دستور الغزاليِّ الخُلقي

الغزاليُّ أكبر كاتب خلقي عرفه الفكر الإسلامي، بل لعله أكبر كُتَّاب الأخلاق الدينية في العالم.

فقد جعل الأخلاق رسالته العليا، وربط الأخلاق بالدين رباطًا لا انفصام له، بل جعل الأخلاق هي روح الدين، والغاية منه، وأضفى على العبادات أصولها وفروعها ألوانًا خلقية تُحَبِّبُها إلى النفوس، وتعطرها في القلوب، وتملأ الحسَّ خشوعًا وإيمانًا وجلالًا.

فللصلاة آدابها التي هي الروح والهدف، وللصيام برنامجه الخلقي الذي لا يستقيم بدونه، وللنفس والقلب ولكل جارحة من الجوارح وخاطرة من الخواطر صفة خلقية، ودعوة إلى تطهير وتزكية، حتى همسات القلب، وسوانح الفكر، يقيدها الغزاليُّ وينظمها ويضع لها دستور الكمال.

وتساير أخلاقيات الغزاليِّ الإنسان في مأكله ومشربه ومنامه وحله وترحاله، وتلازمه في تصرفاته مع الأصدقاء والأهل والزوج والولد والمجتمع والعالم.

فالأخلاق عند الغزاليِّ شريعة شاملة للحياة بأسرها، شريعة لها مثلها العليا وأهدافها السامية المرتفعة إلى السماء، ثم هي أيضًا تعيش معنا على الأرض متصلة اتصالًا وثيقًا بكل حركة من حركات الروح والقلب والعقل والبدن.

وقد عاب الماديون على الغزاليِّ أن فلسفته الخلقية فلسفة سلبية لا تلائم الحياة العملية، ولا تصلح في معترك الحياة وزحام الوجود، ولا تُعِدُّ صاحبها للكفاح والنضال والغلبة والسيادة.

عاب الماديون على الغزاليِّ هذا، وكأنهم يريدون أن يسمعوا من الأخلاق رنين السيوف لا همسات السلام، وصيحات القتال لا نداء الرحمة والوئام.

عابوا على الغزاليِّ فلسفته الأخلاقية؛ لأنَّها تريد أن تبتدع مجتمعًا فاضلًا معطرًا بصفاء الروح وطهارة القلب والحسِّ والجوارح، طهارة لا تعرف الغلَّ والحسد، ولا تقر الغشَّ والتزييف، ولا ترضى التواثب والتلاحم، وتنكر الصراع والنزال.

وعابوا على الغزاليِّ فيما عابوا أنه مزج الدين بالأخلاق، والروحانيات بالفضائل، ولم يمزجها بعلم النفس، ولم يُقِمْ صروحها على نداءات الجنس، وضرورات الشهوة، ودوافع المجد والنصر في الروح البشرية.

عابوا على الغزاليِّ وأسرفوا، ثم عابوا وأسرفوا، فأَخطئوا وأسرفوا في الخطأ؛ لأنَّ أخلاقيات الغزاليِّ لا توزن بتلك الموازين الجامدة المتشائمة التي صور أصحابها الناس بألوان من الشهوات وألوان من الغايات وألوان من النزوات، لا يستقيم معها خُلق ولا يسود فيها دِين.

أما الميزان الصادق الذي يقام في ساحة العدالة الفكرية، عند دراسة تلك الأخلاق، فهو ميزان الآداب السماوية، وميزان المثالية الخلقية.

فالغزاليُّ حينما وضع دستوره الأخلاقي كان يمسك بيمناه ميزان عدل وهدًى، الأخلاق عنده هي كل ما يرفع النفس، ويسمو بالحياة إلى مناطق النور والصفاء، والرذائل لديه هي كل ما يفسد الجسم والنفس والعقل، ويبعد الروح عن مناطق النور والصفاء.

فإذا دعا الغزاليُّ إلى عدم التكالب على الرزق، والتفاني في الحرص على متاع الحياة، وذهاب النفس حسرات على مباهجها، فذلك لأنَّه يحتقر المال والجاه والسيادة إذا كان في الفوز بها صفة من تلك الصفات التي تمس الخُلق القويم.

وإذا نادى بكفِّ النفس والعقل واليد عن مطامع الحياة، وكفِّ النفس والعقل واليد عن المتاع الزائل والمجد الزائف والصراع الباطل، فليس لنا أن نقول للغزاليِّ إن هذا الزهد في الحياة يقتل بواعث المجد في النفوس، ويخمد شعلة التوثب والفوز في القلوب.

فالغزاليُّ لم يتخيل الدنيا ملحمة بين كباش تتناطح، وإنما تصورها حنانًا ورحمة وطاعة وعبادة، فالمجد عنده مجد النفوس المطمئنة المتحابة، والنصر لديه هو الفوز على النزوات والشهوات والتطهر من الرذائل الهابطة إلى الظلمات.

نظر الغزاليُّ إلى الحياة الدنيا باعتبارها وسيلة لا غاية، وعبادة لله لا للدرهم والدينار والتغالب والتفاخر والتنابذ بالألقاب.

كتب الغزاليُّ أخلاقياته للمجتمع الإسلامي الفاضل الذي يؤمن به ويدعو إليه، ومن ثم ابتدع له أخلاقًا كاملة على أسس دينية وطاعات روحية وقلبية.

فليس لنا أن نقول له إنك أهملت ما كشف العلم الحديث من علوم وفنون، فالعلم الحديث يقرر أن الجنس هو المحرِّك الأول للوجود والملوِّن الأول للأخلاق والبواعث القلبية والنفسية، وأنت تقسو على الجنس وتغالي في قمعه وتهذيبه، وتغالي في عدم الاعتراف بسلطانه وجبروته.

وليس لنا أن نعترض عليه بأن الحياة هي القوة، والتوثب للمجد، والتطاول والتفاخر بالمال والجاه، وما إلى المال والجاه من متاع وسلطان.

وليس لنا أن نقلل من شأن أخلاقيات الغزاليِّ؛ لأنَّ روح الزهد والقناعة تترقرق واضحة بين أسطرها، وعطر المحبة والعبادة يتضوع من شمائلها وأعطافها.

الأخلاق عند الغزاليِّ نشيد لم يترك وجهة من وجهات الحياة إلا ألقى عليها النور والرحمة والإيمان والسلام.

الأخلاق لديه صفات مثالية، أو إن شئت فهي محاولة صادقة لإنشاءِ إنسانية فاضلة وخَلْقِ مجتمع بشري سعيد.

أسلوبه وطريقته

يقول العلامة ماكدولاند: «إن الغزاليَّ في وعظه وأخلاقياته وتعاليمه النفسية عاد فأدخل عنصر الخوف، فقد جعل في كتابه «المنقذ من الضلال» وغيره من الكتب يؤكد وجوب إلقاء الرعب والوجل في النفوس العامة، مناديًا بأن الأمر لم يعد يستوجب الملاينة والمصانعة والرفق والتأميل والتفاؤل؛ بل لقد وجب أن تبين للناس حقيقة الجحيم وعذابها الأليم، فقد أحسها هو في نفسه وشعر بها في أعماقه، وقد رأيناه كيف تجرد من المتع، وأخضع النفس للزهد والنسك والحرمان، وجعل الخوف من النار الباعثَ الأكبر على هدايته واجتنابه الضلال والهوى».

كانت طريقة الغزاليِّ التي ترمي إلى التهويل وإلقاء الرعب في القلوب ملائمة لعصره الذي لم يعد الأمر فيه — كما يقول ماكدولاند — يستوجب المصانعة والملاينة، ذلك العصر الذي أسرف على نفسه في الشكوك والأوهام، وأسرف على نفسه في الترف والملاذ، وأسرف على نفسه في التنابذ والخصام، فقاوم الغزاليُّ تلك الروح المسرفة العابثة بأسلوب ملتهب حارٍّ يبرق فيه التهديد والوعيد، وتتمثل فيه أهوال العقاب والثواب.

وأسلوب الغزاليِّ فوق عنفه وقسوته يخفق على القرطاس نابضًا بالحياة، ويتسلل إلى القلوب مناجيًا الضمائر والأحاسيس، حتى ليشعر قارئ الغزاليِّ بروح يتكلم في أعماق، ويحسُّ شخصية الغزاليِّ تناجيه وتلازمه، وتسيطر على أفكاره واتجاهاته.

والغزاليُّ كاتب مصور بارع الخيال، يمتلك في يسر وبساطة حاسة الخيال الفني؛ فهو فنان في أخيلته، فنان في تصويره، فنان في أمثلته وتشبيهاته.

انظر إليه كيف يشبه من يحسب أن المحسن أحسنَ باختياره، إنه يشبهه بالنملة ترى سواد الخط على بياض القرطاس يحصل من حركة القلم، فتضيف ذلك إلى القلم؛ إذ حدقتها الصغيرة الضعيفة لا تمتد إلى الإصبع، ومنها إلى اليد، ومنها إلى القدرة المحركة لليد، ومنها إلى الإرادة، ومنها إلى المعرفة، ومنها إلى صاحب القلم والقدرة والإرادة.

فأسلوب الغزاليِّ في أخلاقياته يستمد قوة عرضه وقوة تأثيره من حاسة الخيال الفني، فإذا تكلم عن فضيلة من الفضائل عمد إلى ذكر ما ورد في حمدها من الآيات في اختيار بديع بارع، ثم يسرد ما جاء عنها من الأحاديث، ثم يعقب بالآثار، وينطلق بعد ذلك مؤيدًا قوله بالقِصص والأمثال التي تأسر قلب القارئ، وتصور في نفسه محبة تلك الفضيلة، وما لها من خطورة وجلال.

فإذا تكلم عن رذيلة، من الرذائل، طرق هذا النهج أيضًا مضيفًا إليه إلهاب الكرامة النفسية في القلب، وتنفير تلك الكرامة من أن تتدنس برذائل حيوانية حقيرة.

أما ميزة أخلاقيات الغزاليِّ الكبرى فهي صلاحيتها الخالدة لكل جيل وعصر، وصلاحيتها الخالدة لكل قارئ على اختلاف الثقافات والبيئات أسلوبًا ومعنًى.

تربية الخُلق أو العادة

وللعادات عند الغزاليِّ تأثير كبير في تكوين الخُلق، حتى إن الخُلق بحكم العادة يصبح عبارة عن هيئة في النفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة، من غير حاجة إلى التفكير والروية؛ فالخُلق عبارة عن هيئة النفس وصورتها الباطنة، ولهذا السبب نرى الغزاليَّ يتشدد في الأمور الطفيفة المتعلقة بالأخلاق؛ لأنَّه يؤمن بأنها ستكون مقدمة لما هو أشنع، وبأنها ستصبح صورة لازمة.

وهو يقرر أن النفس إذا كانت تستلذ الباطل وتميل إليه بالعادة، فكيف لا تستلذ الحق لو ردت إليه والتزمت المواظبة عليه؟!

كما يقرر أن النفوس بفطرتها خيِّرة تميل إلى الخير، أما هذا الميل إلى الأمور الخسيسة فهو أمر خارج عن الطبع، يضاهي الميل إلى أكل الطين، وقد شاهد الغزاليُّ قومًا يستطيبونه بحكم تغلُّب العادة والاستمرار عليها.

إن النفوس خلقت بفطرتها تهوى الحِكمة وحبَّ الله ومعرفته وعبادته، وهو أمر أصيل لا دخيل؛ لأنَّه وحي الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وميل غريزي كالميل إلى الطعام والكلام، وهو ضروريٌّ للقلب؛ لأنَّه أمرٌ رباني.

أما الميل إلى مقتضيات الشهوة فغريب عن ذات الإنسان، وعارض على طبعه، وإنما أصبح مألوفًا بالعادة السيئة، ولهذا أصبح الطفل أمانة في عنق ذويه؛ فليتقوا الله في أمانته وليحافظوا على تربيته، وليتجهوا به الوجهة الصالحة التي خلق لها، وليجنبوه مهاوي الضلال وفاسد العقائد والعادات.

ومسألة الفطرة البشرية، وهل الشر أصيلٌ في النفوس أو دخيل عليها مسألةٌ تطاحنت فيها العقول واختلفت، ولم نرَ فيصلًا تطمئن إليه القلوب في هذا الاختلاف.

ولكن الغزاليَّ يُلْبِس تلك الفكرة ثوبَ الدين؛ فيرى أن الميل إلى الحكمة وحب الله وعبادته أمرٌ رباني في القلوب أصيلٌ لا دخيل، وإنما فاسد الأخلاق هو الذي يميل بالنفس إلى الهوى ومجانبة الحق وارتكاب الشر.

والغزاليُّ بذلك يُعلي من شأن الروح البشري، ويُعلي من شأن الفطرة الأولى، ويُعلي مكانة الإنسان عند ربه، حتى إنه يخلقه مهيأً للخير مجلوبًا عليه، فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا.

الخلق والتخلُّق

والغزاليُّ يرى أنَّ تربية الخلق الفاضل تكون بالتخلُّق؛ أي حمل النفس على الأعمال الصالحة الطيبة، ومن هنا نشأ اهتمام الغزاليُّ بالرياضة الروحية وتقديره إياها وإيمانه بضرورتها، ويقرر أن كسب الخُلق بسبب التخلُّق من عجيب العلاقة بين القلب والجوارح، ويعلل ذلك بقوله: «كل صفة تظهر في القلب يفيض أثرها على الجوارح، حتى لا تتحرك إلا على وفقها، وكل فعل يجري على الجوارح يرتفع منها أثر إلى القلب، والدليل على ذلك أن من أراد أن يصير الحذق في الكتابة صفة نفسية له، فلا طريق له إلا أن يتعاطى بجارحة اليد ما يتعاطاه الكاتب الحاذق، ويواظب عليه مدة طويلة، يحاكي الخط الحسن، حتى يصير صفة لازمة له، بعد أن كان في الابتداء تكلفًا.

وكذلك من أراد أن يكون حسنَ الخُلق فعليه أن يحاكي ذوي الأخلاق الحسنة، حتى يصبح بالتكرار منهم.»

واجب المرشد الأخلاقي

الخُلق السيئ عند الغزاليِّ: هو مرض القلب، فإذا كان الجهل يعالج بالتعليم، ومرض البخل بالتسخي، فسوء الخُلق يعالج بمجاهدة النفس.

وكما أنه لا بدَّ من احتمال مرارة الدواء، ومشاقِّ التعليم، فلا بدَّ أيضًا من احتمال مرارة المجاهدة، والصبر على احتمال المداومة على تلك المجاهدة.

والغزاليُّ طبيبٌ نفساني ماهر، فهو يرى أن الدواء إذا زاد قتل، وإن قلَّ أخفق، وأن هذا الدواء قد ينفع لشخص ما ويضرُّ غيره، وكما أن الطبيب لو عالج جميع المرضى بعلاج واحد قتل أكثرهم، فكذلك المرشد لو أشار على المريدين بنمط واحد من الرياضة والمجاهدة أهلكهم وأمات قلوبهم، بل ينبغي أن ينظر في مرض المريد وحاله وسنه ومزاجه وبيئته، ويبني على ذلك حُكمه وعلى هذا الهدي يقرر نوع رياضته.

وتلك لفتةٌ بارعة من الغزاليِّ، فلكل نفس حالتها ومزاجها الخاص، فإذا لم يراعِ في تهذيبها ظروف البيئة والمزاج والاستعداد النفسي لم يصل المربِّي إلى غايته، ولم يحصل داعي الأخلاق على أمنيته.

الصفات التي يجب تهذيبها

الفضائل في مجموعها عند الغزاليِّ تنحصر في معنيين؛ جودة الذهن والتميُّز، وحسن الخلق، فجودة الذهن ليميز طريق السعادة والشقاء، وليعتقد الحقَّ في الأشياء ببراهين قاطعة مفيدة لليقين، لا عن تقليدات ضعيفة ولا عن تخيلات واهية، وأما حُسن الخلق فإنه يزيل جميع العادات السيئة التي عرف الشرع تفاصيلها فيتجنبها، ويتعود العادات الحسنة ويشتاق إليها.

ثم ينتقل الغزاليُّ من ذلك إلى تفصيل القوى النفسية التي يجب تهذيبها، فيحصرها في ثلاث قوًى رئيسية.

قوة التفكير، وقوة الشهوة، وقوة الغضب.

فإذا هذبتَ قوة التفكير كما ينبغي حصل بها الحكمة التي أخبر الله عنها بقوله: وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، وثمرتها أن يتيسر له التفريق بين الحق والباطل في الاعتقادات، وبين الصدق والكذب في المقال، وبين الجميل والقبيح في الأفعال، ولا يلتبس عليه شيء من ذلك.

القوة الثانية: هي الشهوة، وبإصلاحها تحصل العفة؛ حتى تنزجر النفس عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتنقاد للمواساة والإيثار المحمود بقدر الطاقة.

والثالثة: الحميَّة الغضبية، وبقهرها وإصلاحها يحصل الحلم، وهو كظم الغيظ وكفِّ النفس عن التشفي، وتحصل الشجاعة وهي كفُّ النفس عن الخوف والحرص.

فإذا أُصلحتِ القوى الثلاث وضُبطتْ على الوجه الذي ينبغي، وإلى الحد الذي ينبغي، وجُعلت القوتان منقادتين للثالثة التي هي الفكرية العقلية؛ فقد حصلت العدالة، وبمثل هذا العدل قامت السموات والأرض، وهي جماع مكارم الشريعة وطهارة النفس وحسن الخلق، كقوله : «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم أخلاقًا وألطفهم بأهله»، وقوله: «أحبكم إليَّ أحاسنكم أخلاقًا، المُوَطَّئون أكنافًا، الذين يألفون ويُؤلفون.»

أمهات الفضائل النفسية

وانتقل الغزاليُّ من تلك القوى الثلاث التي يجب تهذيبها إلى الفضائل النفسية، فقسمها إلى أربعة أصول رئيسية تشتمل شعبُها وأنواعها على الفضائل عامة، وهي:

الحكمة، والشجاعة، والعفة، والعدالة.

فالحكمة فضيلة القوة العقلية، والشجاعة فضيلة القوة الغضبية، والعفة وكمالها الورع فضيلة القوة الشهوانية.
  • فالحكمة: تنطوي تحتها العلوم اليقينية الصادقة التي لا تختلف باختلاف العصور والأمم، كالعلم بالله تعالى وصفاته وكتبه ورسله وأصناف خلقه في العالم، والعلوم التي تساس بها قوى النفس، وتساس بها الجماعات والأمم.
  • والشجاعة: وكمالها المجاهدة والعدالة، ينطوي تحتها الكرم والنجدة وكِبَر النفس، والاحتمال والحلم والثبات والنبل والشهامة والوقار.
  • والعفة: وينطوي تحتها الحياء والخجل، والمسامحة، والصبر، والسخاء، وحسن التقدير، والانبساط، والدماثة، والانتظام، وحسن الهيئة، والقناعة، والهدوء، والورع، والطلاقة، والظُّرف والمساعدة.
  • والعدالة: وكمالها الإنصاف، الإنصاف العام؛ فلا تحب لأخيك إلا ما تحب لنفسك، وتكره لأخيك ما تكرهه لنفسك، وتعطي الحق كاملًا.

    فالعدالة جامعة لجميع الفضائل، والجور مقابل لها، وهو جامع لجميع الرذائل.

تلك هي جماع الفضائل النفسية عند الغزالي، وهو يشرح كل واحدة منها شرحًا كاملًا شاملًا، مستمدًّا أدلته من الكتاب والسنة والكشف والأمثال.

ثم يعقبها بالفضائل البدنية، ويحصرها في أربعة أمور: الصحة، والقوة، والجمال، وطول العمر.

ولكل واحدة من تلك الفضائل عنده معانٍ وصفات وأهداف وواجبات، تستغرق من بحوثه صفحات وصفحات.

ثم يتم هذه الفضائل بفضائل يسميها: «فضائل مطيفة بالإنسان»، وهي أربعة أمور أيضًا: المال، والأهل، والعزُّ، وكرم العشيرة.

ولا يتم الانتفاع بشيء من ذلك إلا بالنوع الخامس من الفضائل، وهي الفضائل التوفيقية، وهي أربعة: هداية الله، ورشده، وتسديده، وتأييده.

ذلك هو الدستور الخُلقي للغزاليِّ، وهو دستور تشتمل عليه طائفة كبيرة من كُتبه، وينثره كالعطر بين أسطره وفصوله، في مختلف كتبه وفنونه.

وهو دستور وإن لم يخضع للقواعد النفسية والنظريات العلمية الحديثة — بل خضع خضوعًا تامًّا للفكرة الدينية والآداب الإسلامية — فقد حقق كثيرًا من أهدافه ومراميه، واستطاع أن يكون إمامًا مرشِدًا للملايين، أحقابًا وقرونًا.

هو دستور أوجد في الشرق مدرسة تأدبت بآدابه، وتتلمذت على فضائله، بل قد هيمن هذا الدستور على أهداف الوعظ الإسلامي هيمنة كاملة ملموسةَ الأثر إلى يومنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤