الفصل الثاني

أفكار بديلة

عقولنا تخضع باستمرار لمؤثِّرات نجهلها تمامًا.

والتر ديل سكوت
«سيكولوجيا الإعلان في النظرية والتطبيق» (١٩٠٣)

كما رأينا في الفصل الأخير، كان التأكيد على خرافة أن الإعلان ليس سوى تواصلٍ برسالةٍ مقنِعةٍ مطمحَ الكثيرين من العاملين في مجال الإعلان والتسويق. ولكن إلى جانب هذه الأغلبية كانت هناك قِلَّة قليلة من الروَّاد الذين يعتقدون خلاف ذلك، ومن بين هؤلاء الروَّاد والتر ديل سكوت، الرجل الذي يرجع إليه الفضل في وضع «أول دراسة أكاديمية جادة عن آلية الدعاية والإعلان» (فلدويك، ٢٠٠٩).

والتر ديل سكوت

المكان: نادي أجيت في شيكاجو، وهو نادٍ مرموق لرجال الأعمال. الزمان: عام ١٩٠١؛ حيث تمَّت دعوة والتر ديل سكوت، الأستاذ المساعد في علم النفس في جامعة نورث وسترن، ليُلقِي كلمة على مجموعة من رجال الأعمال البارزين من ذوي الصِّلة بصناعة الإعلانات الآخِذة في النمو. تضمَّنت كلمة سكوت بالتأكيد مقولته التي أوردناها في بداية هذا الفصل والتي نقلناها عن عمله المزمع صدوره وقتذاك: «سيكولوجية الإعلانات في النظرية والتطبيق» (سكوت، ١٩٠٣).

أشارت التقارير التي كُتبت عن هذا الاجتماع إلى أن رجال الأعمال كانوا سعداء بما قاله سكوت لهم، ولكنهم كانوا في مطلع القرن العشرين، وكان واضحًا أن صناعة الإعلان لا تزال في مهدها. وكان لا يزال هناك أحد عشر عامًا أخرى قبل أن يُهَيْمِن نموذج (الانتباه، الاهتمام، الرغبة، الاستجابة) على الفكر الإعلاني؛ لذلك ربَّما كان ممثلو هذه الصناعة الوليدة أكثر انفتاحًا ممن جاءوا بعدهم.

تمثَّل رأي سكوت في الإعلان في كونه أداة مبيعات تعتمد على الإغراء، وقد سجَّل مقتطفاتٍ من كلمته تلك لاحقًا في مقال نشرتْه مجلة «أتلانتيك»، ومنها هذا التوصيف:

قدَّر أحدهم ذات مرة أن خمسة وسبعين في المائة من مجمل الإعلانات لا تحقِّق المرجوَّ منها؛ ومع ذلك فإن نسبة الخمسة والعشرين في المائة المتبقية تحقِّق المرجوَّ منها على نحو جيد لدرجة تجعلك لا تَجِد رجل أعمال يَرضَى أن يَقِفَ متفرِّجًا ومنافسوه يروِّجون لأنفسهم بالإعلانات. (سكوت، ١٩٠٤)

لاحظ هنا أن الإعلان في ذلك الوقت لم يكن يعتبر أداةً للتسويق، فلم يَظهَر مصطلح «التسويق» إلا بعد ذلك بخمس سنوات، وعندما ظهر كان بمثابة أداة اقتصادية تهدف إلى مساعدة المزارعين في تحقيق الإنتاجية المطلوبة على نحو أكثر فعالية. ومن المؤكد أن هذا لم تكن له علاقة بأنشطة المبيعات ومنها الإعلان.

أما ما يميز سكوت عن الجميع فهو أنه فهم بوضوح أن الإعلان «يتلاعب» بعقول المستهلكين؛ حيث قال في محاضرته تلك:

أنتم — المُعلِنين — توجِّهون كل جهودكم إلى إحداث تأثيرات معينة على عقول العملاء المحتملين. وعلم النفس، بصفة عامة، هو علم العقل. والفن هو الفعل، أما العلم فهو فهم كيفية الفعل، أو شرح ما تمَّ فعلُه، فإذا كنَّا قادرين على التعبير عن القوانين السيكولوجية التي يستند فن الإعلان إليها، فعندئذٍ نكون قد حقَّقنا تقدُّمًا متميِّزًا؛ وهذا لأننا نكون قد أضفْنَا العلم إلى فن الإعلان. (سكوت، ١٩٠٤)

وفي المقال نفسه، توقَّع سكوت أن «يُعرف المُعلِن الناجح بأنه المُعلِن الخبير بعلم النفس.» وحدَّد على وجه الخصوص الكيفية التي يمكن بها للإعلان أن يؤثِّر على لاوعي المُتلقِّي من خلال ما وصفه ﺑ «الإيحاء». ويروي في كتابه قصة خياط شرع فيما سمَّاه حملة إعلانية «قوية» في شيكاجو. يقول: «لم أكن أتصوَّر أن يكون لإعلانه أي تأثير عليَّ أنا شخصيًّا»، ولكن «بعد بضعة أشهر من بدء الحملة الإعلانية وجدتُني أتوجَّه إلى محلِّ الخياط وأطلب تفصيل بدلة.» ودخل سكوت في حوار مع صاحب المحل، الذي سأله إذا كان صديقٌ له قد زكَّى له هذا المحل، فأجابه أن الأمر كذلك بالفعل. ولاحقًا، وجد أنه لا يتذكر أن أحدًا من أصدقائه قد أوصاه بالتعامل مع المحل، وأدرك أنه قد تأثر بالإعلان من دون وعي منه:

كنتُ قد رأيتُ الإعلانات (الخاصة بمحل الخياط) على مدى شهور، ومنها تشكَّلتْ لديَّ فكرة عن المحل. وفي وقت لاحق، نسيتُ مصدر معلوماتي وتصوَّرتُ أنها تزكية صديق. (سكوت، ١٩٠٣)

واللافت أن سكوت أشار قائلًا: «أشكُّ كثيرًا في أن أكون قد قرأتُ محتوى أيٍّ من الإعلانات سوى العنوان.» وهكذا نرى أن العنوان وحده كان كافيًا لدفعه للذهاب إلى المحل وابتياع بدلة.

وفي جزء آخَر من الكتاب، في فصل عنوانه «تأثير اللاوعي في إعلانات الترام»، يقدِّم لنا سكوت ما يمكننا وصفه بأنه أشهر ملاحظاته:

أكدتْ لي سيدة شابة أنها لم تُمعِن النظر أبدًا في أيٍّ من المُلصَقات الموجودة على عربات الترام التي اعتادتْ لسنوات أن تستقلَّها. وعندما ألْحَحتُ عليها في السؤال، وجدتُ أنها تَعرِف عن ظهر قلب كل الإعلانات التي تَظهَر عبر خط الترام … وأنها كانت تقدِّر كثيرًا نوعية البضائع والسلع التي يتم الإعلان عنها؛ فهي لا تدرك حقيقة أنها كانت تتأمل الإعلانات، واستاءت تمامًا من تعريفي لها بأنها قد تأثَّرتْ بها. (سكوت، ١٩٠٣)

تكمن أهمية هذا الاقتباس في كونه يُبيِّن — وعن قَصْدٍ فيما يُفترض — أن الإعلان قادر على التأثير على العديد من الناس من دون أن يَفطَنوا إلى أنه يفعل بهم ذلك. ربما لم يكن في هذا الرأي الكثير من الغرابة في عام ١٩٠٣؛ فقد كان الإعلان وقتذاك مقتصرًا على الصحف ولوحات الإعلانات والملصقات الإعلانية في عربات الترام، وأنا متأكد من أنها كانت تَحظَى باهتمامٍ محدودٍ كما هو الحال اليوم مع الإعلانات المطبوعة.

وبالرغم ممَّا حَظِيَ به سكوت في نادي أجيت من تحمُّس كبير لأفكاره، فإن صناعة الإعلانات في عمومها تجاهلت أفكاره المذهلة عن التأثيرات اللاشعورية للإعلانات. وعوضًا عن ذلك، ناصروا وجهة نظر جون كينيدي القائلة بأن الإعلان عبارة عن «فن البيع المطبوع» (جونتر، ١٩٦٠). وبعد مرور سنوات قليلة، وتحديدًا في عام ١٩١٠، تبنَّتِ الصناعة نموذج (الانتباه، الاهتمام، الرغبة، الاستجابة) مع الاستعاضة عن كلمة «الرغبة» بكلمة «الاقتناع» (برينترز إنك، ١٩١٠).

كان التناقض كبيرًا بين ملاحظات سكوت حول تأثيرٍ ممكنٍ للإعلانات على اللاوعي والتصنيف الصارم الذي يتضمنه نموذج (الانتباه، الاهتمام، الاقتناع، الاستجابة) لمراحل الإعلان واعتباره قائمًا على الانتباه والإقناع. ولكن صناعة الإعلان في عام ١٩١٠ كانت تُدار في الأساس من قِبَل مديري مبيعات سابقين كانوا يعتبرون بوضوحٍ غفلةَ العملاء عنهم مرادفًا للفشل. تتضح لنا عصبية هذه الصناعة تجاه وجهة النظر الجديدة من كتابات كلود هوبكينز، رئيس شركة لورد آند توماس، الوكالة الإعلانية الأكثر نجاحًا في العالم آنذاك؛ فقد قام هوبكينز، في محاولة منه لمحاكاة نجاح كتاب فريدريك تايلور «الإدارة العلمية»، وهو الكتاب الأكثر مبيعًا في عام ١٩١٧، بنشر كتاب بعنوان «الإعلان العلمي» في عام ١٩٢٣. كان هوبكينز يؤمن بأن «الإعلان هو فن البيع، وكتابته بأسلوب بليغ تمثِّل عيبًا فيه؛ فلا أحد يقرأ الإعلانات على أنها نصٌّ أدبي ممتِع. عليك أن تعتبر قُرَّاء الإعلان عملاء يقفون أمامك، ويسعَوْن للحصول على معلومات. عليك أن تمنحهم ما يكفي من المعلومات حتى تتم معهم صفقة البيع» (هوبكينز، ١٩٢٣). وبعبارة أخرى، عندما تكون بصدد كتابة أحد الإعلانات فعليك أن تتقمَّص شخصية البائع المتجوِّل.

هكذا طُويتْ صفحة أفكار سكوت، وصارتِ الغلبة لفكرة «الانتباه» طوال ستين عامًا، بل وزادت أهميةً مع ظهور الإعلانات التليفزيونية التجارية (باري وهاورد، ١٩٩٠). وبطبيعة الحال، ما إنْ أضْحَى الإعلان ظاهرةً وطنيةً في الولايات المتحدة حتى صار الأمر مسألة وقت قبل أن تَظهَر الثغرات في ذلك التفسير الأنيق الذي رسَّخه رجال المبيعات لآلية عمل الدعاية.

ظهرت أولى تلك الثغرات في عام ١٩٦٢، وذلك في مقال نشرتْه مجلة «جورنال أوف أدفرتيزنج». حيث ظهرتِ افتتاحية العدد لتُعلِن أن «[جون] مالوني يقدِّم أدلَّة مُدهِشة ضدَّ وجهة النظر التقليدية التي تقول بأن الإعلان لا بد أن يَحظَى بالتصديق قبل أن يتسنَّى له التأثير على مواقف أو سلوك المتلقِّي» (مالوني، ١٩٦٢). كان هذا في الواقع هو ما توصَّل إليه مالوني، الباحث في مؤسسة ليو بورنيت، وعزَّزه بالأدلة.

ويجدر بي هنا أن أوضِّح الفارق بين التوجهات والمعتقدات. تنشأ المعتقدات من معلوماتٍ قِيلت لنا عن المنتجات والخدمات، ومنها تنشأ الصفات التي نعزوها لتلك المنتجات والخدمات. وهكذا، فإنه قد ينشأ لدينا اعتقاد مثلًا عن طريق الإعلان بأن سيارة فيراري الرياضية يمكن أن تنطلق بسرعة ١٦٣ ميلًا في الساعة، أو أن مسحوق الغسيل «بولد» يغسل أكثر بياضًا من غيره.

تكمن الإشكالية هنا في أننا لا نشتري بدافع تلك المعتقدات؛ لأن المعتقدات لا تلبِّي احتياجاتنا، فنحن لا نشتري سيارة فيراري لأن سرعتها ١٦٣ ميلًا في الساعة، بل نشتريها لأننا بحاجة إلى سيارة مُثِيرة تكون مثار إعجاب الفتيات أو الجيران. ونحن لا نشتري المسحوق بولد لأنه يغسل أكثر بياضًا؛ بل نشتريه لأننا بحاجة إلى أن تَظهَر ملابسنا نظيفة، وتلك الأفكار الشخصية ذات الصلة بالرغبات والحاجات هي ما نسميه بالتوجهات. المهم هنا أن نعرف أن الإعلان لا يؤثر علينا عن طريق تغيير المعتقدات، بل يكمن تأثيره في قدرته على تغيير توجهاتنا.

فما قصده مالوني هو أن المعتقدات قد تغيِّر توجهات الناس، حتى لو كانوا لا يؤمنون بها، كلُّ ما عليك هو أن تفكِّر في تَبِعات ذلك. يبدو الرأي القائل بأن الإعلان يمكن أن يؤثر حتى من دون الحاجة إلى تصديقه رأيًا ساذجًا، ولكن إذا لم تكن فعالية رسالة الإعلان تتأثر بعدم تصديق الناس لها، فإن هذا يعني أن عنصر «الاقتناع» في نموذج (الانتباه، الاهتمام، الاقتناع، الاستجابة) لا معنى له، أليس كذلك؟ ومِن ثَمَّ فإن انتفاء «الاقتناع» يعني انتفاء النموذج وعدم صحته، وهذا يعني أيضًا أن الإعلان يمثل شيئًا أكبر من مجرد كونه «فنًّا من فنون البيع».

بعد عامين من مقال مالوني، قدَّم جاك هاسكينز أدلةً أكثر إثارة للجدل على قصور فكرة أن الإعلان فن من فنون البيع؛ حيث اكتشف هاسكينز، مدير الأبحاث في شركة فورد، أن الرسائل «الواقعية – العقلانية – المنطقية» كانت «أقلَّ» فعالية في تغيير التوجهات مقارنةً بالرسائل العاطفية أو غير الواقعية. كما وجد أيضًا أن «مقاييس التذكر وانطباع الإعلان في الذهن تبدو، في أحسن الأحوال، غير ذات صلة في تغيير التوجه والسلوك» (هاسكينز، ١٩٦٤). وبعبارة أخرى، فإن الرسائل العقلانية لا تكون من تلقاء نفسها على قدْر كبير من التأثير، ولا أهمية لتذكر تلك الرسالة الإعلانية من الأساس. هذا يشبه إلى حد كبير القول: «لا أهمية لما يقوله البائع، المهم هو مظهره.» وهذا، كما سنرى، أقرب كثيرًا إلى الحقيقة من أي رأي آخر في تلك الأيام.

إلا أن مالوني وهاسكينز لم يحقِّقا نجاحًا في تحدي النموذج الذي يؤمن بإثارة الانتباه، ولكن ما هي إلا ٣ أعوام حتى بدأت موجة هجوم أكثر جدية، وكانت هذه المرة من هربرت كروجمان، وهو عالم نفس آخر.

هربرت كروجمان

بدأ هربرت كروجمان مسيرته في مجال علم النفس في القوات الجوية الأمريكية، ثم أمضى فترةً أستاذًا في جامعات ييل وبرينستون وكولومبيا. وعلى عكس سكوت، عمل باحثًا متخصصًا في الإعلانات في وكالة تيد بيتس للدعاية والإعلان، وكذلك باحثًا تسويقيًّا لشركة ماربلان للأبحاث. وقد اكتسب كروجمان شهرته من خلال أبحاث الرأي العام، ومن المؤكد أن علاقته المباشرة بجمهور المستهلكين هي التي مكَّنتْه من أن يُصرِّح بتصريحه الأول الذي كان يُعَدُّ مفاجأة؛ ففي عام ١٩٦٥، ومن خلال مقال في دورية «بابليك أوبينيون كوارترلي»، شكَّك في فعالية وسائل الإعلام، واصفًا تأثير الإعلان التليفزيوني بأنه «محدود»، وأشار إلى أن «التليفزيون وسيط يَعِيبه محدودية التفاعل مقارنة بالوسائط المطبوعة» (كروجمان، ١٩٧١).

يمكنك أن تتخيل ردَّ فعْل قادة الإعلان في ماديسون سكوير على هذا الكلام، فتلك الجملة، التي تقترح أن التليفزيون وسيط قاصر مقارنةً بالمنافس اللدود: الصحافة والإعلان المطبوع، قد وقفت في وجوههم مثل مجنونٍ يحمل سكينًا حادًّا ويهدد بذبْح الدجاجة التي تبيض ذهبًا. ولكنَّ علماء النفس الآخَرين أيَّدوا كروجمان في أن التجاوب مع الإعلان التليفزيوني لم يكن على النحو الذي تتوقعه من التواصل المقنع التقليدي، فعندما طُرِح على المشاركين سؤالٌ حول تأثير الإعلان التليفزيوني، ذكروا (على غرار «فتاة» والتر ديل سكوت) أنهم «قلَّما شعروا أمامه بالتفاعل أو الاقتناع» (كروجمان، ١٩٦٥). علاوة على ذلك، فإن محتوى الإعلان التليفزيوني — لطبيعته الخاصة — يبدو تافهًا وسخيفًا ولا يرتقي إلى مستوى التواصل المقنع. يقول كروجمان:

أيعني هذا أنَّنا في حال أمدَّنا التليفزيون بما يكفي من المعلومات البسيطة عن المنتجات سنقتنع ونصدِّق؟ على العكس من ذلك، فهذا يُشير إلى أن الإقناع على هذا النحو … غير فاعل على الإطلاق، وأن مِن الخطأ أن ننظر إلى الأمر … وكأنه اختبار لتأثير الإعلان. (كروجمان، ١٩٦٥)

لكنَّ مقال كروجمان لم يُثِرْ ذلك القدْر من الاهتمام في أوساط مجتمع الإعلان؛ فهو في نهاية الأمر مجرد باحث تسويقي، ولكن بعد عامين صار كروجمان مدير قسم علاقات الرأي العام في شركة جنرال إلكتريك، وهي أكبر الشركات المُعلِنة في الولايات المتحدة، وهذا يعني أنه أضحى الآن يعمل لحساب عميل، وهو ما يعني أن تؤخذ أفكاره بجدية أكثر.

كانت خطوة كروجمان المُقبِلة هي الشروع في تنفيذ سلسلة من التجارب المعملية على آليات حواس «النظر والتفكير والانتباه والاسترخاء». وقام بتنفيذ عمله الأوَّلي باستخدام تقنية تسجيل حركة العين لقياس مقدار تحديق العين في كل إعلان، والفكرة هي أنه كلما زادت مدة تحديق العين زاد مقدار التعلُّم النَّشِط. ولكنه سرعان ما واجه مفارقة؛ فرغم أنه كان من الصحيح — على أساس كل حالة من حالات المشاركين — أن فترة التحديق الأكثر تعني قدْرَ تذكُّرٍ أكبر لمحتوى الإعلان، فقد ظهر على مستوى «العيِّنة» ككل أن الإعلانات التي كان مقدار التحديق فيها «أقل» هي التي تذكَّرها المشاركون بصورة أفضل (كروجمان، ١٩٦٨).

وحتى يَعثُر على تفسير لهذه المفارقة، لجأ كروجمان إلى كتابات ويليام جيمس، أستاذ علم النفس الشهير في جامعة هارفارد (جيمس، ١٨٩٠)، وقد عرَّف جيمس نوعين من الانتباه: الانتباه الطوعي وغير الطوعي، وأكَّد أن الانتباه الطوعي لا يمكن أن يستمر لأكثر من بضع ثوانٍ في كل مرة، وأن مستويات الانتباه العالية التي تستمر لمدة أطول من ذلك كانت «تتحول إلى تكرار جهود متعاقبة تستحضر الموضوع إلى الذهن مرة أخرى». واقترحت تجارب كروجمان أن المتلقِّي قد يستوعب بالفعل أشياء أكثر من الإعلانات التي يشاهدها وهو في وَضْع استرخاءٍ وبعقلٍ خاملٍ (انتباه غير طوعي) مقارنةً بتلك التي تستهدف استثارة حواسه والمشاهدة بعقل حاضر نَشِط (انتباه طوعي متكرِّر). وكان هذا يتماشَى مع نتائج تجربةٍ أجراها فستينجر وماكوبي عام ١٩٦٤.

فقد وجد فستينجر وماكوبي أنه إذا تم تشغيل رسالة الإعلان التليفزيوني نفسها على شريط صوتي يصاحب مقطع فيديو غير ذي صلة بتلك الرسالة فإن الطلاب — موضوع التجربة — يحفظونها بصورة أفضل ممَّا إذا تم تشغيل الشريط مع مقطع فيديو له صلة بالإعلان (فستينجر وماكوبي، ١٩٦٤).

يقول كروجمان: «يبدو أن الإلهاء الناجِم عن مشاهدة شيء لا علاقة له بالرسالة الصوتية قد قلَّل من مقاومة العقل لمضمون الرسالة» (كروجمان، ١٩٦٥). ولمزيد من البحث في هذا الموضوع، قام كروجمان بتنفيذ تجربة في عام ١٩٦٩ بالتعاون مع المختبر العصبي النفسي في نيويورك. وكان الهدف هو البحث في الاختلاف بين الطريقة التي يتعامل المخ بها مع الإعلانات التليفزيونية والإعلانات الصحفية. وممَّا يكشف اتجاهات صناعة الإعلان في ذلك الوقت أن هذه لم تكن سوى المقالة الثانية من مقالات كروجمان التي وجدت طريقها للنشر في دورية بحثية إعلانية (كروجمان، ١٩٧١).

كان ما فعله كروجمان بالأساس هو إخضاع العينة لجهاز رسم موجات المخ؛ ومن ثَمَّ قياس نوع الموجات المنبعثة أثناء قراءة مجلة وتلك التي تَظهَر أثناء مشاهدة الإعلانات التليفزيونية. وقد قسَّم موجات المخ إلى ثلاث فئات: موجات ألفا، التي تُشِير إلى الاسترخاء، وموجات بيتا «السريعة»، التي تُشير إلى اليقظة والنشاط والاستثارة، وموجات دلتا وثيتا «البطيئة»، التي تشير إلى المَلَل. وافترض كروجمان أن الاختلاف بين انبعاثات موجات المخ «البطيئة» و«السريعة» يبين مستوى اهتمام المشارك بالوسيط الإعلامي الذي تعرَّض له؛ فكلما كانت الموجات أسرع، كان التفاعل أكثر نشاطًا ويقظة، والعكس، كلما كانت الموجات أشد بُطْئًا كان التفاعل سلبيًّا بلا انتباه.

كانت العينة المستخدمة في التجربة سكرتيرة تبلغ من العمر ٢٣ عامًا، وبعد السماح لها بقراءة بعض المجلات، عرض كروجمان عليها ثلاثة إعلانات تليفزيونية، وهو يقوم طوال الوقت بقياس انبعاثات موجات المخ. وجد تغيُّرًا طفيفًا في موجات ألفا؛ ممَّا يُشير إلى أنها كانت مسترخية بشكل عام طوال فترة الاختبار، إلا أنه وجد فارقًا كبيرًا بين الموجات البطيئة والسريعة التي تنبعث أثناء التعرض للوسيطين المختلفين؛ فبينما كانت تقرأ المجلة، كانت النسبة بين الموجات السريعة والبطيئة تبلغ نحو ٤ : ١؛ مما يدل على أنها كانت متنبِّهة ومهتمَّة. ولكن هذه النسبة تحولت لتكون متساوية تقريبًا خلال مشاهدة إعلانات التليفزيون؛ مما يشير إلى أن مستوى اليقظة لديها كان أقلَّ بكثير أثناء قراءتها المجلات. وكانت هذه التجربة تدعيمًا ممتازًا لرأيه بأن تفاعل المتلقِّي مع المحتوى التليفزيوني هو في الواقع أقلُّ بكثير من تفاعله مع الوسائط المطبوعة.

غير أن تجربة كروجمان حفلت بالعديد من العيوب المنهجية الصارخة؛ فأولًا: لم يُجرِ كروجمان التجربة إلا على شخص واحد. وثانيًا: أن جهاز رسم موجات المخ لا يقيس سوى نشاط المنطقة الخلفية لقشرة المخ؛ لذلك لن يتم تسجيل أي نشاط عصبي يَجرِي في منطقةٍ أعمق في المخ. وثالثًا: هناك عدم دقة في سياق قياس موجات المخ؛ حيث إن قياس تأثير الإعلانات المطبوعة قد شمل قراءة المجلة كلها، وليس فقط ما بها من إعلانات، بينما تم عرض إعلانات التليفزيون بمعزل عن أي برامج تليفزيونية. ورابعًا: كانت العينة تجلس في مختبر.

وكما قلتُ سابقًا، لم يكن المعلنون يشعرون بكثير ارتياح لأفكار كروجمان؛ لذلك لم يقتنعوا بكثير مما استنتجه في هذه التجربة أيضًا. ولكنني قمتُ بنفسي بإجراء تجربة كروجمان مستعينًا بعدد من المشاركين، وبمقياس أكثر دقة لمستوى الانتباه، وفي ظل سياق متوازن وأكثر تمثيلًا، وفي بيئة أكثر راحة، ولكن النتائج جاءت متطابقة تمامًا مع تجربة كروجمان (هيث، ٢٠٠٩)؛ أي إن تفاعل المتلقِّي مع المحتوى التليفزيوني هو في الواقع أقلُّ بكثير مِن تفاعله مع الوسائط المطبوعة.

كان تأكيد كروجمان تفنيدًا قاطعًا لقناعات المعلنين في ذلك العصر، والذي مفاده أن مشاهدة التليفزيون نشاط يستلزم قدْرًا كبيرًا من الانتباه، أعلى بالتأكيد من قراءة إعلان مطبوع؛ حيث كانوا يَرَوْن أن مشاهدة التليفزيون تحتاج إلى حاستين — النظر والسمع — وليس حاسة واحدة فقط؛ ومِن ثَمَّ تتضاعف عناصر جذْب انتباه المشاهد. ولكنَّ لنتائج كروجمان منطقَهَا؛ فمن السهل نسبيًّا أن تُولِي اهتمامًا عندما تقرأ نصًّا، لأنك تتحكم في زمن تنفيذ هذه المهمة — يمكنك أن تمسح الصفحة بناظريك — وأن تُولِي المزيد من الانتباه إلى الأجزاء التي تهتم بها، وانتباهًا أقلَّ إلى الأجزاء التي لا تهمك، بينما يعتمد تلقين المعلومات في التليفزيون كليًّا على الطريقة التي تم تنفيذ الإعلان بها، فلا سيطرة لك عليه، وليس لديك (إلا إذا كنتَ قد شاهدتَ الإعلان من قبلُ) أيُّ فكرة حقيقية حول مدى استحواذه على اهتمامك. وهكذا يصبح التليفزيون تجربة شاملة؛ فلا يمكنك أن «تمسح» البيانات بشكل انتقائي؛ ومِن ثَمَّ من السهل جدًّا علينا أن نعتقد — كما تنبَّأ جيمس في عام ١٨٩٠ — أن المُشاهِد ينزلق إلى حالة خاملة متدنية الانتباه تجاه ما يشاهده.

لم تكن حقيقة أن التليفزيون كان وسيطًا يعاني من محدودية التفاعل هي الاكتشاف الدراماتيكي الوحيد لتجربة كروجمان؛ فقد كانت النظرية السائدة في تلك الأيام هي أن الاهتمام بالإعلانات التليفزيونية يزداد كلما ازدادت مرَّات عرضه؛ حيث إن المُشاهِد قد لا يُبدِي انتباهًا كبيرًا للعرض الأول، ولكن في كل مرة أخرى تزداد سهولة تفاعل المشاهد مع الإعلان والانتباه إليه. ولأجل اختبار هذه الفرضية، قام كروجمان بعرض ثلاثة إعلانات على المشاركين ثلاث مرات، ووجد في كل حالة أن نشاط موجة المخ «يتضاءل» مع كل مرة عرض؛ أي إن انتباه العينة «يقل»، وذلك على العكس من الافتراض القائل بأن الانتباه «يزيد» مع كل تكرار للعرض. ليس هذا وحسب، وإنما تبدو هذه النتيجة صحيحة بغض النظر عن مدى أهمية الإعلان للمتلقي. ومرة أخرى، تم تكرار تجربة كروجمان والتحقق من صحة النتائج (هوتون وآخرون، ٢٠٠٦).

وهكذا نرى أن كروجمان قد توصَّل إلى أن الإعلان التليفزيوني لا يحظى بالانتباه، وأن الاهتمام به يتضاءل مع تكرار المشاهدة. ومن المثير للاهتمام أنه لم يعتبر ذلك قصورًا في الإعلانات التليفزيونية ولكن اعتبره موطن قوة محتملًا؛ فقد خلص إلى أن التعلم يحدث، ولكنه ليس تعلُّمًا بالمعنى التقليدي للكلمة.

يتبين من البيانات الأولية التي استخلصناها من جهاز رسم موجات المخ أن التليفزيون ليس كما كنَّا نعتقد وسيلة تواصل تقليدية؛ حيث إن العينة التي خضعت للتجربة كانت تبذل جهدًا حتى تتعلم شيئًا من الإعلان المطبوع، بينما لم تقم بأي جهد مع التليفزيون، فهي مع التليفزيون كانت أقرب إلى مَن يجلس إلى أريكة في متنزَّهٍ ويتأمَّل المناظر من حوله. ومع ذلك يبقى التليفزيون أداة تواصل.

ويمكننا القول عنه إنه وسيطُ تواصُلٍ ينقُل — من دون جهد يُذكَر — إلى المخ كَمًّا هائلًا من المعلومات التي لا يُعالجها أثناء العرض، ولكن الكثير منها يبقى متاحًا لاسترجاع المخ له لاحقًا. (كروجمان، ١٩٧١)

كما أنه لم يرَ في نتائجه ما يُشير إلى أن نوعية التعليم «المختلفة» هذه والمستخدمة في التواصل التليفزيوني أقل فعالية من مثيلتها في الصحافة.

وبالنسبة للسؤال «أيهما أفضل؟» فإن ما يعوقنا هو اعتيادنا الكبير على أنواع التعلُّم النَّشِط؛ حيث إن فهمنا لآلية التعلُّم السلبي لا يزال ناقصًا، ولسنا متأكدين بعدُ من كيفية قياس فعاليته بطريقة عادلة.

وعلى الرغم من التنبيه إلى الحاجة إلى مزيد من الدراسة لموجات المخ، فإنه ينبغي التأكيد على أنه لا يوجد أي دليل أو استدلال يقطع بأن التليفزيون وسيط أفضل من العمل المطبوع أو العكس، أو أن موجات المخ الأسرع «أفضل» من تلك البطيئة أو العكس. وعوضًا عن ذلك، فإن لدينا حاجة كبيرة جدًّا لفهم الاختلافات بدرجة أفضل، وربما فهم دلالة موجات المخ البطيئة على وجه الخصوص. (كروجمان، ١٩٧١)

كان كروجمان متخصصًا في علم النفس وباحثًا في المقام الأول، وربما بسبب هذا لم يَسْعَ قَطُّ لتصميم نموذج من شأنه أن يساعد المعلنين لاستغلال ما سمَّاه التفاعل المتدنِّي، ولكنه أعطى الكثير من الأدلة على ما ينبغي أن يستند إليه هذا النموذج. فبدايةً، استبعد فكرة أن يستند إلى مفاهيم كلامية بحتة، وقال بأن النموذج التقليدي «هو ذاك اللفظي الحَذِر «العقلاني» أو المنطقي. أما مستقبل نظرية التفاعل المتدنِّي فيكمن في الجانب غير اللفظي» (كروجمان، ١٩٧٧). كما فهم أيضًا أهمية تكرار العرض على المتلقِّي: «تؤكِّد نظرية التفاعل المتدنِّي على أنَّ لتكرار العرض تأثيرًا ليس باديًا للعيان فورًا ولا يَظهَر إلا عند تحفيز السلوك» (كروجمان، ١٩٧٧). وأخيرًا، فهم الأهمية الكبيرة للتمييز بين ما سمَّاه بالتعرُّض وبين الإدراك. يقول:

قد يكون من المفيد أن ننظر أولًا في مفهومين مرتبطين، وهما: النظر والرؤية؛ حيث يسمح هذان المتغيران بتصنيف رباعي (أي إن بوسع المرء أن ينظر وأن يرى، وأن ينظر ولكن لا يرى، وألَّا ينظر أو يَرى، وربما أن يرى من دون أن ينظر).

تنطوي الرؤية من دون النظر على ظاهرتَيِ الرؤية العابرة والرؤية الواعية، فالنظر إلى الشيء لا يتحقق إلا في إطار قوس من ثلاث درجات؛ حيث لا يتوجب أن تكون واعيًا للشيء الذي تراه على نحو عابرٍ، فأنت حينئذٍ لا تعرف أنك قد رأيتَ، وقد تُنكِر في وقتٍ لاحقٍ أنك قد رأيتَ. وكثير ممَّا يسمِّيه الناس بالإدراك اللاواعي هو مجرد رؤية عابرة؛ أي رؤية من دون نظر، ومن دون أن ندرك أن الرؤية قد حدثت. (كروجمان، ١٩٧٧)

أجد هنا أن مقدرة كروجمان غير عادية في تصوُّر هذه الأفكار التي سبق بها عصره، وكما سنرى في الفصل السادس، فإن فكرتَهُ التي مفادها أنَّ من الممكن التأثير فينا بالإعلان الذي يُعرَض علينا بشكل عابر ومن دون معالجة تفاعلية معه؛ لم تَنَلْ ما تستحقه من الاعتراف والتطبيق إلا بعد ٢٠ عامًا، بل إن هذه الرؤية المستقبلية تصل إلى ما هو أبعد من عالم الإعلان؛ مجال صُنْع القرار. ففي بحثه الذي نشره لأول مرة عام ١٩٦٥، اعتبر أن عدم وجود أدلة على أن الإعلان يغيِّر التوجهات هو نقطة الضعف الرئيسية والوحيدة عند محاولة إقناع الناس بفعالية هذا الوسيط:

الأثر الاقتصادي للإعلانات التليفزيونية كبير وموثَّق، ولكنَّ الافتقار إلى تسجيل تاريخي للحالات التي تربط الإعلان بالمواقف المختلفة من المبيعات هو الذي يقف حاجزًا أمام الباحثين ويمنعهم من استنتاج أن الاستخدام التجاري لهذا الوسيط يحقِّق نجاحًا. ونحن نواجه وضعًا غريبًا يتمثَّل في معرفتِنَا أن الإعلان له تأثير وعجزِنَا في ذات الوقت عن شرح السبب. (كروجمان ١٩٦٥)

لاحقًا يطرح كروجمان ما وصفه المحرر في مقدمة المقال ﺑ «الطرح اللافت»:

بما أن المعلومات البسيطة تُكتَسَب بالتكرار وتُنسَى باستمرار ثم يُكتَسَب المزيد منها بالتكرار، إذن من المحتمل أن يحدث شيئان: (١) «فرط تعلُّم» يعمل على نقل بعض المعلومات إلى نُظُم ذاكرة طويلة الأمد، و(٢) السماح بتعديلات كبيرة في هيكل إدراكنا اللاواعي لعلامة تجارية أو منتج لا تصل إلى حد الإقناع أو تغيير التوجهات. (كروجمان، ١٩٦٥)

فما يطرحه في واقع الأمر هو أن الإعلان يكون مؤثرًا من خلال استغلال نمطٍ من أنماط «التأثير على مستوى اللاوعي». وهو يوجِز فيما يلي هذا الطرح:

لقد حاولتُ أن أقول إن الجمهور يُخضِع نفسه للتأثير التجاري المتكرر للتليفزيون، وإنه يُغيِّر وبسهولةٍ من أساليب إدراكه للمنتجات والعلامات التجارية ومن سلوكه الشرائي من دون التفكير كثيرًا في هذا الأمر أثناء مشاهدة إعلانات التليفزيون أو في أي وقت سابق على قرار الشراء، ومن دون أن يُغيِّر من اتجاهاته التي تم التعبير عنها لفظيًّا حتى ذلك الحين. (كروجمان، ١٩٦٥)

وكما سبق أن ذكرتُ، فقد كان من السهل على صناعة الإعلان أن تتجاهل أفكار كروجمان التي سبقتْ عصرها، خاصة وأنها نُشرتْ في دورية «بابليك أوبينيون كوارترلي» التي لا يعرفها سوى المتخصصين. غير أن باحثًا آخَر في بريطانيا كان يبحث في المسألة ذاتها، وتوصَّل إلى أدلة قاطعة أثبتت أوجه القصور في نموذج الإقناع، وكان هذا الشخص هو أندرو إرينبرج.

أندرو إرينبرج

تدرَّب أندرو إرينبرج في مجال الإحصاء الرياضي وعمل على تطوير لوحة بياناتٍ للمستهلك، تقيِّم لوحة البيانات ما يطلب الناس شراءه وتسجِّل ما اشتراه الناس بالفعل. وجد إرينبرج أنَّ من الصعب التوفيق بين هذين المقياسين، على الرغم من تشابُهِهما، في عالمٍ مثالي.

في ذلك الوقت، لم يكن إرينبرج يهتم كثيرًا بصناعة الإعلان وادَّعى أنه لم يأخذ المجال بجدِّيَّة قبل عام ١٩٧٠ عندما تم تعيينه في كلية لندن للأعمال كأستاذ في مجال التسويق والتواصل، على الرغم من عدم اطِّلاعه على أيٍّ من الموضوعين حسبما كان يقول (إرينبرج، ٢٠٠٤). إلا أنه في عام ١٩٧٤ نشر بحثًا علميًّا تمكن من خلاله من تحريك المياه الراكدة في مجال الإعلان، وإن لم يُحدث انقلابًا.

تَبِع إرينبرج كروجمان في الإيمان بأن صناعة الإعلانات قادرة على الاستمرار في نشاطها دون تغيير المواقف أو السلوكيات. رأى إرينبرج أنَّ للمستهلك خبرةً كبيرةً، وفي معظم الحالات يتمتَّع بمعرفة واسعة وتوجُّهات راسخة بخصوص كافة المنتجات التي يتم تداولها. تحدى إرينبرج العقيدة التقليدية القائمة على فكرة قدرة صناعة الإعلانات على تغيير المواقف والسلوكيات وإقناع العميل، مؤكدًا على أن «الدور المحوري لصناعة الإعلانات يكمن في تعزيز الشعور بالرضا عن المنتجات المتداولة» (إرينبرج، ١٩٧٤).

في الوقت نفسه الذي نُشر فيه بحث إرينبرج العلمي، ظلت نماذج التسلسل الهرمي للمؤثرات القائمة على الإقناع مثل نموذج (الانتباه، الاهتمام، الرغبة، الاستجابة) تمارِس تأثيرها. حدَّد إرينبرج نقاط الضعف الأربع في تلك النماذج كالتالي:
  • ندرة الأدلة التجريبية على حدوث زيادة في المبيعات نتيجةً للإعلانات.

  • صمود العلامات التجارية الصغيرة والمتوسطة في وجه حملات الإعلانات الهائلة التي تُموِّلها العلامات التجارية الكبيرة.

  • حقيقة أن العلامات التجارية تصمد حتى مع توقف تمويل الإعلانات.

  • معدل الفشل الكارثي للمنتجات الجديدة.

توصَّل إرينبرج إلى تلك النتائج مستخدمًا لوحة البيانات لإثبات أن معظم الأسواق تتمتع بالقليل من المستهلكين الأوفياء بنسبة ١٠٠٪ وأن معظم المستهلكين يشترون أكثر من علامة تجارية واحدة. أوضح إرينبرج أن مستخدمي العلامات التجارية لديهم توجهات تكون أقوى على نحو دائم مقارنة بغيرهم، لا سيما التوجهات التقييمية، ولكنَّه لم يتمكن من الحصول على تفسير منطقي لتغيُّر تلك التوجهات. دفعه هذا الأمر إلى التشكيك بالفرضية المحورية لنماذج التسلسل الهرمي للمؤثرات بأن تغيُّر التوجهات يسبق ويحفِّز تغيُّر السلوك. وعلى الرغم من تقبُّل إرينبرج لفكرة أن متتابعة «الوعي التوجهات السلوك» قد ولَّدت إحساسًا بديهيًّا، فإنه وجد الكثير من الأمثلة على هذه المتتابعة، حيث أدى السلوك — وهو شراء المنتج نفسه — إلى توعية بالمعلومات التي يتعرض لها الفرد عادةً؛ مما يؤدي في النهاية إلى تغيُّر التوجهات (إرينبرج، ١٩٧٤). كان هذا الأمر بمثابة تحدٍّ للعُرْف السائد والقائم على أن المستهلكين يقتنعون عادةً بالإعلانات التي تغيِّر آراءهم وولاءهم إزاء علامة تجارية معينة.

وكبديل لنموذج (الانتباه، الاهتمام، الرغبة، الاستجابة)، طوَّر إرينبرج نظريةً جديدةً أطلق عليها اسم (الوعي – التجربة – التعزيز). ينبغي أن نلاحظ أنه كان يشير هنا إلى الوعي بالعلامة التجارية وليس الوعي بالإعلان. حصل هذا النموذج على شهرة جيدة بين وكالات الإعلان في وقت كان ينظر فيه الكثيرون إلى تأثير الإعلان على المبيعات على أنه أمر يصعب تمييزه حتى بعد حدوثه؛ ومن ثَمَّ يكاد يكون مستحيلًا التنبؤ به. أشار نموذج إرينبرج إلى أن صناعة الإعلان قد تكون قادرة على صناعة، أو إيقاظ، أو تعزيز الوعي بالعلامة التجارية، وقد تكون أحد العوامل التي تسهل عملية الشراء التجريبي. توقَّع إرينبرج أيضًا دورًا جوهريًّا تلعبه صناعة الإعلان في تحويل المستهلكين المجرِّبين إلى عملاء راضين ودائمين. ورأى أيضًا أن الإعلان المتكرر للعلامات التجارية القوية دفاعيٌّ في الأساس، ويلعب دورًا في تعزيز عادات الشراء الموجودة بالفعل لدى العملاء.

في مقال لاحق، أدخل برنارد وإرينبرج (١٩٩٧) تحسيناتٍ على نموذج (الوعي – التجربة – التعزيز) ليتناسب مع ما أطلقوا عليه اسم «المستهلكون ذوو التوجهات المتعددة» (المستهلكون الذين يشترون بانتظام أكثر من علامة تجارية واحدة)، وهنا يكمن دور صناعة الإعلان في «دفع» هؤلاء المستهلكين إلى مزيد من الإقبال على شراء علامة تجارية معينة.

وعلى الرغم من ذلك، لم يحظَ ذلك النموذج بتحمُّس كبير من جانب عموم المسوِّقين. تحدَّث أحد معاصري إرينبرج — وهو جون فيليب جونز — عن شعبية نماذج الإقناع في الولايات المتحدة الأمريكية، مسلطًا الضوء على الإقناع على النحو التالي:

الإقناع هو الرؤية التقليدية للإعلان، ويُنظر دومًا إلى الإعلان في الولايات المتحدة الأمريكية باعتباره القوة الدافعة للطلب، ليست القادرة فقط على زيادة مبيعات العلامات التجارية، بل وفئاتٍ كاملةٍ من المنتجات أيضًا. (جونز، ١٩٩٠)

لم يكن جونز يتقبَّل فكرة عدم قدْرة الإعلان على تغيير التوجُّهات؛ إذ يقول: «تزيد صناعة الإعلان الإقناعي من معرفة الناس وتُغيِّر توجهاتهم، علاوةً على قدْرتها على إقناع الناس الذين لم يشتروا من قبلُ منتجًا ما بشرائه مرةً تلو الأخرى» (جونز ١٩٩٠).

من الظاهر لدَيْنا أن نظرة جونز للطريقة التي بلغتْ بها صناعة الإعلان ذلك قد تغيَّرت قليلًا عن نظرة الباحثين التحفيزيين إبَّان ستينيات القرن العشرين. وصف جونز صناعة الإعلان باستخدام القدْرة الإبداعية في «دسِّ» المزيد من المعلومات في عقول «المستهلِكين البسطاء والحَمْقَى عن طريق استغلال الأساليب النفسية التي تحطِّم قدرات المستهلكين الفكرية، وفي بعض الأحيان لا تتمكن هذه الأساليب من اقتحام عقول المستهلكين» (جونز، ١٩٩٠)، وهو ما يتناقض تمامًا مع نظرة إرينبرج للمستهلك:

من الطبيعي ألَّا يكون المستهلِكون جاهلين بالمنتجات التي يشترونها كثيرًا، فهم يتمتعون بخبرة كبيرة تتعلق باستخدام تلك المنتجات، ومِن ثَمَّ يهمُّون بشرائها على الفور. وكما أوضحنا سابقًا، يتمتع المستهلكون بتجربة مباشرة تتعلق باستخدام أكثر من علامة تجارية واحدة علاوةً على تجارب غير مباشرة نقلوها عن آخرين. تُعَدُّ ربَّات البيوت هن الأكثر خبرة في شراء المنتجات الاعتيادية مقارنةً بمستهلكي المنتجات الصناعية الذين يشترون محطة طاقة ذرية على سبيل المثال (إرينبرج، ١٩٧٤).

وبطبيعة الحال كان جوهر الخلاف بين جونز وإرينبرج يتمثل في تغيير التوجهات، فكان جونز يرى أن صناعة الإعلانات قائمة أساسًا على تغيير التوجهات، وهو ما يؤدي إلى تغيير السلوك. ولكن إرينبرج كان يرفض، كما أوضحتُ سابقًا، الفكرة القائلة بأن تغيير التوجهات لا بد أن يسبق عملية الشراء:

يبدو أن هناك اتفاقًا على الفرضية القائلة بأن تحسين توجهات غير المستفيدين من علامة تجارية معينة يجب أن يجعلهم يُقبِلون على استخدامها أو على الأقل يكونون أكثر ميلًا لاستخدامها. ولكن هذه الفرضية تعني أن توجهات الناس أو آراءهم بخصوص علامة تجارية معينة قابلة للتغيير، وأن هذه التوجهات يجب أن تسبق التغيير المرغوب في السلوك؛ ومن ثَمَّ قلَّما توجد — أو قد لا توجد مطلقًا — أدلة تدعم تلك الفرضيات. (إرينبرج، ١٩٧٤)

يجدر القول هنا بأن صناعة الإعلان لا تقتصر فقط على أفكار كروجمان وإرينبرج؛ ففي عام ١٩٩٩، ظهر بحثٌ علميٌّ يدرس آلية عمل الإعلان، وتمَّ نشره في أكبر مجلات الإعلانات على مستوى العالم، وقد ركَّز هذا البحث العلمي على «النظريات التي تتبنَّى وجهات نظر معلوماتية فقط»، وأكَّد البحث أيضًا أنه «على الرغم من المحتوى والأسلوب المتَّبَعَين، فإن معظم رسائل الإعلانات تتشارك جميعًا في هدفٍ واحد، وهو إقناع المستهلِكين المستهدَفين بشراء منتج، أو خدمة، أو فكرة معينة» (مايرز ليفي وماليفيا ١٩٩٩).

لتفسير مدى ضيق أفق وجهات النظر المعلوماتية التي تقوم في الأساس على الإقناع، يرجى الاطِّلاع على دراسة حالة مستقاة من بحثٍ علميٍّ قمتُ به في عام ٢٠٠٨ مع بول فلدويك، وانتهى بالحصول على جائزة. تُركِّز تلك الدراسة على علامة تجارية متخصصة في الشَّعرِية سريعة التجهيز (النودلز).

دراسة حالة: تلما نودلز

في عام ١٩٩٩، قرَّرت شركة اسمها بست فودز طرح منتج غذائي خفيف يستهدف فئة المراهقين في إسرائيل، وسمَّتْه «تلما نودلز». وابتكرتْ وكالة الإعلان التي اتفقت الشركة معها فكرةَ إعلان يصوِّر أغنية من أغاني البوب ذات كلمات لا معنى لها، ويصاحب الأغنية أحيانًا سلسلة من المشاهد السريالية الغريبة، في كل مشهد من تلك المشاهد يَظهَر شخص يتناول المنتج، ولكن لأن كلمات الأغنية بلا معنًى فلا يمكن القول بأن الإعلان يحتوي على ما يمكن اعتباره رسالة مقنعة بشأن المنتج.

وقد أُجرِيَ بحث حول هذا الإعلان بين المراهقين قبل أن يتم عرضه، وكانت مجموعة الأسئلة المطروحة هي تلك الشائعة في ذاك الوقت؛ من قَبِيل: «هل يزوِّدك هذا الإعلان بمعلومات كافية حول المنتج؟» و«هل تعتقد أن المُشاهِد سيجد هذا الإعلان سهل الفهم؟» وعلى أساس هذه الأسئلة، كان يتم وضع درجات لكلٍّ من المواصفات التالية: «سهولة الفهم»، و«قابلية التصديق»، و«الملاءمة»، و«العلامة التجارية»، و«الإقناع». وحيث إن الإعلان ككل غير مفهوم، فقد كانت النتائج المسجَّلة لكل هذه المواصفات سيئة للغاية، ولم يكن هذا مستغربًا. وبالإضافة إلى ذلك، أظهر البحث أن الأغنية لم تلقَ قبولًا من عدد كبير من المشاركين وتنتقص من قيمة المنتج؛ فاقترحت وكالة الأبحاث ألَّا تتم الاستعانة بهذا الإعلان، واقترحت أنه «ربما يكون من الأجدى الاستعانةُ بأسلوب أكثر بساطة يركز بوضوح على اسم العلامة التجارية وفوائد المنتج» (هيث وفلدويك، ٢٠٠٨).

يصف هيث وفلدويك لنا ما جرى عقب ذلك:

الغريب في هذه الحالة لم يكن يتمثَّل في أسلوب البحث، ولكن كان يتمثَّل في أن المُعلِن قرَّر — لأسبابٍ تتعلق بالتوقيت — أن يُذِيع الإعلان، وكانت النتائج استثنائية؛ فقد أصبح هذا الإعلان الأكثر شعبية بين المراهقين؛ حيث أبدى ٩٣٪ منهم إعجابهم بالإعلان، لا سيما الأغنية. والأهم من ذلك، أن العلامة التجارية لهذا المنتج اكتسبت حصة كبيرة من السوق. (هيث وفلدويك، ٢٠٠٨)

هكذا نرى أن لدينا إعلانًا لاقَى شعبية استثنائية، بَيْدَ أن الفارق هو أن إعلان تلما لا يتضمن أي رسالة تتعلَّق بالحصول على تأمين بأقساط رخيصة على السيارة؛ لا توجد رسالة على الإطلاق، لأن الإعلان يعرض لأغنية كلامها بلا معنًى البتة. ويُعَدُّ هذا مثالًا ممتازًا على نموذج كروجمان للإعلان التليفزيوني «التافه والسخيف»، ولكن على الرغم من عدم وجود رسالة إعلانية، فإنه حوَّل المنتج إلى قصة نجاح حقيقية.

أهمية دراسة الحالة الخاصة بتلما هي أنها تسلِّط الضوء على واحدة من الانشقاقات الكبيرة بين وكالات الإعلان ووجهات التسويق؛ حيث ترفض وكالات الإعلان تمامًا فكرة كروجمان القائلة بأن الناس لا تولي اهتمامًا لإعلانات التليفزيون؛ لأن الانتباه المتدنِّي يعني أن يذهب عملهم الرائع سُدًى من دون أن يتذكره أحد. وهكذا يَجِدون في إعلان مثل إعلان تلما، وما حقَّقه من شهرة وإعجاب، انتصارًا لإبداعهم. بينما ترفض شركات التسويق فكرة إرينبرج القائلة بأن الإعلان لا يُغيِّر من توجهات المتلقِّي؛ لأن عدم تغيير التوجه يعني انتفاء وجود ما يمكن قياسه وانتفاء أي دليل على أن الإعلان قد حقَّق أي شيء للعلامة التجارية، وهكذا يعتبرون إعلان تلما، الذي لا يحوي أي رسالة، مَضيَعةً للمال.

ومع هذا فقد حقَّق النجاح، وكان طرح المنتج الجديد نموذجًا يُحتَذَى به، وكان بوسْع الوكالة الإعلانية أن تستغلَّ هذه الحالة لتدَّعي أن التذكُّر هو الشيء الأكثر أهمية، وأنْ لا أهمية لتغيير التوجُّه. ويمكنك أن تتبين الآن سبب شهرة نموذج إرينبرج (الوعي – التجربة – التعزيز) لدى وكالات الإعلان؛ فهو يعني أن بوسعهم أن يتوقَّفوا عن القلق بشأن توصيل الرسالة، وأن يركِّزوا أكثر على الفكرة الإبداعية التي تصير حديث الناس.

لكنَّ المستهلكين ليسوا مجموعات من السُّذَّج، وهذا ما أشار إليه إرينبرج وهو مُحِقٌّ في ذلك، وأنا على يقين مِن أن المستهلكين الإسرائيليين لم يتحدَّثوا بعضهم إلى بعض عن الإعلان قائلين: «هل شاهدتم إعلان تلما بالأمس؟ إنه هراء؛ ومن ثَمَّ فإنني أفكر في أن أُجرِّب هذا المنتج»، وهذا لأننا في العادة لا نتحدث عن الإعلانات على الإطلاق في محادثاتنا اليومية. وكان كروجمان محقًّا في رأيه بأننا لا نُولِي الكثير من الانتباه للإعلان التليفزيوني، والحقيقة أننا لا نُبدِي الكثير من الانتباه لأي إعلان مهما كان نوعه، ويتضمن الفصل التالي تفسيرًا لهذا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤