فصل في معتقده في الله

من زعم أن أبا العلاء كان من منكري وجود الإله جل وعلا، فقد زعم باطلًا، وأسرف في الشطط، ودلَّ على جهله بحقيقة معتقده. وهيهات أن تنهض له حجة، أو يجد لزعمه مستندًا، لو طالبناه بالدليل.

ونحن مثبتون في هذا الفصل من أقواله ما ليس وراءه متسع لطاعن، أو مجال لمتقوِّل، وبادئون منها بثلاثة أقوال، ربما خفي المراد منها على كثيرين، فأوَّلوها على غير ما ينبغي أن تؤول، ثم نتبعها بما يكشف الرين عن عقيدة الرجل في خالقه.

•••

أولها قوله:

قُلْتُمْ لَنَا صانعٌ حكيم
قلنا: صَدَقْتُم، كذا نقول
زَعَمْتُمُوهُ بلا مكان
ولا زمانٍ ألا فقولوا
هذا كلامٌ له خَبِيٌّ
معناه ليست لنا عُقول
وليس في هذه الأبيات إنكار لوجود الإله، وحسبك منها قوله: «قلنا صدقتم، كذا نقول»، لكن يؤخذ من ظاهرها إثبات الزمان والمكان له تعالى، وهو ما لا يقول به إلا المجسِّمة وأضرابهم، تنزه الله عما يقولون. وقد ذكر صاحب معاهد التنصيص أن الفخر الرازي أورد هذه الأبيات في كتابه الموسوم بالأربعين، وأعقبها بقوله: «وقد هذي هذا في شعره»، وقد وقفت على نسختين من هذا الكتاب فلم أجده قال ذلك، فلعل العبارة تحرفت على صاحب المعاهد، فتوهم منها ما ذكره. ولما كان المقام يحتاج إلى تفصيل لاستيضاح ما يرمي إليه أبو العلاء، اقتضى أن ننقل إليك عبارة الأربعين، ثم نعقبها بما ظهر لنا في هذه الأبيات. قال «الفخر» في مبحث حدوث العالم، وإيراد شبهات المخالفين وردها:

السؤال الرابع: إذا قلنا كان الله موجودًا في الأزل، وسيكون موجودًا في الأبد، فقولنا «كان» يفيد أن أمرًا كان موجودًا وحاصلًا، وقد انقضى وما بقي. ويكون يفيد أن أمرًا سيصير موجودًا وحاصلًا، وبعدُ ما حصل. فإذن كل ما يصدق عليه أنه كان وسيكون، فهو محكوم عليه بكونه متجددًا متغيرًا، فذات الله تعالى لما كان واجب الدوام، ممتنع التغير، وجب أن لا يصدق عليه ألبتة أنه كان في الأزل، وسيكون في الأبد، وأنه كائن الآن. ثم لما جربنا عقولنا وجدناها حاكمة بأن كل ما لا يصدق عليه أنه كان قبل وسيكون بعد وأنه كائن الآن، فهو عدم محض. وعند هذا قال المنكرون إنكم لما أثبتم ذاته منزهة عن الجهات والأيون والأوضاع، خرج هذا الإثبات عن العقل، واقترب من العدم المحض؛ ثم إنكم لما أثبتموه منزهًا عن أن يصدق عليه قولنا كان ويكون وهو كائن، فهذا تصريح بالعدم المحض. فإن أدخلتموه تحت قولنا كان ويكون وهو كائن، اقتضى ذلك الحكم بكونه متجددًا متغيرًا، فكيف الخلاص من العقد المحيرة، والمضايق المضلة المعمية. ونظم المعري هذا المعنى في شعر له فقال … انتهى.

ثم أورد الأبيات، إلا أنه روى مكان قوله «زعمتموه»، «ثم زعمتم»، وشرع في الرد على هذا السؤال. فقال:

الجواب عن السؤال الرابع: وهو قوله إن كل ما يصدق عليه كان ويكون فهو متجدد متغير، فنقول: المراد من قولنا كان ويكون استمراره مع الأزمنة الآتية والأزمنة الماضية، من غير أن يكون متغيرًا بحسب تغير هذه الأزمنة؛ وهذا المعنى لا يدركه إلا العقل الذي نوَّره الله تعالى بنور هدايته، وإن كان الوهم والخيال يعجزان عنه. انتهى كلامه.

ثم ساق حجج المشايخ على بقاء الصانع بما يخرج عن قصدنا هنا.

ولا يخفى ما في قوله إن هذا المعنى لا يدركه إلا العقل الذي نوره الله بنور هدايته. فإذا علمت هذا، ثم علمت أن مذهب السلف رضي الله عنهم في الصفات النقلية، كالاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا ونحوها، أنها صفات ثابتة وراء العقل ما كلفنا إلا اعتقاد ثبوتها والتصديق بها من غير تفسير ولا تأويل، مع اعتقاد عدم التجسيم والتشبيه، لئلا يضاد النقل العقل — ظهر لك أن عبارة أبي العلاء إنما ترمي إلى هذا المعنى، وتشير إلى هذا القصد؛ فمراده أن مثل هذه الأمور لا تتسع العقول لإدراكها، بل هي مما استأثر الله بعلمه. وليس في الأبيات ما يمنع من حملها على ذلك. بل كيف يتصور في الرجل اعتقاد التجسيم ونحوه، وهو القائل في موضع آخر:

تعالى اللهُ وهْوَ أجلُّ قَدْرًا
مِنَ الإِخْبارِ عنهُ بالتَّعالي

ومن يذهب في التنزيه إلى هذا الحد لا يتصور فيه اعتقاد التجسيم. ثم اعلم أن مذهب السلف يرجحه كثيرون من المتكلمين. وكان الإمامان مالك والزهري يقولان به، بل هو عقيدة الإمام أحمد بن حنبل وأتباعه إلى يومنا هذا. وإنما رجحوه لما فيه من السلامة من تعيين معنى قد يكون غير مراد له تعالى، وهو الأوفق لحمل العامة عليه، صيانةً لعقولهم عن الزلل، كما فصله الإمام الغزالي في «إلجام العوام، عن علم الكلام». وقد وقفت على فصل للفخر الرازي في تفضيل هذا المذهب، ذكره في تفسير الكبير عند قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ، مع أن هذا الإمام من كبار الأشعرية القائلين بالتأويل.

ولله دَرُّ الإمام خميس بن علي الواسطي حيث يقول:

تركتُ مقالاتِ الكلام جميعها
لمبتدِعٍ يدعو بهن إلى الرَّدى
ولازمتُ أصحاب الحديث لأنهم
دُعاةٌ إلى سبل المكارم والهُدى
وهل تَرَكَ الإنسانُ في الدِّين غايةً
إذا قال قلدتُ النبيَّ محمدا

على أن كثيرًا من أئمة الكلام أيضًا يرجحون مذهب الخلف في تأويلهم هذه الصفات تأويلًا يليق بجلال المولى عز وجل، لما في هذا المذهب من مزيد الإيضاح والرد على الخصوم. ولكل من أصحاب المذهبينِ وجهةٌ لا يريدون بها إلا الوصول إلى الحق، فرضي الله عنهم أجمعين، وجزاهم عنا أحسن الجزاء.

•••

الثاني من الأقوال، قوله:

أمَّا الإلهُ فأمرٌ لست مُدْرِكَهُ
فاحذَرْ لِجِيلكَ فوق الأرضِ إسخاطا

وليس في هذا أيضًا إنكارٌ لوجود الله تعالى، وإنما فيه الإيماء إلى عجز البشر عن إدراك كُنْهِ ذاته تعالى. ولعمري ما نطق إلا بالصواب. وأين لمخلوق ضعيف لا يصل إلى إدراك كُنْهِ نفسه من الوصول إلى هذا المقام؟ وفي كتاب تأييد الحقيقة العلية للسيوطي، قال شارح منازل السائرين في بيان عجز العقول عن إدراك الذات المقدَّس، وتركِ الفكرة في ذلك: «يعرف العبد أن عقله يعجز عن إدراك كل الموجودات من المخلوقات فضلًا عن خالقها، وقد عجزت العقول عن إدراك الخاصية التي يجذب بها المغناطيسُ الحديد، والسَّقَمُونيا الأخلاطَ الصفراوية، إلى غير ذلك، مع القَطْعِ بوجودها. فإذا عرف العبد عجزه، وأيس من الوقوف على غاية مطلبه، حمله ذلك على التمسك بحبل التعظيم والإجلال، وسَلِمَ بذلك من الوقوع في شيء من الاختلال». انتهى.

وفيما نقل عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه أنه كان يقول: «التوحيد أن لا تتوهمه»، ويقول: «كل ما أدركته فهو غيره». وكان الصديق رضي الله عنه يقول: «يا من غاية معرفته القصور عن معرفته». أما قوله تعالى: لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ، فالأكثرون على حمل البصر هنا على الجارحة، من حيث إنها محل القوة. وقيل هو إشارة إلى ذلك وإلى الأوهام والأفهام. فالبيت على هذا عقدٌ لمعنى هذه الآية الكريمة. وقريب منه قوله من قطعة أخرى:

وإنَّ إلهي إله السما
ء رَبُّ الوُهُودِ ورَبُّ النَّبَكْ
سألتُ المُحدِّث عن شأنِهِ
فما زال يضعُفُ حتى ارْتَبَك

•••

الثالث: قوله:

متى عَرَضَ الحِجا لله ضاقتْ
مذاهِبُهُ عليه وإن عَرُضْنَه

ومعناه ظاهر بَيِّن، يشبه ما في القول السابق. وقد فسره بعضهم بقوله: «أي لا يزال عقل الإنسان يتسع مجالُه في الأمور، ويستعمل أنواع القياس؛ حتى ينتهي إلى الله تعالى. فإذا انتهى إليه ضاقت المذاهب عليه، فلم يعلم أكثر من أنه سبحانه خالق المخلوقات». انتهى.

وقد أحسن أبو العلاء في قوله بعد هذا البيت:

وقد كَذَبَ الذي يغدو بعقلٍ
لتصحيحِ الشُّروع وقد مَرِضْنَه

الشروع: جمع شرع. قال بعض الفضلاء: «مَرَضُ الشرائع أن تخفى أسبابها، فلا يُوقَفُ على حقائقها، فيظن الناظر فيها أنها فاسدة، وإنما الفاسد عقله، لأنه تعاطى سرًّا غامضًا ليقف عليه». انتهى.

قلت: فليت المتبجحين كل يوم بإصلاح الدين الإسلامي ليوافق روح العصر كما يزعمون، ينظرون نظرة في هذا البيت، نسأل الله لنا ولهم الهداية.

•••

وبعدُ، فليس في كلام أبي العلاء ما يُوهِم نقصًا في حق الخالق سبحانه وتعالى، فضلًا عن إنكار وجوده، غير هذه الأقوال الثلاثة. وقد عرفت أنها ليست في شيء من ذلك ألبتة. فلم يبق إلا أن نسرد لك عيون أقواله الدالة على حسن معتقده في خالقه. قال:

للمليك المُذَكَّراتُ عبيدٌ
وكذاك المُؤَثَّناتُ إماءُ
فالهِلالُ المُنِيفُ والبَدْرُ والفَرْ
قَدُ والصُّبْحُ والثَّرَى والماءُ
والثُّرَيَّا والشمسُ والنارُ والنَّثْـ
ـرةُ والأرضُ والضُّحى والسماءُ
هذه كلُّها لربِّكَ ما عا
بَكَ في قَوْلِ ذلك الحُكَماءُ
خَلِّنِي يا أُخَيَّ أَسْتَغْفِرُ اللهَ
فلم يَبْقَ فيَّ إلَّا الذَّماءُ

وقال:

إذا قيل لك اخْشَ اللـ
ـهَ مولاكَ فقل: آرَا

آرا: كلمة فارسية، معناها: نعم. وقال:

بعِلْمِ إلهي يوجَدُ الضَّعْفُ شِيمَتي
فلستُ مُطيقًا للغُدُوِّ ولا المَسْرَى
غَبَرْتُ أسيرًا في يديه ومَنْ يكُن
له كَرَمٌ تُكْرَمْ بساحتِهِ الأسرى
أَأُصْبِحُ في الدنيا كما هو عالِمٌ
وأدخُلُ نارًا مِثْلَ قَيْصَرَ أو كِسْرَى
وإنِّي لأرجو منه يومَ تَجاوُزٍ
فيأمُر بي ذات اليمينِ إلى اليُسْرى
وإن أُعْف بعد الموتِ مِمَّا يريبُنِي
فما حَظِّيَ الأدنى ولا يَدِيَ الخُسرَى

اليسرى هنا: من اليسر ضد العُسر، وليست من اليسار ضد اليمين. وقال:

اللهُ لا ريبَ فيه وهو مُحْتَجِبٌ
بادٍ وكلٌّ إلى طَبْعٍ له جَذَبا

وقال:

لا تَكذِبَنَّ فإن فعلتَ فلا تَقُلْ
كَذِبًا على ربِّ السماء تَكَسُّبا
فالله فَرْدٌ قادِرٌ مِن قَبْلِ أن
تُدْعَى لِآدَمَ صورة أو تُحْسَبَا
وإذا انْتَسَبْتَ فقُلْتَ إني واحِدٌ
مِن خلقِهِ فكفى بذاك تَنَسُّبَا

وفي معنى البيت الثاني قوله من قطعة أخرى:

ما زال مُلْكُ اللهِ يَظهرُ دائبًا
إذ آدمٌ وأبوه في الإِضْمَار

لعله أراد بأبيه: التراب الذي خُلق منه، وفي بعض النسخ: وبنوه، وهو ظاهر.

وقال:

ولم يَحْبُنِي أحدٌ نعمةً
ولكنَّ مولى الموالي حَبَا
نَصَحْتُكَ فاعملْ له دائِبًا
وإن جاء موتٌ فقُلْ مرحَبَا

ومن طمعه في عفو ربه، قوله:

أرى اللُّبَّ مرآةَ اللبيب ومَنْ يكن
مَرَائِيَه الإخوانُ يُصْدَقْ ويُكْذَبِ
أَأَخْشَى عذابَ اللهِ واللهُ عادِلٌ
وقد عِشْتُ عيشَ المُسْتَضَامِ المُعَذَّب

ومثله قوله:

وما أنا يائِسٌ من عفو رَبِّي
على ما كان من عَمْدٍ وسَهْو

ومثله قوله أيضًا:

لمَ لا أُؤَمِّلُ رَحْمَةً من قادِرٍ
والسُّولُ يُطْلَبُ في السَّحابِ الأَسْوَلِ

وقال يذكر خوفه من العقاب:

طُوبى لموءُودةٍ في حال مَوْلِدها
ظُلمًا فليت أباها الفَظَّ مَوْءُود
يا رَبِّ هل أنا بالغُفْران في ظَعَني
مُزَوَّدٌ إنَّ قلبي منك مَزْءُود

وقريب منه قوله:

قد فَنِيَ الوقتُ فما حيلَتي
إذا انقضَى الإمهالُ والمَهْلُ
إن خَتَم اللهُ بغُفْرَانِه
فكلُّ ما لاقَيْتُهُ سَهْلُ

وقال في خوفه وطمعه:

أمَّا الحياةُ فلا أرجو نوافِلَها
لكنني لإلهي خائِفٌ راجِ
ربِّ السِّماكِ وربِّ الشمسِ طالعةً
وكلِّ أزْهَرَ في الظَّلْماءِ خرَّاج

ولله دره حيث يقول:

لِيَفْعَلِ الدَّهْرُ ما يهُمُّ به
إنَّ ظُنُوني بخالِقي حَسَنَهْ
لا تَيْأسُ النفسُ مِن تَفضُّلهِ
ولو أقامَتْ في النَّار ألفَ سَنَهْ

وقال:

أرى انكفاتي إلى المَنايا
أغنى عن الأُسرةِ الكفاةِ
أُثْبِتُ لي خالِقًا حكيمًا
ولستُ من مَعشر نُفاةِ

وقال:

سُبحان مَن بَرَأَ النجومَ كأنها
دُرٌّ طفا من فوقِ بَحْرٍ مائِجِ
لو شاء ربُّكَ صَيَّرَ الشرَطَيْنِ مِنْ
هَذِي الكواكِبِ عند أدنى ثائِجِ
والتَّاجُ تَقْوَى اللهِ لا ما رَصَّعُوا
لِيكونَ زَيْنًا للأميرِ التَّائِجِ

وقال من أخرى:

فَزِعوا إلى ذِكْرِ المليك وحَسْبُهم
أُنْسًا بذلك في الضَّمِيرِ الوالج

وقال:

أُحاذِرُ السَّيْلَ ومَنْ لي بمنـ
ـجاةٍ إذا أسمَعَني رَعْدَه
والوقتُ لا يفتأُ في مَرِّهِ
مُقَرِّبًا من أجَلٍ بُعْدَه
فراقِبِ الخَالق بالغيب في الـ
ـقِيمةِ والنِّيمةِ والقِعْده

أراد الهيئة من القيام والنوم والقعود، فجاء بها على فِعلة بكسر الأول. وهو عقد لمعنى قوله تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ. ومعنى الآية، والله أعلم: الذين لا يغفلون عنه تعالى في عامة أوقاتهم، كما ذهب إليه بعض المفسرين.

وقال أبو العلاء:

إذا كنتَ مِن فَرْطِ السَّفاهِ مُعَطِّلًا
فيا جاحِدُ اشهَدْ أنني غيرُ جاحِد
أخافُ مِنَ الله العُقوبةَ آجِلًا
وأزعمُ أن الأمْرَ في يدِ واحِد
فإني رأيتُ الملحدينَ تَعُودُهُمْ
ندامتُهُم عند الأكُفِّ اللَّواحِد

ليت شعري كيف يُرمى بالإلحاد من يخاطب الملحدين بمثل هذا الكلام؟

وفيهم يقول أيضًا:

أمَّا المُجاوِرُ فَارْعَهُ وتَوَقَّهُ
واسْتَعْفِ رَبَّكَ من جِوارِ المُلْحِدِ
ليس الذي جَحَدَ المليكَ وقد بَدَتْ
آياتُه بأخٍ لِمَنْ لم يَجْحَدِ

ويقول:

إذا ما أَلْحَدَتْ أممٌ بجهلٍ
فقابِلْهَا بتوحيدِ السُّيُوفِ
كأنَّا في سَجايَانا نُقودٌ
كثِيراتُ البَهارِجِ والزُّيُوفِ
وهَذِي الأرضُ للملكِ المُرَجَّى
نُلِمُّ بها كإلمام الضُّيُوفِ

وقال:

تعالى اللهُ كم مَلِكٍ مَهِيبٍ
تَبَدَّلَ بعد قَصْرٍ ضيقَ لَحْدِ
أُقِرُّ بأنَّ لي ربًّا قديرًا
ولا ألقَى بَدائِعَهُ بِجَحْدِ

وقال:

بِوَحْدانِيَّةِ العَلَّامِ دِنَّا
فذَرْني أقطَعُ الأيامَ وحدِي
سألتُ عن الحَقائِقِ كلَّ قومٍ
فما ألفَيْتُ إلَّا حَرْفَ جَحْدِ
سِوَى أني أزُولُ بغير شَكٍّ
ففي أيِّ البلاد يكونُ لَحْدِي

وقال:

ولقد وَجَدْتُ ولاءَ قومٍ سُبَّةً
فاصْرِفْ ولاءَكَ للقديمِ المُوجِدِ

وقال:

يُسَمُّونَ بالجَهلِ عبدَ الرَّحيم
وعبدَ العزيز وعبدَ الصَّمَدْ
وما بَلَغُوا أن يَكونوا له
عبيدًا وذلك أقصى الأَمَدْ
ولكنَّه خالِقُ العالَميـ
ـنَ ذائِب أجزائِهِمْ والجَمَدْ
تَعَمَّدْهُ يُغْنِكَ بالهَدْي أنْ
تُدَرِّسَ مُغْنِيهُمْ والعُمَدْ

المُغْنِي، والعُمَد: كتابان أحدهما في علم الكلام، والآخر في الأصول، وهما للقاضي عبد الجبار بن أحمد، من كبار أئمة المعتزلة، المتوفى سنة خمس عشرة أو ست عشرة وأربع مئة. ولأبي محمد عبد الله بن العباسي الرامَهُرْمزي المعتزلي كتاب اسمه المغني أيضًا، إلا أن ذكره مقرونًا بالعُمَد يدل على أن المراد الأول.

وقال أبو العلاء:

كم غَيَّرَتْنا بأمرٍ خُطَّ حادِثَةٌ
ورَبُّنا اللهُ لم تُلْمِمْ به الغِيَرُ

وقال:

ما زال ربُّك ثابتًا في مُلْكِه
يُنْمِي إليه للعِباد جُؤَارُ

وقال:

والجَهْلُ أغلبُ غيرَ عِلْمٍ أننا
نَفْنَى ويَبْقَى الوَاحِدُ القَهَّارُ

وقال في الإقرار بالذنوب من قطعة:

غُفرانَ رَبِّكَ قَلَّ ما فَعَلَ الفَتَى
ما ليس مُحْوِجَهُ إلى استِغفارِ

صدق والله، فغفرانك اللهم. وقال:

رَجَزَتْ بتَسْبيحِ المليكِ حَمامةٌ
بالشَّامِ تُوطِنُ أو تَحُلُّ حِجازَا
والطَّيْرُ مِثْلُ الإنْسِ تَعْرِفُ ربَّها
وتَرَى بها الشُّعراء والرُّجَّازَا

وقال في معناه:

سَبَّحَ اللهَ ناعِبٌ، صَوْتُهُ: غا
قِ، وكُدْرِيَّةٌ تَصِيحُ: قَطَا

وقال:

صَنْعَةٌ عَزَّتِ الأَنَامَ بلُطْفٍ
وعَزتْهَا إلى القَدِيرِ العَوازِي
مَلِكٌ أَنْشَأَ السَّمواتِ فالْبَدْ
رُ لَدَيْهِ في صُورةِ الجلْوَازِ
كَمْ له كَوْكَبٍ أبَرَّ وأزَّ النَّـ
ـاسَ حتى سَطَا على أبرواز

وقال:

لنا رَبٌّ ولَيْسَ له نَظِيرٌ
يُسَيِّر أمرَهُ جَبلًا ويُرسِي
تَظَلُّ الشَّمْسُ ماهِنَةً لَدَيْهِ
فما بِلقِيسُ أم ماسِتّ برس

وقال:

إذا كنتَ بالله المُهَيْمنِ واثِقًا
فسَلِّم إليه الأمرَ في اللَّفظِ واللَّحْظِ
يُدَبِّرْك خَلَّاقٌ يُدِيرُ مَقادِرًا
تُخَطِّيك إحسانَ الغَمائِم أو تُحْظِي

وقال:

وسِرْتُ عُمْرِي إلى قَبْرِي على مَهَلٍ
وقد دَنَوْتُ فحُقَّ الخَوْفُ والهَلَعُ
ما نَحْنُ أم ما بَرايَا عالَمٍ كُثُرٍ
في قُدرةٍ بَعْضُها الأفلاكَ يَبْتَلِعُ

وقال:

نَدِينُ بأنَّ اللهَ وِتْرٌ وخَوْفُهُ
رَشادٌ فَصَلُّوا الوِتْرَ في الدَّهْرِ والشَّفْعَا

وقال:

الأرضُ للهِ ما استَحْيَى الحُلولُ بها
أن يَدَّعُوها وهُمْ في الدَّارِ أضيافُ
تنازَعوا في عوارِيٍّ فبَيْنَهُمُ
نَبْلٌ حُطامٌ وأرْمَاحٌ وأسيَافُ
إن خالَفُوكَ ولَمْ يَجْرُرْ خِلافُهُمُ
شرًّا فلا بأس إنَّ الناسَ أخيافُ

أَخْيَاف: أي مختلفون، ومنه: إخوةٌ أخياف، إذا كانت أمهم واحدة وآباؤهم شتى؛ فإذا كانوا لأب واحد من أمهات شتى، قيل: هم أبناء علات.

وقال في معنى ما تقدم:

هو الفَلكُ الدَّوَّارُ أجراهُ ربُّهُ
على ما تَرى من قبل أن تَجْرِيَ الفُلْكُ
له العِزُّ لم يَشْرَكْهُ في المُلْكِ غيرُه
فيا جَهْلَ إنسانٍ يقولُ: لي المُلْكُ

ومثله قوله:

ويقول داري مَنْ يقولُ وأعبُدي
مَهْ فالعَبِيدُ لرَبِّنا والدَّارُ

وقوله أيضًا:

والمُلْكُ للهِ مَنْ يَظفرْ بنَيْلِ غنًى
يَرْدُدْهُ قَسرا وتَضْمَنْ نَفْسُهُ الدَّرَكا
لو كان لي أو لغيْري قَدْرُ أَنْمُلَةٍ
مِنَ التُّرابِ لكانَ الأمرُ مُشْتَركا

ذكر الإسحاقي في تاريخه أن السلطان سليمًا العثماني لما فتح مصر نزل بالروضة في مكان أعد له بالمقياس، ونقل عن القطبي أنه رأى هذين البيتين مكتوبين بخطه بأعلى المقياس على الرخام الأبيض كتابة خفية لا تكاد تظهر إلا بالتأمل، ومرقوم تحتهما: كتبه الفقير سليم. ثم قال: ولعمري إن كان هذان البيتان من نظم المرحوم فهما في غاية البيان والبراعة، ونهاية في الشعر العربي الفصيح المنسجم؛ وإن كان تمثل بهما فهما أيضًا مرتبة عالية في حسن التمثيل ولطف الاستحضار. انتهى. قلت: أما كونهما له فقد ثبت خلافه؛ فلم يبق إلا أنه تمثل بهما. وما هو بكبير على فضل هذا السلطان واطلاعه. وسلاطين آل عثمان، وإن اشتهر عنهم قلة الاهتمام باللغة العربية، فقد نبغ منهم جماعة فيها. منهم: السلطان محمد الفاتح؛ وفضله في الاشتغال بالعربية غير منكور. ومن شيوخه المولى خواجه زاده، قرأ عليه متن عز الدين الزنجاني في التصريف؛ وكانت العلماء تجتمع عنده للمناظرة، وتعجبه مباحثاتهم. ويحكى أنه كان في صغره غير مهتم بالطب، فأمر والده السلطان مراد المولى شمس الدين الكوراني بالتشديد عليه، فصدع بأمره، حتى ضربه مرة ضربًا مُوجِعًا، ولم يزل به حتى ختم القرآن الكريم في مدة يسيرة. ومنهم: السلطان مراد الثالث ابن سليم المتوفى سنة ١٠٠٣، كان أجمل أهل بيته علمًا وأدبًا وذكاءً وفهمًا. اشتغل بالتصوف وبرع فيه، ونظم الشعر باللغات الثلاث: الفارسية والتركية والعربية. ومنهم: السلطان أحمد بن محمد حفيد السلطان مراد المارِّ ذكرُه. كان من فضلاء وقته، مال للأدب والمحاضرات، ونظم الشعر بالتركية. ومما يروى له من الشعر العربي قوله:

ظَبْيٌ يَصُولُ ولا وُصُولَ إليه
جَرَحَ الفُؤادَ بصارِمَيْ لَحْظَيْهِ
ما قام مُعْتَدِلًا وهَزَّ قَوَامَهُ
إلا تهتَّكَتِ السُّتُورُ عليه
يَسقِي المُدامةَ من سُلافةِ ريقِه
ويخُصُّنا بالغُنْجِ مِن جَفْنَيْهِ
عَيْنَاهُ نَرْجِسُنَا وآسُ عِذارِه
رَيْحانُنا والوَرْدُ من خَدَّيْهِ
يا شَعْرُ في بَصَرِي ولا في خَدِّه
إني أغارُ من النَّسِيمِ عليه
عَجَبِي لسُلطانٍ يُعِزُّ بعَدْلِهِ
ويَجُورُ سلطانُ الغَرامِ عليه
لولا أخافُ اللهَ ثمَّ جَحِيمَهُ
لعَبَدْتُهُ وسَجَدْتُ بين يَدَيْهِ

والبيتان الأخيران من قصيدة لابن رزيك الشيعي، أتى بهما السلطان على سبيل التضمين.

رَجْعٌ إلى شعر أبي العلاء

فمن دلائل إيمانه بالله، وتفويضه الأمر إليه، قولُه:

رَدَدْتُ إلى مَلِيكِ الخَلْق أمري
فلم أسألْ متى يَقَعُ الكسُوفُ
فكم سَلِمَ الجَهُولُ من المنايا
وعُوجِلَ بالحِمام الفيلسوفُ

وقال:

والرُّوحُ طائِرُ مَحْبِسٍ في سِجنه
حتى يَمُنَّ رداهُ بالإطلاق
سيَموتُ محمودٌ ويَهلكُ آلِكٌ
ويَدومُ وجهُ الواحد الخَلَّاق

وقال:

أزُولُ وليس في الخَلَّاق شكٌّ
فلا تَبْكُوا عليَّ ولا تُبَكُّوا
خُذُ واسِيَرِي فهُنَّ لكم صَلاحٌ
وصلُّوا في حياتكمُ وزكُّوا

وقال:

تَسمَّتْ رجالٌ بالمُلوكِ سَفاهةً
ولا مُلْكَ إلا للذي خَلَقَ المُلْكَا
أرى فَلَكًا ما دار إلا لحِكْمةٍ
فلا تَنْسَ مَنْ أجْرَى لحاجَتِكَ الفُلْكَا

وقال:

إنْ يُرْسِلِ النَّفْسَ في اللَّذاتِ صاحِبُها
فما يُخَلِّدْنَ صُعْلوكًا ولا مَلِكًا
ومَنْ يُطَهِّرْ بخوفِ اللهِ مُهجتَه
فذاك إنسانُ قومٍ يُشْبِهُ المَلَكا

وقال:

شِفاءُ ما بك أعْيَاني وأعْيَاكا
فارْجُ الذي هو أبداني وإيَّاكا
ما لي أراك غَبِيًّا لَسْتَ تَقْدِرُ أنْ
تُحصى خُطاكَ فهل تُحصِي خَطاياكا

وقال:

يا خالِقَ البَدْرِ وشمس الضُّحى
مُعَوَّلي في كل حالي عليك
وكلُّ مَلْكٍ لك عبدٌ وما
يبقى له مُلْكٌ فيُدْعى مُلَيْك
قد رامَتِ النَّفْسُ لها مَوْئِلًا
فقلتُ: مهلًا، ليس هذا إليك
إن الذي صاغَكِ يقضي بما
شاء ويُمضي فازجُري عاذِلَيْك
البحرُ في قُدْرتِه نُغْبةٌ
والفَلَكُ الأعظمُ فيها فُلَيْك

وقال:

إله الأنام ورَبَّ الغَمام
لنا الفقرُ دونك والمُلْكُ لك

وقال:

فلا تَسألِ المرءَ الغَنِيَّ عطاءَهُ
ورَجِّ الغِنَى من ربِّكَ المُتعالِي

وقال:

أما ترى الشُّهْبَ في أفلاكِها انتقلَتْ
بقُدرة من مَلِيكٍ غير مُنْتَقِلِ

وقال:

نموتُ لأننا حُلَفاءُ نَقْصٍ
ويبقى مَنْ تَفرَّد بالكَمَال

وقال:

حِكَمٌ تدلُّ على حكيم قادر
مُتفرِّد في عِزِّه بكمال

وقال:

تَوَهَّمَ بعضُ القوم وهمًا فأصَّلُوا
يَقِينَ أمورٍ بات يتبَعُها الوَهْمُ
جَهِلْنا، ولكن للخلائِقِ صانِعٌ
أقرَّ به فَسْلٌ من القوم أو شَهْمُ

وقال في رد تأثير الأشياء لله تعالى:

وقد يأمُرُ اللهُ الكَهامَ إذا نَبَا
فَيْفَرِي وقد يَنْهَى الحُسامَ فَيَكْهَمُ

وزاد هذا المعنى وضوحًا بقوله وأجاد:

لو يَنطِقُ السيفُ نادى ليس لي عمل
إذا قضى مالِكُ الأفلاكِ أنضاني
متى أراد فَصَفْحايَ اللذانِ هُما
بَحْرُ الرَّدَى من حِياضِ الموتِ حَوضانِ
وإن كَهَمْتُ فأمرُ اللهِ أَكْهَمَنِي
وإن مَضَيْتُ فأمرُ الله أمضاني

وقال:

ما في بني آدمٍ غَنِيٌّ
بل كلُّهُم مُقْتِرٌ عَدِيم
يَغْنى الذي ما له فَناءٌ
وذلك الواحِدُ القديمُ

وقال:

رأيتُ سَجايا الناسِ فيها تظالُمٌ
ولا ريبَ في عَدْلِ الذي خَلَقَ الظُّلْمَا

وقال:

فسادٌ وكونٌ حادِثانِ كِلَاهُما
شَهيدٌ بأنَّ الخَلْقَ صُنْعُ حَكِيم

وقال:

أبِالقَدَرِ المتاحِ تَدينُ جِنٌّ
تَسَمَّعُ غيرَ هائِبةِ الرُّجُومِ
وتَعْلَمُ أنَّ مَا لَمْ يُقْضَ صعبٌ
فما تَخْشَى المنيَّةَ في الهُجوم
بإذن الله ينفُذُ كل أمر
فنَهْنِهِ فَيْضَ أدمُعِكَ السُّجُوم
يَجوزُ بحُكْمِهِ موتُ الثُّريَّا
وأن تبقى السماء بلا نُجوم
وكم وَجَمَ الفتى من بعد ضِحكٍ
وأُضْحِكَ بعد إفراطِ الوُجُوم

وقال:

إذا مَدَحوا آدَمِيًّا مَدَحْـ
ـتُ مَوْلى الموالي ورَبَّ الأمَم
وذاك الغنيُّ عن المادِحين
ولكن لنفسي عَقَدْتُ الذِّمَم
له سَجَدَ الشَّامِخُ المُشْمَخِرُّ
على ما بِعِرْنِينِهِ من شَمَمْ
ومَغْفِرةُ الله مَرْجُوَّةٌ
إذا حُبِسَتْ أعظُمي في الرِّمَم

وقال:

أدِينُ بربٍّ واحِدٍ وتَجَنُّبٍ
قبيحَ المَساعِي حين يَظلِمُ دائِنُ

وقال:

إذا ما شِئتُمُ دَعَةً وخَفْضًا
فعِيشُوا في البَريَّةِ خامِلينا
ولا يُعْقَد لكم أملٌ بخَلْقٍ
وبِيتُوا للمُهَيْمِن آمِلِينا

وقال:

مَطِيَّتي الوقتُ الذي ما امْتَطَيْتُه
بوُدِّي ولكنَّ المُهيمنَ أمطانِي
وما أحدٌ مُعْطِيَّ والله حارِمِي
ولا حارمِي شيئًا إذا هو أعطاني

وقال:

لعمري لخَيْرُ الذُّخْرِ في كل شِدة
إلهك ترجُو فضله وألَاهُ
ولا مُلْكَ إلا للذي عَزَّ وجهُهُ
ودامَتْ على مَرِّ الزَّمانِ عُلاهُ

وقال:

تَهَجَّدَ مَعْشَرٌ ليلًا ونِمْنَا
وفاز بحِنْدِسٍ مُتَهَجِّدُوه
إلهُكَ أوجَدَ الأشياءَ جَمْعًا
فلا يَفْخَرْ بشيءٍ مُوجِدُوه
وربُّكَ أنجَدَ الأقوامَ حتى
بَنى أعلَى القُصور مُنَجِّدُوه
فمَجِّدْهُ فلم يَخْسَرْ أُناسٌ
أنابُوا للمليكِ ومَجَّدُوه

ولنختم هذا الفصل بقوله:

تَشَابَهَتِ الأشياءُ طبعًا وصُورة
وربُّك لم يُسمَعْ له بشَبيه

هذه أقوال من يتهمه المتخرصون بإنكار الإله، سقناها إليك لتكرر النظر فيها المرة بعد المرة، ثم نكلك إلى محاسبة نفسك، ومحاكمة فكرك؛ هل ترى فيها غير التوحيد والتنزيه، وإجلال اسمه تعالى، والطمع في رحمته، والخوف من عقابه، والحض على التقوى، والإنكار على الملحدين؟

ولا نخالك بعد ذلك إلا مُنْصِفَه، إن كنت من المخلصين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤