضباطه قبل وصوله إلى العاصمة.

  • (٢)

    عزل ماهر باشا من وكالة الحربية حالًا.

  • (٣)

    اعتبار الضبَّاط الإنكليز الذين في الجيش المصري تابعين لجيش الاحتلال، وأن تناط الملاحظات عليهم بالقائد العام لذلك الجيش.

بوغت رياض باشا بهذه المطالب التي أصرَّ يومئذ السير إفلن بارنج على إجابتها بلا تحوير وقبل وصول الخديوي إلى العاصمة. فما كان من المرحوم رياض باشا إلَّا أن أرسل تلغرافًا إلى الخديوي يستفسره عن الحادثة. فأخبره الخديوي بأنَّه لم يحدث حدث يُوجب السؤال والانشغال. ولكنَّه نظرًا لإصرار المعتمد الإنكليزي على إجابة مطالبه، وخشية تعقد المسألة ووصول الخديوي إلى العاصمة قبل حلها، لم يسع رياض باشا إلَّا أن يبرح القاهرة ومعه حضرات النُّظَّار ما عدا تكران باشا — ناظر الخارجية — لمقابلة الخديوي في عودته فلقوه في بندر جرجا، فركبوا في معيَّته عائدين إلى العاصمة. وكانت المخابرات بين رئيس النُّظَّار وناظر الخارجية تلغرافيًّا بين كلّ محطة وأخرى. وفي ذاك الوقت كان ناظر الخارجية يراجع المعتمد الإنكليزي في تحوير تلك المطالب حتَّى وصل الركَّاب إلى مدينة الفيوم، وفي هذه المدينة أعلن الخديوي أنَّه راضٍ عن نظام الجيش بأمر عسكري هذا نصُّه:

خطاب من الجناب الخديوي إلى السردار بحلفا

مدينة الفيوم في ٢٦ يناير سنة ١٨٩٤

قبل أن أبارح الوجه القبلي عائدًا إلى مصر يهمُّني أن أكرِّر عظيم اهتمامي ووافر انعطافي نحو الجيش المصري الذي تفقدته في الحدود. ويهمني كذلك أن أثبت عظيم الامتنان الذي قد عبرت لك عنه من قبل بشأن حسن نظامه وترتيبه، ويروقني أن أهنئ الضبَّاط، سواء المصريين والإنكليز الذين يقودونه، وأن أشاهد الخدم التي أدَّاها الضبَّاط الإنكليز في جيشي، وأرجوك يا سردار أن تبلغ هذا للضباط والجنود.

عباس حلمي

وبهذا قد أجيب الطلب الأول من المطالب الثلاثة. أمَّا الطلب الثَّاني المتعلِّق بعزل المرحوم ماهر باشا فقد عُدِّل بنقله من وظيفته إلى محافظ عموم القنال مع حفظ مرتَّبه الذي كان يتقاضاه في وكالة الحربية. وقد رفض الطلب الثالث، وهو إمرة جيش الاحتلال على الجيش المصري، رفضًا باتًّا.

(٤) قضية التِّلغرافات

منذ زمان بعيد تشهد مصر قضايا سياسية هامَّة، يتتبَّعها الرأي العام في شوق واهتمام. من هذه القضايا قضية اشتهرت باسم «قضية التلغرافات»، والأصل فيها أنَّه كانت الحملة المصريَّة على السُّودان بقيادة السردار كتشنر باشا، وكان الاهتمام بأنباء الحملة عظيمًا. وكانت جريدة «المؤيد» معدودة يومئذ الجريدة الوطنية الحرَّة الجريئة، التي تُحارب الاحتلال الإنكليزي وتقود المعارضة، وكان صاحبها ورئيس تحريرها المغفور له السيد علي يوسف — شابًّا أزهريًّا عصاميًّا طامحًا يلتهب وطنية وجرأة — يكتب مقالات، عبروا عنها بأنَّها «تفعل في النفوس فعل السحر وتسري فيها مسرى الكهرباء». ويجب أن نعرف حالة الرأي العام المصري يومئذ، فقد كان غير راضٍ عن سفر الحملة واشتراك الجنود الإنكليزيَّة فيها لاستعادة السُّودان على الصورة التي أعيد بها ووضعت خطتها يومئذ. وكان همُّ «المؤيد» أن ينشر أنباء الحملة على السُّودان، بينما كانت تعد أنباؤها من المسائل السرية التي لا يكاشَف بها الجمهور إلَّا بمقدار. وكان الجمهور متلهِّفًا على أخبارها، وكان بين الموظفين من تدفعه وطنيته إلى نقل الأخبار الرَّسمية إلى «المؤيد» مساعدة له على مهمته الصحفية الوطنية، وكان مخبرو «مندوبو» المؤيد ممنوعين من دخول وزارة الحربية ومن مرافقة الحملة، بينما سمح لجرائد أخرى بمرافقة مندوبيها للحملة.

وقد حدث في يوم ٢٦ يولية سنة ١٨٩٦ أن ورد من السردار كتشنر باشا تلغراف على مكتب تلغراف الأزبكية إلى ناظر «وزير» الحربية، وأن موظفًا بالمكتب اسمه «توفيق كيرلس أفندي»، اتُّهم بنقل نسخة من هذا التلغراف، وكان بالفرنسية، وكان عدد كلماته ٥٦٦. وقد وجه هذا الاتهام إليه بعد أن وصلت النسخة إلى جريدة المؤيد، وكان من محرريها يومئذ حضرة الأستاذ محمد مسعود الكاتب المعروف والصحفي القديم، وكان يتولى ترجمة التلغرافات. فسلَّم إليه صاحب المؤيد هذا التلغراف فترجمه ونشره في جريدة «المؤيد» بعددها الصَّادر بتاريخ ٢٨ يولية سنة ١٨٩٦. وفي يوم ٢٩ يولية سنة ١٨٩٦، اطلع وزير الحربية على التَّرجمة المنشورة في «المؤيد» للتلغراف المذكور. فدهش أيما دهشة، وكانت قراءته للجريدة عند تأهبه للخروج من منزله إلى مكتبه بالحربية، فلمَّا وصل إليه بحث عن التلغراف في الوزارة فأحضر إليه. فعلم أنَّ التلغراف لم يسرق، ثمَّ تأكد أنَّه لم تصل إليه يد إنسان آخر بعد وصوله إلى الحربية، ثمَّ عهد إلى ملحم شكور بك من موظفي الحربية بإماطة اللثام عن كيفية وصول هذا التلغراف إلى جريدة «المؤيد»، فتوجَّه شكور بك إلى مكتب تلغراف الأزبكية لمعرفة الحقيقة، ولكنَّه لم يصل إلى نتيجة. وحفظت القضية.
figure
السيد علي يوسف «باشا» مؤسِّس جريدة المؤيد وسيد السادات الوفاتية المتوفى في ٢٥ أكتوبر سنة ١٩١٣.

وكان بين «المؤيد» وجريدة «المقطم» حرب قلمية، وكان «المؤيد» يتَّهم «المقطم» بأنَّه مؤيد للاحتلال الإنكليزي وخادم له، وبعد أن حفظ التحقيق، كتب «المقطم» مقالات يدعو فيها الحكومة إلى محاكمة صاحب «المؤيد» متهمًا إيَّاه بأنَّه قد اشترك في إفشاء سرية التلغراف بنشره، ففتح باب التحقيق مرة ثانية.

واتهمت النيابة العمومية كيرلس أفندي والشيخ علي يوسف صاحب المؤيد بأنَّ المتَّهم الأول قد أفشى تلغرافًا سريًّا ورد على مكتب تلغراف الأزبكية في يوم ٢٦ يولية سنة ١٨٩٦ من سردار الحملة المصريَّة بالسودان، إلى ناظر الحربية. وأنَّ المتَّهم الثَّاني قد اشترك في إفشاء سرية هذا التلغراف بأن نشره في العدد الصَّادر من جريدة المؤيد بتاريخ ٢٩ يولية سنة ١٨٩٦ في حين أنه لم يطَّلع عليه أحد غير عمال التلغراف وناظر الحربية.

وطلبت محاكمتهما بالمادة ١٤٥ من قانون العقوبات. وعدَّ صاحب المؤيد مشتركًا مع المتَّهم الأصلي بمقتضى الفقرة الثَّانية من مادة «٦٨» من القانون المذكور، وأحالتهم إلى جلسة الجنح بمحكمة عابدين الجزئية الأهليَّة التي انعقدت في يوم الأربعاء ٤ نوفمبر سنة ١٨٩٦.

وممَّا يذكر في صدد هذه القضية المشهورة أنَّ التلغراف كان يحتوي على ٥٦٦ كلمة، وأن شهودها بلغ عددهم ٢٧ شاهدًا بينهم ناظر الحربية وملحم شكور بك والمسيو ولد ملاحظ مكتب تلغراف الأزبكية وغيرهم من كبار الموظفين وصغارهم، وكان بينهم الصحفي الجريء المرحوم نجيب هاشم «مخبرًا» بجريدة المؤيد، والدكتور فارس نمر وإسكندر شنودة، وإسكندر تادرس ونجيب راضي.

وقد اهتمَّ الجمهور بهذه القضية أيما اهتمام في أثناء المحاكمة، فقد كانت المحكمة غاصَّة بجماهير غفيرة بينها نفرٌ من عظماء الأمة. ولما كانت الساعة الثامنة صباحًا من اليوم المحدد للمحاكمة انعقدت الجلسة برياسة حضرة القاضي محمود بك خيرت وعلي أفندي توفيق وكيل النيابة المنتدب. أمَّا الدفاع فكان مؤلفًا من الأستاذين إبراهيم الهلباوي بك محاميًا عن توفيق أفندي كيرلس، والسيد أحمد بك الحسيني محاميًا عن صاحب المؤيد.

ثم طلب الدفاع تأجيل القضية للاطلاع ونسخ الأوراق استعدادًا للمرافعة؛ لأنَّ أوراق القضية لم تحوَّل إلى المحكمة إلَّا قبل الجلسة بثلاثة أيام فقط؛ ممَّا جعل الدفاع لم يتمكَّن من الاستعداد للمرافعة؛ فأجلت القضية إلى يوم الأربعاء الموافق ١٨ نوفمبر سنة ١٨٩٦. وفي هذه الجلسة سمعت المحكمة أقوال المتهمين، وشهادة الشهود، ومرافعة النيابة والدفاع وردَّ الدفاع على مرافعة النيابة. وفي الساعة السادسة من مساء يوم الخميس ١٩ نوفمبر سنة ١٨٩٦ أصدر حضرة القاضي حكمه في الجلسة بحبس توفيق أفندي كيرلس ثلاثة أشهر بناءً على إفشائه تلغراف السردار، وببراءة ذمته من تهمة إفشاء تلغراف للمقطم، وبتحمله ربع مصاريف الدعوى، وبراءة ساحة صاحب المؤيد من التُّهمتين لعدم وجود أدنى دليل على ثبوت إحداهما ضده.
figure
مدينة الخرطوم.

ولقد علَّقت معظم جرائد الشَّرق والغرب على هذه القضية الغريبة، وتناولها البرلمان الإنكليزي بالمناقشة.

(٥) الكشاف والكشوفية في النوبة

جاء في الجزء الأول من هذا الكتاب أنَّه قد حكم بعض أقاليم السُّودان دولة من الكشاف. وبعد إعادة السُّودان ظل في النوبة أشخاص يُعرفون بهذا الاسم. وقد ذكر حضرة الأستاذ محمد رمزي بك أنَّ: لكلمة «الكاشف» جملة معانٍ. فقد كانت تطلق قديمًا على «حاكم» الإقليم، ويقابلها في وقتنا الحاضر «مدير»، فكان يقال للحاكم «كاشف»، وللإقليم — كشوفية — كما يقال اليوم للحاكم الإداري في الأقاليم: مدير، وللإقليم الذي يديره مديرية.

وكانت مصر في عهد دولة المماليك مقسمة إلى أعمال — مديريات — وكان فيها كشوفيات، وهي كشوفية الإسكندرية، وكشوفية الوجه البحري ومقرها مدينة دمنهور، وكشوفية الوجه القبلي ومقرها مدينة أسيوط، ثمَّ جعلت هذه الكشوفيات في عهد دولة المماليك البرجية نيابات، مفردها نيابة.

ولما تولَّى العثمانيون حكم مصر قسموها إلى كشوفيات، وجعلوا على رأس كلّ كشوفية — مديرية — كاشفًا «مديرًا».

ولمَّا كانت بلاد النوبة السفلى مركز الدرما بين الشَّلال الأول والثاني بعيدة عن البلاد المصريَّة وقريبة من الحدود السُّودانية، ويتعذَّر على كاشف قوص — مدير قنا — أن يلاحظ أعمال ذلك الإقليم علاوة على أعمال كشوفيته، فقد جُعلت بلاد النوبة السفلى كشوفية قائمة بذاتها يرأسها كاشف، وكان مقرها ناحية الدر والديوان. وفي سنة ١٥٢٠م عيِّن حسن قوصي الجركسي كاشفًا على بلاد النوبة. وتولى الكشوفة بعده ولده ثمَّ ولد ولده وذريتهم، فصاروا يتوارثون الوظيفة إلى أيام حكم الخديوي إسماعيل، حيث أصبحت بلاد النوبة قسمًا من أقسام مديرية إسنا. فعين لهذا القسم ناظرًا أسوةً بأقسام المديريات. فالأشخاص الذين يحملون إلى اليوم لقب كاشف هم من ذرية حسن كاشف المذكور.
figure
كازينو الخرطوم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤