الفصل السادس

ملاقاة التهديد البعيد

كتب فرناند بروديل في تأريخه الواسع الذي يحمل عنوان «الذاكرة والبحر المتوسط» عن «خطأ الإسكندر»؛ بمعنى قيادته قواته شرقًا لا غربًا؛ إذ لو اتخذ قراره بالسَّيْر غربًا، «أفليس من الجائز أنه كان سيَحُول دون المصير الذي لاقَتْه روما؟» (الصفحة ٢٥٠) ومع ذلك فإن معاصرين للإسكندر، بل أيضًا ملك آخَر يحمل اسم الإسكندر (صهره الذي كان يحكم إبيروس)، وجَّهوا اهتمامهم نحو إيطاليا، لكن لم يُكتَب النجاح إلا لقليلين. المدهش أن الإسكندر الثالث المقدوني حقَّقَ نجاحًا غير عادي في مواجهة الإمبراطورية الفارسية المترامية الأطراف والثرية والقوية، وكلٌّ من اختيار الخصم والنجاح في مواجهته يستحقُّ منَّا التأمل؛ فلماذا كانت بلاد فارس هدفَ الإسكندر؟ وماذا كانت حالة تلك الإمبراطورية سنة ٣٣٦؟ بالإضافة إلى ذلك، توجد قضايا أخرى عديدة ستساعدنا على فهم الإسكندر نفسه: إلى أيِّ مدًى كانت معرفته عميقةً بالإمبراطورية الأخمينية؟ وإلى أيِّ مدًى كان هيكلها وثقافتها أجنبيَّيْن عليه؟ وهل أثَّرَ فتح بلاد فارس على خططه التالية؟

(١) إنشاء الإمبراطورية الأخمينية

خرجت إلى الوجود في أواخر الألفية الرابعة في شرق البحر المتوسط ثقافاتٌ معقَّدة على هيئة دول-مدن فرادى، ومع توسيع دول منطقة ما بين النهرين رقعتَها، برزت ممالك أكبر في أواخر الألفية الثالثة والألفية الثانية في مصر وفي الشرق الأدنى؛ كانت تلك الحضارات في الوقت نفسه بمنزلة مغانط تجتذب شعوبًا جديدة إلى شبكات نشاطها. وبحلول أواخر الألفية الثانية كانت تهيمن على منطقة شرق البحر المتوسط قوتان كبيرتان؛ مصر في الجنوب والمملكةُ الحيثية في الشمال. فتَّتَ الانهيارُ الذي ما زال غامضًا واعترى الحضارات في نهاية الألفية الثانية قواعدَ السلطة لقرون عديدة، لكن في القرن السادس اتحدت الشعوب التي وفدت متأخرًا على المنطقة تحت حاكم واحد، وتوسَّعَتْ توسُّعًا انفجاريًّا، فصارت الإمبراطورية الوحيدة في عالم شرق البحر المتوسط. كانت هذه التوليفة هي الإمبراطورية الفارسية، التي كانت الدولةَ الأكبر في امتدادها في تاريخ منطقة البحر المتوسط والشرق الأدنى حتى إقامة الإمبراطورية الرومانية؛ إذ امتدت من تراقيا إلى نهر سيحون في الشمال، ومن الساحل الليبي إلى نهر السند في الجنوب. انعكَسَ تنوُّع الشعوب التي وُحِّدت بإنشاء هذه الدولة المترامية الأطراف في فلسفة الحكم؛ إذ شجَّعَ حكامُها الحفاظَ على التقاليد الثقافية المحلية تحت هيكل الإدارة الموحدة.

شُكِّلت الإمبراطورية سريعًا في القرن السادس قبل الميلاد حينما كانت دول عديدة تتنافس على السيادة في أعقاب انهيار الإمبراطورية الآشورية في الشرق الأدنى سنة ٦١٢. كان أهم المتنافسين مملكتَيْ بابل ومصر القديمتين اللتين تحرَّرَتا آنذاك من السيطرة الأجنبية، والميديين الهنود-الأوروبيين الذين وفدوا على المنطقة متأخرًا وكانت أرضهم تمتد جنوبًا من غرب أعالي دجلة إلى الخليج الفارسي. كُلِّل مسعى الميديين بالنجاح، فبسطوا سيادتهم على شعب هندي-أوروبي آخَر وهو الفرس الذين كانوا أقل اتحادًا من أقاربهم في اللغة؛ ومن ثَمَّ كانوا عرضةً للاختراق من جانب جيرانهم الأقوى منهم. تمخَّضَ زواجُ ابنة الملك الميدي بقمبيز الأول ملك فارس عن انعكاسِ أدوارِ الشعبين؛ إذ تآمَرَ ابنٌ جاء ثمرةَ هذا الزواج يُسمَّى قورش ضدَّ جده الميدي، الذي استسلم استسلامًا مشروطًا سنة ٥٥٩. كان قورش أولَ ملوك السلالة الأخمينية — سُمِّيت تيمُّنًا بأخمينس الذي يُزعَم أنه الجد الأكبر للسلالة — التي استمرت حتى حكم الإسكندر المقدوني.

ظفر قورش بلقب «الشاه» من خلال مشوارٍ عاصفٍ وطَّدَ خلالَه الحدودَ الأساسية لإمبراطوريته. وإذ ورث النزاع بين ميديا ومملكة ليديا الأناضولية، زحف بجيشه فألحَقَ هزيمةً ماحقة بالجيش الليديِّ سنة ٥٤٦، ثم سار إلى ساحل الأناضول، ضامًّا بذلك دول-مدن آسيا الصغرى الإغريقية إلى مُلْكِه المتَّسع. وفي بلاد ما بين النهرين دُعِي إلى تولِّي إدارة بابل فتولَّاها سنة ٥٣٨ ليكتسب بذلك أرضًا غرب نهر الفرات. كان الجنود الفرس ناشطين في الشرق أيضًا، وتحديدًا في أفغانستان الحديثة وأطراف إيران وما وراء حدود الهند الحديثة. لم يبسط قورش سيادته على ثالث المتنافسين على السلطة؛ إذ ترك مهمة ضم مصر إلى الإمبراطورية إلى ابنه وخليفته قمبيز الثاني (٥٣٠–٥٢٢) بعد مقتله في الحرب ضد الماساجيتاي في الجزء الشمالي الشرقي من إمبراطوريته. كان قورش قد عيَّنَ قبل ذلك قمبيز ملكًا على مدينة بابل، التي يبدو أنه مكث فيها طوال معظم حكمه، وفي ٥٢٦ أعَدَّ العدةَ لغزو مصر فأخضعها للسيطرة الفارسية بحلول صيف ٥٢٥. وبالإضافة إلى توسيعه الإمبراطورية، تتَّسِم سمعتُه بالولع بالوحشية في الروايات المصرية والإغريقية والفارسية على السواء، وقد مات سنة ٥٢٢، إما انتحارًا وإما قتلًا.

بضمِّ مصر بلغَتِ الإمبراطوريةُ أقصى اتساعٍ لها تقريبًا. كان واضحًا أن الحكم المباشِر على يد ملك مستقر في قلب فارس القديم لن يكفل السيطرةَ الفعَّالة. علاوةً على ذلك، كان الكثير من الأقاليم التي ضُمِّت إلى الإمبراطورية ذا حدودٍ واضحة المعالم ونُظُمِ حكمٍ مستقرة منذ زمن بعيد؛ فاستفاد الأخمينيون من المناطق المعلومة الحدود ومن هياكلها في استحداث هيكلهم الإداري الخاص بهم. كانت الأقاليم مرزَبات (ساترابيات)، على رأسِ كلٍّ منها مرزُبان (ساتراب، والكلمة أصلها فارسي قديم بمعنى حامي الإقليم)، وكان تعيين هؤلاء من لدن الملك يرمز إلى حقيقة أن السلطة النهائية منوطة به. وُجِد رابطٌ آخَر في الآصرة الشخصية بين المرازبة والملك، ويبدو أن أهمية أواصر الولاء الشخصية بين الأفراد، الشائعة جدًّا في المجتمعات القبلية، كانت تشكِّل أساسَ سلطة المرزبان. كان المرازبة في البداية من أبناء العائلات أو العشائر الفارسية المهمة الذين كان دعمهم ضروريًّا لاستقرار الحكم الأخميني، لا من أبناء الأسرة الحاكمة ذاتها. وفي بعض أجزاء الإمبراطورية ظلَّ الحكَّامُ المحليون في السلطة، مؤدِّين مسئوليات المرازبة؛ وكان هذا هو الحال في الممالك الجزرية التي ضُمَّتْ إلى الإمبراطورية، وفي إيفاجوراس ملك قبرص مثالٌ على استمرار أشكال الحكم المحلية، لكنها باتَتْ آنئذٍ تحتَ إشراف الهيكل الإمبراطوري.

figure
الخريطة ٤: دولة فارس الأخمينية.

في عهدَيْ قورش وقمبيز، كانت المسئولية العسكرية واجبَ المرازبة الأول؛ لأنه على الرغم من تمام فتح الأقاليم التي كانت فيما سبق ممالكَ مستقلةً، لم تكن الأوضاع استتبَّتْ تمامًا في كثيرٍ منها. وحتى بعد تحقُّق إحلال السلام، كان الحفاظ على النظام الداخلي مَطْلبًا مستمرًّا. أضافت إعاشة الجنود بُعْدًا اقتصاديًّا إلى مسئوليات المرازبة؛ إذ وقع فرْضُ الضرائب وجمعها وتدبير السلع — وربما الأرض — للحاميات، على عاتق حامي كل إقليم. وعلى الرغم من حدوث تغيرات في طبيعة مسئوليات المرازبة على مدى القرنين أو نحوهما، اللذين انقضيا بين موت قمبيز ونهاية المُلْك الأخميني، بقي الهيكل الأساسي للسيطرة المحلية على الأقاليم في إطار مملكة مركزية كما هو.

نشب صراع خطير على السلطة العليا لدى موت قمبيز لكن تفاصيله غير واضحة، وانتهى سنة ٥٢٢ بنجاح داريوس الأول، أحد أبناء العائلات الفارسية المهمة التي لعبت دورًا قويًّا في تكوين الإمبراطورية في عهد قورش، زاعمًا أنه الحاكم التاسع من السلالة الأخمينية، وهو زعْمٌ إشكالي بسبب الاختلاف في النسب بين قورش وداريوس الأول، لكن ادِّعاء داريوس نالَ احترامَ معاصريه وخلفائه. اتجه اهتمامه في البداية إلى قمع الانتفاضات التي قامت في أجزاء كثيرة من دولته، فقضى بدعمٍ من زعماء الأقاليم الموالية وقواتهم على تمرُّدِ معظم المتمردين في غضون سنة، وإن استمرت الثورات في بعض المناطق المشاكسة كبابل.

من الجائز تمامًا أن القوة العسكرية الكبيرة بإسراف التي كان يتمتع بها بعض حماة الأقاليم هي التي أفضَتْ إلى إعادة هيكلة سلطة المرازبة، فحُدَّتْ آنذاك سلطتُهم العسكرية المستقلة استقلالًا كبيرًا بتقسيم السلطة بين مسئولين، فكان للمرزبان السلطةُ المدنية العليا، وأما القادةُ العسكريون داخل المرزَبة فكانوا مسئولين مسئولية مباشِرة أمام الشاه. وكان استحداث «كُتَّاب الملك» و«أعين الملك» و«آذان الملك» لأداء الشئون ورصدها في الأقاليم مرتبطًا على الأرجح بمحاولات لَجْمِ سلطة المرازبة. ويتضح عدم نجاح هذه الابتكارات بالكلية من واقع استمرار صعوبة الحد من سلطة المرازبة المستقلة ومواردهم التي تجلَّتْ في أحداث القرنَيْن الخامس والرابع.

يحظى داريوس الأول باحترامٍ كبيرٍ لإنشائه هيكلًا إداريًّا متماسكًا للأرض المترامية الأطراف الواقعة تحت السيطرة الفارسية، وهو هيكل ظل يوفر إطار السيطرة على الإمبراطورية التي ظفر بها الإسكندر المقدوني. وثمة نقش موجود في جبل بيستون يعود إلى زمن داريوس يصف الاثنين والعشرين إقليمًا الخاضعة له. أما من حيث التنظيم المرزباني، فكانت الإمبراطورية تنقسم إلى ٢٠ مرزَبَة؛ كانت معظم المرزبات تضم عددًا من المدن الكبيرة التي وفرت، كالحال في بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام، سبلًا لمستوًى آخر من الإدارة (العسكرية والمالية وأمانة السر)، ومع ذلك كان المسئولون المحليون خاضعين لسلطة المرازبة في أمور معينة. كانت بعض المدن تتمتع بوضعية فريدة؛ إذ وُضِعت بابل مثلًا في بعض الأحيان تحت سيطرة أحد أبناء الملك الكبار، غالبًا لاكتساب خبرةٍ لمستقبله عندما يأتي يوم يخلف فيه أباه؛ فهيكلُ بابل الإداري المفصل الموروث من الألف سنة ونصف الألف السابقة جعل منها مركزًا بالغَ الأهمية وفرصةَ تدريبٍ ممتازة.

تصف الألواح التي استُخرِجت من تخت جمشيد (برسبوليس) سلَّمَ السلطة لمرزبة بارس المركزية، وهو هيكل ربما يوحي بترتيبات مماثلة في أماكن أخرى في الإمبراطورية. ويبدو أن شخصًا يُدعَى فرناكيس، وهو أحد أعمام داريوس، كان مكلَّفًا بالشئون المالية والإدارية وشئون آل بيت الملك في المنطقة بأسرها. كان هناك معاون مهم يدير الخزانة بفروعها الإقليمية، وكان آخَر فيما يبدو مسئولًا عن تنسيق الإنتاج والمؤن، وثالثٌ يمكن الربط بينه وبين الأرشيف المركزي.

توجد ألقاب أخرى مسجَّلة؛ إذ كان «الهيبارخ» يتولَّى قيادات خاصة، وكان أحد هؤلاء المسئولين مُكلَّفًا بقاعدة أسطول مهمة في آسيا الصغرى في كايمي. ترتبط مسئولية عسكرية جامعة بمنصب «كارانوس» الرسمي، وعندما تناقش المصادر الكارانوس فالحديث عن المسئولية عن قيادة جيش عظيم يجمع بين قوات أكثر من مرزبة واحدة. وشغل هذا المنصب على ما يبدو شخصٌ يُدعَى أبروكومس بمناسبة ثورةٍ قام بها شقيقُ ملك حاكم، فوجد الملك نفسه مضطرًّا إلى الاعتماد على كلِّ ما هو تحت تصرُّفه من قوةٍ عسكرية دون الاقتصار على قوة المنطقة المركزية وهي بارس.

كان الجيش ضروريًّا للحفاظ على الإمبراطورية، وحُدِّد تنظيمه بدقةٍ، فشُكِّلت وحدات المشاة على ما يبدو من مضاعفات العدد ١٠ إلى ١٠ آلاف، مع وجود قادة على كل مستوًى من المستويات. كانت الوحدةُ الأعظم شأنًا؛ ومن ثَمَّ الأعظم امتيازًا، وحدةَ «الخالدون الفُرس العشرة آلاف» الذين كانوا يقومون بدور حرس الملك الخاص في ساحة المعركة. كانت القوة البحرية على قدرٍ مساوٍ في الأهمية لأمْنِ الإمبراطورية، وكانت الأقاليم القريبة من البحر، وخصوصًا فينيقيا وآسيا الصغرى، تقدِّم كلًّا من السفن والبحارة المدرَّبين. كانت الخدمة العسكرية واجبةً على كل شعوب الإمبراطورية؛ إذ يعدِّد هيرودوت ٤٥ شعبًا مختلفًا في روايته حول الزحف الفارسي إلى اليونان بقيادة أحشويرش. كان هناك مصدر آخَر للجنود والضباط فيما وراء حدود الإقليم الفارسي في ظل توافُر أعدادٍ كبيرة ومتزايدة من المرتزقة، الإغريق وغيرهم على السواء، للاستئجار في القرنين الرابع والثالث.

كان أحد ملامح الحكم في دول أخرى كثيرة غائبًا إلى حد كبير عن الإمبراطورية الفارسية؛ إذ لم تكن توجد بها على ما يبدو هيئة استشارية رسمية. ومع أن مؤرخ الحروب الفارسية الإغريقي هيرودوت يصف مشاورات بين أحشويرش وكبار مسئوليه أثناء الحملة الإغريقية، لم يلعب أيُّ منتدًى دائم للنقاش دورًا في اتخاذ القرار. وحتى أبناءُ العائلات السبع الكبرى التي قرَّرَتْ فيما بينها — وفقًا لرواية هيرودوت — مَن يخلف قمبيز على العرش؛ لم تكن تتصرَّف دومًا كمجموعةٍ بعد اتخاذها قرارها بشأن إسناد المُلْك. والحقيقة أن اثنتين من هذه العائلات تختفيان من السجلات، ويُرى أبناء العائلات الأخرى في وظائف بعيدة عن المركزين الملكيين شوشان وتخت جمشيد.

بالإضافة إلى تقسيم الإمبراطورية إلى وحدات إدارية واستحداث هيكل رسمي منظَّم لها، عمل الملوك على ربط ربوعها القاصية بعضها ببعض، ببناء الطرق والجسور والعبَّارات وصيانتها، وأبرزها «الطريق الملكي» الذي كان يمتد لمسافة ١٦٠٠ ميل (٢٦٠٠ كيلومتر) من شوشان إلى سارديس، العاصمة الغربية للإمبراطورية، وكان آمنًا نسبيًّا للمسافرين بفضل ما زُوِّد به من مخافر وحاميات. علاوةً على ذلك، سمح نظام التتابُع المستخدَم في نقل الرسائل المهمة بإيصالها في غضون نحو أسبوع، وأما السفرُ العادي فكان يستغرق ٩٠ يومًا أو أكثر. كان تطوير عملة موحدة صورةً أخرى من صور توحيد الإمبراطورية؛ إذ يسَّرَ التبادُل التجاري في عموم المملكة.

fig25
شكل ٦-١: ختم داريوس الأسطواني. حقوق الطبع محفوظة لأمناء المتحف البريطاني.

كان يوجد على رأس هذا الهيكلِ الملكُ الذي يتمتَّع بسلطة تكاد تكون مطلقة، على الأقل من الناحية النظرية. كان المُلْك محصورًا في السلالة الأخمينية، وينتقل عادةً من الأب إلى ابنه. كان الملك الأخميني يحكم بصفته نائبًا عن الإله أهورا مزدا، رب الخير كله، ويقول نقش داريوس الأول في جبل بيستون: «بفضل أهورا مزدا أنا الملك. أهورا مزدا وَهَبني المُلْك.» كانت كلمته قانونًا، وكل الناس يخضعون له، وكل الأملاك ملكًا له، وإنْ كان من خلال السلَّم الإداري الذي أسلفنا بيانه. ومع ذلك كان الحكام الأخمينيون يبرهنون على جدارتهم من خلال أفعالهم، وبرهَنَ كثيرون منهم على جدارتهم من خلال سماتهم البدنية؛ فقد وصف أحد أطباء البلاط داريوس بأنه الأجمل بين الرجال. وكان التدريب على الفنون البدنية كركوب الخيل ورمي الرماح والنبال يصقل عودَهم ويشدُّ قوامَهم، وكان مما يزيدهم بهاءً ملابسُهم وحليُّهم؛ إذ يقول بلوتارخُس متحدثًا عن ملابس أحد ملوك القرن الرابع وحليِّه إنها قُدِّرت بثلاثة ملايين رطل من الذهب. بل كان أيضًا العددُ الكبير من الخدم الذين يمسكون بالمظلات أو يهشون الحشرات أو يقدِّمون الشراب، يُضفِي مزيدًا من الجلال على الملك. كانت هناك شعارات أخرى تنمُّ عن منزلته السامية، ومنها عربةٌ مقدَّسة يجرُّها الخيل، وخيمةٌ ملكية مهيبة، وصورٌ منقوشة على جدران القصور الملكية. كان التقليد الفارسي تعبيرًا عن تقدير هذه المنزلة عبارة عن انحناءةِ إجلالٍ، فكان الأقل شأنًا يسجدون في حضور الملك.

كانت رفاهيةُ الملك وزوجاته وأولاده مصونةً، وكانت ملذاتهم ملبَّاة، وكان من بين الامتيازات الملكية الحريمُ، وبأعداد كبيرة جدًّا في الغالب؛ إذ يُروَى أن داريوس الثالث فقَدَ ٣٢٩ من حريمه أثناء فراره من الإسكندر بعد معركة إيسوس. كان الخصيان مهمِّين بالقدر نفسه لآل بيته، وربما نشأت أهميتهم كحشم في جناح الحريم ورعاة لأولاد الملك، لكنهم تولَّوْا بمرور الوقت مناصبَ رسمية وصاروا مؤتمَنين ومستشارين للملك نفسه.

تختلف صورة النظام الإمبراطوري الفارسي هذه من نواحٍ متعددة بمرور الزمن؛ إذ يصف الباحثون المتخصصون في التاريخ الفارسي تطوُّرَه بتجاوُزه الروابطَ الإقطاعية إلى الهياكل الدواوينية. ومع تنامي الهيكل الرسمي، شهدت قيادة الملك الشخصية هي الأخرى تحوُّلًا، وفي خضم هذا التحوُّل، بدأت تتبدى صعوبات في الحفاظ على التلاحم عبر المملكة المترامية الأطراف بحلول منتصف القرن الخامس.

(٢) المزيد من التوسُّع

قبل أن تتفاقم العيوب عقد داريوس الأول وخليفته أحشويرش العزمَ على توسيع رقعة المملكة، وبعد التعامل بنجاحٍ مع العديد من الانتفاضات التي قامَتْ في أجزاء متعددة من الإمبراطورية، وربما الشروع في إصلاحات إدارية؛ اتجه داريوس إلى المزيد من التوسُّع في سكيثيا وتراقيا وربما أيضًا في منطقة نهر السند، عن طريق الاستكشاف البحري من الخليج الفارسي إلى مياه خليج عمان. وفي سنة ٤٩٩ اضطرَّ إلى التعامُل مع ثورة أخرى قامَتْ بها هذه المرة الدولُ الإغريقية في غرب الأناضول؛ إذ نجح المتمردون بمساعدةٍ من دولتين إغريقيتين في البر الرئيس (أثينا وإريتريا في جزيرة وابية) في الاستيلاء على سارديس. وسواء أكان الإغريق غيرَ قادرين على المضي في العمل العسكري أو غير راغبين فيه، فإنهم هُزِموا وعادوا إلى السيطرة الفارسية بحلول سنة ٤٩٤، لكن ملابسات هذه الثورة لفتَتِ انتباه الفرس إلى عالَم البر الرئيس الإغريقي المزعج، ذلك العالَم المنقسم إلى مئات الدول المستقلة المتحارِبة على الدوام؛ فنظَّمَ داريوس عملَيْن انتقاميين ضد المشاركين في الثورة من البر الرئيس، جاء الأول سنة ٤٩٢ على هيئة حملة بحرية في شمال بحر إيجة. وعلى الرغم من خضوع تراقيا ومقدون للضغط الفارسي، غرق جزء كبير من الأسطول في عاصفة قوية قبالة شرقي شبه جزيرة خالكيذيكي مع تكبُّد خسارة فادحة في الرجال. وبحلول سنة ٤٩٠ كان الأسطول قد جُدِّد، فأبحَرَ عبر جزر كيكلادس قاصدًا المضيق الواقع بين جزيرة وابية وأتيكا في البر الرئيس، للتعامُل مع المساهمين في الثورة السابقة من البر الرئيس، وبعد الاستيلاء على إريتريا أُحرِقت معابدها ورُحِّل سكانها إلى قلب الإمبراطورية الفارسية. ثم وَجَّه الفرس اهتمامهم إلى الشريك الثاني في الجريمة، فنزلوا في السهل الكائن عند ماراثون شرق أتيكا، وهو المكان الذي احتشد فيه ١٠ آلاف أثيني مع فرقة عسكرية من دولة بلاتايا الصغيرة في وسط اليونان للتصدِّي لجيشٍ يفوقهم بكثيرٍ. ولدهشة الجميع، هُزِم الجيش الفارسي في ماراثون.

لم يبذل داريوس محاولةً ثالثة؛ إذ استحوذَتْ ثورةٌ قامَتْ في مصر على اهتمامه الفوري. والواقع أن داريوس مات سنة ٤٨٦ دون استعادة المرزبة السابقة إلى السيطرة الفارسية، فخلفه ابنه أحشويرش على العرش. ولم تُعَدْ مصر إلى وضعها السابق كمرزبة فارسية إلا في السنة الثانية من حكم الملك الجديد، ومن المهم أن ننوِّه إلى أن «مرزبانها» الجديد كان أخًا لأحشويرش لا أحدَ أبناء أسرة أرستقراطية أخرى، وسننظر في دلالة هذا التغيير في السياسة المتَّبَعة في موضعٍ لاحق.

تسنَّى لأحشويرش آنذاك توجيه اهتمامه إلى المهمة غير المكتملة في اليونان، فجرَّدَ حملةً هائلة لضم البر الرئيس اليوناني إلى المُلْك الفارسي. حُشِد جيش قوامه نحو ٢٥٠ ألف رجل، وفقًا للحسابات الحديثة، أثناء التحضير المتأنِّي لحملة برية وبحرية مشتركة، وأُقِيم جسرٌ مزدوج ضخم عبر مضيق هلسبونت لتيسير عبور الرجال والدواب والمؤن، وأُنشِئت مستودعات للأغذية على امتداد الطريق، وأُقنِعت دول إغريقية عديدة بالتحالف مع الفرس، وإنْ لم يكن التحالُفُ الرسمي فالوعدُ بالحياد على الأقل. نجح أحشويرش في أول الأمر، فصار الملك المقدوني تابعًا فارسيًّا بحكم الواقع، مع استخدام شمال مملكته كنقطة انطلاق للحملة المتجهة جنوبًا. هُزِمت القواتُ الإغريقية المسيطرة على الممر الحيوي عند ترموبيلي، وسرعان ما دُمِّرت أثينا بعد ذلك. لكن على الرغم من هذه الانتصارات، كانت الغلبة للإغريق بحرًا في معركة سلاميس في الخليج الساروني؛ مما أقنع أحشويرش بضرورة العودة إلى عاصمته، وفي السنة التالية هزمَتِ القواتُ الإغريقية القوةَ البرِّية الفارسية التي تُرِكت في بلاتايا. وفي اليوم ذاته، أو بعده بفترة وجيزة، انتصر الأسطول الإغريقي في معركة حاسمة ضد الأسطول الفارسي قبالة ساحل آسيا الصغرى، وبعد ذلك باثنتي عشرة سنة، ألحَقَ ائتلافٌ من الدول الإغريقية، بقيادةٍ عليا من أثينا، هزيمةً أخرى بالأسطول الفارسي قبالة ساحل الأناضول الجنوبي. آذَنَ هذا النجاحُ الإغريقي بالحلقة الأخيرة في محاولةٍ لتحرير الدول الإغريقية بآسيا الصغرى من السيطرة الفارسية؛ ومن ثَمَّ تقليص رقعة الإمبراطورية الفارسية، ولن يحتفي الإغريق وحدهم بنصرهم، بل سيشاركهم إياه أيضًا المقدونيون، الذين كانوا قد جُرُّوا إلى محاولة التوسُّع الفارسية غربًا.

على الرغم من أن هذه الخسائر لم تمزِّق أوصال الإمبراطورية، أو تستنزِف خزانتها، فإنها برهنت على أن التوسُّع المستمر بعيدًا عن قلب الإمبراطورية مجانِبٌ للحكمة؛ إذ انتفضَتْ بابل ثائرةً من جديدٍ فنُشِرت تعزيزات عسكرية في آسيا الصغرى في سبعينيات القرن الخامس. وفي العقد التالي، بدأت انتفاضات أوسع انتشارًا، وإنْ كان أحشويرش لم يَعِشْ للتصدِّي لها. غير أن وفاته تبرهن على عيبين خطيرين في هيكل الدولة الفارسية؛ إذ قُتِل على يد المسئول النبيل المهم أرتبانس بمساعدة أحد الخصيان حرَّاس السرير، وكان هدف أرتبانس — الذي لم يتحقَّق — على ما يبدو الاستحواذ على المُلْك لنفسه. كان يوجد مرشَّحون آخَرون لولاية العرش ممثَّلين في أبناء أحشويرش الشرعيين الثلاثة: داريوس وهستاسبس وأرتحششتا، مرتَّبِين بحسب السن. كان العُرْف أن يخلف الملكَ أكبرُ أبنائه، لكن في حالتنا هذه عمد أرتحششتا إلى قتل داريوس، ثم حاوَلَ أرتبانس قتل أرتحششتا، لكنه هو الذي قُتِل. وليَ العرش أرتحششتا، لكن لم يستتبَّ له الملك إلا بعد أن واجَهَ تحدِّي أخيه الموجود على قيد الحياة هستاسبس، الذي زحف على رأس قواته من مرزبته في باخترا لمنازعة أخيه على العرش، فلقي حتفه في المعركة. واستباقًا للأحداث نقول إنَّ قتْلَ الملك الحاكم والصراعَ بين الخلفاء المرتقبين سيصيران سمةَ معظم ما تبقَّى من تاريخ السلالة الأخمينية. ومن نافلة القول أن انعدام الأمن على رأس السلطة المطلقة يُحدِث خللًا في هيكل السيطرة بأكمله.

حكم أرتحششتا بعد رحلته الوعرة إلى العرش ٤٠ سنة (٤٦٥–٤٢٤) انشغل خلالها بالاحتفاظ بالأقاليم التي ضمَّها أسلافه إلى الإمبراطورية بدلًا من توسيعها. واصَلَ الإغريق المزعجون هجماتهم على دولة الفرس بإرسال حملةٍ كبيرةٍ إلى مصر، التي كانت ذات يوم مملكة مستقلة، لانتزاع السيطرة عليها من أيدي الفرس. انطلقت الحملة سنة ٤٦١ وحقَّقَتْ بعضَ النجاح الأولي، ولم يُهزَم الإغريق إلا سنة ٤٥٤. ثم أُبرِمت معاهَدةُ سلامٍ بين فارس وأثينا بعد ذلك بخمس سنوات. في تلك الأثناء، كان الإغريق ناشطين أيضًا في إثارة المشكلات في آسيا الصغرى، ولمعالجة الوضع المتقلقل أرسَلَ أرتحششتا ابنه قورش إلى المنطقة برتبة كارانوس، أو قائد أعلى. وفوق ذلك ثار رجلٌ يُدعَى ميجابيزوس في سوريا بمعونة مرتزقة إغريق، ويبدو أن ثمة أعمالًا عدائيةً جرَتْ في يهوذا. برزت إلى السطح مشكلات أخرى على أطراف الإمبراطورية، فحدثت قلاقل في باخترا، وأما في قبرص فكان لدى الملك الأصلي إيفاجوراس طموحاته الخاصة لتوسيع الإقليم الذي تحت سيطرته، على الرغم من تبعيته الاسمية للشاه الفارسي.

كان تخلِّي ذلك الملك الأخميني عن اسمه الشخصي (الذي ربما كان «أرشو») مقابل اتخاذ لقب ملكي؛ أمارةً على تغيُّرات أعمق داخل الهيكل الإمبراطوري، ويعني اسم أرتحششتا «السلطة من خلال الإله أرتا». يكشف هذا التطور عن تغيُّر لطيف في طبيعة المُلك؛ إذ بينما كان استخدام الملك اسمَه الشخصي يؤكد على قدرته على الحكم من واقع سماته الذاتية، يؤكِّد اتخاذ لقبٍ ملكي على الشرف الموروث الذي يجلبه هذا المنصب. ثمة تذكرة أخرى بالسلطة الملكية تجلَّتْ في صور الملوك التي صارت تُرَى آنذاك على المسكوكات النقدية الفارسية. ويوحي كِلَا هذين التطورين بإضفاء المزيد من الطابع المؤسسي على الحكم الفارسي.

مات أرتحششتا الأول ميتة طبيعية، وهو شيء لن يناله إلا قليل من خلفائه. والواقع أن ابنه الشرعي وخليفته أحشويرش قُتِل بعد تولِّيه العرشَ بخمسة وأربعين يومًا على يد أحد أبناء أرتحششتا غير الشرعيين، وهو سُغدیانوس. حشد ابن آخَر من أبناء أرتحششتا غير الشرعيين، وهو أوخوس، جيشًا في مرزبته القزوينية وانضمَّ إليه مرزبان مصر في تنافُسه على العرش؛ غير أن ثمة مشكلة خطيرة وقعت وتمثلت في ارتكاب قائد فرسان آل البيت في عهد سُغدیانوس خطأَ تنفيرِ جنود القصر. تُرِك سُغدیانوس حيًّا نحو ستة أشهر بعد استسلامه ثم قُتِل. صار أوخوس مَلِكًا، فاعتلى العرش متخذًا لقب داريوس الثاني، ولم يكن عهده الذي استمرَّ حتى ٤٠٤ عهدَ سلامٍ، فبعدَ مواجهته ثورةَ أخيه الشقيق آرسیتس، تصدَّى للمتمردين في ميديا والأناضول ولانتفاضة قومٍ يُسمَّون القزوينيين يعيشون جنوبَ بحر قزوين. ما كان إشكاليًّا بالقدر نفسه ضلوع فارس في الشئون الإغريقية؛ إذ كان انتهاجها سياسةً متذبذبةً قوامُها تأييدُ إسبرطة وحلفائها، ثم تأييد أثينا، أمرًا فادحًا في التكلفة المالية وفي التحريض على سياسات مختلفة بين المرازبة المعنيين أشد العناية باليونان، وتحديدًا مرازبة الأناضول.

لدى موت داريوس الثاني، ميتة طبيعية على ما يبدو، خلفه سنة ٤٠٥ أو ٤٠٤ ابنه الأكبر أرسيس، الذي اعتلى العرش وتلقَّب بأرتحششتا الثاني. اضطرَّ الملك الجديد، في مرحلة مبكرة من حكمه، إلى التعامُل مع أخيه قورش، الذي كان يحاوِل خلعه من على العرش. كان قورش قد حشد قوة كبيرة بممارسته الدور العسكري الذي أسنده إليه أبوه في الأناضول، وقد وجَّهَها آنذاك ضدَّ أخيه. ومثلما يُنبِئنا أحد المشاركين، وهو زينوفون الأثيني، الذي يصف الحملة في أنباسته الشهيرة، كان حوالي ١٣ ألف رجل من ذلك الجيش من المرتزقة الإغريق الذين ساروا بدايةً من سنة ٤٠١ غربًا عبر الإمبراطورية لملاقاة جيش أرتحششتا في كوناكسا شمال بابل، فحُسِمت النتيجة بمقتل قورش، ممَّا سمح لأرتحششتا بالحكم حتى سنة ٣٥٩. شابت تلك العقود ثوراتٌ وتمرداتٌ، فثارَتْ مصر، التي نالت قبل ذلك استقلالها لمدة ستين سنة حتى أُعِيدت إلى السيطرة الفارسية الجزئية على الأقل بين سنتَيْ ٤٠٤ و٤٠٠. مضت حوالي خمس عشرة سنة قبل أن يُحشَد جيش لاستعادة السيطرة عليها، لكنه أخفق. كان الملك الأخميني مشغولًا في موضع آخَر؛ إذ وقعت قلاقل في بقاعٍ كثيرة من آسيا الصغرى نتيجةَ السخط الداخلي ونشاط إسبرطة العسكري في المنطقة على السواء. وكان ملك قبرص الإغريقي إيفاجوراس أيضًا منهمكًا في توسيع نشاطه، فاستولى على صور الفينيقية مما قوَّى شوكةَ الثورة في جنوب الأناضول. يمكن رؤية ما يُعرَف باسم «سلام الملك» لسنة ٣٨٦ في ضوء السيطرة على التدخُّل الإغريقي في أراضي الدولة الفارسية، وذلك بإعلان تبعية المدن الآسيوية ومعها جزيرتا كلازوميناي وقبرص للشاه، وضرورة إنهاء كل التحالفات الكبيرة التي تجمع الدول الإغريقية. لم ينجح هذا السلام؛ إذ شهدَتْ ستينيات ذلك القرن ثورةَ كثيرٍ من المرازبة الغربيين ضد الملك، وهو وضْعٌ استمرَّ حتى الخمسينيات.

كانت علاقاته حتى مع أسرته مشوبةً بالصراع؛ إذ أُعدِم ابنُه الأكبر ووَلِيُّ عهده بعد تآمُره ضده، وانتحر ابنٌ شرعي آخَر، وقُتِل ابنٌ غير شرعي أثيرٌ لديه؛ فخلفه على العرش ابنه الشرعي الذي بقي على قيد الحياة، وهو أخوس، متخذًا لقبَ أرتحششتا الثالث. توحي شهادةٌ من كاتب ينتمي إلى القرن الأول قبل الميلاد بأنه كان قلِقًا بشأن قدرته على النجاة من التهديدات النابعة من أفراد الأسرة، وللحيلولة دون بعض المحاولات على الأقل، دفَنَ المرأةَ التي كانت زوجةَ أبيه وأختَه في آنٍ واحدٍ حيةً، وحبس عمه وأكثر من مائةٍ من أبنائه وأحفاده هو شخصيًّا في فناءٍ قُتِلوا فيه بزخَّات من الأسهم.

وهكذا عاش ليحكم لمدة ٢١ سنة، أكبرُ نجاحٍ حقَّقه فيها هو استعادةُ مصر سنة ٣٤٢. ولمعالجة الوضع في الأناضول أمَرَ المرازبةَ الغربيين بحلِّ الجيوش الخاصة التي شكَّلوها من قبلُ. ويتضح لنا تمكُّنه من إعادة توطيد بعض السيطرة المركزية من قرار أرتبازوس، مرزُبان فريجيا، التماسَ اللجوء لنفسه وأسرته بعيدًا عن طائلة يد أرتحششتا، وتحديدًا في بلاط فيليب الثاني في بيلا. وأُخمدت الثورة في قبرص بصعوبة بالغة، بل تمكَّنَ أيضًا قواده من إنهاء ثورة القزوينيين التي ظلت مستَعِرةً منذ عهد داريوس الثاني.

كانت نهاية أرتحششتا الثالث شبيهةً بنهاية معظم أسلافه وكذلك بنهاية خليفته أرتحششتا الرابع؛ إذ قُتِل سنة ٣٣٨ على أيدي أبنائه بمساعدة أحد أعظم مسئوليه نفوذًا، وهو الخصيُّ باغواس. وبعد أن حكم أرتحششتا الرابع سنتين، تعرَّضَ وأبناؤه للتطهير، ومن جديدٍ بتدبيرٍ من باغواس. لم يَبْقَ على قيد الحياة إلا قليل من الخلفاء، وكان أجدر المرشَّحين بالعرش واحدًا من قواد الحملة ضد القزوينيين ومن أبناء عمومة الملك، كان قد عُيِّن مرزبانًا في أرمينيا، فصار بمنأًى عن الأذى أثناء عملية التطهير، وعندما دُعِي إلى ولاية المُلْك أجبر باغواس أولًا على احتساء شرابٍ من قدح مسموم كان مهيَّأً ليحتسيه هو شخصيًّا.

وهكذا صار كودومانوس آخِر ملوك الأخمينيين سنة ٣٣٦ متخذًا لقب داريوس الثالث. كان فيليب المقدوني بحلول ذلك العام قد شكَّلَ الحلفَ الكورنثي، وأعلَنَ باسمه الحربَ ضد الدولة الفارسية. والحقيقة أنه بدأ يُقِيم قواعدَ أمامية قبل اغتياله سنة ٣٣٦، تاركًا مُلْكَ مقدونيا للإسكندر الثالث؛ ومن ثَمَّ لن يكون أمام داريوس وقتٌ طويل لترتيب أوضاع إمبراطوريته قبل التعامُل مع المقدونيين على التراب الفارسي.

(٣) مقارنة الإمبراطورية الفارسية بالمملكة المقدونية

تأتي معظم معلوماتنا عن الإمبراطورية الفارسية من مصادر إغريقية، وتصبغ طبيعةُ العلاقات بين الفرس والإغريق عمومًا هذه المصادرَ بصبغة غير إطرائية بالمرة. يقينًا توجد استثناءاتٌ؛ إذ يحتوي كتابُ زينوفون المعنون ﺑ «كيروبيديا» (بمعنى «تعليم قورش») على تعليقات إيجابية على كثيرٍ من ملامح الحياة الفارسية. لكنْ حتى زينوفون يتحدَّث عن خيانة الفرس (هيلينيكا، الكتاب الرابع، ١، ٣٢-٣٣)، وهي خصلة رآها رأْيَ العين كواحدٍ من المرتزقة الإغريق الذين استأجَرَهم قورش الأصغر في محاولته إطاحة المَلِك، الذي اتفق أنْ كان أخاه كما رأينا. ووصف أفلاطون سُوءَ إدارة الإمبراطورية الفارسية بفضل إسراف الفرس في الاسترقاق والطغيان (القوانين، الكتاب الثالث، ٦٩٤ إف إف)، وذمَّ إيسُقراط «رخاوة» الفرسِ (الخطبة المدحية، ١٣٨–١٤٩). لا تقتصر وجهات نظر الأعداء هذه على حالة الإغريق والفرس، ورأينا أن صورة فيليب الثاني الاعتيادية في المصادر الإغريقية أقلُّ ما يقال عنها أنها غير إيجابية.

في محاولةٍ لتجاوُز مثل هذه الأحكام إلى معلومات قد تُلقِي الضوءَ على الإسكندر ومسيرته، يتركَّز اهتمامنا على طبيعة الإمبراطورية الفارسية بحلول منتصف القرن الرابع، حين كان فيليب يعكف على تقوية مملكته المقدونية، وبعد ذلك بقليل حين زحف فيليب ثم الإسكندر ضد الإمبراطورية. فما مدى اختلاف الدولتين؟ وإلى أيِّ مدًى كانت معرفة كلٍّ منهما بدولة الآخَر وتنظيمها تامةً؟ إن وجودُ اختلافات ضخمة بين الدولتين قد يقودنا إلى إدراكِ مرونةِ فيليب وقدرتِه على التكيُّف بل فوق ذلك أيضًا مرونة الإسكندر وقدرته على التكيف، وهو الذي أزاح بحكمه حكْمَ السلالة الأخمينية. ومن ناحيةٍ أخرى، فإن وجود عدد كبير من أوجه التماثُل قد يوحي بوجود وئامٍ كامنٍ يستطيع أيُّ فاتح طامح استغلالَه.

نبدأ بطبيعة الدولتين المادية وحجمهما من حيث الرقعة الجغرافية والسكان. والسؤالان الوجيهان في هذا الصدد هما: كيف أُنشِئت كلُّ دولة؟ وكيف حُكِمت بمجرد أن أُنشِئت؟ ويتمخَّض ضمُّ أصناف مختلفة من الشعوب إلى الدولتين عن سؤالٍ ثالث: هل أُبقِي على التقاليد المحلية لدى الشعوب التي كانت ذات يوم مستقلةً أم لا، ولو أُبقِي عليها، فما تبعات ذلك سياسيًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا؟ ولأن المملكة المقدونية والإمبراطورية الفارسية لم تكونا كيانين جامدين طوال تاريخَيْهما، فمن الضروري أن نتساءل عما إذا كانت تطوراتهما على مر الزمن قد أثارَتْ صعوباتٍ داخليةً.

كانت الإمبراطورية الفارسية أكبر دولة موحدة عرفها الشرق الأدنى خلال الألفين والخمسمائة سنة التي شهدت نمو دول بأحجام متزايدة. وكأبعاد تقريبية نقول إن رقعة الإمبراطورية امتدت نحو ٢٥٠٠ ميل (٤ آلاف كيلومتر) من غرب الأناضول إلى جبال هندوكوش، وأكثر من ١٠٠٠ ميل (١٦٠٠ كيلومتر) من ساحل البحر الأسود الجنوبي إلى ساحل الخليج الفارسي الشمالي في المنطقة التي توجد بها العاصمة الفارسية تخت جمشيد وباسارجاد. ومع صعوبة حساب التقديرات السكانية نقول إن سكان الإمبراطورية الفارسية كانوا يعدُّون بالملايين؛ فمصر وحدَها في الفترة التي تلَتْ موتَ الإسكندر كان يسكنها ما بين سبعة ملايين وثمانية ملايين نسمة. ونما سكان مدن فردية كبابل حتى وصل عددهم إلى ٥٠ ألف نسمة أو أكثر. كانت هذه الشعوب متنوعة تنوُّعًا فوق العادة من حيث الإثنية وطريقة الحياة؛ ففي قلب الدولة كان يوجد الفرس الهنود-الأوروبيون أنفسهم الذين لم تكن جماعاتهم القبلية وُحِّدت إلا مؤخرًا. سمح هذا التوحيد ببسط السيطرة على الشعوب العريقة في بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام والأناضول ومصر في الغرب، والشعوب القبلية في شبه الجزيرة العربية في الجنوب، وسكان الجبال في آسيا الوسطى، فضلًا عن سكان غربي الهند على الأقل من خلال التحالف. كان التنظيم السياسي للمناطق المفتوحة يتراوح بين سيطرة شخصية على يد شيخ للقبيلة وهياكل إدارية مستحكمة بعمقٍ. وعلى قدرٍ مماثلٍ من التنوُّع كانت الهياكل الاقتصادية لدى العناصر الفردية المكونة للإمبراطورية؛ إذ تعايَشَ البدو الرُّحَّل مع اقتصادات شديدة التخصُّص مدارة بإحكامٍ. وكانت كثرة اللغات والمعتقدات والثقافات المادية تجلياتٍ ملموسةً للاختلافات القائمة بين سكان الإمبراطورية.

ومع ضآلة المساحة الجغرافية التي حقَّقَتْها مقدون أثناء حكم فيليب الثاني مقارَنةً بمساحة دولة الفرس، فإن نموها على مر الزمن وسَّعَ رقعتها كثيرًا؛ إذ تضاعفت أبعادها المادية أكثر من ثلاثة أمثالها منذ حكم الإسكندر الأول، الذي اتَّسَعَتِ المملكة أصلًا في عهده اتساعًا شديدًا. امتدت رقعة المملكة التي تزيد على ١٦٦٠٠ ميل مربع (٤٣ ألفَ كيلومترٍ مربع) من البحر الأدرياتي إلى ساحل البحر الأسود الغربي، وجنوبًا من دول البلقان مرورًا بالبر الرئيس اليوناني. لم يكن عدد السكان كبيرًا كِبَر عدد سكان الإمبراطورية الفارسية، غير أن ثمة تقديرًا يشير إلى وجود حوالي مليون ساكن عبر المنطقة الواقعة تحت سيطرة فيليب الفعلية برمَّتها بحلول سنة ٣٣٦، وهذا الرقم تضاعَفَ أيضًا ثلاث مرات منذ نهاية القرن الخامس. كانت مقدون عملاقة مقارَنةً بحجم الدول الواقعة في غربي بحر إيجة. كان تنوع سكانها لافتًا للنظر؛ إذ مع أن معظم الشعوب التي وحَّدَها فيليب كانت هندية-أوروبية، كانت لغاتها وثقافاتها شديدة التباين. كان الإغريق قد أَلِفوا حياةَ الدول-المدن منذ قرونٍ، وأما الإليريون والتراقيُّون فاحتفظوا بوجودهم القَبَلي، وكان سكان مقدونيا الدنيا يشهدون بأعينهم إنشاءَ الهيكل الإداري لمملكة متنامية.

تمخَّضَ اتساع رقعة الدولتين عن مشكلات في الاتصال. سبق أنْ نوَّهْنا إلى صد الدول-المدن الشديدة الصِّغَر في البر الرئيس اليوناني محاولاتِ داريوس الأول وابنه أحشويرش الأول، الراميةَ إلى مزيدٍ من التوسُّع. كان التمرد يغلب على المناطق القصوى عن العواصم الفارسية منذ حكم أرتحششتا (٤٦٥–٤٢٤)، فكانت آسيا الصغرى الإغريقية مصدرَ قلقٍ دائم في ظل سعي إغريق البر الرئيس إلى تحريرها من الأغلال الفارسية. وكانت مصر هي الأخرى شديدةَ المراس؛ إذ نالت استقلالها قبل نهاية القرن الخامس واحتفظت بحرِّيتها حتى ٣٤٣. ولربما كان من الممكن استعادتها قبل ذلك عندما انتزع الفرسُ السيطرةَ على أحد مصبَّيِ النيل في أواخر القرن الخامس؛ مما جعلهم في وضعٍ مؤاتٍ لأخذ العاصمة منف على حين غرَّة، لكن بحلول وقت إحالة القائد العسكري خطته إلى الملك للموافقة عليها، كان المدافِعون قد اكتسبوا اليد العليا. وكانت المناطق التي يصعب الوصول إليها في عموم الإمبراطورية بقاعًا ساخنة طوال فترة حكم الأخمينيين، لكن سنةً بعد سنةٍ اقتربَتِ الثورات من العواصم الفارسية؛ فكانت ميديا في حالة ثورة في السنوات الأخيرة من حكم داريوس الثاني. وحتى المرازبة، الذين يدينون بمناصبهم للملك، كان بوسعهم حشْدُ جيوش كبيرة؛ ومن ثَمَّ نَيْل الاستقلال عن السيطرة الملكية. تجلَّى بعض هذه الحرية في التنافس بين مرازبة المناطق الكبيرة. ومن ناحية أخرى، كان المرازبة الغربيون جميعًا في حالة ثورة ضد داريوس الثاني في ستينيات القرن الرابع.

ومع اتساع المملكة المقدونية، استحال على الملك قيادة الجيوش بنفسه في مناطق القلاقل، فاضطرَّ إلى الاعتماد على معاوِنيه. كانت التقارير تستغرق وقتًا لكي تصل إلى فيليب من بارمنيون، الذي عيَّنَه لقيادة الفرقة المؤلَّفة من ١٠ آلاف جندي، التي أرسلها إلى آسيا الصغرى. وكانت أفعال فيليب ذاته تعتمد على نجاح قواتٍ يقودها آخَرون أو فشلها.

كانت الدولتان متماثلتين في نشأتهما بحد السيف، وهو ما بيَّنَّاه باختصارٍ في هذا الفصل فيما يخص بلاد فارس، وفي الفصل الخامس فيما يخص مقدونيا. كان اكتساب وجودٍ مستقلٍّ آمِن هو الدافع لكلٍّ من الحكام الأخمينيين والأرغيِّين الأوائل. كانت فارس تابعةً لميديا قبل حكم قورش، وأما مملكة مقدون الصغيرة فكانت عرضةً للتهديد من كلِّ جوانبها من جانب دول أقوى. ومع أن التوسُّع الفارسي كان أسرع وأعظم بكثير، كان الحفاظ على الإمبراطورية الموحَّدة يتطلَّب قوةً عسكرية دائمة وتدريبًا مستمرًّا. وكانت الوحدة المقدونية على رقعة جغرافية أوسع تشهد مدًّا وجزرًا في ظل التهديدات المستمرة من الإليريين والتراقيِّين والإغريق كما رأينا في نهاية القرن السادس من الفرس؛ مما كان يتطلَّب من ثَمَّ تأهُّبًا عسكريًّا مماثلًا.

بالإضافة إلى قوة السلاح، عزَّزَتْ كلتا السلالتين الحاكمتين الوحدةَ بالدبلوماسية وإقامةَ إدارة مركزية فعَّالة. كانت التحالفات والاتفاقات التجارية والمفاوضات التي تُجرَى من خلال مبعوثين كلها أدوات من أدوات الحكم، شأنها شأن القيام بأعمالٍ لتقليصِ قوة المنافسين المحتملين داخل الدولتين؛ فقد واجَهَ الملوك الأخمينيون تهديداتٍ من أُسَر أرستقراطية فارسية أخرى، وثوراتٍ من حكَّام الدول التي كانت ذات يوم مستقلة. كانت ممارسة إسناد مناصب مهمة، كمنصب المرزبان، إلى أبناء الطبقة الأرستقراطية الفارسية أداةً للتخفيف من القلاقل النابعة من هذا الشق، مثلما كان تعيين مسئولين فُرْس يُرجَى ولاؤهم في مناصب عسكرية ومدنية في جميع مناطق المملكة استجابةً لخطر الانفصالية في أقسام كاملة من الإمبراطورية. دُعِي أيضًا غيرُ الفُرْس للخدمة في أدوار مهمة. كانت قوة الأرستقراطيين المقدونيين مساويةً في خطورتها، ولا نعني أبناءَ فروع السلالة الأرغيَّة، بل أيضًا أُسَر مقدونيا العليا النبيلة، وهو ما يتبيَّن بوضوحٍ من مسيرة أبي فيليب المتقلبة. كانت صياغة الهيكل الذي سيستقطب معونةَ هؤلاء المنافسين المحتملين ناجحةً في أغلب الأحوال، وأما استحداثُ نظام غلمان الملك — وهم كما رأينا أبناء الأُسَر الأرستقراطية الذين أُلحِقوا بالتدريب المهني في بيلا وأعمارهم ١٣ أو ١٤ سنة — فكان حافزًا فعَّالًا بالقدر نفسه لضمان حُسْن سلوك آبائهم. وكان الاعتماد على غير المقدونيين لولاية المناصب الحيوية حلًّا آخَر.

سُعِي في كلتا الدولتين إلى توازُن بين ثقافة الفاتحين وثقافات الأقاليم المفتوحة المحلية، واستفاد الأخمينيون والأرغيُّون على السواء من كثير من المؤسسات المكينة في عموم دولتَيْهما؛ إذ برع فيليب الثاني في إقحام نفسه في مناصب موروثة كتاجوس تيساليا، وعضو المجلس الأمفكتيوني، والقائد الأعلى للحلف الكورنثي. ويسَّرَ إدماجُ النُّظُم الإدارية المجرَّبة، كنُظُم مصر وبلاد ما بين النهرين، إنشاءَ الإطار الفارسي الذي كان بسيطًا نوعًا ما في البداية. لم يتمخَّض قبولُ مختلف المعتقدات واللغات والتقاليد عن مشترك ثقافي فحسب، بل خفَّفَ أيضًا من وطأة الفتح على الشعوب المفتوحة. وسُمِح للشعوب التي هجَّرَها الآشوريون، كبني إسرائيل، بالعودة إلى مواطنها الأصلية التي ربما يمكنها فيها بناء معبد وممارسة الديانة التي عُرِفوا بها. وأما المقدونيون، فإن قبولهم مهاراتِ الأقوام المفتوحة وثقافتَها أثرى ثقافتَهم دون أن تحلَّ ثقافتها محلَّها، وخفَّفَ في الوقت نفسه من الشعور بالعداوة لدى كثيرٍ ممَّن ضُمُّوا إلى سيطرة بيلا، لكنْ يقينًا ليس كلهم.

كان إنشاء هيكل حُكْمٍ مركزي يستوعب النُّظُمَ المحلية في الوقت نفسه الشاغلَ الأول لأسباب بديهية عديدة. من ناحيةٍ أخرى، أمَدَّتِ الدولةُ ملوكَ كلتا المملكتين بميزة كبيرة على المنافسين المحتملين من حيث الموارد، المالية منها والبشرية، وقوتهم الشخصية. وعلى الرغم من عدم وضوح بعض ملامح الإدارة الأخمينية، تفصح ملامحها الأساسية عن تدرُّج هيكل السلطة من سلطة الملك المطلقة، إلى سلطة المرزبان، إلى الوظائف الخاصة في الخزائن والأراشيف في عموم الإمبراطورية. وعلى الصعيد المادي أيضًا، كانت أصقاع الإمبراطورية متصلةً من خلال شبكة الطُّرُق والعملات النقدية والمراكز الشعائرية وإعلان المراسيم الملكية. كما قلنا فيما سبق فقد عمل الأرغيُّون على ترسيخ السيطرة المركزية على نحوٍ مماثل، لكن بدرجة أقل ممَّا يتضح من الوضع الفارسي، وإنْ كان هذا يتعارض نوعًا ما مع الرؤية السائدة. من المهم أن نتذكر أن قدرًا كبيرًا من التطور المقدوني تحقَّقَ على يد فيليب، وأما الهيكلُ الفارسي فظلَّ يتطوَّر منذ منتصف القرن السادس. لم يَعُدِ الأرشيفُ المقدوني موجودًا، لكن الأدلة على المعاهدات التي أُبرِمت مع الدول الأخرى حُفِظت. ويتضح لنا مدى الموارد الملكية من الكنوز التي اكتُشِفت في فيرجينا، وأما أطلالُ بيلا فتكشف عن مزيجٍ يثير الإعجاب من المنشآت الإدارية والمسكن الملكي. عرف الأرغيُّون قيمةَ شبكة الطرق في مرحلة مبكرة تعود إلى حكم أرخيلاوس، ومضى فيليب قدمًا في إنشاء هذه الطرق واستخدَمَ تصميمات مسكوكاته النقدية ليبرهن على طبيعة حكمه.

لكن المركز الحقيقي لكل مملكة كان ملكها، فكان الحاكم الأخميني يُلقَّب ﺑ «ملك العالم»، ومع أن الأرغيِّين لم يحصلوا على هذا اللقب، فإن فيليب وابنه الإسكندر كانا يستحقانه يقينًا. كان فيليب ملك مقدونيا الأرغيَّ وتاجوس تيساليا والقائد الأعلى للحلف الكورنثي وحليف المولوسيين الإبيروسيين بالعهد والزواج؛ وكان الإسكندر كلَّ ما سبَقَ وفوقَه الكثيرُ عندما وافاه أجله سنة ٣٢٣. لم تقف في طريق ملوك كلتا الدولتين جمعيات أو مجالس قوية، حتى لو تمتَّعت جمعية الجيش المقدوني ببعض الحقوق المحددة، ولو كان الحكام الأخمينيون والأرغيُّون على السواء يتشاورون مع كبار معاونيهم. الأكثر من ذلك أن ترامي أطراف المملكتين وضَعَ مزيدًا من العوائق أمام ممارسة السلطة الملكية؛ إذ سبق أن ذكرنا أن تأخُّر وصول موافَقة الملك على خطة الاستيلاء على العاصمة المصرية تسبَّبَ في إخفاق مجهود القوات الفارسية في نهاية القرن الخامس. وتوقفت أفعال فيليب ذاته سنة ٣٥٦ على أخبار نجاح بارمنيون أو إخفاقه في التعامُل مع التهديدات الجديدة التي شكلها الإليريون. وهكذا لم يكن أيٌّ من الحاكمَين حاكمًا مطلقًا بمعنى الكلمة في ممارسته سلطته، ومن ناحيةٍ أخرى كانت سلطتهما أقلَّ قيودًا بكثيرٍ من سلطة الزعماء في الدول الإغريقية.

من النتائج الأخرى للمركزية نتيجةٌ اقتصادية؛ إذ كانت الثروة الموجودة تحت تصرُّف الملك طائلةً؛ فمن حيث الكمية والثراء والأناقة تشهد مقتنيات المدافن المقدونية على طبيعة الموارد التي كانت تحت سيطرة الأرغيِّين المتأخرين، فكانت الأرض التي يفتحها جيش الملك تحمل صفة الأرض الملكية، وهذه يمكن تخصيصها لرجالات الملك أو تأجيرها لمستأجرين. وبالإضافة إلى الإيرادات المتحصلة من الأرض، كان الملوك المقدونيون يسيطرون على ما يبدو على الموارد الخشبية والمعدنية؛ إذ كان سكُّ العملة امتيازًا ملكيًّا، وكانت تُجبَى ضرائب على استخدام المرافق. كانت الثروة الملكية الفارسية تأتي من مصادر مماثلة لكن أكبر، وهي الإيجارات والضرائب والخدمات والسلع والحيوانات والحاصلات الزراعية وبعض الأنشطة الاحتكارية كسك العملة. ويروي آريانوس (الكتاب الثالث، ١٦، ٧) اكتشافَ الإسكندر، لدى دخوله شوشان بعد هزيمة داريوس وجيشه في جاوجاميلا، ٥٠ ألف وزنة من الفضة وغيرها من العتاد الملكي.

خلاصة القول أن طبيعة مقدون في عهد فيليب والإسكندر كانت تشترك في سمات كثيرة مع الإمبراطورية الفارسية الأكثر نضجًا. علاوةً على ذلك، تجمع بين أصول السلالتين الملكيتين أوجهُ شبهٍ مذهلة. كان الفرس وافدين جددًا نسبيًّا على الشرق الأدنى؛ إذ رحلوا إلى المنطقة الواقعة شرق دجلة في منتصف الألفية الثانية، وتدريجيًّا شكَّلَ هؤلاء المهاجرون الهنود-الأوروبيون ممالكَ صغيرةً يحكمها شيوخ قبائل، وحلَّتِ الزراعةُ المستقرة والرعي محلَّ حياةِ الترحُّل. مرَّ نحو ألف سنة قبل أن يدفع الضغط، الذي مارَسَه الجيران الأكثر اتحادًا، إلى المركزية المتنامية بين الجماعات المنفردة. وتنقل لنا روايةُ هيرودوت عن خلافة داريوس الأول — على الرغم من غلبة الخيال على جوانب عدة فيها — طبيعةَ الحكم الفارسي المبكر بوصفه تنافسًا بين زعماءِ سبعِ عشائر كبرى على العرش الأخميني (الكتاب الثالث، ٨٢–٨٦). ومن سمات تاريخ الإمبراطورية المتأخِّر استمرارُ تنافُس أعيان الفرس مع الملك، زِدْ على ذلك أن الأسرة الأخمينية ذاتها تكاثرت حتى شكَّلَتْ فروعًا كثيرة. وتدل الرواية التي تتحدَّث عن إقدام أرتحششتا الثالث على قتل أكثر من مائة منافس من السلالة الأخمينية لكي يحمي نفسه، على مدى خطورة هذا التكاثر.

كذلك كان المقدونيون حديثي عهد بالمنطقة التي ستصير قلب المملكة؛ فبعد أن ارتحلت الشعوب المكدونية القديمة شرق جبال بيندوس، استقرت في شريط اليابسة الذي يعانق الخليج الثيرمي قُرْبَ نهاية القرن الثامن، وكانت بقيادة شيخ عشيرة تُسمَّى العشيرة الأرغيَّة. وكما هو الحال مع الفرس، تعايَشَ الوافدون الجدد مع الشعوب الموجودة من قبلهم، وأوجدوا نمطَ حياةٍ يقوم على الزراعة. وسبق أن نوَّهْنا أن ظروف حكم مماثلة على أيدي شيوخ العشائر كانت تسود بين الشعوب الأخرى في مقدونيا العليا وفيما وراءها من مناطق. وحتى زمن فيليب الثاني والإسكندر، كانت لسلطة هؤلاء الحكام، الذين كانوا ذات يوم مستقلين، هيبتها وعن جدارة. وتشبه السلالة الأرغيَّة الحاكمة السلالةَ الفارسية في تكاثُر فروعها؛ إذ كان لفيليب منافِسون لا يقتصرون على إخوته الثلاثة غير الأشقاء، بل يضاف إليهم أيضًا أمينتاس ابن أخيه الملك بيرديكاس الثالث، الذي أدَّى موته أثناء قتاله ضد الإليريين إلى شغور العرش، فضلًا عن اثنين من المدَّعِين. هُزِم هذان المدَّعِيان واختفَيَا من السجلات، ولجأ الإخوة غير الأشقاء إلى خارج مقدونيا، لكن أمينتاس تُرِك على قيد الحياة وعاش حتى زمن الإسكندر، لكن هذا الملك رأى أن موت أمينتاس قد يُطِيل بقاءه.

على الرغم من التهديد المحتمَل النابع من العائلات الأرستقراطية وفروع السلالة الملكية الأخرى، اضطرت السيطرةُ على المملكتين المتسعتين الحكامَ الأخمينيين والأرغيِّين إلى الاعتماد على مساعدة أبناء هذه الأُسَر المتنفذة والثرية كمسئولين معاونين في المناصب المدنية والعسكرية على السواء. ونرى أمارةً على أهمية هذا الدعم في القَسَم (يُسمَّى بالفارسية القديمة «بندكه») المتبادَل بين شيخ العشيرة والملك، والذي يهدف إلى توطيد الثقة بين الطرفين والحفاظ عليها. كانت هناك آصرة مماثلة بين المقدونيين؛ لأن الملك الأرغيَّ اضطرَّ هو الآخر إلى الاعتماد على كبراء العائلات الأخرى المهمة ليتخذ منهم مسئوليه. كانت الرفقة سمة تلك العلاقة؛ إذ كان رجال الملك أصحابه (يُسمَّوْن «هيتايروي»). وربما كانت للمهرجان الذي يُسمَّى «هيتايريديا» ويُقام على شرف زيوس جذورٌ قديمة جدًّا. ويبدو أن رفاق السلاح اقتصروا في القرن الخامس على العائلات التي يسمح لها ثراؤها بالمساهمة بفرسان نخبويين في الجيوش الجماعية؛ وبمجيء عهد فيليب كان الصحابة المشاة مهمِّين للجيش ولتعزيزِ السلطة الملكية على حدٍّ سواء. واتخذ الملوك الفرس والمقدونيون أيضًا معاونين مؤتمنين، ليسوا بفرس أو مقدونيين بالميلاد، في ممارسةٍ لن توفر مزيدًا من المسئولين فحسب، بل ستقلص أيضًا الاعتمادَ الكامل على الأُسَر النبيلة المحلية.

طوَّرَ الأرغيُّون والأخمينيون على السواء سُبُلًا للحدِّ من سلطة الطبقة الأرستقراطية، ومن ذلك توظيف أجانب في المناصب المهمة، وتعليم الشباب النبلاء في بلاط الملك، وإلزامية حضور المناسبات التي تُقام في المراكز الملكية، وجواز المحاسبة على خيانة العهد أو آصرة الرفقة المتأصلة، وكلها قلَّصَتْ قوةَ مَن هم دون الملك. لكن حتى مع تقليص هذه القوة كان احتمالُ إلحاق ضررٍ خطير بالسلالة الملكية ماثِلًا على الدوام، سواء أكان ثورة مرزبانية ضد السلطة المركزية أم التهديدات التي تحيق بحياة الملك ذاته. وعلى نحوٍ يشبه علاقة شخصية صعبة، لم يكن بوسع الملك التعايُش في وئام مع مَن يدانونه في المنزلة، ولا كان يستطيع الاستغناء عنهم في الوقت عينه.

من النتائج التي ترتَّبَتْ على ذلك المأسسة المتنامية للسلطة المركزية؛ ففي حالة بلاد فارس، كان التجميع المتزايد للسلطات مضافًا إليه الاتصال بالدول الأكثر تنظيمًا في الشرق الأدنى القديم، قد تمخَّضَ عن درجةٍ من المركزية بحلول منتصف القرن السادس. تطلَّبَتْ سرعةُ اتساعِ السيطرة الفارسية في البداية إلغاءَ التبعية للميديين؛ وما يُروَى من أن أم قورش كانت ابنة الملك الميدي ربما يفسِّر دور قورش نفسه في نيل استقلال الفرس. ومن ناحيةٍ أخرى، فإن نجاحه في ساحة القتال عزَّزَ على الأرجح مطالَبةَ مَن جاء بعده من أبناء الأسرة الأخمينية بحكم البلاد، وهو ما يتفق معه تعريف التنظيم الفارسي المبكر بأنه «مُلك حربي». وقعت على عاتق داريوس الأول مسئوليةُ توسيعِ هيكل الحكم الموروث من قورش وقمبيز كما أسلفنا في هذا الفصل. وكانت آلياتُ الحكم المتطورة، التي وُرثت من الممالك التي كانت ذات يوم مستقلةً في بلاد ما بين النهرين والأناضول ومصر، نماذجَ مفيدةً لإدارة الإمبراطورية التي صارت آنذاك مترامية الأطراف. من الرموز الأخرى الدالة على طبيعةِ الحكم الفارسي المؤسسيةِ المتزايدة اتخاذُ خليفة أحشويرش لقبَ أرتحششتا عند توليه العرش، واستحداثُه نقْشَ صُوَرِ الملك على العملة النقدية التي تضربها المملكة، وستستمر كلتا الممارستين حتى نهاية الأسرة الأخمينية.

كانت مظاهر سلطة السلالة الملكية عظيمة الأبَّهة تكمن في شعاراتها المادية، كالقصور والمدافن والطرق والتماثيل والنقوش، وكانت هذه المظاهر تصاحب الملوك حتى أثناء الحملات؛ إذ يعدِّد هيرودوت الكنوزَ التي غُنِمت من معسكر الفرس بعد هزيمتهم في بلاتايا فيقول: «خيام مليئة بالأثاثات المصنوعة من الذهب والفضة، وأرائك مُطعمة بالمعدنَيْن النفيسين ذاتهما، وصحاف وكئوس وأكواب كلها من الذهب، وعربات محملة بأجولة مليئة بقصاع من الذهب والفضة … فضلًا عن الملابس الباذخة الموشَّاة التي تضاءَلَتْ قيمتُها بجانب تلك الوفرة من النفائس العظيمة» (الكتاب التاسع، ٨٠). كانت أعداد العاملين في المراكز الملكية أيضًا من الرموز المذهلة؛ إذ يبلغ مجموع قائمة خدم المطبخ والمآدب في موكب داريوس الثالث ٧٩٥ خادمًا (أثينايوس، الكتاب الحادي عشر، ٧٨١إف-٧٨٢). وقد عُثر على هذا الإحصاء في دمشق التي ترك فيها الملك هؤلاء الخدم، ومعهم النساء والأطفال المسافرون مع الجيش، وعجَّلَ بالعودة إلى مركز مملكته بعد هزيمة الفرس في إيسوس.

يجسِّد وصْفُ الحاشية والجهاز المصاحبَيْن لملوك فارس تغيُّرًا آخَر عمَّا كانت عليه الحال عند نشأة المملكة في القرن السادس؛ فمع اتساع الهيكل الإداري تراجعت اللياقة الشخصية والنجاح في القيادة العسكرية. كان قورش قد أنشأ مملكةً متراميةَ الأطراف بفضل قيادته الشخصية، وجرد داريوس الأول الحملاتِ بنفسه وإنْ فوَّضَ أيضًا السلطةَ العسكرية إلى الآخرين في ممارسةٍ ستزداد شيوعًا بمرور الوقت، ويعزو هيرودوت إلى أحشويرش القراراتِ التي اتُّخِذت أثناء الهجوم الفارسي على البر الرئيس اليوناني، وأما في معركة ترموبيلي فكان الشاه يصدر أوامره إلى فرقه العسكرية دون مشاركته هو شخصيًّا في القتال، وكان يراقب المعركة البحرية التي دارت قبالة سلاميس من موقع على الناحية الأخرى من المضيق قبالة الجزيرة؛ ومن بَعْدِ ذلك لم يَلِ مَلِكٌ فارسي القيادةَ في الميدان حتى عهد داريوس الثاني. ومع أن داريوس الثالث قاد المعركتين اللتين دارتا ضد المقدونيين في إيسوس وجاوجاميلا بنفسه، فكان قد فوَّضَ السلطةَ إلى المرازبة في المواجهة الأولى مع الإسكندر.

لم يحدث تطوُّر جذري مماثِل في مقدونيا، لكن المُلك كان يكتسب طابعًا جديدًا مقارَنةً بأصله ﮐ «مُلك حربي». والحقيقة أن جمعية الجيش كانت كما نوَّهْنا تنادي بالملك ملكًا، وأما أجهزة الحكم الأخرى فكانت كأقل ما يكون. ويبدو أنه كان هناك مجلس مستشارين يدعوه الملك تبعًا لرغبته أو حاجته. أثار الاتصال بالشعوب المجاورة تطورات سياسية داخلية؛ إذ من الممكن تمامًا كما أشرنا في الفصل الثاني أن يكون نجاح المشاة الثقيلة الإغريقية في مواجهة الفرس في العقود الأولى من القرن الخامس، قد دفَعَ الإسكندر الأول إلى توسيع قوات المشاة المقدونية، وهي خطوة عزَّزَتْ قوتَه في مواجَهة قوة الأُسَر النبيلة الأخرى، ووسَّعَتْ أيضًا حجمَ الدولة المقدونية، ممَّا تمخَّضَ من ثَمَّ عن الحاجة إلى وسائل للسيطرة على الأرض الجديدة. وأوضح التعامُلُ مع دول تتلهَّف على الخشب المقدوني قيمةَ إبرام المعاهدات النافعة. أُقِيمت الحصون على الحدود لمنع الأغراب الطامعين في الاستيلاء على الموارد لا شرائها، وشُقَّتِ الطرق لربط الأطراف بالقلب، ورُكِّزت الوظائف في العاصمة، وخصوصًا على يد أرخيلاوس في أواخر القرن الخامس. ومع أن العقود الأربعة الأولى من القرن الرابع قوَّضَتْ تطورات القرن الخامس، استعاد فيليب التدابير السابقة وأضاف إليها المزيد من عنده. كانت بيلا مقرَّ إقامةٍ ملكيًّا فوق تلٍّ مُشرِفٍ على دواوين الحكم المحيطة بساحة عامة كبيرة، مع وجود أماكن مخصَّصة للأرشيف والرقابة على سكِّ العملة وتصميم الأسلحة، وميادين لتدريب غلمان الملك، ومساكن خاصة يتضح من أطلالها أنها ليست بيوت عمَّال الطبقة الدنيا ومعابد. وقد اتخذ فيليب، سَيْرًا على خطى أسلافه، صورتَه على العملات المعدنية المقدونية ولسان حاله يقول: «أنا الدولة!» توجد نقطة اختلاف مهمة بين الملكين، وهي أنه على الرغم من تنظيم الإدارة المتزايد، واصَلَ الملوك المقدونيون قيادة قواتهم في المعارك بأنفسهم.

عُزِّزت استمرارية السلالة الملكية بالتحالفات الزوجية. كانت زيجاتُ الملك وأبنائه غالبًا من داخل الأسرة المالكة حتى حكم داريوس الثاني؛ إذ اتخذ داريوس الأول ست زوجات، اثنتان منهما من بنات قورش، وواحدة ابنة بارديا بن قورش، واتخذ داريوس الأول أيضًا زوجتين من عائلتين أرستقراطيتين كبيرتين هما ابنتا غوبارو وأوتانيس، وهذه الأخيرة كانت من قبلُ زوجةً لكلٍّ من قمبيز وبارديا.

وتشير الشواهد إلى اتخاذ أمينتاس الثالث أبي فيليب زوجتين، إحداهما يوريديكا أم فيليب وهي من أصل إليري ولنكستي، والأخرى جايجيا وهي من بنات السلالة الأرغيَّة. يكشف هذان الاختياران عن دافعَي الحفاظ على السلالة المالكة وكذلك إقامة تحالفات مع ممالك أخرى كانت مستقلة؛ ومن ثَمَّ منبع خطر محتمل. وتُبرهن زيجات فيليب الثاني السبع على الدوافع ذاتها، وإن كان اتساعُ المملكة تمخَّضَ عن ست زيجات بنساء غير أرغيَّات وزيجة واحدة فقط بأرغيَّة، والمثير للاهتمام أنها كانت زيجته الأخيرة. كانت زوجاته الأخريات من تيساليا (اثنتان من بنات عائلتين مهمتين) وإليريا وإيليميا وإبيروس وتراقيا. لم يتخذ الإسكندر الثالث سوى ثلاث زوجات، وهن رُخسانة ابنة أحد أعيان باخترا، واثنتين من بنات داريوس الثالث.

بينما عزَّزَتْ روابطُ الزواج السيطرةَ على السلطة في سلالة واحدة؛ مما مكَّن من إقامة أواصر أوسع مع العائلات المهمة الأخرى داخل حدود المملكة وخارجها على السواء؛ أضفى دورُ الملك الديني جلالًا وهيبةً على علاقاته مع العناصر غير الأرستقراطية الأكثر عددًا في الإمبراطورية؛ فأعلن داريوس الأول اعترافه الصريح بفضل أهورا مزدا عليه في النقش البيستوني المسجَّل على وجه أحد الجبال على الطريق المؤدِّي من بابل إلى إكباتان، ويقف فيه داريوس أمام أسرى في الأغلال، ويقف وراءه شخصان يمسك أحدهما بقوس والآخَر برمح، ومن فوق الأسرى شخصٌ متصل بقرص الشمس المجنح يمسك في يده اليسرى بطوق. نرى في الصورة داريوس يمد يمناه نحو الشخص والطوق؛ أيْ إن النقش يؤكِّد أن داريوس ملكٌ نالَ المُلْكَ بفضل أهورا مزدا — قوة الحقيقة في الديانة الزرادشتية — الذي يحمي الملْكَ الفارسي ويمكِّنه، فيحكم بدوره مملكته ويضمن أن تسود فيها الحقيقة. كانت المهرجانات الإمبراطورية وإقامة المعابد امتيازاتٍ ملكيةً تمتد لتشمل الإذن بإقامة معابد للديانات الأخرى غير الزرادشتية وتمويلها.

على الرغم من اختلاف الآلهة والمهرجانات والأبنية الدينية في أنواعها، فإنها تتماثل في تحديد دور الملوك المقدونيين. كان زيوس وهرقل أهم شخصيتين عند الملوك الأرغيِّين؛ فكان هرقل الجد الأعلى للعشيرة، وكان زيوس أبا هرقل وأبا مكدون، ومكدون هو أبو المقدونيين ومن اسمه اشتُقَّ اسمهم. وتنمُّ عن دور هذا النسب بلدتا ديون وهرقليون المقدونيتان الكائنتان على الطريق الرئيس جنوبًا عبر تيساليا، واستخدامُ صورةٍ لكلتا الشخصيتين على قِطَع النقد. كانت مراكز تعبُّد زيوس توجد في ديون والعاصمة الأصلية آيجي، التي أسَّسَ فيها أرخيلاوس مهرجانًا تكريمًا ﻟ «الإله الأعظم»، أما هرقل فكان يُعبَد في آيجي وبيلا. كان الملوك يباشرون مسئوليات خاصة في هذه المهرجانات وغيرها. وتكشف الفسيفسائيات الموجودة في بيلا عن أهمية ديونيسيوس، وهذا متوقَّع لما كان للخمر من أهمية في الندوات المقدونية. لا يوجد نقش كالموجود في جبل بيستون ينصُّ على أن زيوس وهب الأرغيِّين المُلْكَ، ومع ذلك فهذا الجانب من جوانب المُلك المقدوني بادٍ بوضوحٍ من دون نقش هكذا.

تؤكد الشواهد المادية أيضًا سلطةَ الأخمينيين والأرغيِّين وثروتهما. كانت العاصمتان الفارسيتان شوشان وتخت جمشيد مبهرتين في أبعادهما وما بُذِل فيهما من عمل؛ إذ أُقِيمت مدينة شوشان على أساس منحدر من الطوب اللبن ارتفاعه بين ٣٣ و٤٠ قدمًا (١٠ و١٢ مترًا)، وكان المارُّ عبر بوابة داريوس إلى القصر يسير عبر الإيوان الأوسط من ثلاثة أواوين لمسافةٍ تزيد على ٦٨ قدمًا (٢١ مترًا)، ولو نظر إلى أعلى فسيمتد بصره ٤٠ أو ٤٣ قدمًا (١٢ أو ١٣ مترًا). وكانت المصطبة التي قامت عليها القصور تغطي نحو ٣٠ آكر (١٢ هكتارًا أو ١٢٠ ألف متر مربع)، بل كانت المصطبة التي في تخت جمشيد أكبر، مناهِزةً ٣١ آكر (١٢٥ ألف متر مربع). لم تكن بيلا بأبعاد مماثلة، لكنها كانت تثير الإعجاب فورًا مقارَنةً بالمراكز الأخرى في مقدونيا واليونان؛ كانت الساحة العامة تغطي ١٧ آكر (٧ هكتارات أو ٧٠ ألف متر مربع) والقصر ١٥ آكر (٦ هكتارات أو ٦٠ ألف متر مربع). وكبَّرَتِ الأبنيةُ المحيطة بالساحة العامة رقعةَ المدينة، ولا شكَّ أن المنطقة الممتدة على مسافة ٢٣٠٠ قدم (٧٠٠ متر) الفاصلة بين القصر وقلب المدينة كانت أكثر من مجرد أرضٍ غير مأهولة. ويكشف مخطَّط بيلا الهيبودامي عمليةً إنشائية مدروسة كالتي اتَّبَعَها الحكَّامُ الأخمينيون.

كانت هذه العواصم مراكزَ إدارةٍ يشرف عليها الملوك ويفد إليها المبعوثون الأجانب والضيوف واللاجئون من أماكن أخرى للتعامل مع الملك، فخُطِّطت الطرق وأُنشِئت وفقًا للتوجيهات الملكية، وكانت الخزائن المقامة لحفظ الثروة الملكية تُدار بمعرفة مسئولين ملكيين، وأُقِيمت مواقع طقوسية بأمر الملك أو بإذنه، وكُرِّس كثيرٌ منها لفعاليات لعِبَ فيها الملوكُ الأدوارَ الرئيسة. خلاصة القول أنه بالرغم من أن ملوك الفرس ومقدون كانوا على دراية بالتهديدات المستمرة التي تحيق بسلطتهم، كانوا يتمتعون بمنزلةٍ ميَّزتهم عن رعاياهم حتى ذوي المنزلة الأرستقراطية منهم.

(٤) معرفة الدولتين إحداهما الأخرى

يجمع بين مملكتَي الأخمينيين والأرغيِّين عددٌ من أوجه الشبه، وإنْ كانت على نطاقات مختلفة. ويبقى أن نتساءل عن معرفة إحداهما الأخرى معرفةً فعلية قبل الحملات التي جرَّدَها الإسكندر الثالث.

في القرن السادس وأوائل الخامس، كان الاتصال الذي ابتدره الفرس مباشِرًا، كان مباشرًا أكثر مما ينبغي من منظور طريقة التفكير المقدونية؛ إذ أتى توسُّعُ الفرس بجيشهم إلى شمال بحر إيجة، وغربًا إلى حدود دولة مقدونيا الصغيرة؛ ورغم أن داريوس الأول لم يفرض سيطرته عليها، فربما أقام معها علاقة تابع وسيِّد. وعندما جدَّدَ أحشويرش حملةَ أبيه ضد اليونان، كانت مقدون نقطةَ انطلاقه، وانضمَّ ملكها الإسكندر الأول إلى ركب القوة الفارسية. أزال النجاح المبهر الذي حقَّقَه جنود المشاة الثقيلة والجدَّافون الإغريقيون الصلة المباشِرة بين فارس ومقدون فعليًّا حتى حكم فيليب الثاني، الذي مدَّدَ توسُّعه حدودَ مملكته شرقًا عبر تراقيا حتى صارت المملكتان جارتَيْن يفصل بينهما بحر بروبونتيس والبحر الأسود. والحقيقة أنه يوجد ما يسوِّغ اعتقادنا أن فيليب كان يعمل على تأسيس موطئِ قدمٍ له في شمال غرب آسيا الصغرى سنة ٣٤٠ من خلال ارتباطه بهيرمياس، الذي تمكَّنَ من الاستقلال بمملكته الصغيرة أتارنيوس عن الفرس. بلغت المعرفةُ المباشرة بالشئون الفارسية الأرغيِّين المتأخرين من خلال المسئولين الفرس الذين أيقنوا أن حياتهم ستكون أكثر أمنًا في مقدونيا.

حالة أرتبازوس مفيدة بوجه خاص لاستقصائنا عالم الإسكندر. أول مَن عُرِف باسم أرتبازوس قائدٌ من قواد حملة أحشويرش ضد الإغريق في ٤٨٠-٤٧٩، وولي هذا المنصب القيادي الرفيع بفضل نسبه في المقام الأول، فمن الجائز تمامًا أنه كان ابن أحد إخوة أخي داريوس. مكث الرجل في اليونان بعض الوقت بعد عودة أحشويرش إلى فارس في أعقاب هزيمته في سلاميس، ولدى عودته كُوفِئ بمرزبة داسكيليون (آشور الأخمينية)، التي يصفها هيرودوت بأنها «المرموقة أكثر من كلِّ ما سواها من المرزبات وبفاصل كبير»؛ إذ كان مرزبانها «يتقاضى إردبًّا (حوالي خمسة بوشل) من الفضة كل يوم» (الكتاب الأول، ١٩٢)، وظلت المرزبة حكرًا على ذريته ٩٠ سنة. ثم حمل ابن حفيد أرتبازوس الاسمَ ذاته، لكنه على النقيض من جده الأكبر تورَّطَ في كفاحات المرازبة الغربيين ضد الملك في ستينيات القرن الرابع، ولما وجد نفسه في وضع محفوف بالمخاطر، قرَّرَ الرحيل. شجَّعه زواجُه بامرأةٍ إغريقية، إخوتُها قادةٌ مرتزقة متنفذون، على اختيار منفًى في الغرب، فرحل مع أسرته (بما فيها أحد أصهاره) إلى منفاهم في مقدونيا حيث نزلوا فيها ضيوفًا-أصدقاء على الملك فيليب. دامت إقامتهم هناك حوالي عقد من الزمان حتى أقنع إغريقيٌّ من أصهاره — وكان قد قدَّمَ خدماتٍ جليلةً لبلاد فارس — الملكَ أرتحششتا الثاني باستدعاء أرتبازوس وأسرته. لكن أُتِيحت لفيليب أثناء تلك السنوات العشر فرصةُ معرفةِ الشيء الكثير عن الوضع في بلاد فارس، ولأهل أرتبازوس فرصةُ التعرُّف جيدًا على الحياة والناس في بيلا. ومن شبه المؤكد أن إحدى بنات أرتبازوس، وهي بارسين، عرفت الإسكندر في تلك السنوات وكانت تدانيه سنًّا. وبعد عودة الأسرة إلى فارس، وقع العديد من أفرادها في أَسْر المقدونيين سنة ٣٣٢ أو ٣٣١، لكنَّ الأسرى لم يُعدَموا، والواقع أن علاقة جديدة بدأت بين بارسين والإسكندر، وأثمرت ابنًا يُسمَّى هرقل وُلِد حوالي سنة ٣٢٧.

ربما عُرِف مزيدٌ من المعلومات من خلال مسئول فارسي آخَر وهو أمينابيس الفرثيُّ، الذي سافَرَ إلى بيلا عندما نفاه أرتحششتا الثالث. وقد عاد هو الآخر ولحق برئيسه مزاكيس، مرزبان مصر، في استسلامه للإسكندر الثالث سنة ٣٣٢.

بالإضافة إلى الاتصالات المباشرة، اكتُسِب الكثير من خلال الإغريق الذين استمرت اتصالاتهم ببلاد فارس منذ نهاية الحروب الفارسية في ٤٨٠-٤٧٩. لجأ أرستقراطيون فرس إلى الدول الإغريقية وإلى مقدونيا، وهاجَرَ إغريق بارزون إلى بلاد فارس؛ فقد عمل كتسياس، الذي ينتمي إلى جزيرة كنيدوس، طبيبًا لأرتحششتا الثاني، واشتغل أيضًا بوضع مصنفه «برسيكا» في ٢٣ كتابًا، ومع أنه لم يصل إلى أيدينا منه إلا شذرات، فمن الممكن أنه كان معروفًا لمعاصريه، مقدونيين وإغريق على السواء. وكان زينوفون الأثيني من بين المرتزقة الإغريق الذين خدموا قورش الأصغر، الذي سعى لانتزاع العرش من أخيه أرتحششتا الثاني، وكتب عن الحملة في مؤلَّفَيْه «الأنباسة» و«هيلينيكا»، ذاكِرًا تفاصيل بخصوص المنطقة الغربية من الإمبراطورية الفارسية. وجاءت روايات أبكر عن التفاعُل الإغريقي والفارسي في «تاريخ هيرودوت»، وفي «تاريخ الحرب البيلوبونيزية» لثوكيديدس. وكان القائدان الأثينيان الشهيران ثيميستوكليس وألكيبيادس يدينان بالفضل للفرس؛ إذ ختم ثيميستوكليس، أحد أبطال الهزيمة التي ألحقها الإغريق بحملة أحشويرش، حياتَه كمسئول فارسي في آسيا الصغرى؛ وأما ألكيبيادس، في خضم تذبذبه بين الرضا والغضب في أثينا، فختم حياته في آسيا الصغرى التي لجأ فيها إلى جوار مسئول فارسي كبير.

بمجيء عهد فيليب كانت تلك التفاعلات عدائيةً؛ إذ سمح القتالُ الدائم بين الدول-المدن الكبرى لفارس بإعادة تأكيد سلطتها في حوض بحر إيجة. وفي ٣٨٧-٣٨٦ فرض أرتحششتا الثاني على الدول الإغريقية اتفاقيةً تُعرَف باسم «سلام الملك»، الذي أسلفنا الحديث عنه في هذا الفصل باعتباره المطالبة الفارسية بالسيطرة على كلٍّ من الأراضي والشئون الإغريقية؛ وقد أُعِيد التأكيد على تلك الشروط بعد ١٥ سنة. ولا نستغرب أن هذه الشروط أثارت احتجاجات ونداءات مطالبة بالتغيير من داخل اليونان؛ إذ جادل إيسُقراط الأثيني في خطبته المدحية بأنه لا سبيلَ إلى سلام دائم بين الإغريق ريثما يتفقوا على شنِّ حربٍ ضد برابرة آسيا، وكان يدرك فوق ذلك أن العمل المشترك يعتمد على فرد قوي لا دولة-مدينة إغريقية، ومن ثَمَّ شجَّعَ فيليب في الخطبة التي وجَّهَها إليه حوالي سنة ٣٤٥ على الاضطلاع بكلا المجهودين، وأعني توحيد اليونان وقيادة جيش لغزو بلاد فارس البربرية.

•••

استُهِل هذا الفصل بالسؤال عمَّا جعل الإسكندر ينظر شرقًا لا غربًا مثلما فعل أقاربه الإبيروسيون. أحد الأجوبة أن بلاد فارس كانت مألوفةً من خلال المعرفة المباشِرة وغير المباشِرة بتنظيمها، ومن خلال المناطق الغربية من الإمبراطورية، ومن خلال بعض المسئولين المهمين الذين صرَّحوا يقينًا بأسباب لجوئهم إلى بيلا وقدَّموا يقينًا معلوماتٍ أخرى، وكان من شأن هذه المعلومات أن تكشف عن وجود «مجال حيوي» وثروة في الشرق. وجواب آخر أن المملكتين كانتا متماثلتين — لم تكونا متطابقتين بالطبع — في نشأتهما وطبيعة حكمهما السياسي ومشكلاتهما. كان إغريق البر الرئيس وآسيا الصغرى يريدون التخلص من التهديد الفارسي، لكنهم بحلول منتصف القرن الرابع لم يكونوا قادرين على تحقيق تلك الغاية لأنفسهم؛ وهكذا كانت في المصادر الإغريقية ذريعةٌ مقبولة في متناول أيِّ حاكم مقدوني، وقبل أن يمضي زمن طويل كان فيليب قد أنجز المهمة الأولى التي حضَّه عليها إيسُقراط وبات بمقدوره أن ينبري للثانية.

الملوك الأخمينيون.
قورش ٥٥٩–٥٣٠
قمبيز ٥٣٠–٥٢٢
داريوس الأول ٥٢٢–٤٨٦
أحشويرش الأول ٤٨٦–٤٦٥
أرتحششتا الأول ٤٦٥–٤٢٤
أحشويرش الثاني ٤٢٤
سُغدیانوس ٤٢٤-٤٢٣
داريوس الثاني ٤٢٣–٤٠٥
أرتحششتا الثاني ٤٠٥–٣٥٩
أرتحششتا الثالث ٣٥٩–٣٣٨
أرتحششتا الرابع ٣٣٨–٣٣٦
داريوس الثالث ٣٣٦–٣٣٠
الإسكندر الثالث ٣٣٠–٣٢٣

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤