الارتجال

١

الارتجال في اللغة هو الكلام من غير تهيئة، أو الابتداء به من غير فكر، وقد كان أمرًا طبيعيًّا ميسورًا للعرب، قال الجاحظ: وكل شيء للعرب فهو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة ولا إجالة فكر ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام وإلى رجز يوم الخصام، أو حين أن يمنح على رأس بئر أو يحدو ببعير أو عند المقارعة أو المناقلة، فما هو إلا أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب وإلى العمود الذي إليه يقصد فتأتيه المعاني إرسالًا وتنثال عليه الألفاظ انثيالًا، ثم لا يقيده على نفسه ولا يدرسه أحدًا من ولده.

وكانوا أميين لا يكتبون، ومطبوعين لا يتكلفون، وكان الكلام الجيد عندهم أظهر وأكثر وهم عليه أقدر وأقهر، وكل واحد في نفسه أنطق ومكانه من البيان أرفع، وخطباؤهم أوجز، والكلام عليهم أسهل وهو عليهم أيسر من أن يفتقروا إلى تحفظ أو يحتاجوا إلى تدارس، وليس هم كمن حفظ علم غيره واحتذى على كلام من كان قبله؛ فلم يحفظوا إلا ما علق بقلوبهم والتحم بصدورهم واتصل بعقولهم من غير تكلف ولا قصد ولا تحفظ ولا طلب.

أما اليوم فالارتجال نادر بل إذا حققت لم تجد لحقيقته أثرًا؛ لأن الخطيب العصري لا يستطيع التكلم بما لا يعرف، فإذا كان عارفًا موضوعه فالتهيئة حاصلة فعلًا بما وعاه ذهنه بالدرس والمطالعة والاختبار.

قد يراد بالارتجال تركيب الألفاظ وتنسيق الجمل وإفراغ المعاني في قالب من التعبير يوافق مقتضى الحال، وهذا أيضًا صعب على خطيب اليوم؛ لأننا نتكلم عادة غير اللغة الفصحى التي نكتبها فنضطر بحكم الأمر إلى إعمال الفكرة عند الخطابة وإجهاد الذاكرة ولو قليلًا، وتوزيع قوة العقل بين النظر في الموضوع والعناية بالألفاظ في وقت واحد، وهذا كافٍ لإضاعة رونق الخطاب والتقصير في إجادة الإلقاء؛ قال الدكتور تولوز وهو من علماء النفس والأخلاق: إن الارتجال آفة الخطابة؛ لأنه يلقي المعنى على عواهنه دون أن ينضج بالتفكير، فكيف إذا أضفت إلى ذلك الركاكة التي مُنِّي بها أكثر الناطقين بالضاد للسبب الذي ذكرناه.

ومن قرأ مشاهير الخطب التي قيلت ارتجالًا وحفظت بالاختزال، دُهش لما فيها من الضعف والتناقض، ولم تخف عليه عيوب الإنشاء عند قراءتها على الرغم من وميض البلاغة الظاهر من خلال السطور.

أما إذا كان المقصود بالارتجال جملة قوية تأتي عرضًا في الخطاب ردًّا على اعتراض، أو إسهابًا في البيان أو شرحًا لسؤال ففي وُسع كل خطيب، ولكن أن تقال خطبة كاملة من غير استعداد فلا يقصر الخطيب في مادته أو بيانه فهذا ما لا أظنه يتاح لكثيرين.

انظر إلى خطباء الأقدمين فإنهم كانوا يهيئون خطبهم قبل إلقائها، وهذا ما حفظها لنا؛ لأن الاختزال لم يكن معروفًا لذلك العهد، وقد كان شيشرون يهذب خطبه ويتمرن عليها قبل أن يلقيها، وكان كانتليان من أساتذة الخطابة عند قدماء اللاتين يرى أن الارتجال لا يتهيأ للمرء إلا في أواخر عمره بعد أن يكون قد ذاق الأمرَّين في تعلم صناعة الخطابة، وهذا بوسويه كان يكتب خطبه ومسوداتها لا تزال محفوظة، ولما ظهرت الثورة الفرنسية اضطر القوم إلى الارتجال في كل نادٍ وموقف، ولكن ذلك لم يمنع ميرابو أن يكتب أكثر خطبه قبل إلقائها وكذلك روبسبير.

وانظر إلى خطباء اليوم فلا تجد فيهم من لا يعترف بالاستعداد قبل التكلم كالمحامي لابوري وهنري روبير وفيفياني وجورس وغيرهم، ومما قاله هنري روبير: «أنا لا أعمل والقلم في يدي، ولكني لا أنقطع عن التفكير أينما وجدت، ولا يزال دماغي في عمل مستديم، فتتوارد الجمل على خاطري وأرددها في باطني.» ولله در ابن المعتز حيث قال:

والفكر قبل القول يؤمن زيغه
شتان بين روية وبديه

وإذا اضطر أحد هؤلاء إلى الكلام عن غير استعداد كما كان يحدث في ندوة القضاء أو النيابة فللاعتراض أو دفع حجة أو إقامة برهان أو شرح حادث، وهذا سهل لأنه لا يخرج عن موضوع ألفه ودرسه وعالجه غير مرة بالقلم واللسان.

٢

ولا أدري وايم الحق ما الفائدة من التكلم بدون سابق استعداد في حين أن الخطيب قادر أن يأخذ للأمر أهبته، وأن يفرغ الطوق في إلباس موضوعه حلة أنيقة، فإن كانت غايته المباهاة فقد أخطأ المرمى؛ لأن ما يعرفه من الموضوع هو — كما بينَّا — ضرب من الاستعداد فضلًا عن ذلك فإنه من المستحيل أن تأتي عباراته برشاقة وانسجام وتنساق إليه بمثل النظام الذي يكون من وراء الاستعداد.

ثم إن ظهور الخطيب بمظهر المرتجل الذي لم يستعد فيه ازدراء الحاضرين، واعتداد بالنفس يقرب من الدعوى الفارغة المذمومة، فإن هذا الجمع الذي أزعج نفسه وجاء لسماعه، وربما كان فيه من أقبل من مكان سحيق غير مبال بالمشقة، وبُعد الشقة يستحق شيئًا من العناية والإكرام فلا يليق بالخطيب أن يقدِّم له إلا أحسن ما عنده.

وهناك فئة تدعي الخطابة وقد يكون بينها من يحسنها، ولكن عيبها التبجح أبدًا بعدم الاستعداد كأنه مزية كبرى تشهد لهم بسرعة الخاطر وذلاقة اللسان، ولا يفهمون ما في هذه الدعوى الباطلة من جلب الملام أحيانًا والهزء دائمًا.

وقد ذكرنا رأي الدكتور تولوز في أن الارتجال آفة الخطابة لاستحالة التدقيق والتنميق، ونضيف إليه أن فيه مجازفة كبيرة لأن الدخول في الموضوع قد يكون يسيرًا، ولكن الخروج منه عسير والمُتَّكل على قدرته ليفرع المنبر مرتجلًا هو كالمحارب الذي ينزل إلى الميدان أعزل على أمل أن يستعمل سلاح عدوه، أو كالقائد يهاجم خصمه وهو لم يرسم من قبل خطة الهجوم، وكم من المرتجلين الذين يصدق فيهم قول الشاعر:

ويرتجل الكلام وليس فيه
سوى الهذيان من حشد١ الخطيب

٣

لا أريد أن أُدخل اليأس إلى قلب القارئ الراغب بهذه الصناعة، فالارتجال ممكن لقوي الإرادة بعد أن تتوافر لديه الوسائل من سعة اضطلاع ومطاوعة قريحة وتصرف روية وحضور ذهن وامتلاك لناصية اللغة، والذي يأمن العثار فيه هو المطبوع الحاذق الواثق بغزارة مادته ورباطة جأشه؛ لأن الثقة بالنفس وحدها كافية لِأَنْ تنفي عنه كل خاطر يورث اللجلجة والنحنحة والانقطاع والبهر وما إلى ذلك.

وهو وإن يكن أبعد منالًا على المتكلمين بالعربية للأسباب التي أشرنا إليها من انفراج مسافة الخلف بين العامية والفصحى، فلا يعد مستحيلًا ولا سيما في مصر حيث الفطرة كفيلة به بما للمصريين من ألسنة ذلقة وألفاظ حسنة، وعبارة جيدة تجعل العامية قريبة من الفصحى فلا تجفل الأسماع منها.

وفي الارتجال تظهر مزية المطالعة التي ذكرناها في فصل سابق، فإذا كان الخطيب ممن لم يتكلموا على بلاغتهم الفطرية بل اجتهد بتوفير رأس ماله والإكثار من محفوظه «فقد سهلت عليه مستوعرات النثر، وذللت له صعاب المعاني، وفاض على لسانه وقت الحاجة ما كمن من ذلك بين ضلوعه».

والحاجة في الارتجال تدعو إليها مفاجآت كثيرة ولا سيما إذا كان الخطيب ممن أحرزوا قسطًا وافرًا من الشهرة فتتطاول الأعناق إليه أيان وجد، ولا يجد مناصًا من تلبية الدعوة فبفضل الدرس الطويل وسابق الاجتهاد يستطيع الخروج من هذا المأزق سليم الشهرة محفوظ الكرامة.

بل إن الاستعداد الكامل وتهيئة الخطبة بألفاظها ومعانيها قد لا يقي الخطيب من الذهول والنسيان فيقف على المنبر وقد غاب عنه كل ما أراد أن يقول، فإذا كان قادرًا على الارتجال فلا يعدم مخرجًا لطيفًا بل تأتيه النجدة من حيث لا يدري، ويفيض لسانه بالفصاحة جائلًا جولات طويلة دون أن يشعر السامع بأنه يقول غير ما أعده كتابة.

وأفضل الوسائل للتمرين على الخطابة والارتجال هو أن يُنشأ في المدارس شبه مجامع علمية لعدد محدود من الطلبة فيطرح عليهم موضوع المناظرة في الجلسة، ويجرب كل واحد أن يقول ما يحضره شارحًا أو معترضًا، فإن الألفة تمنع الكلفة وتشجع التلميذ على القول بين قوم هم أصدقاؤه وزملاؤه، ومن رتبته سنًّا وعلمًا فلا يعاب على خطأ ولا يؤاخذ بتقصير.

وبَعد المدرسة على طالب هذه الصناعة أن يتعود الكلام كل صباح ولو بضع دقائق، وأن لا يكتب مراسلة قبل أن يتكلم بمضمونها بصوت جهوري.

هوامش

(١) الحشد أي الاستعداد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤