تمهيد

بادِئَ ذِي بَدْءٍ دَعُونا نوضح الآتيَ: لا يزعم أحدٌ أن الهُوَاة سوف يَحُلُّونَ أو ينبغي أن يَحُلُّوا محل المهنيين؛ فليس هذا هو الغرض من الصحافة الشبكية؛ المفهوم الذي يدور حولَه هذا الكتاب. إنما تهدف الصحافة الشبكية إلى الاستفادة من فرص التعاون الجديدة التي يقدِّمها وَسَطُ الإنترنت المترابط؛ فقد يعمل الآن المهنيُّ والهاوي، والصحفي والمواطن العادي معًا؛ لتجميع ومشاركة أخبارٍ أكثر بطرقٍ أكثر لأشخاص أكثر، مما كان ممكنًا في أي وقت مضى. والصحافة الشبكية تقوم على حقيقةٍ بسيطة وبديهية ونفعية: يمكننا معًا أن نفعل أكثر مما يمكن لكلٍّ منا أن يفعله على حِدَةٍ.

وبالفعل شرعْنا أنا والمؤيِّدون لهذه الفكرة في العمل معًا؛ ففي خريف ٢٠٠٧، عقدتُ «قمة الصحافة الشبكية» في كلية الدراسات العليا للصحافة بجامعة مدينة نيويورك حيث أعمل أستاذًا مساعدًا. عندما قدَّمتُ للحصول على منحة من مؤسسة ماك آرثر التي مكنتنا من إقامة الحدث، ظننت أن مهمتنا ستقتصر على إقناع الناس بمدى عظمة الفكرة. لكن عندما حان موعد المؤتمر، بدا جليًّا أن جهودًا كثيرة في الصحافة الشبكية — معظمها قَيْدَ التجريب — قد بدأ بذلها بالفعل؛ وعليه صارت مهمتنا عرض أفضل الممارسات — بعضها مذكور في هذا الكتاب — وتحديد الخطوات التالية. ومن الأمثلة على ممارسات الصحافة الشبكية أن إحدى الصحف بولاية فلوريدا دعت القرَّاء إلى التفتيش عن أخبار وفضائح في مجلدات من البيانات خاصة ببرنامج حكومي للإغاثة أثناء العواصف. وفي حين طلبت محطة راديو بنيويورك من مستمعيها تحديد أحياء المدينة التي تكتوي بنار غلاء أسعار اللبن والجِعَة، كانت إحدى الشركات الناشئة بولاية بافاريا الألمانية تنشر مجلاتٍ محلية مربحة تقدِّم محتوًى يُعدُّه مجموعة من الجيران المحليين. وتمخَّض لقاء هؤلاء الممارسين الأكْفاء للصحافة الشبكية عن المزيد من الأفكار والمشروعات، من بينها شركة تعاونية لتطوير برامج إلكترونية تسهِّل تجميع البيانات من الجماهير في المشروعات التي تَعهد لهم بمهمة جمع الأخبار. إن قدرة الإنترنت على توصيل بعضنا ببعض وبالمعلومات تجعل كل هذا ممكنًا.

على أن الصحافة الشبكية ليست وليدة الفرصة وحدها بل الحاجة أيضًا، فالآن تجد المؤسسات الإخبارية — التي كانت تنعم في وقت ما بمكانة حصينة، إن لم تكن تحتكرها، بوصفها الجهة المالكة للمطابع أو أبراج البث — نفسَها أمام منافسة غير محدودة، لا على مستوى المحتوى وجذب الانتباه فحسب وإنما أيضًا على مستوى العائدات. إنها تتقلص الآن، لكنها ليست مضطرة إلى ذلك؛ إذ يمكن لهذه المؤسسات أن تنموَ فعليًّا من خلال إنشاء شبكات من الجهود الصحفية ثم الانضمام لتلك الشبكات، وكذلك المساعدة في تولي المسئولية والتحرير والتدقيق والتعليم، وبالطبع في إدرار الأرباح. يمكن للصحف أن تصب تركيزها على نطاق محلي أو أن تصبح عالمية، ويمكن أن تمتلك المحطات التليفزيونية كاميرات في كل مكان، ويمكن أن يعيِّن المحققون أعدادًا أكبر بكثير من المساعدين ليساعدوهم في التفتيش عن الحقائق، ويمكن أن تصير المواقع الإخبارية أكثر كفاءة عبر تنفيذ المهام التي تجيدها وخلق روابط بينها وبين القائمين ببقية المهام، ويمكن للمراسلين تلقي مساعدة وتصحيحات فيما يتعلق بأعمالهم قبل النشر وبعده.

إن الوسائل التي يمكن أن يستعين بها الصحفيون في زيادة مستمرة. تمكِّن الروابط الإلكترونية ومحركات البحث الصحافة من الانتشار، وتتيح المدوَّنات لأي شخص النشر وتقديم مساهمة، وتساعد الهواتف المحمولة الشهود على مشاركة ما يرونه — حتى أثناء حدوثه — في صورة نص، أو صور، أو صوت، أو مقطع فيديو. كما تُمكِّن قواعد البيانات ومواقع الويكي مجموعات كبيرة من الأفراد من دمج معرفتهم. تستطيع الخدمات الاجتماعية توصيل الخبراء بمجتمعات المعلومات.

في رأيي؛ هذا هو الوضع الطبيعي للإعلام: أن يكون ثنائيَّ الاتجاه وتعاونيًّا؛ فالطبيعة الأحادية الاتجاه لوسائل الإعلام الإخبارية حتى الآن كانت مجرد نتاج القيود التي يفرضها الإنتاج والتوزيع. نشرة الأخبار التي تُصنع بنجاح هي تلك التي تكون في شكل حوار بين أولئك الذين يعرفون وأولئك الذين يبتغون المعرفة، مع قيام الصحفيين — في أدوارهم الجديدة كمسئولين ومساعدين ومنظمين ومعلمين — بالمساعدة حيثما أمكن؛ إذ لم تَعُدْ ثمرة عملهم صحفًا متدنية القيمة وإنما عملية من التنوير المتزايد.

من ثم تتغير وسائل الصحافة واقتصادياتها وبنيانها وأدواتها وتقنياتها كافةً، إلا أن ما أرجو له التغيير هو ثقافتها؛ إذ أتمنى أن تصير الصحافة أكثر انفتاحًا وشفافية واتساعًا ومرونة. أومن أن الصحافة ستصبح أقوى وستكتسب قيمة أكبر كجزء من شبكةٍ مقارنةً بوضعها السابق كنتاج قرائح جماعة من الخبراء المهنيين. أومن أيضًا أن الهواة الذين يساعدون في هذه العملية سيكونون أفضل؛ لأنهم سيتعلمون المعايير والممارسات والدروس التي تعلَّمها الصحفيون على مدار سنوات. كلاهما سيكون في حال أفضل إذا أدركوا أننا نواجه هذا معًا؛ فنحن أعضاء المجتمعات نفسها. لكن حتى مع كل هذا التغير، تبقى المهمة الجوهرية للصحافة ثابتة: ألا وهي أننا نريد أن نُمِيطَ اللِّثام عَمَّا يعرفه العالم وما يحتاج العالم أن يعرفه وأن نربطَهما معًا.

عندما استهللتُ استكشاف هذه الأفكار بنفسي، قريبًا من الوقت الذي بدأت فيه التدوين كمحررٍ تَحَوَّلَ من الصحافة المطبوعة إلى الصحافة الإلكترونية عام ٢٠٠١ — انظر www.buzzmachine.com — أطلقت على هذه الفكرة، مثل كثيرين، «صحافة المواطن». لكنني تراجعت عن هذه التسمية في وقت لاحق لثلاثة أسباب: أولها، أنني أرى أنه من الخطأ تعريف الصحافة بناءً على من يقوم بها؛ لأن ذلك يشير ضمنيًّا إلى أهلية — أو بالتبعية عدم أهلية — الصحفيين. من المفترض تعريف الصحافة في ضوء الفعل، وهي فعل يمكن لأي شخص أن يقوم به. ثانيها، أتذكَّر محررة على الإنترنت لإحدى الصحف وهي تدنو من مكبر الصوت في أحد مؤتمرات الصحافة الإلكترونية متحدية إياي وأنا أتحدث في ندوة وسط مجموعة من الخبراء قائلة — وعيناها مغرورقتان بالدُّموع: «أنا أيضًا مواطنة»، فأجبتها: بالطبع أنتِ مواطنة. وكلما بكَّر الصحفيون في التصرف كمواطنين في عوالمهم، تحسَّن حال كلٍّ من المواطنين والصحفيين. ثالثها، بدأت أُدرك أن العبارة الطنانة «صحافة المواطن» لا تستطيع بأي شكل من الأشكال أن تنقل القوة الكاملة للتعاون الذي أصبح ممكنًا الآن بفضل الإنترنت.

يستطلع تشارلي بيكيت ببراعةٍ هذه القوة التي تتمتع بها الصحافة الشبكية والتي تكمن في وسائلها وفرصها وتأثيراتها في الصفحات التالية. قبل هذا الكتاب، اقتصر تناول الصحافة الشبكية في المقام الأول على منشورات المدوَّنات وحلقات المناقشة في المؤتمرات. تحتاج فكرة الصحافة الشبكية وممارستها هذه الدراسة الشاملة وهذا البيان التأسيسي لدعمها، وأؤيد حجة تشارلي بيكيت بأننا نحتاج في مجال الأخبار وفي المجتمع إلى الصحافة الشبكية؛ لا من أجل حماية مستقبل الصحافة فحسب، وإنما من أجل مد آفاقه أيضًا.

جيف جارفيس
نيويورك
ديسمبر ٢٠٠٧

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤