فلما كانت الليلة ٩٠٨

حكاية العنكبوت والريح

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك قال للوزير: وما حكاية العنكبوت والريح؟ فقال الوزير: اعلم أيها الملك أن عنكبوتة تعلَّقَتْ في بابٍ متنحٍّ عالٍ وعملت لها بيتًا وسكنت فيه بأمانٍ، وكانت تشكر اللهَ تعالى الذي يسَّرَ لها هذا المكان وآمن خوفها من الهوام، فمكثَتْ على هذا الحال مدة من الزمان، وهي شاكرة لله على راحتها واتصال رزقها، فامتحنها خالِقها بأن أخرَجَها لينظر شكرها وصبرها، فأرسل إليها ريحًا عاصفًا شرقية فحملتها ببيتها ورمتها في البحر، فجرَّتْها الأمواج إلى البر، فعند ذلك شكرَتِ الله تعالى على سلامتها وجعلت تعاتب الريح قائلةً لها: أيتها الريح، لِمَ فعلتِ بي ذلك؟ وما الذي حصل لك من الخير في نقلي من مكاني إلى هنا؟ وقد كنتُ آمِنةً مطمئنةً في بيتي بأعلى ذلك الباب؟ فقالت لها الريح: انتهي عن العتاب، فإني سأرجع بكِ وأوصلكِ إلى مكانك كما كنتِ أولًا. فلبثَتِ العنكبوتة صابرةً على ذلك راجيةً أن ترجع إلى مكانها حتى ذهبت ريح الشمال ولم ترجع بها، وهبَّتْ ريح الجنوب فمرَّتْ بها واختطفتها وطارت بها إلى جهة ذلك البيت، فلما مرَّتْ به عرفته فتعلَّقَتْ به. ونحن نسأل اللهَ الذي أثاب الملك على وحدته وصبره ورزَقَه هذا الغلامَ بعد يأسه وكبر سنِّه، ولم يُخرِجه من هذه الدنيا حتى رزَقَه قرَّةَ عين، ووهب له ما وهب من المُلْك والسلطان، فرحم رعيته وأولاهم نعمته. فقال الملك: الحمد لله فوق كلِّ حمدٍ، والشكر له فوق كلِّ شكرٍ، لا إله إلا هو خالق كل شيءٍ، الذي عرَّفنا بنور آثاره وجلال عظمته، يُؤتِي المُلْكَ والسلطان مَن يشاء من عباده في بلاده؛ لأنه ينتخب منهم مَن يشاء ليجعله خليفةً ووكيلًا على خلقه، ويأمره فيهم بالعدل والإنصاف وإقامة الشرائع والسنن، والعمل بالحق والاستقامة في أمورهم على ما أحَبَّ وأحَبُّوا، فمَن عمِلَ منهم بما أمر الله كان لحَظِّه مصيبًا ولأمرِ ربِّه مُطِيعًا، فيكفيه هولَ دنياه ويُحسِن جزاءه في أُخرَاه، إنه لا يضيع أجر المحسنين؛ ومَن عمل منهم بغير ما أمر الله أخطأ خطأً بليغًا، وعصى ربه وآثَرَ دنياه على أُخرَاه، فليس له في الدنيا مآثِر ولا في الآخرة نصيب؛ لأن الله لا يمهل أهل الجور والفساد ولا يهمل أحدًا من العباد، وقد ذكر وزراؤنا هؤلاء أنَّ مِن عدلنا بينهم وحُسْن تصرُّفنا معهم، أنعم علينا وعليهم بالتوفيق لشكره المستوجب لمزيد إنعامه، وكل واحد منهم قال ما ألهَمَه الله في ذلك، وبالغوا في الشكر لله تعالى والثناء عليه بسبب نعمته وفضله، وأنا أشكر الله لأني إنما أنا عبدٌ مأمورٌ، وقلبي بيده ولساني تابع له، راضٍ بما حكم الله عليَّ وعليهم بأي شيءٍ صار؛ وقد قال كلُّ واحدٍ منهم ما خطر بباله من أمر هذا الغلام، وذكروا ما كان من متجدِّد النعمة علينا حين بلغتُ من السن حدًّا يغلب معه اليأس وضَعْف اليقين، والحمد لله الذي نجَّانا من الحرمان واختلاف الحكَّام كاختلاف الليل والنهار، وقد كان ذلك إنعامًا عظيمًا عليهم وعلينا، فنحمد الله تعالى الذي رزقنا هذا الغلام سميعًا مطيعًا، وجعله وارثًا من الخلافة محلًّا رفيعًا، نسأله من كرمه وحلمه أن يجعله سعيدَ الحركات موفَّقًا للخيرات، حتى يصير ملِكًا وسلطانًا على رعيته بالعدل والإنصاف، حافظًا لهم من هلكات الاعتساف، بمَنِّه وكرمه وجوده.

فلما فرغ الملك من كلامه، قام الحكماء والعلماء وسجدوا لله وشكروا الملك وقبَّلوا يدَيْه، وانصرف كلُّ واحدٍ منهم إلى بيته، فعند ذلك دخل الملك بيته وأبصَرَ الغلام، ودَعَا له وسمَّاه وردخان، فلما مضى له من العمر اثنتا عشرة سنة، أراد الملك أن يعلِّمه العلومَ، فبنى له قصرًا في وسط المدينة وبنى فيه ثلاثمائة وستين مقصورةً، وجعل الغلام فيه، ورتَّبَ له ثلاثةً من الحكماء والعلماء وأمرهم ألَّا يغفلوا عن تعليمه ليلًا ولا نهارًا، وأن يجلسوا معه في كل مقصورة يومًا، ويحرصوا على ألَّا يكونَ علمٌ إلا ويعلِّمونه إياه، حتى يصير بجميع العلوم عارفًا، ويكتبون على باب كل مقصورة ما يعلِّمونه له فيها من أصناف العلوم، يرفعون إليه في كلِّ سبعة أيام ما عرفه من العلوم.

ثم إن العلماء أقبلوا على الغلام وصاروا لا يفترون عن تعليمه ليلًا ولا نهارًا، ولا يؤخِّرون عنه شيئًا ممَّا عندهم من العلوم، فظهر للغلام من ذكاء العقل وجودة الفهم وقبول العلم ما لم يظهر لأحدٍ قبله، وجعلوا يرفعون للملك في كل أسبوع مقدارَ ما تعلَّمَه ولده وأتقنه، فكان الملك يستظهر من ذلك علمًا حسنًا وأدبًا جميلًا، وقال العلماء: إننا ما رأينا قطُّ مَن أُعطِي فهمًا مثل هذا الغلام، فبارَكَ الله لكَ فيه ومتَّعَكَ بحياته. فلما أتَمَّ الغلام مدة اثنتي عشرة سنة حفظَ من كلِّ علمٍ أحسنَه، وفاقَ جميعَ العلماء والحكماء الذين في زمانه، فأتى به العلماء إلى الملك والده وقالوا له: أقرَّ اللهُ عينيك أيها الملك بهذا الولد السعيد، وقد أتيناكَ به بعد أن تعلَّمَ كلَّ علمٍ، حتى لم يكن أحدٌ من علماء الوقت وحكمائه بلغ ما بلغه. ففرح الملك بذلك فرحًا شديدًا، وزاد في شكر الله تعالى وخَرَّ ساجدًا له عز وجل، وقال: الحمد لله على نِعَمِه التي لا تُحصَى. ثم دعا بشماس الوزير وقال له: اعلم يا شماس أن العلماء قد أتوني وأخبروني أن ابني هذا قد تعلَّمَ كلَّ علمٍ، ولم يَبْقَ من العلوم علمٌ إلا وقد علَّموه له حتى فاق مَن تقدَّمه في ذلك، فما تقول يا شماس؟ فسجَدَ عند ذلك لله عز وجل وقبَّلَ يدَيِ الملك وقال: أَبَتِ الياقوتةُ ولو كانَتْ في الجبل الأصم، إلا أن تكون مضيئةً كالسراج، وابنك هذا جوهرة، فما تمنعه حداثته من أن يكون حكيمًا والحمد لله على ما أولاه، وأنا إن شاء الله تعالى في غدٍ أسأله وأستنطقه بما عنده في مجمعٍ أجمَعَه له من خواص العلماء والأمراء. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤