أولًا: البراهين على وجود الوعي الخالص (الذات)١

(١) ماذا يعني الوعي الخالص أو الذات؟

موضوع التوحيد هو لب علم الكلام كله، أعطاه اسمه فأصبح التوحيد هو علم التوحيد، وأصبح العلم كله يدور حول إثبات الذات والصفات والأفعال.٢ وفي كتب الفِرَق يظهر التوحيد كموضوعٍ أول تفترق فيه الفِرَق وتجتمع.٣ ولكن لا يبدو بناء الموضوع وتطوره إلا من خلال المؤلفات الموضوعية لا من خلال كتب الفِرَق. وتبدأ كتب العقائد المتقدمة بالتوحيد، وتكون كل الموضوعات الأخرى مرتبطة به دون تفصيل أو تقسيم لموضوعات جديدة، وكأن التوحيد هو المحور الذي حوله تدور كل الموضوعات الأخرى.٤

ولكن ماذا تعني الذات؟ بعد الانتقال من العالم كما عرضته نظرية الوجود، وتم اكتشاف الطبيعة والإنسان كبُعدين رئيسيين فيه، يبدأ السؤال حول الذات، أي الوعي الخالص، سواء كان وعي الطبيعة أم وعي الإنسان أم وعيًا مفارقًا لما انتهت نظرية الوجود إلى إثبات المفارقات. بداية علم أصول الدِّين كموضوع هو الذات، أي الوعي الخالص بعد أن كانت المقدمات النظرية كما بدت في نظريتي العلم والوجود أقرب إلى إثبات العالم الحسي. كان السؤال إذن: وماذا بعد العالم الحسي؟ هل هناك وعي خالص أو ذات؟ هل إثبات العالم الحسي يؤدي بالضرورة إلى إثبات الذات؟ وهل الذات افتراض يمكن إثباته أم أنها بديهية وجودية، إذ يشعر كل مِنَّا بأن له وعيًا قد يكون شائبًا وقد يكون خالصًا؟ وماذا تعني الذات إن كان وجودها بديهيًّا؟ لقد حاول القدماء إثبات الذات قبل تعريفها، أي الانتقال من حقيقة العالم الحسي إلى حقيقة الوعي. وتعني الذات مؤقتًا الحقيقة، الماهية، الجوهر، الوجود المطلق، التعالي. وقد أتت الحاجة لضرورة إثبات الذات أوَّلًا قبل تعريفها؛ لأنه لا يمكن تعريف شيء لم يثبت بعد. لذلك كان السؤال: هل ينتقل الإنسان انتقالًا طبيعيًّا من نظرية الوجود إلى الذات؟ وماذا لو بقي على مستوى العالم الطبيعي دون الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك؟ ولكن العالم الطبيعي وضع الإنسان كأحد أبعاد الطبيعة، وبالتالي وضع الإنسان الطبيعي افتراض الذات أو التعالي. لذلك تنتهي نظرية الوجود عند القدماء لتفسح المجال لدليل القِدَم والحدوث أو لدليل الجوهر الفرد أو لدليل الممكن والواجب لإثبات الذات أو «الصانع»، أي بداية استخدام الأمور الاعتبارية في «ميتافيزيقا الوجود» لإثبات أمور وجودية في «أنطولوجيا الوجود»، وبذلك يتم الانتقال من عالم الأذهان إلى عالم الأعيان.

ولكن يبدأ القدماء، وهم بصدد إثبات الذات بمسلَّمة وهي التوحيد بين الذات والصانع، ويشيرون إلى أن البراهين على إثبات الذات هي براهين على إثبات الصانع، مع أن الصانع أحد الصفات أو الأسماء وليس من أوصاف الذات. لم يبدأ القدماء إذن ببداية مطلقة يتسلسلون منها على نحو بديهي أولاني مما يدل على أن العلم لم يصل إلى درجة قصوى من العقلانية والتجريد، وأن الفكر الديني أتى ليزحزح الفكر العقلاني عن مكانه ويُبطل عليه دوره، وذلك بإدخال إحدى العقائد قبل أن تتأصل؛ وهي عقيدة أن العالم مصنوع، صنعه صانع، وهي عقيدة «الخلق». وإذا كان لفظ الذات قد بلغ درجة قصوى من العقلانية، وبالتالي أصبح معبِّرًا عن التنزيه، فإن لفظ الصانع لم يبلغها فوقع في التشبيه على عكس اللفظ الأوَّل، فماذا يعني الصانع؟ هل هو الخالق؟ وماذا يعني الخالق؟ وهل لفظ الصانع أكثر تجريدًا من لفظ الخالق؟ وهل انتهت نظرية الوجود إلى إثبات ضرورة الخلق أم أن العالم كان مكتفيًا بذاته عن طريق القسمة وأن المفارقات لم يكن من وظيفتها الخلق بل كانت مؤشرًا إلى وجود الوعي الخالص؟ صحيح أن كلا اللفظين الصانع والخالق موجودان في الوحي وكلاهما أسماء «الله». إن لفظ الصانع يشير إلى حقيقة تالية وليس إلى حقيقة أولى؛ إذ إنه يتم إثبات الذات أوَّلًا، ثم صفة الصانع ثانيًا. وقد يكون لفظ الصانع افتراضًا مسبقًا أتى من الوحي مباشرةً وليس من العقل الذي لم يصل حتى الآن إلا إلى إثبات العالم.٥
وتتعدد براهين إثبات الذات بالنسبة إلى تعدد العلوم وتطور مراحلها. فمثلًا في المراحل الأولى كانت البراهين غير متميزة وغير منظرة، بل كانت تعتمد على الآيات القرآنية، مثل: أَفِي اللهِ شَكٌّ … أو وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ …، وهي أدلة فطرية توحي بدلالة الصنع على الصانع وتعتمد على أوائل المعقول وبداهات الحس وشهادات الوجدان اعتمادًا على نظرية العلم الأولى؛ لذلك لم يرد التكليف بمعرفة الصانع لأنها معرفة فطرية، بل إن صفاته أيضًا يمكن معرفتها بالفطرة.٦ كانت مقدمات الأدلة أيضًا آيات قرآنية، مثل: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ …، قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ …، أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ …. وعلى هذا النحو لم يكن هناك فرق بين موقف الأشاعرة وموقف الصوفية. لم تفترق إذن الأدلة، دليلا الحدوث والإمكان عن العواطف الصوفية عندما يتحد التحليل العقلي القائم على القسمة مع المواجيد الصوفية.
بعد ذلك خرج دليل الحدوث لإثبات الصانع من نظرية الوجود، بل ويبدو أحيانًا وكأنه بديل عنها.٧ وارتبط، خاصةً لإثبات مقدمته الأولى «العالم حادث»، بمبحث الجوهر والأعراض في نظرية الوجود ارتباطًا وثيقًا، حتى إنه ليصعب التفرقة بين المادة الواحدة في موضوعين مستقلين، وحتى انتشرت الطبيعيات في كلا الموضوعين. فالطبيعيات ما هي إلا حديث في دقيق مسائل التوحيد لإثبات فروع الأصول التي يقوم التوحيد عليها. بل إن كل مسائل الطبيعيات لم تكن إلا مقدمة للإلهيات أو أنها إلهيات مقلوبة على الطبيعة كما هو الحال أيضًا في الطبيعيات عند الحكماء. وأن كل نظريات المتكلمين في المجاورة والملامسة والاعتماد والتأليف والاجتماع والافتراق إنما أتت من خلال دليل الحدوث وإثبات حدوث الأعراض كمقدمة لإثبات حدوث العالم. ويصل أحيانًا إلى درجة أنه يصعب التفرقة بين دليل الحدوث وبين إثبات الذات، الموضوع الأوَّل في الإلهيات. بل إنه يصعب التفرقة فيه بين أوصاف الذات وبين الطبيعيات؛ لأنها كلها تشير إلى الخصائص الطبيعية، مثل الحدوث والفناء والجهة والمكان والزمان والحد … إلخ.٨
وبعد ذلك حدث تمايز بين المتقدمين والمتأخرين، سواء في براهين المتكلمين أو في براهين الحكماء، إن لم يكن على مستوى المضمون فعلى الأقل على مستوى اللفظ. ففي حقيقة الأمر هي براهين واحدة لها بناء عقلي واحد، تقوم على نفس التصور للعالم وعلى نفس الموقف منه، وتؤدي إلى نفس النتائج. إنما الخلاف في الألفاظ التي تشير إلى درجة التجريد. فالحدوث هو الإمكان، ولكن اللفظ الأوَّل أقرب إلى الطبيعة في حين أن الثاني أقرب إلى ما بعد الطبيعة. والمحدث هو الواجب، ولكن اللفظ الأوَّل أيضًا أقرب إلى الطبيعة، والثاني أقرب إلى ما بعد الطبيعة، استعمل المتقدمون ألفاظ الطبيعة وكانوا قريبي العهد من مبحث الجوهر والأعراض، في حين استعمل المتأخرون ألفاظ ما بعد الطبيعة. فالانتقال من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية هو انتقال من الطبيعة إلى ما بعد الطبيعة، من الحس إلى العقل، ومن التشبيه إلى التنزيه، من مرحلة أقل تجريدًا إلى مرحلة أعلى تجريدًا. وقد حدث ذلك بعد سيادة علوم الحكمة على علوم الكلام بعد القرن الخامس عندما بدأ الكلام يحدد نفسه بالنسبة لهذا الخطر الداخلي الجديد وعلى رأسه قِدَم العالم، فتحول دليل الحدوث القائم على الجوهر والأعراض إلى تفنيد شُبَه قِدَم العالم. فلما مثلت علوم الحكمة خطرًا على علوم التوحيد، بدأ الكلام في رفض نظرية قِدَم العالم وما يتبعها من نظريات الفيض والصدور والعقول العشرة … إلخ،٩ وكأن الهجوم على علوم الحكمة في القرن الخامس لم يفعل أكثر من أنها غيَّرت وجهتها وتحولت من علوم مستقلة إلى علوم دخيلة على العلوم الأخرى وفي مقدمتها علم التوحيد، أساس العلوم كلها. وقد استغرق دليل الحدوث معظم اهتمامات القدماء باعتباره أول الأدلة. وما يُقال بعد ذلك من دليلي الجوهر الفرد أو دليل الإمكان إنما يتم على نفس المنوال، فالبناء واحد وإن اختلفت الألفاظ ودرجة التجريد.١٠

(٢) دليل الحدوث

تبدأ الإلهيات عند القدماء بدليل الحدوث وإثبات العلم بالصانع، مما يدل على أن دليل الحدوث كله الذي نشأ على مبحث الجواهر والأعراض في مبحث عوارض الأجسام ما هو إلا مقدمة للإلهيات دون أن ينفصل عنها، ونقطة انتقال من العالم إلى ما وراء العالم، من الطبيعة إلى ما بعد الطبيعة.١١ فالحديث عن الجواهر مقدمة للحديث عن الأعراض، والحديث عن الأعراض مقدمة لدليل الحدوث. وقد تأتي مقدمات عقلية لإثبات الحدوث دون الاكتفاء بالحس والمشاهدة للتغير، حركةً وسكونًا.١٢ فماذا يعني الحادث؟ وما هو الحادث؟
يعني الحادث «الذي كان بعد أن لم يكن»، أي إنه وجود في الزمان وحركة من الماضي إلى الحاضر، وهو موجود من عدم وكأن الوجود قائم على عدم ومنبثق منه وصادر عنه. ولما كان العدم عند معظم الإسلاميين «نفي محض غير مستمر على صفة من صفات الإثبات، فلا يتحقق ترتيب شيء عليه»، فكيف يمكن إقامة الحدوث عليه، ثم إقامة دليل على وجود الذات ابتداءً من الحدوث؟١٣ ثم إن هذا التعريف يعتمد على مسلمة مطلوب إثباتها، وهي نظرية الخلق من عدم، فتعريف الحادث بأنه «ما كان معدومًا ثم صار موجودًا» ينبني على هذه النظرية في مقابل تحول الكائنات. والحادث قد يكون تحولًا وتغيرًا في الكون وليس بالضرورة خلقًا من عدم.١٤ وقد يعني الحادث «الوجود الذي له أول»، وهو تعريف متناقض، فإن أول الحادث هو نفسه ويستحيل أن يكون الشيء أول نفسه، وإن كان له حادث هو غيره لزم التسلسل إلى ما لا نهاية.١٥ وقد يكون الحادث هو «المتأخر بوجوده عن الأزلي»، وهو خلط بين التقدم بالزمان والتقدم بالمرتبة على ما هو معرف من تمييز بينهما في موضوع النسبة في مبحث الأعراض في نظرية الوجود.١٦ وقد يكون من معاني الحادث المنفتح وجوده، وهي صورة تشبيهية، فالوجود ليس منفتحًا أو منغلقًا إلا كصورة شعرية. الانفتاح والانغلاق إمَّا مفاهيم طبيعية حركية أو هندسية، وإمَّا صور فنية تعبر عن أحوال شعورية. فالوجود المنفتح هو القابل للحركة والسكون وسائر الأعراض، وهذا دليل على أن مفاهيم العلم مفاهيم إنسانية خالصة.١٧ وقد يكون الحادث هو الشيء، و«الله» مشيئ الأشياء، وفي نفس الوقت لا يتصف بكونه شيئًا.١٨ وهو تعريف متناقض، يقوم بخطوة إلى الأمام في إثبات الشيء كما يفعل الفكر الطبيعي، ثم بخطوة إلى الخلف في جعله تابعًا لشيء آخر كما يفعل الفكر الديني. وقد يكون الحادث عين وجود الحادث أو وصفًا زائدًا عليه. فإن عين وجوده هو تحصيل حاصل. وإن كان وصفًا زائدًا عليه فهو أنه وجود بعد عدم، وهو ما يرجع إلى المعنى الأوَّل.١٩ هذه التعريفات كلها إذن قاصرة على أن تعرف الحادث أو أن تصوغ له معنى. وهذا يدل على أن الحادث نفسه مفهوم ديني صرف يتضمن حكمًا مسبقًا يدين الشيء لصالح القديم، فهو مفهوم نسبة أو إضافة، لا يعقل معناه إلا بالنسبة للقديم، له معنى متضايف، ولا يفهم إلا بالاقتران. ولما كان الشيء المقرون به هو المطلوب إثباته استحال التعريف وعقل المعنى.
وقد يأخذ الدليل شكلًا خطابيًّا إنشائيًّا مكتفيًا بالاعتماد على الحس والمشاهدة دون صياغة التجربة الحسية في مقدمات عقلية وقياسات منطقية واستدلالات صورية كما سيحدث في علم الكلام المتأخر فيما بعد. والحقيقة أن هذه التجربة الحسية ليست بريئة تمامًا عن كل إيمان مسبق، بل هي مرتبطة بإيمان ديني قوي يجعل التناهي والحصر والعد والإحصاء والزيادة والنقصان مقدمات خطابية سريعة لإثبات واجب الوجود. لا تقوم إذن كل صياغات دليل الحدوث على مقدمات عقلية من أجل الوصول إلى نتائج منطقية، بل يكون بعضها مجرد عبارات إنشائية تعبر عن عواطف التعظيم والإجلال وعلى مقولات بدائية يقوم معظمها على التشخيص الساذج. ولا ترمي هذه الصياغات إلى إثبات الذات المشخصة، بل إلى إثبات صفاتها من علم وقدرة وخلق وتنزيه، وكأن إثبات الصفات يسبق إثبات الذات، وكأن الأعراض توجد بلا جوهر، وكأن العربة تسبق الحصان!٢٠ فإذا ما فرض العقل نفسه على هذه التجربة الحسية في ظاهرها الإيمانية في باطنها تخرج مقدمات أقرب إلى الأحكام الحسية على العالم، ثم احتمالات تعكس الإيمان المسبق بإحداها على أنه الصحيح والأخرى باطلة في عبارات تستعمل مفاهيم الجمال والقبح كوسط بين مفاهيم الإيمان وتصورات العقل. فإذا ما عجز العقل عن الصياغة والإحكام المنطقي تأتي الأدلة النقلية للمساندة والعون. ومع ذلك تكشف هذه المحاولات الأولى عن بزوغ العقل من خلال الإيمان وعن تجاوز المشاهدة الحسية والتجربة المباشرة إلى التحليل العقلي الصرف،٢١ وهذا ما سيسمح بعد ذلك بإحكام المقدمات وتنظير القياس وترتيب النتائج، فتكتمل صياغات منطقية صرفة لدليل الحدوث.
وقد يأخذ الدليل شكلًا إراديًّا قبل أن يتحول إلى دليل محكم، أي إنه يتحول من الإنشاء إلى الإرادة الإنسانية، وهذا يدل على أن الحدوث إمَّا موقف وجداني من الأشياء أو موقف إنساني من الوجود. فالحدوث هنا مقولة للإرادة وليس للأشياء، ويستوي في ذلك بعض الأشاعرة وجمهور المعتزلة. يرتبط دليل الحدوث إذن عند بعض الأشاعرة بالإرادة الإنسانية. وهنا تتأكد الحرية الإنسانية من أجل سلبها من جديد بدعوى الحدوث ونسبتها إلى المحدث، وبالتالي تكون الحرية صفة «لله» وليس للإنسان،٢٢ وتكون أفعال «الله» دليلًا على وجوده، كما كان حدوث الأشياء دليلًا على وجوده، فالأفعال جزء من عالم الأشياء.٢٣ ويأخذ دليل الحدوث عند المعتزلة صيغة عقلية إرادية، ويصبح عند الجمهور أكثر قبولًا وأكثر إنسانيةً مما هو الحال عند الأشاعرة. «فالله» لا يُعرَف ضرورة كما هو الحال عند الطبائعيين، ولكن يُعرَف استدلالًا كما هو الحال عند الأشاعرة. كل ذات لا تُعرَف ضرورة فالطريق إليها إمَّا عن طريق حكم صدر عنها أو عن طريق فعل وقع منها، وبالتالي ليس الطريق هي الأجسام والجواهر الطبيعية بل طريق العقل والإرادة الإنسانية. ولما كانت الأحكام إنما تصدر عن علل، و«الله» ليس بعلة لأن العلة تنفك عن المعلول، وذلك يوجب علة ثانية وثالثة، وينتهي الأمر إلى تعدد العلل وحدوثها، وهذا ما يأتي في وحدانية «الله» وقدمه أو إلى أن يكون «الله» عرضًا من الأعراض. و«الله» ليس كذلك. يكون الطريق إذن فعلًا منه. والأفعال نوعان: نوع يدخل تحت مقدورنا، ونوع لا يدخل تحت مقدورنا. الأوَّل لا يمكن الاستدلال بها على «الله» لأننا أصحابها، والثاني يمكن الاستدلال بها على «الله» كفاعل لها، وذلك مثل ما يقع مِنَّا من أفعال القلوب وأفعال الجروح التي لا تدخل تحت سيطرة الإرادة، الأفعال العكسية. بل ويمكن أيضًا الاستدلال بما يدخل في مقدورنا على «الله» مثل العقل لأنه من جنس «الله». والاعتقادات لأنها قد تكون من فعلنا ومن فعل غيرنا، واحتمال أن تكون من فعلنا أقل لأنها أفعال الشعور التي لا نستطيع منها شيئًا، فهي مرتبطة بالإرادة والكراهة والدوافع والدواعي. الاستدلال هنا مرتبط بالأفعال التي تكشف عن قدرة الإنسان وحرية الأفعال في دليل الحدوث حيث تصبح صلة الذات بالطبيعة صلة أثر وإيجاد لا صلة وجوب ووجود. والحقيقة أن الجواهر سواء كانت من أفعال القلوب تقع مِنَّا وكذلك باقي الأفعال مثل: الألوان والطعوم والروائح والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والحياة والقدرة والشهوة والنفرة والفناء، فكلها مرتبطة بحواس الإنسان، والفناء أيضًا لأنه تجربة العجز والشيخوخة والموت.٢٤ ومع ذلك يظل الدليل قائمًا في إطار دليل الحدوث التقليدي، ولكنه يقوم على بناء إنساني وليس على بناء طبيعي مما يكشف عن ارتباط الدليل بالإنسان وأن إثبات وجود «الله» إنما يتم عن طريق تحليل الوجود الإنساني من خلال الأفعال الإنسانية، القدرة أو العجز، ولما كان الإنسان صاحب أفعاله في حال القدرة، فإن الله لا يثبت إلا في حالة العجز، ويكون تعبيرًا عن الضعف الإنساني.
ثم ينتقل الدليل بعد ذلك من الأفعال إلى الأجسام، ومن الإرادة إلى الطبيعة لما كانت الأفعال أيضًا أجسامًا وأعراضًا، وهنا يتحول دليل الحدوث من الإنسان إلى الطبيعة ومن الأفعال الإرادية إلى الأجسام الطبيعية. وبدل أن يكون مجرد دليل عام من الأفعال إلى «الله» تتفصل خطواته في ثلاث:
  • (١)

    إثبات الأعراض، وهي على ضربين: مدرك وغير مدرك. والمدركة سبعة: الألوان، والطعوم، والروائح، والحرارة، والبرودة، والآلام، والأصوات. ويثبت كل منها على التفصيل، وهي ليست نفس المحل على ما يقول نفاة الأعراض، ولكنها مخالفة لها، فالأجسام متماثلة والاختلاف في الأعراض.

  • (٢)

    حدوث الأعراض، إذ يجوز عليها العدم والبطلان بعكس القديم.

  • (٣)

    احتياجها إلى محدث وفاعل مخالف لنا وهو «الله»، وذلك قياسًا للغالب على الشاهد.

ولما كان الاستدلال بالأجسام أولى لأنها معلومة باضطرار وليست باستدلال كما هو الحال في الأعراض، فإن العلم بكمال التوحيد يحصل بحدوث الأجسام. ولما كان الاستدلال بالأجسام يتضمن بالضرورة إثبات الأعراض وحدوثها، ظهرت ثلاث طرق للاستدلال بها على حدوث الأجسام، هي:
  • (١)

    الاستدلال بالأعراض على «الله» ومعرفته وتوحيده وعدله بعد معرفة صحة السمع ثم الاستدلال بالسمع على حدوث الأجسام. فهو دليل مركب بين السمع والعقل.

  • (٢)

    الاستدلال بالأعراض ومعرفة قِدَمه ثم نفي القِدَم عن الأجسام منعًا للمشاركة، مما يدل على أن المفاهيم المستعملة مفاهيم مشتركة بين الإنسان و«الله»، وأنها في أحدهما حقيقة وفي الآخر مجاز.

  • (٣)
    الدلالة المعتمدة، وهي صيغة الدليل التقليدية، وهي أن الأجسام لم تنفك عن الحوادث، وما لم يخل عن الحوادث فهو محدث.٢٥ وهي مبنية على أربع دعاوى:
    • (أ)

      أن في الأجسام معاني هي: الاجتماع، والافتراق، والحركة، والسكون، ووصفها بأنها معانٍ يجعلها أقرب إلى الفلسفة منها إلى الطبيعة. ويمكن الاعتراض عليها بسؤال: ولماذا لا يكون الجسم مجتمعًا لذاته أو لوجوده أو لحدوثه طبقًا لقانون؟

    • (ب)

      أن هذه المعاني محدثة، ويعترض أصحاب الكمون والظهور الذين ذهبوا إلى قِدَم الاجتماع والافتراق، فإذا كمن الاجتماع ظهر الافتراق، وإذا كمن الافتراق ظهر الاجتماع.

    • (جـ)

      أن الجسم لم ينفك عنها ولم يتقدمها، ويعترض أصحاب الهيولى الذين ذهبوا إلى أن الأعيان قديمة والتراكيب محدثة.

    • (د)
      أنها إذا لم ينفك عنها ولم يتقدمها وجب حدوثه مثلها، ويعترض جماعة عن طريق إثبات حوادث لا أول لها.٢٦

ويكشف الدليل بهذه الصورة وما يعتمد في كل مقدمة من مقدمات على تنازع الفكر الإنساني والفكر الطبيعي، وعلى تقدم الفكر الطبيعي على الفكر الإنساني حتى يصل إلى الأشاعرة ويصبح طبيعيًّا خالصًا. وبالرغم من الاعتراضات عليه من أصحاب الفكر الطبيعي الخالص يظل الدليل بصرف النظر عما تبقى فيه من طابع إنساني عقلاني أقرب إلى دليل الأشاعرة من موقف الطبائعيين والحكماء.

ثم انتقل الدليل إلى الأشاعرة. وتفصلت مقدماته وتشعبت. يأتي البعض منها من شهادة الحس، والبعض الآخر من مسلمات دينية، نقلية أو عقلية، ومجموعة ثالثة مجرد تحصيل حاصل، ورابعة تعبر عن نظرة تدميرية للعالم، وخامسة لإثبات عجز الذات.٢٧
ومما لا شك فيه أن هذا الدليل، دليل الحدوث، له بعض المميزات منها:
  • (١)
    أنه دليل تجريبي يقوم على الحس والمشاهدة على الأقل في بعض مقدماته، وليس دليلًا عقليًّا صوريًّا خالصًا يمكن معارضته بدليل عقلي آخر طبقًا لقواعد الجدل. وهي مشاهدة يتفق عليها الجميع. وقد كانت شهادة الحس إحدى وسائل المعرفة في نظرية العلم. فهو دليل يبدأ بالواقع الحسي المشاهد، وينتقل من الواقع إلى الفكر، دليل استقرائي تجريبي أو دليل بعدي، في حين أن الأدلة المعروفة والذائعة لإثبات وجود «الله» هي أدلة استنباطية تعتمد على صورية العقل ونظرية الاتساق. يبدأ هذا الدليل من العالم ويتفق مع بناء العالم، والانتقال من مبحث الجوهر والأعراض إلى إثبات الصانع.٢٨
  • (٢)
    أنه دليل قرآني، موجود في الوحي، استعمله الخليل في الاستدلال على وجود «الله»، وليس فيه أثر خارجي من حضارات مجاورة يونانية أو غيرها بالرغم مما قد يوحي به لفظا الحدوث والقِدَم. بل إن لفظ العرض والقديم ألفاظ قرآنية أصلية، والاستدلال على حدوث الأعراض وإثبات التغير والتحول والتطور مستعمل في الوحي في وصف تحول النطفة إلى علقة ثم إلى مضغة إلى آخر ما هو معروف من تصوير للجنين في رحم الأم في أطواره البيولوجية المختلفة.٢٩
  • (٣)

    أنه يطابق شهادة الوجدان، والانتقال من الشيء إلى غيره، ومن الحسي إلى العقلي، ومن الجزئي إلى الكلي، ومن الفردي إلى الشمل، ومن الخاص إلى العام. كما أنه يتفق مع بداهة البسطاء، والموقف الطبيعي للعامة بالذهاب من اللفظ إلى المعنى، ومن الشيء إلى الدلالة.

  • (٤)
    أنه قد يؤدي إلى البحث عن الأصل والنشأة والتكوين من أجل فهم الشيء عند العلماء. فالشيء أصل وتكوين، والبحث عن هذا الأصل في العلل البعيدة، وتكوين رؤية ميتافيزيقية بعيدة، ومنظور فلسفي شامل، كما يؤدي أيضًا إلى البحث عن الغاية والقصد، والنظر إلى العلة الأولى من الأمام، فتثبت القصدية والغائية وتنتفي العشوائية والمصادفة.٣٠
  • (٥)
    قد يؤدي حدوث العالم بعد الوعي به إلى الإحساس أيضًا بإمكانية تغيير هذا العالم، وبأن كل شيء فيه يخضع لإرادة الإنسان وطيع لحريته، وبالتالي يكون حدوث العالم دعوة إلى التغيير وممارسة الإرادة الحرة حتى يتم تشكيل الواقع من جديد طبقًا لمثل الإنسان ولمشروعه الجماعي القومي، وهو النظام المثالي للعالم الذي يستنبطه منه الوحي. ففناء العالم يعني بقاء الإنسان فيه، وليس عزلته عنه أو تركه له أو نبذه إياه أو إسقاطه من الحساب ووضعه في السلب المطلق، ودفعه إلى العدم باعتباره غير ذي قيمة، لا يستحق أن يكون طرفًا للإنسان، وميدانًا للفعل، ونشاطًا للإرادة، وهذا هو معنى أن «لكل ممكن علة مؤثرة.»٣١ إن حدوث العالم قد يوحي بالنشاط والرغبة في تجاوزه. وقد يحدث هذا بالفعل عند بعض القديسين وحدهم رغبةً في شهادة فردية، وبطولة استثنائية يؤثر عالمًا آخر، خيرًا وأبقى. أمَّا عند عامة الناس فإنه قد يكون إسقاطًا للعالم، وانعزالًا عنه أو زهدًا فيه، وتخليًّا عنه، ونبذًا له.
ومع ذلك فللدليل عيوب كثيرة، منها ما يتعلق بالفكر العلمي، ومنها ما يتعلق بالفكر المنطقي، ومنها ما يتعلق بالفكر الديني، ومنها ما يتعلق بالفكر السياسي والاجتماعي. فمن ناحية الفكر العلمي: إن إثبات حدوث الأعراض أسهل بكثير من إثبات حدوث الجواهر؛ لأن الأعراض تطرأ على الجواهر وتتوالى عليها، فالجوهر هو الثابت والأعراض هي المتغيرة، وبالتالي يصعب تصور الجواهر على أنها حادثة إلا إذا تم التوحيد بين الجوهر وأعراضه مما ينفي وجود الجوهر. كما أن موضوعات الحركة والسكون وباقي الأعراض مواضيع للعلم الخالص مثل الديناميكا وليست مجالًا للتأمل الفلسفي الخالص كدليل على أن الأعراض حوادث. والتغير، كونًا وفسادًا، موضوع لعلم الحياة وليس وسيلة لإثبات فلسفي لوجود لا يتغير ولا يتطور.٣٢
وقد بزغ الفكر العلمي من ثنايا الفكر الديني في دليل الحدوث، وذلك بإثبات استحالة حدوث الأعراض إذا كانت في حالة كمون وليست في حالة ظهور، وكذلك إمكان تعري الجواهر عن الأعراض واستحالة انتقالها إذا كانت في حالة كمون. ولماذا يستحيل اجتماع الضدين في مكان واحد؟ وعلى هذا النحو تكون مقدمة «كل جسم لا يخلو من الحوادث فهو حادث» غير واضحة بذاتها؛ لأنه يمكن أن يكون الجوهر قديمًا والأعراض حادثة، والجسم قديم وصفاته حادثة عن طريق الانبثاق والطفرة بعد الكمون. العالم قديم وصفاته حادثة افتراض ليس مستبعدًا، إذ تكشف الجواهر عن تجدد مستمر للأعراض. ولا يعني الظهور أو الكمون الانتقالي وبالتالي الحدوث، بل يعني الوجود الخصب. وكذلك تكون مقدمة «الجواهر لا تنفك عن الأعراض» غير مستبعدة، لأن الأعراض قد تكون في حالة ظهور أو في حالة كمون. فإذا كانت في حالة كمون فإن المقدمة لا تكون صادقة. أمَّا قضية «ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث» فهي مترتبة على القضية السابقة، وبالتالي قد يكون ما لا يخلو من الحوادث قديمًا نظرًا لإمكانية قِدَم الجوهر وحدوث الأعراض، وهو موقف الحكماء.٣٣ والعجيب رفض الأشاعرة للكمون مع أنه أقرب إلى تصور العلم لظواهر الطبيعة وتجددها.٣٤ ولماذا يبطل الظهور والكمون لإثبات وجود الله؟ الظهور والكمون ظاهرتان طبيعيتان ظن المتكلم الأشعري أن في إثباتها إثبات لفعل الطبيعة من ذاتها، وأن في ذلك مناقضة للحدوث وكأن لا شيء يظهر أو يكمن بعيدًا عن «الله» الذي خلق كل شيء.

إن تحليل الطبيعة بحيث تؤدي إلى الحدوث واستبعاد كل ما سواه هو في حقيقة الأمر فكر الانتقال يغير علمي موجه بأحكام مسبقة وخاضع للأهواء والانفعالات والعواطف الدينية، وقد سبب هذا عن حق رد فعل الدهريين والطبائعيين دفاعًا عن الفكر العلمي. فموقف الدهرية أقرب إلى الموقف العلمي الذي يجمع بين القِدَم والحدوث، قِدَم الجواهر وحدوث الأعراض، واكتشاف قوانين الحركة، وتفسيرها بالعلل القريبة الداخلة في الموضوع وليس بالعلل البعيدة الخارجة عنه. الجواهر قديمة، والحوادث لا نهاية لها. قد تكون الجواهر عرية عن الأعراض ثم حدثت الأعراض فيها عن طريق الظهور والكمون، يظهر بعضها عند كمون ضدها في محله. ويتفق الطبائعيون مع الدهرية، ولكنهم يجمعون بين قول الحكماء وقول المتكلمين من أن «الله» خلق الأجسام ثم خلقت الأجسام الأعراض من تلقاء نفسها.

كما يبرز الصراع بين الفكر العلمي والفكر الديني في مفهوم العلِّية. فاعتبار أن المحدث الموجب لكل حادث لا بد أن يكون خارجًا على الحادث تصور يجعل القوة المؤثرة أو العلة خارج العالم ويترك العالم بلا علة داخلة فيه. فينتهي الأمر إلى صورية العلة وبقائها، ومادية المعلول وفنائه. مفهوم العلية مفهوم طبيعية، ولكنه يُستخدَم في هذا الدليل استخدامًا ميتافيزيقيًّا. أن يكون لكل حادث سبب، هذا فكر طبيعي علمي لظاهرة علمية محددة، ولا يمكن الانتقال منها إلى العالم ككل. فالعالم ليس ظاهرة علمية، بل مفهوم ميتافيزيقي أو تجربة إنسانية لا يمكن أن تطبق عليها مفهوم العلية إلا إذا كان بمعنى السبب Grund المتيافيزيقي، وهو الوجود ذاته وليس خارجًا عنه.٣٥ لا يفرق الدليل إذن بين العلة والسبب، العلة سبب طبيعي، والسبب علة ميتافيزيقية، العلة للأثر، والسبب للوجود. إن علاقة الحركة بالمحرك والمعلول بالعلة على هذا النحو المشخص الطولي الذي لا بد من الوصول فيه إلى علة أولى مشخصة ليست علاقة علمية بل علاقة دينية إيمانية تقوم على التشخيص، فليس لكل حركة محرك، وليس لكل علة معلول. هناك حركة ذاتية، وتغير ذاتي، وفعل ذاتي. وهناك دوران أبدي بين العلة والمعلول على شكل دائري، كل معلول علة، وكل علة معلول، دون الوصول إلى علة أولى ليست معلولة لعلة أخرى، دون الوصول إلى «بيضة» أولى أو «فرخة» أولى. لماذا لا تكون الموجودات فاعلة لنفسها؟ لماذا يحدث كل فعل بفاعل خارجي، وكأن العالم لا فعل له بما في ذلك الإنسان، لا فعل له، ولا خير منه، ولا قوة له؟
وبعض مقدمات الدليل لم تصل إلى صياغة منطقية محكمة، ولا تتجاوز كونها تحصيل حاصل. فاستحالة عدم القِدَم تحصيل حاصل لأنه قلب لجواز عدم الحادث، ونتيجة طبيعية للقِدَم، فالقِدَم والبقاء طرفان لشيء واحد، ما لا أول له ولا نهاية له، ويستحيل وجود أحدهما دون الآخر. ولماذا إثبات استحالة عدم القديم، فالقديم لا يعدم، وإثبات استحالة العدم متضمن في إثبات القديم. هذا بالإضافة إلى أن استحالة العدم يأتي لصفة الوجوب وإثبات استحالة القديم يأتي باستحالة الحدوث وليس باستحالة العدم.٣٦ كما لا يمكن إثبات حدوث الجواهر بحدوث العالم، فالحدوث هو المطلوب إثباته في كلتا الحالتين. الجواهر هي العالم، والعالم هو الجواهر. كما لا يمكن إثبات الحادث بالممكن أو الممكن بالحادث، فهما مفهوم واحد مرة بلغة الطبيعة ومرة بلغة الميتافيزيقا، مرة عند المتقدمين وأخرى عند المتأخرين. وكذلك مقدمة «ما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث» تحصيل حاصل، فكأن الإنسان يقول: ما لا ينفك عن الماء فهو ماء، أو ما يتصل بالهواء فهو هواء. بالإضافة إلى أنها لا تصدق على كل الموضوعات. فما لا ينفك عن الماء قد يكون حيوانًا مثل السمك، وما لا ينفك عن الحوادث قد يكون قديمًا مثل الجواهر. ولماذا يحتاج علم التوحيد إلى إثبات الأعراض والأكوان (الجواهر)؟ فالأعراض مرئية، أمَّا الأكوان فهي مجرد وجود الأجسام، وهي أيضًا مرئية مع الأعراض.
ويظهر الفكر الديني صراحةً في مفاهيم التناهي والحدوث، وفي سؤال النشأة، بل وفي التقابل بين الجوهر والعرض، والقِدَم والحدوث، واللاتناهي والتناهي، وفي القفزة التي ينتقل بها المتكلم من عالم الأذهان إلى عالم الأعيان، ومن الأمور الاعتبارية إلى الحقائق الوجودية، ومن العلم «بالله» بالذهن إلى وجوده بالفعل. فلولا إدانة العالم بالحدوث والتناهي بناءً على افتراض ديني مسبق بأن «الله» لا متناهٍ وقديم لما أمكن صياغة مقدمة مثل استحالة حوادث لا أول لها، وتصبح ممكنة بقِدَم الجواهر. حدوث العالم ذاته بالتجرد التام عن الافتراض الديني المسبق في حاجة إلى إثبات. إلا أن إثباته يأتي من عاطفة دينية وموقف إيماني صرف لا يقوم على شهادة حس أو حكم عقل أو بداهة وجدان طبيعي لم يضعفه بعد الإيمان الديني. ولماذا يكون المتناهي في المقدار دليلًا على الحدوث؟٣٧ في حقيقة الأمر هذا فكر ديني مقلوب؛ لأن «الله» هو اللامتناهي القديم، فكان العالم هو المتناهي المحدث. قد يكون التناهي دليلًا على العظمة، الإنسان المتناهي، العمر المتناهي، اللذة المتناهية، الحب المتناهي، الألم المتناهي، الغياب المتناهي، بل وحتى الجبل المتناهي، والطعام المتناهي … إلخ. قد لا يفيد التغير والفناء أي حدوث، بل يشير إلى بناء الطبيعة. التغير جوهر الطبيعة، وبين التغير والحدوث فَرق كبير. التغير يحدث في الطبيعة ومن الطبيعة، ولا يدل على شيء آخر غير التغير والتطور والارتقاء، ولا يشير إلى أي ذات مشخصة تحدث هذا التغير كما هو الحال في صور التفكير العلمي البدائي الذي يفسر الظواهر بقوى وملكات غيبية قادرة على إحداث هذه الظواهر. فالمطر يحدث بالقوة الممطرة، والحرارة بالقوة المحرة، والبرودة بالقوة المبردة … إلخ.٣٨ ولماذا افتراض التركيب والقسمة في كل شيء كأحد مظاهر التناهي أو الحدوث؟ الأجسام قد تكون بسيطة لا تركيب فيها. الإنسان بسيط، ولو كان مركَّبًا لما كان إنسانًا، والشيء بسيط، ولو كان مركَّبًا لما كان شيئًا.٣٩ والزمان الطبيعي موضوع لدراسة علم الطبيعة دون افتراض وجود لا زماني وراء الزمان. وينتهي الدليل بالتصور الشائع وهو أن العالم مخلوق، أحدثه «إله» قديم، خالق، وهو التصور الذي يعبر عن أثر التأليه في إدراك الطبيعة، وعن اعتبار الثابت والدائم والخالد والباقي الأصل والأساس خارج الطبيعة. ويكون السؤال: لماذا الانتقال من الحدوث إلى أن المحدثات لها أول؟ إن إثبات ظاهرة وإدراك معناها لا يعني بالضرورة أن هذه الظاهرة لها أول، سواء كان معناها أم غيره. صحيح أن المعنى مستقل عن الظاهرة، ويتحكم في بنائها ووجودها وتطورها، ولكن ذلك لا يعني أنه أول الظاهرة وأصلها ونشأتها، فسؤال الأصل والنشأة قضاء على المعنى المستقل، وتحويل الظاهرة إلى صنعة والمعنى إلى صانع، في حين أن الظاهرة موجودة والمعنى مستقل محمول عليها ونسبته إليها كنسبة الدلالة إلى الدليل. وحتى على فرض تشخيص النشأة لماذا يوصف الصانع بصفات مناقضة للعالم المصنوع؟ إذا كان المصنوع حادثًا يكون الصانع قديمًا؟ إن الصانع من جنس المصنوع أقرب، فالفنان حادث كما أن فنه حادث لأنه أيضًا يتشكل.
والأقرب إلى العقل وشهادة الحس ومضمون التجربة البشرية اتفاق الصانع والمصنوع في الصفات أكثر من اختلافهما، باستثناء الفكر أو الوعي أو الشعور. فالصانع واعٍ بفنه وعالم به وقادر عليه، في حين أن المصنوع طبع متشكل يخضع لعمل الفنان. وما الذي يمنع من وجود حوادث لا أول لها؟ لماذا يستحيل وجود حوادث لا أول لها؟ يمنع من ذلك فقط بناء العقلية المتدينة التي تظن أن الحوادث لا بد أن يكون لها أول حتى لا نشارك مع «الله» في صفة الأوَّل؛ لأن «الله» أول الأشياء. يمكن للأشياء أن تتسلسل إلى ما لا نهاية من حيث الأوَّل إن كان ولا بد من التصور الطولي المتراجع. ويمكن أيضًا تسلسل الأشياء تسلسلًا دائريًّا حيث يرجع أول الأشياء إلى آخرها وأن يكون الشيء علةً ومعلولًا في نفس الوقت دون حاجة إلى علة أولى ليست معلولة إلى علة أخرى.٤٠ وحتى على فرض أن العالم حادث بفعل التغير، فلماذا الاستدلال من الحدوث إلى المحدث بهذا المنطق التشخيصي، والانتقال من الظاهرة إلى صانع الظاهرة؟ إن الطبيعة ليست مصنوعة. الطبيعة موجودة، ويتعامل معها الإنسان، باعتبارها موجودة، سابقة عليه، ولاحقة عليه، ولا يلحقها بصانع. الصنع تصور إنساني مشخص، يسقطه المتكلم على الطبيعة فيجعلها مصنوعة، وكأن الطبيعة عالم مصنوع، وكأن المتكلم قد حول جمال الطبيعة إلى جمال الفن، وحول الطبيعة إلى صنعة.٤١ لقد كان المتكلم في حياته الخاصة حِرفيًّا أو تاجرًا وابن سوق، وكان المجتمع كله كذلك، مجتمعًا صناعيًّا تجاريًّا، الأشياء مصنوعة ولها صاحب، ومملوكة ولها مالك.
وما العظمة في إثبات وجود «الله» عن طريق الأعراض والأعراض أقل القسمين قوةً وقدرةً؟ فالأعراض بداية دليل الحدوث، وكل حادث له محدث، فالدليل هنا قائم على القسم الأضعف من الجسم وهو العرض وليس على القسم الأقوى، وهو الجوهر الذي منه يبدأ الدليل الثاني، دليل الجوهر الفرد. وكأننا أقمنا وجود الله على الشق الضعيف من الشيء، فقام البناء كله على ركن مائل هش.٤٢ والتحول من الأعراض إلى الأكوان لإثبات وجود الله ابتداءً من الحدوث استجابةً لهذا الاعتراض، وهو أن الله لا يثبت من القسم الضعيف وهو العرض بل من القسم القوي وهو الجوهر حتى لا يتمخض الأسد فيلد فأرًا. فالأكوان أكثر التصاقًا بالجوهر منه بالأعراض، وتدل على التكوين والصلابة، في حين أن العرض يفيد الزوال والتغير والفناء.٤٣

إن مفهومي الجوهر والعرض في حقيقة الأمر إنما يكشفان عن طبيعة الفكر الديني الذي يقسم العالم إلى قسمين: قسم إيجابي وآخر منفي، قسم بالزائد وآخر بالناقص، وتكون علاقة الطرفين علاقة أولوية وشرف، علة ومعلول، أول وآخر، قِدَم وحدوث. وجوب وإمكان، لا تناهٍ وتناهٍ، إلى آخر هذه الثنائيات المعروفة في الفكر الديني. فاستحالة قيام الأعراض بنفسها لحاجتها إلى الأصل وهو الجوهر والأساس. المفهومان إذن يعبران عن فكر ديني مجرد؛ وذلك لأن العلاقة بين الجوهر والعرض هي علاقة الثابت بالمتحول، الأصل بالفرع، المركز بالدائرة، وهي العلاقة الدينية المشهورة بين «الله» والعالم، إعطاء أولوية لطرف على حساب الطرف الآخر، وليست علاقة التساوي بين الأطراف، وهي أيضًا علاقة من طرف واحد وليست علاقة متبادلة بين طرفين، أو باختصار علاقة الاستقلال والتبعية التي نعاني منها في شتى مظاهر حياتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية حتى أصبحت طابعًا مميزًا لجيلنا وسمة أساسية للعصر. هي قسمة ذهنية في الظاهر، دينية إيمانية في الباطن، من شأنها تثبيت الأساس ثم التفريع عليه. قسمة عقلية في الظاهر، ولكن تفنيها عواطف التأليه فتترك العالم بلا أساس من داخله، وتجعل له أساسًا مستمدًّا من الذات المشخصة التي يعلق عليها كل شيء. كانت هذه القسمة باستمرار من دعامات الفكر المثالي، وهو الفكر الديني في أكثر صوره عقلانية في اعتبار الأصل هي الصورة، والفرع هي المادة أو في تصور العالم على أنه عالمان، أساس ومؤسس عليه، أصل وفرع، وهي القسمة التي تجعل علاقة الأشياء بعضها ببعض على المستوى الاجتماعي والسياسي علاقة تسلط وتبعية، قاهر ومقهور، غالب ومغلوب، غني وفقير، أعلى وأدنى … إلخ. وتفرض هذه القسمة نفسها على كل المستويات، وفي التأليه فتصير الذات والصفات، الذات جوهر والصفات أعراض، وفي الطبيعيات الجوهر شيء والكيفيات أعراض. وكذلك مفهوما القِدَم والحدوث، والوجوب والإمكان … إلخ من مفاهيم الفكر الديني المجرد. وبالتالي تكون مقدمة «الأعراض حادثة» ليست حكمًا طبيعيًّا على الأعراض، بل إلهيات مقلوبة على الطبيعيات، فلأن الله قديم عكسنا الحكم وجعلنا العالم حادثًا.

والحقيقة أن الانتقال من عالم الحدوث والجواهر والأعراض إلى عالم القِدَم والصور قفزة شعورية خالصة تقوم على الانتقال من الضد إلى الضد عن طريق القلب كتعويض نفسي، فلا يستطيع أن يأكل الصغير إلا الكبير، ولا يستطيع أن يهزم الضعيف إلا القوي. فهو تعليل عن طريق الرجوع إلى الأعلى، أي إلى السلطة، في حين أنه يمكن تفسير الأشياء والظواهر بالظواهر على نفس المستوى دون الرجوع إلى السلطة القاهرة التي هي «الله» على مستوى السياسة. والبحث في فعل لا يأتي بالضرورة بالبحث عن الفاعل، فذلك أسلوب بوليسي مباحثي جنائي، ولكن عن طبيعة الفعل، وتكوينه، وأثره. ولماذا تكون العلة الفاعلة لها السبق على العلة المادية أو العلة الصورية أو العلة الغائية؟ من الطبيعي أن لكل فعل فاعل، ولكن الأصعب هو البحث عن بناء الفعل وغايته ومادته، فلا شيء يحدث في الطبيعة عشوائيًّا أو بالمصادفة.٤٤ كما يحتوي الدليل على قفزة شعورية ثانية، وهي الانتهاء من وجود الذات إلى وجود صانع أو خالق. ومِنْ ثَمَّ يكون الدليل في حاجة إلى دليل آخر لإثبات صفة الصنع أو الخلق. فقد يثبت أحد الذات أي الوعي الخالص دون إثبات صفة الصنع.
فتصور الذات منذ البداية في موضوع الذات على أنها صانع هو استباق إلى الموضوع الثاني، وهو الصفات، خاصةً وأن صفة الصنع أو الخلق ستكون أحد الموضوعات في بحث الصفات. فإذا كان كل موضوع لاحق إنما يتراءى في الموضوع السابق، فإن ذلك يدل على النسق المحكم لعلم أصول الدِّين وتنظير العقائد بحيث يؤدي كل منها إلى الآخر ذهابًا أم إيابًا، صعودًا أم نزولًا، تقدُّمًا أم رجوعًا. وعلى فرض إثبات وجود الله يبقى السؤال قائمًا، وهو: كيف يمكن العلم به وهل يمكن العلم به؟ إن الاستدلال بالصنعة على الصانع لا تعني بالضرورة العلم بالصانع، ومِنْ ثَمَّ لزم الحديث بعد ذلك عن الذات والصفات والأفعال كمحاولة لتعريف الصانع وكيفية تصوره.٤٥ ولكن القفزة الشعورية الثالثة هي الأهم، وهي أن دليل الحدوث يثبت أن هناك القديم، ولكن ذلك لا يعني بالضرورة أن القديم موجود؛ لأن تصور الحادث تصور إضافي مثل أبيض لا بد أن يحيل إلى أسود. فالحادث لأنه تصور إضافي لا بد وأن يحيل إلى القديم دون أن يكون القديم موجودًا بالفعل، وكأن هناك دليلًا أنطولوجيًّا مفترضًا مسبقًا يمكن بواسطته الانتقال من عالم الأذهان إلى عالم الأعيان. وكيف لهذا الافتراض أن يوجد و«ميتافيزيقا الوجود» في نظرية الوجود قد انتهت إلى أن الوجود والماهية والعدم والواجب والممكن والمستحيل والقِدَم والحدوث، والوحدة والكثرة، والعلة والمعلول، كلها أمور اعتبارية لا وجود لها إلا في الذهن؟
ولكن أخطر شيء في دليل الحدوث هو تدمير العالم وإثبات عجز الإنسان مما يسمح لكل نظم القهر والتسلط بأن تقوم بدور «الله» الماسك بالعالم والحافظ له. فلماذا تكون «الأعراض حادثة»؟ إن الحدوث إسقاط من عواطف التأليه على الطبيعة، فينشأ من هذا الإسقاط تقليل لها في الشرف والقيمة في مقابل إثبات الأكثر قيمةً وشرفًا. ليس الحدوث تصورًا للأشياء، بل هو نتيجة عكسية لعواطف التأليه، وأزمة نفسية بالنسبة لقضايا التغير الاجتماعي، ويأس من تغيير العالم بالفعل. الحدوث اتجاه «ماسوشي» بالنسبة للأشياء لأنه يقضي عليها ويريد إفناءها وتدميرها، وينكر عليها أن تكون مستقلة باقية موجودة بنفسها. الحدوث تدمير للعالم كله، وقضاءً عليه، وإنكار لوجوده، ترفُّعًا عليه، وذهابًا إلى ما وراءه بحثًا عن أمل ضائع وتعويض ذلك بانتصار ذهني في مجتمع مهزوم أو تأكيدًا للسلطة وتثبيتًا للقدرة في حالة مجتمع منصور. هذا بالإضافة إلى أنه حكم مسبق يتنافى مع الفكر العلمي، وناتج عن تطهر ديني مسبق. وحتى على افتراض الانتقال من التغير إلى الحدوث، فالحكم على العالم بأنه حادث يتضمن حكمًا ضمنيًّا يسلب العالم حقه في الوجود. فهو حادث، أي أنه يحتاج في وجوده إلى غيره، ريشة في مهب الريح، وهو تصور عادم للكون، مناقض للتصور العلمي القائم على الثبات والاطراد. تصور العالم حادثًا إذن يجعله محتاجًا إلى غيره، فاقدًا وجوده من ذاته، مستمدًّا وجوده من طرف آخر يمده بالعون ويجعل العالم داعيًا له طالبًا المدد، وهو ما ترسب في وجداننا المعاصر في تصوراتنا للعلاقات الاجتماعية والسياسية، فتحولت مجتمعاتنا إلى قسمين: يد عليا ويد سفلى، وأصبحنا كلنا في النهاية أيادي ممدودة إمَّا للأخذ وإمَّا للعطاء. إن هذا الفصم بين الحركة والمحرك أو المعلول والعلة لا يفسر الحركة والتغير، بل يدمر العالم؛ لأنه يجعل الأثر كله والفعل كله للعلة دون المعلول وللمحرك دون المتحرك، وبالتالي تسقط الطبيعة نهائيًّا ولا يبقى إلا ما بعد الطبيعة. إن رؤية التغير والحركة في العالم تدفع إلى كشف قانون للحركة وليس إلى علة الحركة، أي الانتهاء من الشيء إلى الشيء وليس من الشيء إلى اللاشيء، حتى تبقى الملاحظة على مستوى التجربة وينشأ العلم دون الانتقال من الطبيعة إلى ما بعد الطبيعة أو من العلم إلى الميتافيزيقا حتى لا تستعمل الطبيعة كمقدمة لشيء آخر، وهذا الذي سماه القدماء حكمة الصانع، وأنه لا بد من «مؤثر صانع حكيم».٤٦ ولماذا تكون الحركة والسكون عيوبًا ونقصًا ويكون الثبات كمالًا وشرفًا؟ ولماذا يكون التضاد نقصًا والاتساق والوئام كمالًا؟ وهل في الطبيعة قيمة؟ هل الظواهر الطبيعية ناقصة أو كاملة، خسيسة أو شريفة؟ أليس هذا خلطًا بين أحكام الواقع وأحكام القيمة؟ ويسوء الأمر أكثر فأكثر باعتبار أحدهما كمالًا والآخر نقصًا، الأوَّل إيجابًا والثاني سلبًا، الأوَّل وجودًا والآخر عدمًا، فينتهي الأمر كله إلى تدمير العالم لصالح شيء آخر هو ما وراء العالم، مما يجعل إحساس الناس بالواقع معدومًا، وشعورهم بالدنيا غائبًا، ومما قد يوقعهم أيضًا في الغيبيات والأساطير، ويجعلهم مغتربين عن العالم، يشيحون بوجوههم عنه. ولما كان المؤثر فاعلًا والعالم مفعولًا فيه تتحول هذه العلاقة من مستوى الطبيعة وما بعد الطبيعة إلى مستوى الاجتماع والسياسة من خلال البناء الشعوري والتصور للعالم، فتنشأ العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بين الرئيس والمرءوس، بين الأعلى والأدنى على نفس نمط العلاقة بين «الله» والعالم، أو بين القديم والحادث كما يعرضه دليل الحدوث، فتنشأ النظم التسلطية التي تقوم على القهر والسيطرة وإعطاء كل شيء إلى السلطان وحرمان الشعب من كل شيء، كما أعطى من قبل كل شيء إلى «الله» وحرم العالم من كل شيء، حتى توحد الله والسلطان في وجداننا المعاصر، والتحمت السلطة الدينية بالسلطة السياسية، وكل ذلك على حساب العالم والشعب، على حساب العلم والحرية.

ولماذا الإصرار على أن الجسم لم يتقدم المعاني، بل المعاني سابقة عليه، في حين أن العلاقة الطبيعية بين الشيء والمعنى هو أن المعنى مدرك؟ صحيح أن المعنى عقلي وليس في الشيء، ولكنه حصل بعد حصول الشيء إن كان ولا بد من القبلية والبعدية. ولماذا لا تكون المعية افتراضًا معقولًا مثل القبلية؟ إن المعنى يحدث بمجرد وجود الشيء، فلا شيء إلا وله معنى مصاحب بشرط فعل الإدراك وانتباه الشعور. إن القول بأن المعاني سابقة على الأجسام حتى يمكن بعد ذلك إثبات أولويتها يهدف إلى إثبات وجود «الله»، «فالله» هو المعنى السابق على الجسم، وهي مصادرة على المطلوب، وافتراض النتيجة مسلمة. والنظرة المثالية في علاقة المعنى بالشيء، سواء كان لفظًا أم جسمًا، إنما هو تعبير عن تصور ديني مقنع، وإيمان تقليدي دفين. وتصل النظرة التدميرية للعالم إلى درجة إثبات نهاية العالم وتناهي الأعراض، وكأن «الله» لا يثبت إلا بعد تدمير العالم، وكأن بقاء العالم بالضرورة ينفي وجود «الله». إن هذا التصور للأشياء بين الأعلى والأدنى إنما يعبر عن هذه العلاقة الإيمانية التقليدية بين «الله» والعالم، وهو مناقض للتصور العلمي للأشياء الذي يجعلها على مستوى واحد، فالخلاف بين الظواهر في الدرجة لا في النوع. كما أن سؤال النشأة والمصدر والأصل يقضي على بنية الشيء، ويلغي مستقبله من أجل ماضيه مما يطبع العقلية كلها بطابع البحث عن الأصول والمصادر دون البحث عن الكائنات الحاضرة. ولماذا لا يدرك التكوين من داخل الشيء وليس من خارجه، والتفسير بالعلل القريبة أكثر علمية من التفسير بالعلل البعيدة؟ ولماذا يكون «الله» وحده هو القادر المختار؟ وأيهما أولى: البحث عن النشأة والتكوين أم الإعداد للغاية والمصير؟ صحيح أن البحث الأوَّل عامل مساعد للبحث الثاني ولكنه ليس بديلًا عنه أو ضده كما هو الحال في دليل الحدوث.

والأخطر من ذلك كله هو ما يوحي به دليل الحدوث من إثبات عجز الإنسان عن فعل شيء في العالم أو إحداث أي تغيير. وأيهما أفضل: إثبات عجز الإنسان أم قدرة الإنسان؟ صحيح أن الإنسان ليس صانع نفسه ولا صانع العالم ولا صانع ذبابة،٤٧ ولكن هل المقصود تعذيب النفس وردها إلى ما هو أقل منها، ثم خلاصها بإثبات قدرة الآخر واستجلاب العون منه؟ هذا بالإضافة إلى أن الدليل يثبت صفة القدرة وليس وصف الوجود. ولماذا تعذيب الذات واعتبار الإنسان عاجزًا جاهلًا ميِّتًا أكثر من اعتباره فاعلًا للقدرة وصاحب علم وأهل حياة؟ لماذا هذا الإقلال من شأن الذات؟ ولماذا يكون الإنسان غير قادر على فعل أي شيء أو أن يكون علة أي شيء وأن يكون غيره أقدر منه على الفعل في العالم وأن يكون علة له؟٤٨ لماذا يكون الفاعل المختار غير الإنسان؟ ليس المهم إثبات قدرة الإنسان على خلق الشيء بل قدرته على تغيير بنائه، فالأشياء موجودة، والإنسان قادر على تغيير بنائها الاجتماعي والسياسي، فالأعراض نوعان: الأولى خارج القدرة ولكن الثانية داخلة في نطاق القدرة. وفي حقيقة الأمر ينتهي دليل الحدوث إلى نزع قدرة الإنسان على الفعل ولا يثبت قدرة الآخر عليه. فإذا لم تثبت قدرة الإنسان فكيف يتمخض الفيل فيلد ذبابة؟ وإذا كان موضوع القدرة على الفعل تصادم قدرة الصانع مع قدرة المصنوع فتضيع قدرة المصنوع من أجل إثبات قدرة الصانع. ولما كان الصانع قد صنع كل شيء، وبالتالي فهو قادر عليه، يكون إثبات القدرة جزءًا من الكل، وتحصيل حاصل، ولا يأتي بجديد، لأنه متضمن في إثبات الصنعة، والقدرة جزء منها، فضاع وجود الشيء أوَّلًا من أجل إثبات وجود «الله»، ثم ضاعت قدرة الشيء ثانيًا من أجل إثبات قدرة «الله».

(٣) حدوث العالم

وقد يتحول دليل الحدوث من مجرد دليل لإثبات الصانع أو واجب الوجود إلى موضوع ميتافيزيقي مستقل عن حدوث العالم وقِدَمه ذاتًا وصفاتٍ في بناء رباعي يضع احتمالات أربعة: قِدَم الذات والصفات، حدوث الذات والصفات، حدوث الذات وقِدَم الصفات، قِدَم الذات وحدوث الصفات. الأوَّل اختيار الحكماء، والثاني اختيار المتكلمين خاصةً الأشاعرة منهم كرد فعل على الاختيار الأوَّل واتهام أصحابه بأنهم ملاحدة، والثالث مستحيل عقلًا لاستحالة أن تكون الجواهر حادثة والأعراض قديمة بدليل الأولى، والرابع تصور الطبائعيين من المعتزلة، وهو أقرب إلى التصور الطبيعي الذي يجعل الجواهر قديمة ثم تظهر فيها الصفات عن طريق الطفرة أو الكمون فتبدو حادثة بمعنى التحقق من القوة إلى الفعل.٤٩ وقد ظهر الموضوع من قبل نظرًا لأهميته في نظرية الوجود، سواء في «ميتافيزيقا الوجود» أي «الأمور الاعتبارية» في مفهومي القِدَم والحدوث أو في «أنطولوجيا الوجود» في «الجواهر» في عوارض الأجسام. ولما كان كل فريق يقوم بإبطال قول الخصم ثم بإثبات قوله الخاص، فيقوم أنصار الحدوث بإبطال قِدَم العالم ثم إثبات حدوثه كما يقوم أنصار القِدَم بإيراد الشبهات على حدوث العالم كي يثبت قِدَمه.٥٠
ويعتمد الأشاعرة لإبطال القِدَم على إثبات استحالة وجود حادث لا أول لها واستحالة وجود أجسام لا تتناهى في المكان؛ وذلك لأن الحادث هو الوجود الذي له أول وله نهاية.٥١ وفي حقيقة الأمر أن هذا تحصيل حاصل أو دور منطقي؛ لأنه إثبات الموضوع بالمحمول والمحمول بالموضوع، فالحادث ما لا أول له ولا نهاية ولما أول له ولا نهاية هو الحادث. كما أنه خلط بين الأوَّل والنهاية كجسم في المكان وبين الأوَّل والنهاية كأجسام متصلة أو كمادة مستمرة بصرف النظر عن قسمتها إلى أجسام. أمَّا إثبات الحدوث فإنه عادةً ما يكون بإبطال قول الخصم، أي بإبطال حجج القِدَم ولا يكون دليلًا إيجابيًّا، وهو بالتالي يعود إلى المسلك الأوَّل. وإثبات أن لو كان الجسم أزليًّا لكان إمَّا ساكنًا أو متحركًا، وكلاهما باطل هو مجرد افتراض خالص؛ لأن الحركة والسكون لا تكون إلا للأجسام الحادثة وليس للأزلية، وبالتالي فالحجة تقوم على إسقاط تصورات الحدوث على القِدَم وقياس الغائب على الشاهد، وهو منطق الفكر الديني.٥٢ وقد يثبت حدوث العالم عن طريق إثبات تناهي النفوس الإنسانية عددًا، وتناهي الأشخاص الإنسانية، وحدوث الأمزجة وتناهيها، وتناهي الحركات الدورية للعناصر، وتناهي المتحركات والحركات السماوية، وهي كلها افتراضات صرفة تعبر عن إيمان ديني مسبق وتحتاج إلى إثبات. فما الدليل على تناهي النفوس والأشخاص والحركات؟٥٣ وقد يثبت الحدوث ابتداءً من تحليل الأفعال الإنسانية والسلوك البشري والانتهاء إلى أنها محتاجة إلى بواعث ومقاصد وإرادات، وبالتالي فهي ليست أفعال ذاتها. وفي حقيقة الأمر أن ذلك يثبت البواعث والمقاصد ولا يثبت شيئًا آخر خلافها. ولا يثبت حدوثًا أو قِدَمًا، بل قد يثبت بقاء للأفعال بعد تحققها في العالم، وبقائها فيه.٥٤ ويستعمل دليل الحدوث لإثبات الخلق ضد الصدور أو الفيض باعتباره أحد أشكال نظرية القِدَم. لذلك يتصل دليل الحدوث بأفعال واجب الوجود فيما يتصل بالفَرق بين الخلق والإيجاد ووضع الخلق بديلًا عن الفيض، والحرية بديلًا عن الحتمية.٥٥
ولقد عرض المتكلمون لشُبَه الحكماء حول حدوث العالم موردين حججهم لقِدَمه بحيث يصعب الرد عليها وتفنيدها، وهي حجج منطقية وميتافيزيقية وحسية واضحة وقوية يسهل اقتناع الإنسان بها، فلو كان العالم محدثًا لاحتاج إلى محدث، وهذا إلى محدث، إلى ما لا نهاية، وهو مُحال. ولو كان محدثًا لوجب أن يكون لفاعله غرض وحاجة، جلب نفع أو دفع ضرر، وهو مُحال أيضًا على «الله». ولو كان محدثًا لاستحال وجوبه إمَّا إلى المقدور أو القادر، وكلاهما محال، وإلا لما وجد المقدور ولعجز القادر. ولو كان محدثًا لوجب كون القديم غير عالم بوجوده، وهذا مما يوجب التغير في العلم، وإن كان علمه قديمًا وجب قِدَم العالم. كما أنه لا توجد دجاجة إلا من بيضة ولا بيضة إلا من دجاجة، وهكذا أبدًا، وهذا يوجب قِدَم العالم.٥٦ وهي حجج تعتمد على استحالة التسلسل إلى ما لا نهاية، وإلى دور أن العلة والمعلول دون ما حاجة إلى علة أولى أو معلول أول، وإلى العلم والقدرة والاستغناء. وهناك حجج أخرى تعتمد على قِدَم الزمان وقِدَم المادة والتجانس بين العلة والمعلول. فإذا كان المحدث يعني التأخر، فإن ذلك قد يكون بلا مدة، وبالتالي لن يكون قديمًا أو بمدة متناهية وجب تناهي القديم أو بمدة لا متناهية فوجب قِدَم العالم، كما أن كل حادث يسبق إمكان عدم والإمكان أحد أنماط الوجود، وهو لا يتصور إلا في مادة والمادة لا تتصور إلا في زمان ويستحيل التسلسل، وبالتالي لزم الانتهاء إلى موجود واجب بذاته هو العالم، وهي الشبهة التي من أجلها جعل المعتزلة المعدوم شيئًا. كما أن ما يثبت جوازه يثبت وجوبه، ولا يثبت سبب حادث إلا لأمر حادث مثله.٥٧ وقد تأخذ الحجج طابعًا إنسانيًّا خالصًا مثل صفات الجود والإحسان والكرم التي للقديم مما يدل على فيض عواطف الإيمان على منطق العقل وأحكام الاستدلال. فالإيجاد إحسان والامتناع عن الإحسان نقصان. وقد تنكر حجج استحالة التسلسل إلى ما لا نهاية أو ضرورة التجانس بين العلة والمعلول بصور عديدة. مثلًا لو كان القديم في الأزل موجودًا ثم صار موجدًا، فصفة الموجودية محدثة وبالتالي تفتقر إلى موجد آخر وهو محال، وإن كانت أزلية لزم أن تكون الموجودات أزلية لاستحالة انفصال المعلول عن العلة. كما أن ذات الباري إمَّا أن تكون متقدمة على وجود العالم والتقدم متناهٍ فيلزم حدوث الباري وإن كان التقدم غير متناهٍ يكون الزمان قديمًا، وإن لم تكن متقدمة لزم حدوث الباري وهو محال أو قِدَم العالم.٥٨ وقد يشارك في هذه الحجج بعض القدماء الذين ينتسبون إلى حضارة أخرى ثم أصبحوا رافدًا في الحضارة خاصةً في علوم الحكمة. وذلك مثل حجة الجود والكرم، أو أن الصانع لا يزال كذلك إمَّا بالفعل، وبالتالي يكون المعلول مثله أو بالقوة فيحتاج إلى إخراج وتغير، وهو مستحيل على القديم. وذلك أيضًا أن العلة من جهة الذات لا يجوز عليها الانتقال كما لا يجوز على المعلول، وبالتالي يصبح كلاهما قديمًا.٥٩ ولم يجد الفقهاء حرجًا في عرض شبهات الحكماء والاستشهاد عليها بالحس والمشاهدة طبقًا لنظرتهم الحسية للعالم. فلم يشاهد إلا حدوث شيء من شيء، ولم يشاهد أحد خروج شيء من لا شيء إلا بفعل ساحر. كما أن المحدث إمَّا أحدث لأنه كذلك وبالتالي يكون الحدث مثله أو أحدث لعلة، والمعلول لا يفارق العلة. وإن كان للأجسام محدث فلا يخلو الأمر من أوجه ثلاثة، إمَّا أن يكون مثلها من جميع الوجوه، وهذا يعني قدمها، أو أن يكون مثلها من وجه وخلافها من وجه، وهذا أيضًا لا ينفي القِدَم، أو أن يكون خلافها من جميع الوجوه وهو محال. والإحداث قد يحدث للحاجة أو لجلب نفع ودفع ضرر، وهو مستحيل على القديم أو تحدث لأشياء بالطباع التي لا يفترق فيها العلة والمعلول. كما أن الأجسام لو كانت محدثة لكان محدثها قبل أن يحدثها فاعلًا لتركها وهذا يوجب قِدَمها أجسامًا وأعراضًا.٦٠
والحقيقة أن نقد الحكماء باعتبارهم دهريين لا مبرر له؛ لأن «الدهرية» تحاول الرجوع إلى الطبيعة المستقلة التي لا يمكن أن تستخدم كوسيلة لإثبات شيء آخر. هي أكبر رد فعل على التفكير التقليدي الرأسي الذي ينحو من الطبيعة إلى ما بعد الطبيعة، ويضع بديلًا آخر وهو الفكر الأفقي الذي يتجه من الطبيعة إلى ذاتها. وهي التي حاولت وضع بديل للتسلسل إلى ما لا نهاية، ليس عن طريق إثبات علة أولى أو مبدأ أول، بل عن طريق الدوران والاستمرار. الدهريون إذن هم الطبائعيون وليسوا الإلهيين أي علماء الكلام. إن تصور الحكماء والطبائعيين للعالم أقرب إلى التصور العلمي من تصور المتكلمين.٦١ فالأجسام سابقة على الأعراض، والأعراض تظهر فيها بعد الكمون، والحوادث تسلسل إلى ما لا نهاية.٦٢ لقد كان القول بالطبائع أكبر رد فعل على القول بالحدوث، فالطبائع رد للأشياء استقلالها ورفض لجعلها تابعة لقدرة مشخصة خارجة عليها. فهو تفسير بالعلل المباشرة الداخلية لا بالعلل الأولى الخارجية.٦٣ وقد يمثل تفسير الظواهر بطبائع الأشياء تفكيرًا علميًّا مرحليًّا، إلا أنه بالنسبة إلى الفكر اللاهوتي يمثل تقدُّمًا فكريًّا هائلًا. وإذا كان يمكن الآن نقض الطبائع علميًّا، فإنه لا يمكن نقضها بالنسبة للفكر اللاهوتي لأنها تمثل تقدُّمًا بالنسبة له. فالطبائع كانت آخر ما وصل إليه العصر من فكر علمي إبان سيادة الفكر اللاهوتي، وهو الصراع الذي ما زال موجودًا في وجداننا القومي حتى الآن.٦٤ وتفسير الأشياء بالرجوع إلى الأشياء ذاتها، الطبائع الأربع أو الخمس أو بالعمليات الطبيعية في الأشياء مثل الامتزاج والاختلاط، التولد والفطرة أولى مراحل الفكر العلمي.٦٥ ليس الخلاف إذن فقط في معرفة الله استدلالًا كما تريد الأشاعرة، أو اضطرارًا كما يريد الطبائعيون، بل الخلاف الأساسي في تصور الطبيعة من خلال تصور ديني كما يفعل الأشاعرة أو من خلال تصور علمي كما يفعل الطبائعيون. هل يتم تفسير الطبيعة بعلل خارجية أم بعلل داخلية؟ هل الطبيعة مستقلة بذاتها أم أنها تابعة لغيرها؟ هل تدرك بالحواس وبالعقل كفكر طبيعي، أم أنها افتراض إيماني كفكر إليه مقلوب؟ وقد تكون صورة الأجرام السماوية بحركاتها الدائرية صورة تشبيهية للقدم عند «المنجمين».٦٦
والحقيقة أن القول بقِدَم العالم لا يعني تعطيل الصانع عن الصنع بل تنزيهًا له عن الاشتغال بالعالم والتدخل في قوانين الطبيعة، وإثباتًا لحكمته في ترك العلمية والغائية، وتركًا للحرية الإنسانية للعمل في العالم، وللعلم الإنساني لاكتشاف قوانينه.٦٧ الباعث على نفي الصانع باعث شرعي وهو الحفاظ على استقلال العالم والحفاظ على الحرية الإنسانية فيه. وإن إثبات الصانع ليس له باعث آخر إلا القضاء على استقلال العالم ونفي الحرية الإنسانية، وهذا ما يفعله دليل الحدوث.٦٨ وبالتالي كان موقف الملاحدة هو موقف الدفاع عن التنزيه ضد التشبيه وعن حرية الإنسان ضد جبره. «الله» مبدع لكل المتقابلات، وخالق كل الأضداد دون تقدم أحدهما على الآخر، مثل تقدم الوجود على العدم، والوحدة على الكثرة، والوجوب على الإمكان. «الله» متعالٍ عن هذه الأضداد وخالقها دون أن يكون صانعًا لها. «الله» هو الماهية المجردة عن أي صفات التشبيه، وليس ذلك «هذيًا بين البطلان»، بل حرص على التنزيه وخوف من الوقوع في التشبيه.٦٩ مع أن الأمر عند الحكماء لم يخلُ من بقايا تشبيه في القول بعلة أولى هي النفس أو العقل أو العلة أو الفلك، وهو شبيه القول بوجود كائن مشخص مع الاختلاف في الدرجة والاتفاق في النوع. الكائن المشخص أكثر تجريدًا وأقل جسمانيةً، في حين أن باقي الموجودات أقل تجريدًا وأكثر حسيةً. والأمر في كلتا الحالتين عواطف إنسانية إيمانية أو عقلية ومواقف من العالم دينية أم علمية، ومواقف من الله والإنسان، دفاع عن «الله» أم دفاع عن الإنسان. وفي هذه الحالة لا تقل حجج القِدَم دلالةً على حجج الحدوث.
دليل الخلق أو الصنع إذن صورة أخرى من دليل الحدوث لإثبات الخلق أو الصنع. أي أنه يتجاوز إثبات الذات إلى إثبات صفة، قافزًا من موضوع الذات إلى موضوع الصفات. وبالإضافة إلى ضعف الدليل وبنيته الداخلية وتصور الله كصانع وليس كخالق، وهو التصور البدائي لنشأة الكون،٧٠ وإبطال كل فعل للطبيعة، وإنكار لقوانين العلم، وتفسير الظواهر بعلل خارجية وليس بعلل داخلية، فإن مخاطر هذا الدليل وآثاره السلبية على الحياة الاجتماعية والسياسية عظيمة. إذ يؤدي إلى تصوير العالم في حالة ضياع، وأن «الله» هو الماسك له، فكما أنه صانع له فهو مفنٍ له.٧١ في حين أن قِدَم العالم قد يعطي أهمية للعالم لأنه ماسك نفسه بنفسه، إله مثل «الله»، أو يجعل «الله» داخلًا في العالم وليس خارجًا عنه، وبالتالي ينشط «الله» في العالم وبسببه ومن خلاله وليس من فوق العالم، ورغمًا عنه، وضد قوانينه. كما أنه يجعل الإنسان يعيش في عالم كله ألوهية وعالمية في آن واحد. ومِنْ ثَمَّ يحمي الإنسان نفسه ومجتمعه من الوقوع في مخاطر الازدواجية، والروحانية الفارغة التي تنقلب إلى مادية صريحة كرد فعل أو إلى مادية مقنعة كغلاف وستار.
ولقد تغيرت الظروف والملابسات عند القدماء وعندنا اليوم. كان موضوع قِدَم العالم الذي دافع عنه الدهريون والطبائعيون والحكماء و«الملاحدة» دفاعًا عن الفكر العلمي والإنساني يمثل خطرًا على العقيدة الدينية الجديدة كما تصورها المتكلمون في صورة الخلق من عدم كتصور بديل عما كان موجودًا في البيئات الدينية والحضارية المجاورة. ظهرت الحجج التفصيلية عند القدماء لتفنيد قِدَم العالم اعتمادًا على الجدل والمحاجة العقلية بمفاهيم عصرهم مثل: الحركة، والسكون، والجزء، والعلة، والسبب، والمؤثر، حتى انتصرت العقيدة الجديدة وانتشرت، ولم يعد أحد اليوم من العامة يعتقد بقِدَم العالم. ولكن الحال قد تغير الآن، ولم تعد نظرية قِدَم العالم تمثل خطرًا على الأمة اليوم،٧٢ بل إن الذي يهدد موقفهم من العالم ووعيهم به قد يكون خلق العالم من عدم، فقد تحول في تصور العامة وربما الخاصة أيضًا إلى جعل الله ساحرًا، خالقًا من عدم، كمن يخرج العصفور من كم المعطف أو الذي يفتح يده ويقبض الهواء فيخرج منه شيئًا مرئيًّا، وبالتالي تحولت العقيدة إلى أحد روافد الفكر الغيبي الأسطوري.٧٣ وأصبح تصور الله قادرًا على كل شيء عاملًا مساعدًا لترجيح القدرة على العلم، مما جعل ذلك يؤثر في النظم الاجتماعية والسياسية في صورة الحاكم القادر على كل شيء، والذي تفوق قدرته علمه! كما تؤدي عقيدة الخلق من عدم إلى تدمير العالم، واعتباره وُجد بعد أن لم يكن موجودًا، وبالتالي فلا أساس له كوجود، وما دام موجودًا من عدم فإنه يصير لا محالة إلى عدم، وبالتالي يؤدي القول بالخلق من عدم إلى الفناء إلى العدم، فيصبح العدم أساس الوجود في البداية والنهاية، ويصبح على نقيض الله الموصوف بأنه موجود، والذي يرمي الدليل إثباته. فقد العالم استقلاله في شعورنا القومي، وغذى ذلك موقف الصوفية منه عندما أصبح التصوف أساس الأشعرية المتأخرة. ولم نستفد من ميزات الخلق من العدم وهي الجدة والابتكار والإبداع، والتمايز الكيفي، واختلاف المستويات، ومحونا صفة الإنسان وانتزعناها منه ونسبناها إلى «الله» مما يكشف عن عجز الإنسان عن الخلق وتعويض هذا العجز عن طريق نسبتها إلى الموجود الكامل وتحققها فيه، لم تعد اليوم مخاطر من قِدَم العالم، فلا يوجد أحد ينكر أن «الله» موجود، أو يثبت أن العالم قديم كما يتصور القدماء لا خالق ولا صانع له، وُجد من شيء مسبق، فقد كسب القدماء المعركة، وما زالت آثار انتصارهم موروثة. لا توجد ديانات أو ملل قديمة يُخشى منها. هنا أيديولوجيات مشابهة للمادية القديمة، وهناك فلسفات علوم ولكنها مدعمة بالعلم ولا تمثل خطرًا على وجدان المعاصرين، بل إنه يمكن التعرف على مميزاتها وإدراك آثارها، فهي ترد الاعتبار إلى العالم المفقود، وتملأ الوعي الفارغ، وتعيد العالم إلى بؤرة الشعور واهتمام الإنسان، فيصبح الإنسان ميدانًا للنشاط، ويجد الإنسان العالم بعد أن فقده، ويعمل فيه بعد أن انعزل عنه، ويدخل إليه بعد أن خرج منه. كما تبعث فيه الفكر العلمي الكمي القائم على الاتصال حتى يتطبع به، ويجد الصلة بين العلة والمعلول، والعلاقة بين التقدم والتأخر. تجعل «الله» قريبًا من العالم، عاملًا فيه، داخلًا إليه، فتعيد إلى الله فاعليته في العالم كما أعادت النشاط إلى الإنسان. ترد الاعتبار إلى المادة وأنها ليست مضادة للروح بل متحدة بها، فتحيا المادة ويعود إلى الروح مضمونها.

(٤) دليل الجوهر الفرد

ودليل الجوهر الفرد صياغة أخرى لدليل الحدوث، وأقل منه ظهورًا في المؤلفات الكلامية، وكأنه تفريع صغير على دليل الحدوث. ويتم عرضه في مبحث الوجود أكثر مما يتم عرضه في أدلة إثبات الصانع في موضوع الذات.٧٤ ومن مميزاته أنه دليل علمي، يجعل الشعور في موقف طبيعي من العالم من أجل نشأة العلم عن طريق البحث عن الجزئيات واتِّباع منهج التحليل والتدقيق حتى الوصول إلى الجزء الذي لا يتجزأ، وقد كان هذا الدليل أحد مصادر نظرية الذرة عند القدماء، ولكن ماذا يُقال أمام العلم الحديث الغربي الآن الذي يجعل الجزء الذي لا يتجزأ يتجزأُ إلى جزئيات بالفعل، وأنه يمكن التجزئة إلى ما لا نهاية، ثم يتحول الكم إلى كيف والمادة إلى طاقة؟ ولكن عيوب الدليل أكثر من مميزاته، فهو يقوم على وهم خاطئ لا وجود له لا في الذهن ولا في الواقع، فالشيء لا ينقسم إلا بالوهم والافتراض والخيال. الشيء واحد، جزء واحد أو كل واحد لا ينقسم إلا افتراضًا ولا يمكن قسمته بالفعل إلى قسمين، وكل قسم إلى قسمين، فذاك يستحيل عملًا نظرًا لوجود أقسام صغيرة يصعب قسمتها حتى ولو بأساليب العلم الغربي الحديث. هو افتراض عقلي خالص لا وجود له بالفعل، قائم على إبراز مشكلة الجوهر الفرد الذي لا ينقسم، ومِنْ ثَمَّ يحتاج في تبرير وجوده إلى غيره وكأن القسمة تعدمه، فإن استعصى عليه احتاج إلى تبرير لوجوده! وقسمة الشيء إلى شيئين ثم قسمة كل شيء منهما إلى شيئين إلى ما لا نهاية افتراض عقلي خالص. الشيء لا ينقسم، وإن انقسم يكون شيئين، ولا يمكن القسمة بالفعل حتى يتم الوصول إلى المتناهي في الصغر. كل ذلك تمرين عقلي لمتدين يركب ذاته حتى يسمح له بإثبات جوهر فرد يقدر على قسمته، ومِنْ ثَمَّ يحتاج لتبرير وجوده إلى غيره. الغير عنده حل لكل المسائل إلا الذات. ولا تفهم الأمور بالرجوع إلى الذات بل بالرجوع إلى الغير وهو ما ترسب في وجداننا القومي حتى الآن بالاعتماد على الغير لا على الذات، وباستبعاد الحلول الذاتية وإلقاء التبعة على الآخرين. وما المانع أن تستمر القسمة افتراضًا إلى ما لا نهاية حتى نصل إلى المتناهي في الصغر الذي ينقسم إلى ما لا نهاية؟ فالموضوع باقٍ إلى الأبد طالما له ثقل حتى ولو تحول إلى طاقة كما هو الحال في العلم الحديث الغربي، فالطاقة لها ثقل. ولو انقسم بالفعل فإن الشيء لا يصبح شيئًا. لو انقسم الإنسان إلى نصفين فإنه لا يكون إنسانًا ولو انقسمت الشجرة إلى قسمين فإنها لا تكون شيئًا. يأخذ الشيء معنًى جديدًا ويصبح شيئًا جديدًا مخالفًا للأول. لكل شيء وحدته ومعناه وبناؤه واسمه. الشيء لا يعني الجماد بالضرورة، بل قد يعني الشيء الحي الذي يدل على معنى وحقيقة. وإن افتراض الجزء الذي لا يتجزأ حتى ولو كان موجودًا بالفعل لا يثير بالضرورة سؤال النشأة عن طريق البحث عن علة مشخصة تكون هي سبب وجوده. قد يكون هو سبب وجوده من نفسه، وسبب نشأته من نفسه، موجود في الطبيعة، وجوده من ذاته، وأن يكون به نوع من وجوب الوجود. وسؤال النشأة نفسه سؤال ديني وليس سؤالًا عقليًّا يقوم على أن لكل معلول علة، في حين أن المعلول يمكن البحث فيه عن قوانين حركته الخاصة من أجل معرفتها والسيطرة عليها واستخدامها في الحياة العملية دون طرح سؤال النشأة.٧٥ وبالتالي يكمن خطأ الدليل في الانتقال من القسمة إلى السببية. فعلى فرض الوصول إلى جزء لا يتجزأ فلماذا يستدل منه إلى أنه يحتاج لتبرير وجوده إلى غيره، إلى قدرة أعظم منه هي قدرة «الله». وأيهما أولى إثبات وجود الله القادر عن طريق الجزء الذي لا يتجزأ والمتناهي في الصغر أم عن طريق المتناهي في الكبر حتى يكون جديرًا بإثبات قدرة الله؟ فالقدرة على الأكبر أجدر بالإثبات من القدرة على الأصغر. وحتى على افتراض أن سؤال النشأة سؤال شرعي، فإن الدليل يثبت أن الجزء الذي لا يتجزأ له صانع وله علة دون أن يثبت بالضرورة أن هذه العلة هو «الله». يحتوي الدليل إذن على حلقة مفقودة، وخطوة لم تتم، وقفزة شعورية، وهو الانتقال من الصانع إلى «الله» أو من العلة إلى «الله». كما يثبت الدليل «الله» خارج العالم، وخارج الأشياء، متقدِّمًا عليها، سابقًا لها، أفضل منها. وهي نظرة متطهرة لله تفصله عن العالم، تجعل العالم أقل منه مرتبة مما يسهل بعدها الوقوع في التصوف والإشراق من ناحية «الله» وفي المادية أو العدمية من جانب العالم. وقد يوحي في الظاهر أنه يثبت «الله» متصلًا بالعالم ولكن تقتصر وظيفته على تفسير نشأة العالم، وهذا إقلال من قدرته كما يتصوره المتكلمون.٧٦ وما المانع أن يكون التسلسل إلى ما لا نهاية أو أن يكون التسلسل عن طريق الدور؟ لماذا يجب الوقوف بالضرورة إلى واجب ذاته ليس ممكنًا، وأن يقف خط التسلسل أو أن يكون بين العلة والمعلول أثر متبادل، كل منهما علة للآخر ومعلولًا له؟ يبدو أن الفكر الديني هنا لم يصل بعد إلى درجة كافية من العقلانية وظل أسير الوجدان الديني. إن مفاهيم الوجود بالذات والوجود بالغير، وهما أساس الاستدلال في البراهين على وجود الله، كلها مفاهيم تعكس الصراع بين الفكر الديني والفكر العلمي، فالفكر العلمي يقوم على الوجود بالذات وتفسير الشيء من داخله في حين يقوم الفكر الديني على الوجود بالغير وتفسير الشيء من خارجه، وهو التفسير الذي سرعان ما يتحول إلى موقف سياسي واجتماعي بتفسير كل شيء في المجتمع من خارجه، مظاهرة شعبية ضد النظام بفعل المندسين والعملاء أو اعتبار الشعب كله موجودًا بغيره في حين يكون الحاكم هو الموجود بذاته. إن هذه المفاهيم كلها مفاهيم اعتبارية تعبر عن مطلب شعوري وليس لها أي أساس في الواقع، فالواجب بالذات والواجب بالغير، والممكن، والقديم، والحادث، كلها مفاهيم إنسانية يسقطها الإنسان على الواقع حتى يفهمه من أجل التكيف المعرفي مع العلم كي يصبح العالم مفهومًا فيعيش الإنسان فيه مدركًا فاهمًا في عالم يحكمه العقل وتصدق عليه المفاهيم. الواجب في الحقيقة هو الواجب الأخلاقي، والممكن هي قدرة الإنسان على الفعل، والقديم هو العمق التاريخي للإنسان، والحادث هي الجدة والمعاصرة، والموجود بذاته هو الشعور بالاستقلال، والموجود بغيره هو الشعور بالتبعية. ويكشف أي دليل على إثبات وجود «الله» على وعي مزيف، فالغاية في الظاهر تبدو إثبات تناهي الأجسام، وهي غاية إلهية مقلوبة على الطبيعة أي إثبات لا تناهي «الله».٧٧ والوعي الشرعي بالعالم هو القادر على إعادة اللاتناهي إلى العالم دون البحث عن تعويض عنه وإجهاد العقل في البحث عن الدليل.

(٥) دليل الإمكان

ودليل الإمكان أقل شيوعًا من دليل الحدوث بالرغم من أنه يفيد نفس المعنى وله نفس البناء، إلا أنه ظهر عند المتأخرين بعد سيادة علوم الحكمة على علم أصول الدِّين، وهو مبني على أحكام العقل الثلاثة: الوجوب والامتناع والإمكان؛ لذلك كانت المعلومات الثلاثة: أقسام الواجب لذاته والممتنع لذاته والممكن لذاته، ومنها يتم الانتقال إلى أنواع الموجودات الثلاثة: الواجب والممكن والممتنع.٧٨
وللدليل صياغات بسيطة وأخرى مركبة. فمن الصياغات البسيطة يعطي القدماء ثلاثًا:٧٩ الأولى لما ثبت أن العالم ما كان موجودًا ثم صار موجودًا، فحقيقة العالم قابلة للعدم وقابلة للوجود. وكل ما كان كذلك فرجحان وجوده على عدمه لأجل ترجيح مرجح فثبت أن وجود العالم محتاج إلى مؤثر وموجد، والحقيقة أن هذا الدليل به عيوب ثلاثة رئيسية: الأولى أنه يشكك في وجود العالم ثم يوقن به عن طريق الإيمان بأنه كان معدومًا ثم وُجد بافتراض الخلق. ومن الناحية العقلية الصرفة ودون اعتبار لأية مسلمات دينية سابقة نحن لا ندري هل كان العلم غير موجود ثم وُجد أم لا، فنحن نولد في عالم موجود، ونشب فيه، ونعمل في العالم، ونمارس نشاطنا فيه. إنما افتراض عدم وجوده ثم وجوده افتراض ناتج عن الإيمان من نظرية الخلق التي تفترض وجود الله السابق على العالم وأن العدم هو الأساس، وأن الوجود منبثق من العدم، وهذه هي العدمية المحضة، وكأن الموقف الإيماني والموقف العدمي واحد. والثاني هو افتراض فناء العالم وتحويله إلى عدم بعد أن وجد من عدم، وهو افتراض ناتج أيضًا عن مسلمة دينية هي عقيدة الفناء وليس برهانًا عقليًّا. نحن نعيش في العالم، ويتركه الآخرون، ولا يتوقف نشاطنا فيه بدليل فعلنا المستمر من خلال الأفكار والأفعال والآثار التي نتركها. نحن نرى الناس يغيبون عنه، ولكن لم يشاهد أحد فناء العالم، أي أنه عدم بعد وجوده. والثالث هو أن إيجاد سبب أو مرجح للوجود لا يكون بالضرورة عن طريق مرجح خارجي، بل يمكن أن يكون عن طريق سبب داخلي، هذا على افتراض صحة الانتقال والتحول من العدم إلى الوجود.

والصياغة الثانية هي أن الموجودات إمَّا واجب الوجود أو ممكن الوجود أو البعض واجب والبعض ممكن، واستحالة أن يكون الكل واجبًا نظرًا لاستحالة أكثر من واجب وجود واحد، واستحالة أن يكون الكل ممكنًا لحاجة الممكن إلى الواجب، والحقيقة أن قسمة الواجب والممكن قسمة إيمانية خالصة، عاطفة دينية صرفة يقوم العقل بتنظيرها عن طريق التمييز بين مستويات في علاقة رأسية بين الأكثر شرفًا والأقل شرفًا. واجب الوجود مجرد مطلب أخلاقي، ونزوع نفسي نحو غاية، وحاجة إنسانية وتطلع إلى الكمال الذي لم يتحقق، وكل شيء أمامنا واجب أو ممكن مثل الجوهر والعرض والقديم والحادث، واجب لأنه موجود أمامنا باستمرار، وممكن لأنه يتغير ويتقلب، فلا استحالة هناك أن تكون كل الموجودات واجبة وممكنة في آن واحد دون قسمة من صنع الإيمان العقلي. وقد تكون كل الموجودات ممكنة لأنها قابلة للتحقيق والتغير من خلال الفعل والنشاط الإنساني، أي بدافع الوجوب الأخلاقي، فالدليل لا يثبت وجودًا واجبًا خارجًا عن العالم، بل يصف عملية التحقق ومسار النشاط الإنساني من الوجوب إلى الإمكان ومن الإمكان إلى الوجوب.

والصياغة الثالثة أن الأجسام متماثلة في الجسمية مختلفة في الصفات، وسبب الاختلاف ليس جسمًا؛ لاستحالة التسلسل إلى ما لا نهاية، والمؤثر ليس بالطبع والإيجاد بل بالقصد والاختيار؛ لأن الطبع واحد ولا يختلف، إذن هو بالقصد والاختيار. والحقيقة أن سبب التشابه والاختلاف بين الأجسام قد تكون الأجسام ذاتها وتراكيبها وطبائعها، أي أنه يرجع إلى الطبع وإلى قوانين الطبيعة وليس إلى القصد والاختيار، فالاختيار مقولة إنسانية تعبر عن حرية الأفعال يسقطها المتكلم الأشعري على الطبيعة، ثم يتنازل عنها بعد ذلك ويعزوها إلى المطلوب إثباته، وبالتالي يحيل الدليل من مستوى الطبيعة إلى مستوى خلق الأفعال.

وتتفاوت الصيغ المركبة بين الدليل الموجز في مقدمتين أو المفصل في ثلاث مقدمات، تثبت المقدمة الثالثة بثلاث مقدمات أخرى، أو المفصل في أربع طرق، كل منها دليل بحد ذاته على انفراد، فالصيغة المزدوجة من مقدمتين، هي: (أ) العالم بجميع ما فيه جائز أن يكون على مقابل ما هو عليه. (ب) الجائز محدث، وله محدث، أي فاعل صيره بأحد الجائزين أولى منه بالآخر.٨٠ والصيغة الثلاثية المفصلة، هي: (أ) العالم متغير ومتكثر. (ب) وكل متكثر ومتغير فهو ممكن الوجود بذاته. (ﺟ) إذن وجود العالم بإيجاد غيره، وذلك الغير يستحيل أن يكون مرجِّحًا لثلاثة أوجه: (١) أن الوجود والذات لا اختلاف فيهما بين موجود وموجود. (٢) أن الجائزات بأسرها متماثلة من حيث هي جائزة. (٣) أن الواجب بذاته مهما كان بينه وبين الموجب مناسبة أو تعلق ما، لم يقضِ العقل بصدور أحدهما عن الآخر. أمَّا الصيغة الرباعية المتأخرة، فإنها تقوم على مبحث الجوهر والأعراض والاستدلال منهما إلى إثبات الصانع إمَّا بالحدوث أو الإمكان. والحقيقة أنه بنائي ثنائي وإنما الخلاف في اللفظ، فالحدوث هو الإمكان ولكن بلفظين مختلفتين، الأول من الطبيعة والثاني من ما بعد الطبيعة. وهو نفس التقسيم الرباعي عندما يستبدل لفظ الذات بلفظ الجسم، وبالتالي تكون الاحتمالات أربعة: الأوَّل إمكان الذوات، والثاني حدوث الذوات، والثالث إمكان الصفات، والرابع حدوث الصفات.٨١ والطريقة الأولى وهي الاستدلال بحدوث الأجسام طريقة الخليل في القرآن مما يدل على أنه لا شأن له بالحضارات المجاورة أو بأقوال الحكماء،٨٢ وهي مركبة من مقدمتين، الأولى أن العالم محدث والثانية أن كل محدث له محدث. وبالتالي يكون هو محدث الأعراض بدليل انقلاب النطفة علقة ثم مضغة ثم لحمًا ودمًا، ولا بد من مؤثر وهو ليس الإنسان أو أبويه. والحقيقة أن الاعتراض على الدليل موجود عند القدماء وهو: «لم لا يجوز أن يكون المؤثر هو القوة المولدة المركوزة في النطفة»؟ والرد بضرورة الشعور والاختيار والقصد لا يستدعي بالضرورة وجود كائن مشخص، إذ يمكن أن تكون الطبيعة واعية من خلال الغائية والقصدية. والطريقة الثانية الاستدلال بالإمكان كما تم من قبل الاستدلال بالحدوث للأجسام. والطريقة الثالثة الاستدلال بحدوث الأعراض وإقامة الدليل على أنه واجب الوجود، ويستحيل أن يكون أكثر من واحد وأن نشاهد الأجسام كثرة ممكنة وكل ممكن له مؤثر. والطريقة الرابعة الاستدلال بإمكان الأعراض فالأجسام متساوية في الجسمية مختلفة في الصفات واختلافها لا يعود إلى الجسمية بل في حاجة إلى مؤثر.

والحقيقة أن دليل الإمكان له بعض المميزات كما لدليل الحدوث، إذ يعتمد على الإمكانية وهي جوهر الحياة. فالإمكانية تعني الفعل بالقوة، الشيء قبل التحقق، الكمون، الخصب، النماء، ويوحي بالطبيعة في الظهور والطفرة والتطور والازدهار من خلال الفعل والجهد والعمل. فالعالم ممكن، أي أنه قابل للفعل، يظهر وينمو، حياة وأمل، غاية وهدف، قصد واتجاه، تحقق ونشاط. كما يقوم على نظرية عقلية ممكنة هي نظرية أحكام العقل الثلاثة: الوجوب والإمكان والاستحالة، وهي نظرية يصعب نقدها لأنها تعتمد على طبيعة العقل وبناء الفكر البشري، وبالتالي فهي بديهية يمكن لكل إنسان أن يعقلها وأن يطبقها، لا فرق بين دين ودين، وعقيدة وعقيدة. وإذا كان الإمكان يعني التغير، والتغير مشاهد بالحس، اعتمد الدليل أيضًا على شهادة الحس بالإضافة إلى أوائل العقول.

ومع ذلك فللدليل عيوب كثيرة، منها ما هو خاص بالمنطق، ومنها ما يتعلق بالطبيعة والفكر العلمي، ومنها ما يرتبط بالدين والفكر اللاهوتي. فمن حيث منطق الدليل لا يمكن إثبات تصور ميتافيزيقي مثل إمكان العالم بمشاهدات حسية مثل الأعراض وأن العالم مركب. فنوع المقدمات لا بد وأن يتفق مع نوع النتائج، وأن يبقى الاستدلال على نفس المستوى من الحكم. كما أن شهادة الحس بأن الأجسام متماثلة تنتهي أيضًا إلى أن الأجسام مختلفة، وبالتالي لا تكون شهادة حس كاملة بل ابتسار لها، ورؤية جزئية، شهادة حس تقوم على وجهة نظر موجهة بموقف إيماني انفعالي وجداني. إن العالم يمكن أن يرى ليس فقط على أنه مركب وكثير، بل أيضًا على أنه بسيط وواحد، كلاهما ممكن. بل إن الثاني أقرب إلى الميتافيزيقا، وبالتالي يتفق مع نوع النتائج المطلوبة. ولا يمكن الانتقال من مقدمة عن الإمكان إلى نتيجة عن الحدوث؛ لأن الإمكان والحدوث لفظان مترادفان يشيران إلى نفس المعنى، الأوَّل لفظ ميتافيزيقي، والثاني فيزيقي. إن أقصى ما يمكن أن يشير إليه الدليل هو حاجة الذهن إلى نقطة بداية مطلقة أو ما يُسَمَّى بواجب الوجود، وهو ما يعبر عن حاجة معرفية خالصة، وهي البداية بالأوليات والمصادرات كأساس لأي نسق دون تشخيص لها في موجودات مشخصة. هي وظيفة معرفية وليست حقائق أنطولوجية. ومِنْ ثَمَّ كانت ضرورة النهاية إلى واجب مطلق تضع نهاية للعالم وللذهن معًا، ويستحيل معها تصور تقدم مستمر إلى الأمام مما يوقف الشعور الإنساني وهو على عكس ما يهدف إليه التعالي الذي يعني التقدم المستمر، والتجاوز، وعدم الوقوف عند صياغات أخيرة لأية ماهية وإلا وقعنا في القطعية والمذهبية وخلطنا بين العلم كبحث مستمر وأحد مراحله وصياغاته. تعني الضرورة على هذا النحو في الدليل الانتهاء إلى نقطة معينة ليس بعدها شيء، صياغة أخيرة، وبالتالي إعلان العجز والتسليم، وإلقاء السلاح والتوقف، على عكس التسلسل إلى ما لا نهاية الذي يفيد التعالي المستمر والتجاوز الدائم. وما زال الدليل يقوم على برهان الخلف، أي أنه دليل سلبي بمعنى أنه يبطل الاحتمالات كلها إلا احتمالًا واحدًا، فيثبت نظرًا لبطلان غيره، وهو أقل يقينًا من الدليل المثبت للشيء وليس للناهي عن ضده. وقد لا يكون الحصر شاملًا، وقد لا يكون النفي للاحتمالات كلها نفيًا، كما تبدو بعض المفاهيم متناقضة مثل مفهوم ممكن الوجود، فليس هناك ممكن لذاته بل ممكن بغيره أو واجب بغيره، فالذات تعني الاستقلال في حين يعني الممكن التبعية للغير.

ويكشف الدليل عن زحزحة الفكر الطبيعي العلمي جانبًا لحساب الفكر الديني. يقوم الدليل على القسمة التي تكشف بدورها عن ثنائية متطهرة كقناع للإيمان الديني التقليدي، وبالتالي توضع المستويات الثلاثة في وضع رأسي أعلاها الواجب وأقلها المستحيل وأوسطها الإمكان. في حين أن الفكر العلمي لا ينقسم بل يحلل، ولا يرتب ويفرق بل يداخل ويجمع، وتتسلسل فيه الأمور تسلسلًا دائريًّا إلى ما لا نهاية، فالشيء يكون علةً ومعلولًا، أثرًا ومؤثرًا، فاعلًا ومنفعلًا. الطبيعة متداخلة، وحدة عضوية واحدة دون ما حاجة إلى الخروج عليها. التفكير العلمي دائري في مقابل التفكير الطولي الديني. الدليل كله إيمان عقلي مقنع. فكل شيء في هذا العلم ممكن إنما هو نتيجة مقلوبة لحكم إيمان مسبق بأن «الله» واجب الوجود، ثم لزم ضرورة بعد ذلك أن كل ما سواه فهو ممكن، وأن الله واجب الوجود تجريد عقلي لموقف إيماني يقوم على التسليم بوجود «الله». وقد تمت استعارة لفظ فلسفي هو واجب الوجود في مرحلة غزو علوم الحكمة لعلم أصول الدِّين نظرًا لأنها أكثر عقلانيةً وإحكامًا. بل إن مقولتي الواجب بذاته، والواجب بغيره، أي الممكن، مقولتان دينيتان تكشفان عن العلاقة التقليدية بين «الله» والعالم. «الله» هو الموجود بذاته، والعالم هو الموجود بغيره، وهو مجرد تغير لفظي للدلالة على مستوى أعم وأكثر تجريدًا. وخطورة هاتين المقولتين عندما تتحولان في ميدان الاجتماع والسياسة لتحدثا نوعين من العلاقة، علاقة الاستقلال وعلاقة التبعية. كما تتحول صلة الله بالعالم إلى صلة الحاكم بالمحكوم، فيصبح الحاكم موجودًا بذاته، والمحكوم موجودًا بغيره، الحاكم مستقل، والمحكوم تابع. فلا ينتهي هذا الدليل فقط إلى القضاء على استقلال الطبيعة وحتمية قوانينها بل يجعل العالم كله، الطبيعي والمجتمع، خاضعًا لسلطان قاهر. ويحتوي الدليل على قدر كبير من التشخيص، وإسقاط البعد الإنساني على الطبيعة و«الله» معًا كما يبدو ذلك من ألفاظ حاجة واحتياج، ومرجح وترجيح، وقصد وغاية. يقوم الدليل إذن على التشبيه ويكشف عن موقف وجداني خالص في عبارات مثل: لا بد، حاجة الأثر إلى مؤثر، حاجة التخصيص إلى مخصص، حاجة الممكن إلى واجب، وهي علاقة الاحتياج والعوز والتبعية، وتنتقل إلى العلاقات الاجتماعية على هذا النمط فتنشأ علاقات الاحتياج والتبعية بالرغم مما يبدو على الدليل من تجريد وطابع ميتافيزيقي. يكشف الدليل عن الجانب الوجداني في الإنسان بمفاهيم الاحتياج، والافتقار، والترجيح، والاشتراك، والاقتضاء، والتأثير، والتخصيص، والمشابهة، والاستفادة، والقدرة، والإرادة، والصدور، والنقص، والكمال.٨٣ إن احتياج الممكن إلى مخصص وجعل المحتاج دون المحتاج إليه افتراض تشخيصي محض، مجرد إثارة غبار من أجل إزالته فيما بعد، ووضع مسألة من أجل حلها، وبالتالي فهو تمرين عقلي يقوم على أساس وجداني لإقناع النفس والتكيف مع الذات، تكيف العقل مع الوجدان حتى يصير العالم مفهومًا. الأشياء على ما هي عليه بالطبيعة، وتحولات الشيء تخضع لقانون طبيعي، بالتفاعلات الداخلية وليس بأسباب الخارجية، والتعليل الذاتي أكثر علمية من التعليل بالآخر. يكشف الدليل عن علاقات قوى بين الطرفين،٨٤ ولماذا الخشية من الإيجاد بالذات؟ ولماذا يكون الإيجاد بالعلة الخارجية؟ لماذا لا يكون الشيء سبب وجوده؟ لماذا يكون وجودي مستمدًّا من غيري؟ بل إن الدليل لم يحرص على التنزيه، وحوَّل الوجود بذاته إلى كائن ممسوح لا غاية له ولا هدف ولا قصد إمعانًا في التنزيه ونفي جميع مظاهر النقص الإنساني كالاحتياج والافتقار، فانقلب إلى الضد، وهو نفي القصد والغائية، وبالتالي الانتهاء إلى الموت، فكيف يمكن الترجيح دون قصد أو غاية؟ وكيف يتم استبعاد الاحتمال المرجوح؟ ولماذا يتم استبعاده إن كان ممكنًا؟ ولماذا لا يكون الترجيح اختيارًا طبقًا للحرية أو للصلاح والأصلح وليس مجرد عشوائية لا قصد فيها ولا غاية؟ إن افتراض الشيء على غير ما هو عليه افتراض يقوم على الرغبة في تدمير العالم، ونفي أوضاعه، وتحيل إمكانيات لا وجود لها، فالشيء لا يمكن إلا أن يكون على ما هو عليه، فلا يصبح البرغوث فيلًا أو الفيل برغوثًا. ليس العالم ممكنًا بهذا المعنى الذي يدمره. فإذا كان الممكن هو أن يكون الشيء على غير ما هو عليه فليس المحيط ممكنًا؛ لأنه لا يمكن أن يكون على غير ما هو عليه فيصبح يابسًا. وليس الجبل الشاهق ممكنًا لأنه لا يمكن أن يكون على غير ما هو عليه فيصبح هوة سحيقة في باطن الأرض. إذا كان الممكن هو ما سوى «الله» فإن العالم ليس ممكنًا لأنه لا يمكن أن يكون على غير ما هو عليه، ويصبح «الله»! لا السماء ولا الأرض، ولا الشمس ولا القمر، ولا النجوم ولا الكواكب بممكنات، أي أن تكون على غير ما هي عليه، وإلا اصطدمنا بقوانين الطبيعة الثابتة وبأوائل العقول وبمبادئ الميتافيزيقا وفي مقدمتها مبدأ الهوية، وهو أن يكون الشيء هو هو وليس غيره، ومبدأ الاختلاف وهو أن يكون الشيء هو غيره، ومبدأ الثالث المرفوع وهو استحالة وجود وسط بينهما، فالشيء لا يمكن أن يكون ذاته وغيره في آن واحد. قد يكشف الدليل على هذا النحو عن انفعال ديني، وتمنٍ لعاجز، ورغبة مكبوتة لتغيير الواقع في الخيال والوهم، وليس في الواقع بالفعل. بل إن الدليل كله يصطدم في نهاية الأمر بما تواجهه الأدلة جميعًا من نقص في بيان كيفية الانتقال من عالم الأذهان إلى عالم الأعيان، من أحكام العقل الثلاثة، وهي أمور اعتبارية صرفة كما بان ذلك من «ميتافيزيقا الوجود» في نظرية الوجود إلى واجب الوجود بالفعل. يقوم الدليل إذن على حجة أنطولوجية كافتراض مسبق. فهو ليس دليلًا أولانيًّا بسيطًا؛ لأنه يعتمد على دليل آخر متضمن فيه وهو الدليل الأنطولوجي. وتظهر هذه الصعوبة في وصف أحكام العقل الثلاثة: هل هي قسمة للمعلومات، وهو ما يبدو من الدليل، أو قسمة الموجودات؟ وما الدليل على التوحيد بين المعلومات والموجودات إلا افتراض الدليل الأنطولوجي.٨٥

(٦) نقد الأدلة

هناك انتقادات عامة للأدلة كلها تقوم على إبطال التسلسل إلى ما لا نهاية، وعلى ضعف منطق الاستدلال، وعلى نوع المفاهيم والتصورات المستعملة إسقاطًا للمفاهيم الإنسانية على الطبيعة لاحظ القدماء بعضها ورأى المحدثون البعض الآخر. فمن حيث منطق الاستدلال، تقوم الأدلة كلها على بطلان الدور والتسلسل مع أن كليهما ممكن. فالدور هو التفكير العلمي، أي تبادل الأثر بين العلة والمعلول. فقد يكون الشيء علة نفسه، علةً ومعلولًا في آن واحد. السحاب علة للماء، والماء علة للسحاب، وهو المثل المشهور مثل «الدجاجة والبيضة»، فلا وجود لدجاجة أولى أو لبيضة أولى. كما أن التسلسل ما لا نهاية لا يستحيل سواء من الأوَّل الذي ينتهي بضرورة وجود علة أولى أو من الآخر الذي ينتهي بضرورة موجود أول. فذلك هو الفكر الديني في أقصى درجة من التجريد قبل أن يتحول إلى فكر علمي. ولماذا التفكير بطريقة الرجوع إلى الوراء للبحث عن العلة مرات عديدة وضرورة التوقف في التسلسل إلى علة مخالفة في الطبيعة والكمال لكل العلل؟ وحتى على فرض أن هناك تسلسلًا إلى ما لا نهاية، فلماذا يكون التسلسل دائمًا طوليًّا في خط مستقيم وليس دائريًّا، فتكون العلة اللاحقة علة للسابقة والعلة السابقة علة للاحقة دون أن يكون هناك سبب مطلق أو لحق مطلق؟ يبدو أن الفكر الديني فكر طولي تراجعي، في حين أن الفكر العلمي فكر دائري تقدمي.٨٦ ولماذا يكون التسلسل إلى ما لا نهاية مرفوضًا؟ إنه يمكن الذهاب إلى العلل المباشرة، ثم إلى العلل الأولى دون أدنى حرج علمي، وتكون صورية العلم بقدر البحث عن علل أولى للعلل المباشرة. بل إن التسلسل إلى ما لا نهاية يكون باعثًا مستمرًّا على تقدم العلم في حين أن الوقوف عند علة مفترضة بالقفز عن طريق القلب يوقف العلم. فما دام العلم قد وصل إليها ففيم العلم بعد ذلك؟ الحجة عن طريق التسلسل إلى ما لا نهاية حجة عاطفية خالصة؛ لأن اللانهائي صياغة عقلية لعواطف التأليه، حتى إذا كان الأمر متعلقًا بالرياضيات أو الطبيعة أو ما بعد الطبيعية.٨٧ كما يستحيل العلم «بالله» عن طريق إبطال الدور والتسلسل إلى ما لا نهاية؛ لأن ذلك إبطال للفكر العلمي، وإيقاف للفكر العقلاني عن تقدمه وتحوله إلى فكر علمي. فليس بديهيًّا تقدم المؤثر على الأثر أو العلة على المعلول. قد يؤثر الأثر في المؤثر، والمعلول في العلة، كما يؤثر الابن في الأب، والتلميذ في الأستاذ، والمنسوخ في الناسخ، والجديد في القديم، والحاضر في الماضي. هناك تبادل أثر وتأثر بين العلة والمعلول. وليست العلاقة من طرف واحد بل من طرفين. ليست أحادية الطرف بل مزدوجة الأطراف. هذه العلاقة الأحادية هي التي جعلت الفكر الديني كله يعطي الأولوية للعلة الأولى على العلة الثانية، و«لله» على العالم. وهي السبب التصوري الذي يجعل العلاقات الاجتماعية والسياسية ذات بُعد واحد، من الحاكم إلى المحكوم، ومن الرئيس إلى المرءوس، ومن الأعلى إلى الأدنى. وقد تنبه القدماء أيضًا إلى استحالة إثبات العلم بالله عن طريق إبطال التسلسل إلى ما لا نهاية.٨٨ فإيقاف تسلسل العلل إلى علة أولى يوجب التناهي، وهو مضاد لتصور اللامتناهي، وبالتالي يكون تسلسل العلل إلى ما لا نهاية أقرب إلى تصور التوحيد. كما أن وقوف التسلسل إلى علة أولى وقوف تعسفي ليس له ما يبرره من عقل أو واقع أو مطلب إلا رغبة إيمانية لإثبات «الله» كموجود أول أو كعلة أولى. كما أنه خوف من المجهول، وعجز عن حساب اللامتناهي، وهو الحساب الذي برع فيه علماء الرياضة القدماء، وإيثار للسلامة، وارتكان للأمان. ولا يمكن إثبات تناهي العلل عن طريق التصور الدائري للمكان، أي التقاء الطرفين، فما زال التناهي يرمز إليه بالخط الممدود من الجهتين على مساحة مسطحة. ولا يتطلب تسلسل الممكنات إلى ما لا نهاية بالضرورة وجود واقع أول، فالإمكانيات لا نهاية لها. ويأتي تحقيقها بالفعل من داخل الإمكانية، وليس من خارجها. واعتبار الممكن في حاجة إلى غير ممكن، لا هو نفسه ولا داخلًا فيه، هو التصور الخارجي للعلاقة بين الواجب الممكن على نمط التصور الخارجي للعلاقة بين الله والعالم.
أمَّا بالنسبة لضعف منطق الاستدلال فيبدو في عدة موضوعات، منها أنه إذا وُجد دليلان في كل مسألة ينفي كل منهما الآخر فيبطل المطلوب إثباته.٨٩ وقد برر القدماء ذلك برفض تكافؤ الأدلة، وبوجود دليلين أحدهما أقوى من الآخر فيبطل الدليل الضعيف أو ببطلان الدليلين معًا، ولا ينفي ذلك وجود الشيء. وذلك في الحقيقة معارض بمنطق الأصوليين بقاعدة «ما لا دليل عليه يجب نفيه». كما تقوم كثير من الاستدلالات على برهان الخلف، أي نفي النقيض حتى يثبت الشيء، وذلك مثل إثبات حدود العالم بنفي قدمه.٩٠ وهو برهان سلبي يعتمد على شمول الحصر. فإن لم يكن حصر الاحتمالات شاملًا انهدم الدليل. ونفي العكس ليس إثباتًا للشيء بل نفي لضده فحسب. ولا بد للدليل أن يكون مثبتًا خاصةً ولو كانت هناك احتمالات أخرى لم تدخل في الحصر الأوَّل. طبقًا لقاعدة «ما لا دليل عليه يجب نفيه» فإنه إذا غاب الدليل المثبت وجب نفي الشيء. وعادةً ما يكون إثبات بطلان قول الخصم ضعيفًا، فدليل الحدوث لا يقضي على اعتراضات الخصم و«تفنيد مزاعم القائلين بقِدَم العالم».٩١ كما أن اعتراضات الخصم ضد المطلوب إثباته تترك بلا رد. لقد عرف القدماء بعض الاعتراضات الأساسية ضد دليل الحدوث، ولكن سيادة الأشعرية طوت هذه الاعتراضات في حيز النسيان، فالأشعرية لا يعترض عليها لأنها وحدت نفسها بالصواب، مع أن هذه الاعتراضات هي القادرة الآن على بعث الوجدان الفكري في شعورنا القومي.٩٢
وهناك نقائص منطقية استدلالية أخرى في قلب عملية الاستدلال،٩٣ فمثلًا يكون السؤال عامًّا مثل: ما الدليل على أن للخلق خالقًا أو للعالم صانعًا؟ وتكون الإجابة خاصةً بتجربة التغير في الإنسان وأحواله. السؤال عن المخلوقات جميعها والإجابة عن تجربة واحدة. فهل يجوز الإجابة على سؤال عام بتجربة خاصة؟ هل يجوز على سؤال مبدأ إعطاء تجربة واقع؟ وكيف يمكن بعد ذلك التعميم والاطراد؟ وهل يثبت المبدأ بالتجربة. وإذا كان يسهل رد الأشعرية على ذلك لإنكارها صيغة العموم، فكيف يمكن مناقضة منطق الأصوليين الذي يثبت العموم؟ وإذا كان السؤال عن الأدلة على الخالق تكون الإجابة بنفي كون الإنسان خالقًا! والجواب غير السؤال، السؤال عن إثبات صفة لله والجواب عن نفيها عن غيره! هذا بالإضافة إلى ما يمثل ذلك من تعذيب للذات واتهام النفس بالعجز وتعويض ذلك بإثبات القدرة للغير. كما يقوم الدليل على إثبات الصانع قبل إثبات الصنع، والأولى إثبات الصنع أوَّلًا حتى يسهل بعد ذلك طلب إقامة الدليل على الصانع. ولا يغني عن ذلك اعتماد الأشعرية على أن الجدل يقوم على التسليم بأحد الافتراضات جدلًا. وفي كثير من الأحيان لا توجد حجج مقنعة عقلًا، بل توجد أدلة خطابية تعتمد على استهجان العامة من تصور بناء من غير بانٍ وكتابة من غير كاتب. وهو لجوء إلى البداهة الموجهة إلى الخصم الذي إن لم يعترف بها وصف نفسه بالجهل أمام استهزاء العامة وسخريتها من الحكيم. وهي في حقيقة الأمر تشخيص للأشياء وتركيز على الجهة الفاعلة دون العلل الصورية والمادية والغائية. والأخطر من ذلك كله انتقال الدليل من مستوى الطبيعة والكون إلى مستوى الإرادة الإنسانية وإنكار أن يكون الإنسان فاعلًا كسبًا أو اختراعًا، وبالتالي هدم الأشعرية لذاتها. مع أنه ما لا يقدر عليه إنسان لا يعني العجز عنه على مبدأ الأشاعرة، فكيف التسليم بالعجز؟ ولا يجوز إثبات المحدث مع نفي الأحداث والإيجاد إثباتًا للغائب على الشاهد على قصد وغاية. فمن أصول الأشاعرة لا يتعلق فعل المريد المختار بالقصد والغاية. والعجيب ألا يسلم الأشاعرة بالمنطق الأصولي ويعتبرون قياس الغائب على الشاهد عيبًا، وهو أساس الفكر الديني كله.٩٤ ويظنون أن الدليل يقوم على ضرورات العقول وبدايتها مع أنه يقوم على فكر تجريدي يكشف عن إيمان ديني خالص وتصور عامي شائع.٩٥ هذا بالإضافة إلى أنه لا يمكن الاستدلال بالنقل والخصم ينكره. فالاستدلال بمعنى الآية قد يعارض بمعنى آخر أو بآية أخرى، فكلاهما — الحجة ونقيضها — حجة سلطة. وإذا كان الغرض من استعمال الآية التقريب إلى الأفهام، فيمكن للخصم استعمال الشعر والمثل والحكمة الشعبية لتقريب ما يريد إلى أفهام خصومه، وهذا إقلال من شأن النقل ومن قيمة استعماله.٩٦
وقد يجد البعض في دليل الحدوث دورًا؛ إذ يقوم إثبات العرض على افتراض الجوهر، وإثبات الجوهر على افتراض العرض كما يقوم إثبات حدوث العالم على افتراض موجود قديم وإثبات الموجود القديم بحدوث العالم. والدور المنطقي هو في حقيقة الأمر موقف شعوري يقوم على عواطف التأليه وموجود في العالم. ليس المهم الأسبقية الزمنية للوجود في العالم أو لعواطف التأليه، بل المهم العملية الشعورية التي تحدث في شعور موجود في العالم وغارق في عواطف التأليه، وهي العملية التي تجعل من عواطف التأليه الأساس ومن العالم الفرع أو التي تجعل من العالم الفرع بناءً على عواطف التأليه كأساس.٩٧
وتقوم الأدلة على خلط في الألفاظ والمعاني والمصطلحات بالرغم من التنبيه على أهمية التمييز بينها قبل صياغة كل دليل.٩٨ هناك خلط في الأدلة بين القِدَم بالزمان والقِدَم بالذات. فالقِدَم بالذات وليس في الزمان، أي أنه قِدَم بالرتبة والشرف وليس قِدَمًا في الزمان، قِدَم ميتافيزيقي وليس قِدَمًا فيزيقيًّا. القِدَم بالرتبة والشرف قِدَم إنساني؛ لأن الرتبة أو الشرف مقولات إنسانية.٩٩ ليس الجوهر سابقًا على الأعراض بالزمان، بل هو سبق بالرتبة والشرف. فالقِدَم بالوجود الذي هو موضوع الأدلة هل هو مخالف للتقدم بالزمان أو الشرف أو الرتبة أو الطبع أو العلية؟ هل هناك تقدم بالوجود الخالص أم أن الوجود تجربة شعورية لا تنفصل عن القيمة وبالتالي فهو أيضًا بالرتبة والشرف؟ وكلها مقولات إنسانية خالصة من الزمان مثل القِدَم والحدوث أو عن الوجود مثل الجوهر والعرض أو عن الحرية مثل القدرة والاختيار والترجيح أو عن العواطف الإنسانية مثل الحاجة والافتقار. وإن كثرة استعمال ألفاظ تأثير واحتياج تدل على أن الاستدلال استدلال إنساني وجداني عاطفي وليس استدلالًا عقليًّا أو واقعيًّا. فالإنسان هو الذي يحتاج وليست الأشياء، وأن يكون المحتاج إليه له سبق الفضل على المحتاج.١٠٠ والافتقار مثل الاحتياج، الإنسان هو الفقير إلى «الله»، و«الله» هو الغني. ويمكن أن تُثار كثير من المشاكل الوهمية يمكن حلها بطريقة تثبت وجود ما يُراد إثباته، وبالتالي يكون الموضوع كله أقرب إلى التمرين العقلي لموقف وجداني، واتساق الوجدان مع العقل، واتساق الذات مع العالم. بل إن موضوع التقدم بالزمان نتيجة للوهم والخيال وليس بناءً على شهادة الحس أو أوائل العقل، تكشف عن البعد الوجداني الإنساني في الاستدلال.
إن أهمية هذه الأدلة في حقيقة الأمر ليست في أنها تثبت شيئًا، بل لأنها تكشف عن عمليات شعورية، كيف يحاول العقل التعبير عن عواطف الإيمان. فالبراهين على وجود «الله» هي محاولات الشعور للاستدلال عقلًا على وجود الذات المشخصة، محاولات عقلية خالصة يقوم بها الذهن لتبرير الموقف الشعوري وإعطاء أساس عقلي لعواطف التأليه، فالبراهين على وجود «الله» لا تثبت شيئًا في الخارج، بل تكيف الشعور مع ذاته، ومحاولة الذهن إعطاء أساس نظري لعواطف التأليه. والاتجاه العقلي الخالص الذي استطاع أن يمتص كل عواطف التأليه في الصياغات العقلية لا يحتاج إلى صياغة أدلة لإثبات ذات مشخصة تكون بؤرة لعواطف التأليه تتجمع حولها الصفات في حين أن الاتجاه العقلي النسبي الذي لا يكون معادلًا لعواطف التأليه يحتاج إلى مثل هذه الصياغات العقلية لصب ما تبقى من عواطف التأليه دون تصريف فعلي. الأوَّل يمثله المعتزلة، لذلك لم يحتاجوا إلى صياغة براهين على وجود «الله»، والثاني يمثله الأشاعرة الذين كانوا بحاجة إلى صياغة مثل هذه البراهين. وكلما زادت العقلانية قد لا يحتاج الشعور إلى مثل هذه النقطة الثابتة، سواء كانت ذاتًا أم فردًا أو غيرًا كي تتوقف حركة الشعور لديها، فالشعور في عملية التنزيه لا يتوقف مطلقًا. حركة الشعور ذاتها هي الموضوع دون أي تدخل من العقل أو من الإرادة لتثبيت نقطة فيه. وفي هذه الحالة يكون موضوع التنزيه ماهية خالصة بلا ذات. وإذا أعطيت للماهية معنى الذات فإن موضوع التنزيه يكون بلا ماهية ولا ذات. بل إن حركة الشعور ذاتها وعملية التنزيه التي لا تتوقف رد فعل على التجسيم والتثبيت بالذهاب إلى الاتجاه المضاد. لقد استطاع الذهن صياغة عدة أدلة تقوم في الحقيقة على أساس انفعالي واحد وهو الانتقال من هذا العالم إلى عالم آخر، من الحس إلى العقل، من المادة إلى الصورة، من الحادث إلى القديم، من الممكن إلى الواجب، من المركب إلى البسيط … إلخ. بناءً على عاطفة التطهر، وأن الحق المطلق ليس من هذا العالم بل يسود عليه من فوقه، وهي لغة الجماعة المنتصرة أو الحاكم المتعالي. والباعث على هذه القسمة العقلية في الحقيقة تطهر ديني وليس نظرة علمية لظاهرة موجودة، أي أنها نوع من التعبير الإنشائي وليست فكرًا خبريًّا، مهمتها تبخير العواطف والانفعالات وليس التحليل العلمي للواقع. وفي أسوأ الحالات، يعيش العقل على ذاته، ويتحول إلى ذات وموضوع في آن واحد حتى ينعدم الموضوع كتجربة حية في الشعور، وكأن الإنسان مع منطق خالص وينتهي الإحساس بالشيء. إن الاعتماد على القسمة العقلية والمحاجة بالأدلة تفقر الوجود، فالوجود أغنى بكثير من القسمة العقلية، وبالتالي يتحول الموضوع كله إلى مجرد جدل صوري فارغ يتبخر الموضوع فيه، فلا يوجد حينئذٍ إلا العقل الصوري، وكأننا بصدد موضوعات رياضية خالصة.١٠١

ويعترف المتكلم صراحةً بأنه يستخدم الطبيعة من أجل إثبات وجود «الله» وليس لدراستها وتحليلها وفهمها على ما هي عليه من أجل السيطرة عليها واستخدامها والانتفاع بها في حياته العملية. الطبيعية لديه مجرد حامل لأفعال إرادة خارجية مشخصة، وتتلخص دراسة الطبيعة في البحث عن هذه الأفعال والاستدلال بها على فاعلها الأوحد. فهو استخدام رأسي للطبيعة، يذهب بها إلى ما بعد الطبيعة، وليس استخدامًا أفقيًّا للطبيعة يجعلها تاريخًا حيًّا وعالمًا للإنسان يسكن فيه ويتصل مع الآخرين، ويحقق فيه رسالته. الطبيعيات إلهيات مقلوبة إلى أعلى كما أن الإلهيات طبيعيات مقلوبة إلى أسفل، فكل ما يصف به المتكلمون من حدوث للطبيعة إنما هو مقدمة للإلهيات الشائعة، وجود «الله»، الخلق من عدم. العالم حادث لأن «الله» قديم، والعرض في محل والجوهر في حيز لأن «الله» ليس في محل وغير متحيز. العالم فانٍ لأن «الله» باقٍ. العالم له أول لأن «الله» لا أول له. فكل ما يُقال في وصف العالم إنما هي إلهيات مسبقة أو إلهيات مقلوبة بالرغم مما يبدو عليها من رؤى حية تعتمد على الحس والمشاهدة وأوليات العقل وبديهياته.

فإذا كان العقل قد انتهى إلى فراغ، والطبيعة إلى أنها إلهيات مقلوبة، يكون السؤال: هل هناك براهين نظرية على إثبات الذات أم أن البراهين عملية خالصة؟ إن براهين إثبات الذات إذا كان المقصود منها الذات الفردية فإنها ليست براهين نظرية بل تجارب وجدانية بديهية. الذات موجودة ومرادفة للشعور، والشعور هو الوعي بالذات، والوعي بالعالم، والوعي بالآخرين. وهذا هو الوعي الطبيعي الشرعي. أمَّا إذا كان المقصود بالذات الذات الكلية، الحقيقة المطلقة، الوعي الشامل، فإن البراهين أيضًا ليست براهين نظرية لإثبات حقائق شيئية، بل براهين عملية لتحقيق هذا الوعي المطلق في التاريخ والذي تحول على أيدي المتكلمين إلى وعي مشخص نتيجة لفقدان الوعي بالذات والوعي بالعالم، وحتى أصبح وعيًا مزيَّفًا. وهذا هو المقصود من ارتباط التوحيد عند القدماء بالمسائل العملية كالسياسة؛ لأن التوحيد مرتبط أشد الارتباط بمسائل تحقيق العقيدة والرسالة في التاريخ وليس بالموضوعات النظرية.١٠٢

(٧) هل يمكن العلم بالذات؟

قد يتصدر موضوع إمكانية العلم «بالله» مبحث الذات قبل الأدلة على وجود الصانع، وقد ينهي مبحث الذات. يمكن أن يأتي في البداية كسؤال عن إمكانية وصف الذات في ذاتها أو بالنسبة إلى غيرها في مظاهرها، وقد يأتي في النهاية كاستدراك.١٠٣ وقد تظهر المسألة مع ذكر أوصاف الذات سواء قبل الحديث عنها أو بعدها. وقد تظهر أيضًا كمسألة عن مبحث الماهية وإمكان معرفتها في نهاية مبحث الصفات والتساؤل عن عددها. وقد يتصدر مبحث الماهية مبحث الصفات بعد تقسيمها إلى سلبية وثبوتية، وتتصدر السلبية، فالصفات السلبية أول محاولة لإقامة بناء تصوري للذات عن طريق نفي صفات التشبيه مما يتضمن الإجابة من قبل باستحالة العلم بالذات.١٠٤ وقد يلحق المبحث بالوجود كأول وصف للذات، وهو مبحث الماهية وإمكان معرفتها، وأنه ليس من البشر معرفة كنه «الله».١٠٥ ولهذا السبب أيضًا وضع في موضوع جواز الرؤية باعتبار أن الرؤية أحد مصادر العلم. فكلاهما مستحيل، الرؤية مستحيلة، والعلم بكنه «الله» مستحيل. ولكن لما كانت الرؤية أقرب إلى نفي المحل، فإنها وضعت في الاستحالة كأحد أحكام العقل الثلاثة. وكان يمكن أن يوضع إمكان العلم بالله أيضًا في الاستحالة لولا أنه بدأ كمقدمة لوصف الذات أو كنهاية قد تدل على التقريب والمشاركة. والحقيقة أن هذا التساؤل الذي صدر به القدماء بحثهم عن الذات وأوصافها أو ختموا به بحثهم عن صفات الذات إنما يكشف عن رؤية علمية لجوهر الفكر الديني، وهو إلى أي حد يمكن اعتبار هذه الأوصاف والصفات تصف شيئًا بالفعل في «الله»، أم أنها موقف إنساني خالص تقوم على قياس الغائب على الشاهد، وبالتالي قياس «الله» على الإنسان أوصافًا وصفاتٍ؟ إلى أي حد يمكن اعتبار الإلهيات إلهيات بالفعل تصف موضوع «الله»، أم أنها إنسانيات مقلوبة تكشف عن ذات الإنسان؟ فإذا كان الاحتمال الأوَّل هو الواقع يكون الفكر الديني قد أصاب موضوعه ورآه ووصل إليه وجودًا ومعرفةً. وإذا كان الاحتمال الثاني هو الواقع يكون الفكر الإنساني قد فرض نفسه وكشف عن جوهر الذات وهو أنها تخلق موضوعها عن ذاتها، فالموضوع هو الذات في مرحلة انعكاس الرؤية. وبالتالي يكون «الله» هو الذات التي تتحدث عن نفسها وتعلن عن وجودها للآخرين كمثال عندما يستحيل إثبات وجودها كواقع، فالاغتراب عن العالم هو بداية حديث الذات عن نفسها باعتبارها موضوعًا، أي باعتبارها «إلهًا»، خارج العالم، ويكون الوعي بالعالم هو شرط حديث الذات عن نفسها باعتبارها ذاتًا موجودًا في العالم.

لذلك قسم القدماء الحديث إلى نوعين: الأوَّل في وقوع العلم «بالله»، والثاني في جواز العلم «بالله»، والحديث عن وقوع سابق على الحديث عن الجواز، فحجة الواقع أبلغ من حجة الإمكان. وما دام الأمر أصبح واقعًا، فإنه بالضرورة يصبح ممكنًا. البداية هنا من الواقع إلى الفكر وليس من الفكر إلى الواقع، والبحث موجه نحو أشياء فعلية وليس عن افتراضات وهمية.

فمن حيث الوقوع يستحيل العلم «بإله»، وما قاله الفلاسفة أو المتكلمون أو الصوفية إنما هو نوع من التقريب، بلغة إنسانية، وبمفاهيم إنسانية، تعبيرًا عن تجارب إنسانية في مواقف إنسانية.١٠٦ وأن كل ما يقوله الإنسان عن «الله» إنما هو تقريب للأفهام، مرتبط باللغة وبالتجربة وبالموقف وبالعصر. وسيظل هناك باستمرار فارق بين الخطاب الديني والموضوع الديني لا يمكن عبوره بأي حال وإلا انتفى التعالي ذاته المعبر عنه بعبارة: تَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ.١٠٧ لا يمكن الحديث عن الله إذن إلا عن طريق التشبيه والتقريب، ولا يمكن الادعاء بأن الحديث عن الله مطابق لحقيقة الله. وقد استعمل القدماء في إثبات ذلك حججًا نقليةً عديدةً مثل: «كل ما خطر ببالك فالله خلاف ذلك»، وغيرها كثير من الكتاب والسنة والأثر، أو حججًا عقليةً تقوم على التفرقة بين الجوهر والأعراض. لا يمكن معرفة «الله» كجوهر، ولكن يمكن معرفة أعراض الجوهر أو تجلياته في العالم. وبلغة صوفية، لا يمكن معرفة «الله» بل يمكن فقط الاستدلال عليه من آياته في الكون.١٠٨ ولا يُقال إن «الله» ماهية لا يعلمها إلا هو، فذلك تحصيل حاصل؛ لأننا نتحدث هنا عن ماهية يمكن معرفتها، ونعلمها نحن.١٠٩ فالوجود هو معرفتنا به، والشيء إدراكنا له، فالمعرفة شرط الوجود، والإدراك إثبات للشيء. ولا يعني ذلك أن «الله» سر لا يمكن معرفته كما هو الحال في المسيحية، سر لا حيلة للإنسان أمامه إلا الإيمان به؛ لأن «الله» مبدأ معرفي، ووظيفة ذهنية تجعل الإنسان قادرًا على المعرفة وليس عاجزًا عنها. «الله» باعتباره تعاليًا يجعل الذهن في بحث مستمر عن الخالص والصوري، ويحميه من الوقوع في القطعية والمذهبية، أي في التوحيد بين اللفظ والمعنى، بين العبارة والدلالة، بين الصياغة والفكرة، بين الخطاب الديني والموضوع الديني. كما أنه مبدأ أنطولوجي يكشف عن الوجود كمطلب ويضع واجب الوجود كمقتضى في مقابل العدم، فالوجود هو الأساس والعدم طارئ عليه. وهو أيضًا مبدأ أخلاقي يعبر عن تمثل الإنسان لمثل أعلى عاملًا على تحقيقه، وكما عبر الأصوليون القدماء عن ذلك في وضع الشريعة للامتثال ووضعها للتكليف.١١٠ وهو مبدأ جمالي فني يجعل الإنسان قادرًا بالصوت على إدراك العلم وجماليات اللغة التي تكشف عن المعاني وتحيل إلى الأشياء. وهو مبدأ اجتماعي يظهر في نظام اجتماعي وفي تكوين أمة. وهو قانون تاريخي يظهر من خلال مسار التاريخ وحركته. فبالرغم من أنه لا يمكن معرفته إلا أنه موجود كمبدأ عام، وظيفة معرفية، أو حقيقة أنطولوجية، أو قيمة أخلاقية، أو نظامًا اجتماعيًّا أو قانونًا تاريخيًّا. بالرغم من أنه لا يمكن معرفته ﮐ «إله» إلا أنه يمكن التحقق من وجوده في الحياة الإنسانية الفردية والاجتماعية.١١١ وهذا هو ما قصده القدماء بأن ما يعرف منه أعراض كالوجود أو سلوب بنفي التشبيه أو إضافات ونسبة. يعرف وجودًا وليس كمعرفة، وهو خالص لا تشبيه فيه لأنه يعبر عن الوعي الخالص. ومع ذلك يُشار إليه عن طريق التقريب واللغة والمشاركة، فلا يعرف إلا بالنسبة والإضافة ولا يعبر عنه إلا باستعارة الأسماء، ومِنْ ثَمَّ يظهر قياس الغائب على الشاهد في التصور واللغة على السواء، كل الصفات إذن إمَّا معلومة أو تقريبية. المعلوم هو الوجود وكيفياته، مثل الأزلية والأبدية، أي هناك واجب الوجود قديم وباقٍ ثم صفات السلوب وهي نفي لا إثبات. أمَّا صفات المعاني فهي إضافية أي بالنسبة إلى شيء آخر، تقريبية توضيحية. وبالتالي لا يكون عند البشر معرفة كنه «الله».١١٢ ويستشهد القدماء بالعلم الطبيعي في عدم معرفة كنه الضوء أو المغناطيس على استحالة معرفة كنه الذات وبعلم النفس على استحالة معرفة كنه النفس. أمَّا معرفة الذات من الآثار فتلك هي الغاية من التوحيد بمعرفة الطبيعة. فالتوحيد توجه نحو الطبيعة أو فكرة موجهة للشعور نحو الطبيعة أو افتراض نظري تفسر على أساسه الظواهر الطبيعية. الوجود والكيفيات في «الله» تحيل إلى الجواهر والأعراض في الطبيعة، والسلوب والإضافة هما طريقا التنزيه والتشبيه في الحديث عن الوعي الخالص حرصًا على التعالي والتقريب في نفس الوقت، وتمسُّكًا بالمفارقة والحلول في آن واحد.
وقد أكد القدماء على ذلك أيضًا لإثبات أن هذه المعارف كلها سواء الصفات السلبية (ما يستحيل على «الله») أو الصفات الإيجابية (ما يجب «لله») أو الصفات الجائزة (ما يجوز على «الله») كلها صفات تقريبية تكشف عن وقوع الشركة فيها بين الإنسان و«الله». هي كلها صفات إنسانية تُقال على «الله» أو صفات «إلهية» تُقال على الإنسان. ولما كان الإنسان على علم بنفسه دون غيره، فإنها تكون صفات إنسانية تُقال على «الله» قياسًا، عن طريق قياس الغائب على الشاهد أو إسقاطًا عن طريق إسقاط ما في النفس على «الله» أو مجازًا عن طريق اللغة. الإنسان عالم قادر حي، سميع بصير متكلم مريد بالحقيقة، و«الله» كذلك بالمجاز حرصًا على التنزيه، وحفاظًا على التعالي: تَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ.١١٣ «الله» ليس موضوع إدراك حسي ولا إدراك شعوري نفسي ولا تصور عقلي، ومِنْ ثَمَّ لا يمكن معرفته. ولا يمكن القول بأنها متصورة بدليل الحكم عليها بأنها غير متصورة؛ لأن الحكم بالنفي نفي للحكم وليس إثباتًا له. وحتى ولو كانت متصورة نفيًا فإن ذلك لا يعني أنها متصورة إيجابًا. ويظل التصور الوحيد «لله» هو نفي التصور، وهو ما يعنيه التعالي أيضًا في العبارة السابقة. وبالتالي يكون التصور الوحيد «لله» هو أنه غير قابل للتصور، سواء كان هذا النفي للتصور في عرف المناطقة تصورًا أم غير تصور. إن معرفة وجوده شيء ومعرفة أوصافه وصفاته شيء آخر. إذ يمكن للإنسان أن يشعر بوجوده دون أن يتصوره، فالوجود سابق على المعرفة، والشيء سابق على تصوره.١١٤ وقد يذهب البعض درجة أكثر فينفي الوجود ذاته ويرفض اعتبار «الله» كائنًا أو وجودًا خالصًا قائمًا بنفسه ويرده إلى مجرد إثبات لاسم لا إثباتًا لواقع إمعانًا في تحليل الشعور ومعرفة كيفية صياغات العبارات.١١٥
أمَّا بالنسبة إلى جواز العلم «بالله»، فإن السؤال عن الإمكانية افتراض خالص لا يمكن الإجابة عليه إلا من خلال الواقع، والذي أعطى الإجابة بالاستحالة. ومع ذلك تستحيل إمكانية العلم «بالله» لأن «الله» لا يمكن أن يكون موضوعًا في قضية حملية. «الله» طبقًا للتعريف لا يحده حد، والحد لا بد له من جنس وفصل، والله ليس له جنس ولا فصل، وبالتالي استحال التعريف المنطقي.١١٦ لا يوجد إلا العلم عن طريق الرسم، أي التقريب والوصف الخارجي، وهو أقل يقينًا من المعرفة عن طريق الحد. أمَّا العلم الذي يقذفه «الله» تعالى في القلب فيتحول إلى علم ضروري وليس استدلاليًّا، فإنه علم ذاتي خالص، يحدث لفرد دون فرد. والعلم عن طريق الكشف والإلهام ليس من طرق العلم في أصول الدِّين التي أجمعت على النظر، ويخضع لنقد العلوم الكشفية مثل الفردية وغياب مقياس للصدق. ولا يمكن الحديث عن ذات «الله» مساوية لسائر الذوات أو مخالفة لها؛ لأنه لا يمكن معرفتها أصلًا حتى يمكن الإجابة على السؤال.١١٧ وكل ما لدينا من أحوال أو صفات أو معانٍ فكلها تقريبية مشتركة. ولا يمكن الحديث عن ماهية الله معراة عن الوجود أو عن الوجود معرًّى عن الصفات. فالقول بأن ماهية الله غير مركبة لأن التركيب يعني افتقارها إلى أجزائها وبالتالي تكون ممكنة أيضًا هو قول تشبيهي يقوم على أن الكل أفضل من الجزء، وأن الجزء يقوم بالكل. والماهية المعراة عن الوجود والعدم لا يعقل إمكانها. لا يوصف «الله» بالماهية لأنها تعني المجانسة للأشياء؛ ولأنها توجب المجانسات بفصول مقدمة فيلزم التركيب. أمَّا السؤال عن الحقيقة دون وصف، فإن أقصى ما يمكن معرفته هو بيان حدود اللغة، وأن الجنس هو الجنس اللغوي لا المنطقي، أي بيان أنه لا يمكن وصف ذات بشيء ذات، إنما كل شيء تقريب ومشاركة.١١٨ ولا يمكن أن تكون ماهية الله عين وجوده كما هو الحال عند الفلاسفة، فالوجود ليس الماهية، ولا يمكن وصفه بأنه متقيد بأنه غير عرض للماهية ﻓ «الله» هو الوجود المطلق.١١٩ كما أن ذلك يتنافى مع قول الفلاسفة عامةً بأن حقيقته غير معلومة للخلق. كما أن التعريف سلبي لأنه يقوم على غير التقيد أو على القيد السلبي، ولا يمكن تعريف الشيء سلبًا فحسب، فذلك جمع بين المعرفة والجهل في آن واحد. وفي هذه الحالة لا يفترق عن باقي الوجود المجرد من الماهية. ولا يمكن تصوره بالبداهة، ولا يمكن حده لأن الحد يقتضي التركيب، و«الله» ليس مركَّبًا. ولا يمكن معرفة الماهية إلا بذكر خواصها، ولا يمكن حصر الخواص. وكل الخواص تقريب من الإنسان وتقع فيها المشاركة. فإذا قيل الوجود كما تقول الفلاسفة فلا بد من معرفة صفاته، وبالتالي يكون الأسلم موقف المتكلمين، إذ لا يمكن معرفة شيء من وجوده، فالوجود أيضًا اشتراك؛ لذلك فضَّل المعتزلة القول بأن «الله» لا ماهية له؛ إذ لا تخلو الماهية من أن تكون هي الله، أو تكون غيره. فإن كانت غيره والماهية لم تزل فلم يزل مع «الله» غيره وهذا شرك. وإن كانت هو هي وكُنَّا لا نعلمها، فنحن لا نعلم «الله»، والجهل كفر. ولو كانت له ماهية لكانت له كيفية، وهذا تشبيه.١٢٠ ويفضل الفقهاء القول بأن لله ماهية هي أنيته نفسها، وأنه لا جواب لمن سأل ما هو الباري إلا ما أجاب به موسى فرعون. الجواب ليس لدينا ولا عند «الله». ومع ذلك فمن أبطل الماهية فقد أبطل حقيقة الشيء. ولكن أولى مراتب الإثبات الأنية، إثبات جود الشيء فقط. وفي غير الله اختلفت الأنية عن الماهية لاختلاف الأعراض في المسئول عنه. ونحن لا نعلم عنه إلا ما أخبر به هو عن نفسه.١٢١ والحقيقة أن القول بأن له ماهية هي أنيته تحصيل حاصل، فالماهية هي الأنية والمطلوب معرفة ما الأنية. ولا يمكن أن تكون هي الماهية وإلا وقعنا في الدور. ولا يمكن القول بأن «الله» قد وصف نفسه بهذه الصفات في كلامه، في الوحي، وأن الإنسان إنما يصف الله بصفات وصف «الله» نفسه بها وبالتالي تستحيل وقوع الشركة؛ وذلك لأن كلام «الله» عن نفسه مختلف عن كلام الإنسان عن «الله» مستعملًا كلامه عن نفسه. «الله» من حقه الحديث عن نفسه ولكن الإنسان ليس من حقه الحديث عن الله حتى ولو استعمل حديث «الله» عن نفسه، وإلا أخذ الإنسان موقف «الله». وفي هذا تجاوز لموقف الإنسان وزحزحة «لله» عن موقعه، كما أن كلام «الله» عن نفسه واصفًا إياها إنما هو خطاب للإنسان، بصفات إنسانية على وجه التقريب، وبلغة إنسانية. لقد استعمل «الله» أيضًا التقريب للأفهام، وبالتالي كان الوحي لغة إنسانية يتحدث بها «الله» لتفهيم الإنسان. فالشركة واقعة من داخل الوحي بغرض الإفهام والتقريب إلى الذهن، وما كان «الله» ليتحدث عن نفسه مباشرةً كاشفًا نفسه حتى يراها الإنسان مباشرةً ودون لغة.١٢٢ وما دام الإنسان قد أعاد قراءة حديث «الله» عن نفسه واصفًا إياها، فإنه لا يوجد ضامن أنه يفهم هذا الوصف تمامًا كما قصده «الله». إذ يخضع استعماله لوصف الله لنفسه في الوحي لقواعد التفسير وأصول التأويل. وعادةً ما يستعمله الإنسان لحسابه الخاص، بتجاربه وفهمه ومعانيه. ولا يوجد أي ضمان للتوحيد بين هذا الفهم وقصد «الله». إن الغاية من حديث «الله» في الوحي ليست وصف ذات «الله»، بل سعادة الإنسان ورفاهيته في هذه الدنيا، فإن قصد «الله» هو الإنسان، وبالتالي يكون حديث الإنسان عن «الله» ذاتًا وصفاتٍ وأفعالًا إنما هو قلب لقصد «الله» من الوحي، وتغيير لهذا القصد من الإنسان إلى «الله»، فإذا كان «الله» لم يأخذ ذاته موضوعًا للحديث فكيف يأخذ الإنسان «الله» موضوعًا لكلامه؟ إن وصف «الله» نفسه ذاتًا وصفاتٍ وأفعالًا إنما القصد منه إظهار البعد المبدئي المثالي في شعور الإنسان. فذات «الله» إنما هو الوعي الخالص، وصفاته إنما هي مجموعة المبادئ التي تنظمها الذات في إطار معرفي خالص. والأفعال إنما هي تحقق هذا الوعي المبدئي في التاريخ. وبالتالي لا تشير الذات والصفات والأفعال إلى كائن مشخص يعرف كل شيء، وقادر على كل شيء، بل تشير إلى هذا البعد النظري والعملي في الشعور الإنساني.
وفي الحركات الإصلاحية الحديثة بدأت الدعوة إلى العود إلى الأشياء من جديد، والتأمل في الآثار والآيات في العالم وليس في كنه الذات.١٢٣ ولكن ليس السبب في ذلك قصور العقول عن معرفة كنه الأشياء، بل العود إلى العالم واكتشاف قوانينه والقضاء على الاغتراب، وتحويل النظرة إلى خارج العالم دون تشخيص للحقائق. فالحديث عن «الله» يبرز عندما يتوقف الحديث عن العالم، وتشخيص الحقائق يبدأ عندما يعجز الإنسان بعقله عن فهم معانيها المستقلة وبإرادته عن تغييرها وتنظيمها وتوجيهها والسيطرة عليها. السؤال عن ماهية «الله» إذن يدل على وعي مغترب في العالم، وهو الوعي المزيف، في حين أن العود إلى العالم يكشف عن الوعي بالعالم، وهو الوعي الصحيح. إنه لا يكفي إنكار الماهية كما تفعل المعتزلة أو تحريم النظر في ذات «الله» كما يفعل الفقهاء، بل لا بد من بيان سبب هذا الإنكار وعلة هذا التحريم. ومتى يظهر السؤال عن ذات «الله» وفي أي ظروف اجتماعية وسياسية يتم مثل هذا التساؤل النظري الخالص، خاصةً وأن لفظ «ذات» في الوحي يشير إلى مضمون الوعي كما يعبر عن الاتجاه والحركة في المجتمع أو عن لب الأشياء وجوهرها الحسي بعيدًا كل البعد عن السؤال النظري لوعي مغترب.١٢٤
١  لم نضع كالعادة في بداية كل فصل الفقرة الأولى عن نشأة النظرية وتطورها كما فعلنا في نظريتَي العلم والوجود؛ وذلك لأننا عرضنا لذلك من قبل بالتفصيل في الفصل الثاني عن «بناء العلم».
٢  يبدو هذا التقسيم لأول مرة بوضوح في «الاقتصاد» للغزالي.
٣  هذا هو موقف «مقالات الإسلاميين»، «التنبيه والرد»، «الملل والنحل» في تاريخ الفِرَق بناءً على الأصول الأربعة وأولها التوحيد (الفِرَق، ص٣٢٣).
٤  الفقه الأكبر، ص١٨٤–١٨٧.
٥  المواقف، ص٢٦٦.
٦  التمهيد، ص١٢٣–١٢٦. وفي حديث مشهور: «خلق الله الخلق على معرفته، فاحتالهم الشيطان عليها.» وفي حديث آخر: «عرفت الأشياء بربي، وما عرفت ربي بالأشياء.»
٧  المسائل، ص٣٣٢–٣٤٠.
٨  يتضح ذلك في «المحيط» للقاضي عبد الجبار، «باب في بيان جملة أبواب التوحيد. أول ما يلزم المكلف معرفته على أصول خمسة: (١) إثبات الطريق إلى الله. (٢) إن المحدثات لا بد لها من محدث. (٣) ما يستحقه هذا المحدث من الصفات التي تجب لذاته. (٤) ما يجب نفيه عن الصفات التي لا تصح عليه في كل حال أو في بعض الحالات. (٥) إنه واحد في هذه الصفات، فلا أحد يشاركها في مجموعها نفيًا وإثباتًا ولا في آحادها أن يستحقه على الحد الذي استحقه تعالى» (المحيط، ص٣٥-٣٦).
٩  يجعلها الآمدي نظرية العلم الأوَّل، ومن تابعه من الحكماء المتقدمين (غاية، ص٢٠٣–٢٠٥).
١٠  لم يشر الإيجي إلى برهان الجوهر الفرد، أي الجزء الذي لا يتجزأ، بل اكتفى بعرضه في مبحث الأجسام. (المواقف، ص٢٦٦–٢٦٩). ويفصل الباقلاني قائلًا: «وقد سلك المتكلمون طريقين في إثبات الصانع: (١) الاستدلال بالحوادث على محدث صانع. (٢) سلك الأوائل طريقًا آخر وهو الاستدلال بإمكان الممكنات على مرجح لأحد طرفي الإمكان» (التمهيد، ص٢١٣–٢١٦).
١١  أصول الدِّين، ص٦٨–٧١. النظامية، ص١٣-١٤. الإرشاد، ص٢٨-٢٩. بحر الكلام، ص١٧. المحصل، ص١٠٦–١٠٨. طوالع الأنوار، ص١٥٢، ص١٥٥. الاقتصاد، ص١٥–٢١.
١٢  الاقتصاد، ص١٥. المسائل، ص٣٢٧–٣٣٨. المحصل، ص١٠٦–١٠٨. المواقف، ص٢٤٤–٢٤٩.
١٣  هذا هو اعتراض ابن الرواندي (الشامل، ص٢٥٨–٢٦٠).
١٤  يرفض الغزالي افتراض انتقال الأعراض على أساس أن للعرض محلًّا وللجوهر حيِّزًا (الاقتصاد، ص١٨-١٩).
١٥  هذا هو أيضًا اعتراض ابن الراوندي (الشامل، ص٢٥٩–٢٦١).
١٦  الشامل، ص٢٥٩.
١٧  الشامل، ص٢٥٩–٢٦١.
١٨  هذا هو رأي جهم بن صفوان (الإرشاد، ص١٢٥).
١٩  الشامل، ص٢٦١-٢٦٢.
٢٠  يكثر ابن حزم من هذه الأدلة بقوله: «نشاهد ذلك حسًّا وعيانًا»، «بالمشاهدة والحس»، «بالضرورة والعقل والحس …»، «إن الحس يوجب ضرورة أن … وهذا محال وباطل بالمشاهدة والحس» … إلخ.
٢١  يعيد ابن حزم صياغة هذه التجربة الحسية في خمس مقدمات: (١) كل شخص في هذا العالم وكل عرض وكل زمان متناهٍ. (٢) كل موجود بالفعل حصره العدد وأحصته طبيعته. (٣) ما لا نهاية له لا سبيل إلى الزيادة فيه. (٤) إن كان العالم لا أول له ولا نهاية له، فالإحصاء مناله بالعدد والطبيعة إلى ما لا نهاية له من أوائل العالم لما فيه من جمال لا سبيل إليه. (٥) لا سبيل إلى وجود ثانٍ إلا بعد أول «وأحصى كل شيء عددًا»، وكل شيء له أول! وبعد أن يثبت ابن حزم أن العالم ذو أول ينتهي إلى احتمالات ثلاثة: (١) أن يكون ذاته وفي هذه الحال يكون معدومًا وهي موجودة، وهو مستحيل، أو يكون موجودًا وهي معدومة، وهو مستحيل أيضًا، أو يكون كلاهما موجود وهو مستحيل كذلك. (٢) أن يكون قد حدث بغير أن يُحدِثه غيره، ومقبح أن يحدث هو نفسه! (٣) أن يكون قد أحدثه غيره. وهو المطلوب (الفصل، ج١، ص١٣–١٨).
٢٢  يظهر ذلك عند الباقلاني في قوله: «في حدوث الكائنات بأسرها بإحداث له سبحانه. وفيها الرد على المعتزلة والثنوية والطبائعيين والفلاسفة، وفيها تحقيق الكسب، والفرق بينه وبين الإيجاد والخلق» (التمهيد، ص٥٤).
٢٣  يقول القاضي عبد الجبار: «الطريق الذي يتوصل فيه إلى العلم بالله أنواع الأدلة، وأن معرفة الله لا تكون إلا بالعقل، معرفة الله بالنظر إلى أفعاله وأقسام الأفعال» (شرح الأصول الخمسة، ص٨٧–٩٢).
٢٤  هذا هو الدليل الذي عرضه القاضي عبد الجبار في «شرح الأصول الخمسة»، ص٨٩–١١٥، وفي «المحيط»، ص٣٦–٧٥. والأفعال ثلاثة عشر، وهي: الجواهر، والألوان، والطعوم، والروائح، والحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة، والحياة، والقدرة، والشهوة، والنفرة، والفناء. كلها يمكن الاستدلال بها على «الله» باستثناء الفناء الذي لا يُعرَف إلا بالسمع. والجواهر عشرة أنواع، خمسة من أفعال الجوارح، وهي: الأكوان، والاعتمادات، والتأليفات، والأصوات، والآلام، وخمسة من أفعال القلوب، وهي: الاعتقادات، والإرادات، والكراهات، والظنون، والأنظار. ولا يمكن الاستدلال بهذه الخمسة الأخيرة على «الله»؛ لأن المدلول فيها لا يتعلق بالدليل على نحو يجعلها تقع منه أولى من أن تقع من غيره؛ لأنها قد تقع مِنَّا وقد تقع من الله، إلا إذا أمكن التيقن من أنها تقع من الله، حينئذٍ يمكن الاستدلال بها. ويتحدث القاضي عبد الجبار عن أدلة الصانع وكلها قائمة على الاحتياج والأثر والدواعي والمقاصد والكراهات والصوارف والإرادات (شرح الأصول الخمسة، ص١١٨). ويعرض في «المحيط» لنفس الدليل ابتداءً من إثبات المحدثات الدالة على الله وإثبات الأعراض والأكوان.
٢٥  أول من استدل بهذه الصيغة هو أبو الهذيل العلاف.
٢٦  يسميهم القدماء جماعة الملاحدة ومنهم ابن الراوندي.
٢٧  يقيم الجويني حدث الجواهر على إثبات أربعة أصول: (١) إثبات الأعراض. (٢) إثبات حدثها. (٣) إثبات استحالة تعري الجواهر عن الأعراض. (٤) استحالة حوادث لا أول لها. فإذا ثبتت هذه الأصول الأربعة ترتب عليها أن الجواهر لا تسبق الحوادث وما لا يسبق الحوادث فهو حادث. (الإرشاد، ص١٧-١٨). كما يثبت حدث الأعراض بأصول ثلاثة: (١) استحالة عدم القديم. (٢) استحالة عدم قيام الأعراض بنفسها. (٣) استحالة انتقالها والرد على القائلين بالكمون والظهور (الإرشاد، ص١٩–٢٢؛ الشامل، ص١٩٣). ويصوغ الغزالي نفس الدليل في مقدمتين ونتيجة: (١) كل حادث فلحدوثه سبب. (٢) العالم حادث. (٣) … العالم له سبب. ويثبت المقدمة الثانية بمقدمتين فرعيتين: (أ) كل جسم أو متحيز فلا يخلو عن الحوادث. (ب) ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث (الاقتصاد، ص١٥). أمَّا الرازي فإنه يعطي صياغة أخرى على نفس المنوال مقدمتين ونتيجة: (١) ما سوى الله ممكن الوجود لذاته. (٢) كل ما كان ممكن الوجود لذاته فهو محدث. (٣) ما سوى الله محدث (المسائل، ص٣٣٧-٣٣٨). أو: (١) كل أجسام العالم متناهية في المقدار. (٢) كل ما كان متناهيًا في المقدار فهو محدث. (٣) الأجسام محدثة (المحصل، ص١٠٦–١٠٨). أمَّا الإيجي فإنه استعمل مقدمتين: (١) الأجسام لا تخلو عن الحوادث. (٢) ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث. ثم أثبت المقدمة الأولى بمقدمتين فرعيتين: (أ) الأجسام لا تخلو عن الأعراض. (ب) الجسم لا يخلو من الحركة والسكون وهما حادثان (المواقف، ص٢٤٤–٢٤٩). وتابعه في ذلك البيضاوي (طوالع الأنوار، ص١٣٢). وقد استطاع ابن رشد في غاية من الوضوح والإحكام صياغة دليل الأشاعرة لتفنيده في مقدمتين ونتيجة: (١) الجواهر لا تنفك عن الأعراض. (٢) الأعراض حادثة. (٣) ما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث (مناهج الأدلة، ص١٣٧–١٤٤) (لباقي الصياغات انظر: الاقتصاد، ص١٥–٢١؛ أصول الدِّين، ص٦٨–٧١؛ النظامية، ص١٣-١٤؛ الإرشاد، ص٢٨-٢٩؛ بحر الكلام، ص١٧؛ طوالع الأنوار، ص١٥٢، ١٥٥).
٢٨  يظهر ذلك بوضوح عند ابن حزم (الفصل، ج١، ص١٣–٢٠).
٢٩  اللمع، ص١٧–١٩؛ الشامل، ص٢٤٥–٢٤٨، ص٢٧٢–٢٧٤.
٣٠  يرد الجويني في عرضه للدليل على من يثبت حوادث لا غاية لها (الشامل، ص١٦٦).
٣١  المواقف، ص٢٢٦.
٣٢  التمهيد، ص٤٤.
٣٣  وهذا هو موقف الفلاسفة الذي يعرضه الغزالي كالآتي: «وهم (الفلاسفة) مصرحون بأن أجسام العالم تنقسم إلى السموات، وهي متحركة على الدوام، وآحاد حركاتها حادثة ولكنها دائمًا متلاحقة على الاتصال أزلًا وإلى العناصر الأربعة التي يحويها مقعر فلك القمر، وهي مشتركة في مادة حاصلة لصورها وأعراضها، وتلك المادة قديمة، والصور والأعراض حادثة متعاقبة عليها أزلًا وأبدًا، وأن الماء ينقلب بالحرارة هواء، والهواء يستحيل بالحرارة نارًا، وهكذا بقية العناصر، وأنها تمتزج امتزاجات حادثة فتتكون منها المعادن والنبات والحيوان، فلا تنفك العناصر عن هذه الصور الحادثة أبدًا ولا تنفك السموات عن الحركات الحادثة أبدًا» (الاقتصاد، ص١٧).
٣٤  يصل الجويني إلى حد تكفير من يقول بالظهور والكمون، ويصفها بأنها معتقدات فاسدة، ويقول: «ولولا ما قلناه للزم تكفير معظم البرية والتبرؤ منهم إذ لم يتكلم في الكمون والظهور واستحالة قيام العرض بالنفس إلا شرذمة من أهل العصر» (الشامل، ص٢٤٥–٢٤٨) (انظر أيضًا رفض الغزالي لنظرية الكمون في الاقتصاد، ص١٧-١٨). كما كفَّر أهل السنة والجماعة معمر وأتباعه من القدرية في قولهم: «الله لم يخلق شيئًا من الأعراض وإنما خلق الأجسام، وأن الأجسام هي الخالقة للأعراض في نفسها» (الفرق، ص٣٣٢).
٣٥  انظر الفصل السابق: نظرية الوجود، أوَّلًا: «ميتافيزيقا الوجود» (الأمور العامة)، العلة والمعلول.
٣٦  المحيط، ص٢١–٢٨. الدليل على استحالة عدم القِدَم.
٣٧  يضع الرازي الدليل كالآتي: (١) أجسام العالم متناهية في المقدار. (٢) كل ما كان متناهيًا في المقدار فهو محدث. (٣) الأجسام محدثة (المسائل، ص٣٣٨).
٣٨  الإنصاف، ص٣٠–٣٢.
٣٩  طوالع الأنوار، ص٢٣١.
٤٠  الشامل، ص٢٠٥–٢٧٤.
٤١  لمع الأدلة، ص٧٦–٨١.
٤٢  أصول الدِّين، ص٢٣–٦٦.
٤٣  شرح أصول الدِّين، ص٩٦–١١٥.
٤٤  التمهيد، ص٤٤-٤٥.
٤٥  إثبات العلم بالصانع (المحيط، ص٢٨–٣٥).
٤٦  المواقف، ص٢٦٦؛ الإنصاف، ص١٧-١٨. وسيظهر هذا الموضوع أيضًا في الفصل الثامن عن العقل والنقل.
٤٧  إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٢٢: ٧٣) (الشامل، ص٣٧٢–٣٧٤؛ النظامية، ص١٣-١٤).
٤٨  التمهيد، ص٤٥.
٤٩  المحصل، ص٨٤؛ طوالع الأنوار، ص١٢٧؛ أصول الدِّين، ص٥٥.
٥٠  يقول ابن حزم في ذلك: «باب في الكلام على من قال بأن العالم لم يزل وأنه لا مدبر له لا يخلو من وجهين: إمَّا أن يكون لم يزل (الدهرية) أو أن يكون محدثًا، لم يكن ثم كان» (الفصل، ج١، ص٩).
٥١  إبطال بالقِدَم بطريقة الأشعري وطريقة إمام الحرمين. القاعدة الأولى، في حدث العالم وبيان استحالة حوادث لا أول لها واستحالة وجود أجسام لا تتناهى مكانًا. مذهب أهل الحق من أهل الملل كلها أن العالم محدث ومخلوق، أحدثه الباري وأبدعه، وكان الله ولم يكن معه شيء. دوافعهم على ذلك جماعة من أساطين الحكماء وقدماء الفلاسفة مثل تاليس وأنكساغورس وأنكسمايس، ومن تابعهم من أهل ملطية ومثل فيثاغورس وأنبذقلس وسقراط وأفلاطن من أثينة ويونان وجماعة من الشعراء والنساك، ولهم تفصيل مذهب في كيفية الإبداع واختلاف رأي في المبادئ الأولى (نهاية الإقدام، ص٥). ويُلاحَظ هنا دخول الفلسفة اليونانية في الفكر الإسلامي في وقت متأخر، وهو رأي الفلسفة الإسلامية ومن تابعها من فلاسفة اليونان وليس العكس. وقد نفى الإمام الجريني استحالة حوادث لا أول لها؛ لأن الحادث هو الوجود الذي له أول، وينتهي إلى أنه إذا ثبتت الأعراض وثبت حدوثها، وثبتت استحالة تعري الجواهر عنها واستبان أن للحوادث أوَّلًا فيخرج من مضمون هذه الأصول أن الجواهر لم تعر عما له أول وإذا لم تعر عنه لم تسبقه أو لو سبقته لكانت عارية عنه وما لا يسبق ما له أول فله أول (الشامل، ص٢١٥–٢٢٣).
٥٢  كما يرفض ابن حزم قول من قال إن للعالم خالقًا لم يزل وإن النفس والمكان المطلق الذي هو الخلاء والزمان المطلق الذي هو المدة لم تزل موجودة وأنها غير محدثة. فالنفس عند هؤلاء جوهر قائم بنفسه حامل لأعراض لا متحرك ولا منقسم ولا متمكن أي لا في مكان. ثم يثبت ابن حزم حدث الأجسام بقوله: «لو كان الجسم أزليًّا لكان في الأزل إمَّا أن يكون ساكنًا أم متحركًا والقسمان باطلان، فبطل القول بكونه أزليًّا» (الفصل، ج١، ص٢١–٢٥).
٥٣  هذه هي طريقة الشهرستاني في إثبات حدوث العالم، وفي رأيه أن هذه هي أسهل الطرق وأحسنها عن طريق إثبات تناهي هذه الأشياء الخمس (نهاية الإقدام، ص٤٩–٥٣).
٥٤  هذه هي طريقة القاضي عبد الجبار، إذ يثبت الصنع بحجتين: الأولى الذي يدل عليه تصرفاتنا في الشاهد، فإنها محتاجة إلينا ومتعلقة بنا، وإنما احتاجت إلينا لحدوثها، فكل ما شاركتها في الحدث وجوب أن يشاركها الاحتياج إلى محدث، والثانية إمَّا أن تكون قد أحدثت نفسها أو أحدثها غيرها، ويستحيل الأوَّل لأن الفاعل غير متقدم على فعله (شرح الأصول الخمسة، ص١١٨–١٢٠).
٥٥  نهاية الإقدام، ص٢٠٣–٢٠٥؛ غاية المرام، ص٢٥٠–٢٥٢.
٥٦  هذه هي الشبهات التي يوردها القاضي عبد الجبار والشبهة الثانية عن الاحتياج للرازي الطبيب (شرح الأصول الخمسة، ص١١٥–١١٨).
٥٧  هذه الشبهات يوردها الشهرستاني، والثانية حكاية ابن سينا عن أرسططاليس، والثالثة من ابن سينا (نهاية الإقدام، ص٣١–٤٩).
٥٨  هذه الاعتراضات يوردها الرازي (المسائل، ص٣٣٨–٣٤٠).
٥٩  هذه الاعتراضات يوردها ابن حزم ويرد عليها (الفصل ج١، ص١٠–١٢).
٦٠  هذه شبهات أبرقلس بعد أن تحول إلى رافد للفكر الإسلامي (نهاية الإقدام، ص٤٨-٤٩).
٦١  يصور الرازي مذهب الدهريين والطبيعيين بقوله: «إن العالم قديم أزلي، فكما أن قرص الشمس لا يكون خاليًا عن النور أبدًا وإن كان جرم الشمس علة لوجود النور، كذلك ذات الباري ما كان خاليًا عن وجود العالم أبدًا وإن كان ذاته علة مؤثرة في وجود العالم» (المسائل، ص٢٣٣–٢٣٦). ويعرض الجويني لمذهب «الملحدة» بقوله: «فأصل معظمهم أن العالم لم يزل على ما هو عليه، ولم تزل دورة الفلك قبل دورة إلى غير أول، ثم لم تزل الحوادث في عالم الكون والفساد تتعاقب إلى غير مفتتح، فكل ذلك مسبوق بمثله، وكل ولد مسبوق بوالد، وكل زرع مسبوق ببذرة، وكل بيضة مسبوقة بدجاجة» (الإرشاد، ص٢٥–٢٧). والفلك هنا يعني الطبيعة والعالم الكبير وليس علم الفلك. وأهل الجنان يبقون إلى الأبد. فكما أن هناك حوادث لا آخر لها، فهناك حوادث لا أول لها. ويعرض الآمدي نفس الموقف قائلًا: «ذهبت طائفة من الإلهيين كالرواقيين والمشائين ومن تابعهم من فلاسفة الإسلاميين إلى القول بوجوب ما وجب عن الواجب بذاته مع وجوده. وإن قيل له حادث فليس إلا بمعنى أن وجوب وجوده لغيره لأن له مبدأ مستندًا إليه، ويتقدم عليه تقدُّمًا بالذات على نحو تقدم العلل والمعلول لا بمعنى أن حدوثه من عدم بل هو أزلي أبدي لم يزل ولا يزال. وكذلك حكم ما وجب عما وجب وجوده بالواجب، وهلم جرًّا» (غاية المرام، ص٢٤٨–٢٥٠). ويعرض النسفي لنفس الموقف قائلًا: «قالت الدهرية والزنادقة وأهل الطبائع لعنهم الله: العالم قديم، وكذلك النطفة قديمة.» ويوجه إليهم دليل التغير والحكمة والصنع المستمد من آية: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (بحر الكلام، ص١٤-١٥).
٦٢  اختلف الدهرية على ثلاثة مذاهب: (أ) أصحاب الهيولى الذين يقولون بحدوث الأعراض وأن الأجسام سابقة عليه. (ب) أزلية الدهرية الذين يقولون بأن الأعراض حوادث لا حادث منها إلا وقبله حادث إلى ما لا نهاية. (ﺟ) الذين يقولون إن الأعراض قديمة في الأجسام تكمن وتظهر، كل عرض ظهر كمن ضده، وإذا ظهرت الحركة كمن السكون. وإذا ظهر السكون كمنت الحركة (أصول الدِّين، ص٥٥-٥٦؛ التمهيد، ص٥٢–٦١).
٦٣  عند معمر: ليس في السموات والأرض واختلاف الليل والنهار دليل على الله ولا شاهد على وحدانتيه. وعند هشام بن عمرو الفوطي: ولا تأليف وافتراق يدل على الله، وذلك لأن هيئات الأجسام كلها لا تدل ليس في العالم لون ولا طعم ولا رائحة ولا حر ولا برد ولا يابس ولا بلة على خالقها (الانتصار، ص٥٧–٥٩).
٦٤  يمثل شبلي شميل، ويعقوب صروف، ونقولا حداد، وسلامة موسى، وإسماعيل مظهر، وزكي نجيب محمود، والقصيمي، وفؤاد زكريا هذا التيار في مقابل الفكر الديني القديم.
٦٥  انظر رفض إمام الحرمين لموقف الطبائعين وتفسيرهم الظواهر الطبيعية بالقوة والجذب والطرد في «النظامية»، ص١١–١٣.
٦٦  أنكر هشام وعباد أن تدل الأعراض على وجود الله (مقالات، ج١، ص٢٧٢). وقد علل الهشاميان ذلك بأن منها ما يثبت استدلالًا، وما يستدل به على الباري يجب أن يكون ضروري الوجود (الملل، ج٢، ص١٣٤-١٣٥). لو دلت الأعراض على الله نظريًّا لاحتاج كل دليل منها إلى دليل إلى ما لا نهاية (الفِرَق، ص١٦٢-١٦٣؛ الملل، ج١، ص١٠٩). وبينما يروي ابن الراوندي عن هشام قوله بأنه ليس في العالم لون ولا طعم ولا رائحة ولا حر ولا برد ولا يبس ولا بلة ولا تأليف ولا افتراق يدل على الله، وذلك أن هيئات الأجسام كلها لا تدل على خالقها. ويروي الخياط أن هشام الفوطي كان يزعم أن الأدلة على الله لا بد أن يعرف وجودها اضطرارًا والأعراض إنما يعرف وجودها باستدلال ونظر وإنما عنده الأجسام التي يعرف وجودها حسًّا ومشاهدةً لأن الله إذا دل على نفسه فقد قطع عذرهم وأزاح عللهم ولا بد في حكمته من أن يعرفهم ما نصب لهم من الأدلة على نفسه (الانتصار، ص٥٨-٥٩؛ غاية المرام، ص٢٠٣–٢١٢).
٦٧  يذكر الباقلاني أن للتعطيل خمسة وجوه: (أ) تعطيل العالم عن الصانع. (ب) نفي الصانع. (ﺟ) تعطيل عن الصفات. (د) تعطيل عن الأسماء. (ﻫ) تعطيل النصوص عن المعاني (التمهيد، ص١٢٣–١٢٦).
٦٨  يبين الجويني أن للحكماء في نفي الصانع طريقين: (أ) أن إثبات موجود قائم بنفسه مقدس عن الحادثات على ما يصير إليه الإسلاميون غير معقول. (ب) ما يتعلق بالتعديل والتجوير، أي أن فعل ما لا يتضمن ضررًا ولا نفعًا إلى الفاعل ولا يدفع ضررًا عنه من قبيل العبث والسفه (الشامل، ص٢٢٣. انظر أيضًا: الانتصار، ص٣٤–٣٦).
٦٩  يعرض الإسفراييني لهذا الموقف قائلًا: «خالفت الملاحدة في وجود الصانع أنه لا صانع للعالم ولا بمعنى أنه ليس بموجود ولا معدوم، بل واسطة، بل بمعنى أنه مبدع لجميع المتقابلات من الوجود والعدم والكثرة والوحدة والوجوب والإمكان. فهو متعالٍ عن أن يتصف بشيء منها. فلا يُقال له موجود ولا معدوم ولا واحد ولا واجب مبالغة في التنزيه. ولا خفاء في أن هذا بيِّن البطلان … هنا أقول كأنهم قصدوا بذلك أن مبدأ الكل هو الماهية العارية في حد ذاتها عن جميع الصفات» (الإسفراييني، ص٥٢).
٧٠  يصف الأشعري دليل تحول النطفة إلى العلقة ثم إلى اللحم والدم والعظم أو تحول طفل شابًّا وكهلًا وشيخًا دون أن ينقل نفسه من حال إلى حال، ويثبت استحالة أن تكون المادة قديمة لأن القديم لا يجري عليه التغير (اللمع، ص١٧–١٩. وأيضًا: بحر الكلام، ص١٤-١٥).
٧١  صحة إفناء العالم من صانعه (أصول الدِّين، ص٨٧-٨٨).
٧٢  هذا باستثناء «الرد على الدهريين» للأفغاني ردًّا على بعض الفِرَق المادية في الهند في معرض الرد العام على المادية الغربية لدى دارون والاشتراكيين والشيوعيين والعدميين.
٧٣  أصول الدِّين، ص٧٠؛ العضدية، ص١٥–١٧. وفي ذلك يقول البغدادي: «في أن صانع الحوادث أحدثها من لا شيء، ذهب الموحدون إلى أن الصانع خلق الأجسام والأعراض ابتداءً من لا شيء. وقالوا: لم تكن الحوادث قبل حدوثها أشياءً ولا أعيانًا ولا جواهرَ ولا عوارضَ. وبعد أن أحدثها صانعها يصح منه نقلها من صورة إلى صورة وإخراج جنس مخصوص من بين جنسين مختلفين في الصورة كإخراج البغل من بين الفرس والحمار، والسمع والعسبان من بين الذئب والضبع ونحو ذلك» (أصول الدِّين، ص٧٠). ويرفض ابن حزم أي مصالحة بين النظريتين، أي القول بقديمين، الله والعالم بناء على قِدَم العلة والمعلول معًا، ويرفض من قال: «إن العالم لم يزل وله مع ذلك فاعل لم يزل» (الفصل، ج١، ص١٩-٢٠).
٧٤  يصوغه ابن رشد في مقدمتين ونتيجة على النحو الآتي: (أ) تتركب الأجسام من أجزاء لا تتجزأ. (ب) الجزء الذي لا يتجزأ محدث. (ﺟ) الأجسام محدثة (مناهج الأدلة، ص١٣٥). ويتفق عليه الأشاعرة والمعتزلة بالرغم من اختلافها في عدد الأجزاء بين الواحد والجزأين والستة والثمانية والعشرة والست وثلاثين جزءًا (الشامل، ص١٥٧–١٦٠).
٧٥  هذا هو معنى أحد الاعتراضات الموجهة لمسلك بعض المتأخرين، وهو جواز أن تكون العلة التامة هو الممكن نفسه (المواقف، ص٢٦٧).
٧٦  وهذا هو معنى اعتراض أن علة المجموع قد لا تشعر بالتناهي (المواقف، ص٢٦٧).
٧٧  يرى القاضي عبد الجبار أنه يمكن إبطال الاستدلال على قِدَم الأجسام بأنها غير متناهية بإثبات الجزء الذي لا يتجزأ (المحيط، ص٣٥-٣٦).
٧٨  يقول الآمدي: «القسمة العقلية حصرت المعلومات في ثلاثة أقسام: واجب لذاته، وممتنع لذاته، وممكن لذاته، فالعالم إمَّا أن يكون موجودًا أو ممتنعًا أو ممكنًا» (غاية المرام، ص٢٥٠–٢٥٢).
٧٩  يعرض الرازي لهذه الصيغ البسيطة للدليل في المسائل، ص٣٤٠–٣٤٢.
٨٠  انظر مناهج الأدلة، ص١٤٤–١٤٩.
٨١  يقول الرازي: «قد عرفت أن العالم إمَّا جوهر وإمَّا أعراض، وقد يستدل بكل واحد منهما على وجود الصانع إمَّا بإمكانه أو حدوثه، فهذه وجوه أربعة» (المحصل، ص١٠٦–١٠٨؛ معالم أصول الدِّين، ص٢٦–٢٩؛ المواقف، ص٢٢٦).
٨٢  هو الدليل الذي ينتهي فيه إبراهيم بقوله: «لا أحب الآفلين.»
٨٣  ذلك واضح عند الآمدي بصورة خاصة (غاية المرام، ص٩–٢٣، ص٢٥٠–٢٥٢).
٨٤  ويتضح ذلك أيضًا في خاتمة الدليل عند الآمدي بقوله: «ولا محالة أن الباري متفرد بحقيقته عن جميع المناسبات والتعليقات، فإيجاده لغيره بالذات لا يكون معقولًا، فإذًا قد امتنع الإيجاد بالذات وتعين أن يكون بصفة زائدة بها التخصيص وهي المعنى بالإرادة. ومع ذلك فلا يلزم القول بلزوم القِدَم» (غاية المرام، ص٢٥٠–٢٥٧). وأيضًا قوله: «القول بوجوب وجود موجود، وجود له ذاته، غير مفتقر إلى ما يسند وجوده إليه، وكل ما سواه فوجوده متوقف في إبداعه عليه» (غاية المرام، ص٩).
٨٥  يشعر الآمدي بهذه الحاجة قائلًا: «المستحيل هو القول بأن لا نهاية فيما له وجود عيني، وهو في تعينه أمر حقيقي، فلا أثر له في القدح. فإن من نظر بعين التحقيق وأمعن في التحديق علم أن هذه الأمور وإن كانت تقديرية ومعاني تجويزية وأنه لا وجود لها في الأعيان فلا بد لها من تحقيق وجود في الأذهان» (غاية المرام، ص١٢-١٣). ويقول أيضًا: «والدليل يعتمد على الخيال وتصور للتناهي واللاتناهي، يعتمد على التقديرات الوهمية والتجويزية الخيالية.» وينتهي قائلًا: «القسمة العقلية حصرت المعلومات في ثلاثة أقسام … أي أننا في عالم الأذهان وليس في عالم الأعيان» (غاية المرام، ص٥٠–٢٥٣).
٨٦  يعتمد الرازي خاصةً لإثبات دليل الحدوث على إبطال الدور والتسلسل (المحصل، ص١٠٨-١٠٩).
٨٧  اللمع، ص٣٣-٣٤؛ الإبانة، ص٢٠؛ الإنصاف، ص٣٣.
٨٨  ومنهم البيضاوي خاصة (طوالع الأنوار، ص١٥١-١٥٢).
٨٩  يوضح الإيجي ذلك بقوله: «إن يوجد هنا في كل مسألة تراد مذهبان متقابلان فيردد بينهما ترديدًا مانعًا من الخلو ثم يبطل كل واحد منهما بدليل الآخر يلزم نفي القدر المشترك» (المواقف، ص٢٦٨).
٩٠  الاقتصاد، ص١٩–٢١.
٩١  يقول الآمدي: «وما اعتمد عليه أيضًا في هذا الباب، الجهابذة من المتكلمين وفضلاء المتقدمين المسلك المشهور والطريق المذكور وهو أنهم حصروا العالم في الجواهر والأعراض، ثم قصدوا لإثبات الحركة والسكون أوَّلًا ثم لبيان حدثها ثانيًا لبيان تناهيها ثالثًا ثم لبيان امتناع عرو الجواهر عنها رابعًا، ثم بنوا على ذلك أن العالم لا يسبق الحوادث، وكل ما لا يسبق الحوادث حادث. وهذه الطريقة وإن أمكن فيها بيان وجود الأعراض وكونها زائدة على الجواهر وإبطال القول بالكمون والانتقال فقد يصعب إقناع عرو جوهر عنها، بل وقد يصعب بيان حدث كل ما لا يعرى من الجوهر عنه في وجوده من الحركات والسكنات وحدوث الحركة وإن كان مسلمًا. فليس يلزم منه حدث ما بطل به من السكون، بل من الجائز أن يقول الخصم بقِدَمه وأنه لا أول له وفواته لا يدل على حدثه وإن دل على أنه لم يكن له ذلك لذاته» (غاية المرام، ص٢٦١–٢٦٣). لذلك يقيم الآمدي حجته على خطوتين: (أ) إبطال القوم بلزوم القِدَم. (ب) إثبات الحدوث بعد العدم (غاية المرام، ص٢٤٦-٢٤٧).
٩٢  يذكر الآمدي أربعة اعتراضات رئيسية: (أ) ضرورة إثبات مرجح لوجود الحادث لا بد أن يكون قديمًا حتى لا تتسلسل المرجحات إلى ما لا نهاية. (ب) ضرورة وجود مدة بينه وبين الباري وإلا التصق به. والمدة إذا كانت متناهية كان الباري متناهيًا، ولذلك فهي لا متناهية مثل الباري، وهذا يوجب قِدَم الزمان. (ﺟ) لما كان الوجود صفة كمال وعدمه نقصان فإن حدوث العالم يعني أن الباري لم يزل جوادًا وذلك نقص، أمَّا قِدَم العالم فإنه يستتبع أن الباري لم يزل جوادًا. (د) ضرورة قِدَم المادة كلزوم لقِدَم الزمان (غاية المرام، ص٢٦٥–٢٧٤).
٩٣  هذه هي اعتراضات المعتزلة على الدليل سواء بالمناقشة باللفظ أو بالترتيب في حكم النظر والجدل أو بالمعاني كما يوردها الجويني (الشامل، ص٢٧٥–٢٨٧).
٩٤  يقول الجويني: «أقصى ما قالوه (أنصار قِدَم الجواهر) الاستشهاد بالشاهد على الغائب، وهو باطل» (الشامل، ص٢٤٩–٢٥١).
٩٥  الشامل، ص٢٦٢–٢٦٤.
٩٦  يدل ارتباط أدلة إثبات الصانع بمنطق الاستدلال ما يرد كثيرًا في هذا الجزء من سرد لمناهج الاستدلال، فمثلًا يورد القاضي عبد الجبار ردًّا على اعتراض حول علاقة الدليل بالمدلول أربعة أنواع: (أ) أن ندل بطريقة الوجوب كما يثبت في العلل؛ لأنه لولا الحركة لما حصل متحركًا. (ب) أن ندل بطريقة الصحة فنقول لولا كونه قادرًا لما صح الفعل. (ﺟ) أن ندل بطريقة الدواعي والاختيار، فنقول لولا كون الفاعل للقبيح جاهلًا أو محتاجًا لما اختاره. (د) أن ندل بطريقة الحسن وهي الأدلة الشرعية، فنقول لولا وجوب الصلاة لما حسن من الله إيجابها (المحيط، ص٥٥-٥٦. انظر الفصل الثالث: نظرية العلم، الأدلة النقلية).
٩٧  يصوغ الآمدي حجته على خطوتين. (أ) إبطال القول بلزوم القِدَم. (ب) إثبات الحدوث بعد العدم (غاية المرام، ص٢٤٦-٢٤٧). ويقول: «وفي إبطال الأدلة سلك فيه المتكلمون بيان افتقار العالم إلى صانع مبدع أوَّلًا ثم بيان إبطال الإيجاد ثانيًا» (غاية المرام، ص٢٤٨–٢٥٠).
٩٨  يقول الجويني: «القول في حدث العالم ينبني على تقديم أصول وشرح فصول وإيضاح عبارات واصطلاحات بين المتكلمين، ولا يتوصل إلى أغراضهم إلا بعد الوقوف على مراجعهم ومعاني كلامهم فيما يحتاج إلى بسط القول فيه الشيء ومعناه وحقيقته والعرض وماهيته» (الشامل، ص٢٢٣).
٩٩  صاغ الشهرستاني رواية عن الآمدي دليل الحدوث ابتداءً من القول في أقسام التقدم والتأخر معًا حتى لا يقع المتكلم في الخلط بين التقدم بالزمان والتقدم بالشرف أو الرتبة، وجعلها: (أ) التقدم بالزمان. (ب) التقدم بالشرف (العالم والجاهل). (ﺟ) التقدم بالرتبة (الإمام والمأموم). (د) التقدم بالطبع (الواحد والاثنين). (ﻫ) التقدم بالعلية أو بالذات (الشمس والضوء). (و) التقدم بالوجود (المكان)، وذلك من غير التفات إلى سائر وجوه التقدم السابقة، وهو تقدم الله على غيره (غاية المرام، ص٢٥٨-٢٥٩). أمَّا الخصم فإنه يعترض على هذا القسم السادس ويرجعه إلى الأقسام الخمسة الأولى (غاية المرام، ص٢٦٠-٢٦١). ويذكر الشهرستاني خمسة أنواع من التقدم مبينًا السبب «ومدار المسألة على الفرق بين الإيجاد والإيجاب وبين التقدم والتأخر، وأن ما حصره الوجود فهو متناهٍ من غير فَرق بين الأقسام وما لا يتناهى قط لا يتصور إلا في الوهم والتخيل دون الحس والعقل. ولا بد من بحث على محل النزاع حتى يتخلص فيكون التوارد بين النفي والإثبات على محل واحد فيصبح انقسام الصدق والكذب والحق والباطل. ولا يتبين محل النزاع إلا بالبحث عن أقسام التقدم والتأخر.» وينفي كل أنواع التقدم خاصة المكان والزمان، ويظل فقط التقدم بالعلية (نهاية الإقدام، ص٧–٩؛ المحصل، ص١٠٨-١٠٩؛ الشامل، ص١٦٦، ص١٨٧–١٨٩؛ أصول الدِّين، ص٥٩-٦٠).
١٠٠  يستعمل الرازي كثيرًا مفاهيم الافتقار والاحتياج والاستغناء (المحصل، ص١٠٨-١٠٩؛ وكذلك النسفي: النسفية، ص٥٢؛ والتفتازاني؛ الإنصاف، ص١٧-١٨؛ التمهيد، ص٤٤-٤٥؛ النظامية، ص١١–١٣؛ الإرشاد، ص٢٨-٢٩؛ الشامل، ص٢٦٢–٢٦٧).
١٠١  وذلك مثلًا مثل حجج الغزالي في إثبات مقدمات دليل الحدوث (الاقتصاد، ص١٥–٢١). وكذلك حجج الرازي ضد قِدَم العالم (المسائل، ص٢٣٣–٢٣٦). ومثل قسمة الأشعري إلى احتمالات كون الجواهر قديمة، فهي إمَّا أن تكون مجتمعة أو مفترقة أو مجتمعة ومفترقة أو لا مجتمعة ولا مفترقة، ثم عرض كل احتمال على العقل (الشامل، ص٢٤٩–٢٥١). ويبدو ذلك خاصةً في المؤلفات المطولة مثل الشامل مثلًا، ص٢٢٣–٢٢٥.
١٠٢  وهذا هو السبب الذي لأجله غلب على كتب الفِرَق الأولى الطابع العملي في مسائل الإمامة والإيمان والعمل كما يغلب عليها مسائل التأويل والاختلافات في تفسير النصوص مثل: «التنبيه والرد»، «الفَرْق بين الفِرَق»، «مقالات الإسلاميين».
١٠٣  يأتي في البداية عند البيضاوي في طوالع الأنوار، ص١٥١-١٥٢، وفي النهاية عند الإيجي في المواقف، ص٣١٠-٣١١.
١٠٤  المحصل، ص١١٠-١١١.
١٠٥  معالم أصل الدين، ص١٧-١٨.
١٠٦  هذا هو موقف العقلاء المدققين الذي يعبر عنه الإيجي بقوله: «إن حقيقة الله تعالى غير معلومة للبشر، وعليه جمهور المحققين» (المواقف، ص٣١٠). ويقول الرازي: «ذهب ضرار من المتكلمين والغزالي من المتأخرين إلى أننا لا نعرف حقيقة ذات الله وهو قول الحكماء» (المحصل، ص١٣٦).
١٠٧  «التراث والتجديد: موقفنا من التراث القديم»، ص١٢٧–١٣٠، المركز العربي للبحث والنشر، القاهرة، ١٩٨٠.
١٠٨  يعبر الإيجي عن هذا الموقف بالحجة الأولى الآتية: «المعلوم منه أعراض عامة كالوجود أو سلوب ككونه واجبًا أزليًّا أبديًّا ليس بجوهر ولا في مكان أو إضافات ككونه خالقًا قادرًا عالمًا. ولا شك أن العلم بهذه الصفات لا يوجب العلم بالحقيقة المخصوصة، بل على أن ثمة حقيقة مخصوصة متميزة في نفسها عن سائر الحقائق. وأمَّا عين تلك الحقيقة فلا. كما لا يلزمنا من علمنا بصدور الأثر الخاص عن المغناطيس العلم بحقيقته المعينة بل بأن حقيقته مغايرة لسائر الحقائق.» المواقف، ٣١٠-٣١١. ويعرض الرازي نفس الحجة قائلًا: «المعلوم منه سبحانه، أمَّا السلوب كقولنا ليس بجسم، والماهية مغايرة لها لأن المعلوم من قدرة الله أنه أمر مستلزم التأثير في الفعل على سبيل الصحة، أمَّا ماهية القدرة فمجهولة … ولما دل الاستقراء على أنَّا لا نعلم من الله إلا السلوب أو الإضافات وثبت أن العلم بها لا يستلزم العلم بالماهية ثبت أنَّا لا نعلم الله حقيقة» (المحصل، ص١٣٦).
١٠٩  وفي قول آخر أن ضرارًا وحفصًا أثبتا ماهية لله لا يعلمها إلا هو، وهي رواية عن أبي حنيفة وجماعة من أصحابه من أهل السنة، أي أن الله يعلمها بلا دليل ولا خبر ونحن نعلمه بدليل وخبر (الملل، ج١، ص١٣٣-١٣٤؛ معالم أصول الدِّين، ص٥٨).
١١٠  هذه مصطلحات الشاطبي في الموافقات. انظر رسالتنا: Les Méthodes d’Exégèse, 3 iéme partie وأيضًا: The Revolution of the Transcendence, UNU, Tokyo, 1987.
١١١  انظر بحثنا: «المقومات الثقافية للشخصية العربية» (الدين والثورة في مصر، ج١، في الثقافة الوطنية).
١١٢  يقول الرازي: «في أنه ليس عند البشر كنه الله تعالى. والدليل عليه أن المعلوم عند البشر أحد أمور أربعة: إمَّا الوجود وإمَّا كيفيات الوجود وهي الأزلية والأبدية والوجوب، وإمَّا السلوب وهي أنه ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض، إمَّا الإضافات وهي العالمية والقادرية والذات المخصوصة الموصوفة بهذه الصفات. المفهومات مغايرة لها لا محالة، وليس عندنا من تلك الذات المخصوصة إلا أنها ذات لا ندري ما هي إلا أنها موصوفة بهذه الصفات. وهذا يدل على أن حقيقته المخصوصة غير معلومة» (معالم أصول الدِّين، ص٦٧-٦٨).
١١٣  هذه هي الحجة الثانية التي يقدمها الإيجي بقوله: «إن كل ما يعلم منه لا يمتنع تصور الشركة فيه، ولذلك يحتاج في نفيه عن الغير — وهو التوحيد — إلى الدليل. وذاته المخصوصة يمنع تصوره من الشركة، فليس المعلوم ذاته المخصوصة، وعكسه هو المطلوب» (المواقف، ص٣١١). ويقول الآمدي: «إن استدعاء التميز بالوصف الأخص إنما يكون عند الاشتراك بين الذوات، والباري مباين بذاته لجميع مخلوقاته، وأنه ليس بمجانس لها وإلا للزم أن يشاركها في كونها جواهر وأعراضًا، وكل ذلك محال، وهو الأغوص» (غاية المرام، ص١٣٤). ويعرض الرازي الحجة كالآتي: «لا يمكن تصور شيء إلا إدراكه بالحس أو غيره بالنفس أو نتصوره بالعقل أو ما يتركب عن الثلاثة، والماهية خارجة عن هذه الأقسام، وبالتالي فهي غير معلومة لنا» (المحصل، ص١٣٦).
١١٤  ذهب جمهور المتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة إلى أنها معلومة بحجة أننا نعرف وجوده، ووجوده عين ذاته، فلا بد وأن تعلم ذاته وإلا لكان الشيء الواحد بالاعتبار معلومًا ومجهولًا (المحصل، ص١٣٦).
١١٥  هذا هو رأي عباد بن سليمان (مقالات، ج٢، ص٢٨٣).
١١٦  هذا هو موقف الفلاسفة الذي يلخصه الإيجي كالآتي: «لأن المعقول إمَّا بالبديهة وإمَّا بالنظر. والنظر إمَّا في الرسم ولا يفيد الحقيقة، وإمَّا في الحد ولا يمكن تحديدها لعدم التركيب فيها كما مر، فلا يمكن العلم بها» (المواقف، ص٣١١). ومع الفلاسفة بعض الأشاعرة كالغزالي وإمام الحرمين. ومنهم من توقف كالقاضي أبي بكر وضرار بن عمرو. وكلام الصوفية في الأكثر مشعر بالامتناع دائمًا. شرح الجرجاني، ٣١١. ويقول البيضاوي: «في معرفة ذاته، مذهب الحكماء أن الطاقة البشرية لا تعني معرفته ذاته لأنه غير متصور بالبداهة، ولا قابل التحديد لانتفاء التركيب فيه؛ ولذلك لما سُئل موسى أجاب بذكر خواصه وصفاته، فنُسب إلى الجنون، فذكر صفات أبين وقال: «إن كنتم تعقلون.» والرسم لا يفيد الحقيقة. وخالفهم المتكلمون، ومنعوا الحصر، وألزمهم بأن حقيقته تعالى هو الوجود المجرد، وعندهم هو معلوم» (طوالع الأنوار، ص١٥٥). وقد أمسك هشام بن سالم ومحمد النعمان (شيطان الطاق) عن الكلام في الله. ورويا عمن يوجبان تصديقه أنه سُئل عن قول الله: وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى، قال: إذا بلغ الكلام إلى الله فأمسكوا عن القول والتفكر فيه حتى ماتا (الملل، ج٢، ص١٣٨).
١١٧  ماهية الله مخالفة لسائر الماهيات لعينها خلافًا لأبي هاشم، فإنه قال ذاته مساوية لسائر الذوات في الذاتية، وإنما تخالفها بحالة توجب أحوالًا أربعة، هي: الحية والعالمية والموجودية والقادرية … أكثر المعتزلة ذهبوا إلى أن جميع الذوات متساوية في الذاتية؛ لأن المفهوم من الذات عندهم هو ما يصح أن يعلم ويخبر عنه. والصفة التي تفرد بها أبو هاشم بإثباتها لله دون غيره هي صفة الإلهية (التلخيص، ص١١١-١١٢؛ المحصل، ص١١٠-١١١).
١١٨  المحصل، ص١١-١١٢؛ التلخيص، ص١١٢؛ النسفية، ص٦٣؛ التفتازاني، ص٦٣-٦٤؛ الخيالي، ص٦٣-٦٤.
١١٩  ذهب ابن سينا إلى أنه لا حقيقة لله إلا الوجود المتقيد بقيد كونه غير عارض للماهية (معالم أصول الدِّين، ص٣٦–٣٨؛ المحصل، ص١١٠-١١١؛ التلخيص، ص١١١-١١٢).
١٢٠  أجمعت المعتزلة على إنكار القول بالماهية، وأن لله ماهية لا يعلمها العباد (مقالات، ج١، ص٢١٥، ص٢٥٦). فصل في إبطال ما ذهب إليه ضرار من إثبات ماهية لا يعلمها إلا الله (المحيط، ص١٥٨–١٦٠). والعجيب أن الخياط يدافع عن المعتزلة في إنكار الماهية. وينسب ذلك القول إلى تشنيع ابن الراوندي الذي يروي دفاعًا عن قول ثمامة بالماهية أن القول بها كفر عند المعتزلة (الخياط، ص٨٧). ويروي ابن الراوندي أن ضرارًا وحفصًا يقولان بالماهية، وكذلك ثمامة وحسين النجار وسفيان بن سختان وبرغوث، في حين ينكر الخياط كون ضرار وحفص من المعتزلة لأنهما مشبِّهان يقولان بالماهية، وينكر قول ثمامة بالماهية (الانتصار، ص١٣٣-١٣٤).
١٢١  هذا هو قول ابن حزم عندما يساوي بين الأنية والماهية، ويقول إنَّا لا نعلم إلا ما علمه الله وهي أسماء الله الحسنى؛ لقوله: «ولا يحيطون به علمًا.» حتى إذا علمنا فإننا لا نحيط به علمًا (الفصل، ج٢، ص١٥٣–١٥٥).
١٢٢  وهذا ما طلبه اليهود ونفاه الله. انظر في آخر هذا الفصل موضوع الرؤية.
١٢٣  يستعمل حديث: «تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذاته فتهلكوا.» وتضيف «رسالة التوحيد» «ثم إن الله لم يجعل للإنسان حاجة تدعو إلى اكتناه شيء من الكائنات، وإنما حاجة إلى معرفة العوارض والخواص.» والمهم هو اتجاه العقل نحوها، وذلك عن طريق «النظر إلى الخلق يهدي بالضرورة إلى المنافع الدنيوية. وأمَّا الفكر في ذات الخالق فهو طلب للاكتناه من جهة وهو ممتنع على العقل البشري، لما علمت من انقطاع النسبة بين الوجودين ولاستحالة التركيب في ذاتها، وتطاول إلى ما لا تبلغه القوة البشرية من جهة أخرى، فهو عبث ومهلكة، عبث لأنه سعي إلى ما لا يدرك، ومهلكة لأنه يؤدي إلى الخبط في الاعتقاد ولأنه تحديد ما لا يجوز تحديده وحصر ما لا يصح حصره» (رسالة التوحيد، ص٤٨–٥١).
١٢٤  لفظ «الذات» لغويًّا هو أحد أسماء الخمسة الذي يدل على العلاقة بين شيئين في صيغة المؤنث المفرد. وقد استُعمل في القرآن مفردًا مذكَّرًا مرفوعًا «ذو» ٣٥ مرة، ومنصوبًا «ذا» ١٦ مرة، ومجرورًا «ذي» ٢٤ مرة، ومثنًى مذكَّرًا مرفوعًا مرتين «ذوا» ومنصوبًا مرة «ذوي» وجمع مذكر منصوبًا مرة أخرى «ذوي». أمَّا «ذات» فهي مذكورة ٣٠ مرة في المؤنث المفرد، ومرتين في صيغة المثنى، مرة مرفوعًا «ذواتا» ومرة مجرورًا «ذواتي». وهي تشير في استعمالها إلى مضمون الشعور ١٢ مرة في صيغة إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٣: ١١٩) (٥: ٧)، (٣١: ٢٣)، أو وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٣: ١٥٤)، (٦٤: ٤)، أو إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٨: ٤٣)، (١١: ٥)، (٣٥: ٣٨)، (٣٩: ٧)، (٤٢: ٢٤)، (٦٧: ١٣)، أو وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٦٤: ٤). والاستعمال الثاني الأكثر شيوعًا وصف لصفات الأشياء ١٢ مرة، مثل: السماء والأرض، والجنة والنار، والربوة والحدائق، والنخل والأفنان، مثل: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (٥١: ٧)، وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (٨٥: ١)، وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (٨٦: ١١)، أو الأرض: وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (٨٦: ١٢)، أو الجنة: وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ (٣٤: ١٦)، أو النار: سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (١١١: ٣)، النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (٨٥: ٥)، أو الربوة: وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (٢٣: ٥٠)، أو الحدائق: فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ (٢٧: ٦٠)، أو النخل: وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (٥٥: ١١)، أو الأفنان: ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (٥٥: ٤٨)، وهي كلها تشير إلى صفات الأشياء الحسية. وقد ينتقل الوصف إلى صفات الأفعال للأفراد والمجتمعات ثلاث مرات مثل الحمل في: وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا (٢٢: ٢)، أو الشوكة: وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ (٨: ٧)، أو البنيان والعمران: إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (٨٩: ٧). والاستعمال الثالث يشير إلى الحركة والاتجاه في المكان أربع مرات، مثل اليمين والشمال في: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ (١٨: ١٧)، وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ (١٨: ١٨)، ويشير استعمال واحد إلى العلاقات الاجتماعية مثل: وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ (٨: ١). والغريب أن الفقهاء وفي مقدمتهم ابن حزم لم يقوموا بهذا التحليل للفظ كما فعلوا في الصفة للتحقيق من شرعيته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤