فلما كانت الليلة ٩٥٢

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشاب قال لأمير المؤمنين: إن الرجل قال لي: أخذتُ هذا التعويذ وجئتُ به إلى الملك، فلما وضعه على ابنته بَرِئت من ساعتها، وكانت مربوطة في أربع سلاسل، وكل ليلة تبيت عندها جارية فتصبح مذبوحة، فمن حين وُضِع عليها هذا التعويذ بَرِئت لوقتها، وفرح الملك بذلك فرحًا شديدًا، وخلع عليَّ وتصدَّق بمال كثير، ثم وضعه في عقدها، فاتفق أنها نزلت يومًا في مركب هي وجواريها تتنزَّه في البحر، فمدَّت جارية يدها إليها لتلاعبها، فانقطع العقد وسقط في البحر، فعاد من ذلك الوقت العارضُ لابنة الملك، فحصل للملك ما حصل من الحزن، فأعطاني مالًا كثيرًا وقال لي: اذهب إلى الشيخ ليعمل لها تعويذًا عِوضًا عنه، فسافرت إليه فوجدتُه قد مات، فرجعت إلى الملك وأخبرته، فبعثني أنا وعشرة أنفس نطوف في البلاد لعلنا نجد لها دواءً، فأوقعني الله به عندك. فأخذه مني يا أمير المؤمنين وانصرف، فكان ذلك الأمر سببًا للاصفرار الذي في وجهي.

ثم إني توجَّهت إلى بغداد ومعي جميع مالي، وسكنت في الدار التي كنت فيها، فلما أصبح الصباح لبستُ ثيابي وجئت إلى بيت طاهر بن العلاء لعلي أرى مَن أحبها؛ فإن حبها لم يَزَل يتزايد في قلبي. فلما وصلتُ إلى داره رأيت الشباك قد انهدم، فسألت غلامًا وقلت له: ما فعل الله بالشيخ؟ فقال: يا أخي، إنه قَدِم عليه في سنة من السنين رجل تاجر يقال له أبو الحسن العماني، فأقام مع ابنته مدة من الزمان، ثم بعدما ذهب ماله أخرَجَه الشيخ من عنده مكسورَ الخاطر، وكانت الصبيَّة تحبه حبًّا شديدًا، فلما فارَقَها مرضتْ مرضًا شديدًا حتى بلغت الموت، وعرف أبوها بذلك فأرسَلَ خلفَه في البلاد، وقد ضمن لمَن يأتي به مائة ألف دينار، فلم يَرَه أحد، ولم يقع له على أثر، وهي إلى الآن مشرفةٌ على الموت. قلت: وكيف حال أبيها؟ قال: باع الجواري من عِظَم ما أصابه. فقلت له: هل أدلُّك على أبي الحسن العماني؟ فقال: بالله عليك يا أخي أن تدلَّني عليه. فقلت له: اذهب إلى أبيها وقل له: البشارة عندك؛ فإن أبا الحسن العماني واقف على الباب. فذهب الرجل يهرول كأنه بغل انطلق من طاحون، ثم غاب ساعة وجاء وصحبته الشيخ، فلما رآني رجع إلى داره وأعطى الرجل مائة ألف دينار، فأخذها وانصرف وهو يدعو لي، ثم أقبل الشيخ وعانقني وبكى وقال: يا سيدي، أين كنتَ في هذه الغيبة؟ قد هلكتِ ابنتي من أجل فراقك، فادخل معي إلى المنزل. فلما دخلتُ سجد شكرًا لله تعالى وقال: الحمد لله الذي جمعنا بك. ثم دخل لابنته وقال لها: قد شفاكِ الله من هذا المرض. فقالت: يا أبتِ، ما أبرأ من مرضي إلا إذا نظرتُ وجهَ أبي الحسن. فقال: إذا أكلتِ أكلةً ودخلتِ الحمام جمعتُ بينكما. فلما سمعت كلامه قالت: أصحيح ما تقول؟ قال لها: والله العظيم إن الذي قلته صحيح. فقالت: والله إن نظرتُ وجهه فما أحتاج إلى أكل. فقال لغلامه: أحضِرْ سيدك. فدخلت، فلما نظرتْ إليَّ يا أمير المؤمنين وقعتْ مغشيًّا عليها، فلما أفاقتْ أنشدَتْ هذا البيت:

وَقَدْ يَجْمَعُ اللهُ الشَّتِيتَيْنِ بَعْدَمَا
يَظُنَّانِ كُلَّ الظَّنِّ أنْ لَا تَلَاقِيَا

ثم استوتْ جالسةً وقالت: والله يا سيدي ما كنتُ أظن أني أرى وجهك إلا إن كان منامًا. ثم إنها عانقَتْني وبكت، وقالت: يا أبا الحسن، الآن آكل وأشرب. فأحضروا الطعام والشراب، ثم صرتُ عندهم يا أمير المؤمنين مدةً من الزمان وعادت لِمَا كانت عليه من الجمال، ثم إن أباها استدعى بالقاضي والشهود وكتب كتابها عليَّ، وعمل وليمة عظيمة، وهي زوجتي إلى الآن.

ثم إن ذلك الفتى قام من عند الخليفة ورجع إليه بغلام بديع الجمال، بقدٍّ ذي رشاقة واعتدال، وقال له: قبِّلِ الأرضَ بين أيادي أمير المؤمنين. فقبَّل الأرض بين يدي الخليفة، فتعجَّب الخليفة من حُسنه وسبَّح خالقه، ثم إن الرشيد انصرف هو وجماعته وقال: يا جعفر، ما هذا إلا شيء عجيب، ما رأيت ولا سمعت بأغرب منه! فلما جلس الرشيد في دار الخلافة قال: يا مسرور. قال: لبيك يا سيدي. قال: اجعل في هذا الإيوان خراج البصرة وخراج بغداد وخراج خراسان. فجمعه فصار مالًا عظيمًا لا يُحصِي عددَه إلا الله. ثم قال الخليفة: يا جعفر. قال: لبيك. قال: أحضِرْ لي أبا الحسن. قال: سمعًا وطاعة. ثم أحضره، فلما حضر قبَّلَ الأرض بين يدي الخليفة وهو خائف أن يكون طلبه له بسبب خطأ وقع منه وهو عنده بمنزله، فقال الرشيد: يا عماني. قال له: لبيك يا أمير المؤمنين، خلَّد الله نِعَمه عليك. فقال: اكشف هذه الستارة. وكان الخليفة أمرهم أن يضعوا مال الثلاثة أقاليم ويسبلوا عليه الستارة. فلما كشف العماني الستارة عن الإيوان اندهش عقله من كثرة المال، فقال الخليفة: يا أبا الحسن، أهذا المال أكثر أم الذي فاتك من قرص التعويذ؟ فقال: بل هذا يا أمير المؤمنين أكثر بأضعاف كثيرة. قال الرشيد: اشهدوا يا مَن حضر أني وهبت هذا المال لهذا الشاب. فقبَّلَ الأرض واستحى وبكى من شدة الفرح بين يدي الرشيد، فلما بكى جرى الدمع من عينه على خده، فرجع الدم إلى محله، فصار وجهه كالبدر ليلة تمامه، فقال الخليفة: لا إله إلا الله، سبحان مَن يغيِّر حالًا بعد حال وهو باقٍ لا يتغير! ثم أتى بمرآة وأراه وجهه فيها، فلما رآه سجد شكرًا لله تعالى، ثم أمر الخليفة أن يُحمَل إليه المال، وسأله أنه لا ينقطع عنه لأجل المنادمة. فصار يتردد إليه إلى أن تُوفِّي الخليفة إلى رحمة الله تعالى، فسبحان الحي الذي لا يموت ذي الملك والملكوت.

حكاية إبراهيم وجميلة

ومما يُحكى أيضًا أيها الملك السعيد، أن الخصيب صاحب مصر كان له ولد ولم يكن في زمانه أحسن منه، وكان من خوفه عليه لا يمكِّنه من الخروج إلا لصلاة الجمعة، فمرَّ وهو خارج من صلاة الجمعة على رجل كبير وعنده كتب كثيرة، فنزل عن فَرَسه وجلس عنده، وقلَّبَ الكتب وتأمَّلها، فرأى فيها صورة امرأة تكاد أن تنطق، ولم يَرَ أحسن منها على وجه الأرض، فسلبت عقله وأدهشت لبَّه، فقال له: يا شيخ، بِعْني هذه الصورة. فقبَّل الأرضَ بين يديه، ثم قال: يا سيدي، بغير ثمن. فدفع له مائة دينار، وأخذ الكتاب الذي فيه هذه الصورة وصار ينظر إليها ويبكي ليله ونهاره، وامتنع من الطعام والشراب والمنام، وقال في نفسه: لو سألتُ الكُتُبي عن صانع هذه الصورة مَن هو لَربما أخبرني، فإن كانت صاحبتها في الحياة توصَّلتُ إليها، وإن كانت صورةً مطلقة تركتُ التولُّعَ بها، ولا أعذِّب نفسي بشيء لا حقيقةَ له. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤