الفصل الرابع

مجاورة اليونان

لم تكن اليونان غير واحد من جيران كثر مزعجين للمقدونيين، لكن الإغريق كان يمثلون مشكلات من نوع خاص، أبرزها طبيعتهم المتعددة؛ إذ اتخذت المجتمعات المحلية الصغيرة منذ العصر العتيق طابعَ الدول القومية المستقلة ذاتيًّا. وفي كل واحد من هذه المجتمعات المحلية، التي تُسمَّى «بوليس» أو الدولة-المدينة، كانت الشواغل المشتركة تتغلَّب على المصالح الخاصة. كانت الآصرة بين الدولة-المدينة وأفرادها قويةً؛ إذ كانت حاجات هؤلاء الأفراد ومصالحهم تنبع من العلاقة التي تجمعهم برقعة دولتهم الضيقة وتجمع بعضهم ببعض.

كان هدفهم الدافع جعْلَ الدولة-المدينة مكتفيةً ذاتيًّا، وهي مهمة صعبة في اليونان بطبيعتها الجبلية؛ ومن ثَمَّ كان اجتياح أرض الدول-المدن المجاورة سبيلًا طبيعيًّا إلى ذلك. وقد وُضِعت مؤخرًا قائمة تعدد ١٠٣٥ دولة-مدينة تنافست فيما بينها على مزيد من الأرض والنفوذ. ورأينا أن مقدونيا كانت تملك أرضًا أحسن وموارد أوفر مما كانت تجود به اليونان، ومن ثَمَّ كان متوقَّعًا من الدول الإغريقية، وخصوصًا الشمالية، أن تقوم بمغامرات عبر نهر هالياكمون لتوسيع قاعدتها.

لكن الإغريق كانوا يضغطون على مقدونيا من اتجاهات أخرى أيضًا؛ فمع ازدياد عدد السكان في القرنين التاسع والثامن، ضاقت الأرض المتاحة في غالبية جنوب اليونان بسكانها؛ فأدى البحث عن سبل لكسب العيش في أماكن أخرى إلى إقامة مستعمرات في بقاع نائية. وفي نهاية المطاف تناثرت الدول-المدن اليونانية على امتداد ساحل آسيا الصغرى الغربي وساحل البحر المتوسط، من شرقي إسبانيا إلى ساحل البحر الأسود الشرقي. تركَّزَ معظم أنشطة الاستعمار السابقة بالقرب من الديار، وذلك في شمال بحر إيجة، وخصوصًا في شبه جزيرة خالكيذيكي، وحتى في محيط الخليج الثيرمي؛ فوجد المقدونيون دولًا إغريقية مستقلة لا على بوابتهم الأمامية فحسب بل في عقر دارهم.

كان الإغريق يمثلون مشكلة من ناحية أخرى أيضًا؛ إذ كانت عناصر الثقافة الإغريقية بثرائها المتزايد جذابةً للآخرين. تبنَّى المقدونيون العناصرَ الهيلينية قبل عهدَيْ فيليب والإسكندر، وأشرنا إلى أن معرفة الإسكندر الأول المباشرة بنجاح تشكيل الفلنكس الإغريقي في القرن الخامس ربما هي التي دفعته إلى إنشاء قوة «بيزهيتايروي» (بمعنى الصحابة المشاة). وكان أرخيلاوس يدعو أعيان الإغريق إلى عاصمته، مع مداومته على تضمين عناصر هيلينية في مملكته، بما في ذلك الألعاب الأوليمبية والمسابقات الدرامية على شرف زيوس وربات الفنون (آريانوس، الكتاب الأول، ١١، ١). ولو كانت هذه التأثيرات عديدةً وكبيرةً، لكان بوسعها أن تطغى على ملامح طريقة الحياة المقدونية التقليدية.

أَثَرْنا في الفصل الثاني القضايا المحيطة بمسألة الإثنية واللغة المقدونية، والاستنتاجُ العام نوعًا ما الذي أوردناه هناك مفادُه أن المقدونيين الذين وضعوا الأساس لمملكة فيليب والإسكندر كانت تربطهم صلةُ دمٍ بجيرانهم الهنود-الأوروبيين في كلٍّ من تراقيا واليونان، فكانوا يتحدَّثون لغةً قريبة أو ربما إحدى اللهجات الإغريقية كما ذهب بعض الباحثين. ومن ناحيةٍ أخرى فمن الواضح أن المؤسسات السياسية والاجتماعية كانت شديدة الاختلاف، وخصوصًا في تاريخ المكدونيين الأبكر، وأن ثقافة مقدونيا المادية تأثرت بعناصر أكثر بكثير من العناصر الإغريقية.

عندما بدأت الدولة الصغيرة، التي ستصبح المملكة الواسعة التي يحكمها فيليب الثاني والإسكندر الثالث، تتبلور في شريط ضيق من الأرض في بييريا وهيماثيا، يمتد لنحو ستين ميلًا (نحو مائة كيلومتر) من الشمال إلى الجنوب في أوائل القرن السابع عشر؛ كان لزامًا على المكدونيين تقبُّل المستوطنات الإغريقية وخصوصًا القريبة منها إلى مركز المملكة، ونعني ميثوني وبدنا الواقعتين على الجانب الغربي للخليج الثيرمي، واللتين أسَّسهما إغريق من وابية قبل نهاية القرن الثامن. لم تكن هاتان المستوطنتان إلا اثنين من شواهد كثيرة على الوضع في اليونان في القرنين الثامن والسابع، الذي أجبر دولًا كثيرة على إقامة «وطن بعيد» (بمعنى «أبويكيا» باللغة الإغريقية). تزامنت الزيادة السكانية مع إحياء السفر بحرًا، الذي سبق أنِ اضمحلَّ في مواجَهةِ تفشِّي الدمار في أواخر العصر البرونزي. ربما كان المغامرون والتجار ومَن يحتاجون إلى أرضٍ لمحض الأغراض الزراعية يرجون النجاح في الإبحار إلى ما وراء مياه جنوبي بحر إيجة.

figure
الخريطة ٢: أهم المناطق والمواقع في المحيط الإغريقي.

كان خط بحر إيجة الساحلي الشمالي من أولى المناطق التي لفتت الانتباه، كما توجد محطة تجارية تعود إلى القرن التاسع اكتُشِفت في سيندوس وترتبط بإريتريا في جزيرة وابية. كانت الرغبة في الأرض، مقرونةً بالبراعة في استغلال الفرص التجارية، قويةً في تلك الجزيرة الضيقة. وفي القرن الثامن أسس الإريتريون مستوطنات في لسان شبه جزيرة خالكيذيكي الغربي، وأما جيرانهم في جزيرة وابية، وهم سكان خالكيذا، فكانوا منهمكين في إنشاء مستعمرات في لسانها الأوسط، وكان آخرون من جزيرة أندروس يستطلعون بحثًا عن مواقع في شرقي شبه الجزيرة. وأبعد من ذلك في اتجاه الشرق، كان سكان جزيرة ثاسوس يعكفون على إنشاء مستوطنات جديدة لأنفسهم على ساحل البر الرئيس؛ ومن ثَمَّ كانت مياه بحر إيجة الشمالية آخذة في التحول إلى بحرٍ إغريقي بالتزامُن مع عمل المكدونيين على إنشاء مملكة لهم.

خرجت من رحم هذا التعايش ثلاث نتائج مهمة، والنتيجة الأهم هي معرفة كل واحد بثقافة الآخر. لم يكن بوسع المقدونيين تجاهل ميثوني ثم بدنا، الواقعتين في قلب مقدونيا، أو في النهاية المستوطنات الأبعد قليلًا، ومع المعرفة ازداد احتمال التأثير الثقافي. في البداية كانت المستوطنات الإغريقية تمتاز بمزايا معينة، كالمعرفة بالسفر بحرًا على سبيل المثال والاتصال بالثقافات القاصية التي كانت أكثر تقدمًا بكثير من الإغريق، وتيسَّرَ اكتساب هذه المهارات وغيرها بفعل العلاقة الوثيقة. علاوةً على ذلك، كان الصراع على أراضي شمال بحر إيجة وموارده شيئًا متوقعًا. وقد اختيرت مواقع المستعمرات الإغريقية لكي تستغل المرافئ الجيدة لتيسير التبادل التجاري. ومع تحوُّل المقدونيين أنفسهم إلى تجار أكثر نشاطًا صار من المؤكد نشوب نزاعات من أجل السيطرة على المرافئ. وهناك نتيجة ثالثة ارتبطت بأصول المستعمرات باعتبار أنها تأسست على أيدي الدول الإغريقية الجنوبية العريقة. وهكذا كان الصراع مع دول-مدن جنوب اليونان ممكنًا، وسيجرُّ توقُّع حدوثه أرجل العالم الإيجي الأكبر على الأرجح.

التفاعلُ بين هاتين المستعمرتين؛ الإريتريين والأرغيِّين، مقياسٌ لتأرجح السلطة بين اليونان ومقدونيا؛ فكلتا المستعمرتين كانت مركزًا استيطانيًّا إغريقيًّا أثناء عهدَيْ أمينتاس الأول والإسكندر الأول، لكن انفصالهما عن جنوب اليونان جعل منهما ملجأَيْن مفيدين للقادة الإغريق الذين فقدوا الحظوة لدى مواطني دولهم؛ إذ منح الإسكندر الأول القائد الأثيني ثيميستوكليس حق اللجوء في بدنا في ستينيات القرن الخامس؛ مما يدل على الإشراف المقدوني على الدولة الإغريقية. لكن بحلول ثلاثينيات القرن الخامس، كانت السيطرة على بدنا قد انتقلت إلى أثينا، وبعد ذلك بنحو خمس عشرة سنة، نزلت قوة أثينية عند ميثوني وانطلقت منها للإغارة على الأراضي المقدونية المحيطة. وفي انعكاس آخر للأوضاع، شهدت سنة ٤١٠ استيلاء قوة أثينية متحالفة مع الملك المقدوني أرخيلاوس على بدنا التي سبق أنْ نالت استقلالها؛ إذ أعاد أرخيلاوس تأسيسَ بدنا كبلدة مقدونية تبعد عن الساحل بمسافة ٢٫٥ ميل (٤ كيلومترات). تبخرت المكاسب المقدونية خلال مختلف عقود التاريخ المقدوني من ٣٩٩ إلى ٣٩٥؛ فشرع فيليب الثاني في إعادة توطيد دعائم المملكة بالاستيلاء على بدنا سنة ٣٥٧ وميثوني سنة ٣٥٤، محولًا بعد ذلك اهتمامه إلى الدول الإغريقية في المنطقة الغربية من شبه جزيرة خالكيذيكي.

قادت ضغوطٌ مماثلة على الأرض وفرص التجارةِ الإغريقَ في اتجاهات أخرى؛ فمن كورنثة، التي تناقصت فيها الأرض الزراعية المتاحة وكان يوجد على بوابتها الأمامية خليجٌ يمكن التحكُّم فيه، أبحَرَ المستعمرون في خليج كورنثة ثم اتجهوا شمالًا بمحاذاة الساحل الأدرياتي؛ حيث أسسوا مستوطنات طويلة الأمد في جزيرة كوركيرا وفي أبولونيا وإبيداموس على ساحل البر الرئيس بالقرب من أراضي الإليريين والإبيروسيين. بدأ تفاعل ثقافي لا يختلف عما كان يحدث في شمال غرب بحر إيجة في شمال شرق البحر الأدرياتي قبل زمن طويل من ضم إليريا وإبيروس إلى المملكة المقدونية الموسعة.

كان التأثير الإغريقي على مقدونيا أقرب كثيرًا، فسلسلة جبال الأوليمب تفصل مقدونيا عن المحيط الإغريقي الجنوبي لكنها لا تمنع الوصول من الجنوب إلى الشمال. وحتى أثناء العصر البرونزي كانت تُجلب إلى مقدونيا منتجات ميسينية؛ مما يشهد على التبادل التجاري والاتصال، إنْ لم يكن الاستيطان، كما هو الحال في موقع «سباتيس» على ممر بِترا. وفيما يخص العصر الحديدي، تمخضت آيجي/فيرجينا المقدونية، المشهورة بمدافنها المترفة التي جاءت فيما بعدُ، عن شواهد على الاتصال بالعالم الإغريقي في زمن مبكر تعود بدايته إلى القرنين العاشر والتاسع، ربما عبر تيساليا ثانيةً. تمخض القُرْبُ الجغرافي عمَّا هو أكثر من التفاعل الثقافي؛ إذ أسفر مثلًا عن تحالفات كالتي شهدتها ثمانينيات القرن الرابع عندما كان العون التيسالي شديد الأهمية في جهود أمينتاس الثالث لاستعادة مُلْك مقدونيا. وكان يمكن لهذا القُرْب — بل حدَثَ فعلًا — أن أثار محاولات متبادلة من كلا جانبَيْ جبال الأوليمب للهيمنة على أرض الإقليم الأضعف آنذاك أيًّا كان.

تساعد الجغرافيا أيضًا على تفسير العلاقة بين مقدونيا واليونان في العقود الأولى من القرن الخامس، الذي صارت فيه مقدون لاعبًا، ربما على غير رغبةٍ منها، في توسُّع الإمبراطورية الفارسية؛ فأثناء حكم داريوس الأول (٥٢٢–٤٨٦)، وجَّهَ الفُرْسُ أنظارَهم شمالًا إلى أوروبا. وفي حوالي سنة ٥١٣، قاد داريوس جيشًا عبر تراقيا؛ حيث دان له كثير من الناس؛ لكنْ لدى عبوره نهر الدانوب إلى أراضي سكيثيا، لم يَلْقَ نجاحًا واضطرَّ إلى أن يعود أدراجه عبر تراقيا. وبعد هذه الحملة بزمن ليس بطويل، عيَّن ميجابازوس لإخضاع الخط الساحلي شمال بحر إيجة من بحر بروبونتيس إلى نهر سترايمون. ويروي هيرودوت خبر وفد مكون من سبعة من أكابر الفُرْس أُرسِلوا لمناقشة العلاقة بين مقدون وبلاد فارس؛ فخدَعَ الإسكندر الأول، ابن أمينتاس الأول الحاذق، الرُّسُلَ بأن أوعَزَ إلى شابات مقدونيات — لم يكنَّ في الحقيقة إلا ذكورًا مقدونيين مُرْدًا مسلَّحين ويضعون خُمُرًا ثقيلة — فلاطفْنَ الفُرس ثم قتلْنَهم. «تلك كانت نهاية الرسل الفرس إلى مقدون، ونهاية خدمهم أيضًا؛ إذ اختفى الخدم والعربات وقدرٌ عظيم من الأمتعة الفخمة، اختفَتْ كلها معًا» (الكتاب الخامس، ٢٠). يصف هيرودوت أيضًا الحرص في التستر على اختفاء الفرس ومقتنياتهم، بالإضافة إلى دفع مبلغ من المال إلى الفُرْس، وترتيب زواج أخت الإسكندر بالضابط الفارسي الذي كان يحقِّق في المسألة. على الرغم من أن مقدون على ما يبدو لم تُضَم رسميًّا إلى الدولة الفارسية، فإنها جُرَّتْ إلى مجال رؤية داريوس.

وثقت الأحداث الجارية في المنطقة الساحلية شرق بحر إيجة الصلةَ بين الفُرْس ومقدونيا. قامت ثورة خطيرة سنة ٤٩٩ في الجزء الذي سبق أنْ أخضَعَه الفُرْسُ من الدول الإغريقية في أربعينيات القرن السادس، وظل منذ ذلك الحين تحت سيطرة أحد مرازبة النظام الإداري الفارسي. كانت المفاجأة، أو ربما الغفلة، شديدة في الجانب الفارسي لدرجة أن تم الاستيلاء على العاصمة الفارسية في الأناضول سارديس، وإحراقها على أيدي ائتلافٍ من الدول الإغريقية في آسيا الصغرى الأيونية، بعونٍ من دولتَيْ أثينا وإريتريا الواقعتين في البر الرئيس. لكن في غضون خمس سنوات قُمعت الثورة. لفتَتْ محصلةُ ذلك انتباهَ الفرس من جديد إلى شمال بحر إيجة، فأكَّدَ القائد الفارسي ماردونيوس السيطرة على تراقيا ومقدونيا سنة ٤٩٢ تمهيدًا للانتقام من الدولتين الواقعتين في البر الرئيس، اللتين أمدتا الثورة في آسيا الصغرى بالسفن والجنود. كانت مقدونيا نقطة انطلاق مفيدة، كما بيَّن هيرودوت في وصفه الحملة الضخمة المتأخرة التي خطَّطَ لها وقادها أحشويرش، ابن داريوس وخليفته؛ فأُنشِئت مخازن للحبوب في كلٍّ من تراقيا ومقدونيا، وعسكَرَ الجيشُ الجرار المؤلَّف من نحو ٢٥٠ ألف رجل بمحاذاة نهر أكسيوس بالقرب من سيندوس، ورسا الأسطول على ما يبدو في بدنا. وحتى لو لم يكن الملك المقدوني رسميًّا تابعًا للإمبراطورية الفارسية، فلم يكن أمامه خيار في مسألة استخدام الفرس مملكته أثناء تجريد الحملة البرِّية والبحرية على اليونان سنة ٤٨٠-٤٧٩. وأما على الجانب الإغريقي فمن الجائز تمامًا أن الإغريق كانوا ينظرون إلى المقدونيين كمتواطئين عن رضًا مع الفرس المرعبين.

ومع ذلك، فإن تصوير هيرودوت الإسكندر الأول كمتعاطف مع الإغريق (الكتاب الثامن، ١٤٠–١٤٣) ربما يجد دليلًا ماديًّا يعضِّده في إمداده الأثينيين بالخشب قبل ذلك بسنتين أو ثلاث، لإنشاء أسطول قوامه ٢٠٠ سفينة برهَنَ على أهميته البالغة لتصدِّي الإغريق للجيش الفارسي. وتسجِّل النقوش التي تعود إلى عهدَيْ بيرديكاس الثاني وأرخيلاوس اتفاقياتٍ أُبرِمَتْ فيما بعدُ بخصوص حصول الأثينيين على الخشب المقدوني. وكما رأينا فإن الخشب، الذي وُصِف بأنه الأعلى جودةً في منطقة بحر إيجة والبحر الأسود، كان من بين موارد مقدونيا الأشد رواجًا. كان الوصول إلى هذا المصدر من مصادر الخشب حيويًّا لأي دولة تريد امتلاك أسطول، وكان قرارُ الأثينيين في ظلِّ تهيُّؤ بلاد فارس لشنِّ هجومٍ عليهم هو إنشاءَ أسطول لمواجهة الشق البحري من القوة الفارسية، وهو ما كان يتطلَّب الحصول على الخشب المقدوني.

مع انسحابِ الفرس من اليونان ومقدونيا، وارتباكِ الأوضاع في جنوب اليونان الذي تسبَّب فيه الغزو، تمكَّنَ الملك الإسكندر الأول المقدوني من توسيع حدود مملكته كثيرًا كما سبق أن نوَّهْنا في الفصل الثاني، ويُنسَب إليه الفضلُ أيضًا في تقوية الجيش المقدوني، الذي كان أداةً لا غنى عنها في التوسُّع. اكتسب الإسكندر، بتوغُّله شرقًا ضد التراقيِّين، ثروةً معدنية قيِّمة استعمَلَ بعضَها آنذاك في ضرب النقود المقدونية. وفي هذه النقود الجيدة الصنعة، التي كان بعضها بحجم كبير، مؤشراتٌ جيدة على المكانة التي بدأ الأرغيُّون يحقِّقونها لا في المحيط الأصغر وهو شمال بحر إيجة فحسب، بل في مواجَهة دول وممالك أخرى ذات شأن أبعد مسافةً.

fig18
شكل ٤-١: عملة نقدية تُظهر الإسكندر الأول ممتطيًا فرسًا يخُبُّ، ومرتديًا عباءةً قصيرة، وعلى رأسه قبعة مجنحة، وحاملًا رمحَيْن في يده اليسرى، ويتبختر تحت الفرس كلب صيده. الآن في متحف العملات في أثينا. بإذنٍ من د. آي توراتستوجلو.

غير أن الحاكم المقدوني لم يكن إلا إحدى الشخصيات الرئيسة، وفي غضون الجيلين التاليين حقَّقَ لاعب جديد في شرقي البحر المتوسط هيمنةً تسببت في تغيير العلاقة بين مقدون واليونان وغلبة العداء عليها؛ فعلى الرغم من انسحاب الفرس من الأراضي الواقعة غرب بحر إيجة وشماله، ظلت الدول الإغريقية شمالي بحر إيجة تحت السيطرة الفارسية سنة ٤٧٩. ولاستعادة حرية اليونان كلها، اجتمع ممثلون من ١٤٣ دولة في جزيرة ديلوس في أرخبيل كيكلادس سنة ٤٧٧ لإنشاء حلف لهذا الغرض سيشارك جميع أعضائه في قراراته، أثناء جمعية سنوية تتمتع فيها كل دولة بصوت واحد. وستساهم الدول في هذا المشروع بتوفير السفن والرجال، أو بتقديم الأموال عوضًا عن القوة البشرية والدعم البحري. وفَّرَتْ أثينا جزءًا كبيرًا من الأسطول الذي أنشأته للتصدي للتهديد الفارسي، وتولَّتْ منصبَ الزعيم أو القائد الأعلى للعمليات التي يقرِّرها الأعضاء بكامل هيئتهم. حدَّد الأثينيون أيضًا المساهمات المطلوبة وعيَّنوا مراقبين ماليين للإشراف على الخزانة التي أُنشِئت في حرم أبولو الآمن في ديلوس.

كانت أحلاف أكبر تضم الدول الإغريقية المستقلة قد سبقت هذا الحلف، وكانت في جوهرها تنتمي إلى صنفين عامَّيْن، فهي إما أحلاف لأغراض دينية مشتركة وإما أحلاف لمصالح عسكرية مشتركة. تمخض الاهتمام المشترك بصون حرم أبولو في دلفي عن قيام الحلف الأمفكتيوني الدلفي المؤلف من ١٢ دولة-مدينة. وكان الصنف الثاني من الأحلاف — وهو أحلاف الهجوم والدفاع المشترك — يجمع بين دول مستقلة توافق على أن تُصادق مَن يُصادق بقية أعضاء الحلف وتُعادي مَن يُعادون، وكان ممثلو الدول الأعضاء يجتمعون في مكان ثابت، وهو عمومًا أقوى دولة عضو، للتصويت على ما يلزم القيام به من أعمال. ونما الحلف البيلوبونيزي، الذي كانت إسبرطة القوة المحورية فيه، ليشمل معظم دول شبه جزيرة بيلوبونيز، بل اتسع أيضًا في القرن الخامس متجاوزًا ذلك إلى وسط اليونان. وينمُّ مثل هذا التوسُّع عن طفرة متزايدة في قيام أحلاف أكبر ذات طموحات أكبر، وهذه الطموحات هي التي تبيَّنَ أنها تشكِّل تهديدًا أشد خطرًا بكثير للمملكة المقدونية ممَّا كانت تشكِّله المستعمرات الإغريقية فُرادى قبل ذلك. وكان دور أثينا في تشكيل طبيعة الحلف الديلوسي ثم تحويرها من أهم شواغل الأرغيِّين.

حقَّقَتْ جهود الحلف نجاحًا مدهشًا، وبحلول أوائل ستينيات القرن الخامس انتصر أسطول الحلفاء في معركة بحرية كبرى في يوريميدون قبالة ساحل الأناضول الجنوبي؛ حيث ألحق هزيمةً بالأسطول الفارسي/الفينيقي المؤلَّف من ٢٠٠ سفينة. كانت السيطرة الفارسية في تراقيا ومضيق الهلسبونت وبحر إيجة قد بلغت نهايتها، غير أن الحلف لم يُحلَّ على الرغم من محاولة دول عديدة الانسحاب منه حالما تحقَّق هدفه. كان الحلف في نظر أثينا ثمينًا من نواحٍ أخرى عديدة، كخفارة البحار ضد القراصنة، وإعادة بناء المعابد التي دمَّرها الفرس، والاحتفاظ باتحاد كونفيدرالي تحسُّبًا لأي عداءات مستقبلية مع بلاد فارس، وإقامة إمبراطورية تجارية بحرية في عموم بحر إيجة وعبر الهلسبونت. وابتداءً من ستينيات القرن الخامس، وخصوصًا تحت قيادة رجل الدولة الأثيني القائد بيريكليس، صار الحلف الديلوسي إمبراطورية أثينية متمحورة حول أثينا وتدار انطلاقًا منها. ويُسمَّى تأثير الحياة الأثينية وبريقها في ذلك الزمان عصرها الذهبي.

اتسعت عضوية الحلف، التي لم تَعُدْ طوعيةً وباتت تُصان بالقوة، حتى بلغت نحو ٣٠٠ دولة. ازدادت المصالح الأثينية في شمال بحر إيجة، التي سبق أن أُسِّست في القرن السادس، مع اكتساب الوصول إلى بحر بروبونتيس والبحر الأسود أهميةً حيويةً لتأمين إمدادات الحبوب اللازمة لإطعام سكان الدولة الحضريين الذين صار عددهم آنذاك هائلًا. كان الوصول إلى تلك المياه القاصية يتطلَّب أسطولًا كبيرًا من السفن المتينة؛ ومن ثَمَّ استمرار إمكانية الحصول على موارد الخشب المقدونية. وهكذا كان الحضور القوي في شمال بحر إيجة من أولويات أثينا، وتحقَّقَ ذلك باستقطاب بعض الدول العريقة إلى الشبكة الإمبريالية، وكذلك بإقامة مستعمرات جديدة مثل أمفيبوليس في وادي نهر سترايمون الأدنى، بالقرب من موقع «الطرق التسع» الذي سبق أن أخضعه الإسكندر الأول للسيطرة المقدونية. وكان كلٌّ من أمفيبوليس و«الطرق التسع» يحتل موضعًا مثاليًّا للاستفادة من التجارة أدنى نهر سترايمون وبمحاذاة الساحل بين شمال اليونان والهلسبونت. وعلى ما يبدو، كانت ثمة تسوية توافقية بين أثينا وملك مقدونيا أثناء حكم الإسكندر الأول. لكن التنافس على البقاء كان محتملًا، ولم تَسِرِ الأمور على ما يرام مع بيرديكاس خليفة الإسكندر؛ فعزوف أثينا عن استقطاب أعضاء جدد إلى الحلف في الأرض الواقعة غرب أكسيوس أفسح المجال لتوسُّعٍ نَشِطٍ في الأراضي المقدونية بعد ٤٣١.

لكن تكتيكًا مختلفًا استُخدِم ضد بيرديكاس؛ إذ أيَّد الأثينيون ادِّعاء أحد إخوته، وهو فيليب، أحقيته في وراثة العرش. وفي ٤٣٢، استولى ائتلاف بين أثينا وأخي بيرديكاس ودرداس ملك إيليميا على موقع ثيرما في شمال غرب خالكيذيكي من بيرديكاس. كان المرجو أن يؤدِّي نزاعٌ داخلي، بالإضافة إلى وجود تهديد قريب من بيلا، إلى إبقاءِ أعين بيرديكاس مصوَّبةً نحو مملكته وإلهائِه عن أنشطة الأثينيين على أطراف تلك المملكة.

كان أمام بيرديكاس ملاذٌ يلوذ به؛ إذ لمَّا كان على دراية بالانقسامات بين الدول الإغريقية، شجَّعَ مَن هم معروفون بعدائهم للأنشطة الأثينية في شمال بحر إيجة على القيام بعملٍ بالأصالة عن أنفسهم أو بالنيابة عن المستعمرات السابقة. رد الكورنثيون على التهديد الأثيني لمستعمرتهم بوتيديا بمتطوعين من كورنثة ومرتزقة من أجزاء أخرى من شبه جزيرة بيلوبونيز، قوامهم ١٦٠٠ فرد مشاة ثقيلة و٤٠٠ جندي خفيف كما روى ثوكيديدس (الكتاب الأول، ٦٠)، وأضاف بيرديكاس ٢٠٠ فارس، وانضمَّ إلى القوة رجالٌ من دول أخرى أيضًا. إن الدور الذي لعبته هزيمة هذه القوات في الأحداث التي جرت في مقدون على مدى ما تبقى من القرن الخامس ليس بالضئيل؛ ففي رواية ثوكيديدس عن نشوب الحرب البيلوبونيزية (٤٣١–٤٠٤)، كان حنق الكورنثيين على تلك الأحداث، بما فيها حصار الأثينيين بوتيديا، عودَ الثقاب الذي أوقد إعلان الحرب، فمزَّقَ هذا الصراع مقدون على الرغم من عدم مشاركتها رسميًّا فيه.

لم ينجح فيليب والأثينيون المتواطئون معه في إطاحة أخيه بيرديكاس، الذي ظل يحكم حتى ٤١٣، لكن من المستبعد أنها كانت فترة حكم مريحة؛ لأن مملكته كانت في أغلب الأحوال محاطة بدول متحاربة، ما جعل مقدون تتحالف في البداية مع أحد الجانبين وفيما بعدُ مع الجانب الآخر. ففي مرحلة مبكرة من الحرب البيلوبونيزية، كانت مقدون حليفًا لأثينا، لكن عندما ضمَّتْ أثينا ميثوني (وكانت داخل الأراضي المقدونية) إلى إمبراطوريتها، استنجد بيرديكاس بالإسبرطيين، فعرض عليهم الدعم ونظَّمَ لقوة إسبرطية مرورًا آمنًا للزحف عبر أرض مملكته، وبمجرد أن وصل الإسبرطيون إلى هناك، أمَدَّهم بيرديكاس بفرقة مقدونية، وزحفت القوة المشتركة لإجبار الزعيم اللنكستي على إعادة إقليمه مقدونيا العليا إلى التحالف مع بيرديكاس. لم يتحقَّق الشيء الكثير قبل أن يعزم القائد الإسبرطي أمرَه على شنِّ حملة ضد خالكيذيكي وتراقيا، وكلتاهما منطقة تربطها صلاتٌ قوية بالأثينيين، فانتقل إليهما آنذاك مسرحُ الحرب. لاقَتِ الأنشطة الإسبرطية نجاحًا عظيمًا في شمال بحر إيجة، وعندما عاد الإسبرطيون إلى مقدونيا، جرت محاولة ثانية لتأديب اللنكستيين، فدُحِر الجيش المشترك على أيدي الإليريين، الذين كان اللنكستيون قد تحالفوا معهم. ولا نستغرب أن التحالف انهار بحلول سنة ٤٢٣، فتحالف بيرديكاس من جديد مع الأثينيين؛ إذ قدَّمَ الدعم العسكري لقائد أثيني سنة ٤٢٢. والحقيقة أن نيكولاس هاموند قال إن «مقدون كانت آنذاك من كل النواحي العملية عضوًا في الإمبراطورية الأثينية» (هاموند وجريفيث، ١٩٧٩: ١٣٣)؛ ففي الفترة من حوالي ٤٢٤ إلى ٤١٦ لم يضرب بيرديكاس نقودًا، وهذه من سمات الدول التي كانت ذات يومٍ مستقلةً وأُخضِعت للسيطرة الأثينية.

تمخضت معاهدة سلام أُبرِمت بين الأثينيين والإسبرطيين سنة ٤٢١ عن استراحة من الحملات العسكرية، وإنْ لم تَحُلَّ القضايا التي تسبَّبت في إعلان الحرب. ومع احتدام تلك القضايا من جديد، وجَّهت الأطراف الإغريقية في الحرب أنظارَها من جديد صوبَ الشمال، فأضافت أثينا المزيد من الدول إلى سيطرتها، وحاوَلَ البيلوبونيزيون استقطاب المزيد من الحلفاء إلى صفِّهم، وأُقنِع بيرديكاس بالانضمام إلى صفوف البيلوبونيزيين؛ فكان فرْضُ الحصار على الساحل المقدوني لعرقلة التجارة أحدَ الردود الأثينية على خيانة الملك المقدوني. وجاء رد آخَر في البحث في أماكن أخرى عن الموارد المهمة وتحويل انتباه البيلوبونيزيين عن بحر إيجة؛ فانطلقت حملة بحرية كبيرة إلى صقلية سنة ٤١٥، وهو مشروع جدَّدَ الآصرة بين مقدون وأثينا؛ إذ عاد المقدونيون إلى إمداد أثينا بالخشب عندما بدأ الفرس يعاونون إسبرطة في إنشاء قوة بحرية. علاوة على ذلك، كان بيرديكاس سنة ٤١٤ يخدم مع قائد أثيني في هجوم على أمفيبوليس. وبعد أن توفي في السنة التالية ورث ابنه أرخيلاوس أعباء ثقيلة منها الحفاظ على استقلال مملكة موحدة، والتعامل مع الحرب الدائرة بين الدول الإغريقية.

شاء القدر أن تتفادى مقدون التورط بعمق أثناء ما تبقى من تلك الحرب. ربما كان استحضار أرخيلاوس الفوضى التي سادت إبَّان حكم أبيه هو الذي ألهمه تحصينَ حدود مملكته وربْطَ مختلف أجزائها بشبكة طرق. أما على الصعيد الخارجي فكادت صلته باليونان تقتصر على أثينا؛ فكما سبق أن ذكرنا، ففي سنة ٤١٠ تم الاستيلاء على بلدة بدنا الساحلية بحصار مقدوني وأثيني مشترك، ثم نُقِلت المستوطنة إلى الداخل وأُعِيد تأسيسها كبلدة مقدونية، وبعد ذلك بثلاث سنوات مُنِح أرخيلاوس وأولاده وضعية الضيوف-الأصدقاء لأثينا، وهو وضع شرفي لكنه يسبغ على صاحبه منزلةً تشبه منزلة السفير. كان التأثير الأثيني يتجلى أيضًا في اهتمامات أرخيلاوس الثقافية؛ إذ صارت بيلا تحت إشرافه عاصمةً تثير الإعجاب يُدعَى إليها ضيوف مهمُّون. لكنْ من التطورات الأخرى الجديرة بالاهتمام تأسيسُ مهرجان أوليمبي في مقدونيا.

لم يكن هذا التشجيع للثقافة الإغريقية وتقديم العون لأفراد من الإغريق بالشيء الجديد، ففي زمن مبكر يعود إلى منتصف القرن السادس، استقر الطاغية الأثيني بيسيستراتوس في المنطقة الشمالية الغربية من خالكيذيكي أثناء إحدى فترات نفيه القسري عن أثينا، واكتسب أثناء وجوده هناك صداقة مقدونيا، وعُرض على ابنه وخليفته هيبياس مأوًى في مقدونيا عندما نُفِي من أثينا (هيرودوت، الكتاب الخامس، ٩٦). وتصف روايات هيرودوت عن الإسكندر الأول في «تاريخ هيرودوت» انجذابًا مماثلًا إلى أثينا؛ إذ يروي المؤرخ أن الإسكندر رغب في التنافس في الألعاب الأوليمبية، وسُمِح له بالمشاركة في سباق العَدْو. ويختتم هيرودوت ملحوظته المقتضبة بقوله «حصل على المركز الأول مناصفة» (الكتاب الخامس، ٢٢). على الرغم من تشكيك كثير من الباحثين المحدَثين في دقة الرواية، فلا خلافَ على أن فيليب الثاني أرسل فرقًا مقدونية إلى أوليمبيا أثناء حكمه. ربما برع الإسكندر الأول شأنه شأن فيليب في إظهار تعاطفه الهيليني وانجذابه المزعوم، وخصوصًا في أعقاب فظائع الزحف الفارسي في مملكته وفي أراضي الدول الإغريقية. وكما سنرى فإن محبة الإغريق كانت أداة مفيدة لكلٍّ من فيليب الثاني والإسكندر الثالث.

لدى اغتيال أرخيلاوس سنة ٣٩٩، قوَّض الضعفُ المقدوني، مقرونًا بالصراع السريع الوتيرة بين الدول الإغريقية على الهيمنة، قدرةَ بيرديكاس على البقاء وجهودَ أرخيلاوس لإحلال الاستقرار. وبعد هزيمة أثينا سنة ٤٠٤ وتفكيك الإمبراطورية الأثينية، تمخَّضَتْ دورةٌ من المحاولات التي بذلتها الدول الكبرى لإعادة إنشاء إمبراطورية إغريقية، عن اضطرابات عارمة صاحَبَها تدمير الحياة والممتلكات؛ مما أضعَفَ في نهاية المطاف أساسَ الحياة الإغريقية الكلاسيكية، وهو وضع عضَّد جهود فيليب الثاني. لكن في العقود الأربعة الأولى من القرن الرابع، كاد الصراع يُنهِي وجودَ مقدونيا المستقل.

كانت إسبرطة وطيبة وتيساليا وأثينا (بعد استعادتها استقلالَها وقوتها) أهم المتنافسات على الهيمنة الإمبريالية؛ فاتخذت إسبرطة زمام المبادرة مبكرًا بصفتها رأس الحلف البيلوبونيزي المنتصر في محاولاتها القضاء على الهيمنة الأثينية. كانت السياسات الإسبرطية موجَّهةً في جوهرها إلى تحويل الحلفاء/الرعايا الأثينيين السابقين إلى حلفاء/رعايا إسبرطيين. بالإضافة إلى ذلك، لم تُظهِر إسبرطة إلا قليلًا من التقدير لحلفائها أثناء الحرب البيلوبونيزية. استُقطِب أمينتاس الثالث، الذي خلف أرخيلاوس في نهاية المطاف، إلى المجال الإسبرطي من خلال البلدات الساحلية الإشكالية المطلة على الخليج الثيرمي؛ إذ مع توطُّد جهود الكونفيدرالية المستقلة في شمال بحر إيجة، استُقطِبت البلدات والدول الصغيرة في تلك المنطقة إلى تحالف خالكيذيكي متسع مركزه في أولينثوس. رُفضِت مطالبة أمينتاس بإعادة البلدات الواقعة في مقدونيا الدنيا إلى سيادته؛ ومن ثَمَّ اتجه إلى إسبرطة طلبًا للعون. نجحت الحرب على التحالف، على الأقل مؤقتًا، في هدم روابطه واستعادة مقدونيا الدنيا إلى أمينتاس.

كانت تيساليا أقرب إلى الديار من إسبرطة، وكان شخص يُدعَى جيسون من دولة فيراي قد وطَّدَ نفسه قائدًا أعلى، أو «تاجوس»، لتيساليا ومعها إبيروس. ويبدو أن هذا المنصب كان يُستخدَم عند الحاجة إلى جيوش المناطق الأربع جميعها، وكان التاجوس قائد هذا الجيش الموحَّد للفترة اللازمة. ومع صيرورة الحرب ضرورةً تُمارَس طوال العام، اكتسب التاجوس التيسالي مكانةً أرفع ودائمةً. ربما أثار جيش جيسون الهائل — المؤلَّف من ٢٠ ألف فرد مشاة ثقيلة و٨ آلاف فارس و٦ آلاف مرتزق فضلًا عن المناوشين — إعجابَ أمينتاس بدرجة كافية لإقامة تحالف معه، لكن لدى مقتل جيسون سنة ٣٧٠، انقلب توازن القوى؛ إذ تدخَّلَ الإسكندر الثاني، خليفة أمينتاس، في تيساليا مستوليًا على مركزين كبيرين فيها. ثم انسحب الإسكندر بدافع عدم ثقته على ما يبدو في القوة المقدونية لدى ظهور جيش طيبي في أحد هذين المركزين، وواجَهَ مشكلات مع أبناء الأسرة الحاكمة في الديار، وكانت خطيرة بما يكفي لتؤدي إلى مقتله سنة ٣٦٧؛ مما أطلق بدوره العنانَ لتحالفات معقدة جديدة؛ إذ كما نوَّهنا في الفصل الثالث تحالفت أمه مع بطليموس، وهو مقدوني بارز ولعله كان أحد أبناء أمينتاس الثاني. ربما كانت الآصرة بينهما مدفوعة بالغرام أو الطموح إلى النفوذ الشخصي أو جزءًا من مؤامرة أجنبية، وكل ما نعرفه أن الثنائي التجَأَ إلى أثينا طلبًا للدعم.

كان كلٌّ من أثينا وطيبة عضوًا في حلفٍ يثير الإعجاب؛ إذ كانت طيبة قد أُسِيئت معاملتها في نهاية الحرب البيلوبونيزية على يدَيْ حليفتها إسبرطة، فتمخَّضَ فرضُ حامية إسبرطية عليها سنة ٣٨٢ عن غضب وتصميم كافيَيْن لتحرير المدينة في ٣٧٩-٣٧٨، وتمخضت الحرية بدورها عن قوة أعظم تجلَّت في الانتصار على الإسبرطيين سنة ٣٧١، فدفَعَ ذلك النجاحُ طيبة إلى طموحات أعظم من بينها مقدونيا؛ فأبرَمَ القائد الطيبيُّ العبقري بيلوبيداس تحالفًا مع مقدونيا، ولضمان احترام المعاهدة، أخذ رهائن ضمانًا لحسن سلوك الأسرة المالكة المقدونية، ومن أبرز هؤلاء الرهائن فيليب أخو الملك الحاكم. مكث فيليب كرهينة في طيبة نحو ثلاث سنوات في أوج القوة الطيبية التي كان إصلاح تشكيل المشاة الثقيلة عنصرًا حاسم الأهمية فيها.

كانت أثينا بالطبع لاعبًا في التنافس ذاته على الإمبراطورية؛ فإذ أسَّسَتِ الدولة حلفًا بحريًّا ثانيًا يملك سيطرةً أوسع على قوى أثينا القسرية، استقطبَتْ تحت مظلة واحدة أعضاء سابقين في الحلف الديلوسي وأعضاء جددًا أيضًا، وأبرزهم طيبة. كان غرضها القضاء على السيطرة الإسبرطية على الدول-المدن الأخرى للسماح لهذه الدول باستعادة حريتها وحكمها الذاتي. ولا بد أن الأثينيين كانوا يقدِّرون قيمة التحالف مع أمينتاس الثالث الذي أُبرِم في منتصف سبعينيات القرن الرابع؛ لأنه أتاح الوصول إلى ذلك المصدر الحيوي للخشب. جُدد ذلك التحالف في منتصف الستينيات عندما انتقل مُلْك مقدونيا إلى بيرديكاس الثالث ابن أمينتاس الثاني، وإنْ كانت الصداقة بين أثينا ومقدون قد تدهورت في غضون بضع سنوات.

كان على بيرديكاس إذن أن يكون جاهزًا للتعامل مع أحلاف خالكيذيكي وتيساليا وطيبة وأثينا القوية، إما بما يكفي من قوة مسلحة وإما بالدبلوماسية الذكية. لم يكن بوسعه كذلك تجاهل التهديدات المستمرة النابعة من الجيران الشماليين والغربيين والشرقيين، لكنه لم يَعِشْ طويلًا بما يكفي لمواجَهة كل أعداء مقدونيا؛ إذ أدَّى غزو إليري سنة ٣٦٠ أو ٣٥٩ إلى مقتله في ساحة المعركة ومعه ٤ آلاف من جنوده.

(١) علاقات فيليب مع الإغريق

كان فيليب مرشَّحًا قويًّا للمُلْك الأرغيِّ لدى موت أخيه بيرديكاس، ورغم أن جمعية الجيش نادت به مَلِكًا ورغم براعته في التخلص من المنافسين الآخرين على السلطة، فقد وَرِثَ ضمن ما ورِث المجموعةَ المعقدة من العلاقات مع العالم الإغريقي التي اقتفينا أثرَ تطوُّرِها من أوائل القرن الخامس إلى منتصف القرن الرابع.

نعرف أن فيليب حقَّقَ نجاحًا غير عادي، لا في تأمين مُلْك مقدون والاحتفاظ به فحسب، بل في توسيع حدوده من البحر الأدرياتي إلى البحر الأسود. صار العالم الإغريقي خاضعًا لهيمنة فيليب، وضُمَّ رسميًّا إلى مقدون في حرب فيليب ضد الفرس قبل موته. يبرهن تحقيق هذه الإنجازات على فهمٍ عميقٍ لأساليب جيرانه من جهة الجنوب، وقدرةٍ على توظيف الأدوات والظروف والطموحات الإغريقية لمصلحة مقدونيا.

في إطار التعامل مع هؤلاء الجيران، لا يدهشنا أن اهتمام فيليب الأول تركَّزَ على الأراضي الملاصقة لمقدونيا (تيساليا وشبه جزيرة خالكيذيكي)، وأنه انتهج نُهُجًا مألوفة لدى الدول الإغريقية؛ أي استخدام القوة العسكرية والتحالف. فبعد الاستيلاء على بوتيديا سنة ٣٥٦ على سبيل المثال، سلَّمَها إلى الحلف الخالكيذيكي الذي كان آنذاك متحالفًا معه. لكن كما رأينا كان لدى دول إغريقية أخرى اهتمامٌ قوي بهذه المناطق، وكانت دول وسط اليونان تصوِّب أعينها إلى تيساليا، وكان الأثينيون ينظرون إلى خالكيذيكي وأجزاء أخرى من شمال بحر إيجة. وعلى الرغم من أن فيليب تحالَفَ اسميًّا مع أثينا بموجب معاهدة، فإنه استعاد ميثوني من السيطرة الأثينية سنة ٣٥٤. ولدى اكتسابه موطئ قدم على الأقل خارج الحدود المقدونية الحالية، استخدَمَ أداةً أخرى من أدوات الدول الإغريقية بتأسيسه مستوطنات جديدة أو إعادة تأسيسه بلداتٍ قائمةً كمراكز مقدونية؛ ففي تيساليا صارت البلدة التي تسيطر على المدخل الشمالي الاستراتيجي المؤدي إلى الممر في تيمبي مستوطنةً مقدونية، وأما كرينيدس — التي تتمتع بقيمة عظيمة بفضل ثروتها المعدنية، وكذا موقعها شرق خالكيذيكي مباشَرةً — فأُعِيد تأسيسها باسم فيليبوي، وأقحم فيليب نفسه في المناطق التي يدرك قيمة هيكلها الدستوري لخدمة أغراضه، فاستحوذ في تساليا على منصب التاجوس، أو القائد العسكري الأعلى.

كان لمعرفته بالوضع في اليونان معرفةً مباشِرةً قيمةٌ عظيمة في تشكيل الاستجابة المقدونية لذلك الوضع. كان من أهم أولويات فيليب توسيع الجيش وإعادة تنظيمه، وعلى الرغم من ضرورة استخدامه قواته ضد مجموعة متنوعة من الشعوب بتكتيكاتها المتباينة، كان قد رأى بعينه نجاحَ الإصلاحات الطيبية أثناء احتجازه ثلاث سنوات هناك. ومن المرجح كثيرًا أنه رأى المشاة الثقيلة الإغريقية وقادتهم أثناء العمليات التي جرت قرب الأراضي المقدونية أو حتى داخلها في شبابه إبَّان حكم أبيه الملك أمينتاس. لا شك أن إصلاحات فيليب العسكرية تجاوزَتِ التطورات الطيبية، ومع ذلك انبنَتْ على أساسٍ سبق أنْ مكَّنَ الطيبيين من هزيمة الجيش الإسبرطي الذي كان يومًا لا يُقهَر، ومن بناء حلف واسع يضم أعضاء يغطون معظم العالم الإغريقي الجنوبي.

fig19
شكل ٤-٢: شمال تيساليا. صورة بعدسة ريتشارد آر جونسون.

لا شك أن فيليب كان يثمِّن روح إبرام المعاهدات في اليونان؛ فمثلما تحالفَتْ أثينا مع الميسينيين سنة ٣٥٥ على الرغم من تحالفها منذ ٣٦٩ مع عدو الميسينيين القديم اللدود إسبرطة، كانت علاقات فيليب تتقلب بالمثل تبعًا لما تمليه المصلحة. ومن ناحية أخرى، كان يثمِّن قيمة الاتفاقيات المتعددة الدول، ووظَّفَها في سيطرته المتنامية على الدول الإغريقية. أُقِيمت اتحادات كونفيدرالية من خلال معاهدات ثنائية في القرن الرابع، وعندما جمعت شبكة المعاهدات بين عددٍ كبير من الدول، برزَتْ آليات لاتخاذ القرارات وتنفيذها بأسلوب فيدرالي، كمجلس لممثلي الدول الحليفة. كانت الدولة المسئولة عن الاتحاد الكونفيدرالي تقوم مقام الزعيم، أو القائد الأعلى، لتنسيق ما يلزم من دفاع مشترك وهجوم لكل الأعضاء. وازدادت مقدون نشاطًا أكثر فأكثر في عالَم التحالفات هذا؛ فلعقودٍ طويلة، كما نوَّهْنا، أبرَمَ الملوك المقدونيون اتفاقاتٍ ثنائيةً تتسم بالطبيعة المائعة ذاتها كحال الاتفاقات المبرمة بين الدول الإغريقية. كان بيرديكاس بارعًا في مثل هذه المناورات أثناء فترة الحرب البيلوبونيزية. تعامل الملوك المقدونيون أيضًا مع الأحلاف، وخصوصًا الحلف الخالكيذيكي القريب منهم، والاتحاد الإمبريالي الأثيني الذي شُكِّل باسم الحلف الديلوسي. اتفق فيليب وأثينا في سنته الأولى على العرش على شروط معاهدة، وفي السنة التالية أُعِيد تأكيد التحالف بين مقدون ودولة لاريسا التيسالية، وبعدها بثلاث سنوات تحالَفَ مع الحلف الخالكيذيكي، وسنة ٣٤٦ أرسل اثنين من كبار ضباطه — أنتيباتروس وبارمنيون — إلى أثينا لتقديم شروط اتفاقية سلام ثنائية، فجرى تصويت في المجلس الأثيني أسفَرَ عن إقرارِ هذه الاتفاقية باسم «سلام فيلوكراتيس».

كانت بجانب هذه الأحلاف عُصَب نُظِّمت لرعاية الأحرام الدينية المهمة، وتُسمَّى أمفكتيونيات أو أحلاف تضمُّ الدول المحيطة (وتُسمَّى بالإغريقية «أمفي») بأرض الحرم. وكانت أصول الأمفكتيونية الدلفية في البر الرئيس اليوناني تعود إلى الفترة العتيقة، وبحلول القرن الرابع اتسعت عضويتها إلى دول لم تكن بحالٍ مجاوِرةً لحرم أبولو، كإسبرطة وأثينا. وعلى الرغم من أن العمل العدواني لم يكن الوظيفة الرئيسة لأي أمفكتيونية، فربما كانت حماية الحرم المقدس تقتضيه. بالإضافة إلى تلك العُصب المبكرة، أسفَرَ تطوُّر جديد في ثمانينيات القرن الرابع عن استحداث شكل آخر من أشكال الاتحاد يناضل من أجل الاستقلال الذاتي لدول فرادى لا اتحاد فيدرالي؛ سعيًا إلى تحقيق السلام المشترك، ولا تعود أصوله إلى اليونان بل إلى بلاد فارس، التي عادت آنذاك كلاعب فاعل في الشئون الإغريقية؛ إذ قرَّرَ الملك أرتحششتا الثاني بنود «سلام الملك» سنة ٣٨٧ لإنهاء الحرب المستمرة، التي كانت آثارُها تمتدُّ عادةً فتصل إلى آسيا الصغرى.

يرى الملك أرتحششتا أن المدن الواقعة في آسيا وجزيرتَيْ كلازوميناي وقبرص هي وحدها التي تتبعه. وسوى ذلك ستكون كل المدن الإغريقية الأخرى، صغيرها وكبيرها، مستقلةً ذاتيًّا. ولو رفض أحدٌ قبولَ هذا السلام، فسأشنُّ عليه حربًا أنا ومَن يشاركونني الهدفَ ذاته، برًّا وبحرًا، بالسفن والمال على السواء.

كما عُقدت مؤتمرات دورية (٣٧٥ و٣٧١ و٣٦٦ و٣٦٢) لمناقشة شروط هذا السلام وإعادة التأكيد عليها.

تورط فيليب في شئون الأمفكتيونية الدلفية مع استعارِ الحربِ حول أرض أبولو، من منتصف خمسينيات ذلك القرن إلى منتصف أربعينياته. نتجت هذه الحرب، المعروفة باسم الحرب المقدسة، عن أفعال دولة عضو وهي فوكيس، عندما فرض عليها مجلس الأمفكتيونية غرامةً لإقدامها على زراعة جزءٍ من الأرض المقدسة. وبدلًا من أن تدفع فوكيس الغرامة عارضَتْها وحشدت جيشًا يضمُّ في صفوفه مرتزقةً، واستولَتْ على معظم الثروة المحفوظة في دلفي. وفي ظل توافُر الثروة والقوة الكبيرتين، نقلت فوكيس غضبَها إلى أرض دول أخرى في الأمفكتيونية على مدى السنوات التسع التالية. ولوضع حدٍّ لقوة فوكيس، دعَتِ الأمفكتيونية الدلفية قوةً خارجية للإتيان بجيشها إلى وسط أثينا لتحقيق هذا الهدف؛ فنجح فيليب وجيشه في هزيمة فوكيس سنة ٣٤٦، وكسروا قاعدةَ قوتها، وذهبَتْ عضويتها في الأمفكتيونية الدلفية إلى فيليب، وبفضل هذا المنصب ترأَّسَ فيليب دورةَ الألعاب البيثية في دلفي في السنة ذاتها.

جلبت هيمنة مقدون المتزايدة في المجال الإغريقي دعْمَ الكثيرين ممَّنْ رأوا فيليب حلًّا لصراعٍ لا ينتهي بين الدول الإغريقية والأحلاف. من أوضح الأمثلة على ذلك الأثيني إيسُقراط الذي عاش ٩٨ سنة (من ٤٣٦ إلى ٣٣٨). كانت الحرب هي الحالة الدائمة في تلك السنوات، ووجَّهَتْ نتائجُها جهودَ إيسُقراط نحو البحث عن السلام، فكتب خُطبًا إلى عددٍ من الزعماء الأقوياء حاضًّا إياهم على التوفيق بين الدول الإغريقية، ثم توجيه عدوانهم إلى الخارج؛ أيْ إلى الفرس. وفي خطبته المعنونة «فيليبوس»، حضَّ فيليب على محاوَلةِ التوفيق بين الدول الكبرى: أرجوس وإسبرطة وطيبة وأثينا؛ لأن توحيد هذه القوى سيقلِّل كثيرًا صعوبةَ ضمِّ الدول الصغرى. ويمضي إيسُقراط قائلًا إنه ينبغي عندئذٍ على فيليب توسيع نشاطه في آسيا ضد الفرس البرابرة؛ ليكتسب أرضًا يستحبُّها الإغريق ويقضي على عدوٍّ خطير. كان لفيليب أصدقاء آخَرون؛ إذ تورد قائمةٌ بأسماء «الخونة» قدَّمَها رجل الدولة الأثيني ديموستيني، الذي لم يغيِّر موقفَه الناقد لفيليب، أشخاصًا من تيساليا وأركاديا وأرجوس وإليس وميسيني وسيكيون وكورنثة وميجارا وطيبة ووابية وأثينا (ديموستيني، «عن التاج» الكتاب الثامن عشر، ٢٩٥). وقد اجتذبَتْ هؤلاء «الخونةَ» وغيرهم إلى فيليب نجاحاتُه، وكذلك سماتُه الشخصية. روى الخطيب ورجل الدولة الأثيني إيسخينيس أن مواطنه ديموستيني وصف فيليب بأنه «دينوتاتوس» أثناء عودة جماعة المبعوثين الأثينيين، التي كان كلاهما عضوًا فيها، من مؤتمر مع الملك المقدوني («عن السفارة» الكتاب الثاني، ٤١). وعلى نحو ما بيَّنَّا آنفًا، فإن لكلمة «دينوس» الإغريقية معانيَ عدة، فمنها الإيجابي كالرائع أو المدهش أو القوي، ومنها المستحسَن كالحاذق أو الماهر، لكن معناها الغالب هو المهيب أو الرهيب أو الخطير. وقد يستشعر المرء كل هذه السمات في موقفٍ واحد في حضور مثل هذا الشخص.

برزت تحذيرات من الثقة في فيليب وشعبه المقدوني؛ إذ تحدَّث ديموستيني بصراحة ودون مواربة إلى الأثينيين في خطبته الفيليبية الأولى، مُعلِنًا أن لامبالاتهم تُذهِب قدرتهم على منع فيليب من جرِّ المزيد من الإغريق إلى أحبولته؛ فبينما كان الأثينيون يراقبون دون حراكٍ، كان فيليب يكدُّ بلا توقُّف. وفي خطبته الفيليبية الثالثة، كرَّرَ تحذيره من أن الأثينيين يكتفون بموقف المتفرج على الرجل وهو يكبُر ويكبُر.

في نهاية المطاف وعى هذه التحذيرات أناسٌ في دول أخرى؛ إذ لم يكن «حلفاء» فيليب الإغريق على يقينٍ من قيمة انخراطه في الشئون الإغريقية، وبحلول أواخر أربعينيات ذلك القرن، أقنع «حلفاؤه» الأثينيون «حلفاءَه» الطيبيين في الأمفكتيونية بتوحيد صفوفهما ضد فيليب وشعبه المقدوني، وانضمَّ إغريق آخَرون أيضًا إلى هذا الحلف الجديد، كالوابيين والآخيين والكورنثيين والميغاريين والإبيدوروسيين من شبه جزيرة بيلوبونيز ووسط اليونان، والليفكاديين والكوركيريين والأكارنانيين والأمبراسيين من الغرب. واستقطب فيليب تيساليا إلى صفه، وعندما قامَتْ حربٌ أخرى وشقَّتْ صفَّ أعضاء الأمفكتيونية الدلفية، عُيِّن فيليب قائدًا للقوات المشتركة ضد البغاة. كان وجود الجيش المقدوني في وسط اليونان سببًا كافيًا للدول المعادية لفيليب لكي تُعدَّ العدةَ للحرب. وكما رأينا فقد التقَتْ أعدادٌ شبه متساوية (ما بين ٣٠ ألفًا و٣٥ ألفًا على كلا الجانبين) في خيرونية في صيف ٣٣٨. قاد فيليب الجناح الأيمن في مواجهة المشاة الثقيلة الأثينية، وأما الإسكندر فاحتلَّ موقعَه للتعامُل مع المشاة الطيبية وكان على رأس الجناح الأيسر، فحقَّقَ المقدونيون نصرًا تامًّا.

اتجه فيليب إلى إبرام معاهدات جديدة، في البداية على أساس تسويات ثنائية مع الدول الإغريقية منفردة، ومن الجائز تمامًا أنه استعان بأرسطو وتلاميذ مدرسته في رسْمِ الحدود الرسمية بين الدول كخطوةٍ على طريق الحدِّ من النزاعات. ثم تكشف محاولةٌ لإقامة سلام مشترك في عموم اليونان عن تثمين فيليب هذا الشكل الحديث من أشكال التحالف؛ إذ دعا إلى مؤتمرٍ للممثلين من كلِّ أنحاء اليونان في كورنثة سنة ٣٣٧، مقدِّمًا شروطًا لتحالُف هجومي ودفاعي على السواء بين الدول الإغريقية ومقدون، على أن يتولَّى فيليب قيادةَ القوات التي يقدِّمها كل الأعضاء في حالة الحرب، لكنه لن يكون عضوًا في مجلس الحلفاء الذي كان مسئولًا عن اتخاذ القرارات بحيث يقوم بدور المحكمة العليا. وفيما عدا شئون الحلف، ستكون كل الدول مستقلة، وأي دولة عضو تنتهك شروطَ التحالف تُعاقَب، ويُعاقَب أيُّ فردٍ يُحدِث خللًا في سَيْر العمل في دولته أو يعمل مرتزقًا لمصلحة الملك الفارسي. تمخَّضَتْ صياغةُ هذه الشروط عن قيامِ الحلف الكورنثي الذي كان لوجوده قيمةٌ كبيرة من نواحٍ كثيرة، إحداها تيسير خطط فيليب الوليدة لشنِّ حملة ضد الفُرْس. ولو افترضنا مطمئنين أنه قرأ خطبةَ إيسُقراط الموجَّهة إليه، لَجازَ لنا وصْفُ حملته آنذاك بأنها حملة بالنيابة عن الإغريق.

خلاصةُ القول أن الارتباط المديد بين مقدون واليونان مكَّنَ فيليب من تحدُّث الإغريقية بأكثر من مجرد الألفاظ؛ إذ صار يفهم دقائق المعاهدات والتحالفات، ويدرك أهميةَ التقاليد من قبيل الألعاب الأوليمبية، أو الممارسات من قبيل الاعتبار الديني لحرم أبولو في دلفي. كان يعرف الصراع داخل الدول الإغريقية وفيما بينها حقَّ المعرفة، وتمكَّنَ من استغلاله. وما من شك في أن درايته بمختلف أوضاع البلدات الواقعة تحت سيطرته وبالمدن المطالِبة باستقلالها، حتى الواقعة منها في أرضه، أثَّرَتْ على تفضيله الصنف الأول. ومثلما أعاد بيرديكاس تأسيسَ مدينة بدنا الإغريقية كبلدة تحت هيمنة المقدونيين، أعاد فيليب تنظيم كرينيدس لتصير «فيليبوي»؛ أي مدينة فيليب. كانت الأحلاف، ولا سيما الأحلاف الإغريقية، مثارَ إزعاجٍ للمقدونيين، وهو ما كان أسلاف فيليب يعرفونه تمام المعرفة؛ لكنها كانت ضرورية، أولًا في إنشاء المملكة المقدونية المتأخرة، وثانيًا في وضع حدٍّ للحرب المستمرة بين الائتلافات الأكبر التي تضم الدول الإغريقية. والواضح أن فيليب كان يقدِّر جيش المشاة الثقيلة الإغريقي واستند إليه في بناء جيشه، ومع نجاح جهوده في تراقيا أدرَكَ شخصيًّا أن فارس تمثِّل مشكلةً للمناطق الواقعة في شمال بحر إيجة وغربه. كان أبوه قد أيَّدَ الطيبيين في عونهم الذي قدَّموه للمرازبة الغربيين ضد ملك الفرس آنذاك، ويبدو أن فيليب كانت له تعاملات مع شخصٍ يُدعَى هيرمياس أنشأ مملكة صغيرة في شبه جزيرة ترواس (المنطقة الشمالية الغربية من الأناضول حول موقع طروادة)، وكذلك مع بيكسوداروس، حاكم جزء من كاريا في جنوب الأناضول. وكانت لهذه الاتصالات دلالة ثقافية وعسكرية عند المقدونيين.

(٢) التأثيرات الثقافية

كان الإغريق والمقدونيون جيرانًا منذ ثلاثة قرون ونصف قرن على الأقل قبل حكم فيليب الثاني، وكانت العلاقة، على نحو ما بيَّنَّا، في العادة تنافُسًا عدائيًّا على السيطرة على الأرض والوصول إلى الموارد. لكن صاحبَتْ ذلك الصراعَ معرفةُ كلٍّ منهما بثقافة الآخَر، وكانت هاتان الثقافتان في المراحل الأولى من التفاعل مختلفتين اختلافًا ملحوظًا في نواحٍ كثيرة، إنْ لم يكن في كل النواحي. وبمرور الوقت ازدادَتْ أوجهُ الشبه، خصوصًا في الدين واللغة والعمارة والفنون والأعراف الثقافية. وبما أن الثقافة الإغريقية كانت الأكثر تطورًا من بين الاثنتين، كان تأثيرها على مقدونيا بحلول العصر العتيق (حوالي ٧٥٠–٥٠٠) هو الغالب.

نوَّهْنا إلى أن زيوس وهرقل كانا الشخصيتين الإلهيتين والبطوليتين الرئيستين عند السلالة الأرغيَّة، وقد ضاع تفسير هذه الآصرة في غياهب الأصول الأرغيَّة، ولا يلزم أن نقبل حكايةَ رحيلِ ثلاثة إخوة من أرجوس لكي ندرك فهم الأرغيِّين أنفسهم صلات نسبهم؛ والمهم هو التماثل مع الفكر الإغريقي الذي ينشأ عن هذا الفهم. علاوةً على ذلك، ضُمَّتْ آلهةٌ هيلينية أخرى بمرور الزمن إلى المهرجانات المقدونية؛ إذ حلَّت معابد أواخر القرن الرابع التي كُرِّست للرَّبَّة ديميتر محلَّ منشأتي ميغارون (الميغارون وحدة معمارية تتألَّف من رواقٍ ذي أعمدة، وغرفة رئيسة بها مَجمرة، وفي الغالب غرفة ثالثة في الأمام أو الخلف) تعودان إلى القرن السادس ومرتبطتان بتلك الربَّة. وتكشف الرسومات، التي تمخضت عنها مدافن آيجي/فيرجينا، عن وجود بيرسيفوني ابنة ديميتر في المَعين الفني المقدوني، بينما اكتُشِف مذبح لديونيسيوس بين أطلال المسرح الكائن في الموقع ذاته. ولا شك أن ديونيسيوس موضوعٌ مفضَّل في الفسيفسائيات التي ترقى إلى أواخر القرن الرابع وما بعدها. وصُوِّر الإله بان على قِطَع النقد التي ضرَبَها أمينتاس الثاني، وصُوِّر أبولو على قِطَع النقد التي ضربها فيليب الثاني. وافتُتِحت المناسبة التي قُتِل فيها فيليب باستعراضٍ لتماثيل مجموعة الآلهة الإغريقية، مع إضافة تمثال ثالث عشر لفيليب.

أُقِيم ذلك الاحتفال في مسرح العاصمة القديمة آيجي الذي أُنشِئ في عهد أرخيلاوس لإقامة المهرجانات على شرف زيوس وربات الفنون، والمسابقات، والعروض المسرحية. ومع أنه كان أصغر من المسارح الإغريقية، إلا أنه أُقِيم على طرازها. علاوةً على ذلك، دُعِي الكتاب المسرحيون الإغريق إلى مقدونيا، ومنهم الشاعر الأثيني يوربيديس الذي ألَّفَ «الباخوسيات» (موجودة) و«أرخيلاوس» (غير موجودة)، ومات في مقدونيا. كان كاتب مسرحي أثيني آخَر، وهو أجاثون، ضيفًا على الحاكم الأرغيِّ ذاته، ومثله كان الشاعر الكورالي تيموثيوس الملطي والشاعر الملحمي خويريلوس الساموسي.

ومع هذا كانت المسابقات على الطراز الأوليمبي التي استحدثها أرخيلاوس في ديون من الاحتفالات الأخرى الشائعة في عموم العالَم الإغريقي. ويكشف العنصر الدرامي في التنافس عن انفتاح المقدونيين على الثقافة الهيلينية، ويتجلى تقدير مشترك للبراعة الرياضية في قِيَم كلا المجتمعين. وناقشنا التأكيد المقدوني على التدريب البدني في الفصلين الثاني والثالث، وخصوصًا لأبناء السلالة الملكية الذين كان يُتوقَّع منهم قيادة الجيش المقدوني بالقدوة. وتُبرهن الرواية التي تتحدَّث عن مشاركة الإسكندر الأول في الألعاب الأوليمبية الإغريقية، سواء أصَحَّتْ أم لم تَصِحَّ، على لياقته الشخصية من واقع النتيجة؛ إذ حصل على المركز الأول مناصفة في سباق العَدْوِ.

من الممكن طبعًا أن نفهم هذه الاقتراضات كدعاية — مفادها: «نحن المقدونيين نُشبِهكم بحقٍّ أيها الإغريق» — أو كجهود لتمدين شعب بدائي بل همجي أيضًا. لكنَّ رسوخَ هذه الاقتراضات وازديادها قوةً وعددًا حجةٌ مضادة لهذه الاستنتاجات؛ فكما أن الجسم البيولوجي يلفظ العضو المزروع فيه الغريب عن تكوينه، كذلك سيلفظ الجسمُ الثقافي العاداتِ الأجنبيةَ غير المتوافقة معه.

صار استخدام الألفبائية الإغريقية العُرْفَ المتَّبَع في لغة المملكة المكتوبة، ولندرة الأدلة فيما يخص لغةَ المقدونيين المنطوقة، لا يمكن حَسْم مسألة علاقتها بالإغريقية. ومن ناحية أخرى، توجد أدلة أكثر فيما يخص لغتهم المكتوبة؛ إذ وصلت إلينا نقوش سجَّلَت الاتفاقيات المبرَمةَ بين المقدونيين والإغريق، وخصوصًا الأثينيين، وإنْ كان مصدر هذه النقوش الدول الإغريقية التي كانت طرفًا في هذه الاتفاقيات، وربما صِيغت النُّسَخُ التي كُتِبت بالمقدونية صياغةً مختلفة تمامًا. وتوحي الأنواع الأخرى من النقوش التي وصلت إلينا بأن الحال لم يكن كذلك؛ إذ تسجِّل ٤٧ لوحة تذكارية استُخرِجت من مدافن آيجي/فيرجينا ونُسِبت إلى النصف الثاني من القرن الرابع أسماء المتوفين وغالبيتها إغريقية. وكما فسَّرَ الباحث الذي نقَّبَ عن الألواح، فإن تاريخ الوفاة حوالي سنة ٣٣٠ يوحي بأن تاريخ ميلاد كثيرٍ من هؤلاء المتوفين وقَعَ في العقد ٣٧٠–٣٦٠ تقريبًا. ويوحي اشتمال اسم مركَّب من اسم الأب أو الجد الأعلى في معظم شواهد القبور بأن تاريخها يعود إلى حوالي سنة ٤١٠–٤٠٠ فيما يخص الأسماء الثانية المسجَّلة. ولا ينتمي جميع الأشخاص المسجلين على اللوحات التذكارية، ولا حتى غالبيتهم، إلى نبلاء مقدونيا، بمعنى أنهم من عامة المقدونيين، ولا شك أن آيجي/فيرجينا كانت عاصمة المملكة الأصلية؛ ومن ثَمَّ ربما كان استخدام أسماء إغريقية بديلة ممارَسةً متَّبعةً في هذا المكان بعينه فقط. ومع ذلك فهذا الاستنتاج تنفيه النقوش المستمدة من بيرويا في منطقة بيرميون؛ إذ كُتِبت هذه النقوش — وتشمل أسماء أيضًا — بالألفبائية الإغريقية. ويجب أن نعترف بعدم إمكانية أن يكون الإليريون أو غيرهم من الشعوب المجاورة في الشمال أو الغرب أو الشرق وفَّروا ألفبائية بديلة، وأن اليونان كانت الخيار الوحيد. لكن ما نريد قوله إنه كما في حالة الآلهة الهيلينيين، وُجِدت الألفبائية الإغريقية مُرْضِيةً، وصار استخدامها هو القاعدة في النقوش المقدونية، الرسمية منها والشخصية.

fig20
شكل ٤-٣: مخطط المسرح الذي اغتيل فيه فيليب سنة ٣٣٦ قبل الميلاد في فيرجينا. تشير الأرقام الرومانية من I إلى IX إلى القطاعات التسعة التي تشتمل عليها قاعة المسرح، ويمثِّل القطاع ٥ أوسطها. والمستطيل الموجود في وسط الأوركسترا حجرٌ كان يقوم عليه المذبح ذات يوم. بإذنٍ من صندوق الإيرادات الآثارية التابع لوزارة الثقافة اليونانية، أثينا.

كانت المعرفة الإغريقية أيضًا تحظى باحترام؛ إذ خُطِّطت بيلا على هيئة شبكة متعامدة من الشوارع، وهو التخطيط المرتبط بالإغريقي هيبوداموس، وتضمَّنَتِ المسارحُ — وإن كانت أقل حجمًا من النماذج الإغريقية — خصائصَ مماثلةً للأبنية الإغريقية، وكان الرسام الإغريقي زيوكس ضيفًا على الملك أرخيلاوس، وتوحي أشكال الرسومات التي وصلت إلينا في آيجي بالملامح التي تُنسَب إلى هذا الفنان الذي لم يُكتَب لأعماله الإغريقية البقاء، ومنها الظل والتجريب بالألوان وبالمنظور ومحاولة التعبير عن الانفعالات. كانت هناك أنواع أخرى من المعرفة يمثِّلها إغريق آخَرون استُقطِبوا إلى خدمة الحكام، مثل يومينس الكارديِّ الذي عمل كمديرٍ للسجلات المقدونية، ونيارخوس الكريتي العارف بالبحار. وُظِّف هؤلاء، ويقينًا استُغِلوا، لكن مهاراتهم كانت ضروريةً لجهود مَن عملوا في خدمتهم. وهكذا ساهمت المهاراتُ والأشخاصُ في تشكيل الحياة المقدونية، وسيكشف أحد الأمثلة البارزة عن درجة التفاعُل التي تحقَّقَتْ خلال عهدَيْ أمينتاس الثالث وابنه الثالث فيليب الثاني.

(٣) علاقة خاصة

سار خلفاء أرخيلاوس على خطاه في دعوة الزوار الإغريق المعروفين والنافعين إلى بيلا، فأوجد أمينتاس الثالث صلة دامت خلال معظم عهده وعهدَيْ فيليب الثاني والإسكندر الثالث، عندما جلب نيقوماخوس وزوجته فايستس الأسطاغيرية إلى عاصمته. كانت أسطاغيرا، الواقعة شمال شرق خالكيذيكي، قد استُعمِرت أصلًا في العصر العتيق على يد قومٍ من جزيرة أندروس قبالة ساحل أتيكا الجنوبي، وبمرور الوقت انضمَّ إغريق من مناطق أخرى إلى هؤلاء المستوطنين الأصليين. وقد اجتذبها موقعها إلى تحالُفات أكبر سبَقَ أن ناقشناها (الحلف الديلوسي والحلف البيلوبونيزي والحلف الخالكيذيكي)، ومع التوسُّع المقدوني شرقًا صارت هدفًا للملوك الأرغيِّين.

يُوصَف نيقوماخوس بأنه طبيب الملك وصديقه في آنٍ واحد؛ ومن ثَمَّ تفسِّر ممارستُه الطب على ما يبدو رحيلَه إلى مقدونيا مع فايستس وابنهما الصغير أرسطو (المولود سنة ٣٨٤). وتشير الروايات التاريخية إلى موت كلا الأبوين وأرسطو كان لا يزال طفلًا صغيرًا، فانتقل إلى وصاية قريب له يُسمَّى بروكسينوس. وليس من الواضح ما إن كان أرسطو مكث في بيلا أم عاد إلى أسطاغيرا لدى موت أبوَيْه. ثم رحل إلى أثينا في عامه الثامن عشر للدراسة في أكاديمية أفلاطون، ومكث فيها ٢٠ سنة. وتكشف كتابات أرسطو اللاحقة تأثيرَ الفكر الأفلاطوني، وجاء تأثير آخَر من الخطيب إيسُقراط، الذي رأيناه يلتمس من فيليب المساعدة على إحلال السلام في اليونان.

ويمكن تعليل قراره الرحيل عن أثينا سنة ٣٤٨ / ٣٤٧ بحدثَيْن، أولهما موت أفلاطون وما تلاه من الاعتراف بابن أخته إسبوزيبوس خليفةً له، وتصاعُد المشاعر المناهضة للمقدونيين بعد استيلاء فيليب على أولينثوس، وكانت حليفًا مهمًّا لأثينا في شبه جزيرة خالكيذيكي. ومن الجائز تمامًا أن علاقات أرسطو السابقة بمدينة بيلا جعلت الانسحاب من أثينا خطوة منطقية، فأمضى السنوات الثلاث التالية في شمال غرب آسيا الصغرى؛ حيث كان زميل دراسته هيرمياس قد أنشأ مملكة صغيرة في شبه جزيرة ترواس أثناء الصراعات بين المرازبة الغربيين وشاه فارس. كان ثمة تلاميذ آخَرون لأفلاطون يعيشون في أتارنيوس في الوقت نفسه وشكَّلوا دائرةً صغيرة من المثقفين، وهو شيء سيتحوَّل يومًا بعد يوم إلى ممارسةٍ يداوِم عليها الحكامُ بعد موت الإسكندر الثالث. كانت العلاقات التي جمعت الفلاسفة بهيرمياس وثيقةً على ما يبدو؛ إذ كان الحاكم منجذبًا لآراء أفلاطون، ويمكن تصوُّر تلاميذ أفلاطون وهم يسيرون على خُطَى معلِّمهم الذي كان يقدِّم المشورةَ لحاكم سرقوسة. وكانت هناك مودة شخصية في حالة أرسطو تتضح من زواج أرسطو ببثياس، ابنة أخت هيرمياس وابنته بالتبنِّي.

fig21
شكل ٤-٤: تمثال حديث لأرسطو في موطنه أسطاغيرا. صورة بعدسة السيد تي فورينوس.

قال بعضهم، وتحديدًا أنطون-هيرمان كراوست، إن صلة أرسطو بهيرمياس ارتبطت بدور أرسطو كعميل ومخبر لفيليب؛ إذ كانت مملكة هيرمياس الصغيرة تحتلُّ مكانًا استراتيجيًّا لشنِّ اجتياحٍ مقدوني للأقاليم الشمالية الغربية التابعة للإمبراطورية الفارسية. والحقيقة أن بيلا كانت تضم بين سكانها أرتبازوس، مرزُبان فريجيا في الأناضول، الذي ثار على الشاه وهُزِم، فسكنها بدايةً من سنة ٣٥٣ أو ٣٥٢، وظل مع أسرته في مقدونيا لنحو عشر سنين.

لكن أرسطو رحل بعد ذلك بثلاث سنوات إلى ميتيلين في جزيرة ليسبوس، ربما داخل نطاق نفوذ هيرمياس، وارتبطت دراسات أرسطو في علم الأحياء بهذه الفترة من حياته. ثم رحل مجددًا بعد سنتين عائدًا إلى بيلا هذه المرة؛ إذ تقول الروايات التاريخية إن فيليب استدعاه لتعليم ابنه الإسكندر. ويروي بلوتارخُس أن فيليب:

أرسل في طلب أرسطو، أشهر فلاسفة زمانه وأكثرهم علمًا … كان أرسطو من أبناء أسطاغيرا، التي دمَّرَها فيليب نفسه، ثم أعاد إسكانها ورَدَّ إليها جميعَ مواطنيها الذين استُعبِدوا أو نُفُوا من أرضهم … وأعطى أرسطو وتلاميذه معبدَ حوريات الماء بالقرب من ميزا كمكانٍ يدرسون فيه ويتحاورون … وفي اعتقادي أن أرسطو هو الذي فعل أكثر من كلِّ مَن سواه ليغرس في الإسكندر اهتمامَه بفنِّ الشفاء وبالفلسفة … كان يَعتبر الإلياذة دليلًا لفن الحرب، واصطحب معه في حملاته نسخةً منها مذيَّلة بشروح أرسطو. (الإسكندر، الكتابان السابع والثامن)

لا يقتصر الخلاف بين الباحثين على طبيعة هذا التعليم، بل يطول حتى دقة وصف أرسطو بأنه معلم الإسكندر. وربما تُعزِّز صحةَ هذا الوصف قائمةُ كتابات أرسطو، التي ضمَّتْ كتابًا بعنوان «عن المستعمرات»، وآخَر بعنوان «عن المَلكية» يُزعم أنه ألَّفهما خصوصًا للإسكندر، وربما تعزِّزه كذلك سجلات خطابات أرسطو التي أرسلها إلى فيليب وإلى الإسكندر (أربعة كتب)، وإلى أوليمبياس (كتاب واحد)، وإلى هفایستیون (كتاب واحد)، وإلى أنتيباتروس (تسعة كتب)، وهو آخِر مَن جاء ذِكْر اسمه من معاوني فيليب الأعظم نفوذًا، والذي عيَّنه أرسطو كمنفِّذ لوصيته. ارتبط أرسطو ارتباطًا وثيقًا بأهم الشخصيات في بيلا في أواخر أربعينيات القرن الرابع، واستند ذلك الارتباط إلى أساسٍ بعينه، وربما أُسُس متعددة.

ينقل ديوجانس اللايرتي في تأريخه لحياة أرسطو، الذي كتبه على الراجح في القرن الثالث بعد الميلاد، عن الفيلسوف اعتقادَه أن الحكيم يقع في الغرام ويشارِك في السياسة، بل فوق ذلك أيضًا يتزوَّج ويعيش في بلاط الملوك (سِيَر مشاهير الفلاسفة ومذاهبهم وأقوالهم، الكتاب الحادي والثلاثون). فلا نستغرب اشتغال الفيلسوف بتعليم الآخرين أثناء عيشه في بلاط الملك في ضوء أنشطة الحكماء الآخرين. ويدل حماس الملوك الأرغيِّين المتصاعد تجاهَ الثقافة الإغريقية ومعرفتهم بها يقينًا على قيمةِ تعليمِ وَرَثة العرش المحتملين العلومَ الإغريقية. وربما استندَتْ دعوةُ فيليب أرسطو إلى معرفةٍ شخصية بين الرجلين تعود قديمًا إلى فترة شبابهما، عندما كان أرسطو يعيش في بيلا مع والديه، وحديثًا إلى اتصالاتهما الثنائية مع هيرمياس ملك أتارنيوس.

لا نعرف إلا قليلًا عن طبيعة طريقة تعليم أرسطو، سواء في مقدونيا أم في مدرسته فيما بعدُ. ويعطينا ديوجانس اللايرتي فكرةً في هذا الشأن بإيراده ما يحدِّده الفيلسوف من سمات ضرورية للتعليم السليم، وهي الموهبة الطبيعية والدراسة والممارسة المستمرة (سِيَر مشاهير الفلاسفة ومذاهبهم وأقوالهم، الكتاب الحادي والثلاثون). ويقول الكاتب المتأخِّر أيضًا إن أرسطو كان يعلِّم تلاميذه الحديثَ عن أطروحة محددة بالإضافة إلى ممارسة القدرة الخطابية. ومن واقع كمية أعمال أرسطو المكتوبة (يعدِّد ديوجانس ٤٠٠ عمل كأعمال أصلية)، يمكننا القول مطمئنين إنه كان يدرِّب تلاميذه أيضًا على الكتابة. ومن الجائز تمامًا أن البحث العلمي كان عنصرًا آخَر من عناصر هذا التعليم، هذا لو صحَّتِ القصة التي تقول إن الإسكندر أمَرَ صيادي الحيوانات والطيور والأسماك المقدونيين بتقديم معلوماتٍ عمَّا شاهدوه أو اصطادوه. يمكن إضافة سمة أخرى من سمات طريقة أرسطو في التعليم على أساس طبيعة المدرسة التي أسَّسها في أثينا في منتصف الثلاثينيات؛ إذ كان اكتساب المعرفة شأنا مدرسيًّا من حيث المنهج الأكاديمي وفيما يتعلق بالنواحي الاجتماعية. كانت المدرسة الواقعة في بستان مكرس لأبولو ليكيوس تحتوي أيضًا على جمنازيوم، ومبنًى يضم مكانًا للمحاضرات ومجموعات الكتب والخرائط والمقتنيات، ومكانٍ لتناول الطعام. ومن الجائز تمامًا أن التقليد الذي اتبعه أرسطو بتعليم عددٍ من الشباب في ميزا كان إرهاصة للممارسات التي اتُّبعت في الليسيوم في أثينا.

حالت حياة الإسكندر دون انصرافه إلى التعليم بحلول سنة ٣٤٠، التي عمل فيها كوَصِي على عرش أبيه. ولا أحد يعرف على وجه الضبط أين عاش أرسطو بين عامَيْ ٣٤٠ و٣٣٥، وربما عاد إلى أسطاغيرا، لكنه عاد إلى أثينا بحلول سنة ٣٣٥ لتأسيس مدرسته التي أسلفنا الحديث عنها. قد لا تكون مصادفة أن عودته جاءت إبَّان خضوع أثينا للإسكندر؛ إذ كانت طيبة قد استُولِي عليها مؤخرًا وأُبِيدت بعد ثورتها على الهيمنة المقدونية، وكان الأثينيون يخشَوْن انتقامًا مماثلًا، لكن جرى التعامل مع أثينا دبلوماسيًّا من خلال معاهدة، لا بانتقامٍ عسكري. ظل أرسطو في أثينا حتى ٣٢٣، وعندها رحل إلى خالكيذا في جزيرة وابية المجاورة. ومرةً أخرى، ربما كان الدافع إلى ذلك صلته بمقدون؛ إذ كان ذلك بعد موت الإسكندر واستدعاء وَصِيه على العرش أنتيباتروس إلى آسيا؛ فالشخص الذي تربطه علاقات قوية بأعداء أثينا التقليديين هؤلاء يحق له كل الحق أن يخشى على حياته. وتروي المصادر المتأخرة أن أرسطو كتب قبل موته بفترة قصيرة إلى أنتيباتروس عن خطر العيش في أثينا لو كان المرء أجنبيًّا، وسيتضح هذا بوجه خاص في موقف أرسطو بعد أن مات الإسكندر وكان أنتيباتروس على ما يُفترض في طريقه إلى الشرق. وليست مفاجأةً كبيرة أن نعلم أن المجلس الأثيني صوَّتَ لمصلحة الحرب ضد مقدون لدى علمه بموت الإسكندر؛ إذ توافق تحالف جديد أُقِيم مع أيتوليا وسيكيون وتيساليا وشمال غرب بيوتيا وميسينيا وأرجوس وأجزاء من جزيرة وابية، على تأمين حرية الإغريق. وبعد أن حقَّقَ هذا الائتلاف نجاحًا أوليًّا، هُزِم سنة ٣٢٢ بعد عودة ١٠ آلاف محارِب مخضرم مع القائد المقدوني كراتيروس. ولا شك أن أرسطو كان حكيمًا في رحيله عن أثينا، وقد مات متأثرًا بمرضه في خالكيذا سنة ٣٢٢.

fig22
شكل ٤-٥: موقع نمفايون في ميزا. بإذن من د. إي كفاليدو، متحف الآثار في سالونيك.

خلاصة القول أن ارتباط أرسطو بمقدونيا يكشف عن العديد من سمات الثقافة المقدونية، على الأقل ثقافة بيلا الأرغيَّة. تباطَأَ استقطاب إغريق بارزين إلى مقدونيا منذ حكم الإسكندر الأول إلى حكم الملك أرخيلاوس، لكن لم يتوقَّف أثناء حكم أمينتاس الثالث المضطرب، فوُجِدت في الطبيب نيقوماخوس الأسطاغيري، الذي رحل إلى بيلا مع زوجته وابنه الصغير أرسطو، خبرة ملائمة تمامًا لمملكة في حرب دائمة. انتهى هذا الارتباط بموت نيقوماخوس وفايستس في سن مبكرة نسبيًّا، علمًا أنه لا يوجد ما ينمُّ عن فعل جنائي. ومع أن أرسطو لم يواصل إقامته في مقدونيا، فإنه عاد إليها بعد سنواته العشرين التي قضاها كتلميذٍ في أكاديمية أفلاطون في أثينا. التفسير المعتاد لعودة أرسطو سنة ٣٤٣ / ٣٤٢ هو تعليم الإسكندر الثالث، ومع أن دوره كمعلم محل شك من بعض الباحثين المحدَثين، يتضح اهتمامه بالتعليم من تأسيسه مدرسةً له في أثينا سنة ٣٣٥. ومن الجائز تمامًا أن مسئوليات أخرى أُسنِدت إلى هذا الفيلسوف؛ إذ عاش كما نوَّهنا في مركز مملكة أتارنيوس الصغيرة في الأناضول من ٣٤٨ / ٣٤٧ إلى ٣٤٥ / ٣٤٣، وعاش على مدى السنتين التاليتين في جزيرة ليسبوس قبالة ساحل الأناضول. ومن المهم أن ننوِّه إلى اهتمام فيليب ذاته بأتارنيوس مع ازدياد نشاط الملك المقدوني في بحر بروبونتيس والبحر الأسود، وهما الحدود الشمالية للإمبراطورية الفارسية. وخلال هذه الفترة الزمنية ذاتها، سكن مرزُبان فارسي متمرد من الأناضول العاصمة المقدونية بأسرته.

كان أرسطو لدى عودته إلى أثينا في وضع يسمح له بمساعدة فيليب في شروط تسوية الشئون الإغريقية في أعقاب الانتصار المقدوني في خيرونية؛ إذ يقال كما أسلفنا أن أرسطو وتلاميذه رسموا حدود الدول الإغريقية دولةً دولةً. وربما تشير عودته أيضًا إلى صلاتٍ دائمةٍ بالملك الأرغيِّ الحاكم الإسكندر الثالث. ولدى مقتل فيليب ارتأى أعداءُ مقدون التقليديون أن الوضع سانح للثورة على السيطرة المقدونية، وباستدراج الإسكندر للتعامل مع الأعداء الشماليين، تمرَّدَ العديد من الدول الإغريقية، فسارَعَ الإسكندر لدى عودته إلى التعامل مع المتمردين، فأُبِيدت طيبة، وأما أثينا فعُومِلت بسخاء مع مساهمتها في الثورة الطيبية، وربما حدث هذا بشفاعة أرسطو.

الحجة التي تقول بدور أرسطو كمبعوث ووسيط وعميل ليسَتْ مؤكَّدة، لكن يؤيدها دور فلاسفة ذلك الجيل ذاته وما تلاه؛ فمثلًا زينوقراط، رئيس الأكاديمية من ٣٣٩ إلى ٣١٤، كان عضوًا في وفد سفراء أثيني أُرسِل للتفاوُض مع فيليب، وكان فيما بعدُ مبعوثًا إلى أنتيباتروس لحضِّه على إطلاق سراح أسرى الحرب التي نشبت لدى موت الإسكندر سنة ٣٢٣. وكان كاليسثينيس (ابن أخت أرسطو) وأناكساجوراس وتلميذه بيرو، المعروف كمؤسِّس المدرسة الشكِّيَّة الفلسفية، ممَّن صاحبوا الإسكندر في حملته. ودُعِي ثيوفراستوس، خليفة أرسطو على رئاسة الليسيوم، إلى مصر من قِبَل بطليموس الأول، وكان الرواقيون جزءًا من بلاط أنتيغونس غوناتاس، ملك مقدون في أوائل القرن الثالث. وفي وقت متأخر من ذلك القرن، لعب الفيلسوف الرواقي سفايروس دورًا في برنامج للملوك الإسبرطيين، وأما الفيلسوف الكلبيُّ كيركيداس فعمل سفيرًا إلى الملك المقدوني آنذاك في محاوَلةٍ لوقف النجاح الإسبرطي. وخدم رياضياتي أبيقوري ثلاثةَ ملوك سلوقيين في القرن الثاني، وفي منتصف ذلك القرن أُرسِل وفد سفراء مؤلَّف من ثلاثة فلاسفة يمثِّلون ثلاثَ مدارس مختلفة للتعامُل مع مجلس الشيوخ الروماني.

لدور أرسطو أهميته لا في الكشف عن ضلوع المثقفين سياسيًّا فحسب، بل أيضًا في إثبات نباهة الملوك الأرغيِّين العقلية؛ إذ تفهموا الثقافة الإغريقية جيدًا، واستخدموها بقوة بفضل قيمتها ولأغراضهم الخاصة على السواء. وتعطينا الصلات الفردية أيضًا أفكارًا عن الطبيعة الحقيقية للحياة في الأرض التي لم يكن يستطيع المرء حتى شراء عبدٍ صالحٍ منها، على حد قول ديموستيني. جُلِب يومينس، ابن أحد ضيوف/أصدقاء فيليب من بلدة كارديا الإغريقية في شبه جزيرة كيرسونيسوس التراقيَّة، إلى بيلا ليعمل رئيسًا لأمانة السر لسبع سنوات، واستمر بهذه الصفة في عهد الإسكندر، لكن في الهند عُيِّن في منصب قائد عسكري، وفي حفل زفاف الإسكندر وصحبه في شوشان سنة ٣٢٤ زُوِّج بأخت بارسين محظية الإسكندر. ويدل ارتقاؤه إلى هذه المكانة الرفيعة على الأهمية التي اكتسبها حفظ السجلات في مقدونيا بحلول عهد فيليب إنْ لم يكن قبل ذلك. ربما كان الإغريق أقدر في مهارات القراءة والكتابة، لكنَّ شخصًا يُسمَّى مارسيا البيليَّ، وهو معاصر للإسكندر الثالث، وضَعَ سردًا في ١٠ كتب لتاريخ لمقدونيا، بدايةً من نشأة المملكة وحتى صيف ٣٣١ قبل الميلاد. كان أيُّ ملك أرغيٍّ يُنصَح بأن يثمِّن مهارات الإغريق (ومهارات غيرهم بالطبع) ويستقطب هذه المهارات وأصحابها إلى مملكته. كانت الدول الإغريقية مصدرَ إزعاج، لكن أدوات الإغريق كانت ضروريةً للنشاط المقدوني، وفي النهاية صارت تلك الأدوات والأعراف جزءًا لا يتجزأ من الثقافة المقدونية. كانت الخطوط الفاصلة بين الثقافتين المقدونية والإغريقية قد بدأت تنطمس قبل العصر الهلنستي بزمن طويل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤