الإنشاء الخطابي

١

للكتابة إنشاء خاص، وللكلام إنشاء آخر، ومن يجيد الواحد قد لا يجيد الثاني، بل ربما كان تناقض بين الاثنين، فإن السواد الأعظم من مشاهير الكتاب لم يكونوا خطباء، وبخلاف ذلك قلما تجد بين الخطباء من لا يعد كاتبًا.

وإذا كان الكاتب غير الخطيب، فليس ذلك فقط لأنه لا يعرف أن يتكلم كما يعرف أن يكتب، بل لأن كتابته لا توافق المنبر، فإن المكتوب ينال بالنظر ويذاق بالفكر، أما المقول فهو لا يصل إلى القلب إلا إذا مر في الأذن، وللأذن إحساس يجب إرضاؤه ونعومة يحاذر من تخديشها، والشعور الذي يثيره السمع ليس كالذي تُولده القراءة، فضلًا عن ذلك فإن عقلية الجمهور المحتشد في مكان عمومي تختلف عن عقلية الفرد المعتزل في غرفته.

إذن يوجد إنشاء للسمع كما يوجد إنشاء للقراءة، فما هي أصول هذا الإنشاء وقواعده؟

قال ابن المعتز والشيباني: إن البلاغة بثلاثة أمور؛ أن تغوص لحظة القلب في أعماق الفكر، وتتأمل بوجوه العواقب، وتجمع بين ما غاب وما حضر، ثم يعود القلب على ما أعمل به الفكر فيحكم سياق المعاني والأدلة، ويحسن تنضيدها ثم يبديه بألفاظ رشيقة مع تزيين معارضها واستكمال محاسنها.

هذه الأركان الثلاثة التي تقوم عليها البلاغة هي ما يسميه الإفرنج في تقسيمهم بالاختراع أو الإيجاد والتنسيق والتعبير.

فالاختراع هو استنباط الوسائل١ الخليقة بإقناع السامع وتحريك عواطفه.
والتنسيق هو تنظيم الخطبة وإحكام ربط أجزائها بعضها ببعض، وترتيبها ترتيبًا جميلًا بحيث تكون أبين غرضًا وأحسن في النفوس وقعًا.٢

والتعبير هو إفراغ المعنى في القالب الموافق، وإلباسه الحلة اللائقة به ليصل إلى قلب السامع من أقرب طريق وأسهل سبيل.

ولكن هذا التقسيم يشمل الكاتب والخطيب معًا، ولا يبدأ الفرق بين الاثنين إلا عند الركن الثالث؛ فإن تعبير الخطيب يتبع الذوق وما يدعو إليه المقام من تقصير الجمل أو تطويلها والتكرار تارة والتسجيع طورًا، وانتقاء الألفاظ الموسيقية الخفيفة على السمع المؤثرة فيه أثرًا حسنًا، والتحليق في سماء الخيال حينًا، والنزوع إلى النكتة حينًا آخر مع تطبيق ذلك على ما يضاف إليه مما يكمله كالإشارات والملامح والنظرات ونبرات الصوت وجاذبية الخطيب، وسائر ما يمكن الإنسان الحي أن يضيفه من الحياة إلى هذا الشيء الحي الذي يقال له خطابًا.

وها نحن أولاء نبحث فيما يتعلق بهذا التعبير ويخلع على الإنشاء الخطابي مسحة خاصة جاعلين فصلًا آخر لما نسميه مكملات الخطيب، فيرى القارئ بعد هذا الشرح صدق التعريف الذي وضعناه للبلاغة في أول الكتاب.

٢

إن الكلمات التي تؤلف منها الجمل هي كحجارة الفسيفساء لها لونها الخاص وشكلها المحدود، ولكنها تمثل صورًا مختلفة حسب تركيبها وتداخلها بعضًا في بعض، فكما أنك قد تجعل من قطع الفسيفساء صورة تدل على القبح أو الحسن والألم أو اللذة وغير ذلك من الأضداد تبعًا للطريق التي تؤلف بها بينها كذلك تستطيع — حسب اختيار الألفاظ وتركيبها — أن تمثل هذه العاطفة أو تلك تمثيلًا كاملًا أو ناقصًا، ولا يتم لك الإتقان إلا إذا وقع اختيارك في موقعه وكان لك اللفظ الموافق والتعبير الصادق.

قال القلشقندي: إن الألفاظ من المعنى بمنزلة الثياب من الأبدان، فالوجه الصبيح يزداد حسنًا بالحلل الفاخرة، والقبيح يزول عنه بعض القبح كما أن الحسن ينتقص حسنه برثاثة ثيابه وعدم بهجة ملبوسه، والقبيح يزداد قبحًا إلى قبحه. وقد قال أبو هلال العسكري في كتاب الصناعتين: ليس الشأن في إيراد المعاني لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي والقروي والبدوي، وإنما هو في جودة اللفظ وصفائه وحسنه وبهائه ونزاهته ونقائه وكثرة طلاوته ومائه، مع صحة السبك والتركيب والخلو من أود النظم والتأليف.

من الألفاظ ما هو فخم كأنه يجر ذيول الأرجوان أنفة وتيهًا.

ومنها ما هو ذو قعقعة كالجنود الزاحفة في الصفيح.

ومنها ما هو كالسيف ذي الحدين.

ومنها ما هو كالنقاب الرقيق يلقيه الشعر على بعض العواطف ليستر من حدتها ويخفف من شدتها.

ومنها ما له وميض البرق.

ومنها ما له ابتسامة السماء في ليالي الشتاء.

من الكلام ما يفعل كالمقرعة وهو كلام الانتقاد والتنديد، ومنه ما يجري كالنبع الصافي وهو المعد للرضى والغفران.

ومنه ما يضيء كالشهب وهو كلام التعظيم.

كذلك من الألفاظ ما ليس له طابع خاص فيؤتى به لتقوية الجملة ودعم المعنى فهو يلائم كل حال.

تلك هي الأدوات المعدة لبناء الخطبة تتطلب مهندسًا بارعًا ومصورًا حاذقًا ليؤلف بينها تأليفًا موافقًا ويرصفها رصفًا حسنًا، ويخلع عليها بردًا جميل النسج لامع الديباجة، يترجم معنى العظمة أو الجمال أو القوة كما في حجارة الفسيفساء. وإذا وقف الخطيب عند انتقاء الألفاظ ولم يعنَ بالتأليف والرصف فاته القصد وقصر دون الغاية من البلاغة؛ لأن الألفاظ حاصلة لكل إنسان دائرة على كل لسان، ولا يمتاز جامعها إلا بفضل تركيبها، قال الجاحظ: انظر إلى قوله تعالي: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ۖ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وما اشتملت عليه هذه الآية من الحسن والطلاوة والرونق والمائية التي لا يقدر البشر على الإتيان بمثلها، ولا يستطيع أفصح الناس مضاهاتها، على أن ألفاظها المفردة كثيرة الاستعمال دائرة على الألسنة، فقوة التركيب وحسن السبك هو الذي ظهر فيه الإعجاز.

إن البلاغة لا تقتصر على إفهام السامع كلام القائل وإلا لتساوت الفصاحة واللكنة والملحون والمعرب، وإنما المقصود الإفهام على سنة كلام البلغاء بأن «يجعل لكل طبقة كلام، ولكل حال مقام» وأن يخلع الخطيب من ألفاظه على معانيه حلة نور وضياء؛ ليتسنى للسامعين أن يشاركوه في تلك الرؤيا الجميلة التي تتجلى في ذهنه وبين تصوراته، ولا يكون الخطيب فيما يقول كالرجل الذي يكثر من الإشارات في الظلمة ثم هو يتعجب كيف لا يراه الناس.

٣

إن الأساس الذي يبنى عليه الإنشاء الخطابي هو العاطفة والشعور لأن الغاية الأولى من الخطاب هي أن تنقل ما في قلبك من الإحساسات إلى قلوب سامعيك، قال دلامبر: «إن الذي يكتفي بالإقناع دون التحميس فهو متكلم لا بليغ.» وقال رفالور: «إن الأهواء والعواطف هي الخطيب في الجماهير.» وقال ميرابو: «السر كل السر في البلاغة الخطابية أن يكون الإنسان ملتهبًا بالعواطف.» قال الحسين — وسمع متكلمًا يعظ فلم تقع موعظته من قلبه بموضع: «يا هذا إن بقلبك لشرًا أو بقلبي.» يريد أن الكلام الخالي من العاطفة قد يكون مفعمًا بالحقائق، ولا يجد مع ذلك سبيلًا إلى النفس.

وبما أن الشعور هو إحساس الخطبة كانت البساطة أجمل حلة يلبسها الإنشاء الخطابي، ولا أعني بذلك أن يكون الكلام مبتذلًا عاميًّا بل أن يوافق الزمان والمكان، فللمعاني العظيمة كلام عظيم كما بينَّا، ولا يستلزم كون الجمهور من العوام أن ينزل الخطيب بأساليب التعبير عن مقامها بل عليه أن يرفع العامة نحوه لأن الفن فنٌّ أينما كان.

٤

وبعد العاطفة يأتي الخيال والتصور الشعري لما فيهما من حلو التنقل الذي يسوق إليه التلاعب بالمعاني، ونتيجته تجديد الانتباه عند السامع ودفع الملل عنه فضلًا عما يكتسبه الخطاب من جميل الألوان وبديع الزخرفة وجديد الصور، كما سترى في غير هذا المكان.

ولكن للتصور والخيال حدودًا إذا تعداها الخطيب وقع فيما حاذره، ومهما يكن من أهمية الموضوع وجمال الصور المعروضة فإن الإسهاب أو الضرب على وتيرة واحدة يتعب السامع ويفضي به إلى السأم، ألا ترى أن إطالة النظر إلى الغدير الجاري والاستمرار على سماع خريره العذب يفضيان بنا إلى النعاس؟ بل إن هدير الأمواج المتصاخبة، وزئير الرياح العاصفة، ولعلعة الرعود على ما فيها من تهييج الأعصاب تنتهي بنا إلى النتيجة عينها إذا طال أمرها وتكرر حتى تألفه الأذن ويأمن منه الخاطر. كذلك إنشاء الخطيب إذا ازدحمت فيه المعاني الشعرية وتكاثرت فيه صور الخيال، فإن العقل يتعب والانتباه يتبدد ولا يبقى من الخطاب في أذن السامع إلا سلسلة أصوات متعاقبة كأنها آتية من أعماق النوم.

٥

أما الإكثار من الأدلة المنطقية والإغراق في الشرح والتفصيل والإسهاب في البيان والتعليل فذلك جائز في نثر الكاتب؛ لأن للقارئ متسعًا من الوقت للتأمل والتبحر بخلاف السامع الذي يتلقى الجملة بعد الجملة ولا قبل له بالمراجعة أو التوقف، بل تراه مضطرًّا إلى اتباع الخطيب والتقاط أقواله المتدفقة على سمعه؛ ولهذا كان من اللازم أن تأتي هذه الأقوال واضحة صريحة مختصرة تفعل بالجزم والتأكيد أكثر مما تفعل بالبرهان والمنطق.

إن القارئ حر في مواصلة قراءته أو الوقوف للاستراحة والتأمل، وأما السامع فهو معلق بشفتي الخطيب محمول معه في كل ناحية لا قبل له بالوقوف أو الإعراض دون أن تنفصم عرى الألفة بينهما؛ فيذهب من الخطاب رونقه أو بعض رونقه، وتفوت السامع فائدته أو جزء من فائدته.

وبقدر ما يقتصد الخطيب على السامع في ألفاظه وجمله يوفر من انتباهه لإدراك معانيه والتأثر بها لأن اللغة — كما لا يخفى — هي في آن واحد آلة للنقل وعائق دونه.

فالإنشاء الخطابي يختلف كثيرًا عن الرسائل لاضطرار الخطيب أن يتبع فيه أحوال نفسه والمكان الذي يتكلم فيه والجمهور الذي يصغي إليه، فتكون اللفظة في وزن الإشارة، والمعنى في طبقة اللفظة فيفصل بين الجمل ويكرر بعض الألفاظ مسهبًا هنا موجزًا هناك، متمهلًا في بعض المواضع مُكرًّا في غيرها، واقفًا حينما يرى ضرورة الوقوف ليترك للسامع مجالًا يستوعب فيه ما أراد أن يلقيه إليه أو يقصر انتباهه عليه.

على كل حال فإن آفة الخطابة التطويل، ومهما تكن العبارات متناسقة والإنشاء رشيقًا والموضوع شيقًا والخطيب ممتازًا، فما منع ذلك أن يكون السامعون بشرًا مثله لهم آذان تصم إذا أجهدتها، وبصر يكل إذا أتعبته، ولا يجب أن ينسى الخطيب أن استعداد الجمهور أو قابليته للإصغاء ليست واحدة فعليه أن يختار أوسط الطرق في شرحه وبيانه. يُرْوى أن ابن السماك جعل يتكلم وجارية له تسمع، فلما انصرف إليها سألها كيف سمعت كلامي؟ قالت: ما أحسنه لولا أنك تكثر ترداده. قال: أردده حتى يفهمه من لا يفهمه. قالت: إلى أن يفهمه من لا يفهمه يكون قد ملَّه من فهمه.

إن العبرة كل العبرة هي أن يحمل الخطيب عقول سامعيه في تيار العبارات الجميلة الموسيقية، فيهز تلك العقول هز الطفل في السرير، ويملك عليها جهد التفكير ويخدر فيها حاسة النقد، ويجعلها في شبه غيبوبة من سكر الفصاحة، ثم تأتي كلمة هي الكلمة الفاصلة المنتظرة مدعومة أحيانًا بنبرة في الصوت أو ضربة على المنبر فتوقظ تلك النفوس وقد عرفته بعد إنكارها ونازعت إليه بعد نفارها.

واللغة العربية قابلة للإنشاء الخطابي أكثر من سواها لوفرة غناها بالألفاظ والتشابيه والاستعارات وما فيها من جزالة لفظ وفخامة تركيب ورنة تسجيع، وما تقدر عليه من إيجاز وإطناب، فإذا ساعدها الأسلوب والخيال كانت على لسان البليغ خمرًا تدب في النفوس وسحرًا يسطو على الرءوس.

وربما نزل الإنشاء الخطابي أحيانًا عن نثر الكاتب في دقة المعنى ومتانة المبنى إلا أن في فصاحة اللهجة وجمال اللفظ وجهارة الصوت وإجادة الأداء ما يستر هذا العيب، فيخرج السامع مأخوذًا بما سمع ولو لم يحفظ منه شيئًا قانعًا بما أحس به من التأثير، راضيًا عما حصل عليه من اللذة.

نختم هذا الفصل بذكر ما ورد على لسان بشر بن المعتم من غالي النصائح في تعليم البلاغة قال:

خذ من نفسك ساعة نشاطك وفراغ بالك وإجابتها إياك؛ فإن قليلَ تلك الساعة أكرمُ جوهرًا وأشرف حسبًا، وأحسن في الأسماع، وأحلى في الصدور، وأسلم من ناقص الخطأ، وأجلب لكل عين وغرة من لفظ شريف ومعنى بديع، واعلم أن ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك الأطول بالفكر والمطاولة والمجاهدة، وبالتكليف والمعاودة، ومهما أخطأك لم يخطئك أن يكون مقبولًا قصدًا وخفيفًا على اللسان سهلًا، وكما خرج من ينبوعه ونجم من معدنه.

وإياك والتوعر فإن التوعر يسلمك إلى التعقيد، والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك ويشين ألفاظك، ومن أراد معنًى كريمًا فلْيلتمس له لفظًا كريمًا؛ فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حقهما أن تصونهما عما يفسدهما ويهجنهما، وعما تعود من أجله إلى أن تكون أسوأ حالًا منك قبل أن تلتمس إظهارهما، ولا تهن نفسك بملابستهما وقضاء حقهما وكن في ثلاثة منازل، فإن أولى الثلاث أن يكون لفظك رشيقًا عذبًا وفخمًا سهلًا، ويكون معناك ظاهرًا مكشوفًا وقريبًا معروفًا، إما عند الخاصة إن كنت للخاصة قصدت، وإما عند العامة إن كنت للعامة أردت، والمعنى ليس يشرف بأن يكون من معاني الخاصة، وإنما مدار الشرف على الصواب وإحراز المنفعة مع موافقة الحال وما يجب لكل مقام من مقال.

وكذلك اللفظ العامي والخاصي فإن أمكنك أن تبلغ من بيان لسانك وبلاغة قلمك ولطف مداخلك واقتدارك على نفسك أن تفهم العامة معاني الخاصة، وتكسوها الألفاظ الواسطة التي لا تلطف عن الدَّهْماء ولا تجفو عن الأكْفاء فأنت البليغ التام.

فإن كانت المنزلة الأولى لا تؤاتيك ولا تعتريك ولا تسنح لك عند أول نظرك وفي أول تكلفك، وتجد اللفظة لم تقع موقعها، ولم تَصِر إلى قرارها وإلى حقها في أماكنها المقوية لها والقافية لم تحل في مركزها وفي نصابها، ولم تصل بشكلها وكانت قلقة في مكانها نافرة في موضعها، فلا تكرهها على اغتصاب الأماكن والنزول في غير أوطانها، فإنك إذا لم تتعاط قرض الشعر الموزون، ولم تتكلف اختيار الكلام المنثور لم يعبك بِتَرْك ذلك أحد، وإن أنت تكلفتها ولم تكن حاذقًا مطبوعًا ولا محكمًا لسانك بصيرًا بما عليك أو ما لك؛ عابك من أنت أقل عيبًا منه، ورأى من هو دونك أنه فوقك، فإن ابتليت بأن تتكلف القول وتتعاطى الصيغة ولم تسمح لك الطباع في أول وهلة وتَعصَّى عليك بعد إجالة الفكر، فلا تعجل ولا تضجر ودعه بياض يومك أو سواد ليلك، وعاوده عند نشاطك وفراغ بالك، فإنك لا تعدم الإجابة والمؤاتاة إن كان هناك طبيعة أو جريت من الصناعة على عرف.

فإن تمنع عليك بعد ذلك من غير حادث شغل عرض، ومن غير طول إهمال فالمنزلة الثالثة أن تتحول من هذه الصناعة إلى أشهى الصناعات إليك وأخفها عليك، فإنك لم تعشقه ولم تنازع إليه إلا وبينكما سبب، والشيء لا يحن إلا إلى ما يشاكله وإن كانت المشاكلة قد تكون في طبقات؛ لأن النفوس لا تجود بمكنونها مع الرغبة، ولا تسمح بمخزونها مع الرهبة كما تجود به مع المحبة والشهوة، فهكذا هذا.

هوامش

(١) هذه الوسائل يقال لها الأدلة، وتسهيلًا لاستخراج هذه الأدلة قد وضع الأقدمون من اليونان جدولًا لما يمكن استعماله منها، وأطلق العرب عليه اسم مواضع، قال ابن سينا: إن الحجج في الجدل والخطابة تُكتسب من المواضع، فمن طلب الإقناع وهو لا يعلمها كان كحاطب ليل يسعى على غير هداية، لا لبخل في الموضوع بل لنقص في الاستعداد.
وهذه المواضع تتناول (١) الحد (٢) التجزئة (٣) الجنس والنوع (٤) العلة والمعلول (٥) المقدمات والتوالي (٦) الظروف (٧) المقابلة والمشابهة. وإليك بيانها بإيجاز نقلًا عن المرحوم الأب شيخو اليسوعي.
  • الموضع الأول: الحد: هو تعريف الشيء بجنسه وفصله كقولك الإنسان حيوان ناطق، أو بمميزاته وخواصه كقولك العقل وزير مرشد من أطاعه نجاه، أو بالسلب والإيجاب كقول الشاعر:
    ليس من يقطع طرقًا بطلًا
    إنما من يتقي الله البطل

    أو بالتشبيه كقول ابن العربي:

    كتابي فيه بستاني ورامي
    ومنه سمير نفسي والنعيم
  • الموضع الثاني: التجزئة: هي تقسيم الكلي إلى أجزائه كما تقسم الكائنات إلى حيوان ونبات وجماد، أو الحياة إلى طفولة وشباب وكهولة وهرم، فيثبت الخطيب للكلي ما يثبت لأجزائه كقول أبي العتاهية يصف أن الموت يعم البشر ولا يرد غاراته أحد:
    ما يدفع الموت أرجاء ولا حرس
    ما يغلب الموت لا جن ولا إنس
    للموت ما يعد الأقوام كلهم
    وللردى كل ما شادوا وما غرسوا

    أو ينفي عن الكلي ما ينفيه عن الأجزاء كما لو أراد أن ينفي السعادة عمومًا في الدنيا فينفيها أولًا في أشياء الدنيا من مال وجاه وغير ذلك، أو يقرر لواحد ما أنكره على بقية الأجزاء كإثبات تهمة القتل مثلًا على واحد بعد نفيها عن سائر المتهمين، أو يقرر لأجزاء الكل ما نفاه عن جزء واحد كقول الشاعر:

    ألا كل شيء ما خلا الله باطل
  • الموضوع الثالث: الجنس والنوع: الجنس يدل على كثرة مختلفي الأنواع، والنوع على كثرة مختلفي الأشخاص، مثلًا: الحي جنس يشمل أنواع الإنسان والحيوان والنبات، والإنسان نوع يشمل الزنجي والأبيض وغيرهما، وللاستدلال بالجنس والنوع طريقتان؛ الأولى: أن تطلق حكمًا على الجنس ثم تثبته للنوع، كما لو أردت أن تبين أن القناعة محمودة فتثبت أولًا أن الفضيلة محمودة لأن الفضيلة جنس يشمل القناعة. والثانية: أن تنفي عن النوع ما تنفيه عن الجنس.
  • الموضع الرابع: العلة والمعلول: العلة على أربعة أنواع: الفاعلية، وهي المؤثرة في المعلول كالبناء بالنسبة إلى الدار، والغائية وهي ما كان لأجلها البناء كسكنى الدار هو الغاية من تشييدها.

    والمادية وهي ما تألفت منه أجزاء الشيء كالحجارة والخشب في بناء الدار. والصورية وهي ما قامت به ماهية الشيء كصورة الدار تميزها عن غيرها من المساكن كالقصر والخيمة والكوخ.

    والاستدلال بالمعلول هو إن أردت أن تثبت حكمًا لأمر أو تنفيه عنه أن تعدد مفاعيله الحسنة أو السيئة التي يستدل بها على صلاح العلة أو فسادها، إذ لا شيء في المعلومات إلا وهو في عللها فتبني حكمك على مقتضى ذلك لترغيب الجمهور فيه أو رده عنه.

  • الموضع الخامس: المقدمات والتوالي: المقدمات ما سبق المقصود والتوالي ما عقبه، مثلًا إن أردت أن توجب السرقة على إنسان أمكنك ذلك بما تقدم العمل من اختفاء السارق، أو تجسسه وسوابق المتهم وبما تلا العمل كاغتنائه بعد الفقر وإنفاقه عن سعة وغير ذلك.
  • الموضع السادس: الظروف: هي العوارض الطارئة على الأمر المقصود فتلبسه لبوسها وتخرجه عن هيئته ونوعه، وإن لم تكن عن جوهره وحقيقته، مثلًا: حادث قتل فإنه لا يتم إلا في زمن ومكان محصورين، وبهيئة معلومة، وبغاية محدودة وعن أشخاص معروفين، فالزمن والمكان والهيئة والغاية وصفات الأشخاص كلها ظروف خارجة عن الأمر لا تمس جوهره؛ لأنها تتغير، والقتل يبقى قتلًا لكنها تغير صورته وتخرجه من نوع إلى نوع، فيكون إما تعديًا وإما دفاعًا وإما غير ذلك.
  • الموضع السابع: المقابلة: هي في اصطلاح الحكماء امتناع وجود شيئين في موضوع واحد من جهة واحدة، كالجهل والعلم والزهد والطمع وما شاكل، فإنها تتنافى في موضوع واحد؛ فإن كان زيد مثلًا برًّا بأبيه فينكر عقوقه له وفائدتها زيادة جلاء الموضوع كما يقول الشاعر:
    وبضدها تتبين الأشياء

    والاحتجاج بالمقابلة على ثلاثة وجوه (١) أن تثبت أحد المتقابلين فتنفي الآخر كقول علي بن أبي طالب يبطل زعم قريش في جهله لأمور الحرب: قالت قريش إن ابن أبي طالب شجاع، ولكنه لا علم له بالحرب. لله أبوهم! وهل منهم أحد أشد مراسًا وأطول تجربة مني؟! لقد مارستها ابن عشرين وها أنذا قد نيَّفت على الستين. (٢) أن تنفي أحد المتقابلين فتثبت الآخر كقول الشاعر:

    وكيف تريد أن تُدعى حكيمًا
    وأنت لكل ما تهدى تبوع

    (٣) أن تستنتج من متقابلين نتيجتين متباينتين، مثاله مقابلة الطرطوشي عدل السلطان وجوره.

  • الموضع الثامن: المشابهة: هو عرض أمر على آخر ليُتخذ منه دليل على المقصود، فإن قلت حياة الإنسان كسحابة؛ استدللت على فنائها، وهي على ثلاثة وجوه (١) أن تعرض المقصود على ما هو أكبر وأكثر، فتستدل على صحة ما هو أقل أو أصغر، كقول أبي عبيدة يدعو أهل الشام إلى فتح مدينتهم للعرب: «لا يغرنكم عظم مدينتكم وتشييد بنيانكم، وكثرة زادكم وهول أجسامكم، فإنا نزلنا بلادًا أخصب من بلادكم، وفتحنا أمصارًا ممصرة ومدائن أحرز من مدينتكم، وخرج علينا أعلاج موفورة أقواتهم، مدرعون مترسون لا يقر لوجههم قرار؛ فهوى نجمهم، وذهب أمامنا ريحهم، ورددناهم على الأعقاب.» (٢) أن تعكس الآية كقول الغزالي يثبت أنه لا عجب من قصور الإنسان عن إدراك الكمالات الإلهية؛ إذ لا يدرك الحقائق الطبيعية نفسها وهي أقرب منه:
    أنت أكل الخبز لا تعرفه
    كيف يسري فيك أو كيف يجول
    كيف تدري من على العرش استوى
    لا تقل كيف استوى كيف الوصول

    (٣) أن يعرض المقصود على ما يشبهه بالمساواة كقول علي:

    أحب لغيرك ما تحب لنفسك
    واكره له ما تكره لها

    هذه هي المواضع التي يرجع إليها في كل بحث يراد الدخول فيه، وهي ذاتية أي تستفاد من الموضوع نفسه كما ترى، ولكن هناك مواضع عرضية تستفاد من التقاليد بالاستشهاد بالتواريخ والكتب المقدسة وأقوال المشترعين والحكم السائرة وما إلى ذلك. انتهى.

(٢) أما التنسيق وهو الركن الثاني من أركان البلاغة فهو الذي يقسم الخطبة إلى ثلاثة أقسام: المقدمة والإثبات والخاتمة.
فالمقدمة تتناول براعة الاستهلال، وتبيين الموضوع بصورة إجمالية، واستمالة الحضور واسترعاء سمعهم، وقد كان العرب يفتتحون خطبهم بالحمدلة، ثم يردفون بالسلام على أنبياء الله وأصفيائه، ويأتون بفصل الخطاب وهو أما بعد. أما اليوم فقد استغنى أكثر الخطباء عن هذه التقاليد، مكتفين بمقدمة وجيزة فيها ثناء أو اعتذار أو تنويه بأهمية الموضوع أو غير ذلك من الاستشهاد بمثل سائر أو حكمة دائرة مما يشوق الحضور ويحملهم على الإصغاء.
والإثبات هو عرض القضية وتأييدها بالحجج وتعزيزها بالأدلة والرد على مزاعم الخصوم إلى آخره. والخاتمة هي آخر ما ينتهي إلى أذن السامع من كلام الخطيب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤