فصل في نشأته وطلبه العلم ورحلته

نشأ بالمعرة، وأخذ النحو واللغة عن أبيه، وعن محمد بن عبد الله بن سعد النحوي بحلب، وحدَّث عن أبيه وجدِّه. ثم رحل إلى بغداد، فسمع من عبد السلام بن الحسين البصري. هكذا ذكر السيوطي في بُغية الوعاة، قال: وقد أسندنا حديثه في الطبقات الكبرى، وله ذِكْر في جمع الجوامع. وذكر غيره أن أبا العلاء لما قدم بغداد، قصد أبا الحسن علي بن عيسى الربعي ليأخذ عنه، فلما أراد الدخول عليه، قال الربعي: ليدخل الإصطبلُ! فخرج مغضبًا ولم يعد إليه. والإصطبل بلغة أهل الشام: الأعمى. قلت: وهي لفظة معربة، ذَكَرها الخفاجي في شفاء الغليل، قال: ولذا قال ابن عباد: جرّوا الإصطبل في قصته مع المعري. ولعل الخفاجي أراد المرتضى، ووَهمَ فذكر ابن عباد. وستأتي القصة.

وذكر أبو الفداء أنه دخل بغداد واستفاد من علمائها، ولم يُتَلْمِذْ لأحد أصلًا، وهو يخالف ما ذَكَره السيوطي وابن خلكان وغيرهما. وكان قد رحل أولًا إلى طَرابُلسَ، وبها خزائن كتب موقوفة؛ فأخذ منها ما أخذ من العلم، ثم رحل إلى بغداد سنة ٣٩٨ فأقام بها سنة وسبعة أشهر، ثم رجع إلى المعرة وأقام بها إلى وفاته. وقول ابن خلكان إنه دخل بغداد سنة ٣٩٨، ودخلها ثانية سنة ٣٩٩، وأقام بها سنة وسبعة أشهر، لا يستقيم مع ما سيرد عليك في فصل مؤلفاته، من تصريحه عن نفسه أن رجوعه إلى المعرة ولزومه منزلَه كان سنة ٤٠٠.

وقبل قدومه إلى المعرة بمدة يسيرة ماتت أمه، وأصيب في مال له، فرثاها بقصيدة ميمية طويلة، وأخرى بائية، وكتب إلى بغداد يخاطب صديقه وتلميذه القاضي أبا القاسم علي بن المحَسِّن التنوخي بقصيدة ضمنها أغراضًا يقول فيها معتذرًا عن مفارقته العراق:

أثارني عنكمُ أمران: والدة
لم ألقها، وثراء عاد مسفوتا١
أحياهما الله عصرَ البَيْنِ ثم قضى
قبل الإياب إلى الذخرين أن موتا
لولا رجاء لقائيها لما تبعت
عَنْسِي دليلا كَسِرّ الغمد إصليتا٢
ولا صحبتُ ذئاب الإنس٣ طاوية
تراقب الجدى في الخضراء مسبوتا٤

ولما استقر بالمعرة لزم داره، وشرع في التصنيف والإفادة، وأخذ عنه الناس، وقصده الطلبة من الآفاق، وكاتَبَه العلماء والوزراء وأهل الأقدار، وسمى نفسه: «رهن المحبسينِ»، يعني: حبس نفسه في المنزل، وحبس بصره بالعمى.

وما فتئ وهو بعيد عن بلده، يَحِنُّ إليه ويشتاقه، ويذكره في شعره، وفيه يقول:

سرى برقُ المعرة بعد وَهْن
فبات برامة يصف الكَلَالا
شجا رَكْبًا وأفراسًا وإبْلا
وزاد فكاد أن يشجو الرحالا
بها كانت جيادهم مهارى
وهم مُرْدًا وبُزْلُهُم فِصالا

وقال:

فيا برق ليس الكَرْخُ داري وإنما
رماني إليه الدهر منذ ليل
فهل فيك من ماء المعرة قطرة
تغيث بها ظمآن ليس بسال

وقال أيضًا:

متى سألتْ بغداد عني وأهلها
فإني عن أهل العواصم سآل
وماء بلادي كان أنجع مشربًا
ولو أنَّ ماء الكرخ صهباءُ جريال

على أنه لما أزمع الرحلة من بغداد، عزَّ عليه فراقها، وفراق أوِدَّائه فيها، فقال من قصيدة يجيب بها أبا علي النهاوندي:

وردنا ماء دجلة خير ماء
وزرنا أشرف الشجر النخيلا
وزلنا بالغليل وما اشتفينا
وغاية كل شيء أن يزولا

ونظم في توديعها قصيدة يقول فيها:

أودعكم يا آل بغداد والحشا
على زفرات ما يَنِينَ من اللذع
وداعَ ضَن٥ لم يستقلَّ وإنما
تحامل من بعد العثار على ظَلْع
فبئس البديل الشام منكم وأهله
على أنهم قومي وبينهمُ ربعي
ألا زودوني شربة ولو أنني
قدرت إذًا أفنيت دجلة بالجرع
وأنَّى لنا من ماء دجلة نُغْبةٌ
على الخِمْسِ من بُعد المفاوز والرِّبْع

وقال من أخرى:

لقد نصحتني في المقام بأرضكم
رجال ولكن رب نصح مضيع
فلا كان سيري عنكمُ رأي ملحد
يقول بيأس من معاد ومرجع

أي: لا كان سيري عنكم ذهابًا بلا إياب. أخرجه مُخْرَجَ الدعاء.

هوامش

(١) المسفوت: القليل البركة.
(٢) الإصليت: الماضي الصقيل.
(٣) يريد بذئاب الإنس اللصوص.
(٤) المسبوت: من السبات، وهو النعاس.
(٥) يقال: ضنى كرضى فهو ضنى وضن: مرض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤