ظاهرة أحمد شفيق

أمري إلى الله؛ إذ لا بدَّ مما ليس منه بُد، لقد ظللتُ أصبر على هذا المنكر وأصبر وأقول إن فاعله سيتوب وينصلح حاله ويعود إلى حظيرة العلم والتقاليد الأكاديمية والجامعية ومختلف ما اصطلحت عليه الأوساط العلمية من نُظم وطُرق، ولكنه يأبى إلا أن يظل سائرًا في طريقته التي لا تمت بصلة إلى أي علم وأي حقيقة، الموضوع هو ظاهرة الدكتور أحمد شفيق جراح الشرج والأمعاء وأستاذ الجراحة بكلية طب محترمة شديدة الاحترام، أول ما لفت نظري إليه كانت المقالات الصحفية التي ينشرها في جرائدنا بتوقيعه كأستاذ في كلية الطب، وكلها تقريبًا، كانت تتحدث عن مواضيع غير طبية، مواضيع عامة، مثلها مثل مواضيع الرأي التي ينشرها أساتذة جامعاتنا والتي يرتفع مستواها أحيانًا فنستفيد منها فائدة قصوى، وينخفض في أحيان إلى مستوى معلومات ورأي القارئ العادي غير المسلَّح بوجهة نظر خاصة، المهم من كثرة نشره لمقالاته تلك، علق اسمه في ذاكرتي، ورغم أن مقالاته لم تكن تضيف جديدًا إلى ما عندي وعند كثير من القراء، إلا أني كنت أقول لنفسي: والله إنه لشيء جميل، أن يهتم أستاذ في جراحة الشرج بهذه المواضيع العامة، ولا يظن أحد من القراء أنني أستعمل كلمة جراحة الشرج استخفافًا؛ فجراحة الشرج تخصص خطير تمامًا من تخصصات الجراحة، بل إن مستشفى من أكبر مستشفيات لندن مخصص كله لجراحة ذلك الجزء من أجهزة الإنسان، ربما يستعمله الإنسان كمادة للاستخفاف أو للفكاهة ولكنه فرع جد خطير من فروع الطب.

وذات يوم قرأت، فجأة، أن الدكتور أحمد شفيق مرشح لجائزة نوبل في الطب، والحقيقة استغربت قليلًا؛ فجائزة نوبل لا تُمنح في الطب للجراحين حتى لو كان الجراح «برنارد» الذي نقل أول قلب بشري، أو مجدي يعقوب الذي نقل أول قلب ورئتين من طفل إلى طفل بنجاح؛ فجائزة نوبل الطبية تُمنح للاكتشافات في «نظرية الطب» أو أي تقدم يُحرَز في تطور معرفتنا بالجنس البشري مثلما مُنِحها الطبيب البريطاني فلمنج «لاكتشافه» أن الجراثيم تقتلها المضادات الحيوية من بنسلين وستربنوميسين، وهي أنواع من النباتات الفطرية اكتشف أنها تقتل الميكروبات ولم تكن موجودة قبلًا؛ إذ كان أقصى ما نقاوم به الميكروبات هي أدوية «السلفا» الكيمياوية.

ولكني قلت لنفسي ربما «اكتشف» الدكتور أحمد شفيق اكتشافًا في الطب لا نعرفه.

وعلى هذا هضمت كل تلك التحقيقات الصحفية التي كُتبت عنه والصور والدعاية الهائلة لأول جراح مصري مرشح لجائزة نوبل، بل إنه في الزميلة «صباح الخير» ويبدو أن له ركيزة أساسية في إحدى محرراتها، بدأ ينشر مذكراته وذكرياته عن طفولته في القرية وعن شبابه وأول عملية نقل مثانة، نقل بها مثانة شخص مات فورًا إلى شخص حي، وأشياء من هذا القبيل لا أذكرها الآن. كل هذا بمناسبة «ترشيحه» لجائزة نوبل، فما بالك لو كان قد نالها، ماذا كان يفعل؟

وبالمصادفة البحتة دُعيت للسويد من قِبل جمعية الصداقة السويدية العربية وجامعة استوكهولم، وهناك سألت أستاذًا في كلية الطب عن ترشيح الدكتور أحمد شفيق لجائزة نوبل على اعتبار أنه حقيقة واقعة، فتفكَّرَ مليًّا وقال لي: أنا متأكد أنه لا يوجد بين المرشحين لجائزة نوبل في الطب من يحمل هذا الاسم على مدى السنوات الخمس الماضية وحتى هذا العام، ودهشت دهشة عظمى وعدت أجادله وهو يؤكد قوله، وحملت المشكلة إلى صديقي الأستاذ الدكتور عطية أستاذ الأدب العربي في جامعة استوكهولم، وقلت له الواقعة فأغرق في الضحك، وسألته لماذا يضحك؟ فقال لي إنه ذات يوم دقَّ له الدكتور أحمد شفيق تليفونًا وقال له: ما هي آخر أخبار ترشيحي لجائزة نوبل؟ فقلت له: وهل أنت مرشح؟ قال: لقد رشحتني جمعية جراحي الجهاز الهضمي الأمريكية (التي كان يرأسها في ذلك الوقت الدكتور أحمد شفيق)، فقال له الدكتور عطية دعني أسأل وأجيبك، وذهب الدكتور عطية إلى سكرتارية الأكاديمية السويدية يسأل، فقيل له إنه ليس من حق أي جهة أخرى أو جامعة أو جمعية أن ترشح أحدًا لجائزة نوبل، وأن الترشيح يتم من قِبل الأكاديمية وحدها؛ فهي تطَّلع على كل الدوريات العلمية وتتتبَّع أدق تفاصيل الأبحاث الطبية، ومن خلال الاكتشافات التي تقرها الجامعة وتُنشَر في الدوريات العلمية يتم اختيار أجدر الاكتشافات لنيل الجائزة دون تدخُّل من أحد، ثم قالوا له أيضًا: دع صديقك هذا يرسل أبحاثه أو اكتشافاته فربما نرى فيها اكتشافًا جديدًا، وأرسلت لهم أبحاث الدكتور أحمد شفيق واكتشافاته، فإذا بها كلها أبحاث تتعلق بجراحات أجراها لتحويل عملية «الكولستومي» وهي تحويل القولون الغليظ بعد استئصال «المستقيم» في حالات السرطان أو الحوادث إلى جانب المريض بحيث يتبرز من جانبه تحويل هذا إلى الوضع الطبيعي، وبضع عمليات جراحية أخرى، فردت الأكاديمية بالرد الذي سبق وذكرته وهي أنها تمنح جائزتها ليس على التقدم أو الابتكار الجراحي وإنما على التقدم العلمي النظري في علم الطب فقط، وهنا ثار الدكتور أحمد شفيق وذكر للأستاذ عطية أشياء مضحكة، منها أنه فصَّل السموكنج أو التوكسيدو الذي سيرتديه لحظة تسلُّم الجائزة، وأن السيدة حرمه فصلت فستان سواريه مخصوصًا من أجل تسلُّم الجائزة واقفة بجواره. وأشياء أخرى تميت من الضحك وكلها خاصة بتصور منظره في حفلة عشاء الأكاديمية وملك السويد يسلمه الجائزة وتليفزيونات العالم تنقل على الهواء مباشرة هذا الحفل.

وعدت إلى القاهرة فوجدت أن الدكتور أحمد شفيق لا يزال ينشر مذكرات طفولته وشبابه باعتباره أول عالم مصري «يُرشَّح» لجائزة نوبل.

وقلت لنفسي: فوِّتها؛ إذ تصورت ساعتها أن الدكتور أحمد شفيق من ذلك النوع الحالم بأحلام يقظة يتصور نفسه أحيانًا في هيئة الحاصل على جائزة نوبل، وأحيانًا في هيئة المكتشف لدواء يشفي من السرطان، أو أخير، وهو ما سنصل إليه، دواء للإيدز.

قلت: لا بأس على إنسان كهذا أن يحلم، فلندعه يحلم كما يشاء بجائزة نوبل، وفعلًا مضت الأعوام تلو الأعوام، ولم يحصل سيادته على الجائزة و«بلعناها وفاتت».

وفي ذلك الحين علمت من أساتذة كلية الطب تاريخ الدكتور أحمد شفيق في الكلية، وكيف قُدِّم إلى مجلس تحقيق وتأديب؛ إذ أقدم وهو طبيب ناشئ وبدون علم أستاذ القسم أو رؤسائه على إجراء جراحات نقل المثانة من شخص مات إلى شخص حي، وما صاحب هذا من رفض الجسم للمثانة وموت المريض، بل المريضَين.

ولكن عبقرية أحمد شفيق، ولا شك أن له عبقرية خاصة في هذا، أنه كل مرة يفلت من المخالفة الجسيمة دون أي عقاب رادع، وهكذا مضى في سلم الجراحة إلى أن أصبح أستاذًا، والحقيقة أنه بارع جدًّا كجراح شرج، هكذا يشهد كل زملائه ومن رأوه وهو يزاول العمليات، ولكنه لا يكتفي بأن يكون أستاذًا عظيمًا للجراحة، إنه يريد أن يكون «عالمي» الشهرة بأي طريقة كانت، تؤرقه — كما ذكرت — أحلام اليقظة في المجد الذي يعمي نوره الدنيا، والطموح إلى هذا في حد ذاته ليس بالأمر البشع؛ فكل إنسان منا مهما صغر شأنه أو علا، عنده نوع من الطموح، يحلم أنه ذات يوم سيكسب مائة ألف جنيه وسراية في محرم بيه، هذا حلم مصري مشروع، ولكن فرق كبير بين أن يحلم العالِم وبين أن يحلم رجل الشارع؛ فالعالِم حين يحلم يكتم في نفسه ويبدأ طريق الألف ميل بخطوة وفي دأب شديد يظل، بالطريقة العلمية الأكاديمية المتعارف عليها، يجرب، فإذا استأذن في تجاربه، ونجحت التجارب، يعرض النتائج على مجلس القسم الذي يعمل فيه، فإذا أقرها رفعها إلى مجلس الكلية ومجلس الجامعة يُصرِّح له بعد هذا في نشرها في الدوريات العلمية حتى يضع اكتشافاته أمام أنظار كل علماء الدنيا. ويحدث في أحيان كثيرة أن يكتشف عالمان أو أكثر نفس الاكتشاف في نفس الوقت كما حدث في اكتشافات التركيبات الدقيقة لنواة الذرة، وهنا يثبت العلماء هذا، ويقولون إنه اكتشف من هذا العالم وذلك في نفس الوقت حتى لا يُظلم أحد.

طريقة الدكتور أحمد شفيق طريقة أخرى تمامًا؛ فهو يحلم مثلًا بأنه سيكتشف دواء للسرطان، ودون اعتبار لأي جهة علمية يتبعها أو كلية يبدأ يجرب علاجه هذا على الإنسان، وهذا ممنوع تمامًا مثلما حدث في حكاية الروماتويد، ثم، بدل أن يعرض اكتشافاته أو علاجه ذلك على الدوائر العلمية المختصة لتناقشه في النتائج التي حصل عليها وتثبت صحتها من خطئها، يهرع هو إلى الصحفيين والصحفيات ويعلن لهم، هم الجاهلون بالأمر تمامًا وغير المختصين أبدًا بالموضوع، يعلن لهم هذا الاكتشاف، ويسميه M1 مثلًا، لا أحد يعرف، ولماذا لا يكون R1 أو N1 لا تعرف، إنما هو اسم «يخُم» إخواننا الصحفيين ويوهمهم أن في المسألة علمًا وأسماء علمية، ثم يثبت في النهاية أنها حقن «اللبن» تلك التي كانت تُعالَج بها أمراض العيون قبل اكتشاف مركبات السلفا؛ إذ كان أطباء العيون للتغلب على الالتهابات الفيروسية والميكروبية للعيون يعطون للمريض حقنة «لبن» معقم، هذه الحقنة تسبب ارتفاعًا شديدًا في درجة الحرارة يصل إلى ٤٠٫٥ أو ٤٠ أو ٤١ وهي درجة حرارة كفيلة في حد ذاتها بقتل الميكروب أو أحيانًا بقتل المريض وفي أحيان أخرى يقتلهما معًا.

وحين يوقف الدكتور هاشم فؤاد ذلك العميد العظيم، أعظم عميد في تاريخ كلية طب قصر العيني — اعتمادًا على تقارير قسم الجراحة ومجلس الكلية — ذلك «الأستاذ» الذي زاغ عن الطريقة العلمية في الإعلان عن علاج غير مرخص وغير معتمد؛ حين يوقفه عن العمل كأستاذ، وهذا كان أبسط إجراء ممكن اتخاذه، أو يحيله إلى مجلس تأديب في جامعة القاهرة، حين يحدث هذا يبدأ الدكتور أحمد شفيق يتباكى. لمن؟ للصحفيين والصحفيات، وهنا لا بد أن أتوقف هنيهة أمام زميلاتنا وزملائنا الصحفيين، وأمام أيضًا بعض أطبائنا وهم لحسن الحظ قليلون، وبعض أساتذة الطب عندنا، إن استعمال الصحافة أو التليفزيون وسيلة للدعاية الشخصية عن الطبيب بالذات عار على مهنة الطب بأسرها، وأيضًا على التليفزيون والصحافة؛ فالطب مهنة شديدة الخطورة وبالتالي لا بد أن تكون شديدة الاحترام والمهابة، والأطباء في مختلف أنحاء الدنيا — ما عدا بلادنا العربية التي نقلتها عن مصر للأسف — لا يعلقون لافتات بعرض الشارع، وإنما هي لافتة نحاسية صغيرة باسم الطبيب في حجم «كارت» الزيارة واسمه في دليل التليفون، ولكن نقرأ أن أطباءنا دأبوا على أن يكون لكل منهم رجله أو سيدته في هذه المجلة أو تلك، في هذه القناة أو تلك يوالي نشر أخباره، بنقود مرة أو بدون نقود، بتوصية على الابن أو البنت مرة الطالبة في كلية الطب أو جبر المحروس أو المحروسة، هذه العلاقة المشينة بين بعض الأطباء وبين بعض الإعلاميات والإعلاميين لا بد أن تتوقف، واحذر يا عزيزي القارئ من كثير مما تقرؤه دعاية سافرة لهذا الطبيب أو ذاك فذلك إعلان مخجل يحط من قدر الطب والصحافة والتليفزيون معًا.

ولكنها الغوغائية التي سادت حياتنا حتى لم يعد فيها مجال لأي قيم سواء أكانت أكاديمية أو علمية.

وانظر إلى ما حدث أخيرًا في حكاية «الإيدز».

لقد أحسست بمدى الكارثة حين قرأت لكاتبنا الكبير نجيب محفوظ، فتصوروا، الأمر وصل إلى أن نجيب محفوظ قد صدَّق وعن تمنياته في عام ٨٨ فإذا به يقول: أن ينجح الدواء الذي اكتشفه الدكتور أحمد شفيق في القضاء على مرض الإيدز.

ذلك أنني عدت بعد قضاء ثلاثة أسابيع في باريس ولندن حيث الاهتمام بالإيدز يصل إلى درجة الجنون، وكنت أتابع قراءة الصحف هناك يومًا بعد يوم ونشرات الأخبار كل ساعة ولم أسمع في نشرة منها أو حتى إشاعة أن علاجًا للإيدز قد جُرِّب في زائير (الكونغو) بواسطة طبيب مصري وثبت نجاحه في الشفاء التام بنسبة ٩٠ في المائة للمرضى به، لو كان شيء كهذا قد حدث لزلزلت الأرض زلزالها في معهد باستير وباريس ولندن وأمريكا والدنيا كلها؛ فأمريكا ترصد مئات الملايين من الدولارات للأبحاث الخاصة بالإيدز وكذلك كل دولة أوروبية، وكل معهد يعمل في مجال الميكروبيولوجي؛ بمعنى أن هناك تحفزًا يصل إلى مرحلة السعار لدى العالم كله لالتقاط أي معلومة جديدة عن مرض الإيدز، فما بالك باكتشاف دواء أقول بملء الصوت مرة أخرى دواء «لعلاج» الإيدز؟!

ولكني حين جئت القاهرة وجدت أن صحف القاهرة وحدها هي التي اكتشفت دواء لعلاج مرض الإيدز ومكتشفه هو الأستاذ الدكتور جراح الشرج العالمي أحمد شفيق.

أفتح أي جريدة أو مجلة، أحاديث، وصور، وزنكوغرافات لصحف زائيرية وإن كانت بالفرنسية (وهي اللغة السائدة هناك) عن هذا «الاكتشاف».

لكأني كنت في كوكب آخر، ولم أكن في قلب العالم الغربي العلمي.

وأقرأ حديثًا مضحكًا للدكتور أحمد شفيق في مجلة صباح الخير، يقول فيه إنه ظل يجرب هذا الدواء على الحيوانات، حتى ثبت له نجاحه، وحينذاك سأل هيئة الصحة العالمية عن كيفية تجربته على الآدميين فقالوا له إن زائير موبوءة بالإيدز فاذهب إلى هناك، وإلى هناك ذهب وعرض «اكتشافه.» كيف عرض لست أعرف؟ أخرج لهم من جيبه زجاجة وقال لهم: هذا هو الدواء السحري، ففغروا الأفواه مذهولين، المهم أنهم صدَّقوا الرجل وأقاموا له فريق عمل من طبيب زائيري، قسَّموا المرضى: قسمًا أعطوه الدواء السحري وقسمًا لم يعطوه، فمات كل من لم يتناول الدواء، أما القسم الآخر فقد مات منه اثنان فقط، تسعين في المائة منه شفي تمامًا.

دعونا نتوقف أمام هذا الهول من المعلومات، موقفًا علميًّا.

يقول الدكتور إنه جرب الدواء على الحيوانات، متى هذا؟ إن هذه الحيوانات لا بد من حقنها بفيروس الإيدز، فمن أين له، في مصر، بهذا الفيروس؟ هل استورده مثلًا، ومن أين؟ وكيف؟ هل أخطر وزارة الصحة والجهات المسئولة أنه بسبيله إلى استيراد «ميكروب» غير موجود في مصر وسمحت له بهذا، أم عهد إلى تاجر شنطة بالذهاب إلى أمريكا ومراقبة مرضى الإيدز هناك إلى أن يموت أحدهم فيشفط جزءًا من دمه ويخفيه في قاع حقيبة الهيرويين ويأتي به إلى مصر المحروسة ليقوم الدكتور العالمي بحقنه في الفئران، فتمرض، فيجرب عليها دواءه السحري، فتشفى؟

أين ومتى وكيف قام الدكتور المذكور بعمل تجاربه؟

وأين كان يحتفظ بالحيوانات، وماذا فعل بها وأين هي الآن، وهل تأكد أن الفيروس لم يتسلل إلى حيوانات أخرى؛ قطط الجيران وكلابهم وفئرانهم.

إني أطلب التحقيق مع الدكتور أحمد شفيق في هذه النقطة على الأقل بتهمة تهريب ميكروبات مرض خبيث إلى الشعب المصري دون أن يدري.

أم أن هذه المعلومات مغلوطة تمامًا، وأنه لم يقم بأي تجارب ولا استورد أي فيروس أو ميكروب وإنما ألهمته العناية هكذا أن يخترع دواء اسمه MM1 ورأى ببصيرته أنه سيعالج بالتأكيد مرض الإيدز، فذهب جريًا إلى زائير حاملًا لهم هذا العلاج السحري الذي لم يُجرِّبه هو على أي إنسان أو حيوان من قبل وإنما هو متأكد من النتيجة سلفًا، أم أن اﻟ MM1 ما هو إلا حُقَن اللبن المشهورة التي جربها الدكتور أحمد شفيق في علاج السرطان فلم تنجح، وإنما استجاب بعض مرضى السرطان الذين كانوا يعانون آلام الروماتويد لعلاجه فأسرع وأعلن أنه اكتشف علاجًا للروماتويد، ثم واتته فكرة جهنمية هي أن حقنة اللبن باعتبارها (كأي بروتين غريب يُحقَن في الجسم) تستنفر كل قدرة الجسد على إفراز المواد المضادة Anti-Bodies ولا بد أن تكون بعض هذه المواد المضادة قادرة على ضرب فيروس الإيدز، فاستجاب للفكرة الجهنمية فورًا وذهب إلى زائير يقنع رئيس جمهوريتها الذي لا يعرف في العلم، بفكرته، وبحسن نية يطلب منه الرجل أن يجرب، فيجرب، ويكون له في النهاية المنظر الذي يحلم به دائمًا، وهو أن يستحضر كل مراسلي وكالات الأنباء، وكاميرات التليفزيون، وفي الساعة الثانية عشرة تمامًا يعلن إلى الدنيا نبأ الاكتشاف العظيم الذي قرأت عنه ثلاثة أسطر في مجلة فرنسية تقول: زعم فريقان من المصريين والزائيريين أنهم اكتشفوا علاجًا لمرض الإيدز وجربوه، وكانت النتائج كما يدَّعون إيجابية، ولكنها مسألة مشكوك فيها تمامًا.

وحتى معهد باستير لم يفتح فمه بكلمة، ومعاهد بحوث الإيدز في أمريكا لم تفتح فمها بكلمة ولا ذكرت هذا الاكتشاف بحرف، ولو كان الخبر قابلًا لمجرد التصديق لقامت الدنيا له ولم تقعد.

ذلك أن المشكلة في مرض الإيدز مشكلة خطيرة جدًّا، بل تتعلق بأصل نشأة الحياة على ظهر الأرض مثلها مثل السرطان؛ ذلك أن الإيدز لم يستطع أي جسم مضاد بشري أن يقاومه إلى الآن؛ فالجسم البشري يفرز الأجسام المضادة لكل فيروس حسب تركيبة الغشاء الخارجي للفيروس، بمعنى أو بلغة الكمبيوتر، على أساس التركيب الخارجي لجسم الفيروس تبرمج أجسادنا نفسها حتى تفرز أجسامًا مضادة لهذا التركيب بالذات؛ وبهذا يتم القضاء على الميكروب، والمأساة أن فيروس الإيدز أو بالأصح مجموعة فيروسات وقبائل الإيدز قادرة على تغيير التركيب الجزيئي لغشائها الخارجي باستمرار بحيث كلما أفرز الجسد جسمًا مضادًّا للفيروس حسب تركيبه الخارجي، غيَّر هذا الفيروس من تركيبه الخارجي، وهكذا لا يفلح الجسم أبدًا في القضاء على الفيروس الذي يمرض ويعطل ويعيش على جهاز المناعة في الإنسان بحيث إن أي ميكروب أو فيروس آخر يصيب الجسم لا يجد جسدًا مضادًّا يقاومه فيستشري ويفتك بالإنسان ويقتله.

تلك هي المشكلة.

وربما حُقن اللبن باعتبارها تستنفر جهاز إفراز الأجساد المضادة بكثرة تنجح في صد بعض هجمات فيروس الإيدز الأولى، ولكن، كما قلنا، أو بالأصح كما تأكَّد علماء الميكروبيولوجي الآن، سرعان ما يغيِّر الفيروس من تركيبه الخارجي ويهاجم جهاز المناعة مرة أخرى وبجنس آخر من الفصيلة نفسها.

المشكلة معقدة جدًّا، ولن تحل إلا بحل ذلك الطلسم، كيف تبرمج الجزئيات الحية من ميكروب الإيدز نفسها وتعيد برمجة نفسها، وهذا لا يمكن أن يُكتشَف إلا باكتشاف كيف تتحول البروتينات العادية إلى بروتينات حية، وتلك هي معضلة العلم، أو كما يقولون كشف سر الحياة. المسألة ليست سهلة أبدًا.

والمضحك أن الدكتور أحمد شفيق يقول في تبريره لإسراعه في إعلان اكتشافه قبل أن تعتمده الجهات العلمية أنه يخاف من «المافيا» العلمية أن تسرق الدواء منه!

إن العلم يا دكتور ليس سرًّا، والعلم لا يُسرق، العلم يُعلن ويُنشر في مجلات علمية على أوسع نطاق، ومجرد نشره في الدورية العلمية يعد تسجيلًا له باسم صاحبه ولا يمكن أن يُسرق ولكن، لكي ينشر الاكتشاف أو البحث أو الاختراع في دورية علمية لا بد أولًا أن تقره عدة جهات علمية متخصصة في نفس الفرع ومعتمدة دوليًّا.

أما أسهل شيء فهو أن أجمع شلة من الصحفيين أو الإذاعيين أو الإعلاميين لا يدرون شيئًا عما أتحدث عنه وليس من اختصاصهم أن يدروا شيئًا وأقول لهم: لقد اكتشفت دواء كذا لعلاج مرض كذا.

أية جرأة؟ بل أية جريمة؟

فإذا قيل: لماذا لا تواجه الجهات العالمية والطبية باكتشافك؟ يقول: إنهم «يغيرون» منه ولا يريدون له أي نجاح ودفعوه بغيرتهم وغيظهم منه إلى الذهاب لآخر الدنيا لإعلان اكتشافه.

يا سلام!

إلى هذه الدرجة يريد الدكتور أحمد شفيق أن يستغفل الناس في مصر، إن من المؤلم تمامًا أن يحدث هذا كله دون أن تتحرك وزارة الصحة بل وزارة الداخلية للتحقيق مع الدكتور أحمد شفيق ولو على الأقل بتهمة دخوله الأراضي المصرية بعد أن عاش في منطقة موبوءة بالإيدز وفي أحد مستشفياته، وأن يُجرى له فحص لمعرفة هل انتقلت إليه العدوى لا قدر الله أم لا.

إنها الفوضى الكاملة العلمية والأخلاقية والأكاديمية والصحية وحتى الأمنية الصحية.

إني أتحدى الدكتور أحمد شفيق أن يعلن لأساتذة الكيمياء الحيوية والميكروبيولوجي في مصر مجتمعين أو حتى متفرقين اكتشافه هذا.

أتحداه.

في نفس الوقت أكاد أبكي غيظًا من فرط ما وصلت إليه غفلتنا وخيبتنا.

مصر العلمية كلها غير قادرة على إيقاف رجل مثل هذا عند حده.

أين نقابة الأطباء؟

أين كلية الطب؟

أين جامعة القاهرة؟

أين علماؤنا؟

أين عقلنا؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤