بيان

كان الظن أن المؤلف، طيب الله ثراه، قد استوفى هذا الكتاب تأليفًا وإعدادًا، وأنه قد فرغ من جمع المواد، وتمييز الأقسام، وتبيين الفصول، ومراجعة العبارة. ولكن وردت في أضعاف الكتاب إشارات وعلائمُ تصرف هذا الظن.

من ذلك أنه جعل لقسمٍ من الكتاب عنوانًا، هو: «شعره ونثره». وما يكون للمؤلف أن يمهل جانب النثر من آثار المترجَم له، إلا أن فصول هذا القسم خالية كلها من حديث النثر كله. فالحتم أنه عَقَد العزم على أن يَكسِر بعض فصول عليه.

ومن ذلك أنه بنى فصلًا «للمكرر من معانيه»، وقد وُجد مكتوبًا في ورق قصير من غير جنس الورق الذي كتب فيه سائر الكتاب، وفي إحدى صفحاته جملة مستقلة يُفْهِم موضوعُها أن المؤلف صاغها ليمهِّد بها لهذا الفصل. وهذا المظهر يشهد بأن هذا الورق مُسوَّدة أُبقيت للزيادة عليها، والتغيير فيها. فإذا لوحظ إلى هذا أن الفصل قليل ضئيل مع سعة الموضوع وتشعُّبه، وأن الأبيات المستشهَد بها جُلها من غير شعر اللزوم؛ قام اليقين بأن المؤلف كان مُقدِّرًا إكمال موضوعه فيما بعد، وتبيضه في ورق مماثل لورق بقية الفصول، جريًا على سُنته في إخراج هذا الكتاب.

ومن ذلك أنه عند الحديث في «معتقده» ساق حكاية أبيات من قصيدة، ثم قال: «وسأوردها بتمامها عند الكلام على منظومه، فإنها من شعره المفقود». ولم ترد هذه الأبيات الموعود بها في ثنايا الكتاب. فإن استُخْبِر مُفاد هذه الجملة، أعطى أنه كان يبغي إنشاء فصل لهذا النوع، يجعله في جملة فصول القسم الذي عَنْونه: «شعره ونثره».

ومن ذلك أنه قال في خاتمة الفصول الموجودة من هذا الكتاب: «… بدليل ما ذكرناه من الكلام وما سنذكره». وواضح أن هذه كلمةُ مَن لم يقضِ مأربَه من القول بعدُ.

يضاف إلى هذه جميعًا أن حواشي الأوراق حافلة بألوان من الزيادة والإبدال والإصلاح، مما يَدع الرأي مطمئنًا إلى أن النسخة كانت في حياة المؤلف لا تزال بين يديه: يراجع فيها تسريح الناظر، وإجراء الخاطر، وإعمال القلم.

على أنه ربما يكون قد أجَّل معاودة الكتاب إلى فرصة لم تسنح، وأوْلَاه مهلةً اتصلت بانتقاله إلى جوار ربه. فإنه لما عرَّف بكتاب الفصول والغايات، في فصل «مؤلفاته»؛ اقتصر على بيان طريقته وموضوعه، فما أشار المؤلف إلى حصوله على مخطوطة الجزء الأول من هذا الكتاب النادر. ولهذه الإشارة شأنها؛ إذ هي إعلام بمكان تحفة كانت مفقودة، ووجدان ضالة ظلت منشودة. ومن سبيل المؤلف في كتابه هذا أنه ما تَعْرِض مناسبة كتاب غير مشهور، أو أثر عزيز الوجود؛ إلا هَدَى إلى مخبئه، وعَرَّف بنسخته، ولم يفته أن يذكر حصوله عليه إن كان. وما دام هذا صنيعه في الكتب العارضة، فمثل هذا الصنيع في كتب المترجَم له أولى وأحق. وإذًا فلا بد أن يكون المؤلف قد وادع مخطوطة الكتاب قبل أن يحصل على نسخة الفصول والغايات، ثم لم يعاوده حتى لبَّى نداء ربه خالد الذِّكر، حميد الأثر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤