الفصل السابع عشر

كيف ترصد حالات إغواء العقل الباطن؟

صُمِّمت الإعلانات بعناية من قِبَل عقولٍ لها قدرات خاصة للتأثير في الناس على مستوى اللاوعي.

مارشال ماكلوان
«فهم وسائل الإعلام» (١٩٦٤)

ليس بالأمر السهل أن تكتشف خداع الإعلانات لعقلك الباطن، لقد عملتُ في مجال الإعلانات على مدى ٤٠ عامًا، ومع ذلك يفوتني الكثير من التأثيرات الأكثر خفاءً التي تمارسها الحملات الإعلانية علينا.

إحدى الطرق التي تَكتَشِف بها محاولة إعلان معيَّن خداعَ عقلك الباطن هي أن تكون يَقِظًا. انتبه عندما تجد نفسك لأسباب مجهولة تحب أو تفضِّل إحدى العلامات التجارية، ثم ابدأ بالبحث عن الجانب الذي ربما يُمارِس تأثيره عليك. لا يُعَدُّ هذا حلًّا مثاليًّا؛ لأن التأثير ربما يكون شيئًا لا تتذكره، مثل موسيقى ما في خلفية أحد الإعلانات لم يُلاحِظْها عقلك الواعي، ولكنَّ الذي لاحظها كان عقلك الباطن.

هناك مثال رائع على ذلك من الماضي، وهو الإعلان الأمريكي لسيارة بيتل من شركة فولكس فاجن الذي حقق نجاحًا مذهلًا.

دراسة حالة: فولكس فاجن

بالنظر إلى أن السيارة بيتل كانت تمثل «سيارة الشعب» في عهد هتلر، وكانت الحرب العالمية الثانية قد انتهت قبل ذلك بأقلَّ من ٢٥ عامًا، ربما كان المرء يتوقَّع أن يصاحب انطلاق هذا الموديل في الولايات المتحدة الأمريكية نجاحًا أقلَّ من النجاح المدوِّي الذي حققه. لحُسْن حظ فولكس فاجن أنها عيَّنت دويل دان بيرنباك ليتولَّى الأمر بنفسه.

بدأت الحملة الإعلانية المبدئية المطبوعة لدويل دان بيرنباك في عام ١٩٥٩، وكان يتعيَّن عليها التعامل مع الحجم الضئيل للسيارة بيتل مقارنة بالسيارات كبيرة الحجم التي كان يفضِّلها الأمريكيون في ذلك الوقت. أحد أول الإعلانات التي صُممت عرض صورة صغيرة للسيارة بيتل وحدها في إعلان من صفحة واحدة، مع عنوان بارز تحتها كُتب فيه: «لا تكن طموحًا أكثر من اللازم.» وفي إعلان لاحق تم تناول موثوقية السيارة الثورية ذات المحرك ثلاثي الأسطوانات التي يتم تبريد محرِّكها بالهواء، وذلك بعرض سيارة بمفتاح ساعات دوَّار (كالذي يستخدم في ملء الساعة) يبرز من الجزء الخلفي للسيارة. وكان العنوان المكتوب: «إنها ليست كذلك.» مشيرًا إلى أنه على الرغم من أن السيارة يُمكن أن تعمل كالساعة إلا أنها لا تُدار بمفتاح الساعات. الشيء الذكي بشأن هذه الإعلانات هو أنها كانت أحد الأمثلة الأولى لشركة تسخر من نفسها. هذا النوع من انتقاص الذات يوحي لنا لا شعوريًّا أن الشركة لديها ثقة عظيمة في منتجها، وإلَّا فكيف تجرؤ على أن تكون وَقِحة هكذا في عرضه؟

وفي وقت لاحق في الستينيات ظهرت فولكس فاجن على شاشة التليفزيون. كان أحد أول الإعلانات يدور حول جرافة ثلج، ربما امتدَّ لنصف دقيقة، وكان يعرض رجلًا يركب سيارته وسط ثلوج كثيفة، يشغل المحرِّك (المرة الأولى)، ثم يقود وسط الثلوج. بعد ٢٥ ثانية، يُسمع تعليق صوتي يتحدث متسائلًا ببطء: «هل سبق لك أن تساءلتَ كيف يصل الرجل الذي يقود جرافة الثلج إلى جرافة الثلج؟» يخرج الرجل من السيارة ويشق طريقه عبر الثلج الكثيف، ويستمر الصوت: «هذا الرجل يقود فولكس فاجن؛ لذا يُمكنك التوقف عن التساؤل.» وفي النهاية، من الظلام تَهدِر جرافة الثلج وتبدأ في الحركة ببطء، وتكشف أثناء مرورها عن سيارة بيتل فولكس فاجن واقفة هناك مغطاة بالثلوج.

ربما تقول ليس هناك عيب في ذلك. في الواقع، مثله مثل الكثير من الإعلانات العظيمة، لا يبدو أن هذا الإعلان يخدع عقلك الباطن. لكن فكِّر في هذا، بما أن الإعلان لم يتعرض لموثوقية سيارة بيتل فولكس فاجن، فلا يوجد شيء يُمكن أن تجادل بشأنه. ولا يوجد أي ادِّعاء علني بشأن مدى كفاءتها عند تشغيلها في الأجواء الباردة، ولم يُذكَر شيء حول حقيقة أنه يتم تبريد محركها بالهواء بدلًا من الماء، وبذلك فإنه لا يوجد بها نظام تبريد يُمكن أن يتجمَّد، ولم يذكر أحد كيف أن المحرك في الخلف، على عجلات الدفع، وهو ما يعني أنه يُمكن التحكم فيها بشكل جيد جدًّا في الأراضي الزلقة والظروف الجوية السيئة. في الواقع، لم يُذكر أي شيء محدد على الإطلاق.

والشيء الذكي الآخر بشأن الإعلان هو أنه يستغرق دقيقة من الوقت، على الرغم من أن ما يُقال يُمكن اختصاره لتصبح مدته ١٥ ثانية فقط. هل يُمكنك تخمين التأثير الذين حققه هذا الإعلان؟ ببساطة، الإعلان مُمِلٌّ. لا شيء يحدث حتى نصف مدة الإعلان، ثم كل ما يحدث أن رجلًا يخرج من سيارة ما ويقود جرافة ثلج. تذكَّر ما قلتُه حول مطابقة الجهد المعرفي في الفصل العاشر، سوف ترى أنه إذا لم يكن هناك شيء لتحلِّله (وصراحة، لا يوجد شيء مهم لتحلِّله في هذا الإعلان) فسوف يقلُّ مستوى الجهد المعرفي الذي تبذله وسوف يقلُّ مستوى انتباهك. وبخفض مستوى الجهد المعرفي والانتباه، تقل قدرتك على صياغة حجة مضادة بشأن ما يحمله الإعلان من ادِّعاء فعلي بشأن السيارة.

لذلك مع نهاية الإعلان لا نكون قد حصلنا على معلومات وحقائق تمكِّننا من مهاجمة السيارة بيتل، ولا نكون في حالة مزاجية تسمح لنا بصياغة حجة مضادة؛ لذلك فإننا فقط نترك الادِّعاء يمر دون تحدِّيه أو مواجهته. بعد بضع مرات من التعرض، سوف نشعر على مستوى اللاوعي بالاقتناع بأن بيتل فولكس فاجن هي في الواقع أفضل في ظروف الطقس السيئة مقارنة بالسيارات الأخرى. وبسبب أن هذا الشعور لا واعٍ، لا توجد طريقة سهلة ﻟ «إزاحة» هذه الحالة من الاقتناع.

كانت جرافة الثلج، في رأيي، فكرة رائعة لخداع العقل الباطن، وأظن أن المحكمين في مهرجان كان للأفلام السينمائية في عام ١٩٦٤ قد اتفقوا معي؛ لأنهم منحوا جرافة الثلج الميدالية الذهبية. لكن إذا لم تقتنع بإعلان جرافة الثلج، يُمكنك النظر في إعلان آخر لفولكس فاجن والذي أُعِدَّ من قِبَل دويل دان بيرنباك وعُرض في عام ١٩٦٩. هذه المرة كان الموضوع جنازة.

يُفتتح إعلان الجنازة بمشهدٍ لموكب جنائزي أمريكي كبير لسيارات أمريكية تقليدية سوداء تسير في طريقها لتمر من أمام الكاميرا. يبدأ عزف موسيقى كنسِيَّة حزينة، ويبدأ صوت رجل عجوز بتمهُّل في قراءة ما يبدو واضحًا أنه نص لوصيته: «أنا ماكسويل إي ستافلي، بكامل صحتي وقواي العقلية، أقوم بتوريث ما يلي لزوجتي روز التي أنفقتِ المال وكأنه لن يكون هناك غدٌ، أترك لها مائة دولار وروزنامة.» وبينما نسمع الصوت، نرى الأرملة المكلومة تمسح عينيها وتجلس وحدها على المقعد الخلفي الواسع لإحدى السيارات. ويستمر الصوت مع وقفة قصيرة: «إلى ابنيَّ فيكتور ورودني، وهما مَن أنفقا كل دايم أعطيتهما إياه على السيارات الفارهة والنساء، أترك لكما خمسين دولارًا.» وبينما نسمع هذا ننتقل من أحد ابنيه إلى الآخَر، وكانا يجلسان أيضًا على مقعد سيارة واسع، أحدهما يرتدي نظارة شمسية والآخر نظارة طبية، وكلاهما يبدو ممتعضًا. يستمر الصوت مع ارتفاع نبرته نلاحظ بعض الغضب ونفاد الصبر: «إلى شريك أعمالي جولز الذي كان شعاره الوحيد: الإنفاق، الإنفاق، الإنفاق، لا أترك له أي شيء.» بينما نسمع هذا نرى جولز، يدخن سيجارًا ضخمًا، يجلس في المنتصف وتواسيه سيدتان متوردتا الخدود. وبينما نستعرض الموكب الجنائزي للسيارات الضخمة، يستمر الصوت، بهدوء مرة أخرى: «وإلى جميع أصدقائي وأقربائي الآخرين الذين لم يعرفوا أو يقدِّروا قيمة الدولار أبدًا، أترك … دولارًا.» أخيرًا، وبعد ذلك مباشرة، نجد في نهاية الموكب الجنائزي سيارة بيتل فولكس فاجن سوداء صغيرة، ونرى عبر النافذة شاب يبدو عليه الصدق يمسح عينيه بينما يقود السيارة. يقول الصوت: «وأخيرًا، إلى ابن أخي هارولد، الذي قال كثيرًا: «الدولار الذي تكسبه هو دولار تدَّخره.» والذي قال أيضًا كثيرًا: «بالتأكيد يا عمي ماكس، امتلاك سيارة فولكس فاجن استثمار جيد للغاية.» أترك ثروتي بالكامل التي تبلغ مائة مليار دولار.» وبينما نسمع هذا نرى أخيرًا نظرة رضًا على وجه هارولد.

ما الذي يُخبرنا به هذا الإعلان؟ حسنًا، الإشارة الوحيدة التي وردت في هذا الإعلان عن المنتج كانت في سطر واحد في نهاية الإعلان: «امتلاك سيارة فولكس فاجن استثمار جيد للغاية.» أو بعبارة أخرى توفِّر لك السيارة الكثير من المال، هذا بالإضافة بالطبع إلى ما يوحي به الإعلان من أن شراءك لسيارة فولكس فاجن يعني أنك شخص تتمتع بالذكاء وتَحظَى بالاحترام، وأنك شخص جدير بالاستفادة من كرم الآخرين. صحيح أن الجزء الأخير بمثابة ادِّعاء طموح، لكنني لا أرى أنه العنصر الذي يمثل خداع اللاوعي في هذا الإعلان.

إذن أين يكمن عنصر الخداع في هذا الإعلان؟ خلال الإعلان تم عرض مجموعة من المواقف التي تعكس سلوكيات مجموعة من الأفراد يتسمون بالجَشَع والطَّيْش والإسراف وهم يَظهَرون في سيارات فارهة، وعلى الرغم من أنه لم يدَّعِ أي ادِّعاء على نحو مباشر، ربط هذا الإعلان بين السيارات الفارهة والأشخاص الجَشِعين الفاسدين، وهنا نجد أن الصورة الذهنية التي رُسمت بمرور الوقت هي أن تلك السيارات مرتبطة بهؤلاء الأشخاص الجَشِعين الفاسدين، وفي نهاية المطاف يتولَّد لدَيْنا شعور على مستوى اللاوعي بأن كلَّ مَن يشتري سيارة أمريكية كبيرة الحجم وتقليدية هو شخص طائش ومبذِّر وغير مسئول.

ربما تكونُ قد أدركتَ أو لم تدرك ما يحدث من خلال وصفي التحليلي لهذا الإعلان. بالتأكيد يمكن أن أقول إنَّ قِلَّة قليلة من الناس هي التي أدركتْ هذا الأمر حينذاك. إن الطريقة الماكرة الخفية التي صُمِّم بها الإعلان والتي يَغِيب عنها أسلوب الإقناع دون أي إشارة صريحة للسيارة كانت تعني أن كل هذه المشاعر السلبية عن السيارات الأمريكية الكبيرة تولَّدت على مستوى اللاوعي، فلو كان واضحًا أن هذا الإعلان ينتقد السيارات الأمريكية من خلال الإشارة إلى أن كل مَن يقودون السيارات الفارهة هم أناس مستهترون، لكان من السهل تفنيد هذا النقد عن طريق الإشارة إلى أن الغالبية العظمى من الأمريكيين ممَّن يتَّسِمون بالاستقامة ونبل الأخلاق في عام ١٩٦٩ كانوا يقودون سيارات من هذا النوع، ولكن نظرًا لأن الفكرة لم تكن موجودة على مستوى الوعي لم يتم تفنيدها ولم يشكُ أحدٌ منها.

ماذا كانت نتيجة هذه الحملة الإعلانية الخفية المتألِّقة؟ بالرغم من أن سيارة بيتل فولكس فاجن ألمانية الأصل، فقد حققت نجاحًا لم يسبق له مثيل؛ فبحلول عام ١٩٦٥، كانت فولكس فاجن قد استحوذت على نسبة ٦٧٪ من الحصة السوقية لسوق السيارات المستوردة في الولايات المتحدة الأمريكية. وحتى في عام ١٩٦٩، عندما دخل هذه السوق العديدُ من السيارات الجديدة، وكان قد مر على سيارة بيتل عشر سنوات، كانت لا تزال تحقق ٥١٪ من الحصة السوقية.

إن أسلوب دويل دان بيرنباك في حملاته الإعلانية يُعَدُّ نموذجًا لكيفية استدراج العقل الباطن. فيما يلي مثال آخَر، وهو الحالة الخاصة بتيسكو.

دراسة حالة: متاجر تيسكو سوبر ماركت

إذا صادفتَ أي شخص في المملكة المتحدة وسألتَه عن إعلان تيسكو الذي كان يُذاع في الوقت الذي أصبحت فيه تيسكو أكبر سلسلة سوبر ماركت في المملكة المتحدة، فسيكون الرد على الفور أنه إعلان دوتي، وهي عبارة عن متسوِّقة مُزعِجة، وقد لعبت هذا الدَّوْر الممثِّلة الكوميدية الإنجليزية برونيلا سكالز. ابتُكرت شخصية دوتي في عام ١٩٥٥ لتُعلِن عن بدء خدمة جديدة تقدِّمها سلسلة تيسكو، وهي سياسة تسمح للعميل بإعادة أي منتج اشتراه مهما كان السبب مع استرداد النقود التي دفعها أو استبدال شيء آخر به.

يبدأ الإعلان الذي يستمر لمدة دقيقة واحدة بالأم دوتي وهي تتسلَّل وتُفاجِئ ابنتها، التي تعمل بهدوء على مكتبها، حاملة في يَدَيْها سمكة من أسماك التروتة الكبيرة الحجم قائلة: «لا يعجبني شكل هذه السمكة.» فتسألها الابنة: ماذا بها؟ وتوضِّح أن السمكة تبدو طازجة. وتُجيب الأم دوتي: «أعلم أنها طازجة، ولكنها تبدو متجهِّمة.» وهنا تبدو علامات الدهشة والتعجُّب على وجه الابنة. وتتابع دوتي كلامها: «إن فمها متجِه لأسفل من جانبيه! انظري.» وتقلِّد دوتي منظر السمكة بأن تجعل جانبي فمِها متجهَيْن لأسفل، وتنتقل الكاميرا لسمكة التروتة المسكينة التي تبدو بائسة للغاية. وفي محاولة من الابنة لتهدئة أمها التي تبدو متوترة بعض الشيء، تقول لها: «أمي، إنها مجرد سمكة تروتة، وقد خُلقت بهذا الشكل.» وهنا تنطلق الأم قائلة: «أعتقد أنه لا بد لنا من إعادة هذه السمكة.» وهنا تسألها الابنة متهكِّمة: «إعادتها إلى أين؟ إلى بحيرة ويندرمير؟» فترد الأم: «لا، إلى تيسكو.» وهنا ترد الابنة التي نَفِد صبرها: «لا يمكن إعادة السمكة لمجرد أنها تبدو بائسة، وماذا تتوقَّعين منهم أن يقولوا لك؟ سيدتي تفضَّلي هذه السمكة المبتَهِجة بدلًا من تلك البائسة؟» وتنتقل الكاميرا إلى بائع الأسماك الذي يعمل في تيسكو والذي يبدو هادئًا ولطيفًا وهو يُعطي دوتي سمكة جديدة مكررًا هذه العبارة نفسها: «سيدتي، خذي سمكة موسى المبتَهِجة هذه بدلًا منها.» عندئذٍ تبتسم الأم في سعادة: «نَعَمْ، هذه هي السمكة التي أريدها.» ويأتي الصوت الرخيم للمعلِّق ليقول لنا: «إذا لم تكن راضيًا عن منتجاتنا لأي سبب كان؛ فإن تيسكو تغيِّرها لك أو تُعِيد إليك ما دفعتَه.» وفي نهاية المطاف، نجد الابنة غاضبة ودوتي تَخرج حاملة سمكتها الجديدة قائلة: «إن السمكة تُشبِه زوجي الأول وسوف أستمتع بطهيها.» وينتهي الإعلان بصوت المعلِّق وهو يقول الشعار: «تيسكو، أشياء بسيطة تصنع فارقًا كبيرًا.»

مما لا شك فيه أن تلك الحملة الإعلانية كانت متميزة، وكان ذلك الإعلان رائعًا كبداية للحملة. استمرت الحملة لما يقرب من عشر سنوات معلِنة عن مبادرات من تيسكو بطريقة نكران الذات نفسها هذه.

لكنْ لم تكن تلك الحملة هي المسئولة عن تحقيق تيسكو الريادة في المملكة المتحدة، تلك كانت حملة أخرى توارت بمرور الزمان، ولكنْ لاستيعاب ما أقوله لا بد لنا من الرجوع إلى بداية قصة تيسكو.

بدأت العلامة التجارية تيسكو عام ١٩٢٤ عندما قام جاك كوهين، أحد التجار المغامرين، بشراء شحنة من الشاي من شخص يُدعَى السيد تي إي ستوكويل، وقرَّر أنْ يَجمَع ما بين الحروف الأولى لاسمَيْهما لتكون كلمة تيسكو. حققت تيسكو سمعة في الأسواق باعتبارها أحد المتاجر التي تحمل شعار: «بِعْ كميات كبيرة بأسعار رخيصة.» وبحلول الثمانينيات استطاعت تيسكو أن تتطور لتصبح أكبر سلسلة متاجِر في أوروبا، غير أنها كانت في المرتبة الثانية بعد متاجر سنسبري في المملكة المتحدة، ومتاجر سنسبري معروف أنها متخصصة في بيع المنتجات الغذائية الطازجة، وتعود سمعتها الطيبة في هذا المجال إلى القرن التاسع عشر.

وفي محاولة من تيسكو لتغيير ذلك الوضْع، أطلقت حملة إعلانية جديدة في عام ١٩٨٣ للحومها الطازجة؛ حيث عرض الإعلان روبرت كاريير صاحب مطعم كاريير الشهير في إيزلينجتون، الذي كان يُعَدُّ أحد المطاعم الأعلى تقييمًا على مستوى العالَم، واتَّبع الإعلان نهجًا بسيطًا في الإقناع، حيث أشاد روبرت كاريير بقطعة لحم، وقال إنها طازجة وقليلة الدسم، موضحًا أنه اشتراها من تيسكو. (دون كل الأماكن الأخرى!)

فشلت الحملة فشلًا ذريعًا، وكان أحد أسباب فشلها كما أوضحت الأبحاث أن الإعلانات كانت تفتقر للمصداقية؛ فمتاجر تيسكو في ذلك الوقت، كما وصفها غالبية الناس، قديمة أو متواضعة في هيئتها، كما أن ممرات المتاجر كانت مكدَّسة بالصناديق وأرضياتها غير نظيفة، ناهيك بالعاملين فيها الذين كنتَ تراهم متجهِّمي الوجْه وغير متعاوِنين. ولا شكَّ أن مكانًا كهذا لا يكون ملائمًا لشراء اللحم الطازج مهما كان روبرت كاريير مُقنِعًا.

هنا تحركت تيسكو لتغيير هذا الوضع وبدأت بثورة في منافذها؛ حيث قامت بتغيير شامل في منافذها من إعادة البناء وتنظيف الممرات من الصناديق وعمَّتِ النظافة أرجاء المكان. أمَّا العامِلون فقد تلقَّوْا تدريبات على الرد على أي استفسارات حول أماكن المنتجات، فأصبحوا لا يقومون فقط بالإجابة عن سؤال بل يصطحبون المشتري إلى مكان تواجد المنتج.

إذن كيف يُعلِنون عن محلاتهم الجديدة؟ كانت المنتجات الغذائية الطازجة هي معركتهم الرئيسية، ومع التجديد الشامل الذي حدث فقد تظن أن تيسكو استعانت بروبرت كاريير لتُظهِر فخرها بهذا التجديد، الحقيقة أن ذلك لم يحدث. في الواقع قامت تيسكو باستخدام وكالة إعلانية جديدة اسمها لوي هاورد-سبينك، وقد صمَّمت حملة على النقيض من ذلك تمامًا، حيث ظهر الممثل الكوميدي الشهير دادلي مور كمشترٍ تعوزه الخبرة أُرسل لشراء دواجن فرنسية تَرعَى طليقةً في المراعي الحرة. في الإعلان الأول الذي ظهر في عام ١٩٩٠ يُقنِعه المُزارِع الفرنسي القليل الحيلة بأن يجوب المزرعة بحثًا عن الدواجن التي يريدها ويناديها: «تشيكي، تشيكي، تشيكي.» وأظهرتِ الإعلانات التي جاءت بعد ذلك هذا المشتري راكبًا منطاده ويكتشف بالمصادفة جبن ستلتون من منطقة ميلتون موبراي الذي بدأ إنتاجه منذ ٢٦٠ عامًا يصطدم بسيارته الصغيرة ويأتي عبر العنب الإيطالي المتميز وما إلى ذلك. وأخيرًا يصل إلى الدجاج الذي بحث عنه طويلًا ليردَّه بكل شفقة إلى الغابات مرة أخرى طليقًا.

إلى جانب طرائف دادلي مور وتصرفاته الغريبة، فإن هذه الحملة عَرَضَتْ بذكاء مجموعة كاملة من المنتجات العالية الجودة الجديدة والمختلفة، وجميعها كانت متوافرة بصورة منتظمة في متاجر تيسكو. أتذكَّر شرائي المتكرِّر للدجاج الفرنسي العضوي الذي يتغذَّى على الذرة والذي يُباع لدى تيسكو، والذي كان، على نحو مدهش، ذا قيمة جيدة ولذيذًا جدًّا. ولكن لماذا استُخدم هذا الإعلان الغريب الساخر؟ بالتأكيد كانت الرسالة التي وجَّهها للناس هي أن الإنتاج الجيد لدى تيسكو قد حدث عن طريق المصادفة، وأن متاجر الشركة البراقة الجديدة تُخفِي وراءها متاجر قديمة فوضوية وغير منظمة بالصورة التي كانت عليها المتاجر القديمة، فكيف هذا؟

الجواب بالطبع هو أن إعلانات دادلي مور كانت مثالًا رائعًا للإعلانات التي تخدع عقلنا الباطن. ما فعلتْه تلك الإعلانات أنها أظهرتْ أن تيسكو، بعيدًا عن كونها متعجْرِفة على نحو لا يُطاق كما كانت في إعلانات روبرت كارير، كانت سعيدة بالسخرية من هَوَسِها بالجودة والأصالة في أغذيتها. كانت النتيجة هي أننا جميعًا نشعر على مستوى اللاوعي بأن تيسكو لا بد أن تكون ناجحة وجيدة جدًّا فيما تفعله. ومع كل ذلك، نحن نعلم أن أولئك الذين هم واثقون للغاية لا يُمانِعون أن يكونوا مثارًا لنكات الناس وضحكهم؛ والأشخاص الذين يفتقرون إلى الثقة أو لديهم شيء يحاولون إخفاءه هم أولئك الأشخاص الذين يفضلون إخبارهم بمدى روعتهم.

كانت النتيجة أنه على مدى فترة امتدت ٣ سنوات، تنامت شهرة تيسكو بسرعة فائقة. وبحلول عام ١٩٩٢، وقت نهاية حملة دادلي مور، حققت الشركة هدفها بأن أصبحت أكبر سلسلة متاجر في المملكة المتحدة. لم تمر ثلاث سنوات أخرى إلا وأطلقت الشركة حملة دوتي؛ لذلك لم تكن حملة دوتي هي التي حققت لها الريادة في السوق، ولكن يرجع الفضل في ذلك إلى حملة دادلي مور.

دراسة حالة: ستيلا آرتوا

ربما كانت أكثر الحملات شهرة في المملكة المتحدة هي حملة أخرى أطلقتْها وكالة هاورد-سبينك، هذه المرة كانت لستيلا آرتوا.

لقد أشرتُ في الفصل السابق إلى المذاق المُرِّ لجعة ستيلا آرتوا، ولكني لم أشرح كيف كان الإعلان قادرًا على جعل هذه العلامة التجارية ناجحة للغاية. كانت القصة الإعلانية لستيلا قد بدأت في عام ١٩٧٩، عندما انطلقت باستخدام حملة تحمل الشعار: «مكلِّفة على نحو مطمئن.» كانت الفكرة أن ستيلا أنفقت الكثير من المال على مكوناتها (أفضل جنجل، وأفضل شعير، وغير ذلك) مما اضطر مصانع الجعة إلى زيادة أسعارها. كان هذا في جزء منه صحيحًا، ولكن ليس بسبب أن المكونات كانت حقًّا أكثر كلفة إلى هذا الحد. لقد كان هذا بسبب أن الجعة كان بها ٥٪ كحول، وبذلك فُرض عليها مزيد من رسوم الاستهلاك.

في كلتا الحالتين، فإن وكالة لوي هاورد-سبينك حوَّلت السعر المرتفع لستيلا، بذكاء، إلى مؤشر على جودتها. بالطبع لم تكن مكلِّفة للغاية — فقد كانت الزيادة هي ٢٠٪ فقط مقارنة بالجعة التي تحتوي على نسبة الكحول المعتادة وهي ٣٫٥٪ — لكنها تجعل المرء يصل إلى حالة السُّكْر بسرعة أكبر. وفقًا لمدير أحد مصانع الجعة، والذي تحدَّثتُ إليه، فإن السبب هو أن جسمك يقوم بإزالة ما يُعادل نحو ١٫٥٪ كحول مما تشربه؛ ولذلك فإن نسبة ٣٫٥٪ من الجعة المعتَّقة هي فعليًّا ٢٪، ونسبة ٥٪ من الجعة المعتَّقة هي فعليًّا ٣٫٥٪، تقريبًا ضِعْف التركيز.

إذن، كان السبب الحقيقي وراء نجاح ستيلا آرتوا متعلِّقًا بتركيزها أكثر من مذاقها. بالطبع، كانت اللوائح البريطانية الخاصة بالإعلان تمنع أي شخص من الادِّعاء بأن الجعة التي يُنتجها هي أقوى تركيزًا من الأنواع الأخرى، ولكن أن تدَّعي بذكاء في الإعلان أن الجعة التي تنتجها أكثر كُلفة فإنك تذكِّر ضمنيًّا بذلك أن بها مزيدًا من الكحول، وبذلك تشعر بأن مذاقها أفضل وتدخلك في حالة السُّكْر على نحو أسرع.

بحلول أوائل تسعينيات القرن العشرين، كانت ستيلا تحقق مبيعات جيدة إلى درجة أن مصانع الجعة أرادت أن تُطلِق حملة إعلانية على شاشة التليفزيون. المشكلة التي كانت تواجههم هي أنه في ذلك الوقت كانت سوق الجعة في المملكة المتحدة قد تحولت إلى الاستهلاك المحلي للجعة المعبَّأة في زجاجات. لقد كانت هناك علامات تجارية لا تُحصَى من الجعة المعبَّأة في زجاجات، والتي كانت أيضًا تحتوي على نسبة ٥٪ من الكحول، وفي الكثير من منافذ البيع لم تَعُد ستيلا آرتوا أكثر كُلفة من العلامات التجارية الأخرى المعبأة في زجاجات. في الواقع، بسبب أن مبيعات آرتوا كانت أعلى بكثير مقارنة بغيرها من العلامات التجارية في محال الخمور، فقد كانت غالبًا أقلَّ كُلفة من غيرها من العلامات التجارية.

قررت وكالة لوي هاورد-سبينك أنها لا تستطيع التخلص من فكرة «مكلِّفة على نحو مطمئن» الناجحة جدًّا، لأنه للقيام بذلك سيستدعي الأمر الإشارة إلى أن ستيلا لم تكن بالجودة نفسها التي اعتادت أن تكون عليها. لقد كنتُ أشارك في تلك المهمة حينذاك، وبعد أن رأيتُ بعض الأعمال من مجموعة إيطالية إبداعية طرأتْ لي فكرة أن «مذاق ستيلا آرتوا رائع إلى درجة تجعل الأشخاص يتخلَّوْن عن أي شيء من أجلها.» قام المدير الإبداعي أدريان هولمز بإعطاء ذلك إلى قسم الإبداع وانتظر ليرى ما يَخرُجون به.

كانتِ النتيجة قطعة من العبقرية الخادعة، كتبها مؤلف الإعلانات تشارلز إنج ومديره الفني، زوجته جين. معظم الأشخاص في ذلك الوقت كانوا يعتقدون بأن ستيلا آرتوا فرنسية، وبمحض المصادفة أصبحت بروفينس أفضل مكان في فرنسا يتطلع البريطانيون إلى زيارته والعيش فيه، ويرجع ذلك في الأساس إلى كتاب مُسلٍّ جدًّا كتبه الصحفي بيتر مايال بعنوان «عام في بروفينس». لقد حدث أن عُرض فيلم في بروفينس بعنوان «جون دو فلوريت»، وقد حصد أرقامًا جيدة ضمن إحصاءات شباك التذاكر، وقد تضمن هذا الفيلم بعض الموسيقى الجذابة جدًّا. وهكذا واتتِ الفريق الإبداعي فكرة عرض إعلان على هيئة مشهد درامي قصير في بروفينس، باستخدام موسيقى فيلم «جون دو فلوريت».

في هذا المشهد الدرامي كان الحوار بكامله باللغة الفرنسية، مع عدم وجود ترجمة (على الرغم من أن الإعلان كان موجَّهًا لسوق المملكة المتحدة)، وتُعزَف الموسيقى في الخلفية طوال عرض المشهد. يعرض المشهد مزارعًا فرنسيًّا يأخذ زهور القرنفل خاصته إلى السوق على عربة يجرها حمار. الجو حار للغاية؛ لذا يتوقف المزارع عند نُزُل. يطلب منه صاحب النُّزُل البَدِين وغير المتعاطِف ١٠ فرنكات مقابل شطيرة لحم، ولكن تبيَّن أن المزارع لا يحمل معه أي نقود؛ لذلك فقد قَبِل صاحب النُّزُل بضعة عناقيد من القرنفل كوسيلة للسداد.

يتوقف المزارع ليأكل شطيرته، لكنه يقع بطرف عينه على صاحب النزل وهو يقوم بصبِّ كوب من ستيلا آرتوا ليُعطِيها له. نرى المزارع يكابد بضع لحظات من التردد، ثم يأخذ أول رشفة من كوب جعة ستيلا الباردة. أثناء قيامه بهذا يُغلِق عينيه فيما يُمكن فقط أن يوصَف بأنه نشوة تامة. نعود بعد ذلك لنرى النُّزُل بأكمله يكسوه القرنفل. المَغزَى الضمني هنا، بالطبع، أن ستيلا مُكلِّفة للغاية لدرجة أنه تخلَّى عمَّا كانت تحمله عربته بالكامل من أجْل الحصول على تلك الجعة. ينتهي المشهد الدرامي بتعليق على الصورة: «ستيلا آرتوا؛ مكلِّفة على نحو مطمئن.»

بعد ذلك بعام صُمم إعلان ثانٍ. كان الموقع مشابهًا، ولكن هذه المرة كان الإعلان يعرض رسامًا فقيرًا وصاحب نُزُل آخر. مثل المزارع، كان الرسام لا يملك مالًا، ومِن ثَمَّ قايَضَ لوحاته مقابل ربع لتر من جعة ستيلا. وعندما نعود ببصرنا نرى النُّزُل وقد كَسَتْه اللوحات الرائعة التي لا تُقدَّر بثمن والتي من المفترض أنها تلك التي تمَّت مقايضتها بجعة ستيلا آرتوا.

كان تأثير هذين الإعلانين، وغيرهما من الإعلانات التي تبعتْهما، أنْ أصبحتْ ستيلا آرتوا العلامة التجارية الرائدة في سوق الجعة المعتَّقة. إذن، كيف تمَكَّن هذان الإعلانان من ذلك؟ من الناحية المنطقية، فإن الرسالة التي كان يوجِّهها هذان الإعلانان محض هراء. ستيلا آرتوا لم تكن مُكلِّفة؛ لقد كانت تقريبًا بسعر ماركات الجعة الأخرى نفسه، وفي جميع الأحوال لا يوجد شخص عاقل سيخاطر بمصدر رزقه مقابل ربع لتر من الجعة. من الواضح أنه كان هناك بالتأكيد شيء آخَر يجعل الناس تشتري هذه العلامة التجارية. لكنْ عندما كنتَ تسأل الناس لماذا يعتقدون أن الإعلانين رائعان (وكانوا يعتقدون ذلك بالفعل)، فإنهم جميعًا يُمكن أن يردوا بأن ستيلا بطريقة ما تبدو «مختلِفة عن جميع العلامات التجارية الأخرى للجعة المعتقة.»

أعتقد أن السبب في أن الناس لم تَستَطِعْ إيضاح السبب في أن الإعلانين كانا رائعَيْن، هو أن الجمهور الذي يشرب الجعة المعتَّقة لم يكن على دراية بما يحدث. كما ترى، فإن جميع العلامات التجارية الأخرى للجعة المعتَّقة في ذاك الوقت كانت تستخدم النكات، وغالبًا ما كانت تستخدم النكات السخيفة والساذجة في إعلاناتها. كان المقصود من هذه النكات تسلية الشاربين وجذبهم للعلامة التجارية المُعلَن عنها. بالاعتماد على نبرة جادة جدًّا، وضعت ستيلا نفسها في فئة خاصة بها. وبمحاكاة موسيقى فيلم «جون دو فلوريت»، وجعل الحوار بكامله بالفرنسية، أَطْرَت ستيلا على المشاهدين، وجعلتْهم يشعرون أنهم ليسوا أذكياء فحسب، ولكنهم أيضًا «أصحاب ذوق رفيع». كان التأثير الذي كان يشعر به مَن يشرب ستيلا آرتوا هو أنه ذكي و«يتميز تميُّزًا كبيرًا» عن شاربي أنواع الجعة الأخرى. بالطبع هذا التواصل حدث على مستوى اللاوعي؛ حيث إن شعور الشاربين بالتميز كان خفيًّا؛ ولهذا لم يتم التَّثبُّت منه أو معارضته.

لكنْ بأيِّ طريقة حدث التأثير على مستوى اللاوعي؟ لا بد أنه كان واضحًا أن العلامة التجارية كانت تُحاوِل أن تُضفِي على نفسها تأنقًا وترفًا، أليس كذلك؟ حسنًا، كلا. لم يكن الأمر كذلك، للسبب الوجيه جدًّا، وهو أن الإعلانين كان لهما هدف ظاهري مختلف تمامًا هو أن يُقنِعا المشاهدين بأن جعة ستيلا آرتوا مُكلِّفة للغاية. وباحتفاظ وكالة الإعلان بالشعار الأصلي ورسالة الجودة العالية، خدعت المشاهدين بأن جعلتْهم يظنون أن الإعلانين تمحورا فقط حول الثمن الباهظ، في حين أن الحقيقة أنهما كانا يتمحوران حول التأنُّق والتَّرَف؛ ولذلك فإن رسالة «الثمن الباهظ» كانت بمثابة وسيلة لمنع أي تدقيق في الإبداع، بالطريقة نفسها التي مَنَعَتْ بها رسالة «درجة سوبر كلوب كلاس الجديدة» أي إمكانية للتدقيق في الموسيقى الخلفية في إعلان الخطوط الجوية البريطانية.

استمرت الحملة التليفزيونية لستيلا آرتوا لمدة ١٢ عامًا، ولكنْ في رأيي أنها لم تنجح أبدًا في إدخال تحسين على أول إعلانين. ترك تشارلز إنج العمل ليؤسس وكالته الخاصة، وبدأت فِرَق إبداعية أخرى في لوي هاورد-سبينك العمل في تلك المهمة. فقدتِ الوكالة فهمها لكيفية تأثير مجموعة الإعلانات اللطيفة التي صُوِّرت في ريف بروفينس الهادئ، وأصبحتِ الفُكاهة أكثر سخافة وتطرفًا: صاحب نُزُل تظَاهَر في وقت الحرب بأن الجعة قد نَفِدَتْ ليَحرِم الرجل الذي كان قد أنقذ حياة ابنه من ستيلا؛ ورجل شرب جعة ستيلا التي طلبها والده كرغبة أخيرة قبل وفاته ثم ألْقَى باللوم على الكاهن؛ وشخص طيب وجد أن الأشخاص الذين ساعدهم تخلوا عنه عندما تعيَّن دفع ثمن الجعة التي طلبوها له؛ وأسير على سفينة للمحكوم عليهم زَجَّ بنفسه في زنزانة العقاب المشدد التي لا يُمكن احتمالها حتى يستطيع أن يستمتع بشرب ستيلا من دون أن يُزعجه أحد، وما إلى ذلك. فازت هذه الإعلانات بجوائز إبداعية، لكن ربُما نتيجة لأن الفكاهة فيها كانت بغيضة إلى حدٍّ كبير، فقد أصبحتِ الجعة القوية تُعرَف باسم «قاهرة الزوجات». بحلول عام ٢٠٠٧، كانت العلامة التجارية تخسر حصتها السوقية على الرغم من العروض الترويجية وتخفيض الأسعار شبه المتواصل، وتم إيقاف الحملة.1

لكن هذا النوع من التأثير لا يقتصر على الموسيقى والصور المبهرة التي تتم مُعالجتها لا شعوريًّا. في بعض الأحيان يُمكن أن تُخدَع لا شعوريًّا بشيء يحدق فعليًّا في وجهك. وخير مثال على ذلك هو إعلان نايك.

دراسة حالة: نايك

بدأت نايك في عرض إعلانات عن منتجاتها من الأحذية الرياضية على شاشات التليفزيون منذ عام ١٩٨٢، حيث حققت وكالة الإعلانات الخاصة بها والمعروفة باسم «وايدن + كينيدي» شهرة عالمية من خلال حملاتها الإعلانية على شاشات التليفزيون والسينما، ويصوِّر بعض إعلاناتها مشاهير الرياضيين، وأهم ما اشتُهرت به الحملة شعارها المميز: «فقط افعلها.» وقد أُشيع أن دان وايدن هو مَن صاغ هذا الشعار في اجتماع عُقد في عام ١٩٨٨. على المستوى الشخصي، إعلاني المفضَّل هو إعلان مباراة كرة قدم لمدة ٩٠ ثانية ظهر لأول مرة في عام ٢٠٠٦ حيث يصور فريقًا من لاعبي كرة القدم المشاهير وهم يلعبون مع فريق اختاره الشيطان. لقد حققوا الفوز رغم كل الصعاب وذلك ببساطة؛ لأنهم يرتدون أحذية نايك.

وفي نهاية هذا الإعلان وكل إعلان لنايك يَظهَر الشعار الخاص بها «سووش»، ذلك الشعار الذي قامت بتصميمه طالبة تدرس علم الجرافيك تُدعَى كارولين ديفيدسون مقابل ٣٥ دولارًا في عام ١٩٧١ (وإن كان قد قيل إنه قد تم تعويضها بالمزيد منذ ذلك الحين).2
من الواضح أن نايك قد تكبَّدتِ الكثير من المعاناة في توضيح أن شعارها «سووش» هو شعار مستمَدٌّ من جناح إلهة النصر لدى الإغريق «نايك» والتي كانت مصدر الإلهام للعديد من كبار المحاربين الشجعان.3 ولكنْ إليك هذه الحقيقة المذهِلة: عندما دخلتُ على شبكة الإنترنت وكتبتُ في البحث نايك سووش ظهر لي حوالي ٣٫٣ ملايين نتيجة، وعندما كتبتُ نايك وعلامة صواب ظهر لي حوالي ٢٫٩ مليون نتيجة.4

مما تقدَّم يتضح أن هناك عددًا كبيرًا من الناس يعتقدون أن شعار نايك هو علامة صواب. إذن هل كون الشعار اسمه علامة صواب أو سووش يصنع فارقًا فعليًّا؟ قد تقول إنه مجرد شعار، غير أنه لا بد من أن أذكِّرك بما ناقشناه في الفصل الرابع عشر حيث توصل كلٌّ من ويلز وبيتي إلى أن الناس قد يتأثرون بمجرد الإيماء برءوسهم أو هزِّها. كما توصل جونا برجر إلى أن الناس قد يتأثرون بمجرد استيفاء استبيانات باستخدام أقلام ذات لون معين، فالأمر لا يتطلب الكثير لدفعنا لشراء الأشياء.

عليك الآن أن تُمعِن النظر في هذا السيناريو. هبْ أنك في سنِّ المراهقة وتحتاج إلى شراء حذاء جديد وأنت على معرفة جيدة بإعلانات نايك وتعرف من بها من مشاهير وتعرف الشعار الخاص بها والرسم المستخدم في الشعار. يرتبط الشعار بمفهوم القيام بالأشياء الصحيحة وإسعاد الناس حيث يُعتَبَر علامة جسدية تُلازِمك؛ لأنك ترى علامة صواب كثيرًا في المدرسة، وإنْ لم تكن في أعمالك المدرسية. لكن هناك العديد من الأسباب الأخرى الأكثر أهمية لرغبتك في الحصول على حذاء من نايك؛ حيث إنها متميزة وغالية الثمن ويرغب جميع أصدقائك في ارتدائها، وفي الغالب لن يكون معظم الآباء على استعداد لدفع ثمنها. وكما نعلم، نحن نرغب بشدة في اقتناء الأشياء التي لا نستطيع الحصول عليها؛ لذلك عندما يأتيك باحث ويسألك عن نوعية الحذاء الذي ترغب في ارتدائه، يكون هناك الكثير من الأشياء التي يمكنك التحدث عنها، وببساطة لن يَرِدَ شعار نايك في محادثتك معه.

الآن تخيل أنك أبٌ في منتصف العمر لهذا المراهق وقد انطفأتْ رغبتك في اقتناء الأحذية المتميزة منذ زمن طويل، ولم تَعُدْ تهتمُّ كثيرًا بإعلانات نايك، تلك الإعلانات المليئة بالأحداث الصاخبة والتي تدور حول موضوع ما، يبدو في كثير من الأحيان غير مفهوم. أنت تبذل القليل جدًّا من الجهد لتتذكر أي شيء نظرًا لأنك غير مهتم. إلا أنك تدرك حسيًّا الشعار: «فقط افعلها»، وتدرك حسيًّا دون شك الشعار: «سووش.»

تخيل أن ابنك طفل ظريف لكنه كسول، وأنك دائمًا ما تنصحه بأن يفعل كذا وكذا. حينذاك تربط لا شعوريًّا بين العبارة التي تقول: «فقط افعلها» وبين فكرة قيام ابنك بأداء ما تطلبه منه.

وكما هو الحال مع ابنك فإن شعار «سووش» يُثِير بداخلك فكرة أنك على صواب وتُسعِد الناس، ومؤشرات كهذه كامنة بداخلنا منذ مرحلة الشباب لها تأثير قوي، ونحن لا شعوريًّا نرغب في أن نرتبط بعلامات الصواب وليس علامات الخطأ.

وعندما ترى ابنك يأتيك حاملًا حذاءه البالي في يديه فإنك تقرر أن تصحبه للسوق لشراء حذاء جديد، فإذا به يُرِيك حذاءً من أحذية نايك غالية الثمن وأنت تعلم في قرارة نفسك أن علامة نايك التجارية من العلامات التجارية الموثوق فيها والتي يمكن الاعتماد عليها، من منطلق أنك ترى حملاتها الإعلانية بشكلٍ منتظم. إنها حقًّا غالية الثمن لدرجة لا تتحملها ميزانيتك، ولكنْ لسبب ما تجد أن حدسك يُخبِرك بأنك إذا ما قمتَ بعمل استثنائي في هذا الصدد وعثرتَ على مزيد من المال فإن ذلك قد يكون نقطة تحول في سلوك ابنك المتكاسِل وأنه قد ينطلق نحو التقدم في حياته.

عليك أن تنتبه إلى أن هناك أمرًا ما لا تدركه، وهو أن هذه المشاعر قد تولَّدت لديك بشكل لا شعوري من خلال القِيَم التصورية لعلامة صواب (أن تفعل الشيء الصواب) والشعار (إن ولدي يتصرف على النحو الذي أريده)، وأخيرًا يأتي الابن ليقول: «هيا يا أبي، فقط افعلها!» فتقوم على الفور بشراء الحذاء له.

الأمر المهم المتعلق بهذا المثال التوضيحي هو أنه إذا ما طَرح أحدُهم عليك سؤالًا عن أسباب شرائك أحذية نايك فإنك على الأرجح لا تَعرِف السبب وسوف تختلق سببًا ما مثل أن هناك تخفيضات على هذا المنتج أو أنه يتمتع بجودة عالية، بل إنك ستُقسِم بكل ما تؤمن به أنك لم تتأثر قطُّ بإعلانات نايك، هذا بالإضافة إلى أنك قد لا تتذكر أيًّا من إعلانات نايك إذا ما سألك أحدهم عنها، كما أنك لن تُشير من قريب أو بعيد إلى شعار علامة صواب؛ وذلك لأن العلامات التي تحركك كلها علامات لا شعورية كامنة بداخلك وسواء عرفتَ أم لم تعرف، وسواء أردتَ أم لم تُرِدْ فإن هناك شيئًا ما قد أغوى عقلك الباطن بمنتهى الذكاء والمهارة ودفعك نحو تحقيق ما يريده منك؛ وهو الشراء.

هوامش

(4) Test conducted October 2011.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤