الفصل الثالث

حُرْفَة الأدب

منزل روكسان منزلٌ جميلٌ أنيق، تمتد أمام بابه شرفةٌ عالية بديعة، قائمة على ساريتين ضخمتين، تتسلق فوقهما أغصان شجرة ياسمين مغروسة أمام الباب حتى تصل إلى الشرفة، فتنتشر في أنحائها، ويقابل هذا المنزل منزلٌ آخر يشبهه في شكله ورونقه، ولا يختلف عنه بشيءٍ سوى أن حلقة بابه ملفَّفة بقطعة من نسيج كأنها أصبعٌ مجروحةٌ مضمدة، وبين المنزلين ميدانٌ واسع يتوسطه مقعد مستطيلٌ من الرخام، جلست عليه وصيفة روكسان وراجنو الشوَّاء يتحدثان، فمسح راجنو دمعةً كانت تترقرق في عينيه، وقال لها: ولقد حزنت كثيرًا لفرارها مع ذلك الضابط الخبيث، وبكيت ما شاء الله أن أفعل؛ لأنها كانت سلوة حياتي، ومعينتي على أمري، وما هي إلا أيامٌ قلائل حتى تكشف الغطاء عن ذلك الإفلاس العظيم الذي كان كامنًا في حسابي، والذي كنت أستره بجدِّي وجدِّها، وتراكمت عليَّ الديون، وعجزت عن الوفاء، فلم أرَ بدًّا من الانتحار، فخلوتُ في حانوتي ليلة أمس، وألقيت آخيَّةً في عنقي، وما هو إلا أن صعدت على الكرسي، ووضعت قدمي على حافته لأدفعه من تحتي، حتى دخل سيرانو، فهاله الأمر وتعاظمه، وفهم للنظرة الأولى كل شيءٍ، فابتدر الحبل فقطعه بسيفه وقال: ماذا أصابك أيها المسكين؟ فنفضت له جملة حالي وبثثتُه همي، فأشفق عليَّ، وجذبني من يدي حتى جاء بي إلى هنا، وقص على روكسان قصتي، وقال لها: إن راجنو صديقنا، وصاحب اليد البيضاء علينا وعلى الأدباء جميعًا شعرائهم وكتَّابهم، وهو وإن لم يكن من نوابغ الشعراء المجيدين، فهو أديبٌ متفنن، محسنٌ إلى رجال الشعر والأدب، ضنينٌ بهم وبكرامتهم، فلم أحفل كثيرًا بتلك الغمزة التي غمزنيها في حديثه، وما زال بها حتى استثار عطفها وشفقتها، فبكت رحمةً بي واستدنتني إليها، وواستني ببعض الكلمات الطيبة، ثم عهدت إليَّ بهذا الشأن الذي أقوم به في منزلها كما تعلمين. فاستعبرت الوصيفة باكيةً وقالت: لقد كان يُخيَّل إليَّ يا راجنو أنك سعيد الطالع في أعمالك، وأنك تربح كثيرًا، فما الذي دهاك وجرَّ عليك هذا البلاء؟ قال: حُرْفَة الأدب يا سيدتي، فقد كنتُ أحب رجال الشعر، وكانت ليز تحب رجال السَّيف، فلم يزل «مارس» يأكل ما يشاء، ثم يلقي ما تبقى منه إلى «أبولُّون» حتى نزل بي ما ترين.

فرثت الوصيفة لحاله، وظلت تلاطفه وتواسيه حتى هدأ وسكن، ثم نهضت من مكانها واتجهت جهة الشرفة وظلت تنادي: سيدتي روكسان، أسرعي فقد دنا ميعاد المحاضرة، فأجابتها سيدتها من داخل البيت: هأنذي آتية فانتظري قليلًا. فقال لها راجنو: أية محاضرة تريدين؟ قالت: سيحضر الساعة إلى منزل «كلومير» — وأشارت إلى ذلك المنزل المقابل لمنزل سيدتها — رجلٌ من العلماء الباحثين، اسمه «ألكاندر»؛ ليلقي محاضرة عن الحب، وقد دُعيت سيدتي لاستماعها، وسأذهب معها بالطبع، فضحك راجنو وقال: ما سمعت قبل اليوم أن الحب فنٌّ من الفنون التي تلقى فيها المحاضرات. قالت وهي تبتسم: ليس في الفنون ما هو أحق بالمحاضرات من الحب!

وهنا سمعا صوت قيثارةٍ آتية من بعيد فالتفتا وراءهما، فإذا سيرانو مقبل ووراءه غلامان صغيران يحمل كل منهما في يده قيثارة يوقع عليها، وهو ينهرهما ويتغيظ عليهما كأنهما طالبان بين يدي مُؤدِّبهما، ويقول لهما: قد أمرتكما أيها البليدان أن تثلثا النغمات، وأنتما تأبيان إلا تثنيتها. فقال له راجنو: بخٍ بخٍ يا سيرانو! متى كان عهدك بمعرفة المثالث والمثاني! قال: عهدي بها منذ ذلك اليوم الذي جَثوت فيه بين يدي جاصندي الموسيقي العظيم، وما أنا إلا تلميذه وخريج مدرسته، ثم التفت إلى أحد الغلامين وانتزع منه قيثارته، واستقبل شرفة روكسان، وأخذ يغني هذه القطعة: «قد جئت أُسَلم على ياسمينك، وأقدم تحياتي لورودك، وألثم بخضوعٍ وخشوعٍ أوراق زنابقك البيضاء …» فسمعت روكسان صوته، فخرجت إلى الشرفة فرأته. فقالت: هأنذي قادمة يا سيرانو، وكانت قد فرغت من زينتها ولباسها، فنزلت فحيته وقالت له: ما هذا المنظر الغريب! ومَن هذان الغلامان الصغيران؟ قال: هما ولدان موسيقيان قد ربحتهما اليوم في رهان، فضحكت وقالت: أي رهان؟ قال: قد جادلت اليوم «داسوسي» في مسألة نحوية موضوعها: «الفرق بين لا، وبلى»، واشتد بيننا اللجاج ساعة، فاستحمق وأشار إلى هذين الغلامين — وكانا واقفين بين يديه — وقال لي: سأراجع المسألة الآن في مظانِّها من الكتب، وليكونن هذان الغلامان طوع أمرك ليلةً كاملة تذهب بهما حيث تشاء، ويغنِّيانك ما تريد، إن كان الفوز لك فيه، ثم قام إلى خزانة كتبه فراجع المسألة، فكان الحقُّ في جانبي، فأخذت الغلامين وسرت بهما يغنيانني ويأتمران بأمري في كل ما أقترحه عليهما من الضروب والألحان حتى وصلنا إلى هنا. قالت: وهل أنت راضٍ عنهما؟ قال: إنهما يجيدان بعض الإجادة، وقد طربت لنغماتهما ساعةً ثم سئمتها، ولا أدري ماذا أصنع بهما الآن، وأحسب أني لا أستطيع احتمالهما حتى مطلع الفجر. وصمت هُنيهةً ثم ابتسم، والتفت إليهما وقال لهما: أتعرفان منزل مونفلوري الممثل البطين؟ قالا: نعم. قال: اذهبا إليه وقفا تحت نافذة مخدعه الذي ينام فيه، واضربا لحنًا طويلًا مزعجًا مضطرب النغمات يذهب براحته وسكونه، ويملأ صدره غيظًا وحنقًا، ثم عودا إليَّ بعد ذلك.

فانحنى الغلامان بين يديه وانصرفا، فالتفت سيرانو إلى روكسان وقال لها: قد جئت أسأل سيدتي كما أسألها كل ليلة: ما رأيها في حبيبها كرستيان؟ ألا تزال تراه إنسانًا كاملًا خاليًا من العيوب والهنات حتى الآن؟ قالت: نعم، ما في ذلك ريب، فلقد جمع الله له بين فضيلتي الجمال الباهر والذكاء النادر، وقلما اجتمعا لإنسانٍ سواه. قال: أترين أنه ذكيٌّ إلى هذا الحد؟ قالت: نعم، بل أذكى من كل من عرفت في حياتي، حتى أنت يا سيرانو! فاغتبط سيرانو في نفسه اغتباطًا عظيمًا، ولكنه تظاهر بالتبرم والاستياء، وهز رأسه كالمرتاب وقال: ربما! قالت: ولقد بلغ من الذكاء والفطنة تلك المنزلة التي يتكلم فيها المرء بأشياء غريبةٍ مدهشة يظنها السامع لأول وهلة أنها لا شيء، والحقيقة أنها كل شيء، ولقد يضعف نور ذكائه أحيانًا ويشرد ذهنه حتى يخيل إليَّ أنه عييٌّ أو غبيٌّ، ولكنه متى عاد إلى نفسه صاغ بلباقةٍ ومهارةٍ تلك الجواهر البديعة، التي لم أرَ مثلها في حياتي! قال: وهل يحسن الكلام عن القلب؟ قالت: إنه لا يقنع بالكلام عنه حتى يحلله تحليلًا دقيقًا. قال: وما رأيك في كتابته؟ قالت: إنه يكتب أحسن مما يتكلَّم، وكأن أسلوبه الماء النمير المترقرق على بياض الحصباء، وما أجمل كلمته التي يقول فيها: «خُذي من قلبي ما شئت، فسيبقى لي منه ما يكفيني»، ألا ترى أنه معنى بديع؟ قال: لا بأس به. قالت: واسمع هذه الجملة أيضًا وقل لي ما رأيك فيها: «إن كان لا بد لك من أن تحتفظي بقلبي لديك فأعيريني قلبك بدلًا منه، فإني في حاجةٍ إليه لاحتمال ما ألاقيه في سبيلك من الآلام والأوجاع!» فقال وهو يكاد يطير في نفسه فرحًا: إنه يناقض نفسه بنفسه، وأحيانًا يغالي، وأحيانًا يكون غير وفيٍّ! ولا أدري ماذا يريد بقلبه، فتململت روكسان وقالت: إنك تُضايقني كثيرًا يا سيرانو، وما أحسبك إلا غيورًا، فانتفض سيرانو وخُيِّل إليه أنها قد ألمت بسريرة نفسه: فظل ناظرًا إليها ذاهلًا لا يدري ماذا يقول، حتى قالت له: وكذلك أنتم — معشر الشعراء — لا يطيق أحدكم أن يسمع كلمة ثناءٍ على رفيقه! فهدأ روعه وعلم أين ذهبت في حديثها، ثم قالت له: واسمع هذه الجملة أيضًا فهي غاية الغايات في قوَّتها ومتانتها: «لو كان في استطاعتي أن أرسم قبلاتي على صفحات قرطاسي، لقرأت كتابي بشفتيك بدلًا من عينيك!» ما رأيك في هذه أيضًا؟ هل تستطيع أن تجد فيها مأخذًا؟ قال: لا أنكر أنها جميلة بديعة، لولا ركة في بعض أجزائها، فاربدَّ وجهها غيظًا وقالت له: إنك عنيدٌ يا سيرانو، فاسمع هذه القطعة أيضًا، فهي خيرٌ من جميع ما مضى، فقاطعها وقال لها: وهل بلغ الاهتمام بأمره أن تستظهري كلماته وتعيها في صدرك؟ قالت: نعم. قال: ما يطمع كاتبٌ من الكتَّاب في منزلةٍ أعظم من هذه يا سيدتي. قالت: إنه نابغةٌ عظيم ما في ذلك ريب، فاحمرَّ وجهه خجلًا كأنما خيل إليه أنها قد ألمت بسريرة قلبه، وأنها إنما تعنيه بكلامها، وقال: إنك تغالين يا روكسان.

وإنهما لكذلك إذا أقبلت الوصيفة مسرعةً وقالت: قد جاء الكونت دي جيش، فاضطربت روكسان وقالت لسيرانو: لا أحب أن يراك هذا الرجل عندي، فأنت صديق كرستيان، وأخاف إن رآك هنا أن يدرك سر غرامي فيفجعني فيه، فادخل المنزل ولا تظهر له حتى ينصرف لشأنه. قال: سأفعل كل ما يرضيك يا روكسان، ودخل المنزل ودخلت الوصيفة وبقية الخدم وراءه.

دهاء المرأة

أقبل الكونت دي جيش، فرأى روكسان واقفةً وحدها في مكانها، فانحنى بين يديها وحياها وقال لها: قد جئتك اليوم يا سيدتي مودعًا، وربما كان الوداع الأخير! قالت: أمسافرٌ أنت؟ قال: نعم، قد صدر الأمر إلى الجيش بالسفر إلى «أراس» بعد بضع ساعات لنخلصها من يد العدو، ويظهر لي أن نبأ سفري لم يؤثر عليك أقل تأثيرٍ. قالت: لا تظن ذلك يا سيدي الكونت. قال: أما أنا فإني حزينٌ لفراقك حزنًا شديدًا، ولا أدري ما الله صانعٌ بي بعد اليوم؟ هل كتب لي في لوح مقاديره أن أراك مرة أخرى؟ أم هو الفراق الدائم الذي لا لقاء من بعده؟ وأطرق برأسه حزينًا مكتئبًا، ثم قال لها: وهل علمت أن الملك قد عهد إليَّ برئاسة أركان حرب الجيش؟ قالت: ما كنت أعلم ذلك من قبل، وإنه لنجاحٌ باهرٌ يا سيدي الكونت، فلِلَّهِ درُّك! قال: أي إنني أصبحت صاحب السلطان المطلق على الجيش بأجمعه بعد القائد العام، وفي استطاعتي أن أنتقم لنفسي في ميدان المعركة من جميع أعدائي وخصومي، خصوصًا ذلك الرجل الوقح الجريء ابن عمك سيرانو، وأن أحاسبه حسابًا غير يسيرٍ على جرائمه وآثامه.

فذعرت روكسان وخفق قلبها خفقًا شديدًا، لا خوفًا على سيرانو، بل على كرستيان؛ لأنها فهمت من كلامه أن فرقة شبَّان الحرس ستسافر مع بقية فرق الجيش. فقالت له: أتذهب فرقة شبان الحرس إلى الحرب؟ قال: نعم، كما تسافر جميع الفرق، فاصفر وجهها وتخاذلت أعضاؤها، ومدت يدها إلى المقعد فاعتمدت عليه، وهي تقول بصوتٍ خافتٍ متهافت: آه يا كرستيان! فعجب الكونت لأمرها وسألها ما بالها؟ قالت: إن هذا السفر يحزنني جدًّا، خصوصًا عندما أتصور أن الشخص الذي يهمني أمره أكثر من كل إنسان في العالم يخوض تلك المعامع المهلكة، التي يرفرف عليها طائر الموت، ولا أعلم هل أراه بعد اليوم أم هذا آخر العهد به؟ فافترَّ ثغره، وتهلل وجهه بشرًا وحُبُورًا، وخُيل إليه أنها إنما تعنيه بكلامها، وأنه هو الشخص الذي يشغلها ويعنيها، والذي تخشى عليه أن تُلِمَّ به تلك الكارثة العظمى. فقال لها: ما كنت أعلم يا روكسان قبل اليوم أنك تُضمرين لي في نفسك هذا الحب كله.

فصمتت لحظة، ثم التفتت إليه وقالت: وهل أنت مصمم على الانتقام من سيرانو؟ قال: نعم، إلا إذا كنت تكرهين ذلك. قالت: لا، بل لا أريد غير ذلك! قال: هذا ما أعتقد، ثم قال: ألا يزال هذا الرجل يختلف إلى منزلك حتى اليوم؟ قالت: لا، إنه لا يزورني إلا نادرًا جدًّا، وليته لا يفعل، ولولا صلة القربى التي بيني وبينه ما أذنته بزيارتي! قال: قد حدثوني عنه أنه منصرف في هذه الأيام إلى مرافقة جنديٍّ نبيلٍ من الحرس الطارئين، ويقولون: إنه لا يكاد يفارقه ليله ولا نهاره. قالت: ومن هو هذا الجندي النبيل؟ قال: قد نسيت اسمه الآن، وهو كما وصفوه لي: فتى طويل القامة، مشرق الوجه، أصفر الشعر، تلوح على محياه مخايل العز والنعمة، وتلمع في صفحة وجهه بارقة خفيفة من الجمال؛ ولكنه عييٌّ بليد، ولا أفهم حتى الآن ما هي الصلة التي بينهما؟

فصمتت روكسان صمتًا طويلًا ذهبت نفسها فيه كل مذهب، ثم التفتت إليه بغتةً، وقالت له وهي تبتسم ابتسامة غريبةً لا يفهم معناها إلا من فهم سريرة المرأة، واضطلع بغرائزها وسجاياها، وقالت له: أتظن يا سيدي الكونت أنك تكون قد انتقمت لنفسك منه إذا عرَّضته لنار الحرب التي يحبها ويعبدها، ولا يقترح شيئًا سوى أن يصطلي بها ويخوض غمارها؟ هذه هي المرة الأولى التي رأيتك فيها تنظر في أمرٍ من الأمور نظر الغرارة والسَّذاجة! قال: آه! لقد فاتني أن أتنبه إلى ذلك، فما العمل؟ قالت: عاقبه بحرمانه من أمنيته التي يتمناها، فذلك أقتل له من القتل، وأنكى له من الموت، فليسافر الجيش بأجمعه وليتخلف هو وحده، بل لتتخلف معه فرقته جميعًا، فإنها كما علمت مؤلفةٌ من أشرارٍ متمردين يذهبون مذهبه في أخلاقه وطباعه، ويساعدونه في كل جرائمه وآثامه، ولتكن حجَّتك في ذلك إن شئت: أن باريس في حاجة إلى فرقة من الجيش تتخلف فيها للدفاع عنها وقت الحاجة، وأنك قد اخترت لها هذه الفرقة للدفاع عنها، وهكذا يموت الرجل همًّا وكمدًا، وتتمزق أحشاؤه غيظًا وحنقًا، ويغرب نجم شهرته غروبًا لا طلوع له من بعده، فيصبح بطل الطرق والشوارع، لا بطل الحروب والمعامع!

فابتهج الكونت ولمعت أسارير وجهه، ووضع يده على كتفها وقال لها: لله درك يا سيدتي! لقد صدق من قال: «لا يحسن الانتقام من الرجل مثل المرأة!»

ثم حنا عليها وقال لها: إذن أنت تحبينني يا روكسان! فنظرت إليه نظرةً باسمةً متلألئة، وأطرقت برأسها ولم تقل شيئًا، ففسر ابتسامتها التفسير الذي أراده، وابتسامة المرأة لفظٌ مشتركٌ يحتمل جميع المعاني وضروبها، من الحب القاتل إلى البغض العميق، ثم قال لها: ذلك ما كنت أُقدِّره يا روكسان مذ عرفتك حتى اليوم، فلم يخطئ ظني، ثم أخرج من جيبه كتبًا مغلفة، معنونة بعناوين فرق الجيش، فأمرَّ نظره عليها إمرارًا، حتى عثر بكتاب فرقة شبان الحرس، ففصله عن بقية الكتب ووضعه في صدره وهو يقول: ما أشد دهاءك يا روكسان، وما أوسع حيلتك! نعم إن مزاج الرجل حربي متوقد، فلا يقتله ولا يفت في عضده، ولا يلصق أنفه بالرُّغام غير حرمانه من ميدان الحرب، وتركه في شوارع باريس يتسكع فيها تسكع العاطلين المتبلدين، ثم نظر إليها باسمًا وقال لها: أهذا شأنك دائمًا يا روكسان: أن تكيدي للناس أمثال هذه المكايد؟ فابتسمت، وقالت: لا، بل لا أفعل ذلك إلا عند الضرورة.

فأطرق برأسه وصمت طويلًا، وقد أخذت شفتاه تختلجان وترتجفان، كأنما تحدثه نفسه بشيء يحاول أن يقوله لها فلا يستطيعه، ثم تشجع وقال: بقيت لي كلمة أحب أن أقولها لك يا سيدتي، فهل تسمحين لي بها؟ قالت: قل ما تشاء فأنا مصغيةٌ إليك. قال: إنني أحببتك يا روكسان من عهدٍ بعيد كما تعلمين، وكان كل أملي في حياتي أن أعيش بجانبك عيش القانع بك عن جميع متع الحياة ولذائذها، فحالت بيني وبينك الحوائل التي تعلمينها، وقد كنت أظن أنني سلوتك وغنيت عنك بغيرك، ونفضت يدي أبد الدهر منك، ثم ما لبثت أن علمت أنني واهمٌ فيما ظننت، وأن ذلك الداء القديم لا يزال كامنًا بين أنحاء ضلوعي، فسمج في نظري وجه الحياة، ومرَّ في فمي مذاقها، وأصبحت حائرًا قلقًا لا يهدأ لي روعٌ ولا يستقر بي مضجعٌ، ولا أدري حين أراك وأرى ابتساماتك اللامعة المضيئة، ونظراتك العذبة الجميلة، هل تضمرين لي في قلبك من الحب مثل ما أضمر؟ أو أنها المصانعة والمجاملة ومجازاة الود بالود والرجاء بالتأميل؟ وما زال هذا الشك يساورني ليلي ونهاري حتى رأيت الآن بعيني تلك الرجفة الشديدة التي سرت في أعضائك عندما أنبأتك نبأ سفَري، فعلمت أنك تحبينني، وما كشف أسرار الحب، ولا هتك الستر عن مخابئه ومكامنه مثل مواقف الوداع! وهأنذا الآن على وشك السفر ولا أعلم هل هو فراق وشيك أم هو السفر الدائم الذي لا رجعة من بعده؟ فأسألك أن تزوديني بقليل من الزَّاد أستعين به على مشقة السفر ووحشة الطريق، حتى إذا دنت الساعة الأخيرة تمثلت صورته في ذهني فهانت عليَّ آلام الموت، فإن سمحت به فائْذني لي أن أتخلف الليلة عن السفر مع الجيش، على ألا تطلع شمس الغد حتى أكون قد امتطيت جوادي، ولحقت به في المكان الذي وصل إليه.

فارتجفت روكسان وقالت: ولكن ماذا يقول الناس إذا رأوا رئيس أركان حرب الجيش قد تخلَّف عن جيشه، وبقي في باريس لغرضٍ من أغراضه الغرامية؟

قال: ذلك ما لم يفتني النظر فيه والحيطة له، يوجد بالقرب من هذا المكان دير في شارع أورليان، أسسه رئيس الكابوشان الأب «أتاناس» وله قانون غريب، يقضي بألا يطأ أرضه أحدٌ من الناس سوى رُهبانه وقساوسته، وأنا وإن لم أكن راهبًا ولا قسِّيسًا ولكنني صهر الكردينال ريشلييه رئيس الكهنوت الأعظم، ولا شك أن الذين يخافونه ويخشون صولته لا يستطيعون أن يرفضوا نزولي بديرهم بضع ساعاتٍ، بل ليس في استطاعتهم إن أردت أن يمتنعوا عن أن يخبئوني تحت قلانسهم، أو في ثنايا طيالسهم أو فروج أكمامهم؛ لأنها واسعةٌ جدًّا لا تضيق بمثلي؛ وهأنذا ذاهبٌ الآن إلى ذلك الدير المقدس لأكمن فيه بضع ساعات، حتى إذا انتصف الليل لبست قناعي، وجئتك متنكرًا في جنح الظلام، فلا يشعر أحد بمقدمي ولا منصرفي.

فاستطير عقل روكسان وجن جنونها، ودهمها من الأمر ما لا تعرف وجه الحيلة فيه، ولا طريق المخرج منه، ثم ما لبثت أن رجعت إلى نفسها، وملكت زمام عواطفها، وقالت له بهدوء وسكون: إن مجدك وعظمتك يا مولاي يأبيان عليك ذلك الإباء كله، ولئن استطعت أن تكاتم الناس أمرك، فإنك لا تستطيع أن تكاتمه نفسك أو تخادع فيه ضميرك.

إن فرنسا تطالب بطرد العدو عن أرضها واستنقاذها من يده القاهرة المسيطرة، فليكن هذا هو كل ما تفكر فيه، ولا يشغلك عنه شاغلٌ من شهوات نفسك ولذائذها، ولا تسمح لأحدٍ من الناس أن يتحدث عنك، لا بل لا تسمح لنفسك أن تحاسبك على ليلةٍ قضيتها لاهيًا ناعمًا في بيت امرأة تحبها، و«أراس» باكية حزينة تضطرب بين يدي قاهرها اضطراب الحمامة الوديعة في مخالب الصقر الجارح، وتصرخ صرخاتٍ مؤلمات أنت أول يا مولاي من يسمعها ويضطرب شعوره لها.

سر يا سيدي على رأس جيشك، وكن نجمه الذي يهتدي به في ظلماته، وملجأه الذي يأوي إليه في شدته، واعلم أنك لن تستطيع أن تنزل منزلة الحب والكرامة في نفوس الذين يحبونك إلا إذا كانت فرنسا أحب إليك منهم، بل من نفسك التي بين جنبيك.

فاستخزى لكلماتها وتضعضع، وقال لها: إذن أنت تحبينني يا روكسان؟ قالت: كيف لا أحب من صميم فؤادي من خفق قلبي خفقة الحزن والألم جزعًا لفراقه، وإشفاقًا على حياته؟ فصاح: وا طرباه! وا فرحتاه! سأنزل على حكمك في كل ما تريدين، وسأسافر الساعة طوعًا لأمرك؛ فاذكريني دائمًا ولا تنسيني. قالت: لا أستطيع أن أنساك أبدًا! فتناول يدها وقبلها، وانحنى بين يديها وانصرف.

وكانت روجينا وصيفة روكسان مختبئة وراء سارية الشرفة تسمع حديثهما وتفهم مغزاه، فما أبعد الكونت إلا قليلًا حتى برزت من مخبئها، وهي تغرب في الضحك وتقول: ما أشد حزني لحزنك يا سيدتي! فضحكت روكسان وقالت لها: اكتمي كل شيءٍ عن سيرانو، فإنه لا يغفر لي أبد الدهر حرماني إياه من الحرب، فوا رحمتاه له! ثم هتفت به، فخرج من المنزل وهو يقول: ما أكثر الذين يحبونك يا روكسان! قالت: نعم، ولكنني لا أحب إلا واحدًا منهم! ثم قالت له: قد دعيت الليلة إلى هذا المنزل — وأشارت إلى منزل كلومير المقابل لمنزلها — لسماع المحاضرة التي يلقيها «ألكاندر» عن الحب، فأذن لي بالذهاب وابقَ أنت هنا، فإذا جاء كرستيان فقل له ينتظرني حتى أعود. قال: سأفعل إن شاء الله، ولكنَّك لم تخبريني كعادتك في أي موضعٍ من مواضيع الحب تحبين أن يتحدث كرستيان الليلة إليك؟ قالت: لقد كان حديثنا بالأمس عن «موقف الوداع»، فليكن حديثنا الليلة عن «النظرة الأولى»، لا بل عن «الغيرة»، لا بل عن «الأمل الضائع»، لا بل اتركه على سجيَّته، لا تُحَدد له موضوعًا خاصًّا حتى لا يستعد، فإنني أريدُ أن أختبر بديهته كما اختبرت رويته من قبل، فقل له يحدثني عن «الحب» وكفى. ثم حيته وانصرفت، وتبعتها وصيفتها.

وكان كرستيان مقبلًا في تلك اللحظة، فسمع آخر كلماتها. فقال: ما الرأي يا سيرانو؟ قال: عد بنا إلى المنزل لمذاكرة الدرس الجديد، وما هي إلا ساعةٌ أو بعض ساعةٍ حتى نكون قد فرغنا وعدنا قبل عودتها، فصمت كرستيان هُنَيْهَة، ثم رفع رأسه وقال: لا، لا أريد الليلة دروسًا ولا مذاكرةً، فإني أذوب شوقًا لرؤيتها! قال: ولكنك لا تعرف كيف تحادثها؟ قال: دعني وشأني فقد شببت عن الطوق وتجاوزت تلك السِّن التي يعجز فيها المرء عن أن ينطق إلا بما يلقنه إياه أبواه وأظآره. فقال: إنك تخاطر بنفسك مخاطرةً عظيمة. قال: فليكن ما أراد الله، فقد استحييت من نفسي لكثرة ما مثلت من هذا الدور الشائن المعيب، دور الآلة الموسيقية التي يوقع عليها ضاربها، فتنبعث منها نغماتها المطربة دون أن تشعر بنفسها وبما ينبعث منها، على أنني قد استفدت من دروسك الماضية ما يسمح لي بمحادثتها ومذاكرتها والإفاضة معها في كل شأن من الشئون التي أريدها، وما أنا بغبي إلى الدرجة التي تتصورها، فسأكلمها بنفسي، وسأشرح لها جميع عواطفي التي تختلج في صدري، وما أحسبها تطالبني بأكثر من ذلك! قال: وهل أنت على ثقةٍ من نفسك؟ قال: كيفما كان الأمر فقد تجاوزت الصلة التي بيني وبينها حد الذرائع والوسائل، إلى الخالص المتين الذي تُغتفر معه الهفوات، وتستحيل فيه السيئات إلى حسناتٍ، ولئن عجزت عن أن أُحدِّثها بلساني فسأحدثها بلسان القبلات واللثمات.

وهنا سمع صوت روكسان، وهي خارجة من منزل «كلومير» في جمع عظيم من النساء. فقال سيرانو لكرستيان: قد فات الأوان فأذن لي بالذهاب، فذعر كرستيان واستطير عقله، وقال: بل ابق معي يا صديقي! قال: لا، فقد أصبحت غنيًّا بنفسك عني! وتركه وانصرف.

ولكنه لم يبعد إلا قليلًا حتى عاد متسللًا من حيث لا يشعر به أحدٌ، واختبأ وراء حائط الحديقة يتسمَّع حديثهما.

الشرفة

قالت روكسان لكرستيان — وقد جلسا معًا على المقعد الرخامي في وسط الساحة: لم أدرك من المحاضرة الغرامية التي أُلقيت في منزل «كلومير» إلا ختامها، فلم أستفد منه شيئًا، فحدثني أنت عن الحب وأطلق لنفسك العنان فيه ما شئت، وها هو ذا الليل قد أظلنا بسكونه وهدوئه، وها هي ذي باريس قد أوت جميعها إلى مضجعها، فتحدث فإنِّي مُصْغيةٌ إليكَ.

فارتجف كرستيان ارتجاف الطالب الضعيف في موقف الامتحان، ولكنه لم يرَ له بدًّا من أن يتكلم، فانثنى إليها وقال لها: أحبُّك يا روكسان! وصمت فقالت له: وأنا أحبُّك أيضًا يا كرستيان، ثم ماذا؟ فلم يفتح الله عليه بكلمة أخرى؛ فعاد إلى نغمته الأولى وقال لها: أحبك يا روكسان حبًّا جمًّا، وسكت. فقالت له: هذا هو النسيج فوشِّه وطرِّزه، فازداد ارتباكه واضطرابه، وقال: آهٍ ما أشد حبي لك يا روكسان! قالت: ما شككت في ذلك قط، ولكني أريد أن تقول لي كيف تحبني؟ قال: أحبك حبًّا ما أحبه أحدٌ من قبلي أحدًا. قالت: صور لي عواطفك وشعورك. قال: ليتك تضمرين لي في قلبك من الحب مثل ما أضمر لك. قالت: إنك تقدم لي من اللبن مخيضه وأنا لا أريد إلا زبدته، قل كيف تحبني؟ قال: أحبك حبًّا يعجز لساني عن التعبير عنه؛ لأنه فوق طاقتي. قالت: ولكنني أريد أن تُعَبر لي عنه وأن تلمس بيدك أوتار قلبي، وتملك عليَّ عواطفي وشعوري. قال: آه لو استطعت أن ألْثُم جيدك الفضيَّ الجميل! فجزعت وانحرفت عنه قليلًا، وقالت: كرستيان، إنك قد جننت! قال: ما أشوقني إلى لثمةٍ من فيك أبرِّد بها غليلي! فنهضت قائمةً وقالت: إنك تضايقني الليلة كثيرًا يا سيدي! وأرادت الذهاب، فأمسك بثوبها وقال: عفوًا يا روكسان فإنَّ ذنبي عظيم، وما زال يضرع إليها بنظراته المنكسرة حتى هدأت وجلست. فقال لها: آه لو تعلمين كم أحبك! قالت: أهذا كل ما عندك؟ وأرادت النهوض مرة أخرى، فأمسك بيدها وقد طار صوابه والتاث عليه أمره وظل يقول لها: لا، لا تغضبي يا روكسان فإنني لا أحبك! فضحكت وقالت له: ذلك خيرٌ لي، فانتبه إلى هفوته وقال: لا تصدقي ما قلت لك فإني أردت أن أقولك لك: إنني لا أحبك فقط، بل أعبدك وأدين بك، فتململت وقالت: لقد ضاق صدري! قال: أعترف لك بأني قد أصبحت بليدًا لا أفهم شيئًا. قالت: ذلك ما يحزنني كثيرًا، فالبلادة عندي والدمامةُ سواءٌ، فاذهب الآن واجمع شتات ذهنك ثم عد إليَّ الليلة الآتية، ونهضت قائمة: فتشبث بها وقال: انتظري قليلًا فإنني سأقول لك شيئًا جميلًا، انتظري يا روكسان فإنني أريد أن أقول لك.

فقاطعته وقالت: تريد أن تقول لي: إنك تحبني وتعبدني، وتموت وجدًا بي؛ فلقد عرفت ذلك ولا أريد أن أسمع منه شيئًا فاذهب لشأنك فقد ضقت بك ذرعًا.

ثم تركته ودخلت المنزل، فجن جنونه وظل واقفًا مكانه يتحرَّق ويتغيظ، ويقول: آهٍ! ذلك ما كنت أخافه، أين أنت يا سيرانو؟ فما أتم كلمته حتى رأى سيرانو مُقبلًا عليه يبتسم ابتسامة المتهكم، ويقول له: أهنئك بالنجاح العظيم الذي أحرزته يا كرستيان! فانتفض وقال: أنت هنا؟ ثم ترامى بين ذراعيه وقال: الرحمة يا صديقي، فإني أكاد أموت غمًّا! قال: وما الحيلة بعد الذي كان؟ لقد انقضى كل شيءٍ فلا سبيل إلى الرجوع! قال: إن لم ترَ لي الساعة رأيًا قتلت نفسي؛ إنني لا أستطيع أن أنصرف من هنا وهي واجدةٌ عليَّ، فارحمني واتخذها عندي يدًا لا أنساها لك مدى الدهر!

فصمت سيرانو وهو يعالج في نفسه ألمًا مُمِضًّا لا تستشف مكانه من أعماق قلبه غير عين واحدة، وهي عين الله تعالى؛ ثم قال له: ها هو ذا الظلام حالِكٌ لا يلمع فيه نجم، وها هي ذي الطريق مقفرةٌ لا يطرقها طارقٌ؛ فاستمع لما ألقي عليك. فاستطير كرستيان فرحًا، وتناول يده فقبلها وقال: آه يا سيدي، يخيل إليَّ أنك قد رأيت لي رأيًا. قال: نعم إن ائتمرت بما آمرك به. قال: ما عصيت لك أمرًا قبل اليوم. قال: قف هنا أمام الشرفة، وسأقف أنا من تحتها على قيد خطوة منك من حيث تراك روكسان ولا تراني، ثم نادها فإذا أشرفت عليك فسألقنك همسًا ما يجب أن تقوله لها.

وإنهما لكذلك إذ أقبل الغلامان الموسيقيان اللذان كان أرسلهما سيرانو لإزعاج مونفلوري في مرقده. فقال لهما: أفعلتما ما أمرتكما به؟ قالا: نعم، ما زلنا نضرب اللحن المضطرب المشوش زمنًا طويلًا، حتى طاش عقله وجُن جنونه، فأطل من النافذة وظل يشتمنا ويسبُّنا ويستعدي رجال الشرطة علينا حتى انصرفنا. قال: أحسنتما، فارجعا الآن وقفا على رأس هذا الشارع، وليكمن كل منكما وراء ساريةٍ من سواريه، وارقُبا الطريق، فإذا رأيتما سوادًا مقبلًا فاضربا لحنًا قصيرًا. فقالا له: أيَّ نوعٍ من الألحان تريد أن نضرب؟ قال: اضربا لحنًا محزنًا إن كان القادم رجلًا، ومفرحًا إن كان امرأة، فعاد الغلامان أدراجهما ووقفا حيث أمرهما، ودفع سيرانو كرستيان وأقامه أمام الشرفة، ووقف هو من تحتها على مقربة منه، وقال له: نادها واخفض صوتك ما استطعت، فاتجه كرستيان إلى النافذة ونادى: روكسان! روكسان! فما لبثت أن فتحت الباب الموصل إلى الشُّرفة وخرجت إليها وقالت: مَنْ يناديني؟ قال: أنا. قالت: ومن «أنا»؟ قال: كرستيان. قالت: ماذا تريد؟ قال: أريد أن أكلمك. قالت: ذلك مستحيلٌ؛ لأنك لا تحسن الكلام! قال: أضرع إليك. قالت: إنك لا تحبني، ولو كان في قلبك ذرةٌ واحدة من الحب لأحسنت الكلام فيه. قال وسيرانو يلقنه: يا لله! إنها تتهمني بأنني قد سلوتها في الساعة التي أتجرع فيها كأس الموت وجدًا بها!

وكانت قد همت بالدخول، فاستوقفتها هذه الكلمة وقالت: وكيف تحبني؟ قال: قد اتخذ طفل الحب من نفسي الجائشة المضطربة أرجوحةً لينةً يلهو فيها ويلعب، وينمو ويترعرع، حتى إذا شب وأيفع وبلغ أشده، عقها وغدر بها وجازاها شر الجزاء على صنيعها، وقسا عليها القسوة التي يقسوها الطفل على عصفوره الضعيف المسكين.

فَأَصْغت إليه، وشعرت أن في حديثه روحًا جديدة لم تكن فيه من قبل. فقالت له: ولِمَ لم تخنقه في مهده قبل أن يشب ويترعرع؟ قال: ما كنت أستطيع ذلك؛ لأنه ولد جبارًا قويًّا متنمرًا، حتى إنه استطاع وهو لا يزال يلعب في أرجوحته أن يصارع شيطان الكبرياء فيَّ حتى صرعه وألقاه جثة هامدة بين يديه.

فاتكأت روكسان على حافة شرفتها، وقد أطربتها هذه النغمة الجديدة، وقالت: ما أشد سواد هذا الظلام! إنني لا أتبين موقفك جيدًا يا كرستيان، ولكنني أشعر أن كلامك ينير لي مكانك، فتكلم فإنك تُطربني كثيرًا، ولكن ما لي أرى نغمة حديثك تصدر عنك متقطعة، كأنما قد أصبت بالنقرس في مخيلتك، وكان عهدي بك قبل الآن طلق اللسان متدفقًا كالسَّيل المنهمر! فذعر سيرانو وخاف أن ينكشف الأمر، فجذب كرستيان إلى ما تحت الشرفة، ووقف هو في مكانه، وانثنى إليه وأسرَّ في أذنه: قد أصبح الموقف حرجًا جدًّا فاصمت أنت، وسأتكلم أنا عنك بصوتٍ يشبه صوتك، ثم أنشأ يجيب روكسان على سؤالها مقلدًا صوت كرستيان، ويقول: ذلك لأن كلماتي تتخبط في هذا الظلام الحالك أثناء صعودها باحثةً عن أذنك الصغيرة جدًّا، فلا يستقيم مسيرها! قالت: ولم لا تضطرب كلماتي في هبوطها اضطراب كلماتك في عروجها؟ قال: لأنها تنحدر إلى قلبي مباشرة، وقلبي رحبٌ واسعٌ فلا تضل طريقها، على أن كلماتي صاعدة وكلماتك منحدرة، والنزول أسهل من الصعود. قالت: ما أبدع هذا المعنى! ويخيل إليَّ الآن أن كلماتك قد انتظم مسيرها، فإنها تصل إلى أذني بأسرع من ذي قبل! قال: ذلك لأنها ألفت هذه الحركة وحذقتها، فصمتت لحظة، ثم دارت بعينيها في الفضاء وقالت: حقيقة إنني أتكلم من علوٍّ شاهق. قال: إذن فاحترسي، فإن كلمةً واحدةً قاسية تُلقينها عليَّ من موقفك هذا كافية لقتلي! فاستضحكت وقالت: لا تخف يا كرستيان، فإني آتيةٌ إليك لأحدثك وجهًا لوجه، قال: لا تفعلي، بل ابقي في مكانك. قالت: لم؟ قال: لأن هذا الموقف جميلٌ جدًّا، يعجبني ويطربني، فلنتحدث كما نحن كأننا روحان هائمتان في أجواز الفضاء، تُفتِّش كلٌّ منهما عن صاحبتها فلا تكاد تعثر بها، دعينا نتحدث كما نحن وبيننا هذا الموج المتلاطم من الدُّجنة الحالكة، لا ترين مني إلا سواد معطفي المسبل عليَّ، ولا أرى منك إلا بياض ثوبك الصيفي الجميل، فأنت تمثلين الكوكب الساطع في سمائه، وأنا أمثل الظلام المخيم على سطح الغبراء!

إن لهذا الموقف الشعري الجميل في هذه الساعة الساكنة من الليل أعظم الفضل في صفاء ذهني، وانتعاش ويقظة قلبي وانطلاق لساني من حبيسته وجموده، فكوني كما أنت ولأَكُنْ كما أنا، لا تشعرين مني بغير خفقان قلبي، ولا أشعر منك بغير أشعة جمالك، أناجيك كأنني أناجي الله في علياء سمائه، وتصغين إلى نجائي إصغاء الملائكة الأبرار إلى أنَّات البائسين وزفراتهم على ظهر الأرض!

وكان قد غلبه الموقف على أمره واستلهاه حسنها، وجمالها واستغرق شعوره ووجدانه، فنسي أنه يتكلم بلسان غيره، فأطلق لنفسه عنانها، وأصبح يحدثها بنغمةٍ غريبة لا هي نغمته ولا هي نغمة كرستيان، بل نغمة النفس الوالهة المعذبة المتألمة، فنالت من نفسها منالًا عظيمًا، وقالت له: إنك تُحدِّثني الآن يا كرستيان بلهجةٍ غير لهجتك حتى ليُخيل إليَّ أنك قد تبدلت من نفسك نفسًا أخرى غيرها! قال: نعم؛ لأن كلامي قبل الآن لم يكن صادرًا من أعماق قلبي؛ لأنني إنما كنت أُحَدِّثك بلسان …

وكان يريد أن يقول: «كرستيان» فاستدرك هفوته، وقال: بلسان الدهشة والحيرة والاضطراب، الذي يلم بكل من يجرؤ على أن يقف موقفي هذا بين يديك، أما الآن فنفسي هادئة، وجأشي ساكنٌ، وروحي مطمئنة، حتى ليُخيَّل إليَّ أنني أناجيك للمرة الأولى في حياتي!

قالت: صدقت، ويخيَّل إليَّ أنا أيضًا أنك تتكلم بصوتٍ غير صوتك الأول. قال: نعم؛ لأنني استطعت في هذا السكون السائد والظلام الحالك الذي يحجبني عن العيون أن أكون أنا نفسي، وأنا أناجيك من طريقي لا من طريق …

وأراد أن يقول: «غيري» فشعر بهفوته وحاول أن يصلحها فلم يستطع، فتلعثم وتلجلج. فقالت له: طريق مَن؟ قال: عفوًا يا روكسان إن شرد لُبِّي واضطرب جناني بين يديك، فقد سحرني وملك عليَّ عقلي هذا الموقف الجديد الذي لم أقفه مرةً في حياتي.

فعجبت لأمره وقالت: جديد؟ قال: نعم جديد؛ لأنه أول موقف استطعت فيه أن أكون صريحًا في كلامي، حرًّا في أفكاري، جريئًا في حديثي، أطلق العنان لنفسي فتهيم، وتنبعث حيث تشاء، لا يحول بينها وبين الغاية التي تريدها حائلٌ. قالت: وهل لم يكن ذلك شأنك من قبل؟ قال: لا؛ لأن خوفي من هزئك بي، وسخريتك منِّي كان يزعجني جدًّا، ويملأ قلبي رعبًا وخوفًا! فدهشت وقالت: سُخريتي؟ ولماذا؟ قال: تسخرين من تطرفي واندفاعي وتبسُّطي في الإفضاء بمكنونات نفسي، فقد كان قلبي دائمًا مُتسربلًا بسربال عقلي، والعقل سربالٌ ضاغطٌ لا يطيقه القلب، وكنت كلما هممت أن أترك السبيل لعواطفي أن تفيض، وتنساب حيث تشاء أدركني الحياءُ والخجل، فَتَلَوَّمت واحتشمت ووقفت دون الغاية التي أريدها، ولا ألبث أن أتطلع إلى الكوكب النائي في سمائه، وأخطو الخطوات الأولى إليه لتناوله واستنزاله من فلكه، حتى أشعر بالخجل من نفسي، فأعود أدراجي قانعًا من حظي بزهرةٍ صغيرةٍ أجدها في طريقي من زهرات حديقة السماء فأقتطفها. قالت: إن الزهرة جميلة أحيانًا. قال: ولكنني لا أريد الليلة ولا أقنع بها. قالت: إنك ما كلمتني قط يا كرستيان بمثل هذه اللهجة البسيطة التي تكلمني بها الآن. قال: نعم، وليتنا نستطيع دائمًا أن نحتقر في مواقف الحب توافه الأشياء وحثالاتها، وأن نترك التأنُّق والتجمل في صلاتنا وعلائقنا، ونطلق العنان لأنفسنا لتعبر عن مشاعرها وعواطفها بالصورة التي تريدها، بدلًا من أن نقيدها بتلك القيود الثقيلة التي تحبسها في محبسٍ ضيقٍ لا سبيل لها إلى التفلُّت منه.

فلنطرح بعيدًا عنا هذه الكأس الذهبية الصغيرة، التي نتعاطى بها شرابنا قطرة قطرة، فلا نكاد نشعر بلذَّة ما نتعاطاه، ولنندفع معًا إلى ذلك الغدير المترع المتدفق، فنجثو على ضفَّته ونكرع من مائه العذب حتى نرتوِي.

البلاغة

قالت: ولكنني أحب البلاغة يا كرستيان. قال: إني أُجِلُّ هذا الليل الساكن الهادئ، وهذا الموقف الجليل المهيب، وهذه النفحات العطرية المترقرقة، وهذه القبة الجوفاء المرصَّعة بمصابيحها اللامعة، أن أهينها بهذا الشيء الذي يسمونه البلاغة، أو أن يكون حديثي معك بتلك اللغة التي يتفكَّه بها العشاق الكاذبون في رسائلهم الغرامية، فلنتحدث بما توحيه إلينا ضمائرنا، لا بما توحيه إلينا دواوين الشعراء ورسائل الكتَّاب، ولنهدم تلك الحواجز المادية القائمة بين نفسينا حتى تتلامسا وتتماسَّا، وتستحيلا إلى نفسٍ واحدة، فإنني أخشى إن نحن ظلننا نشتغل زمنًا طويلًا بهذه التجارب الكيميائية أن تتبخر عواطفنا، وتتلاشى في أجواز الفضاء، وأن يكون فيما نظنه كل شيء القضاء على كل شيء.

قالت: ولكن البلاغة جميلةٌ جدًّا. قال: وأنا أكرهها في الحب، وأرى أن من أكبر الجرائم وأفظعها أن نشتغل عن أنفسنا ومطارح آمالنا ومسارح عواطفنا بإدارة هذه المعركة اللفظية التي لا طائل تحتها، وأن تكون تلك المحاولات التي لا فائدة منها هي غاية مقصدنا من الحب، ومنتهى أملنا منه، والثمرة الأخيرة التي نجنيها من حياتنا.

إننا ما اجتمعنا هنا لنرى كيف نتحدَّث، بل لنتحدث ونتناجى، وما وقفنا هذا الموقف الجليل المهيب بين أحضان هذه الطبيعة الحلوة العذبة؛ لنشتغل بتهذيب اللغة وابتكار الأساليب واختراع المعاني، ولا ليقول كلٌّ منا لصاحبه: ما أبلغك! وما أسمى خيالك، وما أبدع تصوراتك وأفكارك! ولا لنتدارس البلاغة وأصولها وقوانينها، ولا لنتحدَّى الشعراء والكتاب في أساليبهم ومناهجهم، بل ليسكب كلٌّ منا نفسه في نفس صاحبه فإذا هما نفسٌ واحدة، تشعران بشعورٍ واحدٍ، وتحسان إحساسًا واحدًا، حتى لو استطعنا أن نصل إلى هذه الغاية، ونحن سكوتٌ لا نتكلم ولا ننبس بحرفٍ واحد فعلنا.

هذه هي البلاغة وهذه هي حقيقتها، أما الإغراق في التخيُّل، والمبالغة في الوصف، وخلق الصور والأساليب التي لا وجود لها في الخارج، ولا أساس لها في الذهن، وابتكار المعاني الغريبة التي تنبعث شرارتها من شعلة الذكاء، ولا تتفجر من ينبوع القلب، فهي وإن كانت جميلةً محبوبة تستلهي الخاطر وتستوقف الناظر، لكنها ليست من البلاغة في شيءٍ.

نريد أن نفارق هذا العالم المملوء بالأكاذيب والأباطيل، والصور والتهاويل، إلى أفقٍ طاهرٍ نقيٍّ، صافٍ مترقرق، نتكاشف فيه ونتراءى، ويتحدث كلٌّ منا إلى صاحبه بلغةٍ تشبه في جمالها وحسنها، وبساطتها وطهارتها، ورقتها وعذوبتها، ذلك الأفق الجميل الذي نسبح فيه، ونطير في أجوائه؛ فيكون مثلنا مثل الكوكبين الهائمين في أجواز الفضاء، يتحادثان بلسان الضوء، ويتناجيان بلغة الأثير.

قالت: وماذا تقول لي لو أردت أن تحدثني بتلك اللغة؟ قال: أُلقي إليك بكل ما يخطر ببالي من الكلمات مبعثرًا غير منتظم ولا مرتَّبٍ، كما تتناثر أوراق الزهر عن أغصانها، فأقول لك مثلًا: أحبك يا روكسان حب العابد معبوده، لا أستطيع أن أصبر عنك لحظة واحدة، أصبحت على وشك الجنون بك، وربما أكون قد جننت من حيث لا أدري، كأن قلبي معبد وكأن اسمك ناقوسه، فإذا وقع نظري عليك ارتعدت وارتجفت، فرنَّ اسمك في قلبي رنين الناقوس في المعبد، قد احتملت فيك فوق ما يستطيع أن يحتمله بشر، فما شكوت ولا تألمت، أحببت فيك كل شيءٍ، وأحببت من أجلك كل شيءٍ، أحببت فيك حتى كبرياءك، وأحببت من أجلك حتى شقائي، يخيل إليَّ أن الشمس على جدار قصرك أجمل منها على جدران القصور الأخرى، وأن الروض الذي تخطرين فيه أبدع رياض الدنيا والآخرة، لا أستطيع أن أنساك أو أنسى حالةً من حالاتك أو حركة من حركاتك مهما طال عليها الزمن، رأيتك صباح الأحد الماضي، وأنت خارجة من بيتك وقد غيرت نظام شعرك الذي أعرفه لك، فأصبح لامعًا متألقًا يدور بوجهك دورة الهالة بالقمر، فبهرني هذا المنظر، وارتسم في شبكة عيني، فأصبحت أراه في كل ما يقع عليه نظري من المنظورات، كما يرى الناظر إلى ضوء الشمس هالةً بيضاء في كل ما يتناوله بصره من الأشياء، وسمعتك منذ أيامٍ تضحكين، فما غرَّد طائرٌ على فننٍ ولا رنت قطرات الغيث على صفحات الماء، ولا مرت النسائم بين خمائل الأشجار، إلا خيل إليَّ أنني أسمع رنين تلك الضحكة في كل ما أسمع من هذه الألحان.

وهنا اضطربت روكسان، واشتد خفوق قلبها، وقالت بصوتٍ خافتٍ متهدج: «نعم، هذا هو الحب.»

قال: نعم، هو الحب الذي غالب قلبي حتى غلبه واتخذه أسيرًا عنده، وهو حبٌّ شرسٌ غيورٌ، يتوقد حدَّةً وحرارةً، وإنه على ذلك متواضع بسيط، خالٍ من الأثرة وحب النفس، إنني لا أستطيع أن أخلص لنفسي يا روكسان كما أخلص لك، إنني في سبيل هنائك أجود بهنائي كله وإن لم تشعري بذلك، حسبي من الدنيا أن أسمع من بعيدٍ رنين ضحكاتك، فأعلم أنك سعيدةٌ مغتبطة، وأن ما ضحَّيت به لك من سعادتي وهنائي كان هو السبب في هناء عيشك وراحة نفسك، كلُّ نظرةٍ من نظراتك تثير فيَّ فضيلةً جديدة كانت كامنةً بين أطواء قلبي لا أهتدي إلى مكانها، وتبث في نفسي خلق الشجاعة والإقدام، مِمَّ أخاف إن كنت راضيةً عني، وبم أعتبط إن كنت ساخطةً عليَّ؟ وهل الدنيا شيء سواك في إقبالها وإدبارها؟!

قالت: ما أعذب كلامك يا كرستيان! إن قلبي يخفق له خفقانًا شديدًا.

قال: أرأيت الآن كيف أن الكلمات الصادرة من القلب بلا تكلُّفٍ ولا تصنُّعٍ، لا يستطيع حائلٌ أن يحول بينها وبين قلب سامعها؟ ألا تلمسين بيدك نفسي الحزينة، وهي صاعدة إليك في هذا الظلام الحالك؟ ألا تسمعين خفقان قلبي وهو يرنُّ في جوف هذا الليل البهيم؟ آه! ما أحلى هذه الساعة وما أجملها! إنها الساعة الوحيدة التي ذقت فيها حلاوة السمر والمناجاة، ما كنت أصدِّق أن أقف يومًا من الأيام هذا الموقف العظيم بين يديك: أتكلم وتسمعين، وأبثك ما في نفسي وتنصتين، ولم يبقَ لي من أربٍ في الحياة بعد اليوم، فليأتِ الموت إليَّ فقد بلغت جميع أمانيَّ وآمالي، ها هي ذي يدك ترتجف الآن من تأثير كلماتي كما ترجف الورقة الخضراء بين النسمات المتناوحة، ولقد نَمَّ عليك غصن الياسمين الذي تمسكين، فقد مشت فيه تلك الرجفة حتى وصلت إلى يدي!

ثم انحنى على طرف الغصن في يده فلثمه في صمتٍ وسكون.

فقالت روكسان: نعم، إنني أرتجف وأبكي؛ وما بلغ امرؤ مني في حياته ما بلغت مني، ولقد سحرني حديثك وملك عليَّ لُبِّي حتى أصبحت أشعر أنني قد أصبحت ملك يدك، ولا شأن لي في أمر نفسي.

قال: فليأتِ الموت إليَّ إذن، فقد بلغت من حياتي ما كنت أرجو وأتمني، وليُهْنني أنني أنا الذي قدمت إليك بيدي تلك الكأس التي أسكرتك وأخذت بلبِّك، فلم يبقَ لي مما أتمناه غير شيء واحد. قالت: ما هو؟

وهنا نطق كرستيان وهو في مكانه تحت الشرفة بعد هذا الصمت الطويل، وقال: «قُبلة!»

فذعر سيرانو وقال له بصوتٍ خافتٍ: لقد تسرعت في الطلب! قال: لا، إنها الآن ذاهلةٌ مسحورة، فلأنتهز هذه الفرصة التي لا تواتيني في كل حين.

فقالت روكسان: ماذا قلت؟ فقال كرستيان: «أريد قبلة.»

فوكزه سيرانو برجله، وقال: اسكت يا كرستيان، فسمعت روكسان كلمته. فقالت له: مع من تتحدث؟ وهل كرستيان شخصٌ سواك؟ قال: أتحدث مع نفسي، فقد ندمت على تطرفي واندفاعي في هذا المقترح الذي اقترحته، وقلت لنفسي: اسكت يا كرستيان، فحسبك منها أنها أصغت إليك، وسمعت صوت قلبك، وأذرفت من أجلك دمعةً من دموعها الغالية، فلا تطمع فيما وراء ذلك!

وهنا رنَّ صوت قيثارتَي الغُلامين من بعدٍ. فقال كرستيان على لسان سيرانو: ادخلي الآن يا روكسان، فإني أسمع صوت قادمٍ، ثم عودي إليَّ بعد قليل.

فدخلت روكسان غرفتها وأقفلت باب نافذتها، وأصغى سيرانو إلى الصوت، فسمع في آنٍ واحد لحنين مختلفين: لحنًا مفرحًا، وآخر محزنًا. فقال: يا للعجب! إن القادم ليس برجل ولا امرأة، فلا بد أن يكون قسيسًا!

وما أتم حتى أقبل قسيسٌ شيخٌ وبيده مصباحٌ ضئيلٌ، وجعل يمر بأبواب المنازل بابًا بابًا ويدني مصباحه منها ليتبينها، كأنه يفتش عن منزلٍ يقصده، فتقدم نحوه سيرانو وقال له: إنك تعيد لنا أيها الشيخ عهد ديوجين، فهل تفتش عن منزل السيدة مادلين روبان الشهيرة بروكسان، فانبرى له كرستيان وهو يقول في نفسه: إن الرجل يضايقنا في مثل هذه الساعة، ولم ننتهِ من أمر القُبلة! وأمسك بيده وأشار له إلى جهة بعيدة، وقال له: هناك أيها الشيخ، هناك، فسِرْ أمامك لا تعطف يمنةً ولا يسرة حتى تجد المنزل الذي تريده! فشكر له الشيخ فضله وعاد أدراجه. فقال كرستيان لسيرانو: لا أستطيع أن أبرح هذا المكان حتى أنال القبلة التي أريدها! قال: لا تعجل يا صديقي، فستوافيكما سريعًا تلك اللحظة السِّحرية العجيبة، لحظة الذهول والاستغراق التي تثملان فيها بخمرة الحب، وتذهلان فيها عن نفسيكما، فإذا شفتاكما ذاهبتان وحدهما كل منهما إلى صاحبتها حتى تتلامسا، وصمت لحظة ثم قال في نفسه: ما دامت تلك اللحظة آتية لا ريب فيها فخير لي أن أكون صاحب الفضل فيها، ثم قال له: نادها يا كرستيان، فستنال منها القبلة التي تريدها: فناداها، ففتحت النافذة، وخرجت إلى الشرفة وهي تقول: أباقٍ أنت يا كرستيان حتى الآن؟ فقال كرستيان على لسان سيرانو: لقد جاء الساعة هنا كاهنٌ شيخٌ يسأل عن منزلك، فلم تعجبني زيارته في مثل هذا الوقت، فأضللته عن الطريق وأظن أن في يده كتابًا، فذعرت روكسان واضطربت مخافة أن يكون الكونت دي جيش قد أخلف وعده، وتخلف عن السفر واختبأ في الدير، وأن يكون هذا الكاهن رسوله، ولكنها ما لبثت أن سرت عن نفسها، وأنساها موقف الغرام كل شيء عداه، وقالت: أظن أننا كنا نتكلم عن … وتلعثم لسانها؛ فقال كرستيان: عن القبلة، وما لك لا تجسرين على النطق بها كأنها تحرق شفتيك؟ فإذا كان هذا شأنك مع لفظها، فكيف يكون شأنك مع معناها؟ تجلدي يا روكسان ولا تجزعي، فلقد تحولت منذ هُنَيْهَة من الدُّعابة إلى الاضطراب، ومنه إلى الخفقان، ومنه إلى التنهد، ومنه إلى البكاء؛ وليس بين الدموع والقبلة إلا رجفة.

القبلة

فارتعدت روكسان وقالت: لا أمنحُك إياها حتى تصِفَها لي! قال: هي الميثاق الذي يعطى عن قربٍ، والوعد الصادق الذي لا ريبة فيه، والاعتراف بالحقيقة الواقعة، والنقطة المرقومة تحت باء الحب، والسر العميق الذي يصل إلى القلب من طريق الفم، واللحظة الأبدية التي يقصر زمنها وتدوم حلاوتها، واتفاق الخاطرين على معنى واحد، والطريق المختصر لاستنشاق رائحة القلب، وتذوق طعم النفس على الشفاه، لها دوي النحل في صوتها، ومذاق العسل في حلاوتها، وعبير الأزهار في رائحتها!

فاضطربت روكسان وقالت: حسبك يا كرستيان! فقال: إن القبلة شريفة يا سيدتي، حتى إن ملكة فرنسا لم تبخل بها على نبيلٍ من نبلاء الإنجليز، وكلاهما شريف وعظيم. قالت: اسكت ولا تزد. قال: أنت الملكة التي أعبدها، وأدين لها أكبر مما دانت فرنسا لملكتها، وأنا اللورد بوكانجهام في صدقه وإخلاصه وألمه وحزنه. قالت: وفي جماله أيضًا!

فانتفض سيرانو وشعر بوخزة الألم في قلبه، وقال: نعم، وفي جماله، ولقد كنت لذلك ناسيًا. فقالت له: اصعد أيها السعيد المجدود لاقتطاف تلك الزهرة التي لا نظير لها!

فأخذ سيرانو بيد كرستيان، وقال له بصوتٍ خافتٍ: اصعد وتناول القبلة التي تريدها، فجبن وتلكأ وقال: ما أشد خجلي وحيائي! قال: اصعد أيها الحيوان، وتناول القبلة التي لا يستحقها منها غير شفتيك الورديتين! ثم دفعه بيده، فتسلق أغصان الياسمين حتى بلغ مكان روكسان على الشرفة، فألقت رأسها الجميل على عاتقه، فاحتضنها إليه ورسم على شفتيها تلك القبلة التي لها دويُّ النحل في صوتها، ومذاق العسل في حلاوتها، وعبير الأزهار في رائحتها، وسيرانو واضع يده على قلبه يتلوى في مكانه تلوِّي الملسوع، ويتأوه آهات خفيات مضمرات؛ ولكنه ما لبث أن ارعوى وتجمَّل، ولجأ إلى سلوته التي اعتاد أن يلجأ إليها كلما عظمت آلامه وهمومه، وأخذ يعزي نفسه، ويقول: يا مأدبة الحب العظيمة التي أنا صاحبها ومحييها، هنيئًا للذين يذوقون طعامك، ويتناولون ثمارك، ويرتشفون كئوسك، أما أنا فحسبي منك هذا الفتات الذي يتناثر عليَّ من مائدتك، فإنَّ روكسان لا تقبِّل شفتي كرستيان، بل تقبل عليهما كلماتي التي ألقيتُها في أذنها وسحرتها بها!

وهنا رنَّ صوتُ قيثارتَي الغلامين بلحنين مختلفين: لحنٍ مفرحٍ وآخر محزن، فسألت روكسان: ما هذا؟ فقال لها كرستيان: لعله سيرانو يتمشى في الطريق مع غلاميه الموسيقيين، فانفتل سيرانو من تحت الشرفة إلى موقف الغلامين فحدثهما قليلًا ثم أشار إليهما بالانصراف، ومشى يترنح في مشيته كأنه شارب ثمل، ويتغنى ببعض الألحان كأنه قادمٌ الساعة، فما وقع نظره على كرستيان حتى تظاهر بالدهشة، وقال له: أباقٍ أنت هنا يا كرستيان حتى الآن؟ قال له بصوتٍ عالٍ تسمعه روكسان: نعم، أُحدث روكسان وتحدثني، وإلى أين أنت ذاهبٌ؟ قال: لقد مللت هذين الغلامين وسئمت ألحانهما وتعبت من طول المسير، فعزمت على الرواح إلى المنزل. فأشرفت عليه روكسان عندما سمعت صوته وقالت له: انتظرني يا سيرانو فإني قادمة إليك، وأقفلت باب الشرفة، وفي هذه اللحظة أقبل الكاهن بمصباحه وهو يحدث نفسه ويقول: ما زلتُ على رأيي الأول، فإن المنزل هنا في هذا الميدان!

وهنا ظهرت روكسان على عتبة بابها يتبعها كرستيان وراجنو، فلما رأت الكاهن ذُعرت واضطربت، فتقدم نحوها وحياها ومد يده إليها بكتابٍ. فقالت له: ما هذا؟ قال: كتاب بعثني به إليك السيد الصالح التقي الكونت دي جيش، صهر سيدنا ومولانا صاحب القداسة الكردينال دي ريشلييه، من دير القديس «أتاناس»، ولا بد أن يكون مشتملًا على غرضٍ من الأغراض الشريفة المقدَّسة، أو مكرمةٍ من المكارم العليا، فاقرئيه، فتناولته وقرأت فيه على مصباح راجنو وهو صامتة، هذه الكلمات:

سيدتي

الطبول تدق، وقد أعد الجيش عدته للرحيل، والجميع يظنون أني في مقدِّمته؛ ولكنني تخلَّفت وعصيت أمرك؛ لأنني لم أستطع السفر دون أن أتزود منك بذلك الزاد القليل الذي سألتك إياه؛ فاغتفري لي ذنبي، فإنني ما أذنبت إلا في سبيلك، وهأنذا قادمٌ إليك بعد قليل، فَمَهِّدِي لي سبيل زيارتك، إن ثغرك قد ابتسم لي اليوم ابتسامًا جميلًا، ولا أحب أن أفارقك قبل أن أراه مرة أخرى يبتسم لي تلك الابتسامة البديعة المؤثرة، وقد بعثت إليك بكتابي هذا مع قسيس أبله لا يفهم من شئون الحياة شيئًا سوى إقامة الصلوات، وتعزية المحتضرين، ومباركة المتزوجين، فلا يعنيك من أمره شيء.

دي جيش
وهنا برقت عيناها ببارقٍ غريبٍ، والتفتت إلى الكاهن وقالت له: اسمع يا أبتِ نص الكتاب، فهو بمثابة أمرٍ صادرٍ إليك، وأخذت تقرأ بصوت عالٍ ما لا وجود له إلا في مخيلتها، وتقول:

سيدتي

يجب عليك إطاعة أمر قداسة الكردينال، وهو يأمرك أن تتزوجي الليلة سرًّا من البارون كرستيان دي نوفييت، وأنا وإن كنت أعلم أنك غير راضيةٍ عن هذا الزواج، وأنك لا تحبين هذا الفتى ولا تجدين في نفسك ارتياحًا لمعاشرته، فإنني أرى لك أن تخضعي لأمر الكاهن الأعظم وتذعني لرغبته، فالخير كل الخير فيما يراه ويشير به، فاصبري على قضاء الله وقدره، وانتظري حُسْن المثوبة منه والجزاء الأوفى.

وقد بعثت إليك بكاهنٍ من أفضل الكهان وأتقاهم وأحفظهم للأسرار؛ ليقوم بعقد هذا الزواج السري بينكما في منزلك، فاقرئي عليه كتابي هذا وبلِّغيه أمري، وكوني على ثقة من إخلاصي لك واحترامي الدائم لمقامك الكريم.

دي جيش

ثم طوت الكتاب وهي تتظاهر بالأسف والحزن، وتقول: آه! ما أسوأ حظي وأعظم شقائي!

ثم همست في أذن كرستيان قائلةً له: ألا ترى أنني أحسن قراءة الرسائل؟ قال: اسكتي، فإنني أكاد أموت فرحًا!

أما الكاهن فقد تهلل وجهه وانبسطت أساريره، وظل يقول: له الله من سيد نبيل كريم! ما خاب ظني فيه وفي حسن مقاصده وشرف أغراضه! ثم رفع المصباح إلى وجه سيرانو وقال له: لعلك الزوج يا سيدي؟ فامتقع لون سيرانو، وأشاح بوجهه عنه، فتقدم نحوه كرستيان وقال: لا، بل أنا يا سيدي! فأدنى المصباح من وجهه، فرأى وجهًا جميلًا مشرقًا، فظل يهز رأسه كالمرتاب، ثم التفت إلى روكسان وقال لها: يخيل إليَّ يا سيدتي أن مصيبتك في هذا الزواج ليست عظيمة كما تتوهمين! فارتعدت وخفق قلبها خفقًا شديدًا، مخافة أن يكون قد فهم شيئًا، ثم ما لبثت أن عرفت وجه الحيلة في ذلك، ففتحت الكتاب بلهفة وقالت: لقد فاتني يا أبتِ أن أقرأ عليك الحاشية التي كتبها الكونت في كتابه، وهي تتعلق بديركم المقدس فاستمعها، وقرأت ما يأتي:

ويأمرك صاحب القداسة أيضًا أن تتبرعي للدير من مالك الخاص بعشرة آلاف فرانك، فائتمري بأمره، وادَّخريها يدًا عند الله صالحة.

فتلألأ وجه الكاهن واستطير فرحًا وسرورًا، ولم يبق لتلك الريبة التي خالجته أثرٌ في نفسه، وقال لها: لا مناص لك يا بنيتي من الإذعان لأمر صاحب القداسة، والله يتولَّاك برعايته. فقالت: سأذعن لأمره وأمرك يا أبتِ، ثم هتفت براجنو، فأمرته أن يمشي أمامهم بمصباحه ففعل، فدخلوا المنزل جميعًا، وتراجعت روكسان قليلًا قبل دخولها، فجذبت سيرانو من يده وأسرت في أذنه قائلة: أما أنت فابق هنا حتى يأتي الكونت فامنعه من الدخول ودافعه بكل حيلةٍ، وترفق في الأمر ما استطعت حتى يتم عقد الزواج. فقال: سأفعل ما يرضيك يا روكسان، فكوني مطمئنةً، فتركته ولحقت بالقوم، وبقي هو وحده يفكر في الطريقة التي يمنع بها الكونت من الدخول إذا جاء.

سياحة في القمر

وما هي إلا هُنَيْهَة حتى رأى شبح الكونت مقبلًا من بعيدٍ، فخلع سيفه والتفَّ بمعطفه وأنزل قُبعته على عينيه، وتسلق شجرة الياسمين وكمن بين أغصانها، وأقبل الكونت واضعًا على وجهه نقابًا أسود وهو يتلمَّس الطريق في هذا الظلام الحالك، ويقول: ليت شعري أين ذهب ذلك الكاهن المنحوس؟ وماذا صنع بالرسالة التي بعثته بها؟ لا بد أن يكون قد بلَّغها روكسان وانصرف لشأنه، ولا بد أنها تنتظرني السَّاعة داخل المنزل!

واتجه جهة الباب، فما دنا منه حتى سقط جسمٌ عظيم بين يديه سقطةً هائلةً دوت بها جوانب الميدان، كأنما هو هابطٌ من علياء السماء؛ فتأمله، فإذا هو رجل متلفعٌ ملثمٌ، فذُعر وتراجع وقال: من هذا؟ فتقدم نحوه سيرانو بخطواتٍ بطيئة متثاقلة، وقال له بنغمة أشبه بنغمة الحالم المستغرق: كم الساعة الآن أيها الإنسان؟ فقال له: من أنت؟ قال: أنا رجلٌ من سكان كوكب القمر، سقطت منه من زمنٍ لا أعلم مقداره، هل هو يومٌ أو ساعة أو دقيقة أو عام أو أعوام؛ لأن صدمة السقوط أذهلتني عن نفسي فلم أُفق إلا في هذه اللحظة، ولا أعلم هل سقطت في كوكب الأرض أم في كوكب آخر غيره، فقل لي أين أنا؟ وفي أي عام وفي أي يوم وفي أي ساعة؟ فعلم الكونت أنه مجنونٌ أو ثملٌ، فأراد ملاينته ومداورته. فقال له: اسمح لي بالمرور أولًا وسأخبرك فيما بعد عما تريد. قال: يخيل إليَّ أنك تظنني معتوهًا أو مخبولًا، فاعلم أنني لا أحدثك عن خيالٍ، بل عن حقيقة لا ريب فيها، وأنني قد سقطت من كوكب القمر سقوطًا اضطراريًّا لم أملك فيه الخيار لنفسي، فظللت أتخبط بين الكواكب والنجوم والمذنبات والشهب، حتى وقعت في هذا المكان الذي أجهله ولا أعلم أين موقعه من العالم!

ثم رفع نظره إلى وجه الكونت وصرخ صرخةً هائلة، فزع لها الرجل وتراجع بضع خطواتٍ، وظل يسأله: ما بالك؟ فقال: دلَّني سواد وجهك وظلمته على أنني قد سقطت في خط الاستواء بين قبائل الزنوج! فوا أسفاه! ووا سوء حظاه! فلمس الكونت وجهه بيده، وكان قد ذهل عن نقابه، فحسره عنه وقال له: لا تخف، إنما هو نقابٌ أسود كنت أسدلته على وجهي لبعض الأسباب الخاصة، فهدأ سيرانو قليلًا وقال له: عفوًا يا سيدي، إذن أنا في فينيسيا أو فينا، فقل لي: في أي المدينتين أنا؟ فضجر الكونت، وقال له: سواء أكنت في هذه أم في تلك فدعني أمرُّ، فإن إحدى السيدات تنتظرني! فقال: آه! لقد فهمت الآن، لا بد أن أكون في باريس بلد الوعود والمقابلات، والأسياد والسيدات، فالحمد لله على ذلك! ومد يده إلى ردائه وظل يمسحه كأنما ينفض الغبار عنه، ثم وقف متأدبًا وأحنى رأسه بين يديه وقال له: اغفر لي يا سيدي مقابلتي إيَّاك بهذه الملابس الرثة المغبرة، فقد كان سقوطي مع الزوبعة الأخيرة، فانتشر غبار الأثير على ملابسي، وامتلأت عيناي بذرَّات الضوء، وعلقت بنعلي بضع ريشات من ريش «النسر الطائر»، ثم مد يده إلى نعله كأنما يتناول ريشةً عالقةً بها، وظل ينفخها في الهواء.

فازداد غيظ الكونت وعظم ضجره، وقال له: تنحَّ عن طريقي يا سيدي، فإني أريد الدخول، وظلَّ يدفعه أمامه حتى بلغا الباب، فترامى سيرانو على الأرض ومد ساقه في مدخل الباب وكشف عنها، وقال له: انظر يا سيدي إلى ساقي، فقد عضَّني فيها «الدب الأكبر» عضَّة مؤلمة لا يزال أثرها باقيًا حتى الآن، ولقد وقع لي ذلك في الساعة التي كان يطاردني فيها «السِّمَك الرَّامح» برمحه المثلث الأسنَّة، وما أفلتُّ من مخالب الدب حتى سقطت فوق حُمَةِ العقرب، فلدغتني في ساقي الثانية، وانظر ها هو ذا أثرها، ومد ساقه الثانية أيضًا، فاستحال على الكونت المرور، ثم قال له: وأؤكد لك يا سيدي أنني لو عصرت أنفي الآن لجرى منه سيلٌ دافق يغمر هذا الميدان جميعه، أتدري لماذا؟ قال: لا؛ لأني سقطت بعد ذلك في نهر «المجرَّة» فظللت أسبح فيه حتى أعياني الجهد، ولولا أن «الدُّب الأصغر» مد يده إليَّ فأنقذني لما نجوت، واعلم أنه لم يفعل ذلك تكرمةً منه وتفضلًا، بل كان يريد أن يعضني أيضًا كما عضني أخوه من قبله، فعجز عن ذلك؛ لأن أسنانه صغيرة جدًّا كأنها حَبَبُ الكأس، فاستطعت الإفلات منه، وانحدرت إلى «القيثارة» فاخترمتها وعلقت يدي بوترٍ من أوتارها فانقطع، وظل معي حتى الآن، وسأريكه إذا أردت، ومد يده إلى جيبه كأنما يريد أن يخرجه، ثم قال: لا لزوم لذلك الآن، فقد عزمت على أن أؤلف كتابًا أسميه «سياحة في القمر» أدون فيه هذه الرحلة جميعها، وسأرصِّع دفَّتَيْه بالشُّهب الصغيرة التي اصطدتها في معطفي من غابات السماء!

فاشتد جزع الكونت ونفد صبره، وقال له: ثم ماذا؟ قال: أظن أنك تريد أن تعرف الآن شيئًا من أخبار سكَّان ذلك الكوكب، الذي عشت فيه حقبةً من الزمان … فقاطعه الكونت وقال: لا، لا أريد أن أعرف شيئًا، فدعني أمرُّ، فإن بيني وبين أصحاب هذا المنزل ميعادًا لا بد لي من الوفاء به! قال: ولكنك وقد عرفت كيف نزلت من السَّماء لا بد لك أن تعرف كيف صعدت إليها، إنني صعدت إليها بطريقة عجيبة جدًّا، أنا الذي اخترعتها وابتكرتها، فلم ألجأ إلى النسر البليد كما فعل «رجيومونتانوس»، ولا إلى الحمامة البلهاء كما فعل «أركيتاس» …

وكان دي جيش مولعًا بعض الولع بعلم الفلك ولوع الكثير من الأشراف والنبلاء، الذين يزاولون بعض الفنون تجمُّلًا وتلهيًا بدون أن يدركوا من أسرارها شيئًا. فقال في نفسه: إن الرجل وإن كان مجنونًا فهو واسع الاطلاع غزير المادة، واستهواه حديثه فبدأ ينصت له، واستمر سيرانو يقول: … ولم أقلد أحدًا من الطيَّارين الذين سبقوني، بل خطرت على بالي ستُّ طرقٍ لاختراق أطباق السموات لم تخطر على بال أحدٍ من فحول علم الفلك ونوابغه، فدهش الكونت وقال: ست طرق؟ قال: نعم، هل تعدني أن تصغي إليَّ حتى أسردها عليك جميعها؟ قال: نعم أعدك بذلك، فتكلَّم وأوجز. قال: تعال إذن معي إلى هذا المقعد لنجلس عليه قليلًا، فقد انتفض عليَّ جُرحي الذي في ساقي!

ثم جذبه من ردائه فأجلسه بجانبه وظل يقول له:
  • أولها: أن أتجرَّد من ثيابي وأدير حول جسمي بضع قاروراتٍ بلوريَّةٍ ملأى بقطر الندى، ثم أقف تحت الشمس فتمد إليَّ خيوط أشعتها فتجذبني إليها، كما هو شأنها في امتصاص الأبخرة والأنداء حين تشرق عليها.
  • وثانيها: أن أعمد إلى صندوق كبير، فأفرغه من الهواء بواسطة حرارة المرايا المضلعة، ثم أملؤه بالأهوية المتصاعدة، وأجلس فيه فيصعد إلى العُلا.
  • وثالثها: أن أصنع جرادةً من الصلب ذات أذرع كبيرة، وأضع في جوفها بارودًا ملتهبًا، ثم أمتطيها، فكلما فرقع البارود اندفعت صاعدةً في جو السماء.
  • ورابعها: أن أملأ «بالونًا» بالدخان، والدخان كما تعلم يطلب العُلا دائمًا، فأركبه فيصعد بي حيث أشاء.
  • وخامسها: أن أدهن نفسي بنخاع الثَّور، فإذا دنا كوكب «فيبيه» أي القمر، من الأرض — وهو كما تعلم مولع بامتصاص هذا الدهن — امتصَّني معه.
  • وسادسها: أن أركب لوحًا من الحديد وأمسك بيدي قطعةً من المغناطيس وأقذفها في الهواء، والمغناطيس كما تعلم يجذب الحديد، فإذا سقطت تلقفتها وقذفتها مرة أخرى، وهكذا حتى أصل إلى غايتي!

فأعجب الكونت بذكائه وفطنته، وقال له: حسبُك ذلك، وائذن لي بالذهاب، وتأهب للقيام، فانزعج سيرانو وتشبَّث بردائه، وقال له: ولكن فاتك يا سيدي أن تسألني عن الطريقة التي اخترتها من بين تلك الطرق، واعتمدت عليها في هذه الرحلة القمرية؟ قال: قل لي وأسرع، قال: لم أختر واحدةً منها، بل اخترت طريقةً سابعة هي أغرب الجميع وأعجبها! قال: قل ما هي وعجِّل؟ قال: أراهن أنك لا تعرفها، ولو فكرت فيها ثلاثة أيام! فضاق صدر الكونت وقال: أعترف لك أني عاجزٌ عن معرفتها، فقل لي ما هي فقد ضقت بك ذرعًا، وثار من مكانه غاضبًا، فوثب سيرانو واعترض سبيله وقال له: ها هي ذي فاستمعها، ثم مد ذراعيه إلى الأمام وظل يلوِّح بهما في الهواء كما يفعل السابح على سطح الماء ويقول: هُو، هُو، هُو! فدهش الكونت وقال: ما هذا؟ قال: الموج المتلاطم. قال: لا أفهم ما تريده. قال: المدُّ والجزر. قال: لا أفهم شيئًا، فقل ماذا تريد؟ قال: بما أني أعلم أن القمر هو السبب في حركة المد والجزر، فقد نمت على ضفة النهر ساعة المد حتى غمرني الماء، وظللت منتظرًا ساعة الجزر، وما هي إلا لحظات حتى دنا القمر من اللُّجَّة فجذبها وجذبني معها، ولم أزل صاعدًا أخترق حجب السماء حجابًا حجابًا حتى، ومدَّ صوته بها طويلًا. فقال له الكونت بضجرٍ شديد: حتى ماذا؟ وكان سيرانو قد سمع جلبة القوم وهم مقبلون من داخل المنزل، فعلم أن الأمر قد انتهى. فقال له: حتى تمت حفلة القران!

وألقى عنه رداءه ورفع قبعته عن رأسه، فَظَهَرَ وجهه وفي مقدمته ذلك الأنف الضخم العظيم، فانتفض الكونت، وقال: سيرانو! ثم التفت وراءه فرأى العروسين مقبلين في ملابس عرسهما، وأمامهما الشموع، ووراءهما القسيس والخدم، ففهم كُل شيءٍ، وصاح: ماذا أرى؟ يخيل إليَّ أني جننت! وأخذ يدور بعينيه ههنا وههنا كالذاهل المخبول، ثم مشى نحو روكسان فانحنى بين يديها وقال له: لِله درُّك يا سيدتي! إنك من أمهر الماكرات! ثم التفت إلى سيرانو وقال له: أقدم إليك تهنئتني أيها المخترع العظيم على تفوقك ونبوغك، وسيكون مؤلَّفك الجليل أعظم مؤلفٍ نافع للمجتمع، ولا تنسَ أن تُرصِّع دفتيه بتلك الشهب الذهبية التي اصطدتها في معطفك من غابات السماء! قال: سأفعل إن شاء الله يا سيدي، وسأقدم الكتاب إليك تذكارًا لهذه المهزلة البديعة!

فأعرض عنه والتفت إلى القسيس، وقال له متهكمًا: لقد أديت الرسالة أيها الشيخ أحسن تأديةٍ فلك الشكر على ذلك! فلم يفهم القسيس غرضه وقال له: لعلك راضٍ عني يا مولاي! قال: نعم كل الرضا! ثم أخذ يخطو في تلك الساحة خطوات واسعة سريعة، ثم وقف ورفع رأسه بعظمةٍ وخيلاء، وقد لبس وجهه تلك السحنة العسكرية القاسية، ونظر إلى روكسان نظرةً جامدةً مخيفة، وقال لها بصوت قاسٍ شديد: ودِّعي زوجك يا سيدتي! فذعرت واصفر لونها، وقالت: لماذا؟ قال: لأن فرقة الحرس ستسافر الآن مع بقية فرق الجيش! وأخرج من ثنايا قميصه ذلك الكتاب الذي كان قد فصله عن بقية الكتب منذ ساعة، ونادى كرستيان بصوتٍ هائلٍ رنان، فلباه ووقف بين يديه. فقال له: خذ هذا الكتاب وسلمه بنفسك إلى قائد فرقتك! فقالت روكسان: ولكنك كنت وعدتني أن تتخلف هذه الفرقة! فقاطعها وقال لها: قد غيرت رأيي عندما علمت أنك إنما كنت تكيدين لي لا لابن عمك سيرانو، فصمتت وقد نال من نفسها منالًا شديدًا، وملأ قلبها حزنًا وشجنًا أنها لم تكد تلمس بفمها شفة الكأس حتى انتُزعت من يدها، ثم ترامت بين ذراعي زوجها، وظلت تقبِّله وتبكي بكاء مرًّا، فضمها إلى صدره وظل يبكي لبكائها، فصاح الكونت: حسبكما ذلك فأمامكما ليلة الزفاف، ولعلها قريبة جدًّا! ثم تركهما وانصرف ليصدر بعض أوامره إلى الجيش، وهو يرمي سيرانو بنظرات هائلة لو رمى بها أحدًا غيره لصعق لها، على أن سيرانو كان في شاغلٍ عنه بما كان يُعالجه في أعماق نفسه من الألم الممض عند رؤية تلك القبلات الجميلة المتبادلة بين هذين العاشقين الجميلين، وظل يقول في نفسه: يا له من سعيدٍ! ويا لي من شقي! كلانا يحبها، وكلانا يموت وجدًا بها؛ ولكنه استطاع — لأنه جميل — أن يلثمها ويقبِّلها؛ ولم أستطع — لأني دميم — أن أنال منها شيئًا في حياتي أكثر من أن أقبِّل طرف الغصن الذي كانت واضعة يدها على طرفه الآخر من حيث لا تدري، وها هو ذا الآن يضمها إلى صدره ضمَّة الوداع، ويتزود منها الزاد الذي يعينه على سفره الطويل وشُقَّته البعيدة، أما أنا فكل زادي منها هذه الدمعة التي تترقرق في عيني، ولا أستطيع إرسالها مخافة أن تراها!

وهنا دقت طبول الجيش مؤذنةً بالرحيل، فدنا منها سيرانو وقال لكرستيان: حسبك ذلك الآن فهيا بنا، فلم ينتبه كرستيان إليه، واستمر في شأنه، فظل يجذبه من يده ويقول: هيا بنا فقد دقت طبول الرحيل. فقال: أمهلني قليلًا يا سيرانو، فإنك لا تعلم ما يصنع الفراق بقلوب العاشقين! قال: أعلم ذلك حق العلم فهيا بنا، فالتفتت إليه روكسان، وقالت له: إني أكِل إليك أمره يا سيرانو، فَعِدْني ألا يهدد حياته شيء! قال: سأجتهد إن شاء الله تعالى، قالت: وَعِدْني أن يكون حذرًا متيقظًا. قال: سأحاول ذلك. قالت: وألا يتألم من البرد والصقيع في تلك الأجواء الثلجية الباردة! قال: سأفعل ما في وسعي. قالت: وأن يكون لي وفيًّا مخلصًا. قال: أظنه لا يستطيع أن يكون غير ذلك. قالت: وأن يكتب لي دائمًا. قال: أما هذه فأعدك بها!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤