ثانيًا: الصفات السبع

(١) مقدمة، السباعي: العلم، القدرة، الحياة، السمع، البصر، الكلام، الإرادة

لم تستقر صفات الذات في سبع إلا متأخرًا. فقد كانت الصفات عامة دون تفريق بين صفات ذات وصفات فعل، أو بين صفات وأوصاف، أو بين صفات وأسماء. فمع الصفات السبع وضع الأشاعرة أحيانًا بعض الأسماء مثل الجلال والإكرام والجود والإنعام والعظمة، فيتم التداخل بين الصفات والأوصاف أو بين الصفات والأسماء.١ وقبل استقرار البناء النظري للصفات، تظهر وكأنها لا تعد ولا تحصى. ولكن يثبت العلم والسمع والبصر والحياة بلا ترتيب، ويرفض القِدَم وغيرها من الصفات التي لم تذكر نقلًا. وتدخل أوصاف الذات مع صفاتها، وصفاتها مع أسمائها، ولا تتأكد القدرة في الثلاثي، وتتداخل صفات التشبيه مع مظاهر الإرادة.٢ كما تظهر الصفات في العقائد المتأخرة متداخلة مع الأوصاف.٣ وتدخل بعض أوصاف الذات ضمن صفات محتملة كالقِدَم وراء البقاء وإرجاع بعض صفات التشبيه إلى صفات تنزيه مثل إرجاع الوجه إلى الوجود.٤
وقد تزيد الصفات السبع إلى اثنتي عشرة صفة أكثر من ذلك أو أقل. فتزيد القوة على الثلاثي، وتنفصل الإرادة إلى إرادة ومشيئة، ثم تُضاف ثلاث أخرى: الفعل والتخليق والترزيق، على الكلام، فيكون المجموع اثنتي عشرة صفة. والحقيقة أن القوة تكرار للقدرة، والإرادة والمشيئة شيء واحد، أمَّا الفعل والتخليق والترزيق فهي صفة التكوين.٥ وقد لا يكون التكوين صفة مستقلة، بل داخلة في القدرة.٦ وقد تدخل صفات ثلاث أخرى: وصف الوحدانية للذات ثم صفتان وهما قائم وغني على الصفات السبع، تبدأ بالحياة ثم القدرة ثم تدخل إرادة في الثلاثي ويدخل العلم في الرباعي، ويكون المجموع عشرًا.٧ وقد تدخل بعض أوصاف الذات مثل: موجود، قديم، باقٍ، وتنفصل الوحدانية إلى واحد وأحد مع صفات الذات ويكون المجموع اثنتي عشرة صفة.٨ ولأول مرة تظهر صفة الإلهية كصفة زائدة على الثمانية.٩ فإذا ما أُثير سؤال: هل يمكن إدراك وصف الذات؟ وبالتالي يدخل موضوع الرؤية وافتراض الحاسة السادسة وكأن الصفات ليست تصورات عقلية بل رؤى عينية. وفي بعض الرسائل الإصلاحية يضطرب الإحصاء، وتظهر الحياة والعلم والإرادة والقدرة والاختيار والوحدة، ثم الصفات السمعية، مثل: الكلام، والبصر، والسمع، بزيادة الاختيار والوحدة من أوصاف الذات نظرًا لأهمية الاختيار في حرية الأفعال، ويكون المجموع تسعًا.١٠ وتظهر لأول مرة مسألة عدد الصفات في القرن السادس، هل ثمانٍ أم أكثر أو أقل، في معرض التخصيص ونفي المخصصات والمقادير في رفض التشبيه، وكأن إحصاء الصفات نوع من التشبيه وذلك بإدخال نوع من التجسيم العقلي والتصوير الذهني للساكن.١١
وقد تبدو الصفات أقل من سبع، خمس أو أقل، خاصةً إذا ما غاب العد والإحصاء، وبقيت كل صفة وما بها من مسائل وأهمها العلم والإرادة والكلام والسمع والبصر، وتختفي القدرة والحياة. قد تكون الصفات خمسًا: القدرة، والعلم، والحياة، والسمع، والبصر، ثم تدخل الإرادة في العدل. فإذا كانت الإرادة في العدم لتعلقها بحرية الأفعال، فلماذا الكلام؟ وتتصدر القدرة العلم في الثلاثي كاملًا لأهمية القدرة في نظرية العدل.١٢ وقد لا تذكر الصفات كلها، بل بضع منها فقط، وإسقاط الحياة مثل الإرادة، العلم، القدرة، الكلام، الإدراكات.
ولأول مرة تظهر الصفات السبع على أنها صفات معنوية يمكن إثبات العلم بها.١٣ وتظهر مسألة الصفات الأزلية حتى يتم إحكامها.١٤ وقد تُسَمَّى الصفات السبع صفات المعاني ثم يذكر إثبات الصفات السبع ثانية كصفات معنوية تأكيدًا لإثبات الصفات.١٥ وتثبت الصفات المعنوية لإثبات الأحوال. فالأشياء أربعة: موجودات، ومعدومات، وأحوال، واعتبارات.١٦ ولكل صفة مطلب، وهو وضع أوصاف الذات الست كمطالب لصفاتها السبع وزيادة مطلب سابع وهو التعلق بجميع الممكنات، فصفات المعاني السبع لكل واحدة سبعة مطالب إلا الحياة فلها ستة، وبالتالي الجملة ثمانية وأربعين مطلبًا.١٧ وقد تنقسم الصفات إلى قسمين: صفات تتوقف عليها أفعال كالقدرة والعلم والحياة وسائر الصفات مثل الإرادة ثم السمع والبصر والكلام (مع البقاء والاستواء والتكوين).١٨
ويبدو أنه لم يكن هناك وعي في الترتيب، وأن الأمر كان مجرد إحصاء دون بناء نظري محكم. كان الأمر مدحًا، وكيل المدح بصرف النظر عن طريقة التقديم.١٩ وكانت العبارات إنشائية خالصة قبل أن تتحول إلى مصطلحات دقيقة كما مرت في تاريخ كل دين في العقائد المسيحية مثلًا من تعظيم المسيح إلى ألقاب المسيح إلى عقائد المسيح.٢٠
وهذا التقسيم السُّباعي بالرغم من شيوعه عند القدماء، إلا أنه ليس جامعًا مانعًا، فتدخل معه صفات غيره دون أن تكون جزءًا من الثلاثي أو الرباعي مثل الألوهية أو البقاء أو العدم أو التكوين التي أفاض فيها القدماء كصفة مستقلة ثامنة.٢١ ويدخل السباعي فيما يجب على الله كما دخلت أوصاف الذات فيما يستحيل على الله.٢٢ وفي هذه الحالة تكون هناك سبع صفات للمعاني قد يختلف ترتيبها أو يتبع الترتيب المستقر. وكل صفة لها متعلق. فتضم القدرة والإرادة معًا لتعلقهما بالممكنات، والعلم والكلام يتعلقان بجميع الواجبات والممكنات والمستحيلات، والسمع والبصر يتعلقان بجميع الموجودات، والحياة لا تتعلق بشيء.٢٣ المتعلق إذن على ثلاثة أنواع، تعلق تأثير مثل القدرة والإرادة، وتعلق انكشاف مثل تعلق السمع والبصر والعلم، وتعلق دلالة مثل تعلق الكلام. تعلق العلم مع السمع والبصر، وتعلق الكلام بمفرده.٢٤ لذلك تثبت الصفات على أنها أسماء فعل وأسماء مفعولات، فتثبت القدرة والمقدورات، والعلم والمعلومات، والسمع والمسموعات، والرؤية والمرئيات، والإرادة والمرادات، والكلام ووجوه الكلام، إلا الحياة، فليس لها اسم مفعول لأنه ليس متعديًّا بل لازم. فالحياة ذات وموضوع في آن واحد، أنا أحيا وأنا موضوع حياتي.
وقد يتداخل الثلاثي والرباعي، فالفصل بينهما غير شائع ولا وارد بالرغم مما بين المجموعتين من اختلاف في المستويات في التنزيه والتشبيه وفي الذات والفعل. قد لا يوجد الثلاثي خالصًا، بل يوجد باستمرار متداخلًا مع الرباعي أو حتى مع أوصاف الذات أو مع باقي الصفات والأسماء. وفي العقائد المتقدمة لا تظهر الصفات الثلاث في مجموعة ثلاثية، ولا يثبت إلا العلم كنموذج لإثبات الصفات دون وعي بالثلاثي أو بترتيبه. وتظهر الصفات الثلاث مع ذكر أوصاف الذات. ويظهر العلم لإثبات الصفات والقدرة والحياة من أوصاف الصانع.٢٥ قد يتدخل الثلاثي مع الرباعي كما هو الحال في العقائد المتأخرة، فتُزاد الإرادة مع القدرة. وقد تُضاف الإرادة بعد القدرة، وتصير القدرة والإرادة والعلم والحياة.٢٦ وقد يتم التركيز على العلم والحياة من الثلاثي، ولا تظهر القدرة إلا مع صفات التشبيه أو مع المظاهر الانفعالية للإرادة.٢٧ ثم يأتي الكلام مركَّزًا على إعجاز القرآن، فالإرادة إذن هي العنصر المزاحم والنافر من الرباعي إلى الثلاثي. فقد تأتي الإرادة بدل الحياة.٢٨ وقد تبدأ القدرة السباعي وتُضاف إليها الإرادة وتأتي الحياة بدلًا عنها في أول الرباعي.٢٩ وفي العقائد المتأخرة يذكر السباعي ابتداءً من الحياة بعدها الإرادة ثم العلم، فيصير الرباعي ثلاثيًّا والثلاثي رباعيًّا بنقل الإرادة من الرباعي إلى الثلاثي.٣٠ وقد تأتي الإرادة في آخر الثلاثي والحياة في أول الرباعي.٣١ وقد يتداخل الثلاثي في الرباعي كليةً فتدخل الإرادة والسمع والبصر مع القدرة في رباعي، وتدخل الحياة والعلم مع الكلام في ثلاثي.٣٢ وقد تتصدر القدرة السباعي وبعدها الإرادة ثم العلم، وتتصدر الحياة الرباعي.٣٣ وقد تتصدر القدرة ثم العلم ولا تظهر الحياة إلا مع الرباعي بين الإرادة والكلام.٣٤ وقد تتصدر الحياة الثلاثي والإرادة الرباعي.٣٥ وقد ترحل الحياة من الثلاثي وتصبح ثاني وصف في الرباعي، وتأتي الإرادة الصفة الأخيرة في الرباعي بدلًا عنها.٣٦ وقد تأتي الإرادة أول وصف وتأتي الحياة في آخر السباعي ثم تأتي القدرة بعد الإرادة نظرًا لارتباطهما معًا.٣٧ وقد يأتي السمع والبصر مع الرباعي كبديل عن الحياة في الثلاثي نظرًا لارتباط السمع والبصر بالعلم.٣٨
ويُلاحَظ بالرغم من اختلاف مقاييس التصنيف عند القدماء أن التصنيف الشائع هو جعل الصفات سبعًا في ثلاثي ثم في رباعي. يضم الثلاثي العلم والقدرة والحياة، ويضم الرباعي السمع والبصر والكلام والإرادة.٣٩ يضم الثلاثي صفات الذات المطلقة التي ليس لها محل والتي هي أقرب إلى التنزيه، في حين أن الرباعي قد يتضمن صفات الفعل التي لها محل والتي قد توحي ببعض التشبيه. وهناك بعض الصفات المتكررة، فالقدرة هي الإرادة، والسمع والبصر كلاهما من ضرورات العلم، والكلام هو القرآن أي التعبير عن العلم وإيصاله. فإذا أمكن رد الإرادة إلى القدرة، والسمع والبصر إلى العلم، كان لدينا فقط العلم والقدرة والحياة. وبالتالي يمكن رد الرباعي الذي يخاطر بالتشبيه إلى الثلاثي الذي في أمان التنزيه. يأخذ العلم ثلاث صفات، والقدرة واحدة، وتبقى الحياة. وذلك يعني أن الحياة تظهر في صورتين: العلم والقدرة، أي العقل النظري والعقل العملي. أمَّا الكلام فهو وسيلة الانتقال من النظر إلى العمل، أي أنه الحكم على العالم بالنظر من خلال العمل. ويكون الكلام تعبيرًا عن الحياة بشقيها النظري والعملي.
وقد تأتي براهين كلية وشاملة على الصفات السبع كلها مرة واحدة، ودعامتها الأولى استحالة الحدوث والنقص. لذلك ارتبطت الصفات السبع بأضدادها السبع. ما يجب لله وما يستحيل على الله. فالعلم ضد الجهل، والقدرة ضد العجز، والحياة ضد الموت، والسمع ضد الصمم، والبصر ضد العمى، والكلام ضد البكم، والإرادة ضد الكراهية. ويصل أهمية الضد إلى أن تصبح الصفات المضادة صفات. ولما كانت الصفات سبعة معنوية وأضدادها سبعًا، وسبعة معانٍ وأضدادها سبعة، فيكون مجموعها ثمانٍ وعشرين صفة.٤٠ وعندما تتركز العقائد كلها في قطبي التوحيد والنبوة في «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، ويوضع التوحيد كله بين فعلي الاستغناء والافتقار، مستغنٍ عن كل ما سواه، وافتقار كل ما عداه إليه، تظهر ثلاث صفات من الرباعي في الاستغناء، ويظهر الثلاثي مع الصفة الباقي من الرباعي، وهي الإرادة، في افتقار كل ما عداه إليه.٤١ ويمكن البرهنة عقلًا على الثلاثي بمفرده، أمَّا الرباعي فيغلب عليه البرهان النقلي. لو انتفى من الثلاثي شيء لما وجد شيء من الحوادث، أمَّا الرباعي فيسهل البرهنة عليه من الكتاب والسنة والإجماع بالإضافة إلى استحالة سريان النقص عليها وإبقاء برهان الكمال. لو انتفت القدرة والإرادة كمتعلق لها، والعلم والحياة، لما وجدت المخلوقات حتى يحدث العقل والتأثير والقصد والخلق.٤٢

(١-١) الثلاثي: العلم، القدرة، الحياة

وكما يكون الثلاثي زائدًا، فإنه يكون ناقصًا، فتختفي القدرة وتظهر ضمن الحياة، ويكون التركيز على الحياة والعلم فقط.٤٣ وقد لا يظهر من الثلاثي إلا العلم عندما تتحول الصفات إلى مسائل دون إحصاء لها.٤٤ وقد يظهر العلم والقدرة وتختفي الحياة. ولكن استقر الثلاثي: العلم والقدرة والحياة، دونما زيادة أو نقصان.٤٥ وقد اضطرب الترتيب أيضًا قبل أن يستقر على هذا النحو. فقد تأتي الحياة قبل العلم،٤٦ وقد تأتي القدرة قبل العلم،٤٧ تصديرًا للثلاثي.٤٨

والسؤال الآن: هل يخضع هذا الترتيب النمطي لضرورة عقلية منطقية أم لضرورة حسية واقعية؟ فإن لم تكن الضرورة عقلية منطقية، فكيف يمكن معرفة واقع المؤلَّه إن لم يتم ذلك بقياس الغائب على الشاهد؟ لا توجد ضرورة واقعية في المؤلَّه تقتضي هذا الترتيب: العلم القدرة الحياة؛ لأن المؤلَّه تشخيص لعملية التأليه، أي أننا في ميدان العمليات الشعورية الخالصة وليس له وجود في الخارج، وحتى على افتراض وجود إله في الخارج طبقًا لمقتضيات الدليل الأنطولوجي، فإنه لا يمكن الوصول إليه إلا بالعقل، أي أننا لا بد وأن نرجع ثانيةً إلى عالم الأذهان، وفي هذه الحالة يعطينا الشعور الاحتمالات الستة السابقة، ويكون أولها: العلم القدرة الحياة، هو المعبر عن هذه الضرورة الذهنية. فللعلم والقدرة الأولوية على الحياة لأن العلم والقدرة أقل تشبيهًا من الحياة، لا يتطلبان محلًّا، في حين أن الحياة تحتاج إلى محل. ويكون للعلم الأولوية على القدرة لأن القدرة تحتاج إلى محل تظهر فيه في حين أن العلم لا يحتاج لدرجة التنزيه. فالصفة المنزهة سابقة على الصفة التي توحي بالتشبيه، وهو المقياس العام لتصنيف الصفات وترتيبها. والحقيقة أن هذه الصفات ليست معنوية خالصة، فالعلم يقتضي العقل، والقدرة تتطلب الإرادة، والحياة تتطلب القلب أو النفس أو الحرارة. فهي كلها صفات تشبيه وإن كان تشبيهًا معنويًّا.

وقد يدل هذا الترتيب على أن النظر يسبق العمل، والمعرفة تسبق القيمة، والقدرة تدل على أن العمل تالٍ للنظر، والوجود لاحق على المعرفة. أمَّا الحياة فهي شرط الجميع، وإن شئنا تكون الحياة نظرًا وعملًا، معرفةً ووجودًا، تخطيطًا وتحقيقًا، مثالًا وواقعًا. العلم والعمل ينشآن في الحياة، والحياة تعبر عن نفسها في العلم والعمل. العلم وصف للخبرات الشعورية وتحليل لها من أجل تغيير الواقع بالمعنى أو بالفعل وهو العمل. النظر يسبق العمل، والعمل يلي النظر، والحياة شرطهما معًا. لا يمكن للحياة أن تتلو العلم وتسبق القدرة، فالعمل تالٍ للنظر، والعلم يولد القدرة. ولا يمكن أن تبدأ القدرة، فالقدرة بلا علم عمل عشوائي أهوج غير مقصود. ولا يمكن أن تتلو الحياة القدرة، ويأتي العلم في النهاية وإلا كانت القدرة مجرد تعبير عن الحياة في إرادة القوة. ولا يمكن أن تبدأ الحياة، فالحياة وحدها يشارك فيها الإنسان والحيوان والنبات، ولا تميز الإنسان وحده كالعلم. ولا يمكن أن يأتي العلم بعد الحياة. ولا يمكن أن تبدأ الحياة تتلوها القدرة، فتكون هناك إرادة القوة، ولا يظهر العلم إلا في النهاية مبررًا وتاليًا ولاحقًا.

وقد تكون العلاقة بين الصفات الثلاث علاقة شرط بمشروط. فالحياة شرط العلم والقدرة. لا علم ولا قدرة بدون حياة. ولكن يأتي المشروط وهو العلم والقدرة في الترتيب سابقًا على الشرط وهو الحياة؛ لذلك تساءل القدماء: هل يجمع بين العلم والقدرة الموت؟ هل يمكن وجود المشروط دون الشارط؟ والجواب الطبيعي هو النفي؛ لأنه يستحيل منطقيًّا تصور المشروط بدون الشارط.٤٩ أمَّا الجواب بالإثبات فهو جواب ذهني خالص يقوم على افتراض استحالة ثم إثبات إمكانها دليلًا على العظمة والجلال والقدرة المطلقة التي تثبت معجزة عقلية، وهي إمكانية وجود الأضداد على خلاف العالم الإنساني الذي يستحيل فيه وجود الأضداد مجتمعة.٥٠ وإذا وجدت فإنها تدل أيضًا على قدرة المؤلَّه في الطبيعة وعلى قدرته الجمع بين الأضداد في الخلق. وبالتالي يكون السؤال أساسًا موضوعًا ليسمح بإجابة تعبر عن عواطف التعظيم والإجلال، وهي عواطف تعطي أحكام قيمة على عواطف التأليه. فهو ليس سؤالًا موضوعيًّا يعبر عن مشكلة واقعية، بل سؤال موجه نحو الذات، ونحو شخص المتكلم من أجل أن يسمح لنفسه بالتعبير عن عواطف التعظيم والإجلال حتى لا يظل على المستوى الإنساني وحتى ينفي أي مشاركة في الصفات. وقد تكون القدرة والحياة معًا شرطًا للعلم، ولكنهما أبعد عن المعقول من كون الحياة شرطًا للعلم والقدرة.٥١ وفي هذه الحالة يستحيل فصل القدرة عن الحياة، فكلاهما شرط العلم. فإذا تميز العلم في صفة بمفرده، فقد توضع القدرة والحياة معًا غير منفردين.
وبالرغم مما يُقال عن هذه الصفات الثلاث، وحدتها وافتراقها، مشروطها وشارطها،٥٢ فإنها في الحقيقة ملكات نفسية مشخصة ولا يمكن فهمها إلا بإرجاعها إلى تحليل وظائف الملكات النفسية. فإذا أخذنا التصور التقليدي للثلاثي من أن الحياة شرط العلم، والعلم والقدرة مشروطان، نجد أن الحياة هو الأساس، وأن العلم والقدرة لا يوجدان بدون الحياة. ويكون العلم حينئذٍ هو المظهر العاقل للحياة، والقدرة هي المظهر الفاعل لها. العلم هو النظر، والقدرة هي العمل، الوجه الآخر للنظر أو مصير النظر وغايته، والحياة شرط النظر والعمل، فالحياة لها مظهران: نظر وعمل. الصفات الثلاث إذن: العلم، والقدرة، والحياة، هي صفات الإنسان الثلاثة. تظهر القدرة من الإنسان الحر القادر، ويظهر العلم في الإنسان العاقل، وتظهر الحياة في الإنسان الفاعل، فالحياة هي الفعل، والعقل هو الحياة.
وبالإضافة إلى العلاقات الثلاثية إذا دخلت كل صفة في علاقة ثنائية مع أخرى تكون لدينا ثلاث علاقات: العلم والقدرة، الحياة والقدرة، العلم والحياة. فعلاقة العلم بالقدرة عند القدماء علاقة تبعية. العلم لاحق على الإرادة كحل لمسألة حدوث الصفات وقِدَمها. والعلاقة في الحقيقة علاقة إنسانية خالصة. العلم بلا قدرة علم العجائز، والقدرة بلا علم تعصب أعمى. العلم هو العلم القادر على التنفيذ وليس العلم الأجوف، والقدرة هي القدرة الواعية لا القوة الخرقاء. وهذا مطلب إنساني خالص. فكثيرًا ما نجد في الحياة العامة انفصل العلم عن القدرة. هناك علم عاجز لا يؤدي إلى فعل. كما أن هناك قوة غاشمة لا تستند إلى علم. حق الضعفاء علم بلا قدرة، وبطش الظالمين قدرة بلا علم. وهو الصراع التقليدي بين الحق والقوة، وهذا لا يعني الوقوع في البرجماتية الخالصة لأن العلم ما زال موجودًا.٥٣
وعلاقة القدرة بالحياة وضعها القدماء في صيغة السؤال التالي: هل يجوز أن تفرد الحياة من القدرة؟ وهو تساؤل لا عن واقع بل قائم على وضع استحالة منطقية وافتراض قيام المشروط على الشارط. الإجابة بالنفي رغبةً في اتِّباع المنطق وهو موقف إنساني عاقل. الكل لا يستنبط من الجزء.٥٤ والإجابة بالإيجاب رغبةً في الوقوع في التناقض كنوع من المعجزة العقلية ثم تجاوزها للتعبير عن عواطف التعظيم والإجلال، ويكون استخراج الكل من الجزء أكثر تعبيرًا عن العظمة والجلال؛ لأنه يتجاوز حدود الموقف الإنساني.
وعلاقة العلم بالحياة لم يتكلم عنها أحد من القدماء في حين أنها الموضوع الأساسي في تأسيس العلم. الحياة موضوع العلم، والعلم هو الأساس النظري للحياة. وتحدث الأزمة في العلم عندما ينفصل العلم عن الحياة فيكون العلم منقولًا لبيئة دون أن يكون تعبيرًا عن حياتها أو مبتورًا من بيئة أخرى، ويظن أن علم عام لكل عصر في حين أنه علم خاص نشأ في بيئة معينة وظروف خاصة لا يمكن تعميمه في بيئة أخرى، ولا يمكن تفسيره إلا بإرجاعه إلى بيئته الأصلية، وهي بيئة مؤقتة تتغير ويتغير العلم طبقًا لها. نقل العلم يخرجه من ظروفه ومن حركته التاريخية وأخذه لفترة من فترات التاريخ وحدها على أنها كل الفترات وكل العصور.٥٥ فضلًا عن طمس البيئة بعلم دون تنظير مباشر للواقع الخاص. وهناك فرق إذن بين نقل العلم وإنشاء العلم. والتنظير المباشر للواقع هو السبيل لإنشاء العلم حتى ولو كانت هناك تجارب مشابهة سابقة وتنظير محكم. العلم هو العلم في الشعور وليس العلم المنقول. «العلم في الرأس لا في الكراس.»
ولا يوجد في هذا الثلاثي أي مؤثرات أجنبية مسيحية أو غيرها. فمنهج الأثر والتأثير غير مجدٍ في تحليلات الشعور التي ترد الفكرة التي أسسها النفسية وليس إلى مصدرها التاريخي. يخضع هذا الثلاثي لضرورة عقلية خالصة ولمقاييس التصنيف التي ارتضاها القدماء نقلًا أو عقلًا. فالصفات الثلاث تدل على صفات الذات أو الصفات المعنوية أو الصفات الأولية بالنسبة إلى الرباعي. كما أن الثلاثي يكشف عن ماهية التجربة الإنسانية وبنية الشعور كحياة وبُعديها في النظر والعمل.٥٦

(١-٢) الرباعي: السمع، البصر، الكلام، الإرادة

وهو أقرب إلى التشبيه من الثلاثي، فالصفات الثلاث الأولى حواس، لها أعضاء حسية: الأذن والعين واللسان. وعادةً ما يأتي السمع والبصر معًا وكأنهما صفة واحدة، وبهذا الترتيب يسبق السمع البصر إلا مرة واحدة يتغير الترتيب إلى البصر والسمع أو توضع الإرادة بينهما.٥٧ وقد ترتبط الإرادة بالكلام ارتباط السمع بالبصر؛ لأن الكلام لا يصدر عن هوًى، بل هو وحي، ومِنْ ثَمَّ ارتبط بالإرادة التي يمتنع فيها الهوى والانفعال. وقد يرتبط الكلام بالإرادة لإثبات قِدَم الكلام وخضوعه لأمر «كن».٥٨ وقد أخذت صفتا الكلام والإرادة أهمية أكبر من السمع والبصر. فنظرًا لأهمية الإرادة يُعقد لها باب خاص بالإضافة إلى الصفات كما يُعقد لخلق القرآن أبواب خاصة بالإضافة إلى الكلام.٥٩ وقد تظهر الشيئية متميزة عن الإرادة، ويختفي الكلام وكأن الشيئية بديل عنه.٦٠ وقد يقل الرباعي إلى ثنائي السمع والبصر عندما تدخل الإرادة والكلام في العدل ويخرجان من التوحيد، أي من نظرية الصفات إلى نظرية الأفعال.٦١

والآن ما هو مقياس الترتيب النمطي القديم، السمع والبصر والكلام والإرادة؟ السمع والبصر مرتبطان بالعلم ومستواه الحسي، والكلام هو التعبير واللغة وإيصال العلم. والإرادة تجعل العلم والتعبير والعمل وباقي الصفات خارجة عن نطاق الهوى والانفعال. السمع والبصر يلحقان بالعلم أي بالعقل النظر، والإرادة تجعل العلم خالصًا لا يقوم على هوًى أو كراهة للعالم، ويعبر عن العلم في كلام في العالم قبل أن يتحقق بالقدرة.

وقد يبدأ الكلام أول الرباعي نظرًا لأهمية الكلام على السمع والبصر والإرادة، فيتصدر الرباعي. وقد يُعقَد له فصل خاص مع الإرادة باعتبارها أهم من السمع والبصر، ولكن يغلب عليها نظرًا لأهميته، في حين توضع باقي الصفات حتى العلم والقدرة والحياة متداخلة مع باقي أوصاف الذات ودليل الحدوث والإعادة. وقد يظهر الكلام ضد نفاته من دعاة خلق القرآن، والإرادة ضد نفاتها من دعاة حرية الأفعال، ويثبت السمع والبصر مع اليدين والوجه وباقي صفات التشبيه مما يدل على اقتراب هاتين الصفتين بصفات التشبيه. وقد يبدأ الرباعي بالإرادة نظرًا لأهميتها في حرية الأفعال، فتتصدر الإرادة.٦٢

والرباعي: السمع والبصر والكلام والإرادة، صفات مطلقة كالثلاثي. وإذا كانت توحي بالتشبيه فإن التشبيه في الحقيقة لا يعني الصفات الحسية بل الصفات كصور فنية للتعبير عن معاني. الرباعي أقرب إلى وسيلة التعبير منه إلى الشيء المعبر نفسه. وسيلة التعبير هي الصورة الفنية في حين أن الشيء المعبر عنه هو المعني، وقد استطاع التنزيه حقًّا التمييز بين أسلوب الوحي ومضمونه، ورفض اعتبار التصوير، وهو أسلوب التعبير في الوحي، هو المضمون نفسه.

لذلك كان علماء البلاغة والنقد الأدبي أصدق في حديثهم عن أساليب الاستعارة والكناية، وكذلك علماء القرآن في حديثهم عن التخييل من المتكلمين. فالوحي لا يعطي أحكامًا على وقائع بل يعطي إيحاءات للتأثير على النفوس. أحكام الوحي ليست أحكامًا طبيعيةً، بل أحكام شعورية. ولا يعني صدق الوحي إعطاء وصف للتاريخ الموضوعي بل استخلاص المعنى المستفاد منه، أي أنه يعطي معاني مستقلة لا حوادث مادية. وقد حاول الفلاسفة من قبل نفس الشيء عندما تحدثوا عن ضرورة التأويل حتى يتفق النص مع العقل والحقائق الإنسانية العامة. السمع والبصر والكلام توجد كصور فنية في الوجه. فالوجه أو الرأس يحتوي على الأذن والعين والفم، وليس ذلك بأولى من الذوق والشم واللمس. فهل السمع والبصر أقدر على الإدراك من اللمس والذوق والشم؟ هل الفنون السمعية والبصرية، الموسيقى والشعر أو التصوير والرسم والنحت والعمارة والزخرفة أقرب إلى النفس من فنون الطعوم والروائح والملموسات؟ هل أولوية السمع والبصر في الترتيب تعطي أولوية للفنون السمعية على الفنون البصرية؟ أليس الكلام سمعًا؟ وماذا عن باقي أعضاء البدن كوسيلة للكلام إمَّا بتعبيرات الوجه أو بحركات اليدين كما هو الحال في فن الإيحاء ولغة البدن؟٦٣

(٢) العلم

بالرغم من استقرار العلم على أنه أول صفة في السباعي، وبالتالي في الثلاثي، إلا أنه يظهر أحيانًا مع أوصاف الذات.٦٤ كما يظهر مع الأوصاف الستة الأخرى (باستثناء الكلام) ضمن الأوصاف.٦٥ ويظهر بمفرده في معرض إثبات الصفات بعد الكلام وقبل الإرادة.٦٦ وقد يظهر على أنه ثاني صفة في الثلاثي والسباعي معًا بعد القدرة أو بعد الحياة.٦٧ ويظهر كثالث صفة في السباعي والثلاثي معًا: القدرة والحياة والعلم أو القدرة والإرادة والعلم.٦٨ ومع ذلك استقر العلم على أنه الصفة الأولى حتى في حالة غياب العد والإحصاء أو حتى في حكم نفي الصفات.٦٩ ويظهر في المؤلفات المتأخرة على أنه الصفة الوحيدة في الثلاثي التي تستحق معالجتها في فصل مستقل؛ لإثبات أنه أزلي واحد، متعلق بجميع المعلومات على التفصيل، كلياتها وجزئياتها.٧٠
وقد عرض القدماء لعدة مسائل في العلم مثل معرفة الله لذاته، ومعرفته لغيره، سواء الجزئيات اللامتناهية أو الكليات المتناهية، والأدلة على العلم عند الحكماء والمتكلمين. فقد سأل القدماء هل يعلم الله ذاته؟ العلم هنا متجه نحو الذات، أي أنه علم بالذات لذاتها، وليس علمًا بموضوع خارج عنها، الذات ذات وموضوع. فالإجابة بالنفي تقوم على أن العلم أعراض. فلو علم ذاته لكانت مُضافة إلى نفسه، وإضافة الشيء إلى نفسه محال. ولكن الوعي بالذات ممكن وقائم، وعي الذات بالذات لا يستحيل، ولا يدل ذلك على قسمة بل على درجة من الذاتية فتنبثق الموضوعية منها. والإجابة بالإيجاب تجعل علم المؤلَّه المشخص بذاته أليق، فكيف بعالم لا يعلم ذاته؟ هناك علم من ناحية وذات من ناحية أخرى. ولما كان العلم مطلقًا فإنه يشمل العلم بالذات. وكيف بعالم يعلم الخارج ولا يعلم ذاته؟ بل إن العالم بالذات شرط العلم بالعالم الخارجي.٧١
وإذا كان العلم بالذات ممكنًا فإن العلم بالغير يكون ممكنًا كذلك، فالعلم بالذات هو علم بالغير لأن الذات هي الغير، بل إن الوعي بالذات هو في نفس الوقت وعي بشيء أي وعي بالآخر، وهذا لا يعني أن هناك علمين: علم بالذات وعلم بالموضوع، بل علم واحد، وتغاير الموضوع لا يعني تغاير العلم. ليس هناك علم بالذات يكون أشرف من العلم بالموضوع كصفة للذات، فهذه ثنائية تركيبية لا توجد في وحدانية الذات. وليس من شرف الذات أن تكون وعيًا فارغًا، وعيًا بلا شيء، خارج نطاق العالم، فهذا إسقاط للموضوع وتحديد للعقل وتفضيل لحكم الشرف والقيمة على حكم العقل والواقع. ويقوم إنكار علم الذات بالغير على عدة حجج منها: أنه لو عقل شيئًا لعقل ذاته، وهذا محال لاستحالة حصول النسبة بين الشيء ونفسه، وهو محال. وهي حجة مبنية على افتراض مسبق هو استحالة العلم بالذات، كما أن علمه لا يكون ذاته وإلا كان ذاته قابلًا وفاعلًا أي موضوعًا وذاتًا، وهو محال. لو قامت بذاته صفة لكانت ذاته مقتضية لها، فيكون قابلًا وفاعلًا معًا وهو محال. والحقيقة أن هذه الحجة تقوم أيضًا على افتراض استحالة العلم بالذات ولا تقوم إذا ما ثبت خطأ الافتراض. فإن قيل أيضًا: لو كان العلم صفة كمال لكان الموصوف به ناقصًا لذاته ومستكملًا بغيره، وهي نفس حجة نفي الصفات. والحقيقة أن الوعي بشيء ليس نقصًا في الوعي بالذات، بل أحد مظاهر كماله، وإلا كان الوعي فارغًا بلا مضمون. ولا يدل ذلك على احتياج وعوز وفقر، فتلك لغة تشبيهية إنسانية، ولكن تدل على بناء الوعي على أنه وعي بذاته ووعي بغيره. أمَّا باقي الحجج فإنها مستمدة من الحجج العامة لإثبات الصفات، مثل احتمال تعدد القدماء إذا ثبتت الصفات أو افتراض التركيب ضد الوحدانية، وأن العالمية والقادرية واجبتان ولا تعللان بقدرة أو بعلم، فالموجب للعالمية ذاته إمَّا بواسطة (الصفاتية)، أو بلا واسطة. والعلم لا يختص بمعلوم دون معلوم وإلا وجب الحدوث والترجيح والتخصيص والإضافة والتأثير. وقد تُقال حجة جدلية لنفي علم كل شيء مثل أنه لو علم شيئًا لعلمه بعلم، وهذا العلم الثاني بعلم ثالث ويتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية، وبالتالي يستحيل العلم لأن الوعي بالذات لا يحتاج إلى وعي بالوعي لأن الوعي بالوعي هو وعي بالذات، علم كامل لا يحتاج إلى علم آخر كي يتم العلم به. وبداهة التجربة الإنسانية وإدراكها المباشر أصدق من أية حجة جدلية منطقية صورية فارغة.٧٢
وقد ينكر العلم بما لا نهاية له، فلا يعقل إلا المتناهي، وذلك لأن المعلومات تتطرق إليها الزيادة والنقصان ولأن كل معلوم متميز عن غيره مفتقر إليه، فهو متناهٍ، ولأن العلم بالمعلوم مخالف للعلم بغيره، فلو كانت المعلومات غير متناهية لكانت العلوم كذلك. والحقيقة أن هذا خلط بين موضوع العلم وقانون العلم. فإذا كانت موضوعات العلم غير متناهية فلأنها جزئية، والأجزاء لا تتناهى، أمَّا إذا كان موضوع العلم هو القانون العلمي فالقانون متناهٍ لأنه مطَّرد في عدد لا متناهٍ من الأجزاء.٧٣
لذلك أنكر الحكماء العلم بالجزئيات، أي بالوقائع اللامتناهية عدًّا وإحصاءً وإدراكًا، وأثبتوا فقط العلم بالكليات عقلًا واستنباطًا واطِّرادًا. وحجة الفلاسفة أن ذلك يوجب تغيُّرًا في علم الله وجهلًا بتغير الوقائع. وقد رد المتكلمون على الحكماء بعدة حجج، منها أن فاعل أبدان الحيوانات لا بد أن يكون عالمًا بجزئياتها، وأن العلم صفة كمال تجب لله والجهل صفة نقص تستحيل على الله. ولما كان العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول، وجب علم الله بالجزئيات، فعلم الله الأزلي فيه ماضٍ وحاضر ومستقبل، فحقيقة أنه سيقع غير حقيقة أنه وقع لاختلاف المتعلقين، وأن شرط العلم هو الوقوع، ويمكن العلم بأنه وقع مع الجهل بأنه سيقع وهو مُحال. والحقيقة أن هذه مسألة إنسانية صرفة يظهر فيها التقابل بين العلم القبلي العقلي الاستنباطي والعلم البعدي الحسي الاستقرائي، وكلاهما مطلبان للمعرفة الإنسانية، والتوحيد بينهما أحد غايات الحكمة. وبالرغم من علم الذات بالغير إلا أنه علم قبلي، سابق على البداهة. ومن الطبيعي أن يركز الحكماء عليه لأنه في الذهن الإنساني سابق على التجربة، وبالتالي أشرف من العلم التجريبي المستقى من العالم الخارجي، الأوَّل صوري عام يقيني والثاني مادي جزئي ظني. لذلك كانت المثالية أكبر تعبير عقلي عن عواطف التأليه، فإذا حاول العلم الطبيعي التعرف على نظام الكون والتعبير عنه في نظرية مستقلة، فهو ليس صفة مجردة لكائن مشخص، بل فهم للطبيعة في مقابل ما بعد الطبيعة التي تحاول فهم هذا العلم كنسق عقلي خالص لا شأن له بالطبيعة. ومن صفات العلم الشامل هو التحقق. لذلك لم ينفصل عن المشيئة والإرادة. فهو عالم بكل الكليات والجزئيات، الموجودات والمعدومات، الغائبات والحاضرات، المتغيرات والمفارقات، الواجبات والممكنات، عالم بما وقع وبما سيقع كيف يقع وبما لم يقع لو وقع كيف كان سيقع! فالعلم أعم تعلُّقًا من القدرة لأنها تختص بالممكنات دون الواجبات والممتنعات.٧٤
ومع ذلك يثبت الحكماء العلم. فالواجب عالم لأنه مجرد، وكل مجرد عالم لأن التجرد يستلزم المعقولية والبراءة من الشوائب، وعلمه مجرد لا ينال إلا بالتجريد. العلم هو صور المعلومات القائمة بنفسها أو بذاته. أي أن الحكماء يثبتون العلم بدليل مزدوج مؤداه أن الله مجرد، وكل مجرد عاقل لجميع الكليات، وأنه يعقل ذاته وبالتالي فإنه يعقل ما عداه وهو دليل عقلي استنباطي صوري خالص. كما أشار الفلاسفة إلى دليل الإتقان نظرًا لأن أفعال محكمة متقنة، وبالتالي فهو عالم. المقدمة الأولى حسية، والثانية عقلية، ولكن الغالب عليهم كان الحجة الأولى.٧٥
والعلم عند المتكلمين صفة قائمة بذاته، تنكشف بها له جميع الأشياء من الواجبات والممكنات والمستحيلات. العلم انكشاف، وهو صفة كمال في الوجود، والانكشاف مقولة إنسانية خالصة توحي بجهل الشيء ثم علمه، وهو ما يستحيل على الله. أمَّا تعريف العلم بأنه نسبة العالم إلى غيره فإنه أيضًا يعتمد على كون الصفة غير الموصوف، وبالتالي الوقوع في مخاطر التغاير والتعدد على عكس العلم القائم بالذات. وبالإضافة إلى مشاركة المتكلمين للحكماء في الدليل العقلي إلا أنهم فصلوا الدليل الحسي إلى دليلين لإثبات العلم، دليل الإتقان ودليل القدرة. ويقوم دليل الإتقان على أن نظام العالم وحكمة الصنع يقتضيان إثبات العلم، وأن التأمل في المخلوقات لا بد وأن ينتهي إلى العلم بعلم الصانع، وكما هو واضح في عديد من الآيات في أصل الوحي. يبدأ الدليل بالتأمل في أحوال المخلوقات وفي تشريح الأبدان وفي مسار الأفلاك، وأن كل ذلك إنما يتم عن اختيار وتوجه وقصد، ولا يمكن أن يقوم ذلك إلا بالعلم، إذ لا يمكن التوجه وقصد ما ليس بمعلوم. ويقوم الدليل على أصلين: الأوَّل نظام الكون واتفاق الصنع والثاني دلالة ذلك على الفعل المحكم وبالتالي عن كونه عالمًا، الأصل الأوَّل اضطراري والثاني استدلالي. والاعتراض الأساسي على هذا الدليل هو وجود القبح والشر والفوضى في العالم وكيفية تفسير ذلك أو تبريره. فمثلًا قد يكون خلق القبح لطفًا في أداء الواجبات ودعوة لشكر النعم، وقد يكون ابتلاءً وامتحانًا واختبارًا وشحذًا للهمة وإعمالًا للاختيار. والواقع أن هذا الدليل مثل الأدلة على إثبات الصانع تشخيص لنظام الطبيعة. فنظام العالم ناتج عن قوانين الطبيعة الثابتة التي يكتشفها العقل. وأن استعمال ذلك كدليل لإثبات عالم ذي علم مشخص هو استمرار في الخلط بين العقل والوجدان، بين الفكر العلمي والفكر الديني.٧٦
أمَّا دليل القدرة فإنه في حقيقة الأمر أقرب إلى إثبات القدرة منه إلى إثبات العلم. ولكن نظرًا لارتباط القدرة بالعلم في الثلاثي، فإنه لا يمكن إثبات العلم دون إثبات القدرة؛ لأن العلم واقع متحقق، ولا يمكن إثبات القدرة دون العلم وإلا كانت قدرة عمياء هوجاء لا قصد فيها ولا توجه، وهو ما يناقض الوعي التي تقوم الصفات به. يرتبط العلم بالقدرة، سواء من حيث الإثبات أو من حيث الوصف. فالعلم أوسع من القدرة لأن العلم يتعلق بكل الممكنات والواجبات والمستحيلات، في حين أن القدرة تتعلق بالممكنات وحدها. والحدث دليل على القدرة والأحكام في الحدث دليل على العلم، الأوَّل يُعرَف بالضرورة والثاني يُعرَف بالاستدلال. فالقدرة والعلم كلاهما يثبتان كنتيجة لإثبات حدوث العالم. وليس في الشاهد ما يقضي ثبوت أحدهما دون الآخر، وليس فيه ما يؤدي إلى تعلق العلم الواحد بجميع المعلومات فحسب دون تعلقه بالمقدورات؛ لأن الأوَّل يتعلق بجميع المعلومات الواجبة والممكنة والمستحيلة، في حين أن المقدورات تتعلق بالممكنة وحدها. والحقيقة أن ذلك أيضًا تشخيص للمقدورات. فلماذا لا تكون الطبيعة فاعلة بنفسها ما دامت الطبيعة عاقلة، والعقل أحد مظاهر الوعي، وبالتالي يتطلب العقل المقدرة؟ فكل قادر عالم بالضرورة وإن لم يكن كل عالم قادرًا نظرًا لأن العلم أوسع نطاقًا من القدرة.٧٧
وقد يدمج الدليلان معًا في دليل واحد في عبارات إنشائية، ويكون أقرب إلى صور ذهنية للتقليد البدائي منه إلى البراهين العقلية عندما يُقال مثلًا إن الاتساق في الكون يدل على علم، والعلم يدل على العالم أو أن النظام في الكون يدل على القدرة، والقدرة تدل على القادر. إذ يقوم هذا اللون من التفكير على تفسير الظواهر الطبيعية بعلل خارجية، وهو ما يتنافى مع الفكر العلمي الذي يفسر الظواهر من داخلها. كما أنه يعمم الملاحظة إلى صفة مطلقة مجردة. فقدرة النار لا تمثل قدرة مطلقة، وعلم الحيوان أو الإنسان لا يمثلان علمًا مطلقًا. وكل ما في العالم ملاحظات جزئية لا تسمح بالتعميم والتجريد، ثم التعامل مع صفات مستقلة عن العالم. كما أن ذلك تشخيص للقوانين وتحويلها إلى أسماء فاعل. فالقدرة قادر، والعلم عالم، وهي إحدى صور التفكير البدائي في تشخيص الظواهر.٧٨
والحقيقة أن العلم مثل إنساني أعلى يحققه الإنسان في ذاته، فإن استعصى تحقيقه فإنه يحوله إلى إله، لما كان الإله هو أقصى ما يتمناه الإنسان من غاية. فالتأليه حرص على الواقع كمثل في لحظة العجز عن التحقيق، والتمسك بالحق النظري إن ضاع الحق العملي، التمسك بالمبدأ في غياب الواقع.٧٩ ويتضح ذلك من تحليل لفظ «العلم» في أصل الوحي في الصيغة الفعلية وليست الاسمية. فالعلم فعل، أو صفة «عليم» أو «علَّام»، أو اسم بمعنى الوحي، أي العلم المعطى للناس وليس صفة لجوهر ثابت. وهو فعل مشترك بين الإنسان والله، يعلم الإنسان كما يعلم الله. وهو أمر بالعلم حتى يصبح الإنسان عالمًا كما أن الله عليم وعلَّام.٨٠

(٣) القدرة

والقدرة ثاني صفة في الثلاثي، العلم والقدرة والحياة، وكأن العقل العملي تالٍ للعقل النظري، وأن العمل لاحق على النظر وتحقيق له. وقد لا تظهر القدرة على الإطلاق لأنه لا توجد مخاطر عليها أو تشكيك فيها.٨١ وقد تظهر القدرة مع الحياة كشرطين للعلم في حين أن العلم هو شرط الحياة والقدرة.٨٢ وقد تظهر على أنها رابع صفة في السباعي بعد الحياة والعلم والإرادة، بعد تقدم الإرادة عليها مما يحيي بصعوبة التفرقة بين القدرة والإرادة كما سيظهر ذلك في مبحث الخلق.٨٣ وقد تظهر على أنها أول صفة في الثلاثي والسباعي نظرًا لأهميتها حتى على العلم، وهنا تكون الأولوية للعقل العلمي على النظري، وللعمل على النظر.٨٤ وعلى العكس قد تظهر القدرة على أنها آخر وصف في الثلاثي بعد أن يأخذ العلم مكانها وتتصدر الحياة.٨٥ ولكن بعد أن استقر النسق تظهر القدرة على أنها ثاني صفة في السباعي وفي الثلاثي معًا دون ذكر للضرورة العقلية لهذا النسق وكأنه ترتيب محتمل كغيره حتى لو تغير ترتيب الصفات الأخرى كأن تكون الإرادة أوله والحياة آخره.٨٦ وقد تظهر القدرة عرضًا مع القوة دون أن تكون مع الثلاثي بل يكتفي بالعلم والحياة. وقد تظهر أيضًا بعد بعض صفات الرباعي مثل السمع والبصر مع صفات التشبيه وبعض صفات الأفعال مثل العزة والرحمة والأمر والنفس والذات والقوة والقدرة والأصابع. وقد تدخل أيضًا مع صفات الانفعال المتعلقة بالإرادة مثل السخط والرضا والعدل والصدق والملك والخلق والجود والإرادة والسخاء والكرم، وبهذا المعنى تتسع صفة القدرة وتشمل كل شيء، بل وتتصدر العلم.٨٧
والقدرة صفة قديمة قائمة بذاتها، توجد بها الحوادث وبعدمها يستحيل ضدها وهو العجز. فهي إذن سبب الإيجاد وغيابها عجز يوجب العدم. أو هي صفة يتمكن بها الفاعل من الفعل والترك، أي وقوع الفعل عند توافر الدواعي، والإيجاب بالنسبة إلى ذات الفعل لا يمكنه من الترك. فالقدرة هنا أقرب إلى القدرة الإنسانية والبواعث والاختيار بين الفعل والترك توحي بالجبر والحتمية على الفعل حين توافر الدواعي. تعني القدرة إذن حصول التأثير من الله على سبيل القصد والصحة لا على سبيل الوجود، وكأن فعل الله نموذج الفعل الموجب القائم على البواعث والموجه بالقصد. ولكنها أصبحت عند المتأخرين القدرة على الخلق على الإيجاد وعلى الإعدام. فهي صفة تؤثر في الممكن الوجود أو العدم تتعلق بالمعدوم فتوجده كتعلقها بالموجود قبل وجوده، وتتعلق بالموجود فتعدمه. هذا التعلق «تنجيزي»، تعلق حادث، وله تعلق «صلوحي» قديم أي صلاحيتها في الأزل. القدرة صفة الإيجاد والإعدام لأن فعل العالم المريد فيما علم وأراد إنما يكون بسلطة له على الفعل ولا معنى للقدرة إلا هذا السلطان.٨٨

والقدرة أول ما يُعرَف استدلالًا من الصفات، فهو المحدث للعالم. فقد ثبت أنه صح منه تعالى وبالتالي يكون قادرًا. والدليل على أنه عالم حي قادر إمَّا الاضطرار أي البداهة أو الاستدلال. والحقيقة أن الدليل يجمع بين الاثنين، إذ لا يجوز أن تظهر الصنائع إلا من قادر حي، وهو دليل الاختراع الشهير الذي سيتحدث عنه الحكماء فيما بعد. أو هو دليل الإتقان والصنعة وهو دليل إثبات العلم. الدليل على كونه قادرًا وجود المقدورات عن أول واتصافها بالجواز. فالإيجاد والاختراع لا يصحان من كل موجود، بل اختصاص تصور الاختراع ببعض الموجودات. وبالسبر يعرف أن الاختراع يشترط الحياة والعلم، ويمكن الاعتماد على قياس الغائب على الشاهد لإثبات ذلك. وقد يفصل الدليل ويركب على دليل الحدوث فتثبت القدرة بعد إثبات الحدوث. إذ يدل جواز الحادثات على كون بارئها قادرًا. فالحدوث مقدمة لإثبات القدرة كصفة للذات كما كان مقدمة إثبات القِدَم كوصف لها. يعني الحدوث قابلية التأثير والفاعلية والترجيح. ويتم ذلك عن طريق الاختيار وليس عن طريق الوجوب بالذات كما هو الحال عند الحكماء في نظرية الفيض. ويبطل المتكلمون الوجوب بالذات دون القدرة لأنه يلزم من ذلك قِدَم العالم أو حدوث الله، وكلاهما باطل، أو استواء الأجسام في الماهية وبالتالي استواؤها في الصفات، والله ليس بجسم والعالم إحساس أو لوجب معلومًا واحدًا أو معلومات كثيرة، والأول باطل لعدم صدور الكثير عن الواحد أو يلزم عنه تغيرات لا يمكن أن تصدر عن الواجب بذاته. لو كان الله واجبًا بذاته لا قادرًا على ما يقول الحكماء للزم إمَّا قِدَم العالم أو حدوث حوادث لا أول لها أو متعاقبة وكلاهما محال.

وفي صيغة أخرى إن لم يكن قادرًا لزم إمَّا نفي الحادث أو عدم استناده إلى المؤثر أو التسلسل إلى ما لا نهاية أو تخلف الأثر عن المؤثر والكل باطل، وبطلان اللوازم دليل على بطلان الملزوم. ويقوم الدليل على أصلين: حدوث ما سوى الله وأنه لا تجري به حوادث لا نهاية لها، وأن الحادث لا يستند إلى حادث مسبوق إلى ما لا نهاية. يرفض الأشاعرة إذن استناد القدرة إلى الذات أو بالإيجاب، فكلاهما باطل، ومع ذلك فهو قادر بقدرة قديمة أزلية قائمة بذات الرب متحدة لا كثرة فيها متعلقة بجميع المقدورات غير المتناهية بالنسبة إلى ذاتها أو متعلقاتها، وهي غير الإيجاد على نحو ما في التخصيص بالإرادة.٨٩
والتأثير في العالم — عند متكلمي الأشاعرة — ليس عن طريق الطبع أو العلة، كما هو الحال عند الحكماء والطبائعيين من المعتزلة، بل بالتأثير والاختيار. فلو كان بالطبع والإيجاب للزم قِدَم العالم أو حدوث الباري. ولما كانت العلة لا تتغير لزم أن يكون المعلوم كذلك، وبالتالي يتغير الباري. كما يلزم من عدم المعلول عدم العلة. ومع ذلك فهناك اعتراضات عدة على القدرة بالتأثير والاختيار. فالمؤثر في العالم إن استجمع الشرائط وجب الأثر وإلا كان فعله ترجيحًا بلا مرجح. كما أن اقتدار القادر نسبة يتوقف على تمييز المقدور في نفسه وبالتالي يلزم الدور. والمقدور لا يخلو من وجود أو عدم والحاصل واجب وبالتالي ينتفي الممكن. كما أن الترك نفي عرض وعدم، وبالتالي لا يكون مقدورًا. والواحد لا يصدر عنه إلا الواحد، والكثير إنما صدر بالوسائط عن الواحد على ما يقول الحكماء الكواكب هي المدبرات أمر الدوران والحوادث السفلية مع مواضعها في البروج وأوضاعها بعضها إلى البعض. وما علم أنه يكون واجبًا، وما علم أنه لا يكون ممتنعًا، والواجب والممتنع غير مقدور، والقدرة لا تكون إلا للممكن. كما أن القدرة تتعلق بأحد الضدين إمَّا لذاتها فيستغني الممكن عن المرجح فيسد باب إثبات الصانع ويلزم قِدَم الأثر، وإمَّا لذاتها فلا يحتاج إلى مرجح، وبالتالي تنتفي القدرة.٩٠
وبعد موضوع إثبات القدرة بالقصد والاختيار أو نفيها بالطبع والوجوب تعرض مسألة شمول القدرة وحدودها. فالقدرة شاملة ومطلقة مثل العلم. الله قادر على جميع الممكنات. ودليل إثبات القدرة هو نفسه دليل إثبات شمولها وإطلاقها. فالمصحح للمقدورية الجواز، وبدونه لا يبقى إلا الوجوب والامتناع، وهما يمنعان من المقدورية. والجواز مفهوم واحد بين جميع الجائزات، لذلك كانت القدرة شاملة لها كلها. ولو لم يكن الله قادرًا على جميع الممكنات لوُجد سبب آخر وهو محال من وجهين، لأن قدرة الله أقوى، فهو الأولى بالتأثير وبسبب دلالة التمانع واستحالة اجتماع مؤثرين.٩١
وقد يأخذ الموضوع صيغة أخرى، فكما أن المسألة الرئيسية في العلم هي البدء الذي يشير إلى التغير والثبات، فإن المسألة الرئيسية في القدرة هي الكل أو الجميع أو الغاية أو النهاية التي تشير إلى التقييد والإطلاق. فقد تساءل القدماء: هل معلومات الله ومقدوراته لها كل أو لا كل لها؟ ولما كان الإشكال لا يعبر عن موضوع في الخارج بل عن قسمة إنسانية خالصة يقوم بها الذهن كما هو واضح في المنطق لتصنيف الأشياء بين الكل والجزء، الجميع والبعض، اللانهاية أو الغاية، فإن الشعور يقوم بإسقاط قسمة الذهن هذه على التأليه المشخص. فالإجابة بالنفي إثبات بالإطلاق حرصًا على التنزيه. فالقدرة شاملة كلية جامعة لا نهاية لها لا تتجزأ ولا تتبعض ولا تنتهي. فالتجزئة والتبعيض والنهاية كلها مظاهر نقص، والتأليه يعبر عن نفسه في صيغ الشرف والكمال. والإجابة بالإثبات أيضًا إثبات للتنزيه؛ لأن المعلومات والمقدورات لا بد أن تنتهي حتى يبقى المؤله وحده ولا شيء معه كما كان لا شيء معه. فتحديد المعلومات المقدورات ليس تقييدًا للمطلق بل إطلاق له وتقييد لما سواه ورد للموجودات إلى مكانها الطبيعي في عالم الحدوث.٩٢

وبعد إثارة المسألة العامة إطلاق القدرة وتقييدها تظهر الدوافع الحقيقية للمسألة التي كانت وراء نشأتها والتي أصبحت نوعًا من التمرينات العقلية والتطبيقات العملية التي تكشف عن عملية التأليه وشدها وجذبها بين الوجدان والعقل، أي بين إطلاق القدرة وتقييدها. إذ يفترض العقل صعوبة أو استحالة أو تناقضًا حتى يقوم الشعور بتجاوزها بسلاح القدرة ويعبر من خلالها عن عواطف التعظيم والإجلال. ويقف الإنسان أمام هذه الاستحالة أو التناقض إمَّا يعلن استسلامه لهذه العواطف والتسليم بالقدرة المطلقة والخضوع لها أو يعلن رفضه لها وتمرده عليها وإثبات قدرته الخاصة.

وأول مشكلة مُثارة هي اصطدام القدرة مع العلم في سؤال: هل الله قادر على ما علم ألا يكون؟ فالجواب بالإيجاب إثبات لعموم القدرة وشمولها على العلم، والجواب بالنفي إثبات لشمول العلم وأولويته على القدرة. فالعلم أوسع نطاقًا من القدرة، وإمكانيات العقل النظري أكبر بكثير من إمكانيات العقل العملي. ولكن يظل سؤال: وكيف يكون هناك علم لا يقع، ونظر بدون عمل؟ فالمسألة لا حل لها، ولكنها مجرد فرصة للتعبير عن عواطف التعظيم والإجلال بين المزايدة فيها وإحكامها بالعقل.

وقد تصطدم القدرة بحرية الأفعال في سؤال: هل الله قادر على أفعال العباد؟ فالرد بالإيجاب إثبات لمطلق القدرة على حساب حرية الإنسان، في حين أن الجواب بالنفي إثبات لحرية الإنسان حتى ولو كان في ذلك تحديد للقدرة المطلقة. وأيهما أولى بالتضحية، حرية الإنسان أم مطلق القدرة؟ وأيهما أولى بالإثبات، حرية الله أم حرية الإنسان؟ إن أكثر أفعال الحيوانات مقدور لها، وبالتالي يلزم مقدورين لقادرين. وقد تحول الإشكال النظري إلى اختيار الإجابة الأولى، وأصبحت نوعًا من المسلمات الوجدانية. فتظهر في البسملات مع المشيئة والإرادة مسيطرة على كل شيء، على الإنسان أفرادًا وجماعات، وعلى الطبيعة والتاريخ، على حساب الحرية الإنسانية وحركة الجماهير ووعيها وقوانين الطبيعة ومسار التاريخ، وكأن القدرة سلطان قاهر على كل شيء، مما سبب رد فعل طبيعي وهو تأكيد الحرية الإنسانية وخلق الأفعال كحد من القدرة المطلقة وإرهابها وتدخلها في كل شيء.٩٣
وقد تصطدم القدرة بموضوع العدل في سؤال: هل يقدر الله على فعل الظلم للإنسان؟ هل يقدر على فعل الشرور والقبائح في العالم؟ فإثبات القدرة المطلقة تضحية بالعدل في سبيل التوحيد، ونفيها إحكام عقلي للتوحيد في سبيل العدل. وليس هناك حل عقلي مرضٍ؛ لأن المسألة كلها تمرين عقلي للمزايدة في عواطف التعظيم والإجلال على حساب الإحكام العقلي وتأكيد حق الإنسان. وقد يمتد السؤال من هذه الدنيا إلى غيرها. حينئذٍ تصطدم القدرة بأمور المعاد في السؤال: هل الله قادر على إثابة المسيء وعذاب المحسن؟ وهو نفس مسألة العدل مع تطبيقها في نهاية الزمان خارج العالم وليس في الزمان في هذا العالم.٩٤
ولكن الصدام الأكبر هو الذي نشأ بين القدرة المطلقة وبين العالم الطبيعي، سواء في نهاية الزمان في إفناء العالم أو في هذا الزمان في تغيير قوانين الطبيعة.٩٥ ويكشف هذا الصدام عن صراع فعلي بين الفكر الديني والفكر الطبيعي، بين الفكر اللاهوتي والفكر العلمي ودفاع الفكر الطبيعي والعلمي عن استقلال الطبيعة واستحالة تحول الوجود إلى عدم أو العدم إلى وجود، فالأجسام لها طبائع مستقلة.٩٦ وقد تتردد بعض الآراء بين الفكر الديني التقليدي والفكر الطبيعي العلمي الناشئ عندما تحاول الجمع بين القدرة المطلقة وطبائع الأشياء في وجود ثالث تظهر فيه القدرة وتفنى فيه الأشياء وهو الفناء نفسه. ويتم ذلك مرةً واحدةً لا على فترات؛ لأن طبيعة الشيء لا تتجزأ ولأن فناء الكل أعظم قيمةً من حيث القدرة من فناء البعض، ولأنه فناء طبقًا لمبدأ وليس طبقًا لحالات فردية خاصة. يشير هذا التردد بين الإطلاق والتقييد في الصفات إلى بزوغ الفكر الطبيعي العلمي الناشئ من باطن الفكر الديني التقليدي واستقلال الطبيعة حتى ولو كانت في صيغة أخرويات مشخصة عن الإرادة الإلهية وإعلان توقفها بعد أن تكمل غايتها في التاريخ. وإن كان هناك إطلاق فهو إطلاق من طبيعة الشيء وليس من إرادة مشخصة خارجة عنها.٩٧
ولكن تظهر الطبيعة في هذا العالم كحد للقدرة في كون الأشياء موجودة، وأن الوجود هو القدرة. الوجود والقدرة شيء واحد، ويعني ذلك أنها من جنسه. القدرة تحيل الوجود إلى عدم، والعدم إلى وجود. وما دامت القدرة قد ثبتت فقد ثبت الوجود. وما دام هناك وجود فهناك قدرة. القدرة هنا ليست قوة مشخصة يرمز إليها باليد بل هو الوجود ذاته. ومِنْ ثَمَّ لا يستحيل عليها شيء؛ لأنها هي الشيء.٩٨
وقد يتحول التمرين العقلي من الوجود العام إلى الوجود الخاص، أي إلى الأجسام، ويصبح التمرين هو: هل يقدر الله على خلق العرض؟ والتمرين العقلي لا يبغي حل مشكلة موجودة بالفعل، بل هو مجرد سؤال يوجهه العقل للشعور حتى يسمح للشعور بالتعبير عن عواطف التعظيم والإجلال، وهي الصياغات العقلية لعواطف التأليه. والرد بالإيجاب يسمح للشعور بتجاوز الممكن إلى المستحيل، وباستعمال طريق الأولى، وهو الاستدلال المنطقي الذي يعبر عن عواطف التأليه. وهو الموقف التقليدي الشائع، موقف الأشاعرة وأهل السنة، يشاركهم فيه بعض المعتزلة.٩٩ أمَّا الرد بالنفي فهو إثبات لطبائع الأشياء المستقلة حتى ولو كانت أعراضًا. فالأعراض مع طبائع الأجسام.١٠٠ وقد لا يكون النفي نفيًا للقدرة وحطة في التنزيه، بل هو تصور علمي للتنزيه يستبعد التشخيص ويعيد الاستقلال للأشياء. وماذا في القدرة على خلق العرض من تنزيه؟ ليس فيها إلا من إثبات لقدرة تفعل ما هو جدير بها وما ليس بجدير كالقدرة المسيطرة التي تفعل كل شيء، كبيرًا كان أم صغيرًا، في حين أن جلالة القدرة وعظمتها لا تفعل إلا ما لا يقدر غيرها على فعله. والعظيم هو الذي يتعفف عن فعل صغائر الأمور. تستخدم الموضوعات الطبيعية إذن لإثبات القدرة، ليس فقط في خلق الجواهر، بل أيضًا في خلق الأعراض. ويصارع الفكر العلمي الطبيعي في جعل الأعراض حالة بالجواهر وبالتالي ينكر خلق الأعراض. والقضية هي: أيهما أولى بالدفاع، قدرة الله المطلقة مع إنكار كل قدرة أخرى، أم استقلال الطبيعة وحركة الأجسام وقوانينها؟١٠١
فإذا كان التمرين العقلي، وهو القدرة على خلق العرض، يسمح للشعور بالتعبير عن القدرة على الممكن، فإن التمرين العقلي الثاني: هل يقدر الله على خلق جواهر لا أعراض فيها؟ يعطي للشعور فرصة أكبر لتجاوز المستحيل؛ وذلك لأن الجواهر لها أعراض، والأعراض لا توجد إلا في جواهر. ولكن القدرة العظمى تستطيع خلق جواهر بلا أعراض، وأن تتحكم في طبائع الأشياء وتتحداها، على عكس الإنسان الذي لا يستطيع خلق جواهر بلا أعراض حين تخضع قدرته لطبائع الأشياء وقوانين الطبيعة. فالرد بالإيجاب يسمح للشعور بالتعبير عن عظمة القدرة وجلالها حتى ولو كان في هذا التعظيم القضاء على العالم كله في حين أن الرد بالنفي إثبات لطبائع الأشياء ولقوانين الطبيعة، وتصور علمي للتنزيه وقضاء على تشخيص القدرة.١٠٢
ثم يأتي تمرين ثالث يسأل عن قلب الأجسام من جوهر إلى عرض ومن عرض إلى جوهر في صيغة: هل يقدر الله على قلب الأجسام أعراضًا والأعراض أجسامًا؟ والغاية من السؤال السماح للشعور بالتعبير عن عواطف التعظيم والإجلال طبقًا لاستدلال شعوري على النحو الآتي: بما أن الإنسان لا يقدر على قلب الأجسام أعراضًا والأعراض أجسامًا، بل إنه لا يقدر على مجرد تغيير الجواهر إلى جواهر مثلها أو الأعراض إلى أعراض مثلها، يكون المؤلَّه المشخص إذن هو وحده القادر على ما لم يقدر عليه الإنسان، فيستطيع أن يقلب الأجسام أعراضًا والأعراض أجسامًا. وبتعبير آخر بما أن الإنسان لا يقدر على تغيير قوانين الطبيعة، فإن المؤلَّه المشخص إذن يكون هو وحده القادر على ذلك. ومِنْ ثَمَّ يفي الرد بالإيجاد بهذا الغرض، في حين يكون الرد بالنفي إثباتًا للنظرة العلمية واستقلال الطبيعة وانتظام قوانينها، وكأن القدرة لا تثبت إلا على حساب العالم وأن استقلال الطبيعة لا يثبت إلا على حساب القدرة. ويكون المكسب والخسارة هو: أين موقف الإنسان وموقعه في العالم؟ هل هو مدافع عن حق الله أم مدافع عن حقه كإنسان وعن استقلال قوانين الطبيعة ووجوده في عالم يحكمه قانون، وبالتالي ينشأ العلم ويتأسس النظام؟١٠٣ ويمكن التوفيق بين الموقفين عن طريق التمييز بين نوعين من الموجودات: الأوَّل يحدث في ذات المؤله، وهو يدخل تحت قدرته، والثاني يحدث في العالم الخارجي وهو لا يدخل تحت قدرته بل يسير طبقًا لطبائع الأشياء. بل إن الخلق نفسه لم يتم بالقدرة الشخصية للتأليه، بل بالكلام وحده أي بالفكر وليس بالإرادة، بالمعنى وليس بالقوة، بالعقل وليس باليد.١٠٤
ثم يأتي تمرين رابع ليعطي نفس الفرصة للشعور كي يعبر عن عاطفة التأليه، وهو: هل يقدر الله على صيرورة الجسم جزءًا لا يتجزأ؟ ويقدم الذهن قسمته المنطقية، الكل والجزء، ثم يسقطها على الأجسام فيصبح الجسم كلا يتكون من أجزاء لا تتجزأ. ويكون التمرين: هل يمكن تحويل الكل إلى جزء؟ وبما أنها استحالة منطقية وطبيعية عند الإنسان، فإن المؤلَّه المشخص يكون هو وحده القادر على تجاوز هذه الاستحالة وتحويلها إلى إمكانية بالقدرة المنظمة. فالرد بالإيجاب يسمح للشعور بالتعبير عن عواطف التأليه في هذه القسمة المنطقية التي قدَّمها الذهن وأسقطها على الطبيعة.١٠٥ ويكون الرد بالنفي هو التزام بالنظرة العلمية والتمييز بين عواطف التأليه التي يمكن التعبير عنها في صياغات عقلية علمية لا تمسها استقلال الطبيعة وحتمية قوانينها وبين القسمة المنطقية التي يقدمها الذهن تعبيرًا عن عواطف التعظيم والإجلال.
وقد يُثار نفس السؤال عن طريق إدخال القدرة الإنسانية، وبالتالي يقدر الله في العالم ويفعل في الأجسام والأعراض من خلال قدرة الإنسان، هدمًا لها وقضاء عليه حتى لا تقوى أن تصمد أمامها الطبيعة، ولا أن يقف في مواجهتها الإنسان. وصيغة السؤال: هل يوصف الباري بالقدرة على أن يقدِّر خلقه على الحياة أم لا؟ وعلى فعل الأجسام أم لا؟ هل يقدر الله أن يخلق قدرة لأحد على فعل الحياة والموت أم لا يوصف بالقدرة على ذلك؟ وفي مقابل الإيجاب الذي يمثل القدرة المطلقة الشاملة١٠٦ هناك النفي النسبي عن طريق نفي الأقدار من الأجسام وإثباته في الأعراض أو إثباته في بعض الأعراض ونفيه في البعض الآخر.١٠٧ وهناك النفي المطلق في الأجسام والأعراض معًا تأكيدًا لقدرة الإنسان ودفاعًا عن استقلال الطبيعة.١٠٨ ولما كان موضوع القدرة كإقدار داخلًا في موضوع الكسب فقد جعل البعض الإنسان قادرًا على الكسب عاجزًا عن الخلق، وأن المقدور على كسبه هو المعجوز عن خلقه.١٠٩ ويفضل البعض الآخر إلغاء المشكلة كلها، فلا يوصف الإنسان لا بالقدرة ولا بالعجز لا على الكسب ولا على الخلق، ورفض التمرين العقلي نظرًا لما يقدمه من متاهات لا تسمح إلا بالتعبير عن عواطف التأليه تعظيمًا للمؤلَّه وتحقيرًا للطبيعة وتعجيزًا للإنسان.١١٠
وقد يُضاف إلى القدرة صفة أخرى تابعة لها أو مستقلة عنها، وهي صفة الخلق أو التكوين فتكون الصفات ثمانٍ. رباعي ورباعي. والحقيقة أنها صفة إضافية؛ لأن القدرة صفة مؤثرة على سبيل الصحة، وصفة الخلق أو التخليق مؤثر أيضًا على سبيل الصحة، ومِنْ ثَمَّ لا فرق بين الصفتين. أمَّا التكوين فإنه ليس صفة مستقلة بل داخل في القدرة أو في الإرادة؛ لأن التكوين تخصيص مثلها.١١١
والحقيقة أن اللفظ في أصل الوحي يشير إلى الفعل والموصوف ولا يشير إلى الصفة، مما يدل على أن القدرة فعل أو فاعل، ولكنها ليست اسم فعل مستقل عن الفعل والفاعل. ولا تعني فقط القدرة بل تعني أيضًا التقدير وحسن الإدراك وميزان الأمور والتخطيط والاعتدال في النسب، مما يدل على أن القدرة ليست فقط قوة مشخصة خارج الطبيعة، بل إنها تقدير في الطبيعة وتقدير من الإنسان للطبيعة.١١٢

(٤) الحياة

هي ثالث صفة في الثلاثي بعد استقرار نسق الصفات وإن اضطرب مكانها في البداية بين الثلاثي والرباعي.١١٣ وقد لا تظهر الحياة على الإطلاق لأنه لم تكن هناك مخاطر عليها.١١٤ وقد لا تظهر إلا في عبارة يختتم بها السمع والبصر (الإدراكات) في أمر الرباعي والسباعي معًا.١١٥ وقد تظهر في الثلاثي بعد القدرة والعلم.١١٦ ولكن الغالب ظهورها نظرًا لأهميتها غير المتوقعة في أول السباعي والثلاثي معًا.١١٧
ويجمع القدماء على أن الحياة شرط العلم أو شرط العلم والقدرة معًا، فلا يوجد عالم إلا حي، ولا يوجد عالم قادر إلا كان حيًّا. وأحيانًا تمتد الحياة فتصبح شرطًا للرباعي أيضًا. فالحياة شرط الإدراك كالسمع والبصر. وقد يوجد الشرط دون المشروط، ولكن لا يمكن وجود المشروط دون الشرط.١١٨ يستحيل وجود الفعل من موات، وما دام الله فاعل الأشياء وجب أن يكون حيًّا. ولما ثبت بالدليل على أن الباري صانع قادر فاعل، وصح الفعل وقوعه من الميت فإن وقوعه من الحي أولى. الحي هنا من يشعر بنفسه ويعلم ذاته وغيره، العالم بجميع المعلومات القادر على جميع المقدورات. ويمكن تأسيس هذا الدليل على أساس الإحصاء والملاحظة والسبر والتقسيم. وذلك في الحقيقة هو قياس الغائب على الشاهد بدليل استعمال التشبيه بالحياة الإنسانية في عبارة «الواحد مِنَّا»، وقد تستعمل بعض الأدلة النقلية لإثبات الحياة ولإثبات أن الله حي.١١٩
ولكن ماذا تعني الحياة؟ نظرًا لارتباط العلم والقدرة والحياة فقد تفيد الصفات الثلاث معاني بعضها البعض مما يدل على الوحدة بينها. كما تفيد كل صفة معناها على حدة مما يشير إلى التغاير بينها.١٢٠ وقد لا ينطبق ذلك على الثلاثي وحده، بل ينطبق أيضًا على السمع والبصر من الرباعي لما كانا طريقين للعلم ومظهرين للحياة. وقد يفيد إثبات الثلاثي إثبات الذات نظرًا للتوحيد بين الذات والصفات.١٢١ ومع ذلك قد يفضل البعض تمايز المعاني بين الصفات الثلاث،١٢٢ ولكن بالإضافة إلى التعريف بالشرط،١٢٣ أو التعريف بالذات هناك عدة تعريفات أخرى تتراوح بين الصفة الأزلية والوظيفة العضوية. فالحياة صفة قديمة أزلية تطلق عليها الأحكام العامة الثلاثة للصفات. وقد تكون استحالة الضد أي الموت نظرًا لأن الصفات هي قلب للأضداد. وقد تكون الحياة اعتدال المزاج النوعي أو قوة تنبع من ذلك الاعتدال. على أية حال الحياة شعور بديهي، كما يستتبع العلم والإرادة وكل مظاهر الحياة. والحياة كصفة أزلية هي حياة المطلق بلا مادة أو مضادة لحياة المادة، فهي الحياة الخالصة الطاهرة. وهو قلب للوضع الإنساني. فبما أن الحياة الإنسانية ملامسة للمادة، حياة البدن، فالأشرف أن تكون حياة التأليه منزهة عن البدن.١٢٤ وقد نشأ من هذا التصور للروح الطاهرة سلوك متطهر يقوم أيضًا على قسمة الحياة إلى روح ومادة، واعتبار المادة أقل شرفًا وأحط مرتبةً من الروح وما يترتب على ذلك من مخاطر الازدواجية والنفاق والخلط في السلوك الإنساني، الفردي والجماعي.١٢٥
لم يتعرض القدماء كثيرًا لهذه الصفة الثالثة، وهي الحياة، مع أنها الصفة التي تستطيع أن تكشف الإنسان من حيث هو حياة كما كشف العلم عن تغير الواقع وتكيف العلم طبقًا له وكما كشفت القدرة عن طبائع الأشياء وعن الحرية الإنسانية. لم يذكر القدماء إلا أن الباري حي؛ لأنه يفعل فلا فعل بدون حياة. الحياة حياة الفعل، والفعل فعل الحياة.١٢٦ وبما أننا لا نحيا، وليس لدينا شعور بالحياة فلم نهتم بتفصيل هذه الصفة كما فعلنا في العلم والقدرة لإثبات أن الله عالم بكل شيء يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ لإعطاء تصور تمثله السلطة لإحكام سيطرتها. ومع ذلك إن لم يعبر جيلنا عن الحياة في صياغة عقلية تقوم على تحليل الواقع، فإنه يعبر عن نفسه بأسلوب التهكم والسخرية كنوع من التفريج السري عن الهم أو في التعبيرات الرمزية في الأدب والصحافة من أجل رفع الغطاء عن الحياة المانع لها من الصياغات العقلية الصحيحة أو في خطاب الزعيم الذي يهدف إلى تخفيف حدة الأزمة نفسيًّا أو بإعطاء الوعود أو بإظهار بطولة ابن البلد والفروسية القديمة أو التحول إلى المنظمات السرية من أجل تحويل المشكلة من الكبت النظري إلى التفريج العملي أو عدم الوعي بها على الإطلاق، وحصر الحياة في البحث عن لقمة العيش للمحافظة على الحياة العضوية، أو باستغلال الأزمات للمكاسب الشخصية وللحصول على المناصب والرزق الوفير أو تعميقها وتبريرها ولويها لصالح السلطة بالتستر وراء الحكم، وهو في الحقيقة وضع للعلم في سوق السلطة أو هروبًا إلى حلقات الذكر والطرق الصوفية أو في حلقات الحشيش وجلسات المرح. أمَّا في أصل الوحي فالحياة هي الحياة الدنيا، حياة الناس. الحياة امتحان واختبار وعمل، قانونها الأضداد، إخراج الحياة من الموت والموت من الحياة. وهي فعل لله لإحياء الأرض والبلاد والعظام والنفس والناس ولم تستعمل كصفة له. الحياة فعل لفاعل أكثر منها صفة مستقلة له.١٢٧

(٥) السمع والبصر

وهما أول صفتين في الرباعي، يأتيان معًا باستمرار في هذا الترتيب بدايةً بالسمع وتثنيةً بالبصر. وهما أقل ظهورًا من الإرادة والكلام، كما أن الحياة أقل ظهورًا في الثلاثي من العلم والقدرة. وكلاهما يدخلان على أنهما من الإدراكات. لذلك لا يظهران كصفتين مستقلتين بل يظهران مع العلم في إثباته، ومع إثبات أوصاف الصانع وعلى أنهما مظهران للحياة.١٢٨ يظهران في إثبات صفات التشبيه عرضًا وضد نفاتها بإرجاعها إلى العلم.١٢٩ وقد تداخلت الصفتان في الثلاثي. فعندما تنتقل الإرادة إلى الثلاثي يظهر البصر كثاني صفة في الثلاثي: الكلام، البصر، السمع.١٣٠ وعندما يصير الرباعي ثلاثيًّا بعد إدخال الإرادة بعد القدرة في الثلاثي يبقى السمع والبصر والكلام.١٣١ ويظهر السمع والبصر مع القديم بعد العلم وقبل الحياة، وأهمها إثبات الصفات أو نفيها قبل قِدَمها أو حدوثها.١٣٢ فإذا ما استقل الثلاثي فإن السمع والبصر يظهران إمَّا آخر الرباعي وإمَّا في وسطه وإمَّا في أوله.١٣٣ وقد لا يفترق السمع والبصر عن باقي الأسماء.١٣٤
ويثبت السمع والبصر بالنقل وبالعقل. والنقل ليس حجة يقينية كالعقل لأنه معارض بنقل معارض، ويمكن تأويله على نحو مجازي. والعقل هو أن الله حي، ومن صفات الحي السمع والبصر. الحي لا يكون إلا متكلمًا سميعًا بصيرًا.١٣٥
وقد تراوح تعريف السمع والبصر كذلك بين الصفة الأزلية القديمة القائمة بالذات أو الوظيفة الإدراكية العضوية الصرفة. فالسمع صفة واحدة أزلية قائمة بذاتها يسمع بها جميع المسموعات من الأصوات والكلام، وكذلك البصر صفة واحدة أزلية يبصر بها جميع المبصرات.١٣٦ ولكن السمع والبصر أيضًا ليسا صفتين مستقلتين عن العلم، بل وسيلتان للعلم، أي إدراكان. فهو مدرك للمسموعات والمبصرات والإدراك لا يزيد على العلم، بل هو العلم الحسي التجريبي. يرجع السمع والبصر إلى الإدراك قبل أن يصبح علمًا نظريًّا أو استدلاليًّا. هما إدراكان قبل العلم يتعلقان بالمدركات الخاصة بكل واحد بشرط الوجود. فهما قبل العلم كإدراك وبعد العلم كنظر١٣٧ فالإدراكات من قبيل العلوم. صحيح أنه قد يحدث إدراك حسي دون علم وقد يحدث علم دون إدراك حسي؛ وذلك لأن تحويل الإدراك إلى علم مشروط بسلامة الإدراك وبالانتباه على ما هو معروف في نظرية العلم وفي نظرية الرؤية. ويعتمد نفي السمع والبصر كصفتين مستقلتين عن العلم على تعدد القدماء أو لو كانا حادثين لكانت الذات محلًّا للحوادث وعلى احتياجهما إلى حاسة وآلة وعضو ووظيفة وهو محال. وقد يتوقف البعض دون إثبات أو نفي.١٣٨ والعجيب أنه في نفس الوقت الذي يثبت فيه السمع والبصر كصفات أزلية قائمة بالذات يثبتان أيضًا على الحقيقة كوظيفتين سمعيتين وبصريتين.١٣٩ وكأن الإيغال في إثبات الصفة القديمة ينقلب إلى تشبيه حسي لإثبات وظيفتين حسيتين. لذلك حرص البعض على إثبات السمع والبصر دون الآلة أو العضو، لا يثبتان بآلة صماخ وأذن أو عين وحدقة. كذلك يمكن تعريف السمع والبصر عن طريق الاكتفاء بنفي الضد أي الآفة، أي استحالة الصمم والعمى، فكلتاهما صفات نقص والسمع والبصر صفتا كمال وضدهما نقص. فالحي إن لم يكن موصوفًا بآفة تمنعه من الإدراك كان سميعًا بصيرًا،١٤٠ وذلك يدل على أن نشأت الصفات هي في أضدادها عن طريق القلب، أي نفي مظاهر النقص الإنساني لإثبات مظاهر الكمال الإنساني.
ويذكر أحيانًا السمع بمفرده دون وضع مسائل جديدة زيادة على استقلالها عن العلم أو ارتباطها بالإدراك أو ارتباطها بالقدرة كالقول بأن سمع الإله قدرته على إدراك مسموعاته.١٤١ ولكن يبدو أن البصر قد حظي باهتمام أكبر من السمع بالرغم من أن الوحي سمعي لا بصري. فكل موجود يجوز أن يكون مسموعًا ومرئيًّا، وبالتالي لا يوجد موجود إلا إذا أدرك من خلال الحواس. لا يسمع إلا ما كان كلامًا أو صوتًا ومع ذلك يظل السمع صورة للعلم حتى ولو كان غير موجود أو كان أصوات الهامسين.١٤٢ ويثبت البصر أيضًا بنفس حجة ثبوت السمع. فتجوز رؤية كل ما هو موجود وتستحيل رؤية المعدوم. ولكن هل تجوز رؤية ما هو قائم بنفسه وتستحيل رؤية الأعراض؟
الدليل على رؤية الأعراض هو التمييز بالبصر بين الألوان وبين التأليف والأكوان. ومع ذلك فالبصر صورة للعلم والتحقق من وجود المعلوم حتى ولو كان مختفيًا عن الأنظار. فالبصر يعني العلم، والإدراك الحسي مقدمة للعلم وليس هو العلم. العلم لا يكون إلا نظريًّا. ولا يمكن أن تكون الرؤية هي العلم، فقد يرى الإنسان شيئًا ولا يعلمه أو يعلم الإنسان شيئًا ولا يراه. ويخلط القدماء بين السمع والبصر كصفات ذات وبين المسموع والمبصَر كموضوعات إدراك. وبالتالي يظهر موضوع الرؤية من جديد من الذات إلى الصفات في سؤال: هل يسمع الله ذاته؟ هل يرى الله ذاته؟ وبالتالي تتحول الصفات الذاتية إلى موضوعات مسموعة أو مرئية، ثم تتحول الموضوعات إلى ذات مُشخصة، ويصبح الله ذاتًا وموضوعًا، سامعًا ومسموعًا، مبصِرًا ومبصَرًا.١٤٣
وقياسًا على السمع والبصر، ما المانع من نسبة الذوق والشم واللمس كصفات للذات خاصةً وأن فقدانها نقص، وأنها من كمالات الحي؟ ولماذا لا يثبت التلذذ والتألم والشهوة، فهي أيضًا كمالات للحي؟ الحواس كلها طريق للعلم وللاتصال بالعالم والتعبير عنه سواء بسواء، مثل السمع والبصر. هل يغني السمع والبصر عن باقي الحواس لأن باقي الكيفيات الحسية داخلة فيهما، وكأن المدركات نوعان: سمعية وبصرية، مثل الفنون، لا ذوقية أو شمية أو لمسية؟ وقد أبدعت الحضارة قديمًا ليس فقط في الفنون السمعية (الشعر)، بل أيضًا في الفنون البصرية (الكتابة والزخرفة)، والذوقية (الطعوم)، والشمية (الأراييح)، واللمسية (الحرائر).١٤٤ والحقيقة، أن ذلك كله هو إكمال للوعي بالحواس وسيلة الاتصال بالعالم والتعبير عنه، مع إعطاء الأولوية للسمع والبصر على الذوق والشم واللمس لأنهما أقرب إلى إدراك المعاني. والحواس ليست صفات أزلية قديمة قائمة بالذات (المستوى الصوري) ولا أعضاء ووظائف حسية تقوم على الأشعة والعين والأجسام والأعراض، والحواس والآلات، والأذن والصماخ، والآفات وصحة البنية (المستوى المادي)، بل هي مدركات حسية يعي الوعي من خلالها العالم. الوعي يرى ذاته خارجًا منه، مطرودًا من العالم، غريبًا عنه. وهذا ما يؤكده تحليل السمع والبصر في أصل الوحي. فالسمع فعل أكثر منه صفة، وفعل إنساني وليس فعلًا إلهيًّا. وهو مرتبط بالعلم وطريق له. أمَّا البصر فهو أيضًا فعل للإنسان أكثر منه فعلًا لله. وكذلك البصر والإبصار للإنسان للإدراك الموجه بالانتباه.١٤٥

(٦) الكلام

وهو الصفة السادسة من صفات الذات. وفي العقائد يصعب الفصل بين أوصاف الذات وصفاتها فتظهر بعض الصفات مع الأوصاف. فمثلًا يظهر العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر مع نفي الجسمية والشبه وإثبات الواحد وإعادة المخلوقات.١٤٦ ولا يظهر إلا الكلام والإرادة متميزان على باقي الصفات السبع نظرًا للمخاطر المحدقة بهما. الكلام لإثبات قدمه ضد خلقه، والإرادة لإثبات شمولها ضد حرية الأفعال.١٤٧
ونظرًا لأهمية الكلام، فإنه يظهر بوضوح تام أمام الرباعي كما يطغى أحيانًا على الثلاثي: العلم والقدرة والحياة، كما غلبت من قبل صفتا المخالفة للحوادث والقيام بالنفس على أوصاف الذات الست. ويعقد له باب خاص قد يكون هو الباب الأوحد المستقل في الصفات. وفي بعض المؤلفات يظهر الكلام (القرآن) وتختفي باقي الصفات الست الأخرى.١٤٨ ويأتي الكلام في أول الرباعي نظرًا لأهميته.١٤٩ وعندما تدخل الإرادة مع الثلاثي الأوَّل يظهر الكلام ثاني صفة في الرباعي بعد الإرادة وقبل السمع والبصر نظرًا لأهميته على السمع والبصر وارتباطه بهما في نفس الوقت.١٥٠ ويظهر الكلام في ثلاثة أبواب مستقلة بعد الإرادة، وقبل السمع والبصر، فتتصدر أهم صفتين تتلوهما الصفتان الأقل أهمية.١٥١ ونظرًا لارتباط الإرادة بالقدرة، وارتباط الكلام بالسمع والبصر، فقد تأخر الكلام.١٥٢ وقد يأتي الكلام في آخر الرباعي بعد الإرادة نظرًا لتكوينه موضوعًا خاصًّا مستقلًّا حسيًّا.١٥٣ وقد يذكر معه القرآن نظرًا لأن القرآن هو التعبير الحسي الملموس عن الكلام أي الكلام الجسمي.١٥٤ ونظرًا لأهمية إثبات خلق القرآن أو قِدَمه، فإنه يظهر في باب خاص تالٍ للرؤية وإثباتها. ويظهر كأنه هو كل مسألة الكلام، ولا تذكر مسائل الكلام الأخرى كالكتابة والتلاوة والحفظ إلا عابرًا في معرض المحاجَّة على قِدَم القرآن.١٥٥ وقد يظهر الكلام كأحد أبواب العدل ويخرج عن كونه صفة للذات في أبواب التوحيد. ووجه اتصاله بالعدل هو أن القرآن فعل من أفعال الله يصح أن يقع على وجه فيقبح وعلى وجه آخر فيحسن. وباب العدل كله في أفعاله وما يجوز أن فعله وما لا يجوز.١٥٦ ويثبت عن طريق إجماع الأنبياء دون أن يتوقف ثبوت نبوتهم عليه أي أنه ليس دليلًا على النبوة كالمعجزة.١٥٧
ويشمل مبحث الكلام عدة موضوعات، إثبات الكلام أو نفيه، قِدَمه وحدوثه (مشكلة خلق القرآن)، ثم وصف مراحل الكلام ابتداءً من السمع والبصر حتى الرؤية والتحقق مارًّا بالحفظ والأداء ثم صيغ الكلام (وحدته وكثرته).١٥٨ ولكن ما هو تعريف الكلام؟ يتراوح تعريف القدماء بين الكلام كأصوات وحروف مسموعة أو مقروءة، أي الكلام الحسي، وبين الكلام كمعنى، أي الكلام النفسي. وينشأ الخلاف في الكلام الحسي، أي الأصوات والحروف، هل هي قائمة بذات الله أم قائمة بغيره في الهواء أو على الألواح؟ كما ينشأ الخلاف في الكلام النفسي هل هو قائم بذات الله، أي بنفسه، أم أنه معنى قائم بنفس الإنسان المستمع أو القارئ؟ فلا خلاف عند القدماء على كونه متكلمًا ولكن الخلاف في معنى كلامه.
وحجة الكلام الحسي أن الكلام أصوات دالة على معانٍ مخصوصة في أجسام مخصوصة، الكلام أصوات وحروف يخلقها الله في غيره كاللوح المحفوظ أو جبريل أو النبي. وهنا يبرز سؤال: وهل اللوح المحفوظ أو جبريل موضوعان حسيان يظهر فيهما الكلام كما يظهر على لسان النبي وبصوته؟ كما يبرز سؤال آخر: هل الكلام أصوات وحروف فحسب؟ ألا تدل الحروف والأصوات على معنًى وبالتالي يكون الكلام لفظًا ومعنًى؟ وبالتالي يسهل اتهام الكلام الصوتي فحسب بأنه تعطيل للمعنى أو تجسيم له. ولكن السؤال الأهم: إذا كان الكلام هو الأصوات والحروف، فكيف يقومان بذات الله القديم؟ بل قيل إن الجلد والغلاف قديمان! الرغبة في عدم التضحية بالنظرة الحسية والتمسك بالعقيدة الإيمانية في آنٍ واحد حاصرت العقل فلم يعطِ أي تأسيس لهذا الجمع بين الكلام الحسي والصفة القديمة، بين الكلام المتكثر والكلام الواحد.١٥٩
وحجة الكلام النفسي أن الكلام صفة غير الحروف والأصوات؛ لأنها تفيد معاني وضعًا أو اصطلاحًا. هو الكلام القائم بالنفس، معاني حقيقية قائمة بها، والعبارات مجرد تعبيرات مختلفة ومتغيرة.١٦٠ وهو كلام واحد ينقسم إلى أمر، ونهي، واستفهام، وخبر، ونداء، أي خمس صيغ حسب التعلق. يمتنع عليه الكذب اتفاقًا إمَّا لأنه قبيح والله لا يفعل القبيح، ولأنه منافٍ لمصلحة العالم والأصلح واجب عليه، أو لأنه نقص والنقص محال على الله، أو لأنه لو اتصف بالكذب لكان كذبه قديمًا، فيمتنع عليه الصدق، أو لأنه خبر النبي الذي يُعلَم صدقه بالمعجزة وليس بالكلام حتى لا نقع في الدور. والحقيقة أن صدق الكلام يكون إمَّا من حيث الصحة التاريخية وهو موضوع النقد التاريخي وعلوم الرواية ومصطلح الحديث أو من حيث الفهم، ويكون ذلك عن طريق قواعد اللغة وأسباب النزول أو من حيث التحقق الفعلي كنظام للعالم، ويكون ذلك من خلال الفعل للأفراد وللجماعات في التاريخ. فلا يرجع صدق الكلام إلى صدق الذات بحسب كمالها، فذاك صدق علوي مفارق، بل يرجع إلى ضبط الإنسان له بمناهجه في النقل وبقواعده في التفسير وبأفعاله في السلوك. ولكن تبدو الصعوبة في تصور الكلام النفسي صفة للذات الإلهية وليس معنًى في الشعور الإنساني. إذ كيف يكون هذا الكلام مغايرًا للعلم والإرادة، بل قد يخالفهما، فقد أمر الله أبا لهب بالإيمان (الكلام في صيغة الأمع) مع علمه بأنه لا يؤمن، وامتناع إرادته عما يخالف علمه محال؟ لذلك آثر الحكماء الحديث عن الكلام الإنساني لفظًا ومعنًى، الحسي والمعنوي. والحجة أنه لو كان للباري كلام فإمَّا أن يكون من جنس كلام البشر أو لا يكون. والأول إمَّا أن يكون لسانيًّا وهو تشبيه أو نفسانيًّا وهو باطل نظرًا لارتباط النفساني باللسان، ولأن النفس بها تفكير ووهم وخيال. كلام الله إذن ليس من كلام البشر. ولا حيلة للحديث عنه إلا قياس الغائب على الشاهد وبالتالي الانتهاء إلى الكلام كلفظ أو كمعنًى أو التوقف والتسليم بالعجز عن تعريف الكلام وهو ما يناقض نظرية العلم؛ لأن الجهل من مضادات العلم.١٦١

(٦-١) الإثبات والنفي

وهي قضية تتعلق بإثبات الصفات ونفيها. فالباري متكلم بكلام ليس من جنس الأصوات والحروف، صفة منافية للسكون والآفة، تكلم الله بها، آمرًا، ناهيًا، مخبرًا. والدليل على ذلك إمَّا النقل والتواتر والإجماع وأمَّا العقل. والنقل كثير ولكنه ظني، معارَض بنقل آخر، ويمكن تأويله لإثبات الضد. كما أنه دور؛ لأن النقل نفسه كلام في حاجة إلى إثبات، ولا يثبت إلا بعد إثبات النبوة.١٦٢ وقد يثبت بتواتر من الأنبياء وبإجماعهم وإن لم يكن دليلًا على صدق النبوة كالمعجزة.١٦٣ والتواتر لا يثبت إلا صحة النقل الخارجي دونما نقد داخلي، ولا يثبت إلا الكلام الحسي من المبلغ إليه. والحقيقة أن إجماع الأنبياء متوقف على صدق الرسل وصدق الرسل متوقف على صحة الكلام، وبالتالي نقع في الدور. وقد يثبت بإجماع الأمة، وهو ضعيف؛ لأن الإجماع لا يكون إلا على اللفظ وليس على المعنى مثل التواتر.
أمَّا العقل فإنه يعتمد على عدة حجج أولها حجة الكمال. فالسمع والبصر والكلام مظاهر كمال، والصمم والعمى والخرس مظاهر نقص. فلو لم يكن الباري موصوفًا بها لكان الإنسان أكمل منه فوجب أن يكون الباري سميعًا بصيرًا متكلمًا بلا صماخ وحدقة ولسان. وهنا يقوم الشعور بإثبات شيء بطريق التشبيه ثم نفيه بطريق التنزيه أو إثبات الشيء عن طريق نفي الضد، وإثبات الكمال عن طريق نفي العيب.١٦٤ وقد يثبت الكلام بكلام النفس قياسًا للغائب على الشاهد مما يدل على أن الإنسان لا يتحدث عن الكلام إلا وفي ذهنه كلامه، وكأن الكلام على الإطلاق تجريد لكلامه الخاص، وتحويل للواقع إلى مثال.١٦٥ وقد يثبت الكلام عن طريق الأحكام. فأفعال العباد مترددة بين الحظر والإباحة والندب والوجوب. واختصاصها بهذه الأحكام يستدعي مخصِّصًا، وليست كذلك إرادة الله لأن الله قد يأمر بما لا يريد، وهذا المخصِّص هو الكلام.١٦٦ ولما كان الله ملكًا مطاعًا، وكان له الأمر والنهي فإن ذلك يستلزم بالضرورة الكلام.١٦٧ وقد رد الحكماء على حجة الطاعة بأن ذلك يستلزم التصديق. وكيف يمكن الرد على منكرها والجاحد لصدقها في نفسها؟ أليس ذلك نقلًا لموضوع الكلام إلى موضوع آخر هو النبوة؟ وأخيرًا إذا دلت الأفعال من حيث إتقانها على العلم، ويستحيل أن يعلم الله شيئًا ولا يخبر عنه، والله يصح منه الإرشاد والتنبيه والتعليم والإخبار، فوجب أن يكون له كلام. وهي حجة قائمة على جواز انبعاث الرسل، وبالتالي تقوم على شيء مطلوب إثباته.١٦٨ والحقيقة أن إثبات الكلام بالإرادة أو بالقدرة أو بالعلم أو حتى بكلام النفس إثبات ضعيف. فالإرادة إمَّا للامتثال أو لإحداث الصيغة أو لجعلها دالة على الأمر. والأول يعارضه أبو جهل وإبراهيم يذبح ولده، والقدرة معنًى يتعلق بكل ممكن، والإرادة أخص، والعلم أعم من الأمر، وأحاديث النفس مرتبطة باللسان.١٦٩ والحقيقة أن الكلام ليس في حاجة إلى إثبات إنما الإشكال في إثبات كلام من؟ إن الكلام الإنساني يفرض نفسه، والوحي ذاته كلام بلغة الإنسان، وصيغه صيغ الكلام الإنساني، أمر ونهي وخبر.١٧٠
وليس إثبات الكلام أو نفيه مجرد وقوع في التشبيه أو حرصًا على التنزيه، بل إن الأمر يتعلق بالكلام نفسه. فإن إثبات الكلام كصفة للتأليه المشخص يوقع في التشبيه، ويعطي الأولوية للذات المشخصة على الصفة ثم للصفة على الكلام.١٧١ وأن نفي الكلام إثبات للتنزيه لأن الكلام يؤدي إلى الانفعال، والانفعال نقص في التنزيه على مستوى الكمال ونفور من التشخيص. فالكلام فعل وانفعال وحركة. الكلام لا صلة له بالذات المشخصة، بل هو من فعل الطباع.١٧٢ فنفي الكلام إذن قضاء على الاغتراب وعود إلى الكلام الإنساني، ورد الوعي إلى ذاته مدركًا ومتكلمًا، وإعمال للعقل بدل الوهم، ورؤية للواقع لا للخيال.
وقد يكون هناك حل وسط بين إثبات الكلام ونفيه، وجعل الكلام صفة فعل لا صفة ذات، فالتأليه المشخص لا يتكلم، بل هو متكلم.١٧٣ ومِنْ ثَمَّ يمكن إثبات الصفة دون الوقوع في التشبيه. وصفة الفعل توحي بأن الكلام ذو اتجاه واحد، وهو قصد من الذات نحو الآخر دون القضاء التام على التشخيص؛ لأن الذات المؤلَّهة ما زالت موجودة. وقد تنقلب الآية فلا يصبح التأليه المشخص متكلمًا أو مكلمًا، بل يصبح متكلمًا بكلام غيره، ومكلمًا لغيره، أي أنه يصبح محلًّا للحوادث كسائر المتكلمين.١٧٤
والحقيقة أن هذا وضع خاطئ للمشكلة. فالكلام لا ينسب إلى شخص المتكلم أو حتى إلى السامع، بل يدرس في نفسه. لا يحتاج الأمر إلى افتراض شخص متكلم؛ لأن الكلام موجود بالفعل بدليل الوحي. لا يهم أن يكون الوحي كلام شخص، بل هو مجرد كلام. والذهن البشري يبحث بعد واقعة الكلام وليس قبلها. المقصود من الكلام هو اتجاه الكلام وغايته وليس مصدره وأصله، على عكس الصوفية الذين أرادوا بالتأويل إرجاع الكلام إلى مصدره الأوَّل في شخص المؤلَّه. لا يدل الوحي على أن هناك متكلمًا، بل على أن هناك مستمعًا. ما يهمنا ليس هو الإلهيات، بل الإنسانيات، أي فهم الكلام كمقصد أو اتجاه نحو الإنسان. والشخص نفسه لا يُعرَف إلا من خلال الكلام؛ لأن الكلام يشير إلى تشخيص عواطف التأليه. الكلام هو نقطة البداية لا الشخص، وأن ما يطرق الأذن هي الكلمة لا الشخص الذي تفوه بالكلمة. الكلمة موجودة بفعل طرق الأذن، ولكن الشخص قد يكون وراء ستار أو متحدِّثًا عن بُعد. وأن التحول في تاريخ العقائد إنما يكون باستمرار من الكلمة إلى الشخص كما تم في تاريخ العقائد المسيحية وتفسير معنى الكلمة.١٧٥

فإذا كان السمع والبصر يشيران إلى العلم، فهما طريقان إليه. وإذا كانت الإرادة ما هي إلا صفة تشبيهية للقدرة وتشخيصًا لها كان الكلام في الرباعي موازيًا للحياة في الثلاثي. فما الصلة بين الحياة والكلام؟ يمكن القول بأن الحياة تعبير، وبأن المشخص ليس فقط في ذاته عالمًا قادرًا، بل هو أيضًا متصل بالحياة ويراسلها. ليس التأليه فقط ارتفاعًا إلى أعلى ومفارقةً كما هو الحال في التنزيه، بل هو أيضًا نزول إلى أسفل واتصال بالآخرين وحديث مع الناس.

(٦-٢) هل الكلام قديم؟

وهو الموضوع الغالب على تحليل صفة الكلام كتطبيق خاص للحكم العام على الصفات بالقِدَم أو الحدوث، كما كان العلم نقطة تطبيق لموضوع العلاقة بين الذات والصفات، علاقة زيادة ومساواة، غيرية وهوية. والكلام هو الصفة الوحيدة من الصفات السبع التي لها تحقق ملموس، مرئي ومسموع، هو القرآن. ومن هنا أتت أهميته كدليل حسي مادي على وجود الباري. وأهمية القرآن هو أنه الخبر، وهو مصدر العلم، وهو الصفة الأولى التي منها تثبت باقي الصفات الأخرى نقلًا، وبالتالي له الأولوية عليها باعتباره مصدرًا. وابتداءً من القرن السادس انتقلت مسألة القِدَم والحدوث من صفة الكلام إلى مسألة الوحدة والكثرة. فإثبات وحدة الكلام إثبات لقدمه وقيامه بالذات، وإثبات الكثرة إثبات لحدوث الكلام وقيامه بالحوادث.١٧٦ والعجيب أن اسم المشكلة ليس قِدَم الكلام وحدوثه، فذلك اسم الحكم العام للصفات كلها أو قِدَم الكلام فقط، وهو ما ركز عليه الأشاعرة، بل «خلق القرآن»، أي نظرية خصومهم المعتزلة. فالتعبير ذاته يوحي بالنفور. فليس هناك مسلم واحد يرضى بخلق القرآن نظرًا لأن الإحساسات الدينية للمسلمين تمج الخلق ولا تقبل إلا القِدَم. القِدَم أكثر تعظيمًا وإجلالًا من الخلق، القديم أفضل من الجديد، والماضي أعمق من الحاضر، والأصلي أقرب إلى القلب من التقليد.
وقد أجمع أهل الإسلام على أن لله كلامًا، وعلى أن الله كلَّم موسى، وعلى أن كلامه في سائر الكتب المنزلة في التوراة والزبور والإنجيل والقرآن، أي في الصحف.١٧٧ ولكن المسألة هي الصلة بين الكلام كصفة للذات وبين الكلام الحسي المقروء. فالصفة المجردة تدخل تحت إشكال القِدَم والحدوث والكلام الحسي يدخل تحت إشكال المعنى واللفظ. وتنشأ المشكلة عندما يتم الخلط بين المستويين للكلام الصوري والمادي، فتعتبر الصفة المجردة حادثة أو يعتبر الكلام الحسي قديمًا. وهنا تنشأ الحلول المتوسطة التي تحاول الجمع بين الطرفين مثل قِدَم الصفة المجردة وحدوث الكلام الحسي، أو قِدَم الذات وحدوث الصفات، قِدَم المعنى في النفس وحدوث اللفظ المجرد أو رفض الجميع والتوقف عن الحكم. المواقف إذن أربعة: إمَّا أن يكون الكلام قديمًا حتى بأصواته وحروفه، وإمَّا أن يكون قديمًا ككلام نفسي دون الأصوات والحروف، أو يكون الكلام حادثًا حتى في الذات والصفات كرد فعل على قِدَم الذات والصفات، أو يكون حادثًا غير قائم بالذات بل قائم في المحل.١٧٨ والحقيقة أنه يمكن رد هذه المواقف الأربعة إلى اثنين: الأوَّل عدم التمييز بين المستويات، سواء كان ذلك قولًا بقِدَم الكلام ذاتًا وصفةً، معنًى ولفظًا، أو بحدوثه ذاتًا وصفةً، معنًى ولفظًا. والثاني التمييز بين المستويات سواء كان بين الذات والصفة أو المعنى واللفظ أو كان بين القيام بالذات والقيام بالمحل.
والحشوية مذهب يقوم على التوحيد بين الكلام كصفة قديمة أزلية وبين الكلام كأصوات وحروف. لذلك يُسَمَّى مذهب المشبهة الحلولية المجسمة. وينشأ الخلط من الجمع بين الكلام القديم، وهو مفهوم بمفرده كحكم مبدأ بقِدَم الصفات وبين الكلام كحروف وأصوات، وهو مفهوم كحكم واقع على كلام حسي مرئي. فالجمع بين الاثنين خلط وتناقض دون تأصيل عقلي يكشف عن الرغبة في الجمع بين الحساسية الدينية والرؤية الحسية، بين متطلبات الإيمان ومقتضيات الحس، فينشأ مذهب إيماني حسي. ويعتمد المذهب على مجموعة من الحجج النقلية والعقلية تعتمد كلها على أن القراءة هي المقروء والتلاوة هي المتلو، وأن القديم يحل في الحادث ويختلط به مع أن ذلك خلط بين المعنى واللفظ، بين الماهية والواقع، بين الشيء والدلالة. تقوم الحشوية إذن على الخلط بين المستويات في مقابل تصور آخر يقوم على التمييز بين المستويات.١٧٩ والحقيقة أن معظم الأدلة النقلية من القرآن قد أُخرجت من سياقها ودُفعت إلى أعلى بدلًا من أن تتوجَّه إلى أسفل. خرجت عن العالم بدلًا من أن تتجه إليه، تتحول إلى صفة لذات مشخصة مع أنها تصورات للعالم وبواعث للسلوك ونظم للمجتمعات وقوانين للتاريخ. أمَّا الأحاديث فمعظمها ظني من حيث السند أو المتن، يظهر فيها أثر الخيال الشعبي وأساطير الخلق وتحديداتها في الزمان والمكان. ويسهل توجيه نقل مضاد لهذا النقل لإثبات عكس القضية، فيصبح الموقف المذهبي هو الأساس والنقل مجرد تابع ومبرر ومؤيد له. ومعظم الحجج العقلية من الأحاديث وليست من القرآن، روايات آحاد أكثر منها تواترًا، عقائد نظرية أكثر منها شرائع عملية، مما يدل على الاغتراب وقذف الكلام خارج العالم وإلحاقه بالذات المشخصة، الغاية منها التعبير عن العظمة واللانهائية وليس إصدار حكم على مادة الكلام. الغرض منها الإيحاء النفسي والتوجيه العملي الذي يصل إلى حد الإرهاب بالعظمة والجبروت وليس المعرفة الخبرية. وكثير من هذه التأويلات تقوم على بواعث سياسية خالصة، الغاية من الإلغاز فيها هو السماح للتأويل السياسي سواء من السلطة أو من المعارضة لحل اللغز طبقًا لمصلحة كل فريق، خاصةً فيما يتعلق بزوال الدول وانهيار أنظمة الحكم وقدوم دولة أخرى والتبشير بنظام قادم به الخلاص.
هناك إذن فرق بين اللفظ والمعنى، بين الدليل والمدلول، فالقراءة غير المقروء، والتلاوة غير المتلو، والكتابة غير المكتوب. والأدلة على ذلك كثيرة من النقل والعقل، من الكتاب والسنة والإجماع والحس والعقل، نقل في مقابل نقل وعقل في مقابل عقل. والحجة الشاملة هي أنه لا يمكن فهم الكثرة والوحدة في الكلام إلا بناءً على التفرقة بين اللفظ والمعنى، بين القراءة والمقروء، بين التلاوة والمتلو. يتعدد القرآن والقرآن واحد، وتتغير الألحان والقرآن واحد، ويتغير الإعراب والقرآن واحد، ويُثاب كل فرد على قراءته والقرآن واحد، وتتعدد القراءات والقرآن واحد، يُقرأ بالكلام بالعربية فهو قرآن، وبالعبرانية فهو توراة أو زبور، وبالسريانية فهو إنجيل. الكلام واحد والتعبير متعدد اللغات. الأمر بالتلاوة استدعاء للفعل، والفعل صفة المأمور لا صفة الأمر. القراءة صفة، والمقروء موصوف، وشرط الصفة القيام بالموصوف. والقراءة وقت الجنابة ممكنة لأن المقروء غير القراءة. كلام الله لا يُلفظ أو يُحكى به. هو كلام واحد ومتعلقاته كثيرة. وهناك حجج أخرى متعددة، منها أن القراءة مرة طيبة مستلذة، ومرة فجة تنفر منها الطباع، مرة رقيقة ومرة منخفضة، وكذلك الكتابة تارة حسنة وتارة سيئة. القراءة فعل الإنسان وعمله، القراءة طاعة وقربى أو معصية وسوء. لا يتصف الكلام القديم بالحروف والأصوات ولا شيء من صفات الخلق ولا يفتقر إلى مخارج وأدوات، بل يتقدس عن جميع ذلك. لا يحل في شيء من المخلوقات. لا يتكلم أحد بكلام الله، فالقراءة أصوات القراء وأكسابهم، أمَّا المقروء فهو المعروف والمعلوم. القرآن إذن لفظ متشابه، يُحمَل على القراءة كما يُحمَل على المقروء.١٨٠
إن كل اختلاف في القراءات أو تغير في الأصوات أو إسقاط لبعض الحروف لا يحدث تغييرًا في الكلام. الصوت المسموع أو الكلام المكتوب ليس هو الكلام، ولا يمكن لحروف متفرقة أو متناهية تكوين كلام دال لا متناهٍ. القراءة فعل فردي شخصي مكتسب تنفيذًا للأمر، في حين أن الكلام هو الأمر. كل ذلك يثبت في النهاية قِدَم الكلام وأولويته على القراءة.١٨١ لذلك لا يجوز القول بأنه يلفظ بالقرآن؛ لأن التلفظ رمي، واللفظ يوحي بالخلق لا بالقِدَم.١٨٢ لذلك يفضل البعض وصف القراءة بأنها ذكر حتى تتميز عن القراءة اللفظية للكلام البشري.١٨٣ والإثبات يلغي هذا التميز بين فعل القراءة وموضوعها، ويجعل فعل الذات مطابقًا للموضوع تمشيًّا مع اعتبار الكلام موضوعًا حسيًّا خالصًا. فالمقروء دون فعل القراءة افتراض خالص أو إمكانية محضة لا يمكن معرفتها إلا من خلال مظهر حسي هو فعل القراءة وما يصدر عنه من أصوات وحروف. لا توصف القراءة بأنها تلفظ لأنها تختلف عن القراءة العادية لكلام البشر.١٨٤
البديل إذن عن الخلط بين المستويات هو التمييز بينها. فالقرآن قديم كصفة أزلية قائمة بالذات ومحدث باعتباره أصواتًا وحروفًا منزَّلة على النبي.١٨٥ وكل ما هو خارج الصفة مثل اللوح المحفوظ وجبريل وليلة القدر وبيت العزة والسماء الدنيا والصحف والسور المكية والسور المدنية كلها مخلوقة.١٨٦ الكلام قديم، والحروف والأصوات مخلوقة. العلم غير مخلوق ولكن الأمر والنهي مخلوقان. العلم يحتوي على التصور النظري للعالم والأمر والنهي يمثلان التطبيقات العملية لهذا التصور في الزمان والمكان.١٨٧ وقد يميز بين الحدوث والخلق، فليس كل محدث مخلوق أو غير مخلوق بالضرورة.١٨٨ وقد يميز بين الحدث والمحدث، فكل حدث لا يكون بالضرورة محدثًا.١٨٩ وقد يكون بعض الكلام لا في محل والبعض الآخر في محل.١٩٠
كلام الله إذن قديم أزلي، نفساني، أحدي الذات، ليس بحروف ولا أصوات.١٩١ ولا يكفي إثبات ذلك عن طريق تفنيد الموقف الحشوي الذي يقوم على الخلط بين المستويات، أي عن طريق إثبات استحالة الضد، بل هناك أدلة إيجابية لإثبات التمايز بين المستويات، بالنقل والعقل. ويشمل النقل الكتاب والسنة والإجماع.١٩٢ والحقيقة أن ذلك لا يثبت شيئًا، فالنقل معارَض بنقل غيره، والنقل الأوَّل قد يُؤوَّل حتى يتحول إلى نقل مضاد، فكل نقل خاضع لتفسير وتأويل طبقًا للمذهب المسبق الذي قرأ نفسه في النص فابتسره وأخرجه من سياقه ومضمونه وأبعده عن اتجاهه من داخل العالم إلى خارج العالم. أمَّا الأحاديث فهي آحاد أو ضعيفة معارضة بأحاديث أخرى، أغلبها يظهر فيه الدين الشعبي. أمَّا الإجماع فإنه ليس تامًّا، وإنه من فرق واحدة، وإنه يقوم على الهوى، وإنه معارض بالنقل، وإنه لا يتم إلا في مسألة عملية تتعلق بصالح الأمة. أمَّا الحجج العقلية فمعظمها جدلي يقوم على القسمة واستحالة الحدوث بناءً على دليل الحدوث لإثبات الصنع وصفة القديم كوصف للذات. وقد تكون حججًا خطابيةً إيمانيةً مستمدة من الحجج النقلية دون إحكام عقلي نظري كافٍ. وقد يقوم البعض منها على إثبات استحالة الضد، أي إنها براهين خلق.١٩٣ وتقوم حجج أخرى لإثبات القِدَم على الفصل التام بين الكلام والصفة والذات القديم وبين الكلام كموضوع حسي موجود مكتوب ومقروء ومسموع استنكافًا من المادة وتأفُّفًا منها، ومِنْ ثَمَّ يكون إثبات القِدَم تعبيرًا عن عواطف التطهر.١٩٤ وقد كان هم كل متكلم أشعري المباراة في إثبات قِدَم الكلام والتفصيل في الحجج وكأنها مسألة بها تُرعى مصالح الأمة. منها ما يعتمد على قِدَم الصفات أو على إثبات الأزلية أو على نفي الضد واستحالة الخلق أو على مجرد المعنى العام المفهوم من الخبر.١٩٥
والقول بقِدَم الكلام يؤدي بالضرورة إلى القول ببقائه. فإذا كان الكلام أزليًّا فإنه يكون كأوصاف الذات المشخص. فهو لا أول ولا نهاية له في الزمان. ولا يؤثر في ذلك كون الكلام جسمًا أم عرضًا؛ لأنه يكون حينئذٍ جسمًا أو عرضًا باقيًا في حين أن الأجسام والأعراض الأخرى غير باقية.١٩٦ وإمعانًا في إثبات البقاء يكون الكلام كله باقيًا، سواء كان الكلام صفة للذات المشخص أو كلام الإنسان.١٩٧ ومع ذلك لم تحظ صفة البقاء بما حظيت به صفة القِدَم تمامًا كما كان الحال في أوصاف الذات عندما حظي القِدَم باهتمام أكبر من البقاء، وكان ما لا أول له أهم بكثير مما لا نهاية له، وكأن الماضي أهم من المستقبل، وكأن الغوص في الماضي والبحث عن الجذور أهم من التطلع إلى المستقبل والتخطيط له. فإذا كان القول بالقِدَم يستتبع القول بالبقاء كما يستتبع القول بالحدوث القول بالفناء فكيف يشارك الكلام الله في البقاء كما يشارك في القِدَم؟ أليس ذلك قولًا بتعدد القدماء؟ وكيف يشارك الكلام وهي صفة في القِدَم وهو وصف للذات؟
والحقيقة أن القول بتمايز المستويات في الكلام تفاديًا للخلط بينهما يكون موقفًا تطهريًّا صرفًا، يقوم في حقيقة الأمر على مادية مقنعة، وكأن موقف الخلط وموقف التمييز كلاهما واحد، الأوَّل مادية صريحة، والثاني مادية مقنَّعة. فما السبيل إلى معرفة الكلام القديم الأزلي؟ نحن لا نعرفه إلا من خلال الكلام الحادث، وبالتالي لا يمكن معرفة كلام الله كصفة قديمة إلا من خلال الوحي، أي بلغة الإنسان المقروءة والمسموعة، وهو كلام حادث. وإذا كان الكلام نفسانيًّا ليس بأصوات ولا حروف فإن السؤال يكون نفسانيًّا بالنسبة لمن: نفس الله أم نفس الإنسان؟ وهل لله نفس يختزن فيها المعاني كما هو الحال عند الإنسان؟ أليست نفس الله هي نفس الإنسان مدفوعة إلى أعلى، صورة مكبرة لصورة أصغر بدافع التعظيم والإجلال، إقلالًا من شأن الذات، وتعظيمًا من شأن الآخر؟ وإذا كان الكلام أحدي الذات، فإن إنكار التعدد إنكار للمستويات، وبالتالي وقوع في الخلط بينها من جديد. وإذا كان الكلام ليس بحروف ولا أصوات ضد الحدوث، فما علاقة الكلام القديم بالكلام الحادث؟ ليس المهم هو الاعتراف بالتمييز بين المستويات، بل إيجاد الصلة بينها، وإلا وقعنا في الخلط بينهما من جديد. وإذا كان الكلام مغايرًا لباقي الصفات، فكيف يكون مغايرًا لها وهو مصدرها؟ ما صلة الواحد بالكثير، والمعنى باللفظ؟ لذلك لا فرق في النهاية بين الخلط وبين المستويات أو بين التمييز بينها. الأوَّل يجعل الله إنسانًا، فالكلام صوت وحرف، والثاني يجعل الإنسان إلهًا، فالإنسان تكلم بكلام الله القديم. إن القول بقِدَم الكلام لناتج عن ربطه بالتأليه المشخص وجعله مشاركًا له في القِدَم والأزلية والأبدية واللانهائية. وما دام التأليه المشخص غير مجسم كان الكلام كذلك. فالكلام قديم لفظًا ومعنًى مما يؤدي في النهاية إلى القول بأن الكلام جسم أو أنه قديم ومحدث في آن واحد، فإذا ما غالى البعض في إثبات القِدَم مزايدةً في التنزيه، فإنه يجعل الكلام كله قديمًا، سواء كان معنًى أو لفظًا قائمًا بالذات المشخصة أو بفعل القراءة وبحركة اللسان.١٩٨
ولما أدى الحكم بالقِدَم سواء في الخلط بين المستويات أو في التمييز بينها إلى تصور حسي للعالم، كان من الطبيعي أن يعترف بذاك صراحةً. الحكم بالخلق أو بالحدوث ليس فقط في صفة للكلام، بل في الذات. فلم يعد القرآن نفسه حادثًا، بل الذات نفسها حادثة ومحلًّا للحوادث، ومن لا يعود هناك فرق بين الحشوية وأهل السنة وبين المشبِّهة. فالطرفان يلتقيان على التجسيم أو التشبيه، مرة لحساب الله ومرة لحساب الجسم. ليست صفة الكلام وحدها هي الحادث، بل إن الذات نفسها تكون محلًّا للحوادث أو محلًّا للقدرة الحادثة.١٩٩

(٦-٣) خلق القرآن

أمَّا الحكم بالحدوث فقد ظهر في موضوع «خلق القرآن». والحقيقة أن لفظ الخلق من وضع الخصوم، والأصوب هو الحديث عن القرآن المسموع المرئي المتكون من الأصوات والحروف والعبارات الدالة والمقروء والمحفوظ، وهي النظرة الأكثر علمية للكلام.٢٠٠ ولا فرق في خلق القرآن بين إثبات الصفة ونفيها. ففي كلتا الحالتين الكلام مخلوق أو حادث. وقد يفضل البعض إقامة فرق دقيق بين الخلق والحدوث. فإذا كان القرآن محدثًا فإنه يمتنع أن يكون مخلوقًا تجنُّبًا من الوقوع في التجسيم.٢٠١ فإذا كان كلام الله أصواتًا وحروفًا ليست قائمة بذاتها، بل يخلقها في غيره كاللوح المحفوظ أو جبريل أو النبي، فإن ذلك بناءً على أن أفعال العباد مخلوقة لهم كذلك إمَّا مباشرةً ابتداءً وإمَّا بالتوليد. هناك إذن صلة بين خلق القرآن وخلق الأفعال، كلاهما فعل إنساني خالص مباشر أو متولد.٢٠٢ والقول بالحدوث يستتبع بطبيعة الحال القول بالفناء، فكما أن الكلام حادث فإنه يفنى.٢٠٣
وهناك عديد من الحجج النقلية لإثبات خلق القرآن.٢٠٤ وهي أيضًا ظنية؛ نظرًا لأنها ابتسار للوحي وقراءة للمذهب في النصوص وحق المذهب المضاد في نفس القراءة. وما أسهل من تحويلها إلى حجج مضادة للمذهب نفسه بقراءة أخرى وبتأويل مضاد. أمَّا الأحاديث فمعظمها ضعيف وخبر آحاد وتعبر عن الدين الشعبي في الإجلال والتعظيم.
أمَّا الحجج العقلية فنوعان: الأوَّل تقوم على برهان الخلق، أي استحالة النقيض. مثلًا: لو كان قديمًا لكنا أمام إلهين قديمين: الله والقرآن. لو كان قديمًا لوجب أن يكون مثل الله لأن القِدَم صفة من صفات النفس والاشتراك في صفة من صفات النفس يوجب التماثل، أي الاشتراك في جميع صفات النفس. لو كان قديمًا لاختص ببعض المخلوقين دون البعض مثل اختصاصه بالرسول والقرآن معجزته، وهو تناقض لأن القديم لا متعلق له. لو كان قديمًا لاستوت نسبته إلى المتعلقات كالعلم، ووجب أن يكون عالمًا لذاته، قادرًا لذاته كالقديم. ولو كان قديمًا لاستحال أن يعدم لأن العدم مستحيل على القديم. ويتبع برهان الخلق حجة جدلية مؤداها أن كلامه إمَّا أن يكون مثل كلامنا أم لا، والأول مخلوق والثاني لا يعقل؛ لأن الكلام هو الكلام. أمَّا حجج الإثبات فتقوم على النسخ، ففي القرآن ناسخ ومنسوخ، والنسخ من صفات المحدثات، والقديم يمتنع عليه النسخ سواء في اللفظ أم في المعنى. والقرآن أوامر ونواهٍ، وليس من الحكمة أن يأمر بالعدم وينهى عنه. وإذا ما أدى الإنسان الأمر لم يبقَ إلا الآمر. ويستحيل قِدَم الكلام لاستحالة قِدَم الأمر، فلا يوجد مأمور في الأزل. والقرآن معجزة الرسول، فيمتنع أن يكون قديمًا. وأخيرًا القرآن مسموع ومكتوب ومحفوظ، وبالتالي فهو متغير، نلفظ به ونحرك به اللسان. والحقيقة أن القول بالخلق أو الحدوث أكثر إطلاقًا لعواطف التنزيه، إذ كيف يكون الكلام بالصوت والحرف المسموع المرئي صفةً تعبر عن التنزيه وهي لا تخلو من حس وتشبيه؟ كيف يكون القديم حسيًّا؟ إن القول بالخلق والحدوث هو في نفس الوقت تنزيه للذات وأكثر اقترابًا من الكلام كموضوع حسي علمي يمكن دراسته في علم الصوت أو في علوم اللغة.٢٠٥

(٦-٤) هل الكلام مخلوق وجسم وعرض؟

فإذا كان الكلام مخلوقًا، فإلى أي حد هو مخلوق، وإلى أي حد يكون المحل جسمًا؟ الخلق لا في محل يقرب الكلام من الصفة، والخلق في محل يقربه من الجسم تنزيهًا للذات.٢٠٦ ولما كان الجسم جوهرًا له أعراض، فيصبح الكلام مخلوقًا جسمًا وعرضًا، ثم تتنوع الأحكام عليه بين النفي والإثبات، وبالتالي تكون لدينا مجموعات سبع. يكون الكلام في محل، إمَّا: (١) مخلوق وجسم وعرض. (٢) مخلوق وجسم. (٣) مخلوق وعرض. (٤) جسم وعرض. (٥) مخلوق. (٦) جسم. (٧) عرض. ويُلاحَظ على هذه المجموعات السبع المحتملة عدة أشياء؛ أوَّلًا: الحالة الأولى يمثلها أهل السنة والأشاعرة، والحالة الأخيرة يمثلها المعتزلة والكرامية، أي إن الحالتين الأولى والأخيرة على طرفي نقيض، في حين أن باقي الحالات متوسطة. ثانيًا: إن الحالات المتوسطة أيضًا تدخل في أضداد فيما بينها، وكأننا أمام الأحكام الخمسة في علم أصول الفقه.٢٠٧ ثالثًا: إن المجموعات التي تتعامل مع صفة واحدة مثل مخلوق أو جسم أو عرض لا يوجد فيها إلا احتمالات، النفي والإثبات دون حالات متوسطة، وكأن التوسط لا يأتي إلا باجتماع أكثر من صفة. رابعًا: هناك احتمالات واردة نظرًا ولكنها غير واردة عملًا، خاصةً في المجموعات التي تجمع أكثر من صفة. فالاحتمالات العقلية شيء والمواقف العملية شيء آخر، خاصةً إذا كانت بعض الاحتمالات العقلية متناقضة لا ينتج عنها موقف فعلي عملي. خامسًا: كل المواقف القائمة على صفة واحدة كلها احتمالات عملية واقعية، وليس بها احتمالات قائمة نظريًّا غير واردة عمليًّا. فإذا عرضنا المجموعة الأولى التي تضم ثلاث صفات: مخلوق، وجسم، وعرض، متدرجة من النفي إلى الإثبات، نجدها تضم ثمانية احتمالات، كل منها مضاد للآخر، وبالتالي تكون لدينا في الحقيقة أربعة احتمالات وأضدادها:
  • (١)
    لا مخلوق ولا جسم ولا عرض. وهي النظرة التقليدية التي تثبت قِدَم الكلام وتنفي أن يكون مخلوقًا أو جسمًا أو عرضًا، وهي مضادة للاحتمال الثامن، وهو احتمال وارد ويمثل أهل السنة.٢٠٨
  • (٢)
    لا مخلوق ولا جسم وعرض. وهي النظرة التي تثبت قِدَم الكلام وتنفي أن يكون جسمًا، ولكن في نفس الوقت لا ترى حرجًا في أن يكون عرضًا لأولوية الذات عليه. وهي معارضة للاحتمال السابع. وهو احتمال موجود نظرًا وغير وارد عملًا.٢٠٩
  • (٣)

    لا مخلوق وجسم ولا عرض. وهي النظرة التي تثبت قِدَم الكلام ولا ترى حرجًا في جعله جسمًا بما أنه مكتوب مقروء. ولكنه يتميز عن باقي الأجسام في أنه لا عرض. وهي مضادة للاحتمال السادس. وهو أيضًا احتمال موجود نظرًا غير موجود عملًا.

  • (٤)

    لا مخلوق وجسم وعرض. وهي النظرة التي تثبت للكلام صفة القِدَم ولا ترى حرجًا في كونه جسمًا أو عرضًا كباقي الأقسام. يكفي أنه يتميز عليها بالقِدَم. وهي النظرة المضادة للاحتمال الخامس. وهو احتمال وارد نظرًا وغير وارد عملًا.

  • (٥)
    مخلوق ولا جسم ولا عرض. وهي النظرة التي تثبت خلق الكلام الحسي ثم تستنكف أن يكون مشابهًا للأجسام، فتنفي أن يكون جسمًا أو عرضًا، وهي مضادة للاحتمال الرابع.٢١٠
  • (٦)
    مخلوق ولا جسم وعرض. وهنا يكون الكلام مخلوقًا وعرضًا باعتبار أولوية الذات عليه. ولكنه ليس جسمًا لأنه متصل بالذات، وهي النظرة المعارضة للاحتمال الثالث. وهو وارد نظرًا وغير وارد عملًا.٢١١
  • (٧)
    مخلوق وجسم ولا عرض. وينزل الكلام هنا درجة نحو الحس، ويكون مخلوقًا وجسمًا، ولكنه يفتقر عن غيره من الأجسام في أنه لا عرض، وهي النظرة المعارضة للاحتمال الثاني.٢١٢
  • (٨)

    مخلوق وجسم وعرض. وهي آخر درجات الحس، والتي يصبح فيها الكلام موضوعًا حسيًّا خالصًا، وهو الاحتمال الغالب عند المعتزلة والكرامية وكل المشبهة والمجسمة عندما يتخلص الكلام نهائيًّا من صفة للذات إلى موضوع لعلوم اللغة.

وتضم المجموعة الثانية صفتين فقط، مخلوق وجسم، وتكون لدينا احتمالات أربعة، يردان إلى اثنين وأضدادهما، وهي:
  • (١)

    لا مخلوق ولا جسم. وهي النظرة التقليدية التي تنفي أن يكون الكلام مخلوقًا أو جسمًا، كما هو الحال في الاحتمال الأوَّل في الموقف الأوَّل، وهو الموقف المضاد للاحتمال الرابع.

  • (٢)

    لا مخلوق وجسم. وهي النظرة التي تحاول الجمع بين الكلام الصوري في أنه غير مخلوق والكلام الحسي في أنه جسم كالاحتمال الثالث في المجموعة السابقة، وهو موجود نظرًا وغير موجود عملًا وهو مضاد للاحتمال الثالث.

  • (٣)

    مخلوق ولا جسم. وهي النظرة التي تثبت الكلام الحسي ثم تنفي عنه أن يكون جسمًا كباقي الأجسام كالاحتمال الخامس في المجموعة السابقة. وهو وارد نظرًا وغير موجود عملًا؛ لأنه لا يمكن للمخلوق إلا أن يكون جسمًا، وهو مضاد للاحتمال الثاني.

  • (٤)
    مخلوق وجسم. وهي النظرة التي تثبت الكلام الحسي دون أي استنكاف من الأجسام المخلوقة الأخرى كالاحتمال الثامن في المجموعة السابقة. وهو الاحتمال المضاد للأول، والأكثر شيوعًا، والذي هو وارد نظرًا وعملًا.٢١٣
وتضم المجموعة الثالثة صفتين، مخلوق وعرض، وتكون لدينا أيضًا احتمالات أربعة يردان إلى اثنين وأضدادهما، وهي:
  • (١)
    لا مخلوق ولا عرض. وهي النظرة التقليدية الأولى التي تثبت قدرة الكلام وتنفي عنه أن يكون عرضًا مثل الحالة الأولى والثالثة في المجموعة الأولى، والحالة الأولى في المجموعة الثانية، وهي مضادة للاحتمال الرابع.٢١٤
  • (٢)

    لا مخلوق وعرض. وهي النظرة التي تثبت قِدَم الكلام ولا ترى حرجًا في جعله عرضًا لأولوية الذات عليه كالحالتين الثانية والرابعة في المجموعة الأولى والحالة الثانية في المجموعة الثانية. وهي واردة نظرًا وإن لم تكن واردة عملًا. ونظرًا لاستحالة كلام قديم يكون في نفس الوقت عرضًا.

  • (٣)

    مخلوق ولا عرض. وهي النظرة التي تثبت الكلام الحسي ثم تجعله مباينًا لباقي الأعراض. وتنفي عنه أن يكون عرضًا كالحالتين الخامسة والسادسة في المجموعة الأولى، والثالثة في المجموعة الثانية.

  • (٤)
    مخلوق وعرض. وهي النظرة التي تثبت الكلام الحسي، وأنه مخلوق وعرض دون الاستنكاف من شيء مادي كالحالة الثانية من المجموعة الأولى، والرابعة في المجموعة الثانية.٢١٥
وتضم المجموعة الرابعة صفتين، الجسم والعرض، دون التطرق إلى مشكلة القِدَم والخلق. فتكون لدينا مثل المجموعتين الثانية والثالثة أربعة احتمالات يردان إلى اثنين وأضدادهما:
  • (١)
    لا جسم ولا عرض. وهي النظرة التقليدية الأولى من المجموعة الثلاث السابقة التي تنفي عن الكلام أن يكون جسمًا أو عرضًا.٢١٦
  • (٢)

    لا جسم ولا عرض. وهي النظرة التي تنفي عن الكلام الجسمية ولا ترى حرجًا في إثباته عرضًا. ولا توجد نظرًا أو عملًا نظرًا لاستحالة وجود أعراض بلا جواهر مثل الاحتمال السادس في المجموعة الأولى.

  • (٣)

    جسم ولا عرض. وهي النظرة التي تثبت الكلام جسمًا وتستنكف أن تجعله مماثلًا للأعراض فتنفيها عنه، وهي ممكنة فقط عند من يرى إمكانية تعري الجواهر عن الأعراض كالاحتمال السابع في المجموعة الأولى.

  • (٤)

    جسم وعرض. وهي النظرة التي تثبت الكلام الحسي الخالص دون استنكاف من المادة، كالحالة الأخيرة في المجموعات الثلاث السابقة.

وتقوم المجموعة الخامسة على صفة واحدة هي مخلوق، ويكون لدينا احتمالان، النفي والإثبات:
  • (١)

    لا مخلوق، وهي النظرة التقليدية التي تثبت قِدَم الكلام كالحالة الأولى في المجموعات الأربع السابقة.

  • (٢)

    مخلوق، وهي النظرة الموضوعية التي تثبت الكلام الحسي، كالحالة الأخيرة من المجموعات السابقة.

وتقوم المجموعة السادسة أيضًا على صفة واحدة، هي جسم، ويكون لدينا أيضًا احتمالان، النفي والإثبات:
  • (١)
    لا جسم. وهي النظرة التقليدية التي تنفي عن الكلام صفة الجسم، مثل الحالة الأولى من المجموعات الخمس السابقة.٢١٧
  • (٢)
    جسم، وهي النظرة الموضوعية التي تثبت الكلام الحسي مثل الحالة الأخيرة من المجموعات السابقة.٢١٨
وتضم المجموعة السابعة والأخيرة صفة واحدة، العرض، ويكون لدينا أيضًا احتمالان، النفي والإثبات:
  • (١)
    لا عرض، وهي النظرة التي تنفي عن الجسم أنه عرض، مثل الحالة الأولى من المجموعات الست السابقة.٢١٩
  • (٢)
    عرض، وهي النظرة التي تنفي الكلام الحسي في أكثر صوره مباشرةً مثل الحالة الأخيرة من كل المجموعات السابقة.٢٢٠
وما دام الكلام مخلوقًا وجسمًا وعرضًا، فإنه يكون في مكان. وإذا كان في مكان فهل ينتقل من مكان إلى مكان؟ وهي مسألة لا تعرض إلا للقول بالخلق وليس للقول بالقِدَم. ويرجع إنكار المكان أساسًا إلى إنكار الصفات الثلاث، مخلوق وجسم وعرض، وإثبات الكلام قائمًا بالذات وإرجاعه إلى الذات المشخص وتأسيسه من أعلى وليس من أسفل. فإن كان إنكار المكان في التأليه تعبيرًا عن التنزيه، فإنكار المكان للكلام رفض للمكان الحسي ووقوع في الصورية والتشخيص.٢٢١ وقد يؤدي إنكار المكان الموضوعي إلى إثبات مكان آخر أسطوري خارج العالم كتشخيص للوجود وكإثبات للكلام من عالم آخر زيادةً في التعظيم والإجلال. وكيف يكون الكلام في مكان من هذا العالم؟ كيف يكون حينئذٍ قراءةً وكتابةً وسمعًا ورؤيةً؟ قد يكون المكان الأسطوري أكثر عقلانية فيكون الجو. ولكن يظل الجو أيضًا افتراضًا محضًا لا برهان عليه كأسطورة.٢٢٢ وهناك بعض الحلول المتوسطة تحاول الجمع بين إنكار المكان وإثباته، فتجعله قائمًا بالذات المشخص ثم موجودًا في لحظة السمع أو القراءة أو الرؤية أو الكتابة لقسمة الصفات إلى صفات ذات وصفات فعل.٢٢٣
وقد يثبت الكلام في المكان دون تحديد، ويكون الكلام في كل مكان حتى وإن كان مخلوقًا، فإنه لا يوجد بعينه في الحال.٢٢٤ وإثبات الكلام يعني أن الكلام موجود في اللسان تلاوةً وقراءةً، وفي الذاكرة حفظًا، وفي العين رؤية، وفي اليد كتابة. ومع أن إثبات المكان في التأليه وقوع في التجسيم وفي التشبيه، إلا أن إثبات المكان للكلام تمسك بالنظرة الموضوعية وبالكلام.٢٢٥ ولكن أين الكلام في الأذن سمعًا، وفي العقل معنًى، وفي الشعور باعثًا، وفي الواقع بناءً؟ إن وجود الكلام في القراءة والتلاوة والحفظ والكتابة ليس إحصاءً عامًّا لمظاهر وجود الكلام، بل أكثرها مادةً وأقلها معنًى. والوجود الفعلي للكلام هو وجوده في الذهن كمعنًى أو كفكر أو كنظر، ثم وجوده في الشعور كباعث أو سلوك وحياة، ثم وجوده في الواقع كنظام اجتماعي. يجد الكلام إذن في أماكن كثيرة في مكان واحد، والمكان هنا لا يعني المحل والمظهر. ولا فرق في هذا بين من يثبت تكثر الكلام أو وحدته. فالوحدة تشير إلى وحدة الكلام كمعنًى والتكثر يشير إلى مظاهره المتعددة، ولا فرق في هذا بين من يثبت قِدَم الكلام أو حدوثه.٢٢٦
والقول بالطباع تجاوز للنفي والإثبات ورفض للأحكام العقلية الخارجة عن الموضوع وذهاب إلى الموضوع ذاته ورد استقلاله إليه، وقضاء على التشخيص كليةً، وتحويل الإشكال كله إلى البعد اللغوي وإثبات المجاز في أسلوب التعبير. القول بالطبائع إعادة لوضع المشكلة ونفي للتشخيص عن طريق الخلق، ورفض لثنائية الخالق المسيطر والمخلوق النسبي المُسيطَر عليه. وهو رد فعل عنيف على القول بالقِدَم. فالقِدَم يعطي الفعل كله للذات في حين يعطي القول بالطباع الفعل كله للشيء وينكر دور الذات المشخص على الإطلاق.٢٢٧ وقد يعني فعل الطبيعة أن الكلام ازدهار للطبيعة واكتمال لها. والكلام هو الطبيعة في صورتها المثلى، متطابقًا مع الطبيعة بفعل النزول، وتطور للطبيعة بفعل النسخ، واكتمالًا للطبيعة بفعل اكتمال الوحي.٢٢٨ قد يعني فعل الطبيعة أن الكلام تعبير عن الواقع وتأسيس عليه، والواقع هو الموقف الإنساني المتشابك، مصالح الفرد والجماعة، الصالح العام، كل ما هو إيجابي ومنتج في الحياة.
وقد ينكر البعض الحلين المتعارضين، القول بالقِدَم وإعطاء الفعل كله للذات المشخص ورفض الوقوع في القول بالطباع كليةً وإعطاء الفعل كله للأشياء، فيصبح بعض الكلام خالقًا.٢٢٩ وقد يوفق البعض الآخر بين الحلين المتعارضين لصالح كلام الخالق وتصبح الذات المشخص بعض الكلام.٢٣٠ والتوقف عن الحكم كليةً إلغاء للوضع الخاطئ للمشكلة دون إعطاء الوضع الحقيقي أو بيان لنشأة الوضع الخاطئ في الشعور. التوقف يعني أن النفي والإثبات معًا لا يكفيان كحل للمشكلة، وبأن كلًّا منهما أضيق نطاقًا من الموضوع. ولا يمكن رد الكل إلى جزء. كما يعني أيضًا أن الواقع لا يقبل القسمة، وأنه يصعب إرجاع وجود الموضوع إلى قسمة ذهنية خالصة. كما أن التوقف يعني أن الواقع لا يتحمل حلولًا قاطعةً وأنه ذو أوجه. فقد يكون الإثبات من وجه والنفي من وجه آخر. وقد لا تكون القسمة ثنائية بل ثلاثية أو رباعية، ومِنْ ثَمَّ فهي قسمة غير جامعة. وقد يدل التوقف على رغبة في التطهر وعلى رفض الدخول في متاهات غير مأمونة النتائج ومجهولة العواقب. التوقف هنا يعبر عن التقوى لا عن الثقة بالعقل، فالعقل هنا مغامرة غير محسوبة العواقب.٢٣١
وقد لاحظ بعض القدماء والمحدثين أن المسألة كلها تمرين عقلي على التنزيه والتشبيه لا وجود لها بالفعل دفاعًا عن الوحدانية ضد التعدد مهما اختلفت الطرق وتعددت الوسائل. ولكنها مسألة في حد ذاتها لا طائل منها ولا فائدة، وأنه موضوع لغوي صرف لا خيال فيه ولا إيهام.٢٣٢ كما رفضت بعض الحركات الإصلاحية الدخول فيه أو تجمع بين المطلبين القِدَم والحدوث، بين المعنى واللفظ من غير تمثيل ولا تعطيل بالاعتماد على مخترعات العلم الغربي الحديث.٢٣٣ وقد تكون المسألة كلها سياسية في نشأتها. فقد أرادت السلطة إيقاع المعارضة في حبائل الموضوعات النظرية الصرفة إبعادًا منها لها عن المسائل العملية، فساهمت في إثارة مسألة خلق القرآن حتى يسهل حصار المعارضة وتشويه صورتها أمام العامة المؤمنة بعقائد أهل السنة والمطيعة للنظام. فاستُعمل الموضوع النظري كسلاح عملي للتكفير وللمحاصرة ولعزلة المعارضة عن جماهيرها وإعطاء السلطة الحق في اضطهادها واستئصالها والقضاء عليها باسم الدفاع عن الإيمان والمحافظة على عقائد الأمة.
والحقيقة أن الكلام هو الوحي الذي بين أيدينا المتجه من الله إلى الإنسان وإلى العالم. الكلام قصد من الله إلى الإنسان ورسالة إلى مرسل إليه عن طريق المبلغ وهو الرسول. فهو ليس صفة للذات المشخصة أي قصدًا من الإنسان إلى الله تعظيمًا وإجلالًا وتأليهًا. الوحي إذن كلام الله بلغة الإنسان، وبهذا المعنى يكون مخلوقًا، أي أنه أرسل إلى الإنسان. هذا هو الخلق الطبيعي أو الإنساني عندما يتحول كلام الله إلى الإنسان وإلى الطبيعة مثله مثل حكمة البشر التي تخلد الجماعات والشعوب من خلالها في مأثوراتها وحكمها وأمثالها وقصصها وسيرة أبطالها. والكلام موضوع طبقًا لأسباب النزول. فهو ليس مفروضًا على الواقع بناءً على نداء الواقع واكتمل بناءً على تطوره وأُعيدت صياغاته طبقًا لقدراته وأهليته على ما هو معروف في الناسخ والمنسوخ. هي عملية جدلية بين الفكر والواقع، الواقع ينادي على الفكر ويطلبه والفكر يأتي مطورًا للواقع ويوجهه نحو كماله الطبيعي. ثم يعود الواقع فينادي فكرًا أدق وأحكم حتى يتحقق الفكر ذاته ويصبح واقعًا مثاليًّا يجد فيه الواقع الطبيعي كماله. ولا يتطلب ذلك التصور افتراض شخص المجرب بل هي عملية تاريخية طبيعية لا شخصية. الإنسان في العالم موضوع التجربة، وهذا هو الخلق التجريبي. والكلام كرسالة في التاريخ ينتقل منذ ساعة الإعلان عنه من جيل إلى جيل عبر الرواية الشفاهية ثم المدونة حتى تضمن صحته التاريخية. الكلام بهذا المعنى هو الخبر الصادق من خلال مناهج النقل وطرق الرواية. وهذا هو الخلق التاريخي لا بمعنى أن الكلام من صنع التاريخ أو من وضعه بل إنه محفوظ في التاريخ بلا زيادة أو نقصان من خلال أعمال الإنسان وإحكامه أنطق الرواية. فالصحة التاريخية للكلام لا تنتج عن عصمة الرسول ولا من حفظ المرسل ولا من صحة العقيدة أو الإيمان بالسلطة على ما هو معروف في نظريات «الصدق الإلهي» في تاريخ الأديان كبديل عن غياب الصدق التاريخي. بعد ذلك يمكن فهم هذا الكلام فهمًا إنسانيًّا، والاستفادة منه تحقيقًا لمصالح الإنسان، ومِنْ ثَمَّ يتحول إلى بناء إنساني اجتماعي، يدافع الإنسان عنه دفاعًا عن وجوده. وهذا هو الخلق المعرفي. يحتوي الكلام على «أيديولوجية» علمية، أو هو بناء نظري للواقع يتحول إلى بناء فعلي بفعل الإنسان وبجهده ونشاطه.٢٣٤ إن الكلام مجموعة من الصور الإنسانية الخالصة، خاصة بأسلوب التعبير والمخاطبة دون وصف لواقع بل للإيحاء به وتوجيهه. الخلق هنا بمثابة عملية يقوم بها الخيال من أجل توجيه السلوك والتأثير على الناس، وهذا هو الخلق الفني، وهو جزء من عملية الفهم والتفسير من أجل التوجيه والإعداد. وأخيرًا الكلام هو في نهاية الأمر بنية الواقع ذاته وكماله وغايته، يتحقق كنظام مثالي للعالم تجد فيه الطبيعة ازدهارها وكماله. فالكلام مشروع تحقق، والوحي مشروع اكتمال. وهذا هو الخلق الفعلي. كل ذلك هو الكلام وأوجه خلقه. هو كلام الله بلغة الإنسان وطبقًا لقدراته والذي يضمن الإنسان صحته التاريخية وصدقه النظري وتحقيقه العلمي. الخلق أهم صفة تميز الإنسان، أعطاها للذات المشخص وعزا إليها القدرة والإبداع والتكوين، وسكت هو عن الخلق، بل قلبه إلى إعجاز وتعجيز وظن أنه لن يقدر على الخلق وأعلن عجزه وأن الذات المشخص قد صرفت دواعيه وأحالته إلى عاجز مطلق ولم يبقَ له إلا التقليد.٢٣٥

(٦-٥) مراحل الكلام

ظهر من تحليل القدماء لصفة الكلام أن هناك ثلاثة مستويات له: المستوى الصوري حيث يبدو الكلام كصفة للتأليه المشخص وإطلاق الحكم للصفات من جديد القِدَم أو الحدوث. وهو مستوى صوري نظرًا لأنه تحليل نظري خالص ولا يوجد به أي محك للصدق إلا مجرد الافتراض النظري، وهو البعد القبلي للكلام، ويدخل فيه الحديث عن اللوح المحفوظ والملائكة والرسل وكل ما يتعلق بنظرية النبوة. والمستوى الحسي وهو الكلام المقروء أو المسموع أو المكتوب المكون من الأصوات الحرف، وهي دراسة موضوعية يمكن ضبطها بمقاييس ملموسة نظرًا لوجود موضوع حسي، وهذا هو البعد الحسي. وأخيرًا المستوى الشعوري، وهو الكلام عندما يحل كمضمون للشعور، سواء في الذهن ويصبح مفهومًا ويتحول إلى معنى أو في الوجدان ويصبح باعثًا ويتحول إلى دافع، أو في الذاكرة ويصبح محفوظًا ويتحول إلى تيار دائم للشعور. وفي نفس الوقت تبدو هذه المستويات وكأنها مراحل لعملية الكلام ابتداءً من الكلام الحسي حتى الكلام الصوري النظري المجرد. فالكلام مقروء ومسموع ومكتوب، تقوم به ثلاثة أعضاء: اللسان والأذن والعين. ثم هو مفهوم ومحفوظ ومحرك يقوم بذلك الذهن والذاكرة والوجدان. فالكلام الخارجي صوت (المسموع والمقروء) وحرف (المكتوب)، والكلام الداخلي معنى في الحاضر (المفهوم) أو من الماضي (المحفوظ) أو باعثًا على التحقيق.٢٣٦
ما هو المقروء؟ المقروء قبل أن يكون مقروءًا أي موضوعًا للقراءة هو فعل للقراءة، ومِنْ ثَمَّ يرد المفعول إلى الفاعل. ويكون السؤال: ما هي القراءة؟ هل القراءة كلام؟ الإجابة بالنفي تثبت الكلام المستقل عن القراءة، وأن الكلام لا يمكن رده إلى مجموعة من الأصوات والحروف إبقاءً على الكلام كصفة مستقلة وإن لم تكن صراحة صفة الذات.٢٣٧ والكلام قراءة لأنه قراءة وأكثر، في حين أن القراءة ليست كلامًا لأنها أقل منه. وإذا كان المقصود بالكلام هو الكلام المعنوي أو النفسي فإنه أيضًا لا يعبر عنه إلا في صياغات حسية من حروف وأصوات. والإجابة بالإثبات تنفي أن يكون من الكلام صفة مستقلة وتجعله كلامًا حسيًّا خالصًا مؤلَّفًا من مجموعة من الأصوات والحروف يمكن ضبطها.٢٣٨ وبعد فعل القراءة يأتي المقروء، وهو الموضوع الشعوري لفعل القراءة. هل القراءة هي المقروء؟ هل يساوي فعل القراءة موضوعها؟ وهو نفس السؤال ولكن في نطاق أضيق. فالنفي يرمي إلى إثبات الفَرق بين فعل القراءة وهي مجموعة من الأصوات البشرية والحروف وبين موضوع القراءة وهو المقروء الذي لا يمكن رده إلى مجرد أصوات وحروف لأن له استقلالًا ذاتيًّا خاصًّا به كالكلام أو الصفة. فعل القراءة صوت بشري بفعل الإنسان الحر يمكن اللحن فيه، في حين أن المقروء ذاته باقٍ وقائم خارج الأصوات البشرية ولا يهم أين، في الذهن أو في النفس.٢٣٩
وما المسموع؟ لا يختلف المسموع عن المقروء إلا من ناحية العضو. المقروء موجود في اللسان والمسموع في الأذن، وكلاهما صوت. ويكون السؤال: هل المسموع الكلام أو الصوت؟ إثبات المسموع كلامًا إثبات للصفة القديمة ورفض لرد الكلام إلى مجرد الصوت.٢٤٠ ويكون السمع هنا بمعنى الفهم فيسمع الكلام متلوًّا.٢٤١ ويكون السمع مباشرةً بغير واسطة ودون حاجة إلى قراءة أو تلاوة. وقد يكون السمع متلوًّا ومقروءًا.٢٤٢ والسمع المباشر قد يكون سمعًا بلا حجاب ومصاحبًا برؤية هذه المراتب في السماع تعبر في الحقيقة عن درجة القرب من الذات المشخص حتى يمكن تصنيف الأنبياء طبقًا لها، ويكون أفضل الأنبياء من يسمع مباشرةً بلا حجاب، ويتلوه من يسمع مباشرةً حجاب. ثم يأتي عامة البشر الذين يسمعون بطريق غير مباشر عن طريق الأصوات دون رؤية أو نظر للصوت أو لمصدره. أمَّا إثبات المسموع صوتًا فهو وصف لعملية السماع الحسية دون إثبات أي كلام خارج الصوت المسموع. وتقوم الإرادة بفعل تقطيع الصوت. ولا يهم بعد ذلك إذا كانت الإرادة حركة أم ليست حركة.٢٤٣ الكلام لا يسمع بالأسماع، بل المسموع هو الشيء المتكلم. وقد تختلف اللهجات للمسموع تبعًا لاختلاف القراءات نظرًا لتغيير مخارج الأصوات دون تغيير في الحروف.٢٤٤ وقد يتوحد المسموع والمقروء والملفوظ والمتلو في شيء واحد.٢٤٥ فالقارئ بصوت والسامع بصوت والتالي كطريقة في الأداء أقرب إلى القلب وأبلغ في النفس من القراءة بلا صوت أي بالكتابة. وإذا كان المتكلم لا بد أن يكون متكلمًا بكلام مسموع، فماذا عن الصمت؟ ألا يعني السمع أيضًا امتثال الأوامر وليس مجرد سماع الأصوات؟٢٤٦
وما المكتوب؟ الحقيقة أن التقابل موجود بين الصوت والحرف. فالصوت يشمل المقروء والمسموع، أي عضوي اللسان والأذن، والحرف هو المكتوب الموجود في العين رؤية وفي اليد كتابة. فالكلام إمَّا مقروء أصواتًا أو مكتوب حروفًا. وكما كان السؤال هل كل الكلام قراءة أو مقروء يكون السؤال أيضًا بالنسبة للكتابة والمكتوب، هل الكلام حروف؟ فالإجابة بالنفي إثبات للاختلاف بين الكلام والحروف وإعلاءً لشأن الكلام ورفض لرده إلى مجرد الحروف التي يتكون منها كلام البشر. فإذا كان استقلال الكلام بمعناه وإثبات استقلال المعنى عن اللفظ نظرية مثالبة للغة فإنه كون المعنى خارج الذهن كصفة لذات مشخص نظرية دينية غيبية للغة.٢٤٧ وقد يتم التوحيد بين الكلام والحروف لا من أجل نظرية عملية للكلام، بل من أجل تقديس الحرف واعتباره مقدسًا قديمًا كالكلام. والكلام مكتوب في هذا العالم كما أنه مكتوب في عوالم أخرى سابقة على هذا العالم ولاحقة عليه. وهذه أسطورة حسية تقوم على التجسيم.٢٤٨ وإثبات الهوية بين الكلام والحروف إثبات للكلام الحسي الخالص ورفض للذهاب إلى ما وراء الصيغ والعبارات إلا من خلال هذه الصيغ وهذه العبارات نفسها.٢٤٩ ولكن وحدة الحروف في لفظ واجتماع الألفاظ في عبارات تعطي معاني ليست هي الحروف. وإذا كان الكلام حروفًا فكم يكون أقل الكلام من حروف؟ أقل الكلام حروفًا إمَّا حرف واحد، فالكلام اسم أو فعل أو حرف أو حرفان، مثل لا.٢٥٠
إذا كان المقروء والمسموع والمكتوب هو الكلام الحسي الخارجي، فإن المحفوظ والمفهوم والباعث هو الكلام النفسي، وهو البعد الثالث الذي يتوسط الكلام الصوري والكلام الحسي. ويشمل الكلام النفسي المعنى القائم بالنفس أو بالذهن حيث يصعب التفرقة بين وجود المعنى في الذهن أو في الذاكرة أو في الوجدان. والسؤال هو: هل يتكلم الإنسان بكلام غير مسموع؟ إن إثبات الكلام النفسي إثبات لاستقلال المعنى عن الألفاظ والمخارج والحروف. فهو موجود وجودًا ذاتيًّا خالصًا يشعر به المتكلم ولكن لا يملك التعبير عنه إلا لفظًا أو إشارةً أو رمزًا، أي في صورة حسية للتعبير عنه وإيصاله للآخرين. يؤكد الحكماء وجوده في التأمل الخالص والذي لا يمكن التعبير عنه إلا بالصورة الفنية والخيال وكذلك الصوفية في العلم الإشراقي الذي لا يمكن التعبير عنه إلا رمزًا أو إشارةً أو تلميحًا.٢٥١ ويجد الكلام نفسه طريقه بين الكلام القديم والكلام الحسي. ويغني عن إثبات الكلام القديم لأن الكلام النفسي يميز بين القراءة والمقروء والدليل والمدلول والحرف والمعنى، كما أن كلام الله منزل على قلب النبي نزول إعلام وإفهام لا نزول حركة وانتقال. المنزِل هو الله، والمنزَل عليه قلب النبي، والنزول هو اللغة العربية، والنازل على الحقيقة هو قول جبريل، ليس بمعنى الإنزال من أعلى إلى أسفل بمعنى الانتقال فذاك ما يخص الأجسام.٢٥٢ الكلام تجربة شعورية خالصة يكتشف بها الإنسان المعاني في نفسه بناءً على أفعال الشعور من شك وظن واعتقاد ويقين واستفهام وتفكير وتدبير. والدليل على كلام النفس هو الدليل على إثبات الكلام، فالكلام هو الكلام النفسي. فمثلًا صيغ الكلام من أمر ونهي وخبر واستخبار تثبت معاني في النفس لا تختلف باختلاف العبارات بحسب الأوضاع والاصطلاحات. فالكلام اللفظي يدل على الكلام النفسي دلالة باللزوم. الكلام الحقيقي موجود في النفس، ولكن تدل عليه أمارات إمَّا بالقول أو بالإشارة أو بالرمز. وقد لا يعلن عن حديث النفس بالألفاظ، بل يظل معاني قائمة فيها. قد يخفي الإنسان أشياء ولا يعلن إلا عن بعضها. والنفاق هو في الحقيقة اختلاف الكلام اللفظي عن المضمون النفسي. كما أن الإكراه في الكفر لا يمنع اطمئنان القلب بالإيمان. والأمر يتضمن الطاعة مثل قول: «افعل» التي تتضمن استحبابًا أو وجوبًا أو إباحةً وذلك ليس موجودًا في اللفظ. والتجارب الشعرية كلها تثبت أن أقوال الشعراء لها رصيدها في معاني النفس. بل إن الكلام الحسي المادي لا يمكن أن يؤدي إلى المعنى دون المرور بكلام النفس.٢٥٣
وقد لا يكون الرمز لغويًّا فحسب، بل يكون شيئًا يشير إلى معنى. فالعين إشارة إلى الرؤية أو التجسس، والرِّجل تشير إلى السعي، واليد تدل على القدرة. ولكن هذه الإشارات ليست كلامًا، بل وسيلة لتوصيل المعاني، والكلام ما هو إلا إحدى الوسائل. فإذا استعملنا الإشارات في الكلام فإنها تكون صورًا فنيةً لا وقائع مادية. فاليد لا تتكلم بل هي صورة الفعل. فإذا كان السؤال ماذا يعني إسناد الكلام إلى غير المتكلم؟ تكون الإجابة: لا يمكن إسناد الكلام إلى غير المتكلم اضطرارًا، بل لشهادة اللسان أو يشير الشيء إلى معنًى مباشر دون الألفاظ، وفي هذه الحالة لا يكون كلامًا بالمعنى الدقيق بل مجرد لغة، أي وسيلة للتعبير والإيصال.٢٥٤ ولا يكون الكلام اضطراريًّا لأنه فعل المتكلم، ولا يكون ضرورة للجسم لأنه في هذه الحالة لا يكون كلامًا بل دلالةً على المعنى. ويحدث الكلام في هذه الدنيا، أمَّا في العوالم الأخرى المستقبلية فلا يمكن معرفته أو إصدار حكم عليه إلا بعد أن يقع بالفعل. قد يكون هناك اضطرار إنساني في هذا العالم عندما يتكلم الإنسان ويضطر بفعل التعذيب أو عندما يفقد القدرة على السيطرة على النفس في حالة التنويم المغناطيسي أو بالوسائل العلمية القديمة عندنا أو الحديثة في الغرب أو في حالات الكذب الأبيض حفاظًا على الحياة. ولكن هذا الاضطرار وقتي خالص يتغير بتغير الظروف النفسية والاجتماعية ويعبر عن نفسه أيضًا بالكلام.٢٥٥
ويكون المعنى النفسي في الشعور محفوظًا ومفهومًا وباعثًا. فالمحفوظ هو أن يصبح الوحي كلامًا إنسانيًّا خالصًا بمجرد قراءته في الشعور أو تنكشف ماهيته بناءً على التجربة الشعورية التي تحدث لكل فرد. وهي تجربة واحدة نظرًا لأن الشعور هو الشعور الإنساني العام. وقد تختلف التجارب باختلاف البيئة والظروف الاجتماعية التي قد تطغى على الشعور العام وتقلل من شموله.٢٥٦
أمَّا المفهوم فهو المعنى في النفس، وقد يكون خاطرًا، فالمفكر قبل ورود السمع يجد في نفسه خاطرين، أحدهما يدعوه إلى معرفة الصانع وشكر المنعم وسلوك سبيل المحاسن والمسيرات، والثاني يدعوه إلى النقيض. فيختار الإنسان الأوَّل دون الثاني، وكلاهما من كلام النفس.٢٥٧ وقد تُسَمَّى المعاني في النفس بعد الألفاظ فكر، وتُسَمَّى القدرة التي عنها يصدر الفعل قوة مفكرة.٢٥٨ والكلام إمَّا أن يكون عبارات وألفاظًا وقضايا أو نطاقًا أي منطقًا خالصًا للكليات والجزئيات والقياس والبرهان.٢٥٩
وقد يتطور الأمر ويتحول الكلام النفسي إلى إثبات النفس نظرًا للسيادة الفلسفية على الكلام ابتداءً من القرنين السادس والسابع، ويصبح الموضوع إثبات أن النفس جوهر روحاني، ويتحول الكلام إلى التحليل لمضمون النفس وقواها وملكاتها علمًا وإرادة، وإيراد البراهين على أن النفس ليست بجسم ولا تنقسم، وامتياز النفس الإنسانية على سائر الأجسام، وتحليل استعداداتها وأمزجتها، والردود على الاعتراضات بالنسبة للحد والرسم أو خواص أفعالها أو إدراكاتها وأحوالها وكأن الموضوع قد انقلب إلى حديث في علم النفس الخالص.٢٦٠
أمَّا الباعث فينتج عن أن الكلام ليس معنى فقط أي علمًا بلا إرادة. فالكلام النفسي يشمل ثلاثة جوانب، الذهني أي المفهوم وهو العلم، والعملي أي الإرادة والفعل، ثم الوجداني أي الباعث والدافع سواء كعلة فاعلة أو القصد والهدف كعلة غائية. المعاني في النفس غير إرادة المتكلم وإن كُنَّا متلازمين. كلام النفس يظهر في الإرادة، فالكلام توجه وفعل. والوحي أصلًا موجه إلى الشعور، والشعور طرف له، ويتحقق بالفعل والعالم مصب له. تتحول ماهية الشعور إلى فكر يجمع بين الذهن والشعور والواقع. يتحول الوحي إلى أيديولوجية نظرية إنسانية لأنها نتاج التجربة الإنسانية وعلمية لأنها مستمدة من الواقع. ثم تتحول الأيديولوجية إلى نظام للواقع، ويصبح الكلام هنا وجودًا واقعيًّا كنظام اجتماعي وبناء إنساني تكتمل فيه الطبيعة وتجد كمالها. يحدث هذا التحول بفعل الإنسان وبحركة الجماهير. هو تحول ممكن مشروط بوجود الإنسان وبقدرته على الجهد وتنظيم الفعل وتوجيهه وتحريك الواقع به. وجود الكلام كبناء للواقع هو البديل الوحيد لما ظنه القدماء على أنه صيغة ثابتة في ذات مشخص.٢٦١ ولا يتفاضل الكلام طبقًا لموضوعاته وطبقًا لدرجات الشرف والعظمة والجلال، بل إنه يحتوي على مجموعة من المبادئ يتمثلها العقل وتتحول إلى بواعث وسلوك وعمل بشري قبل أن تصبح اجتماعية.٢٦٢

(٦-٦) صيغ الكلام

مضمون الوحي توجيهات للإنسان في صيغ الكلام.٢٦٣ وهنا يبدو الكلام باعتباره لغة وقضايا ومنها تخرج المعاني، وتنشأ البواعث، وتظهر وحدة الكلام وكثرته. ففي نفس الوقت الذي يتصارع فيه المتكلمون حول قِدَم القرآن وحدوثه كصفة أزلية فيكشفون عن اغترابهم عن العالم تظهر تحليلات طبيعية عن وعيهم بالعالم الشرعي في وحدة الكلام وكثرته، أي صياغات الكلام، مثل الأمر والنهي والخبر والاستفهام والتعجب، وكأن تعدد الصياغات لا تنال إلا من وحدة الكلام. وهو تناول لموضوع الكلام تناولًا إنسانيًّا علميًّا واقعيًّا عمليًّا، هذا الكلام الحسي المقروء المكتوب المفهوم المحفوظ المحرك لسلوك الأفراد والجماعات تنطبق عليه قواعد اللغة العربية وصيغ الكلام فيها، ولكن ضاع هذا التحليل الجزئي في خضم المشكلة الكبرى وهي قِدَم الكلام وحدوثه «خلق القرآن». وبالرغم من الخلاف حول عدد صيغ الكلام ست أو خمس أو ثلاث أو اثنتان أو واحدة إلا أنه يكفي انتقال الموضوع من علم العقائد إلى علم التوحيد.
وصيغ الكلام ست: الأمر والنهي، والخبر والاستخبار، والوعد والوعيد. ولكن لما كان الخبر والاستخبار في النهاية خبرًا لما كان الاستخبار غير متصور في حق الله، بل يرجع إلى التقدير وهو نوع من الأخبار مثل: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى، فقد تصبح الصيغ خمسًا. وقد يسقط الوعد والوعيد، ويحل محلهما الدعاء والنداء. وقد ترد الصيغ إلى ثلاث، فالنهي عكس الأمر، والوعيد عكس الوعد، والخبر والاستخبار واحد. وقد ترد إلى صيغتين طلب فعل أو اقتضاء يشمل الأمر والنهي والوعيد ثم الخبر. وقد ترد الصيغ كلها إلى واحدة هي الأمر. وقد يزاد في الأمر والنهي الندب وأمر الإيجاب ونهي التنزيه ونهي التحريم. وفي كل قسم من الخبر والاستخبار أقسام مثل الخبر عن الماضي والمستقبل والمواجهة والمغايبة. وينتهي الأمر إلى تحليل صيغ الكلام وكأنها صيغ أفعال، فالكلام فعل. وقد تُضاف مباحث لغوية أخرى مستمدة من علم أصول الفقه مثل العموم والخصوص والمجمل والمفسر والناسخ والمنسوخ،٢٦٤ وبالتالي تتم وحدة علمي الأصول، أصول الدِّين وأصول الفقه في تحليل صيغ الكلام.
ويُقال ذلك في كل صفة، في الإرادة والعلم مثلًا وليس في الكلام وحده، ولكن الكلام هو الذي فجرها نظرًا لوجود الكلام المحسوس المجسم في مقابل الصفة الأزلية، ونظرًا لوجود صيغ الكلام وتباين التفسير واختلاف التأويل. هي نفس المشكلة بين القدرة والإرادة، القدرة واحدة والإرادة متعددة، وقد تنتقل المشكلة إلى الميتافيزيقا الخالصة، الله والعالم، الواحد والكثير، المبدأ الأوَّل والكثرة، وتظهر نظرية الفيض معادلة لصيغ الكلام. وقد يتحول التوحيد تبعًا لذلك من الكلام إلى التصوف، ومن العقل إلى الإشراق أثناء الانتقال من الكلام إلى الفلسفة، والحديث عن مشكلة الواحد والكثير على مستوى المعرفة والوجود.٢٦٥ ويظل التوتر بين الوحدة والكثرة قائمًا. فإثبات الوحدة دون الكثرة تترك قضية المتعلقات والتضاد بلا تأسيس، فالأمر والنهي متضادان، ولهما خاصيتان مختلفتان تقتضيان الكثرة والتعدد. ولو كان الكلام واحدًا لاستحال أن يكون أمرًا ونهيًا وخبرًا واستخبارًا ووعدًا ووعيدًا. إن الاختلاف والتباين يصل إلى درجة التقابل والتضاد وبالتالي إلى اختلاف المتعلقات، ومع ذلك ترجمها الأشعرية بالرغم من اعترافها بالصيغ إلى الصفات الأزلية.٢٦٦ فكلام الله في الأزل لا يتصف بكونه أمرًا ونهيًا وخبرًا واستخبارًا إلا عند وجود المخاطبين واستجماعهم شرائط التكليف. والأحكام من صفات الأفعال وليس من جانب الصفات الأزلية، هي أوامر ونواة للعباد وليس علمًا مجرَّدًا لله.٢٦٧
وإذا كان الكلام أزليًّا تكون الصيغ كلها أزلية وهو مستحيل. فالأمر يُضاف إلى المأمور، والمأمور ليس أزليًّا. والكلام من غير مخاطب سفه. والخطاب مع موسى غير الخطاب مع النبي، ويستحيل المعنى الواحد أو الأمر الواحد في كلا الخطابين. كما أن الخيربن عن أحوال أمتين مختلفان لاختلاف أحوالهما. والأوامر والنواهي تختلف في أزمنتها وتتحقق في أوقاتها بدليل النسخ، والبراءة الأصلية أو عدم جواز الالتزام بالشرع السابق.٢٦٨ لا يعني القول بالتعدد أية مخالفة للإجماع، فلا إجماع في مسائل نظرية عقائدية، ولا إجماع عن اجتهاد أو تأويل. كما لا يعني التعدد الفناء والحدوث في محل وبالتالي يصبح الذي بين أيدينا هو كلام الله أو دليلًا على معجزة النبي ولا قرآنًا بل يعني أن الكلام متعدد الأوجه، متباين المستويات، مختلف المراحل.٢٦٩ إن الاختلاف والكثرة في الأخبار والأوامر لا ترجع إلى العبارات فقط، إذ إنها تطابق المعنى الصحيح. المعاني المختلفة كالمعلومات المختلفة تستدعي علومًا مختلفةً وإن شملها اسم العلمية. لا يكون التعدد في الصيغ وحدها، بل في المعاني وفي أنماط الوجود ذاتها. ولما سادت الوحدة الصورية الفارغة في شعورنا التاريخي ضاع من وجداننا الحالي روح التعدد والكثرة. وضحينا بالاختلاف والتباين والفروق الفردية حتى وقعنا في الفردية من وراء ستار، الفردية المنعزلة والتناطح بين الأفراد الذين لا تجمعهم قضية واحدة. بل لم تؤدِّ الوحدة الصورية إلى نتائجها الإيجابية فأصبحت وحدة السلطة في الحاكم الأوحد، ووحدة المذاهب في التيار السياسي الأوحد، ووحدة الكيان الاجتماعي في الأسرة الواحدة، والمجتمع الواحد بالرغم من التعارض بين الآباء والأبناء وبالرغم من الصراع بين الطبقات الاجتماعية.٢٧٠ وبالرغم من إفاضة القدماء في صفة الكلام إلا أنها في أصل الوحي ليست بأهمية باقي الصفات، ومضافة للإنسان أكثر من إضافتها لله، وأنها تشير إلى معنى مجازي وهو تحقيق الكلمة أكثر منها صفة أو شيئًا لذات مشخص.٢٧١

(٧) الإرادة

هي آخر صفة للذات كما استقر ذلك في علم العقائد. ومع ذلك فقد تظهر في أول السباعي نظرًا لأهميتها.٢٧٢ وقد تظهر كثاني صفة في الثلاثي بعد القدرة.٢٧٣ وقد تظهر كثالث صفة في الثلاثي بعد الحياة والعلم وقبل القدرة والاختيار.٢٧٤ ولكن الغالب ظهورها قبل الكلام في الرباعي والسباعي، كثالث صفة في الرباعي بعد السمع والبصر وقبل الكلام نظرًا لما يهددها من مخاطر في حرية الأفعال. تظهر مرتبطة بالخلق وأفراد الذات بهما في باب مستقل لأهميتها.٢٧٥ وقد تُذكَر الإرادة في ذاتها بصرف النظر عن تعلقها بحرية الأفعال. وفي المؤلفات المتأخرة تظهر الإرادة في باب مستقل بعد العلم.٢٧٦ لذلك قد تنتقل الإرادة كلية من التوحيد إلى العدل لأنها ألصق بها وبشمولها.٢٧٧
ولكن هل الإرادة صفة مستقلة أم يمكن ردها إلى العلم أو القدرة أو الحياة؟ فالعلم إرادة أو قدرة نظرًا لارتباط العقلين النظري والعملي. وبالتالي قد تعني مريد قادرًا وعالمًا، وقد تعني شيئًا آخر مستقلًّا. قد يريد الإنسان ما لا يقدر عليه، وقد يقدر على ما لا يريده. قد يريد ما لا يعلمه ويعلم ما لا يريده. الحي يريد والميت لا يريد، والإرادة تعبير عن الحياة. وإذا كانت صفتا السمع والبصر في الرباعي تعبران عن صفة العلم في الثلاثي فإن صفة الإرادة ما هي إلا تعيُّن أو تحدُّد لصفة القدرة. وإذا كان إلحاق القدرة بالوجود مبحثًا ميتافيزيقيًّا فإن إلحاق القدرة بالإرادة مبحث حسي. الإرادة تشبيه للقدرة. إذا كانت القدرة صفة ذات فالإرادة صفة فعل. ومع ذلك هناك فرق بين الإرادة والقدرة. تأثير القدرة في الإيجاد وتأثير الإرادة في التخصيص بالأحوال والأوقات. علاقة القدرة بالإرادة مثل علاقة العام بالخاص، الطاقة المطلقة بالفعل الواحد، الإمكانية بالتحقيق.٢٧٨ الإرادة هي المخصص، المخصص للحسن دون القبيح، أي أنها الباعث على الاختيار. التخصيص بالنسبة للقدرة، وبالتالي تقع الأفعال في الزمان والمكان بالإرادة. الإرادة هي مخصص الشيء وتخصيص الشيء كمال. وهو ما ينفي التعطيل نظرًا لتحقق مقدور بين مقدورين ومراد من مرادين. ولا يكفي العلم كمخصص لوجهين: الأوَّل أن الله عالم بجميع المعلومات بما فيها الصالح والفاسد، والثاني أن الله عالم بجميع الأشياء ما وقع منها وما لم يقع، فلزم التخصيص بالإرادة. وإذا كان المخصص مرة العلم ومرة القدرة ارتبطت الإرادة بالثلاثي أكثر من ارتباطها بالرباعي. أمَّا الاعتراض على التخصيص بأن الإرادة لو تعلقت بفرض لكان الباري ناقصًا لذاته مستكملًا بغيره، فإنه لا يثبت نظرًا لأن تعلق المراد لذاتها لا لغيرها. ويقوم على نفي الغائية والقصد مع أن الإرادة هي القصد والباعث على الفعل والاتجاه نحوه. ومع ذلك هناك فرق بين الإرادة والقصد والاختيار. المريد ينظر إلى الطرف المراد والقصد هو الإرادة المقارنة والاختيار اختياري، فالمختار ينظر إلى الطرفين فيختار أحدهما. أمَّا الاعتراض بأن الإرادة صفة نفسية قديمة لا تتعلق بمتعلقات على وجه التخصيص فهو رجوع إلى مسألة الذات والصفات. وتحديد الإرادة كصفة تجعل الذات مريدًا ليس تعريفًا للإرادة بل إرجاع لها إلى علاقتها بالصفات.٢٧٩ كما أن الإرادة صفة تتبع الحياة. بل إن الحياة والسمع والبصر والكلام كلها تتبع الإرادة. فلا إرادة إلا من حي، ولا حي إلا إذا كان سميعًا بصيرًا متكلمًا. ويتضح ارتباط الإرادة بالعلم والقدرة والحياة في تعريفها الذي يتراوح بين هذه الصفات الثلاث. وقد يشير التعريف إلى صفة الكمال، فالإرادة بالنسبة لذاته هي أن يفعل على وجه السهو والغفلة بالنسبة لغيره على أنه آمر. وقد يشير التعريف إلى دائرة الانفعالات. فقد تعني الإرادة المحبة لا الكراهة. فالمحبة أو الرغبة أو الفعل في مقابل الكراهة والإحجام عن الفعل وعدم الرغبة أو النفور والاشمئزاز والإحباط والخمول وعدم الاهتمام والفتور واللامبالاة.٢٨٠ الإرادة إذن علم أو باعث وكلاهما من صفات الكمال. ولكن الأهم في التخصيص بالإرادة هو اصطدامها بالحرية الإنسانية، وباختلاف مرادات البشر. فكيف يكون الله مريدًا لإرادة زيد وإرادة عمرو عند اختلاف مرادهما، وهي دلالة التمانع؟ كيف تتعلق الإرادة وهي خير محض بإرادات خيرة وشريرة؟ كيف يكون المأمور والمنهي مرادًا، الأوَّل علم وقوعه والثاني لم يعلم وقوعه، وتكليف أبي جهل بالإيمان من غير إرادة له؟ كيف تجوز الإرادة على الله وهي لا تكون إلا عزمًا مع سبق فكر وتردد؟ يبدو أن في إثبات الإرادة لله مخاطر على الحرية الإنسانية وخلق الأفعال. فالإرادة نفي للقصد وللاختيار وحرية الأفعال. وفي هذه الحالة تكون أفعال العباد بالطبع أولى، إذا كان الأمر نفيًا بنفي. ويكون القول بالطباع رد فعل على القول الإرادة، فعلى الأقل يبقى الطبع للإنسان كالفعل الحر.٢٨١ وقد لا تتغير إرادة الرضا إذا ما عصى المطيع وقد لا تتغير إرادة السخط إذا ما أطاع العاصي.٢٨٢
وقد يكون الدليل على ثبوت الإرادة كون الذات حيًّا، فالإرادة أحد مظاهر الحياة والميت لا يريد. ولما كانت أفعال الصانع بعضها متقدمة والأخرى متأخرة، ويجوز في العقل تقديم المتأخر وتأخر المتقدم واختصاص بعضها دون البعض، كانت الإرادة هي الصفة المخصصة. تثبت الإرادة إذن بإثبات المخصص للأفعال.٢٨٣ وقد تثبت الإرادة بالأمر، فالأمر لا يكون أمرًا إلا بالإرادة وكذلك الخبر، والحكم لا يكون حكمًا إلا بالإرادة، وكذلك تأثير القدرة والعلم، فالكرامة تمنع الفعل وتمنع التأثير على عكس الإرادة. ليست الكراهة باعثًا على الفعل، بل على امتناع الفعل. الكراهة تؤدي إلى النفور. الإرادة شهوة والكراهة نفور دون رد الإرادة إلى الشهوة والنفور. فقد يكره الحي ما لا ينفر طبعه عنه مثل الزنا وشرب الخمر، وقد ينفر طبعه عما لا يكرهه مثل الدواء. وقد تكون الإرادة تجربة شعورية بديهية لا برهان منطقي عليها.٢٨٤
وبالرغم من أن الإرادة في نشأتها أمر سلبي أو عدمي إلا أن متطلبات الكمال تقتضي جعلها أمرًا إيجابيًّا أو ثبوتيًّا. فالكمال لا يجوز أن يصدر عن العدم لأن العدم نقص. لذلك الإرادة صفة كمال تنفي عن الذات الأهواء والميول والرغبات والتحيزات والمحاباة. بل إن هذا الجانب السلبي في الإرادة أصبح عنوانًا لها وبديلًا عنها أو مكملًا لها ومفصَّلًا لمضمونها. فيخصص لصفات الانفعال مسألة خاصة لربط الانفعالات بالإرادة ونفي الأهواء.٢٨٥ وتبدو وكأنها قسم من الإرادة ينفي أضدادها لأنها تذكر بعد صفة الإرادة، خاصةً وأن الإرادة ليس لها معنى مستقل عن القدرة في الثلاثي.٢٨٦ وتبدو أحيانًا وكأنها من الصفات المختلف عليها مثل التكوين والبقاء والقِدَم واليد والوجه والاستواء والإدراك والشم والذوق واللمس.٢٨٧ وقد يظهر نفي الانفعالات النفسية في نهاية ذكر الأوصاف والصفات من غضب ورضا وحنق وحقد وميل ونفور.٢٨٨ كما تبدو صفات الرضا والسخط أحيانًا مع الأخرويات في الوعد والوعيد نظرًا لأنها مقاييس الثواب والعقاب في غياب تصور قانوني لها.٢٨٩ وتُنفى صفات اللذة والألم والنفع والضرر في النهاية بعد أوصاف الذات وصفاتها وصفات التشبيه والاستواء وصفات الانفعال والرؤية.٢٩٠ ويظهر هذا الوصف في نهاية الأوصاف كلها وقبل صفات المعاني السبع.٢٩١ وتظهر في النهاية قبل الصفات الثبوتية السبع وقبل نفي الطعوم والألوان آخر صفات السلوب مثل نفي مشاركة الذات لغيرها ونفي التركيب ونفي التحيز ونفي الاتحاد والحلول ونفي الجهة ونفي قيام الحوادث بالذات.٢٩٢ ويظهر نفي الألم واللذة كسابع وصف بعد نفي الجسمية ونفي الجوهر ونفي المكان ونفي الحلول ونفي قيام الحوادث بالذات ونفي الاتحاد.٢٩٣ ويعقد لنفي الشهوة مسألة خاصة مما يدل على بداية تموضعها في وصف مستقل.٢٩٤
ويظهر لأول مرة نفي الانفعالات كوصف للذات سلبًا بنفي السرور والغم.٢٩٥ وتظهر ثانية إيجابًا بإثبات غناه عن الخلق.٢٩٦ ويظهر الغنى عن الأماكن والأزمان والخلق وبعد القيام بالذات والوجود والشيء.٢٩٧ كما يظهر نفي الله عن الحاجة كثالث وصف للذات بعد الوجود والقِدَم.٢٩٨ وقد يأتي نفي الحاجة كآخر وصف للذات قبل الوحدانية.٢٩٩ وقد تنفى صفات النقص مع الواحد والحق بذاته في معرض الحياة دون أن تكون بابًا خالصًا، نفي السهو والنوم والحس والجهل والوهم.٣٠٠ ويظهر وصف الكمال في عبارات إنشائية دون إحصاء بعد الوحدانية والقِدَم ونفي الشبه.٣٠١ كما يظهر إثبات الكمال ونفي النقص في العقائد بعد إثبات الوجود والقِدَم قبل الصفات السبع وكذلك بعدها نفيًا لجميع صفات التشبيه.٣٠٢ وفي المقدمات الخطابية يظهر أيضًا إثبات الكمال.٣٠٣ وينفي عن الله الكلل والتعب.٣٠٤
وأهم الانفعالات الرضا والسخط، والمحبة والبغض والموالاة والمعاداة.٣٠٥ وقد تكون الإرادة مضادة للكراهية. فإرادته لشيء كراهيته لضده. تنتقل الصفات إذن إلى مستوى الانفعال والإرادة فتكون العاطفة رفضة للعاطفة المضادة.٣٠٦ وتتحول الصفات والصفات المضادة إلى عاطفتي المحبة والكراهية أو إلى انفعالي الولاية والعداوة والرضا والسخط. وهنا يسقط الإنسان من انفعالاته الإيجابية والسلبية على الذات المشخص. فالولاية والعداوة انفعالان نفسيان أسقطهما الشعور على المعبود وجعلهما صفتين له في ذاته.٣٠٧ وقد يخضع الذات المشخص للانفعالات المضادة فيفرح ويغتنم، ويسر ويحزن بناءً على ما يحدث في العالم كما يحدث للإنسان تمامًا. يسر بطاعة أوليائه وينتفع بها ويلحقه العجز بمعاصيهم. يسر ويغنم، يستريح ويتعب، يفرح ويحزن، يمل وينسى، ويستحي ويهتم.٣٠٨ وقد كانت هذه الانفعالات هي السمات الغالبة على الآلهة في الديانات القديمة إذ لم تكن قد تحولت بعد إلى صفات عامة، شاملة عقلية مطلقة، فالانفعالات أولى المراحل في تصوير الصفات.٣٠٩
وأحيانًا يتحول الرضا والسخط إلى صفات مستقلة عن الإرادة، وبالتالي تمتد الصفات لتشمل باقي الانفعالات. ولما كانت الانفعالات فيما يبدو مظاهر للنقض، فقد تم نفيها إثباتًا للكمال لا فرق بين معتزلة وأشاعرة.٣١٠ فالرضا والسخط لا يجوزان على الله لأن أحواله لا تتغير. وكذلك الولاية والعداوة لتعارضهما مع حرية الأفعال، وكذلك جميع مظاهر الانفعالات الحسية. ولكن قد يختار البعض الفرح دون السرور والرضا والغضب والسخط دون الشفقة والرأفة والهمة والعناية طبقًا للتوقيف أي للنقل دون العقل، وذلك تحويل للتصوير الفني إلى وقائع ثابتة وتحويل للتأثير النفسي إلى صفة وانفعالات،٣١١ أو إثباتها مظاهر للإرادة وليس صفات شاملة.٣١٢ كما تجمع الفِرَق على نفي مظاهر الآفات كلها وشتى صنوف العاهات والنافع والضار واللذة والألم، والسرور والملذات والشهوة. لا يعتريه أي مظهر من مظاهر النقص بل هو الكمال المطلق. وهنا يظهر الفكر على أنه تعبير عن مطلب نفسي أكثر منه وصفًا لواقع أو على أنه رغبة في الكمال واستنكاف من النقص أو على أنه تعبير عن عواطف الطهارة والتقوى في صياغات عقلية.٣١٣
كذلك لا يجلب على نفسه نفعًا ولا يدفع عن نفسه مضرة. لا يخشى شيئًا ولا يستعين بأحد، لا يخشى الشيطان، ولا يستعين بالملائكة. ولذلك فهو غني عن خلقه ليس في حاجة وليس في حاجة إلى شكر كما هو معروف في «شكر المنعم»، فالله غنيٌّ عن العالمين. والحقيقة أن إثبات غنى الله يدل على افتقار الإنسان ورغبته في أن يكون غنيًّا ولكنه لم يستطع فألَّه الغني. وكل ما قيل عن غنى الله يدل على حرمان الإنسان منه وشوقه إليه. وقد تدل صفة الغنى عن تأليه الغني لنفسه ونموذجه وتأييد طبقته تعبيرًا عن واقعه عن طريق الامتداد وليس عن طريق القلب. الغنى وصف يطلقه الفقير لحرمانه والغني لشبعه. وهو الغنى على الإطلاق والإنسان هو الغني لا على الإطلاق إذ تعتريه الحاجة ولا يستغني عن أحد أو عن شيء. وهو حي لا تجوز عليه الحاجة؛ لأنه لا تجوز عليه الشهوة والنفار التي تجوز على الأجسام. لا تجوز عليه الشهوة؛ لأنه لا يجوز عليه النفور. فالإلجاء على ضربين بطريقة المنع أو المنافع والمضار ويستحيل كلاهما في حقه.٣١٤
كل ذلك يدل على نفي صفات النقص عنه وإثبات صفات الكمال له.٣١٥ بل إن عواطف التأليه كلها قائمة على دليل الكمال دونما حاجة إلى قسمة عقلية أو صياغة منطقية مثل دليل الأولى. إذ يقوم على افتراض خالص ويعبر عن عواطف التعظيم والإجلال وليس فكرًا علميًّا وتحليلًا لموضوع. وهو حكم مسبق من أن المؤلَّه قادر قدرة مطلقة، وعالم علمًا مطلقًا، وكامل كمالًا مطلقًا.٣١٦ وتصور الكمال المشخص لا يعطي الشعور وجودًا أنطولوجيًّا بل يستعمل فقط كفكرة محددة. فعندما يوصف الموجود المشخص ويثبت بالعقل يُقال: «وهذا لا يجوز على الله»، أو: «وهذا يستحيل على الله»، أو: «وهذا ممتنع»، أو: «محال في حق الله»، مثل وجود النقص أو مسئوليته عن الشر أو تشبيهه بالإنسان. فالكمال حل لمعظم المشاكل عن طريق التنزيه الشعوري أي عملية التأليه القائمة على تعظيم الآخر والإجلال له. وقد يقوم دليل الكمال على إثبات الكمال للإنسان من أجل التخلي عن موقف تعذيب الذات، ولكن يأتي دليل الصانع ثم يجعل كمال الإنسان دليلًا على وجود مخلوق كامل سبب هذا الكمال ومصدره مع أن كمال الإنسان لا يفترض بالضرورة وجود صانع كامل.٣١٧ وزيادة في التنزيه فإن مفهوم الكمال نفسه نفي للنقص، وبالتالي لا يجوز وصف الله بأنه كامل.٣١٨ وأخيرًا تجمع صفة الكمال بين جميع الصفات الإيجابية مرة واحدة. فهي صفة كلية لا تشير إلى وجه واحد من أوجه الكمال، بل تشير إلى الكمال ذاته. وتنشأ صفة الكمال من إحساس الإنسان بالنقص أمَّا في نفسه، فالإنسان ليس ناقصًا إلا بناءً على إحساس مرضي باحتقار الذات أو في الواقع، حين يعجز الإنسان عن تحقيق الكمال، إمَّا في ذاته بتطويرها من درجة أقل إلى درجة أعلى، وإمَّا في الواقع فإنه يؤله الكمال إذا عجز عن أن يكون كاملًا أو عجز عن تحقيق الكمال في واقعه. وتختلف صورة الكمال حسب تصور الشعور له. لا توجد صورة واحدة للكمال. كل الصور تعبير عن درجة إحساس الشعور به.٣١٩

والسؤال الآن: هل يمكن وصف الله بالمكر والسخط والغضب والكراهية وسائر الانفعالات السلبية؟ يبدو أن الإسقاط الإنساني أحيانًا للانفعالات السلبية لا يكون مصاحبًا بالنفي وكأن الانفعالات ليست عيبًا مثل سائر الانفعالات التي يصدر عليها الحكم بالنفي كعيب ونقص مثل الجهل والعجز والموت والصمم والعمى والبكم. فالانفعالات الإنسانية إذن لها جوانبها الإيجابية. الحياة ليست علمًا وقدرةً فحسب بل غضب وسخط وكراهية وحزن وفرح. بل إن الملل والهم والنسيان وكل الانفعالات السلبية إيجابية وخلَّاقة وبواعث على الصمود والمقاومة وبذل الجهد لتجاوزها والسيطرة عليها. لذلك ارتبطت الإرادة بالبواعث وشملت الانفعالات. ولكن الباعث هو الانفعال الواعي المروي، وهو الانفعال الموجب لا السالب. أسقط الإنسان في التأليه الشخصي جميع انفعالاته لأنه لا يمكن تصور الحياة دون انفعالات. وقد تدوم الانفعالات وتصبح عامة لا تتغير بتغير الفعل إنساني. وهي صيغة الانفعال الثابت الذي لا يتغير أن حصل كما هو الحال في الأفكار الثابتة المستقلة عن الأشخاص والتي لا تتغير مهما تغيرت أفعال الأشخاص. يوصف الله إذن على مستوى إنساني، فلا يفعل الحديد إلا الحديد: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ. الله إنسان انفعالي، والانفعال بعد إيجابي في الحياة الإنسانية لذلك يتصف به الله. وهذا كله مجاز وتشبيه، استعارة وكناية، تشير إلى البعد الفني في رؤية الإنسان لذاته وتصويره لصفاته، قياسًا للغائب على الشاهد، وأن أي إدراك أو تصور لا يتم إلا بناء على مقياس إنساني خالص. كل شيء إنساني، والحقيقة إنسانية، والله إنساني ولكن الإنسان في اغترابه عن ذاته يجهل ذلك وكأن الإنسان هو الوحيد اللاإنساني. وأحيانًا تكون الانفعالات مزدوجة مثل المحبة والكراهية، الرضا والسخط، وأحيانًا فردية مثل الجود والكرم إذ لا يجوز وصف الله بالبخل والتقتير: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ بناءً على الانفعالات الإنسانية وتناقضات الوجود الإنساني … لذلك تشابه الانفعالات المزدوجة أحوال الصوفية المزدوجة أيضًا، وتشابه الانفعالات الفردية مقامات الصوفية الفردية.

وقد تستثنى بعض الانفعالات الحسية مثل اللذة والألم والنفع والضرر، وكأن الانفعالات الحسية لا تجوز على الله في حين أن المنفعة والضرر أساس التشريع ومقياس له وأن تعريفهما لا يتم إلا باللذة والألم. وقد تستثنى بعض الانفعالات غير الحسية مثل الميل والنفور مع أنها لا تختلف نوعًا وكيفًا عن باقي الانفعالات المنسوبة إلى الله مثل الولاية والعداوة والرضا والسخط. وقد يُستثنى الحاجة والفقر مع أنهما ليسا انفعالين بل يخصان الوجود ذاته هل هو محتاج إلى غيره أم أنه غنيٌّ عنه. تبدو الانفعالات إذن على مستويات ثلاثة، الصوري الوجودي مثل الغنى والحاجة، الوجداني مثل الرضا والسخط، والحسي مثل اللذة والألم.

وأخيرًا قد تختلط بعض الانفعالات بالأسماء مثل الجود والكرم والرحمة، وكأنه لا يوجد إحصاء تام للانفعالات كما هو الحال في الأوصاف الستة والصفات السبع والأسماء التسعة والتسعين. ومع ذلك فقد جعلها القدماء مظاهر للإرادة وأحيانًا أخرى للقدرة؛ لأن الله قادر على كل شيء.٣٢٠ فالقدرة والإرادة قرينان. والحقيقة أن الإرادة في أصل الوحي فعل وليست اسمًا وفعل للإنسان أكثر منها فعلًا لله ولكن الإنسان أسقطها ومظاهرها على الله ورضي برؤية ذاته فيه إذا ما استعصى العالم عليه وأصبح عاجزًا فيه.٣٢١
١  الملل، ج١، ص١٣٥.
٢  العلم، السمع، البصر، القِدَم، الحياة، الوجه، العين، اليد، الجنب، القَدَم، التنزل، العزة، الرحمة، الأمر، النفس، الذات، القوة، القدرة، الأصابع، المائية، السخط، العدل، الرضا، الصدق، الملك، الخلق، الجود، الإرادة، السخاء، الكرم، الرؤية … إلخ (الفصل، ج٢، ص١١٨–١٦٩؛ ج٣، ص٣–١٨).
٣  الواحد، القديم، الحي، القادر، العليم، السميع، البصير، الشافي، المريد، الفعل، التخليق، الترزيق، الكلام … إلخ.
٤  المحصل، ص١٣٥-١٣٦.
٥  العلم، القدرة، الحياة، القوة، السمع، البصر، الإرادة، المشيئة، الفعل، التخليق، الترزيق، الكلام (النسفية، ص٧٥–٧٧). القدرة بمعنى المشيئة (النسفية، ص٧٦).
٦  المحصل، ص١٣٥؛ النسفية، ص٨٦–٩٠؛ الكفاية، ص٥٩؛ الطوالع، ص١٨٤.
٧  قائم، غني، واحد، حي، قادر، مريد، عالم، سميع، بصير، متكلم.
٨  موجود، قديم، واحد، أحد، حي، عالم، قادر، مريد، متكلم، سميع، بصير، باقٍ (الإنصاف، ص١٨).
٩  النهاية، ص١٠٧–١٠٩.
١٠  الرسالة، ص٣٣–٤٨.
١١  النهاية، ص١٠٦–١٠٩؛ التحقيق، ص٩٣-٩٤.
١٢  الشرح، ص١٥١–١٧٥، ص٤٤٠–٤٤٧، ص٥٢٧–٥٦٣.
١٣  الإرشاد، ص٦١. الغاية، ص٥٢–١٣٣.
١٤  الأصول، ص٩٠–٩٣.
١٥  السنوسية، ص٢-٣.
١٦  الكفاية، ص٦٣–٦٥. وبالتالي يبدو الأمر مجرد كراسٍ موسيقية كلمات متقاطعة أو لعبة شطرنج.
١٧  مثلًا: العلم، موجود، قديم، باقٍ، مخالف للحوادث، قائم بالنفس، واحد متعلق بجميع الممكنات، وهكذا في باقي الصفات السبع (الجامع، ص٥-٦).
١٨  الطوالع، ص١٦٦–١٨٤.
١٩  وذلك كما يفعل غني الحرب في إظهار قدرته الشرائية دون نظام أو ترتيب أو كما يفعل المدَّاح والمنافق والمداهن.
٢٠  انظر رسالتنا الثانية، الجزء الثاني: La Phénoménologie de l’exégèse من أجل عرض هذه المراحل الثلاث في تطور العقائد المسيحية.
٢١  عند البعض الله عالم قادر حي سميع بصير إله (مقالات، ج١، ص١٠٦). وعند بعض أهل السنة هو حي عالم قادر مريد متكلم بصير باقٍ (الإنصاف، ص١٨). وعند فريق ثالث هو الحي الذي لا يموت الدائم الذي لا يزول، إله كل مخلوق، مبدعه ومنشئه ومخترعه (الإنصاف، ص٢٣).
٢٢  النظامية، ص١٦–٢٥. الإرادة، القدرة، العلم، السمع، البصر، الكلام، الحياة (الحصون، ص١٧–٢٢). وقد لا يذكر إحصاء الصفات ولكن تذكر واحدة تلو الأخرى وكأنها موضوعات مستقلة (المسائل، ص٣٦٠–٣٧١).
٢٣  السنوسية، ص٢؛ الوسيلة، ص٢٦-٢٧؛ الجامع، ص٧؛ الحصون، ص٢٢–٢٤. متعلقات بجميع الممكنات المتقابلات المتنافرات التي لا يصح اجتماعها في محل واحد، وهي ستة تقابلها ستة: الوجود، والمقادير، والصفات، والجهات، والأمكنة، والأزمنة (الجامع، ص٨).
٢٤  الجامع، ص٧؛ الحصون، ص٢٤.
٢٥  الإبانة، ص٢٤–٣١؛ اللمع، ص٢٤-٢٥.
٢٦  الكفاية، ص٤٤–٥٢، ص٥٦-٥٧؛ الشرح، ص١٥١–١٦٧.
٢٧  الفصل، ج٢، ص١١٨–١٣٨. العلم، الحياة، الوجه، اليد، العين، الجنب، التنزل، العزة، الرحمة، الأمر، النفس، القوة، القدرة، الأصابع (الفصل، ج٢، ص١٤٧–١٥٣)، الأصابع، السخط، العدل، الرضا، الصدق، الملك، الخلق، الجود، الإرادة، السخاء، الكرم (الفصل ج٢، ص١٥٥–١٦٩؛ ج٣، ص١٣–١٨).
٢٨  عالم بجميع المعلومات، قادر على جميع الممكنات، مريد لجميع الكائنات، متكلم، حي، سميع، بصير (العضدية، ج٢، ص٢–١١٨).
٢٩  القدرة، الإرادة، العلم، الحياة، السمع، البصر، الكلام (السنوسية، ص٢-٣؛ الكفاية، ص٤٤–٥٦؛ الرسالة، ص٦-٧؛ الجوهرة، ص١٠-١١؛ الوسيلة، ص٢٦).
٣٠  الحياة، العلم، الإرادة، القدرة، السمع، البصر، الكلام (العقيدة، ص٢-٣).
٣١  العلم، القدرة، الإرادة، الحياة، السمع، البصر، الكلام (الوسيلة، ص٣٠–٣٣).
٣٢  قدرة، إرادة، سمع، بصر، حياة، علم، كلام (العقيدة، ص٧–٩).
٣٣  قدرة، إرادة، علم، حياة، سمع، بصر، كلام (السنوسية، ص٢-٣؛ الكفاية، ص٥٦–٥٩؛ الجامع، ص٥-٦).
٣٤  الأصول، ص٩٣–٩٦، ص١٠٥-١٠٦.
٣٥  حي، عليم، قادر، مريد، سميع، بصير، متكلم (الجوهرة، ص١٠).
٣٦  عالم، قادر، مريد، متكلم، حي، سميع، بصير (العضدية، ج٢، ص١١٢–١١٨).
٣٧  الإرادة، القدرة، العلم، السمع، البصر، الكلام، الحياة (الحصون، ص١٨؛ الرسالة، ص٤٤–٤٨؛ الكفاية، ص٤٤–٥٤). عالم بجميع المعلومات، قادر على جميع الممكنات، مريد بجميع الكائنات. متكلم، حي، سميع، بصير (العضدية، ج٢، ص١١٢–١١٨).
٣٨  القدرة، العلم، السمع، البصر، الإرادة، الحياة، الكلام (الأصول، ص٩٣–١٠٨).
٣٩  تثبت أكثر المعتزلة لله علمًا بمعنى أنه عالم، وقدرة بمعنى أنه قادر، ولكنهم لا يثبتون له حياةً ولا سمعًا أو بصرًا (مقالات، ج١، ص٢٢٤-٢٢٥).
٤٠  السنوسية، ص٣؛ الباجوري، ص٦–٨. عالم بعلم وليس جاهلًا بجهل، قادر بقدرة وليس عاجزًا بعجز، حي بحياة وليس ميتًا بموت … إلخ. وعند أهل السنة الحياة التي بها بان من الموت والأموات، القدرة التي أبدع بها الأجناس والذوات، العلم الذي أحكم به المصنوعات، وأحاط بجميع المعلومات، الإرادة التي صرف بها أصناف المخلوقات، والسمع والبصر اللذان أدرك بهما جميع المبصرات. والكلام الذي به فارق الخرس والسكوت وذوي الآفات (الإنصاف، ص٢٣).
٤١  استغناؤه يوجب السمع والبصر والكلام، وافتقار كل ما عداه إليه يوجب الحياة والقدرة والإرادة والعلم (السنوسية، ص٦-٧؛ الجامع، ص٢٣-٢٤).
٤٢  الكفاية، ص٤٩–٥٢؛ الرسالة، ص٤؛ الجامع، ص٤؛ ص١١–١٣؛ الوسيلة، ص٣٤.
٤٣  التمهيد، ص٤٧.
٤٤  النهاية، ص٢١٥–٢٣٧.
٤٥  الغاية، ص٧٦–٨٧.
٤٦  الحياة، القدرة، العلم (الفقه، ص١٨٤؛ الخريدة، ص٢٩–٤١؛ الجوهرة، ص١٠؛ العقيدة، ص٢-٣؛ التحقيق، ص٩٣؛ القطر، ص٣).
٤٧  القدرة، العلم، الحياة (المحصل، ص١١٦–١٣٥؛ المعالم، ص٣٨–٥٨؛ الأصول، ص٩٠، ص٩٣–١٠٨).
٤٨  لو شئنا إحصاءً شاملًا لاحتمالات الثلاثي وجدناها ستة:
  • (أ)

    العلم، القدرة، الحياة (الإرشاد، ص٦٣، ص٦٧، ص٥، ٦).

  • (ب)

    العلم، الحياة، القدرة.

  • (جـ)

    القدرة، العلم، الحياة (الإرشاد، ص٦١–٦٣؛ الشامل، ص٦٢١–٦٢٥؛ الاقتصاد، ص٤٤؛ المحصل، ص١١٦–١٢١؛ الطوالع، ص١٦٦–١٧١؛ المواقف، ص٢٨١–٢٩٢؛ الأصول، ص٩٠؛ المسائل، ص٣٦٠–٣٦٤؛ المعالم، ص٣٨–٤٤).

  • (د)

    القدرة، الحياة، العلم.

  • (هـ)

    الحياة، العلم، القدرة (الرسالة، ص٣٣-٤؛ الإنصاف، ص١٨؛ النظامية، ص١٧؛ الشامل، ص١٢١).

  • (و)

    الحياة، القدرة، العلم (الفقه، ص١٨٤؛ اللمع، ص٢٤-٢٥؛ النسفية، ص٦٠؛ الإنصاف، ص٣٥-٣٦).

٤٩  هذا هو رأي أبي الهذيل ومعمر وهشام وبشر بن المعتمر والجبائي وسائر المعتزلة (مقالات، ج٢، ص١٩).
٥٠  هذا هو رأي صالح والصالحي وابن الراوندي (مقالات، ج٢، ص٢٢٢). وعند أبي الهذيل اجتماع الأضداد في العالم ممكن بالخلق، فيمكن خلق الإدراك مع العمى، وعند الصالحي يمكن اجتماع القطن والنار دون إحراق، والحجر دون سقوط. أمَّا الجبائي فإنه يميز بين مستوى الإنسان ومستوى الطبيعة، فيستحيل الإدراك مع العمى في حين أنه يمكن الجمع بين النار والقطن والحجر والجو.
٥١  كذلك لا يجوز أن تحدث الصنائع إلا من قادر حي؛ لأنه لو جاز حدوثها ممن ليس بقادر ولا حي لم ندرِ لعل سائر ما يظهر من الناس يظهر منهم وهم عجزة موتى. فلما استحال ذلك دلت الصنائع على أن الله حي قادر (اللمع، ص٢٥).
٥٢  الحياة شرط العلم والقدرة والإرادة والسمع، ومن ليس بحي لا يصح أن يكون عالمًا قادرًا مريدًا مبصرًا. خلاف الصالحي والقدرية وقولهم بجواز العلم والقدرة والرؤية والإرادة في الميت (الفِرَق، ص٣٣٦-٣٣٧).
٥٣  ينكر عبَّاد والبغداديون أن يكون معنى عالم قادرًا (مقالات، ج١، ص٢٢٦، ص٢٢٩؛ ج٢، ص١٦٦). على عكس أبي الهذيل الذي تعني لديه الله عالم أنه قادر (مقالات، ج٢، ص١٥٨). وهذا هو معنى أخذ شعار «الحق فوق القوة» في حياتنا السياسية المعاصرة.
٥٤  ينكر عبَّاد وأبو الهذيل أن يكون معنى قادر أنه حي. والمعتزلة والبصريون ينكرون أن يكون معنى حي أنه قادر على عكس بعض البغداديين مثل الإسكافي. فعنده تعني الله حي أنه قادر (مقالات، ج١، ص٢٢٦، ص٢٢٩، ص٢٣٥؛ ج٢، ص١٦٦، ص١٥٨، ص٢١٩–٢٢٢).
٥٥  أنكر بعض البغداديين أن يكون معنى الله عالم أنه حي (مقالات، ج١، ص٢٢٩). والمثل هنا من انتزاع الحضارة الغربية خارج بيئتها ونقلها إلى الشعوب اللاأوروبية. وهذا هو موضوع القسم الثاني من «التراث والتجديد» (موقفنا من التراث الغربي).
٥٦  هذه إشارة إلى ما يُقال عادةً من أثر أقانيم النصارى على الصفات الثلاثة. ويرفض القدماء هذه الأقانيم في رفض الجوهر الميتافيزيقي، كما يرفضونها في تعدد الآلهة وإثبات الواحد. كما يعرضون لها في الصفات الثلاثة الأولى، العلم والقدرة والحياة، ولكن لا شأن لها بموضوع الصفات. وإن ما قيل من أثر الأقانيم الثلاثة في الصفات الرئيسية الثلاثة غير صحيح، ويكون أقرب عند الباقلاني في «التمهيد» إلى الموضوع المستقل في تاريخ الأديان والنقد الديني للعقائد (الغاية، ص١٨٤-١٨٥). انظر أيضًا: «التراث والتجديد: موقفنا من التراث القديم»، ثالثًا: أزمة المناهج في الدراسات الإسلامية، (١) النعرة العلمية، (د) منهج الأثر والتأثر (ص١٠٢–١٠٨).
٥٧  الرسالة، ص٤٤–٤٨. سميع مريد، بصير، متكلم (الإنصاف، ص٣٥–٣٧).
٥٨  يثبت الأشعري الإرادة كنتيجة لإثبات الكلام؛ لأن الكلام يتطلب إرادة يخصهما في باب واحد (اللمع، ص٣٣–٤٦).
٥٩  التمهيد، ص٤٧.
٦٠  النسفية، ص٦٠.
٦١  الشرح، ص١٦٧–١٧٥.
٦٢  بناءً على تحليل العقل وكان السمع والبصر باستمرار وحدة واحدة لا يفترقان، السمع يسبق البصر، تكون لدينا احتمالات ست في نسق الأولوية:
  • (أ)

    السمع، البصر، الكلام، الإرادة (التمهيد، ص٤٧؛ الكفاية، ص٤٤–٥٨).

  • (ب)

    السمع، البصر، الإرادة، الكلام (الأصول، ص٩٦–١٠٨؛ الفصل، ج٢، ص١٢٨–١٣٨، ص١٥٥–١٦٩؛ ج٣، ص١٣–١٨؛ الفقه، ص١٨٤؛ اللمع، ص٣٣–٤٦؛ الإبانة، ص١٩–٤١؛ الخريدة، ص٢٩–٤١).

  • (جـ)

    الكلام، السمع، البصر، الإرادة.

  • (د)

    الكلام، الإرادة، السمع، البصر.

  • (هـ)

    الإرادة، السمع، البصر، الكلام (الإنصاف، ص٢٣، ص٣٦-٣٧؛ الأصول، ص٩٠؛ الإرشاد، ص٦٣–٧١؛ الاقتصاد، ص٢٤؛ المحصل، ص١٢١–١٢٦؛ المعالم، ص٤٤–٥٨؛ الطوالع، ص١٧٩–١٨٣؛ المواقف، ص٢٩٢–٢٩٩؛ التحقيق، ص٥٣–٨١؛ الخريدة، ص٢٥–٤١).

  • (و)

    الإرادة، الكلام، السمع، البصر (الإنصاف، ص١٨؛ النظامية، ص١٧–٢٣؛ الغاية، ص٥٢–٧٥، ص١٢٣–١٥٥؛ النهاية، ص٢٣٨–٣٥٥؛ المسائل، ص٣٦٤-٣٦٥؛ العضدية، ج٢، ص١١٢–١١٨؛ الخريدة، ص٢٩–٤١).

٦٣  وهذا هو سؤال القدماء: هل الصفات سبعة فقط؟ أثبت الأشعري اليد وراء القدرة، والوجه وراء الوجود والاستواء. وأثبت الإسفراييني صفة توجب الاستغناء عن المكان، وأثبت القاضي صفات ثلاثة أخرى وراء الشم والذوق واللمس، وأثبت عبد الله بن سعيد القِدَم وراء البقاء، وأثبت مثبتو الحال العالمية وراء العلم، وكذا في سائر الصفات. وأثبت أبو سهل الصعلوكي لله بحسب كل معلوم علمًا وبحسب كل مقدر قدرة. وأثبت عبد الله بن سعيد الكرم والرضا والسخط صفات وراء الإرادة. والإنصاف أنه لا أدلة على ثبوت هذه الصفات (المحصل، ص١٣٥-١٣٦؛ النهاية، ص١٠٧–١٠٩).
٦٤  اللمع، ص٢٤.
٦٥  النسفية، ص٦٨.
٦٦  الإبانة، ص٢٩–٣٤.
٦٧  الأصول، ص٩٥؛ الإرشاد، ص٦١؛ الاقتصاد، ص٥٣-٥٤؛ المسائل، ص٣٦٣؛ المحصل، ص١١٨–١٢٠؛ المعالم، ص٤٠-٤١؛ الطوالع، ص١٧٢–١٧٩؛ المواقف، ص٢٨٦–٢٩٦؛ الرسالة، ص٣٥–٣٨؛ التحقيق، ص٦١–٦٧؛ الشرح، ص١٥٦–١٦٠.
٦٨  الإنصاف، ص٣٥-٣٦؛ التمهيد، ص٤٧؛ الكفاية، ص٤٨–٥٠؛ الحصون، ص١٨–٢٠.
٦٩  الفصل، ج٢، ص١١٨–١٢٨؛ الإرشاد، ص٦٣.
٧٠  النهاية، ص٢٢٥–٢٣٧.
٧١  إثبات علم الله بالذات هو موقف السندي والسيرافي والشحام والدلال وعبد الرحمن الشافعي (الانتصار، ص٥٣). أمَّا النفي فهو رأي معمر نقلًا عن ابن الراوندي، ولكن الخيَّاط ينفيه (الانتصار، ص٥٣). وترى القدرية مع معمر أنه لا يُقال عالم بنفسه وإن كان عالمًا بغيره، فلأن من شرط المعلوم أن يكون غير العالم (الفِرَق، ص١٥٥؛ الأصول، ص٩٩). ويبرر ابن حزم هذا الرأي بأنه من أثر الفلاسفة فمذهبهم أن علم الباري ليس علمًا انفعاليًّا أي تابعًا للمعلوم، بل علم فعلي من حيث فاعل العلم (الفصل، ج١، ص١٠٢-١٠٣).
٧٢  الطوالع، ص١٧٢–١٧٦؛ المواقف، ص٢٨٨–٢٩١. والعلم بالذات والعلم بالغير علم واحد يعلم به جميع المعلومات على تفاصيلها من غير حس ولا بديهة ولا استدلال عليه (الفِرَق، ص٣٣٥؛ الأصول، ص٩٩). ويعطي الرازي حجة على وحدانية العلم بأنه عالم بكل المعلومات لأنه حي، والحي عالم بكل واحد من المعلومات. والموجب لكونه عالمًا ذاته المخصوصة التي تقتضي العلم بالكل (المعالم، ص٤٢). والخلاف مع الكرامية التي زعمت أن لله علمين بأحدهما معلومات وبالآخر هذا العلم كما أثبت آخرون علومًا جديدةً لكثرة المعلومات (الأصول، ص٩٥).
٧٣  عالم بجميع المعلومات غير المتناهية (المسائل، ص٣٦٥-٣٦٦؛ المحصل، ص١٢٦–١٢٩).
٧٤  المعالم، ص٤١-٤٢؛ المواقف، ص٢٨٨–٢٩١؛ الإبانة، ص٥، ص٩، ص١٢؛ الإنصاف، ص٢٣، ص٣٥-٣٦؛ الأصول، ص٩٩؛ الاقتصاد، ص٥٣-٥٤؛ النسفية، ص٦٨؛ التحقيق، ص٦٤–٦٧؛ المحصل، ص١٢٦–١٢٩؛ المعالم، ص٤١-٤٢؛ المواقف، ص٢٨٨–٢٩١.
٧٥  الطوالع، ص١٧٢–١٧٦؛ المحصل، ص١١٨–١٢٠؛ المواقف، ص٢٨٥–٢٩٠؛ التحقيق، ص٦٣-٦٤.
٧٦  الرسالة، ص٣٥–٣٨؛ الشرح، ص١٥٦–١٥٩؛ المحصل، ص١١٨–١٢٠؛ اللمع، ص٢٤–٤٦؛ الإنصاف، ص٣٦؛ التمهيد، ص٤٧، ص١٥٢-١٥٣؛ المسائل، ص٣٦٣، المعالم، ص٤٠-٤١؛ المواقف، ص٢٨٥–٢٩٠؛ الحصون، ص١٨–٢٠؛ الإرشاد، ص٦١–٦٣، ص١٣٦-١٣٧؛ الإبانة، ص٣٩–٤٣؛ التحقيق، ص٦١–٦٣. «عالم بجميع المعلومات لصدور الأفعال المحكمة المتقنة الواقعة على ترتيب ونظام وإحكام وإتقان وذلك لا يحصل إلا من عالم بها» (الإنصاف، ص٣٥-٣٦؛ الملل، ج١، ص١٤٤). وقد أحدث هذا الدليل فرعًا بأكمله في علم الكلام الحديث تحت تأثير Natural Theology في الغرب والترويج لنتائج العلم الحديث، وأشهر مثل على ذلك: طنطاوي جوهري، ومحمد فريد وجدي.
٧٧  المواقف، ص٢٨٥–٢٩٠؛ الملل، ج١، ص١٤٢–١٤٤؛ الإرشاد، ص٦١–٦٣، ص١٣٦-١٣٧؛ الحصون، ص١٨–٢٠؛ التحقيق، ص٦١–٦٣.
٧٨  انظر مثلًا طريقة الأشعري في إثبات أن الله عالم (اللمع، ص٢٤). كيف يكون الله آمرًا بلا أمر؟ كيف يمكن إثبات عالم بلا علم؟ العالم اشتقاق من العلم، فإثبات العلم أولي. هل يجوز أن تشتق الصنائع الحكمية من ليس بعالم؟ (الإبانة، ص٣٩–٤٣).
٧٩  هذه هي التفرقة عند فقهاء القانون بين De Facfo, De Jure.
٨٠  ذكر فعل علم في القرآن ٧٧٨ مرة، منها ٤٢٥ مرة فعلًا سواء علم (٢٨٣ مرة) أو علم (٤٢ مرة)، ٢٥٧ مرة صفة عالم أو معلوم أو عليم أو علَّام أو أفعل تفضيل «أعلم»، وفقط ١٠٥ مرات اسمًا، أي أقل من السدس، مما يدل على أن العلم فعل أو صفة لموصوف ولكنه ليس اسمًا. فالله يعلم ويعلم وأعلم. وهو عليم (١٦٢ مرة) وعلَّام (٤ مرات). أمَّا العلم (١٠٥ مرات) فيعني الوحي الذي أعطاه الله للإنسان، وأكثر استعمالات الفعل للإنسان، والصفة لله، والاسم للوحي، أي أن الإنسان يعلم من العليم العلم من خلال الوحي. فالعلم حركة وليس إثباتًا، معطًى وليس جوهرًا.
٨١  وهذا هو الحال في «الإبانة»، «التمهيد».
٨٢  اللمع، ص٢٥.
٨٣  الرسالة، ص٤٠.
٨٤  الأصول، ص٩٣-٩٤؛ الاقتصاد، ص٤٤–٥٣؛ المسائل، ص٣٦٠–٣٦٢؛ المحصل، ص١١٦–١١٨؛ المعالم، ص٣٩-٤٠؛ الطوالع، ص١٦٦–١٧٠؛ المواقف، ص٢٨١–٢٨٦؛ الكفاية، ص٤٤–٤٦؛ التحقيق، ص٥٣–٥٨؛ الشرح، ص١٥١–١٥٦ (مع إدخال الإرادة والكلام في العدل).
٨٥  النظامية، ص١٨.
٨٦  الإنصاف، ص٣٥؛ المعالم، ص٤٢–٤٤، ص١٨.
٨٧  الفصل، ج٢، ص١٧–١٥٥.
٨٨  الحصون، ص١٨؛ التحقيق، ص٥٣. وهو نفس التعريف في «الإبانة»، «التمهيد». ومن العقائد المتأخرة. الكفاية، ص٤٤–٤٦؛ الرسالة، ص٤٠. وأيضًا: الشرح، ص١٥١–١٥٤؛ الملل، ج١، ص١٤٢–١٤٤.
٨٩  عند القاضي تثبت القدرة اضطرارًا أكثر من ثبوتها استدلالًا، والغزالي يقرب الدليل من دليل الاختراع (الاقتصاد، ص٤٤). والدليل معروض في اللمع، (ص٢٥؛ الحصون، ص١٨). وإحدى صياغاته في النظامية (التحقيق، ص٥٣–٥٥؛ النهاية، ص١٧٠-١٧١). وتركيبه على دليل الحدوث في المعالم (ص٣٩-٤٠؛ التحقيق، ص٥٥–٥٧؛ الشامل، ص٦٢١-٦٢٢؛ المواقف، ص٢٨١–٢٨٤؛ الغاية، ص٨٥–٨٧).
٩٠  المحصل، ص١١٦–١١٨، ص١٢٩-١٣٠؛ المواقف، ص٢٨١–٢٨٥؛ المسائل، ص٣٦٠–٣٦٢؛ الطوالع، ص١٦٠–١٧٠. والذين يتحوثون عن الكواكب هم المنجِّمون ومنهم الصابئة. وحجة الوجوب والامتناع والإمكان يرددها عبَّاد بن سليمان من الطبائعيين مع الحكماء.
٩١  المعالم، ص٤٢–٤٤؛ التحقيق، ص٥٧-٥٨؛ المسائل، ص٣٦٧-٣٦٨؛ المحصل، ص١٢٩-١٣٠؛ المواقف، ص٢٨١–٢٨٥؛ الطوالع، ص١٦٠–١٧٠. ويذكر القدماء عديدًا من الأدلة النقلية التي لا خلاف عليها في إثبات القدرة، ولكن الإشكال هو كيفية تصورها بالإيجاب والطبع أم بالقصد والاختيار. وبعض الأدلة العقلية خطابية مثل استحالة صدور الأفعال عن عاجز (الإنصاف، ص٣٥). وقد يكون الدليل نظريًّا مجرَّدًا مثل كل مخلوق كان مقدورًا لله قبل حدوثه وهو محدث لجميع الحوادث بقدرته. فالقدرة مساوقة للوجود قبل وجود الأشياء وبعد فنائها، فهي تقدر على الممكنات والمحدثات، وهي قدرة سابقة على الأشياء قادرة على الاختراع، ولم تأتِ عن طريق الاكتساب (الفِرَق، ص٢٢٠).
٩٢  الاقتصاد، ص٤٤-٤٥. وعند أبي هاشم الجبائي أحوال الباري في معلوماته لا نهاية لها، وكذلك أحواله في مقدوراته لا نهاية لها، كما أن مقدوراته لا نهاية لها (الفِرَق، ص١٩٦). ليس لمعلومات الله ولا لما يقدر عليه كل ولا غاية (مقالات، ج١، ص٢٢٣-٢٢٤). وعند أبي الهذيل علم الله له غاية ونهاية لا يتجاوز، إذ إن الكل يوجب الحصر والنهاية (الانتصار، ص١٢٣–١٢٥). وقد أرجأنا موضوع البداء إلى النسخ في الفصل التاسع عن النبوة.
٩٣  عند أهل السنة قدرة الله على المقدورات كلها قدرة واحدة، يقدر بها على جميع المقدورات عن طريق الاختراع دون الاكتساب، وعند الجهمية الحوادث كلها مقدورة له ولا قادرة ولا فاعل إلا هو (الفِرَق، ص٢٢٠). وعند الكرامية الله يقدر بقوته على الحوادث التي تحدث في ذاته. فأمَّا الحوادث الموجودة في العالم فإنها خلقها الله بأقواله لا بقدرته، فالخلق بالقول لديهم مثل الخلق بالطبيعة عند الحكماء وليس بالقدرة. وعند البصريين من القدرة لا يقدر الله على مقدورات عباده ولا على مقدورات سائر الحيوانات (الفِرَق، ص٣٣٤-٣٣٥). وعند البلخي من المعتزلة لا يقدر الله على مثل مقدور العبد لأن مقدور العبد إمَّا طاعة أو سفه أو عبث، وذلك على الله محال. وعند الجبائية لا يقدر الله على عين فعل العبد بدليل التمانع. انظر الفصل السابع: خلق الأفعال. ويمكن أن تكون هذه النصوص أحد وسائل استنفار القدرة الإنسانية ضد القدرة الإلهية، وحدوث رد الفعل على الفعل. مثلًا: «خلق الأشياء بقدرته، ودبرها بمشيئته، وقهرها بجبروته، وذللها بعزته، فذل لعظمته المتكبرون، واستكان لعز ربوبيته المتعظمون، وانقطع دون الرسوخ في علمه الممترون، وذلت له الرقاب، وحارت في ملكوته فطن ذوي الألباب، وقامت بكلمته السموات السبع، واستقرت الأرض المهاد، وثبتت الجبال الرواسي، وجرت الرياح اللواقح، وسار في السماء السحاب، وقامت على حدودها البحار، وهو إله قاهر، يخضع له المتعززون، ويخشع له المترفعون، ويدينون طوعًا وكرهًا له العالمون» (الإبانة، ص٤). وأيضًا: والقادر على اختراع كل مصنوع، وإبداع كل جنس معقول على ما أخبر به في قوله: خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ. «القدرة التي أبدع بها الأجناس والذوات» (الإنصاف، ص٢٣). وأيضًا: وأنه مقدر لأرزاق جميع الخلق ومؤقت آجالهم، وخالق لأفعالهم، وقادر على مقدوراتهم، وإله ورب وإله، لا خالق غيره، ولا رازق سواه، كما أخبر في قوله: اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ، فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ، هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ، وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ، «وأنه بيده الخير والشر والنفع والضر وأنه مقدر الأفعال» (الإنصاف، ص٢٨). «ولا يكون في ملكه وإرادته شيء إلا بعلمه ومشيئته وتقديره وقضائه» (البحر، ص٣). وقد ظهر رد فعل المعتزلة في إثبات خلق الأفعال وتصوير أهل السنة وهم مؤرخو العقائد لذلك على أنهم «يتفردون بالقدرة على أعمالهم دون ربهم، فأثبتوا لأنفسهم الغنى من الله، ووصفوا أنفسهم بالقدرة على ما لم يصفوا الله بالقدرة عليه كما أثبت المجوس للشياطين من القدرة على الشر ما لم يثبتوه لله، فكانوا مجوس هذه الأمة، إذ دانوا بديانة المجوس وتمسكوا بأقاويلهم ومالوا إلى أضاليلهم» (الإبانة، ص٧). ويظهر هنا سلاح التفكير وتهمة الأفكار المستوردة على ما يحدث في عصرنا هذا.
٩٤  في حين يضحِّي أهل السنة بالعدل في سبيل المزايدة في التوحيد أثبت الفلاسفة والمعتزلة العدل في القول بالوجوب، أي بالقانون الكوني الحتمي وليس بالقدرة المطلقة. وأثبت المعتزلة العدل وقانون الاستحقاق. فعند النظام مثلًا لا يقدر الله على خلق الجهل وسائر القبائح لأن فعل القبيح محال غير مقدور، ولأنه يدل على الميل والحاجة، وقد اتهم أهل السنة المعتزلة والفلاسفة بأنهم من الثنوية ينكرون القدرة المطلقة نظرًا للصراع بين النور والظلمة وتساوي القدرتين، وبالتالي فالله غير قادر على الشر لأن فاعل الخيرات خيِّر وفاعل الشر شرير، والفاعل الواحد يستحيل أن يكون كذلك. أمَّا المجوس فقد قالوا إن الله قادر على الشر، ولكنه لا يفعله لحكمة، وردوا ما في العالم من شرور إلى أهرمن، وبالتالي يرد مؤرخو أهل السنة أقوال خصومهم إلى أثر أجنبي لنفي إبداعهم الذاتي وأثرهم الداخلي ومحاصرته بتهمة التبعية والأفكار المستوردة.
٩٥  أجلنا موضوع بقاء الجنة والنار أو فنائهما إلى موضوع المعاد في الفصل العاشر.
٩٦  عند النظَّام، نقلًا عن ابن الراوندي وتكذيب الخيَّاط للرواية، محال أن يعدم الله الأجسام بعد وجودها، وإن كان هو الذي أوجدها بعد عدمها. ومحال بقاء القديم وحده. ومتى استحال أن يعدم الجسم بعد وجوده استحال وجوده بعد عدمه (الانتصار، ص٢١-٢٢). وعنده أيضًا يستحيل عدم الأجسام بعد حدوثها، أي أن الله يقدر على خلق الشيء ولا يقدر على إفنائه (الفِرَق، ص٧٦). يستحيل لديه فناء الأجسام وعدمها، فالله لا يزل الكافر في النار ولا يدخله فيها. النار تدخل الكافر نفسها وتخلده فيها؛ وذلك لأنهم عملوا أعمالًا فصارت أجسادهم لا تمنع النار إذا حاذتها في القيامة من اجتذابها إليها بطباعها (الانتصار، ص٩١–٩٢، ص١٦٨).
٩٧  وعند أبي الجبائي وابنه هاشم إذا أراد الله أن يفني العالم خلق عرضًا لا في محل أفنى به جميع الأجسام والجواهر، ولا يصح في قدرته أن يفني بعض الجواهر مع بقاء بعضها وقد خلقها تفاريق ولا يقدر على إفنائها (الفِرَق، ص١٨٤). وعند أبي هاشم لا يقدر أن يفني من العالم ذرةً مع بقاء السموات والأرض. فالأجسام لا تفنى بفناء يخلقه لا في محل يكون ضد جميع الأجسام لأنه لا يختص ببعض الجواهر دون بعض إذ ليس هو قائم بشيء منها، فإذا كان ضدًّا لها نفاها كلها، يقدر على فناء الجملة لا البعض (الفِرَق، ص١٩٧). وعند معمر فناء كل فانٍ فعل له بطبعه (الفِرَق، ص١٥١-١٥٢).
٩٨  كان ابن النجراني يقول: لا أقول مقدورًا في الحقيقة لأنه كان يحيل القدرة على الوجود. كما أنه لا معلوم إلا موجود (مقالات، ج٢، ص١٦٩).
٩٩  عند جمهور المعتزلة الله خالق الأجسام والأعراض كالحركات والسكون (مقالات، ج١، ص٢٥٠-٢٥١؛ ج٢، ص٢٠٤؛ الفِرَق، ص١١٥-١١٦). وعند بعض المعتزلة الأجسام والألوان والطعوم والروائح وسائر أجناس الأعراض مقدورة له، وامتنعوا عن وصفه بالقدرة على مقدورات غيره (الفِرَق، ص٢٢٠؛ مقالات، ج١، ص٢٥٠-٢٥١). وقال الكعبي إن المعتزلة اجتمعت على أنه خالق الأجسام والأعراض، وأنه خلق كل ما خلقه لا عن شيء … وهذا غلط منه على أصحابه. فالأصم من المعتزلة ينفي الأعراض كلها، وأن معمر يرى أن الله لم يخلق شيئًا من الأعراض، وأن ثمامة يرى أن الأعراض المتولدة لا فاعل لها (الفِرَق، ص١١٥). بل إن بعض أهل الحق تعبيرًا عن التنزيه وصفوا القديم بالقدرة على إنشاء الحركة وليس بالقدرة على التحرك (مقالات، ج٢، ص٢٠٤).
١٠٠  إن أكبر ممثل لتيار الطبائعيين هو معمر بن عبَّاد. فالله خالق الجواهر فحسب، والأعراض من فعل الجواهر بطبائعها. فهو لم يخلق شيئًا من الأعراض من لون أو طعم أو رائحة أو حياة أو موت أو سمع أو بصر أو صفات الأجسام. خلق الله الأجسام وحدثت الأعراض من فعل الأجسام بطبعها. فناء الأجسام فعل للجسم بطبعه، وصلاح الزرع أو فساده بفعل الجسم بطبعه (الفِرَق، ص١٥١-١٥٢). وعنده أن الأجسام كانت مخلوقة له قبل خلقها، والأعراض ليست مخلوقة ولا مقدورة (الفِرَق، ص٢٢٠). ليس لله في الأعراض من صنع ولا تقدير. قدر الله على خلق الأجسام ولم يخلق شيئًا من الأعراض ولا قدرة عليها (الأصول، ص٩٤). وعنده الأعراض لا نهاية لها، والحوادث لا نهاية لها. الله لم يخلق شيئًا غير الأجسام. فأمَّا الأعراض فإنها من اختراعات الأجسام، إمَّا طبعًا كالنار التي تحدث الإحراق والشمس الحرارة والقمر التلوين، وإمَّا اختيارًا كالحيوان يحدث الحركة والسكون والاجتماع والافتراق (الملل، ج١، ص٩٩-١٠٠).
١٠١  يتهم أهل السنة معمر اتهامات إقناعية خطابية مثل: وقد يكون العرض أقوى من الله الخالق للأجسام المحصورة، فالعرض يشارك في صفة الأزلية (الفِرَق، ص١٥٣-١٥٤). يلزمه من هذا الأصل أن يكون كل حيوان أقدر من ربه؛ لأن الواحد مِنَّا يقدر على أنواع لا نهاية لها من الأعراض، والله لا يقدر إلا على الأجسام فحسب. فالقادر على أجناس مختلفة ينبغي أن يكون أقدر ممن لا يقدر إلا على جنس واحد (الأصول، ص٩٤). يلزمه ألا يكون هناك فعل لله أصلًا. ويتهمه ابن حزم بذلك أيضًا، وبأنه ما دام ينكر الصفات الأزلية لأنه معتزلي ولا قال بخلق الأعراض فلا يكون لله كلام يتكلم به، وبالتالي لا يكون لله أمر ولا نهي، وبالتالي لا تكون هناك شريعة أصلًا، «فأدى مذهبه إلى خزي عظيم» (الملل، ج١، ص٩٩-١٠٠).
١٠٢  الرد بالإيجاب عند صالح وأبي الحسين، وبالنفي عند عامة أهل النظر (مقالات، ج٢، ص٢٢٣-٢٢٤).
١٠٣  عند بعض المتكلمين الأجسام على ما هي عليه، ولكن الله قادر على فكها، فالجسم أخلاط. وعند البعض الآخر القلب إبطال للأعراض والأعراض قائمة (مقالات، ج٢، ص٢١٨-٢١٩).
١٠٤  هذا هو موقف ابن كرام. لا يقدر الله إلا على الحوادث التي تحدث في ذاته من إرادته وأقواله وإدراكاته وعلاقاته. فأمَّا المخلوقات من أجسام العالم وأعراضها فليس فيها شيء مقدر له. ولم يكن قادرًا على شيء منها مع كونها مخلوقة. وإنما خلق كل مخلوق من العالم بقوله «كن» لا بقدرته (الفِرَق، ص٢٢٠؛ الأصول، ص٩٤).
١٠٥  هذا هو موقف النظام، ومن أنكر الجزء الذي لا يتجزأ (مقالات، ج٢، ص٢١٩).
١٠٦  جوَّز غلاة الروافض أن يُقدِّر الباري عباده على فعل الأجسام والألوان والطعوم والأراييح والحركات والألوان وسائر الأفعال (مقالات، ج٢، ص٥٩). وشاركهم في ذلك أكثر المعتزلة بأن الله قد أقدر العباد على أن يفعلوا في غير حيزهم (مقالات، ج٢، ص٢١٧). كما أنه رأى عامة أهل الإسلام بأن الله أقدر العباد وأحياهم وأنه لا يُقدِر أحدًا إلا بأن يخلق له القدرة ولا يكون حيًّا إلا بأن يخلق له الحياة (مقالات، ج٢، ص٢١٦). ولا فرق أن يُقال في ذلك بين أن الله أقدرهم على الخالق أو أعجزهم عنه، فقد قال بعض المتكلمين إن العباد قد أعجزهم الله عن ذلك لأعيانهم (مقالات، ج٢، ص٢١٨).
١٠٧  عند الصالحي لا يوصف الباري بالقدرة على أن يُقدِر عباده على فعل الأجسام، ولكنه قادر على أن يُقدِرهم على فعل الأعراض من الحياة والموت والعلم والقدرة وسائر أجناس الأعراض (مقالات، ج٢، ص٥٩-٦٠، ص٢١٧). عند النظام لا عرض إلا والباري جائز أن يُقدِر عليه ما هو جنسه، ولا عرض عند هؤلاء إلا الحركة. فأمَّا الألوان والأراييح والبرودة والأصوات فإنهم أحالوا أن يقدر الله عباده عليها؛ لأنها أجسام عندهم، وليس بجائز أن يقدر الخلق إلا على الحركات (مقالات، ج٢، ص٦٠، ص٢١٧). أمَّا عند بشر فإن الباري قادر على أن يُقدِر عباده على الألوان والطعوم والأراييح والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والإدراك، فقد أقدرهم الله على ذلك. فأمَّا القدرة على الحياة والموت فليس يجوز أن يُقدِرهم على شيء من ذلك (مقالات، ج٢، ص٦٠، ص٢١٧). ويشاركه أبو الهذيل والجبائي. فالحياة والموت وسائر الأعراض لا يوصف الباري عندهما بالقدرة على الإقدار عليها مثل اللون والطعم والرائحة والبرودة، والعجز والقدرة، وكل عرض لا يجوز أن يفعل الإنسان ولا يعرف كيفيته (مقالات، ج٢، ص٢١٧). أمَّا الحركات والسكون والأصوات والآلام وسائر ما يعرفون كيفيته فيجوز الإقدار عليه عند أبي الهذيل (مقالات، ج٢، ص٦٠).
١٠٨  عند النظَّام والأصم لا يوصف الله بالقدرة على أن يخلق قدرة غير القادر وحياة غير الحي (مقالات، ج٢، ص٢١٦). وعند معمر لا يوصف الله بالقدرة على أن يخلق قدرة لأحد. وما خلق لأحد قدرة على موت ولا حياة ولا يجوز ذلك (مقالات، ج٢، ص٢١٥-٢١٦).
١٠٩  هذا هو موقف النجار (مقالات، ج٢، ص٢١٨).
١١٠  قال البعض لا نقول إن الله أعجزنا عن الخلق ولا نقول أقدرنا عليه لاستحالة ذلك، وإن كُنَّا قادرين على الكسب، كما أن الحركة التي يقدر الباري عليها لا يوصف بالقدرة على أن يحلها الله في نفسه ولا بالعجز (مقالات، ج٢، ص٢٢٨). وقال بعضهم: لا يوصفون بالقدرة على ذلك ولا بالعجز عنه لاستحالته (مقالات، ج٢، ص٢١٨).
١١١  النهاية، ص١٠٥–١٠٧. يثبت بعض فقهاء ما وراء النهر أن صفة التخليق غير صفة القدرة، وينفيها الأكثرون (المعالم، ص٥٠–٥٢). وقد أثبت التكوين بعض الحنفية صفة قديمة تغاير القدرة. إن كان المراد بها نفس مؤثرية القدرة فهي صفة نسبية، فيلزم من حدوث الكون حدوث التكوين. وإن كان المراد بها صفة مؤثرة فهي عين القدرة (التحقيق، ص٩٥–٩٧). أثبتتها الحنفية بقولهم القدرة أثرها الصحة والصحة لا تستلزم الكون (المحصل، ص٣٥). التكوين صفة أزلية هي على حسب علمه وإرادته، وهي غير المكون (النسفية، ص٨٦–٩٠). قالت الحنفية: التكوين صفة قديمة تغاير القدرة، فإن متعلق القدرة قد لا يوجب أصلًا بخلاف متعلق التكوين. القدرة متعلقة بإمكان الشيء والتكوين بوجوده (الطوالع، ص١٨٤). وقد زادت الماتريدية في صفات المعاني صفة ثامنة سمُّوها التكوين بالرغم من اعتراض الأشاعرة وسؤالهم عن فائدة التكوين بعد القدرة (الكفاية، ص٥٩). وذلك لأن حي عالم قادر شروط للخلق (الإنصاف، ص٣٦). وبالتالي في الثلاثي ما يكفي عن إضافة صفة ليكون الرباعي.
١١٢  ظهر لفظ «قدر» ومشتقاته في أصل الوحي ١٣٢ مرة، منها بمعنى قدر أي قتر ١٣ مرة، قدر بمعنى خطط حوالي ١٣، أو بمعنى ظن أو حسب ٣ مرات، وقدر بمعنى الميزان والنسبة ومنها المقدار والتقدير حوالي ١٢ مرة. ولكن الاستعمال الأغلب بمعنى القدرة حوالي ٦٥ مرة، كان في صيغة الصفة قادر في المفرد ٧ مرات، أو الجمع ٧ مرات، أو القدير حوالي ٤٥ مرة، أو المقتدر مفردًا أو جمعًا حوالي ٤ مرات. ولكن لا يوجد صفة القدرة كصيغة أو كصفة مما يدل على أن القدرة صفة لموصوف أو فعل لفاعل وليست صفة أو معنًى مستقلًّا عن الفعل والفاعل.
١١٣  تظهر الحياة مع الرباعي بعد السمع والبصر والإرادة وقبل الكلام (الأصول، ص١٠٥-١٠٦). كما تظهر بعد السمع والبصر والقِدَم، وهما بعد العلم بإسقاط القدرة (الفصل، ج٢، ص١٣٨). أو كرابع صفة في الثلاثي بعد القدرة والإرادة والعلم (الكفاية، ص٥٠).
١١٤  هذا هو الموقف في الإبانة.
١١٥  الغاية، ص٣٣؛ الحصون، ص٢٢.
١١٦  التحقيق، ص٦٧-٦٨.
١١٧  الإنصاف، ص٣٥؛ التمهيد، ص٤٧؛ الرسالة، ص٣٣.
١١٨  الحياة صفة تصح لمن قامت به الإدراك كالعلم والسمع والبصر، أي يصح أن يتصف بذلك. ولا يلزم من الحياة الاتصاف بالإدراك بالفعل، وهي لا تتعلق بشيء موجود أو معدوم (الكفاية، ص٥٠؛ الإنصاف، ص٣، ص٣٥؛ التمهيد، ص٤٧؛ الفصل، ج٢، ص١٣٨؛ اللمع، ص٢٥؛ الإرشاد، ص٦٣؛ المسائل، ص٣١٤؛ المحصل، ص١٢١؛ المعالم، ص٤٤؛ الشرح، ص١٦٠–١٦٧).
١١٩  وذلك مثل: «الحي القيوم»، «وتوكل على الحي الذي لا يموت» (المسائل، ص٣٦٤).
١٢٠  عند أبي الهذيل تعني الله عالم أنه قادر وتعني أنه حي أنه قادر (مقالات، ج٢، ص١٥٨). وعند الحسين محمد بن مسلم الصالحي تعني الباري شيء لا كالأشياء أنه قادر لا كالقادرين، وتعني حي لا كالأحياء أنه عالم لا كالعلماء. فالصفات معانيها واحدة مثل أقبل وهلم (مقالات، ج٢، ص١٦٨-١٦٩). وأجاز الصالحي من المعتزلة كون ما ليس بحي عالمًا قادرًا مريدًا، فلا يكون له على هذا الأصل أن الصانع حي (الأصول، ص١٠٥). العلم والقدرة دون الحياة هي أقرب إلى صفات الحاسب الآلي منها إلى صفات الله. وعند البغداديين وعلى رأسهم الإسكافي تعني حي أنه قادر (مقالات، ج١، ص٢٣٥). وعند بعض البغداديين لا يعني الله عالم الله قادر أو الله حي، بل الله حي تعني أنه قادر وأنه سميع بمعنى أنه عالم بالمسموعات، وأنه بصير تعني أنه عالم بالمبصرات (مقالات، ج١، ص٢٢٩).
١٢١  عند الجبائي تعني حي عالم قادر إثبات ذاته (مقالات، ج١، ص١٨٥).
١٢٢  ينكر عبَّاد أن يكون معنى عالم أنه قادر أو أن يكون معنى قادر أنه حي (مقالات، ج١، ص٢٢٦؛ ج٢، ص١٦٦). وعند المعتزلة البصريين لا تعني الله حي أنه قادر (مقالات، ج١، ص١٣٥).
١٢٣  هذا هو رأي جمهور الفلاسفة ومن المعتزلة أبي الحسن البصري (المحصل، ص١٢١؛ الحصون، ص٢٢؛ الطوالع، ص١٧٩؛ المواقف، ص٢٩٠؛ الرسالة، ص٣٣-٣٤؛ التحقيق، ص٦٧-٦٨).
١٢٤  عند أهل السنة، حياة الإله بلا روح ولا اغتذاء، والأرواح مخلوقة، خلاف النصارى وقولهم بقِدَم الأب والابن والروح (الفِرَق، ص٣٣٦-٣٣٧). قال الأصحاب إن حياته صفة أزلية قائمة من غير روح ولا غذاء ولا تنفس. والحياة عند أكثر الأصحاب غير الروح لأن الحياة صفة والأرواح أجسام، ولله حياة هي صفة أزلية وليست له روح. فأمَّا الأرواح المنسوبة إليه في القرآن فهي من خلقه كعيسى وجبرائيل والملك الذي يقوم في القيامة صفًّا واحدًا. وأرواح الحيوانات أجسام. ولو أمر الله جسمًا بلا روح جاز (ولا يجوز ذلك في الحياة). والحياة المحدثة جنس واحد، وكل قائم بنفسه يصح قيام الحياة به. وعند القدرية، لا يصح وجود الحياة إلا في بنية مخصوصة. وإذا ثبت أن الله حي وأن له حياة أزلية فحياته باقية لا يعقبها موت ولا ضد من أضداد الحياة كما أن القدرة الأزلية لا يعقبها عجز وكذلك في سائر الصفات الأزلية (الأصول، ص١٠٥-١٠٦).
١٢٥  انظر مقالنا «التفكير الديني وازدواجية الشخصية» في قضايا معاصرة، ج١.
١٢٦  يقول الغزالي: «والنظر في صفة الحياة لا يطول» (الاقتصاد، ص٥٤).
١٢٧  ذُكر لفظ الحياة في القرآن ومشتقاته ١٦٠ مرة، منها بمعنى التحية ١٠ مرات، وبمعنى الاستحياء ٦ مرات، وكاسم علم «يحيى» نبيًّا ٥ مرات، والحيوان مرة واحدة، والحية مرة واحدة. وتظهر كفعل ٦٤ مرة، وكصفة مفردة حي ١٩ مرة، وجمع ٥ مرات، وكاسم حياة ٧٦ مرة، ومحيا مرتين، وكاسم فعل محيي مرتين. وقد استُعمل اسم حياة بمعنى الحياة الدنيا في كل المرات وليس كصفة لله. أمَّا صفة حي فقد استعملت ٥ مرات لله فقط، مثل: اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢: ٢٥٥)، (٣: ٢)، وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ (٢٠: ١١١)، وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ (٢٥: ٥٨)، هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ (٤٠: ٦٥). والمرات الأربع عشرة الباقية للإنسان الحي وليس للإله الحي بفعل الله. وقد استُعمل فعل يحيى، وأحيا لله حوالي خمسين مرة. فالله يحيي والإنسان يحيا. وصيغة الجمع أحياء كلها للإنسان (٥ مرات). أمَّا فعل الحياة فيشارك فيه الإنسان مع الله. فالمسيح يحيي الموتى بإذن الله (٣: ٤٩)، وفرعون يقتل الأبناء ويستحيي النساء (٥ مرات)، والإنسان يُبعَث حيًّا (٥ مرات)، والشهداء أحياء (٥ مرات).
١٢٨  اللمع، ص٢٥.
١٢٩  الإبانة، ص٣٥.
١٣٠  السمع، والبصر، والكلام (بعد الإرادة والقدرة والعلم) (الحصون، ص٢٠).
١٣١  الكفاية، ص٥٢–٥٤.
١٣٢  الفصل، ج٢، ص١٢٨–١٣٨.
١٣٣  في الآخر في النظامية، ص٢٢-٢٣؛ النهاية، ص٣٤١–٣٥٥؛ الغاية، ص١٢١–١٣٣. وفي الوسط في الإرشاد، ص٧٢–٧٦؛ الاقتصاد، ص٥٨–٦٠؛ المسائل، ص٣٦٤-٣٦٥؛ الطوالع، ص٨٢؛ المحصل، ص١٢٣-١٢٤؛ المواقف، ص٢٩٢-٢٩٣؛ المعالم، ص٤٥–٤٧؛ الملل، ج١، ص١٢٣.
١٣٤  يتحدث ابن حزم عن السميع والبصير كما يتحدث عن الغفور العزيز القديم الرحيم في مقابل الخلَّاق الرزاق. الأولى قديمة، والثانية حادثة (الفصل، ج٢، ص١٣٠–١٣٢).
١٣٥  وذلك مثل: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ، إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ، إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى، قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا، أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ، إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ … إلخ (الرسالة، ص٤٧-٤٨؛ الفصل، ج٢، ص١٢٨–١٣٠؛ المحصل، ص١٢٣-١٢٤؛ الإرشاد، ص٧٢–٧٤).
١٣٦  هذا هو موقف الأشاعرة بوجه عام. ويفرق المتأخرون في تعلق الصفة بين تعلق خلوصي قديم وتعلق تنجيزي بعد وجودها (الكفاية، ص٥٢–٥٤). عند المتقدمين من المعتزلة أن الباري سميع بصير على الحقيقة (الإرشاد، ص٧٢).
١٣٧  هذا هو موقف المعتزلة والكرامية وبعض الأشاعرة مثل الآمدي في «الغاية»، حين ينكر أن تكن الصفتان زائدتين على العلم (المعالم، ص٤٥–٤٧). وكذلك الغزالي. وعند الأشعري ذاته الإدراكات من قبيل العلوم على عكس الكعبي الذي لا يثبت تصورًا للإدراكات أصلًا (النهاية، ص٣٤٥-٣٤٦). وعند الكعبي والنظَّام أن كون الإله سامعًا يفيد كونه عالمًا بالمسموع وليس بمدرك على الحقيقة، وهو باطل عند الأشاعرة لأن الواحد مِنَّا يسمع الصوت فيكون عالمًا به في حال السماع ثم يكون عالمًا به في الحالة الثانية سامعًا، وبالتالي صح أن سمع الشيء غير العلم به (الأصول، ص٩٦). وعندهما واتباعهما من المعتزلة كل مسموع سمع إدراك لا سمع، علم به من غير أذن ولا جارحة (الأصول، ص٩٦). فالسمع والبصر يعنيان العلم، ولو قيل سميع للألوان، بصير بالأصوات، بمعنى عالم لكان جائزًا، مثل: يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى بصير وسميع بمعنى عليم (الفصل، ج٢، ص١٣٠؛ وأيضًا الملل، ج١، ص١٥٢-١٥٣؛ المحصل، ص١٢٣-١٢٤؛ الاقتصاد، ص٧٧-٧٨؛ التمهيد، ص٤٧). كما أبطل الجهمية أن يكون له سمع وبصر وعين ووافقوا النصارى لأن النصارى لم تثبت الله سميعًا وبصيرًا إلا على معنى أنه عالم. وكذلك قالت الجهمية إن الله عالم ولا تقول إنه سميع بصير على غير معنى عالم (الإبانة، ص٣٥؛ التنبيه، ص١٢١؛ الطوالع، ص١٨٢؛ الفصل، ج٢، ص١١٦؛ التحقيق، ٦٨-٦٩؛ الشرح، ص١٧١–١٧٣؛ الإبانة، ص٣٣-٣٤).
١٣٨  وذلك مثل أبي الحسين البصري تلميذ القاضي عبد الجبار (اعتقادات، ص٤٥).
١٣٩  عند أهل السنة والبصريين يسمع الله الكلام والأصوات على الحقيقة، لا بمعنى أنه عالم بها (الفِرَق، ص١٨١). سمعه وبصره محيطان بجميع المسموعات والمرئيات لم يزل رائيًا لنفسه وسامعًا لكلام نفسه. ويثبت الأشعري السمع والبصر وينقد تأويل المعتزلة (الإبانة، ص٤٣-٤٤). سميع بصير أي مدرك لجميع المدركات التي يدركها الخلق من الطعوم والروائح واللين والخشونة والحرارة والبرودة إدراكًا معينًا (الإنصاف، ص٢٥).
١٤٠  اللمع، ص٢٥؛ الإرشاد، ص٧٢ (الجبائي وابنه)؛ النهاية، ص٣٤٤–٣٥٥؛ الغاية، ص١٢١–١٣٣؛ التمهيد، ص٤٧؛ الاقتصاد، ص٥٨–٦٠؛ المسائل، ص٣٦٤-٣٦٥؛ النظامية، ص٢٢-٢٣. يقول الأشعري إن الله سميع بصير لأن الحي إذا لم يكن موصوفًا بآفة تمنعه من إدراك المسموعات والمبصرات إذا وجدت فهو سميع بصير. فلما كان الله حيًّا لا تجوز عليه الآفات من الصمم والعمى وغير ذلك كانت الآفات تدل على حدوث من جازت عليه (اللمع، ص٢٥).
١٤١  الأصول، ص٩٦.
١٤٢  جواز سماع كل موجود ورؤيته حجة الأشعري. ولا يسمع إلا ما كان صوتًا رأي القلانسي. وقال عبد الله بن سعيد المسموع هو المتكلم وما له صوت بناء على أن الأعراض لا تدرك إلا بالحواس (الأصول، ص٩٧). أمَّا عند الكعبي ومعتزلة بغداد فالله لا يسمع شيئًا على معنى الإدراك السمعي. السميع البصير تعني عليم بالمسموعات والمرئيات (الفِرَق، ص١٨١؛ الإرشاد، ص٧٢). ووافقه جماعة من النجارية وكل من قال إنه سميع بصير لذاته (النهاية، ص٣٤١–٣٤٤). وعند معتزلة بغداد الله ليس براء ولا سامع على الحقيقة بل على معنى أنه يعلم المرئي من المسموع (الفِرَق، ص٣٣٥).
١٤٣  عند البصريين يرى الله غيره ولا يرى نفسه. ويستحيل أن يكون مرئيًّا كمن يقول إنه يعلم غيره ولا يعلم نفسه (الأصول، ص٩٨). وعند الجبائي تعني لم يزل رائيًا لم يزل عالمًا (مقالات، ج٢، ص١٨٧-١٨٨). وعند الكعبي لا يرى نفسه ولا غيره بمعنى يعلم نفسه وغيره. وعند الكعبي والنظَّام لا يرى الله شيئًا في الحقيقة. وعند عامة المعتزلة والنجارية والجهمية والروافض والخوارج لا يُرى ولا يرى هو نفسه (الإنصاف، ص١٧٦-١٧٧). وعند البغداديين من المعتزلة لا يرى الله شيئًا ولا يُرى. وأوَّلوا الرؤية بمعنى العلم. فمن رأى شيئًا علم (الأصول، ص٩٧-٩٨). وعند أهل السنة تثبت آية: وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ عدة أشياء منها إثبات الأبصار أعراضًا خلافًا لنفاة الأعراض. وإبطال قول أبي هاشم بأن الإدراك ليس بمعنًى. وإثبات رؤية الأعراض (الأصول، ص١٠١-١٠٢). وأجمعوا على أن الله برؤية أزلية يرى بها جميع المرئيات ولم يزل رائيًا لنفسه (الأصول، ص٩٧). وعند النظام لا مرئي إلا اللون، واللون جسم، وعند الجبائي المرئيات جواهر وألوان وأكوان عند أبي هاشم المرئيات جنسان جواهر وألوان (الأصول، ص٩٧-٩٨).
١٤٤  الاقتصاد، ص٥٩-٦٠؛ الإنصاف، ص٢٥؛ الإرشاد، ص٧٦-٧٧؛ الشرح، ص١٧٤-١٧٥.
١٤٥  ذُكر لفظ «سمع» ومشتقاته في القرآن ١٨٥ مرة، كفعل (١٠٨ مرات)، وكاسم (٢٢ مرة)، وكصفة (٥٥ مرة)، سميع (٤٧)، سماع (٤)، سمع (٢)، سمع (٢)، مما يدل على أن السمع فعل أكثر منه اسمًا. ومن استعمالات الأفعال كلها لا يذكر الله فيها إلا خمس مرات من مجموع ١٠٨ مرات، وهي: لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ (٣: ١٨١)، قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ (٥٨: ١)، قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (٢٠: ٤٦)، أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ (٤٣: ٨٠)، وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا (٥٨: ١)، مما يدل على أنه فعل إنساني وليس فعلًا إلهيًّا. وقد يكون الله هو الذي يمكن الإنسان من السمع (٣ مرات)، مثل: وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ (٨: ٢٣)، وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٨: ٢٣)، إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ (٣٥: ٢٢)، ولكن تظل الاستعمالات الباقية كلها (١٠٠ مرة) للإنسان! والغالب في الفعل هو نفي السمع إشارةً إلى الكفار (أكثر من ٥٠ مرة) في مقابل سمع المؤمنين (حوالي ٢٠ مرة) والجن والرسول … إلخ. ويتضح ارتباط السمع بالإدراك والعلم والانتباه كشرط للسمع المؤدي إلى العلم وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ (٣١: ٤٥)، وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (٧: ١٠٠)، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا (٧: ١٧٩)، أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا (٧: ١٩٥)، فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا (٢٢: ٤٦)، أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (١٠: ٤٢) (٤ مرات)، إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى (٣٧: ٨٠) (مرتان)، وقد ارتبطت صفة «سميع»، فهي مرتبطة بعليم (٣٢ مرة)، وببصير (١١ مرة)، وسميع الدعاء (مرتان)، وبقريب مرة واحدة، وبمفردها مرة واحدة، مما يدل على ارتباط السمع والبصر بالعلم. كما ارتبط السمع بالأبصار والأفئدة (٥ مرات)، والسمع والبصر والقلب (مرتان) للدلالة على أهمية الانتباه والوعي كشرط للإدراك الحسي. أمَّا لفظ «بصر» ومشتقاته فقد ذكر في القرآن ١٤٨ مرة، كفعل (٣٣ مرة)، وكلها للإنسان، وكفاعل بصير (٥١ مرة) لله (٤٤ مرة) وللإنسان (٧ مرات)، وصياغات أخرى مثل بصيرة (مرتان) للدلالة على مسئولية الإنسان، والبصائر من الله مساعدة في الرؤية وشرطًا لها، وتبصرة (مرة واحدة) للذكرى، ومبصر (٧ مرات) للنهار، والمستبصر (مرة واحدة). أمَّا «بصر» (٤٨ مرة) مفردًا (١٠ مرات) أو جمعًا (٣٨ مرة)، فكلها للإنسان. وتفيد استعمالات «بصير» لله كفاعل أن الله بصير «بما يعملون» (١٩ مرة)، وأنها مرتبطة بالسميع (١٠ مرات) كما أنه بصير بالعباد (٤ مرات)، وخبير بصير (٥ مرات)، وبكل شيء وبنا وبه مما يفيد معنى العلم. أمَّا لفظ البصر كمفرد فإنه يشير إلى الإدراك السليم مثل البصر الحديد أو الإدراك الخاطئ الذي عليه غشاوة أو ما يترتب على الإدراك من سلوك وعمل مثل انقلاب البصر ورجوعه وزوغانه، أو كرمز للسرعة في لمح البصر أو ارتباطًا بالسمع والفؤاد للدلالة على الوعي كشرط للإدراك. أمَّا صيغة الجمع فإنها تدل أيضًا على ما يدل عليه المفرد من الإدراك السليم والسمع أو الإدراك الخاطئ في زاغت الأبصار أو كمقدمات للسلوك إمَّا خشوعًا أو زوغًا. ويظهر مع السمع والأفئدة للإشارة إلى الوعي أو الانتباه كشرط للإدراك.
١٤٦  اللمع، ص٢٤–٣١.
١٤٧  باب الكلام في القرآن والإرادة (اللمع، ص٣٣–٤٦). باب الكلام في الإرادة، وأنها تعم سائر المحدثات (اللمع، ص٤٧–٩٥). وفي العقائد الأولى لا يظهر إحصاء للصفات، بل هناك إثبات لما هو خطر منها مثل إثبات قِدَم الكلام وإثبات العلم وإثبات الإرادة ضد نفاتها، إمَّا للقول بخلق القرآن أو نفي الصفات أو لإثبات حرية الأفعال. أمَّا القدرة والحياة فلا تظهران، والسمع والبصر يدخلان في إثبات صفات التشبيه (الإبانة، الكلام، ص١٩–٣١؛ العلم، ص٣٩–٤٤؛ إثبات الإرادة، ص٤٤–٤٩).
١٤٨  الإبانة، ص١٩–٣١؛ اللمع، ص٣٣–٤٦؛ الإنصاف، ص٧١–١٤٣؛ البحر، ص٢٩–٣٤.
١٤٩  الطوالع، ص١٨٣؛ المواقف، ص٢٩٣–٢٩٦؛ التحقيق، ص٧٣–٨١؛ الكفاية، ص٥٤–٥٦؛ الحصون، ص٢٠–٢٢.
١٥٠  الرسالة، ص٤٤-٤٥. وقد لا تبدو للكلام أهمية خاصة فيدخل مع السمع والبصر (المسائل، ص٣٦٤-٣٦٥).
١٥١  النظامية، ص١٨–٢٢؛ الغاية، ص٨٨–١٢٠.
١٥٢  النهاية، ص٢٦٨–٣٢٠. وفي كتب العقائد يظهر القرآن وقدمه منفصلًا عن الكلام في السمعيات نظرًا لغياب الأساس العقلي لها.
١٥٣  الأصول، ص١٠٦–١٠٨.
١٥٤  الفصل، ج٣، ص٥–١٣؛ الإرشاد، ص٩٩–١٣٧؛ الاقتصاد، ص٦٠–٦٨؛ المحصل، ص١٢٤–١٢٦؛ المعالم، ص٤٧.
١٥٥  الإبانة، ص٢٩–٣١؛ الإنصاف، ص٧٠–١٤٣.
١٥٦  «وأيضًا فإن له بما كُنَّا فيه من قبل اتصالًا شديدًا، فإنه من إحدى نعم الله بل من أعظم النعم فإليه يرجع الحلال والحرام وبه تعرف الشرائع والأحكام» (الشرح، ص٥٢٧). وهو الأصح، فالكلام كتاب شريعة وليس صفة إلهية. وبالتالي فهو أدخل في العدل وأبعد عن التوحيد.
١٥٧  الطوالع، ص١٨٣.
١٥٨  عند الشهرستاني يقيم المبحث ثلاث قواعد: (أ) إثبات كون الباري متكلمًا بكلام أزلي بخلاف الفلاسفة والصابئة ومنكري النبوات. (ب) أن الكلام واحد. (ﺟ) حقيقة الكلام شاهدًا وأحكامه (النهاية، ص٢٦٧).
١٥٩  الكلام صوت من يقوم بذات الله عند الحنابلة والكرامية ويقوم بغيره عند المعتزلة (المحصل، ص١٢٤-١٢٥؛ العضدية، ص٢٢٨–٢٤٥؛ الشرح، ص٥٢٨–٥٣٠؛ الإرشاد، ص١٠٢-١٠٣؛ النهاية، ص٢٨٢–٢٨٧؛ الغاية، ص٩٤–٩٧، ص١١١-١١٢). غالت السلف والحنابلة كرد فعل على المعتزلة وجعلت ما بين الدفتين من حروف وكلمات هي بعينها كلام الله بالرغم من رفضهم القول بأنه مخلوق وتفرقتهم بين اللسان والعين وبين كلام الله الأزلي، فهناك فرق بين قال وفعل وبين أمر وخلق. ثم أحدث الأشعري قولًا ثالثًا، حدوث الحروف والكلمات وقِدَم الكلام والأمر الذي تدل عليه هذه العبارات جامعًا بين الحنابلة والمعتزلة (الإرشاد، ص١٠٩).
١٦٠  إثبات الكلام النفسي هو موقف الأشاعرة، ويستشهدون بقول الشاعر:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما
جعل اللسان على الفؤاد دليلًا
(المحصل، ص١٢٤-١٢٥؛ المعالم، ص٥٣؛ النهاية، ص٩٤–٩٧، ص٢٨٢–٢٨٧).
١٦١  المواقف، ص٢٩٥-٢٩٦؛ النهاية، ص٢٧٢–٢٧٤؛ الغاية، ص٩١–٩٤؛ المحصل، ص١٣٤. ويقول الجويني: «من أئمتنا من يمتنع من تحديد الكلام … وجملة المعلومات لا تضبطها الحدود بل منها ما يحدد ومنها ما لا يحدد كما أن منها ما يعلل ومنها ما لا يعلل» (الإرشاد، ص١٠٣-١٠٤). انظر أيضًا رسالتنا الأولى: La Phénoménologoie de l’exégèse.
١٦٢  لذلك رفض الآمدي الحجج النقلية لإثبات الكلام، والنقل كثير مثل: وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ، أو حديث: «فضل كلام الله على كلام الخلق كفضل الخالق على المخلوق»، أو «أعوذ بكلمات الله التامة» (الإنصاف، ص٣٧).
١٦٣  التحقيق، ص٧٣؛ الاقتصاد، ص٦١؛ المعالم، ص٤٧.
١٦٤  المسائل، ص٣٦٤-٣٦٥؛ الإرشاد، ص٩٩؛ الاقتصاد، ص٦٠–٦٨؛ المحصل، ص١٢٤–١٢٦؛ المعالم، ص٧؛ الإنصاف، ص٣؛ الحصون، ص٢٠–٢٢؛ النهاية، ص٢٧٠–٢٧٩؛ التمهيد، ص٧.
١٦٥  الإرشاد، ص٩٩–١٣٧.
١٦٦  رفض الآمدي هذه الحجة (الغاية، ص٨٨–٨١؛ الاقتصاد، ص٦٠-٦١).
١٦٧  النظامية، ص١٨. وهي الحجة التي يفضلها الآمدي.
١٦٨  وقد رفض الآمدي أيضًا هذه الحجة (الغاية، ص٨٨–٩١).
١٦٩  الغاية، ص٩٧–١٠١.
١٧٠  النهاية، ص٢٦٨؛ النسفية، ص٧٩–٨٣؛ الإرشاد، ص٩٩-١٠٠.
١٧١  عند ابن كلاب لم يزل الله متكلمًا، والكلام من صفات النفس كالعلم والقدرة. وعند أهل السنة الله متكلم بدليل أنه كلم موسى بكلامه، والكلام صفة له في الأزل (الفقه، ص١٨٤؛ مقالات، ج١، ص٢٤١). الكلام صفة لذاته لم يزل موصوفًا به قائمًا به مختصًّا بذاته. ولا يصح وجوده بغيره (الإنصاف، ص٢٦).
١٧٢  نفى الإسكافي وعبَّاد بن سليمان وجهم الكلام؛ لأن الله لا ينفعل (الفِرَق، ص٢١٣؛ التنبيه، ص١٣١؛ مقالات، ج١، ص٢٤١). وكذلك نفته الفلاسفة والصابئة ومنكرو النبوات (النهاية، ص١٩٨). وعند المعتزلة القائلين بالطباع مثل معمر بن عبَّاد لا يكلم الله أحدًا في الحقيقة ولا يفعل الكلام على التصحيح. كلامه فعل الجسم بطباعه لا كلام الله على الحقيقة. الله ليس بمتكلم ولا بمكلم (الفِرَق، ص١٥٢؛ الانتصار، ص٥٧؛ مقالات، ج٢، ص١٦٧، ص١٧٨-١٧٩). وعند معمر ليس الكلام صفة أزلية أو فعل لأنه لم يفعل شيئًا من الأعراض. القرآن فعل الجسم الذي حل الكلام فيه وليس فعلًا لله أو صفة (الفِرَق، ص١٥٢).
١٧٣  هذا هو موقف الإسكافي، إذ يجوز أن يكلم الله العباد، ولكن لا يُقال إنه متكلم، وسمَّاه مكلمًا ولم يسمه متكلمًا لأن متكلم توهم أن الكلام قائم به ومكلم لا يوهم ذلك (الفِرَق، ص١٧٠). وعند أكثر المعتزلة إلا من قال بالطباع أن كلامه فعل، ومحال أن يكون الله لم يزل متكلمًا (مقالات، ج٢، ص١٧٨-١٧٩). المتكلم من خلق الكلام والباري مقتدر على خلق الكلام وإبداعه (الإرشاد، ص١١٢–١١٨). وعند الجبائي الله متكلم تعني أنه فعل الكلام (مقالات، ج٢، ص١٨٩).
١٧٤  عند الصالحي الله يتكلم بكلام غيره (مقالات، ج٢، ص١٧٠).
١٧٥  انظر رسالتنا الثانية، الجزء الثاني: La Phénoménologoie de l’exégèse.
١٧٦  النهاية، ص٢٧٨؛ المحصل، ص١٣٤؛ المعالم، ص٥٧-٥٨.
١٧٧  الفصل، ج٣، ص٥.
١٧٨  لذلك كانت هناك أربع فرق، كل منها يمثل موقفًا: الأوَّل الحشوية، وهو موقف الحنابلة، أي إثبات الكلام القديم بالأصوات والحروف دون تفرقة بين الكلام النفسي والكلام اللفظي. والثاني موقف الأشاعرة الذين يشاركون في إثبات القِدَم للكلام النفسي فقط. والثالث موقف الكرامية الذين يثبتون الكلام الحادث المركب من الحروف والأصوات القائم بالذات كرد فعل على موقف الحشوية. والرابع موقف المعتزلة الذين يثبتون الكلام الحادث من الأصوات والحروف غير قائم بالذات وقائم في محل وهو قريب من الأشاعرة في التمييز بين مستويين في الكلام. وقد اعتمد الشهرستاني على هذه القسمة الرباعية في صياغة الحجة الآتية لإثبات قِدَم الكلام. إمَّا أن يكون متكلمًا لنفسه أو بكلام، الأوَّل إمَّا قديم أو حادث، والحدوث محال، والثاني إمَّا في ذاته أو في محل، والمحل لا يكون إلا حادثًا، فلم يبقَ إلا أنه قديم (الحصون، ص٢٠–٢٢؛ الرسالة، ص٤٤-٤٥).
١٧٩  جعل الباقلاني معركته الأساسية مع الحشوية. فهو مذهب المشبهة الحلولية المجسمة القائل بأن كلام الباري حروف وأصوات وأنه قديم، وأن الحروف والأصوات التي توجد في كلام الخلق كلها قديمة، وهو قول يؤدي إلى قِدَم العالم. أمَّا من قال إن القرآن حروف وأصوات تكلم بها الله وهي قديمة لا تشبه حروفنا وأصواتنا، فإن ذلك يؤدي إلى كون القرآن ليس حروفًا وأصواتًا نعلمها وبالتالي لا تكون قرآنًا. أمَّا من قال: الأصوات والحروف التي يذكر بها الله ويتلى بها القرآن فهي قديمة، أمَّا التي ننشد بها الشعر فهي محدثة تناقض لأن الشيء نفسه يتحول من قديم إلى محدث ومن محدث إلى قديم وهو محال (الإنصاف، ص١١١-١١٢). ويعرض الباقلاني أربع عشرة حجة للمشبهة ويرد عليها واحدة تلو الأخرى، إمَّا نقلية خالصة أو عقلية خالصة أو نقلية عقلية. ونظرًا لأهميتها نعرضها كالآتي:
  • (١)
    تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ، نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى، فالله قال متكلم. وهناك فرق بين التلاوة والمتلو، بين الحق، كلام الله القديم، والكلام. كما أن التلاوة بأمر إلى جبريل وليست مباشرة.
  • (٢)
    «قرأ الله طه، يس قبل أن يخلق الخلق بألفي عام، فلما سمعت الملائكة قالوا طوبى لأمة يُنزَل عليها هذا»، أي إضافة القراءة إلى الله. وهذا في الحقيقة يدل على الفَرق بين القراءة والمقروء نفسه، لأن القراءة لم تكن موجودة ثم وُجدت، كما أن الله أمر الملائكة بالقراءة دون إضافة القراءة إلى نفسه.
  • (٣)
    حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ لا يعني أن كلام الله قديم، فالمشرك يسمعه كالمؤمن. ويعني هنا الفهم والتدبر. كما أنه يوقع في تناقض كون الكلام قديمًا محدثًا في آن واحد. ولا يحل التناقض إلا بأن يكون كلامنا قديمًا أو يكون كلام الله غير كلامنا، وبالتالي لا يكون لدينا قرآنًا.
  • (٤)

    الحروف المتقطعة مثل «حم» … إلخ كلام، أي إن كلام الله حروف. والحقيقة ليس المقصود الحروف المكتوبة بل معناها الذي اختلف فيه المفسرون. فهي أسماء للقرآن كالفرقان والذكر (قتادة ابن جريج)، اسم لكل سورة (زيد بن أسلم)، اسم الله الأعظم (السري والشعبي)، أقسام الله (ابن عباس، عكرمة)، حروف مقطعة من أسماء وأفعال، أ = أنا، ل = الله، م = أعلم = أنا الله أعلم (ابن مسعود، سعيد بن جرير)، كل حرف يدل على معانٍ مختلفة. أ = الله، ل = لطيف، م = مجيد، أ = آلاء، ل = ملك، م = مجد، أ = سنة، ل = ٣٠ سنة، م = ٤٠ سنة، المص، أ = ١، ل = ٣٠، م = ٤٠، ص = ٩٠، والكل = ١٦١ سنة، أ = ١، ل = ٣٠، ر = ٢٠٠، والكل = ٢٣١ سنة، المر، أ = ١، ل = ٣٠، م = ٤٠، ر = ٢٠٠، والكل = ٢٧١، والحقيقة أنهما كلها حروف هجاء للإعجاز، ولا يعني إسقاط حرف إسقاط كلام الله. وهل حروف الله ٢٨ حرفًا؟ وهل القراءات السبع قراءات الله؟

  • (٥)

    «أنزل القرآن على سبعة أحرف» لا يعني ذلك حرف الهجاء، بل صيغ الكلام من أمر ونهي وترغيب وجدل ومثل وقصص، أو سبع لغات.

  • (٦)

    «من قرأ القرآن فله بكل حرف عشرة حسنات، أما أني لا أقول الم حرف، لكن الألف حرف واللام حرف والميم حرف.» ولا يعني ذلك أن الكلام حروف، بل يعني أن الأجر على الطاعة.

  • (٧)

    «إذا كان يوم القيامة نادى الله تعالى بصوته يسمعه من بَعُد كما يسمعه من قَرُب.» ولا يعني ذلك أن الله يتكلم بصوت أو أن الصوت هو الله أو إضافته إلى الله أو أن الصوت موجود.

  • (٨)

    «إن الله تعالى إذا تكلم بالوحي وروى بالأمر من الوحي جاء له صوت كجر السلسلة على الصفا.» وهو حديث ضعيف، بالإضافة إلى وجود روايات تقول بأن الصوت مخلوق كما أن الصوت لا يعني الكلام، والصوت غير المصوت.

  • (٩)

    إذا كان الصوت مسموعًا بالآذان فهو أصوات وحروف. والله ليس جسمًا تصدر منه أجسام.

  • (١٠)

    حلول الصفة القديمة في الظروف والأوعية. والقديم لا يحل.

  • (١١)

    «لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو»، والمعنى هنا المصحف، أي الكتابة، وليس صوت الله.

  • (١٢)

    «لو جعل هذا القرآن في إهاب ثم ألقي في النار ما احترق»، والمحروق هو الورق وليس القرآن، كما أن ذلك معجزة محتملة في زمان قديم وليس واقعًا حادثًا في كل زمان.

  • (١٣)

    «من حفظ القرآن فاختلط بلحمه ودمه»، وهو حديث ضعيف. والحفَّاظ كثيرون، فكيف يتم اختلاط القديم الواحد في الكثرة المحدثة، والمعنى هو أن الحفظ في الصغر أبقى دون نسيان.

  • (١٤)

    لا يعني تعظيم القرآن من الأوساخ قِدَم الحروف، بل تطبيق لقواعد الطهارة العامة (الإنصاف، ص١١–١٤٣).

١٨٠  الأدلة النقلية مثل: وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ …، وَاذْكُرْ رَبَّكَ …، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ …، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ …، وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ … ووَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ، يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ، لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ …، ومن الحديث: من أراد أن يقرأ القرآن غضًّا فليقرأه على قراءة ابن أم عبد (ابن مسعود)، كما يذكر الباقلاني والجويني كثيرًا من أقوال الصحابة والصوفية (الجنيد) كدليل على إجماع الأمة وكأن الإجماع في الأمور العقائدية، وليس في الأمور العملية (الإنصاف، ص٨٠–١٠٦؛ إرشاد، ص١٢٥–١٣٢، ص١٣٦؛ المسائل، ص٣٧٠؛ الأصول، ص١٠٨). لذلك يفرِّق ابن حزم بين الكلام والقول، الأوَّل قديم والثاني محدث (الفصل، ج٣، ص١٠–١٣). وتشخيص حروف اللغة أمر معروف في الديانات القديمة خاصةً في الإسرائيليات.
١٨١  يعطي الباقلاني خمس عشرة حجة ضد المشبهة الذين يوحدون بين القراءة والمقروء، وهي: (١) اختلاف القراءات وثبوت الكلام. (٢) إسقاط حروف من القرآن ليس تغييرًا في الكلام. (٣) صوت الوحي ليس هو الكلام. (٤) ليس كونه مسموعًا على الحقيقة أنه حروف. (٥) تعظيم القرآن عن الأدناس تعظيم للمحل دون حول الكلام فيه. (٦) أوائل السور حروف ولكنها لا تثبت بالضرورة أن الكلام مجرد حروف. (٧) الحروف ثمانية وعشرون والكلام لا نهائي. (٨) القراءة فردية شخصية يحصل ثواب فردي على فعلها. (٩) القراءة مفروضة في الصلاة، فهي إذن فعل. (١٠) الفعل يُضاف إلى الآمر به وإن لم يفعله بنفسه بل أمر بفعله. (١١) الأمر استدعاء الفعل وليس الصفة القديمة. (١٢) الحروف هي القراءة وليس الكلام القديم. (١٣) لو كان الكلام حروفًا لكان كلام الناس كله قديمًا. (١٤) أصوات الله قديمة أزلية وليست وقتية مخلوقة. (١٥) حلول الصفة القديمة في الأدعية لا يجوز على الله (الإنصاف، ص١١٢–١٤٣).
١٨٢  عند الأشعري يُقرأ القرآن في الحقيقة ويُتلى ولا يجوز أن يُقال يُلفَظ لأن اللفظ هو الرمي بل يُقرأ ويُتلى ويُكتَب ويُحفَظ. اللفظ يوحي بالخلق (الإنصاف، ص٣٠-٣١). لا يجوز أن يحكى الكلام ولا أن يُلفَظ به لأن حكاية الشيء مثله وما يقاربه، والكلام لا مثل له من كلام البشر، ولا يجوز أن يُلفَظ به. يتكلم الخلق لأن ذلك يوجب كون الكلام قائمًا بذاته قديمًا ومحدثًا، وكلام الله غير متبعض ولا متغاير (الإنصاف، ص٢٧).
١٨٣  كلام الرسول ليس قرآنًا بل ذكر (الإبانة، ص٣١). ويشارك الإسكافي من المعتزلة رأي الأشاعرة في أنه يقرأ ولا يلفظ به (مقالات، ج١، ص٢٧١).
١٨٤  هذا هو رأي جمهور المعتزلة إلا الإسكافي (مقالات، ج١، ص٢٧١؛ الاقتصاد، ص٦٦-٦٧).
١٨٥  ويلتقي في ذلك عدد من أهل السنة والمعتزلة والروافض. فعند جعفر بن محمد القرآن لا خالق ولا مخلوق (الإبانة، ص٢٩).
١٨٦  عند بعض الروافض مثل هشام بن الحكم القرآن بمعنى العلم أو الفعل، لا هو قديم ولا محدث. القرآن صوت مسموع وحرف مكتوب مخلوق (مقالات، ج٢، ص٢٣١–٢٣٣). وعند ابن الماجشون نصفه غير مخلوق (مقالات، ج٢، ص١٣٤).
١٨٧  عند سليمان بن جرير علم الله غير مخلوق، وليس غير الله، أمَّا الأمر والنهي فمخلوقان. الله لم يزل متكلمًا، أي إنه لم يزل مقتدرًا على خلق الكلام، والكلام محدث منه غير مخلوق ومنه مخلوق، القرآن ليس مخلوقًا، ولفظي به وقراءتي له مخلوقتان (مقالات، ج١، ص٢٧١). لفظنا بالقرآن مخلوق وكتابتنا مخلوقة، والقرآن غير مخلوق، وكلام الله غير مخلوق، وكلام موسى وغيره مخلوق، وكلام الله قديم وسمع موسى الكلام (الفقه، ص١٨٤). نحن نتكلم بالآلات والحروف والله بلا آلة ولا حروف. الحروف مخلوقة وكلام الله غير مخلوق (الفقه، ص١٨٥؛ الإنصاف، ص٧٢). القراءة غير المقروءة، صفة للقارئ، والمقروء غير مخلوق، بل كلام الله. الحفظ صفة القلب والمحفوظ غير مخلوق بل كلام الرب. السمع صفة السامع غير مخلوق، الكتابة صفة الكاتب، والمكتوب غير مقروء، الذكر صفة الذاكر، والمذكور غير مخلوق (الإنصاف، ص١٠٣–١٠٦). وعند الجبائي كلام الله يوجد به قراءة كل قارئ، أي إن العبد يُلجِئ الرب إلى خلق الكلام عند إيثاره اختراع الأصوات والنغمات. فالفعل للعبد وليس للرب في الخلق (الإرشاد، ص١٢١–١٢٤).
١٨٨  عند زهير الأثري القرآن كلام الله محدث غير مخلوق (مقالات، ج١، ص٣٢٦، ج٢، ص٢٣٢). وعند محمد بن شجاع الثلجي القرآن محدث والامتناع عن القول بأنه مخلوق أو غير مخلوق (مقالات، ج٢، ص٢٣٢).
١٨٩  عند أبي معاذ التومني: كلام الله حدث غير محدثه ولا مخلوق قائم بالله لا في مكان (مقالات، ج١، ص٣٢٦، ج٢، ص٢٣٢).
١٩٠  عند أبي الهذيل بعض كلام الله لا في محل وهو قوله كن وبعضه في محل كالأمر والنهي والخبر والاستخبار، وكان أمر التكوين عنده غير أمر التكليف (الملل، ج٢، ص٧٥-٧٦).
١٩١  هذا هو موقف الأشعرية الذين يطلقون على أنفسهم أهل السنة في مقابل أهل الضلال أو أهل الحق في مقابل أهل الباطل. فقد ذهب أكثرهم إلى كون الباري متكلمًا بكلام قديم أزلي نفساني أحدي الذات، ليس بحروف ولا أصوات. وهو مع ذلك ينقسم بانقسام المتعلقات، مغاير للعلم والقدرة والإرادة وغير ذلك من الصفات (الغاية، ص٨٨-٨٩). القرآن كلام الله غير مخلوق (النسفية، ص٧٩–٨٣؛ العضدية، ج٢، ص٢٢٨–٢٤٥؛ النهاية، ص٢٦٨–٢٧٠). كلام الله هو علمه لم يزل وأنه غير مخلوق (الفصل ج٣، ص٥). كلام الله صفة ذاته لم تزل غير مخلوقة وهو غير الله، وخلاف الله، وهو غير علم الله، وأنه ليس لله إلا كلام واحد (الفصل، ج٣، ص٥). متكلم بكلام أزلي لا مفتتح لوجوده (الإرشاد، ص٩٩). القرآن غير مخلوق وأن قراءة اللفظ به غير مخلوقة (مقالات، ج١، ص٢٧١). كلام الحق منزه عن الحروف والأصوات (المسائل، ص٣٦٩-٣٧٠) (انظر أيضًا: الإبانة، ص٩-١٠؛ الإنصاف، ص٣٧، ص٧١، ص١٠٨–١١١؛ النظامية، ص١٩-٢٠؛ البحر، ص٢٩؛ الكفاية، ص٥٤-٤٦؛ المحصل، ص١٣٣-١٣٤). ويثبت ابن حزم قِدَم الكلام دون أن يكون زائدًا على الذات فكلام الله هو علمه وهو ليس شيئًا غير الباري، القرآن خمسة أشياء، أربعة مخلوقة وواحد غير مخلوق (الفصل، ج٣، ص٨–١٠).
١٩٢  الحجج النقلية من الكتاب والسنة والإجماع كثيرة عند أهل السنة. فمن الكتاب: (١) أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ فالخلق غير الأمر، القيام بالأمر دون الخلق. ومثل: لِلهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ، والأمر هو الكلام. «كلما أمرهما بالقيام فقامتا لا يهويان.» (٢) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، ولو كان غير مخلوق لاحتاج القول إلى ثانٍ، والثاني إلى ثالث، إلى ما لا نهاية. (٣) لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي، «وتكسرت الأقلام»، وبالتالي يثبت القِدَم وإلا وقع الكلام في نطاق الحدوث. (٤) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ على لسان المشركين، وأصنام إبراهيم لا تنطق. فالنطق صفة من صفات الألوهية. (٥) لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، أي إنه لا يفنى. (٦) وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا. وهذا في الحقيقة ضعيف لأن موسى لا يسمع إلا الكلام الحادث في أصوات وحروف. (٧) قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ فكيف يكون مخلوقًا واسم الله في القرآن؟ (٨) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ، ولا يُقال للمخلوق تبارك. (٩) شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ والشهادة بالكلام القديم مثل الله. (١٠) سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا … فالاسم غير الخلق. (١١) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ، ولكن يبرز سؤال هل عدم إيصال الكلام إلا بوسيلة اتصال يدل على قِدَم الكلام من ناحية المتكلم أكثر مما يدل على حدوثه من جهة السامع؟ (١٢) الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ، وهذه تفرقة بين القرآن والإنسان. (١٣) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ، فالكلام قبل الحوادث. (١٤) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ، فالكلام لا يتبدل ولا يتغير، وبالتالي لا يكون حادثًا. أمَّا الحديث فمثل: «أعوذ بكلمات الله التامات»، والمحدث لا يكون تامًّا. ومُحال أن يعوذ مخلوق بمخلوق. ومثل: «فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على سائر خلقه»، والفضل هو القِدَم. وهنا يبرز بسؤال: هل الفضل في القِدَم في الصواب والصحة والصدق؟ أليس القِدَم فضلًا إنسانيًّا خالصًا؟ أمَّا الإجماع فهي مجرد أقوال متفرقة لبعض الصحابة والأوائل مثل قول علي: «والله ما حكمت مخلوقًا بل حكمت القرآن» (الإنصاف، ص٧٢). وقال وكيع: «من قال القرآن مخلوق فهو مرتد ويُستتاب، فإن تاب وإلا قُتل.» وقال ابن المبارك: «نستطيع أن نحكي كلام النصارى واليهود ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية.» وأبو حنيفة مشرك لأنه كان يقول بخلق القرآن واستتابه ابن أبي ليلى حتى رجع. وعند الثوري من قال إن القرآن مخلوق فقد كفر. وعند زيد بن علي، وعلي بن الحسين، من قال إن القرآن غير مخلوق كافر عند العلماء (الإبانة، ص٢٩). وعند أصحاب الحديث وأهل السنة القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال باللفظ أو بالوقوف فهو مبتدع (مقالات، ج١، ص٣٢١). وعند عبد الله بن سعيد القطَّان: كلام الله غير مخلوق (مقالات، ج١، ص٣٢٥) (انظر: الإبانة، ١٩–٢٩؛ الإنصاف، ص٧١؛ الوسيلة، ص٢٧–٣٠؛ اللمع، ص٣٣–٣٦؛ المعالم، ص٥٣–٥٥؛ الاقتصاد، ص٦٥-٦٦؛ المحصل، ص١٣٣-١٣٤).
١٩٣  ويمكن إعطاء نماذج للحجج العقلية على النحو التالي: (١) لو كان متكلمًا بكلام محدث فيكون ذلك المحدث إمَّا قائمًا بذاته أو قائمًا بغيره، والأول باطل لأنه يقتضي أن تكون ذاته محلًّا للحوادث، والثاني باطل لأنه جائز أن يكون جاهلًا (المسائل، ص٣٦٩؛ البحر، ص٣١؛ المحصل، ص١٣٣-١٣٤؛ المعالم، ص٥٣–٥٥). (٢) لو كان كلام الله غير الله لا يخلو إمَّا أن يكون جسمًا أو عرضًا، لو كان جسمًا لكان في مكان واحد وما كان بلغ إلينا الكلام ومجموعًا في كل بلد، ولو كان عرضًا لاقتضى حاملًا ولكان كلام الله الذي عندنا غير كلامه الذي عند غيرنا (الفصل، ج٣، ص٥-٦؛ الإبانة، ص٢٦؛ النظامية، ص١٨-١٩). (٣) يثبت قِدَم الكلام حتى لا يقع تحت أمر التكوين. (٤) الكلام من صفات الكمال. (٥) الله آمرًا ناهيًا من صفات الكلام وهو ما يستلزم كلامًا قديمًا. (٦) قول الله لإبليس عليك لعنتي إلى يوم الدين، واللغة أبدية. (٧) غضب الله وسخطه ورضاه ومحبته أبدية قديمة فكذلك الكلام. والسؤال: هل يجوز إثبات قِدَم الكلام بالمثبت قِدَم باقي الصفات وهو المطلوب إثباته (الإبانة، ص٢٥). (٨) لم يزل عالمًا مريدًا فلماذا لا يكون لم يزل متكلمًا؟ (الإبانة، ص٢٥). (٩) ويثبت قِدَم الكلام بإثبات استحالة حدوثه (اللمع، ص٤٢–٤٦؛ الأصول، ص١٠٦-١٠٧). (١٠) إثبات قِدَم الصفة بمنع استحالة وقوع الضد فيه (اللمع، ص٣٦–٤٢). والسؤال هو: أليس إثبات الشيء كنفي لضده حكم عقلي في موقف إنساني فعدم العدل إثبات لجور لأنه عدم نصرة للعدل، وهو منطق يقوم على تعارض الطرفين وعلى إنكار الوسط والمحايدة؟ (١١) القرآن مشتمل على أسماء الله والاسم والمسمى واحد فيجب أن يكون القرآن قديمًا مثل الله (الشرح، ص٥٤٢–٥٤٩). (١٢) ولو لم يكن قديمًا لكان يجب أن يكون أخرس أو ساكنًا، كما في الشاهد، أي التشبيه بالإنسان. (١٣) لو لم يكن قديمًا لكان حادثًا أو حالًا في حادث وكلاهما باطل (الشرح، ص٥٥٥–٥٦٣).
١٩٤  يقدم الأشعري حججًا عديدةً لإثبات قِدَم الكلام، كلها تقوم على إثبات استحالة الضد استنكافًا من المادة، مثل: (١) لا يجوز أن يكون الكلام مخلوقًا في غيره وإلا كان إلهًا. (٢) الخلق للأشياء والقرآن ليس شيئًا. (٣) الوجود الثابت لا يدل على أن الكلام مخلوق محدث. (٤) من الذكر ما ليس بمحدث فإذا كان النهي محدثًا فالكلام ليس بمحدث. (٥) القرآن ليس فعلًا. (٦) المجعول ليس مخلوقًا بل مسمًّى. (٧) المجعول هو المقروء المتلو وليس الكلام القديم. (٨) التبديل والنسخ في الرسم والتلاوة والخط والحكم وليس للصفة. (٩) حمل المصحف وانتقاله ليس حملًا للصفة القديمة وانتقالها لها. (١٠) الكلام غير السور والآيات والكلمات والحروف والأصوات (مقالات، ج٢، ص٢٣٤).
١٩٥  بعض الحجج القائمة على قِدَم الصفات، مثل: (١) الكلام هو الأمر، والأمر قديم. (٢) الكلام صفة، والصفة قديمة وليس موضوعًا حادثًا كالمخلوقات. (٣) لو كان الكلام مخلوقًا لوجب التسلسل إلى ما لا نهاية. (٤) إرادة الله ليست مخلوقة في بعض المخلوقات وكذلك الكلام. (٥) الكلام صفة، فلماذا يكون مخلوقًا وغيره من الصفات غير مخلوقة. أمَّا ما يقوم منها على إثبات الأزلية، فمثل: (١) لا تنفد كلمات الله، أي إن الكلام أزلي كالله. (٢) الله باقٍ مع فناء الأشياء والكلام لا يفنى كما تفنى الأشياء. (٣) أوامر الله على الأشياء، ولما كانت الأشياء تفنى فالأوامر باقية وإلا كانت فانية. أمَّا الحجج التي تعتمد على نفي الضد واستحالة الخلق، فمثل: (١) يعني الخلق التجسيم وأن كلام الله مخلوق، أي إذا حل في شجرة تتكلم الشجرة. (٢) الخلق معناه التجسيم والكلام غير مجسم. (٣) لو كان الكلام مخلوقًا لكان الله لم يزل كالأصنام لا تنطق. (٤) لو كان مخلوقًا لكان كلام الأشياء مثل كلام الله. (٥) لو كان مخلوقًا لكان كل كلام مسموع هو كلام الله. (٦) النزول لا يعني الخلق. أمَّا الحجج التي تعتمد على تحويل الخبر إلى معنى فمثل: (١) رفض القرآن أن الكلام قول البشر. (٢) تكليم الله لموسى. (٣) اسم الله في القرآن، فكيف يكون مخلوقًا؟ (٤) الله شهيد على نفسه بكلامه والقديم لا يشهد إلا على قديم مثله. (٥) الله لا يكلم إلا وحيًا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولًا ولا يسمعه الخلق (الإبانة، ص١٩–٢١؛ الإنصاف، ص٧١).
١٩٦  الكلام جسم باقٍ، فالأجسام يجوز عليها البقاء، وكلام المخلوقين لا يبقى (مقالات، ج١، ص٢٤٦-٢٤٧، ج٢، ص٢٣٦). الكلام عرض باقٍ وكلام غيره لا يبقى (مقالات، ج١، ص٢٤٦-٢٤٧).
١٩٧  كلام الله باقٍ وكلام الخلق باقٍ (مقالات، ج٢، ص٢٤٤).
١٩٨  لا فرق إذن بين أهل السنة والحشوية في إثبات الكلام القديم الأزلي. فعند الحشوية الكلام قديم أزلي بذات الرب (الغاية، ص٨٨-٨٩). وعند الحشوية النوابت من الحنابلة هذا القرآن المتلو في المحاريب والمكتوب في المصاحب غير مخلوق ولا محدث بل قديم مع الله. وبالرغم من رفض الأشعري أن تكون الحروف قديمة لاستحالة ذلك لأنه في الوقت الذي يقول فيه الإنسان «الحمد» متنقلًا من اللام إلى الحاء إلى الميم إلى الدال، فإن كلامه يكون قديمًا محدثًا (المسائل، ص٣٦٩-٣٧٠؛ الإرشاد، ص١٢٨–١٣٠؛ المعالم، ص٥٦-٥٧). إلا أن قوله بقِدَم القرآن غطَّى على التمييز بين المعنى واللفظ، وضعف حججه أدى إلى اقتراب الأشعرية من الحشوية. فالقرآن قديم، ويثبت عن طريق إفساد الضد وإبطال النقيض. لو كان مخلوقًا لاحتاج إلى قول كن واحتاج إلى قول ثانٍ وثالث وتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية وهو معنى القِدَم (اللمع، ص٣٣-٣٤). كلام الله غير مخلوق ولم يخلق شيئًا إلا وقد قال له كن فيكون. ومن قال بخلق القرآن فهو كافر (الإبانة، ص٩-١٠). الله متكلم، وكلامه قديم ليس بمخلوق ولا مجعول ولا محدث، صفة من صفات ذاته كالعلم والقدرة والإرادة (الإنصاف، ص٧١). الكلام صفة من صفات ذاته قديم بقِدَم، موجود بوجود، موصوف به فيما لم يزل وفيما لا يزال لا يجوز أن يباينه ولا يزايله ولا يحل في مخلوق ولا يتصف بالحلول. مع ذلك فلا مهرب من القول بالحلول لتفسير علاقة الكلام القديم بالكلام الحادث، وهي العلاقة التي مهدتها البيئات الثقافية والديانات في الحضارات القديمة المجاورة كالنصرانية مثلًا في القول بحلول اللاهوت في الناسوت. ويظهر اقتراب الأشعرية من الحشوية عند الكلابية. فقد ذهبت إلى أن كلام الله معنى أزلي قائم بذاته مع أنه واحد، توراة وإنجيل وزبور وفرقان، وأن الذي نسمعه ونتلوه حكاية كلام الله. وفرقوا بين الشاهد والغائب. وذلك يوجب عليهم قِدَم الحكاية أو حدوث الممكن لأنهما لا بد أن يكونا من جنس واحد في قِدَم أو حدوث. وقالوا إننا نسمع كلامنا وليس هو معنى قائم بذات المتكلم ككلام الله. وهو ما ذهب إليه الأشعري. ولكنه لما رأى قوله أن الذي نتلوه في المحاريب ونكتبه في المصاحف حكاية كلام الله يوجب أن يكون كلامه أيضًا محدثًا وأصواتًا وحروفًا قال: هذا المسموع هو كلام الله لأن العبارة تكون من جنس المعبر عنه وجري على القياس وقال: الكلام معنى قائم بذات المتكلم من دون فرق بين الشاهد والغائب (الشرح، ص٥٢٧-٥٢٨). وقال قوم في اللفظ في القرآن ونسبوا إلى أهل السنة أنهم يقولون إن الصوت غير مخلوق والخط غير مخلوق، وهذا باطل. وما قال قط مسلم إن الصوت الذي هو الهواء غير مخلوق وإن الخط غير مخلوق، والذي نقول به هو ما قال الله ونبينا ولا نزيد على ذلك شيئًا، وهو قول القائل: القرآن هو كلام الله، كلاهما معنًى واحد، واللفظان مختلفان، والقرآن هو كلام الله على الحقيقة بلا مجاز ونكفِّر من لم يقل ذلك، ونقول إن جبريل نزل بالقرآن الذي هو كلام الله على الحقيقة على قلب محمد (الفصل، ج٣، ص٧). وزادت المشبِّهة قولهم في القرآن بأن الحروف والأصوات والرقوم المكتوبة قديمة أزلية واستدلوا بأخبار: «ينادي الله يوم القيامة بصوت يسمعه الأولون والآخرون»، ورووا أن موسى كان يسمع كلام الله كجر السلاسل على خلاف المعتزلة والأشاعرة مع أن كليهما يقول إنه كلام الله ولكن ليس في الحقيقة كلام الله. أمَّا إثبات صفة قائمة بالله لا نقرؤها ولا نسمعها ولا نبصرها مخالفةً للإجماع، فما بين الدفتين كلام الله أُنزل على جبريل، مكتوب في المصاحف وفي اللوح المحفوظ. سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ، إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا، إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي، وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ، أو حديث: «إن الله كتب التوراة بيده» (الملل، ج٢، ص١١٨).
١٩٩  هذا هو موقف الكرامية، وقد تم عرضه من قبل في أوصاف الذات المخالفة للحوادث. فعند الكرامية كلامه قدرته على قوله، وقوله حادث في ذاته (الأصول، ص١٠٦). حدوث قول الله في ذاته بناءً على أن الله محل للحوادث (الفِرَق، ص٢٢٩). كلام الله قديم والقول حادث غير محدث، القرآن هو كلام الله وليس بكلام إله، وكلام الله القدرة على الكلام، وقوله حادث قائم بذاته وهو غير قائل بالقول القائم به بل قائل بالقائلية، وكل مفتتح وجوده قائم بالذات فهو حادث بالقدرة غير محدث، وكل مفتتح وجوده قائم بالذات فهو حادث بالقدرة غير محدث، وكل مفتتح مباين للذات فهو محدث بقوله «كن» لا بالقدرة (الإرشاد، ص١٠١). فالكلام عند الكرامية قد يطلق على القدرة على المتكلم، وقد يُطلَق على الأقوال والعبارات. وعلى كلا الاعتبارين فهو قائم بذات الرب، لكنه بالاعتبار الأوَّل قديم متحد لا كثرة فيه، وبالاعتبار الثاني حادث متكثر (الغاية، ص٨٨-٨٩).
٢٠٠  عند المعتزلة والخوارج والإمامية والزيدية وغيرهم من طوائف الحشوية كلام الرب مركب من الحروف والأصوات مجانس للأقوال الدالة والعبارات (الغاية، ص٨٨-٨٩). لديهم أن الكلام أصوات وحروف، كلام حادث (الإبانة، ص٩؛ المحصل، ص١٣٣-١٣٤). وعند المعتزلة كلام الله فعل مخلوق، كلم الله موسى بكلام أحدثه في الشجرة (الفصل، ج٣، ص٥). كلام الباري حادث مفتتح الوجود. وأطلق معظم المعتزلة لفظ المخلوق على كلام الله (الإرشاد، ص١٠٠-١٠١). ذهبت المعتزلة إلى أن الكلام حروف منظومة وأصوات مقطعة شاهدًا وغائبًا لا حقيقة للكلام سوى ذلك، وهي مخلوقة قائمة بمحل حادث إذا أوجدها الباري سُمعت من المحل وكما وجدت فنيت. وشرط الجبائي البنية المخصوصة التي يتآلف منها مخارج الحروف شاهدًا وغائبًا، ولم يشترط ذلك ابنه أبو هاشم في الغائب (النهاية، ص٢٨٨). واتفق المعتزلة على أن كلامه محدث مخلوق في محل، وهو حرف وصوت، كُتب وأمثاله في المصاحف حكايات عنه، فإنما وجد في المحل عرض يفنى في الحال (الملل، ج١، ص٦٦). كل المعتزلة والخوارج يقولون بأن القرآن مخلوق محدث (مقالات، ج١، ص١٠٩-١١٠، ج٢، ص٢٣١). كل الخوارج يقولون بخلق القرآن (مقالات، ج١، ص١٧٤، ص٨٩). حدوث أمره ونهيه وخبره كلام حادث وكلام مخلوق (الفِرَق، ص٢١٤). في بيان ما يشترك فيه سائر المعتزلة. اعلم أن المعتزلة كلهم متفقون على أن القرآن محدث ومخلوق (الاعتقادات، ص٣٨). عند المعتزلة القرآن كلام الله ووحيه مخلوق محدث أنزله الله على نبيه ليكون علمًا ودالًّا على نبوته (وليس المعجزة)، وجعله دلالةً لنا على الأحكام (الجانب العملي) لنرجع إليه في الحلال والحرام، واستوجب مِنَّا بذلك الحمد والشكر والتحميد والتقديس (شكر النعم). وهو الذي نسمعه اليوم ونتلوه وإن لم يكن محدثًا من جهة الله فهو يُضاف إليه على الحقيقة (الشرح، ص٥٢٧-٥٢٨). وعند النجارية من فرق المعتزلة القرآن محدث مخلوق. تكلم الله بالقرآن ليلة القدر ولم يتكلم به قبل ذلك (البحر، ص٣٠-٣١). وقامت المستدركة من النجارية أنهم استدركوا ما خفي من أسلافهم الذين مُنعوا إطلاق القول بخلق القرآن ثم افترقت إلى شعبتين: الأولى تقول إنه مخلوق على ترتيب الحروف على ما قال الرسول، والثانية أن الرسول لم يقل مخلوقًا على ترتيب الحروف صراحةً ولكنه اعتقد ذلك ودل عليه (الفِرَق، ص٢٠٨–٢١٠). قالت النجارية بحدوث الكلام وبالخلق. ولكن الزعفراني انفرد عنهم بقوله إن كلام الله غيره، وكل ما هو غيره مخلوق (الفِرَق، ص٢٠٨). فإذا قُرئ فهو عرض وإذا كُتب فهو جسم. وقالت المستدركة منهم نفس القول، وعند معمر ما دام الله هو المكلم بالقرآن فالقرآن محدث، والقرآن كلام الله (التنبيه، ص١٥-١٦). وقال بشر المريسي وانضمت إليه المرجئة بخلق القرآن (مقالات، ج١، ص١٥؛ الفِرَق، ص٢٠٥). لم يكلم الله موسى ولا يكلم أحدًا قط، خلق الله القول والكلام فوقع ذلك القول والكلام في مسامع من شاء من الخلق، فبلغه السامع من الله بعدما سمعه فسُمِّي ذلك قولًا وكلامًا (التنبيه، ص٩٧). وقد قالت الكرامية والجهمية نفس الشيء. فعند الكرامية خلق الله في ذاته (المسائل، ص٣٦٩؛ المحصل، ص١٣٣-١٣٤). شبَّه الكرامية مع المعتزلة (إلا الجبائي) كلام الله بكلام الخلق، كلاهما أصوات وحروف من جنس كلام البشر، فالكلام حادث ويستحيل بقاؤه (الفِرَق، ص٢٢٩). وذهبت الكرامية إلى أن الكلام بمعنى القدرة على القول بمعنى واحد. ويعني القول معاني كثيرة قائمة بذات الباري وهي أقوال مسموعة وكلمات محفوظة يحدث في ذاته عند قوله وتكلمه ولا يجوز عليها الفناء ولا العدم (النهاية، ص٢٨٨). أمَّا الجهمية فإنها تبنت قول النصارى بأن كلمة الله حواها بطن مريم وزادت عليهم أن كلام الله مخلوق حل في شجرة، وكانت الشجرة حاوية له فلزمهم أن تقول الشجرة: إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي، يا موسى إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي! القرآن مخلوق وأن الله لم يكلم موسى ولا يكلم قط وأن الله خلق قولًا وكلامًا توقعا في شأن من شاء من خلقه فبلغه السامع من الله (التنبيه، ص٩٦-٩٧؛ الإبانة، ص٢١، ص٢٨). القرآن مخلوق وهو غير الله (مقالات، ج١، ص٣١٢، ج٢، ص١٦٤؛ الفِرَق، ص٢١٢؛ الانتصار، ص١٢٦). أثبت جهم خلق الكلام (الملل، ج١، ص١٣٠).
٢٠١  صار قوم من المعتزلة والخوارج والزيدية والإمامية وغيرهم إلى الامتناع عن تسميته مخلوقًا مع القطع بحدوثه لما في لفظ المخلوق من إيهام الخلق، إذ الكلام المخلوق هو الذي يبديه المتكلم تخرصًا من غير أصل (الإرشاد، ص١٠٠).
٢٠٢  الدر، ص١٤٦-١٤٧.
٢٠٣  الكلام عرض غير باقٍ، وكلام غيره لا يبقى. الكلام يوجد في وقت الخلق ثم يعدم بعد ذلك (مقالات، ج١، ص٢٤٦-٢٤٧).
٢٠٤  الحجج النقلية كثيرة، مثل: (١) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ، فالقرآن ذكر، مثل: وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ، والذكر حادث. (٢) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ، ليس في مصدره ولكن في نطقه وفهمه واستعماله. (٣) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فكن متأخرة عن الإرادة وهذا حدوث. (٤) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ …، فإذ ظرف زمان والمختص بالزمان محدث. (٥) كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ، إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا، الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ، والمجعول محدث. (٦) حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ، فكلام الله حادث. (٧) إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ وهو إخبار عن الماضي، أي إنه محدث في الزمان. (٨) وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا، وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَقْدُورًا، والكلام حامل للأمر، فهو مثله مفعول، وكل مفعول حادث. (٩) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ، كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ، والقول حادث. (١٠) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ، أي إنه كتاب حادث. (١١) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، والنزول لا يكون إلا للحادث. (١٢) اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، والقرآن مخلوق. (١٣) وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ، والتبديل حدوث. (١٤) وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ، وما جاز عليه الذهاب جاز عليه العدم. (١٥) فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ، والاتصاف به في الأزل غير معقول قبل خلق موسى. أمَّا الأحاديث فمثل: «لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم.» وما جاز أن يسافر جاز أن ينتقل. «إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي»، فالامتنان لا يقع إلا بالمحدث، «إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدًا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي» (الشرح، ص٥٤٩–٥٥١؛ المحصل، ص١٣٣-١٣٤؛ المعالم، ص٥٥-٥٦؛ الاقتصاد، ص٦٧-٦٨؛ الإبانة، ص٣١؛ الحصون، ص٧٦–٧٩؛ الغاية، ص١٠٩–١١١؛ الملل، ج٢، ص٨–١١؛ الإنصاف، ص٧٢–٨٠؛ البحر، ص٣٢-٣٣؛ المواقف، ص٢٩٢–٢٩٥). أمَّا حديث: «كلام الله غير مخلوق» فهو مكذوب؛ لأن المسائل لم تُثَر إلا في القرن الثاني، وبالتالي يستحيل أن يكون هناك نقل صريح من الرسول حول موضوع لاحق لم يبرز في عصره (الملل، ج١، ص١٣١-١٣٢).
٢٠٥  النهاية، ص٢٧٩–٢٨١؛ الغاية، ص٩٤–٩٧، ص١٠٧-١٠٨؛ المواقف، ص٢٩٣–٢٩٥؛ المحصل، ص١٣٣-١٣٤؛ المعالم، ص٥٥-٥٦؛ البحر، ص٣١؛ الإرشاد، ص١١٩–١٢٨، ص١٠٩–١١١؛ الشرح، ص٥٣١–٥٤٢.
٢٠٦  عند بعض القائلين بخلق القرآن الكلام حادث موجود بعد العدم قائم، ولكن لا في محل (الغاية، ص٨٨-٨٩). وعند باقي المعتزلة الله متكلم بكلام محدث لم يخلق الكلام في ذاته، بل خلقه في محل (المسائل، ص٣٦٩). عند القدرية كلام الله حادث في جسم. أمَّا أبو الهذيل فعنده أن قول الله للشيء كن عرض حادث في الجسم (الأصول، ص١٠٦). وحكى ابن الراوندي عن الجاحظ أنه قال إن القرآن جسد يجوز أن يقلب مرة رجلًا ومرة حيوانًا وكما يحكى عن أبي بكر الأصم من أنه قال إن القرآن جسم مخلوق وأنكر الأعراض أصلًا (الملل، ج١، ص١١٣).
٢٠٧  انظر رسالتنا الأولى: Les Méthodes d’Exégèse، القسم الثالث عن الشعور العملي.
٢٠٨  عند ابن الراوندي القرآن معنى ولكنه غير مخلوق وليس بجسم ولا عرض.
٢٠٩  هناك استحالة عملية في القول بأنه قديم غير مخلوق ثم إثبات أن له جسمًا أو عرضًا أو جسمًا فقط أو عرضًا فقط، وقد تكون هناك فرقة تملأ هذا الاحتمال النظري ولم تصل إلينا أقوالها، وكذلك الحال في باقي الاحتمالات الموجودة نظريًّا وغير الموجودة عمليًّا.
٢١٠  يمثله كل القائلين بأنه مخلوق مثل ابن كلاب (مقالات، ج٢، ص٢٣٤-٢٣٥). وعند زهير الأثري هو محدث وعند التومني محدث ولكنهم قالوا بأنه ليس بجسم ولا عرض وأنه لو كان كذلك لكان من جنس البشر (الإنصاف، ص٢٧).
٢١١  قد تبدو هناك استحالة عملية لوجود كلام مخلوق لا جسم بل عرض لاستحالة وجود الأعراض بلا أجسام. ومع ذلك فعند أبي الهذيل الكلام مخلوق وعرض وليس جسمًا.
٢١٢  عند جعفر بن المبشر والأصم هو مخلوق جسم، ولا يوجد شيء إلا إذا كان جسمًا ولكنه ليس عرضًا (مقالات، ج١، ص٢٤٥-٢٤٦، ج٢، ص٢٣٦-٢٣٧). وحكى الكعبي عن الجعفرين أنهما قالا إن الله خلق القرآن في اللوح المحفوظ، ولا يجوز أن ينتقل، ويستحيل أن يكون لاشيء الواحد في مكانين. ما نقرؤه هو حكاية عن المكتوب الأوَّل في اللوح المحفوظ وذلك فعلنا وخلقنا (الملل، ج٢، ص١٠٥). وهو أقرب إلى الاحتمال الثامن، أي أنه مخلوق وجسم وعرض، إذ لا يمكن أن تتعرى الأجسام عن الأعراض.
٢١٣  إذا مثَّل الاحتمال الأوَّل أهل السنة فإن المعتزلة يمثلون الاحتمال الرابع. فالنظام مثلًا يرى أن الكلام جسم مخلوق، فعل الله وكلام الخلق عرض وحركة. بفعل الإنسان يكون قراءة، والقراءة حركة غير القرآن.
٢١٤  يمكن اعتبار جعفر بن حرب والإسكافي وأبي الهذيل ممثلين لهذا الاحتمال.
٢١٥  يمكن اعتبار الإسكافي أيضًا ممثلًا لهذا الاحتمال.
٢١٦  وذلك مثل حسين النجار.
٢١٧  ليس جسمًا كما أن الله ليس جسمًا.
٢١٨  كلام الخلق عرض، وكلام الخالق جسم، صوت متقطع مؤلف مسموع، فعل الله، قراءة الإنسان وحركة غير القرآن (مقالات، ج٢، ص٢٣٦). وعند جهم القرآن جسم. والسؤال هو: هل الله والحركات أجسام ولا فاعل إلا الله؟
٢١٩  هذا هو موقف معمر والجبائي.
٢٢٠  عند معمر هو عرض مفعول ليس من الله على الحقيقة بل فعل للمكان. القرآن عرض، والأعراض معانٍ موجودة منها يدرك بالأبصار ومنها بالأسماع.
٢٢١  عند القائلين بأنه غير مجسم، مثل أبي معاذ التومني، الكلام قائم بالله لأنه غير جسم.
٢٢٢  عند القائلين بأنه جسم هو ما يثبته أهل السنة من وجود الكلام في اللوح المحفوظ تلاوةً وخطًّا وحفظًا ورؤيةً، سواء كان الكلام جسمًا أو عرضًا يخلقه الله في اللوح المحفوظ كتابةً وتلاوةً وحفظًا دون أن يكون اكتسابًا لأحد (مقالات، ج٢، ص٢٣٧–٢٤٤). وعند القائلين بأنه عرض أنه عرض في اللوح لم يخلقه الله ثانية. كل تلاوة مخلوقة أو كتابة أو حفظ لا يزول لأنه مخلوق. وعند الأشعري الكلام في اللوح المحفوظ كما أنه في الصدور محفوظ هو في الألسنة متلو وفي المصاحف مكتوب وفي الآذان مسموع (الإبانة، ص٣٠).
٢٢٣  عند القائلين بأن جسم الكلام قائم بالله في غير مكان لا ينتقل، ثم يخلق الله الكتابة والتلاوة والحفظ في الحال. الكلام عين يخلق مع التلاوة أو الحفظ أو الكتابة. وعند القائلين بأنه عرض مثل ضرار بن عمر، الكلام فعل من الله وقراءة من اللسان. الكلام مخلوق محدث والقراءة حركة اللسان والقرآن الصوت المنقطع. وعند الجبائية والهشامية، الله متكلم بكلام يخلقه في محل. وحقيقة الكلام أصوات متقطعة وحروف منظومة، والمتكلم من فعل الكلام لا من قام به الكلام. وخالف الجبائي أصحابه بقوله يحدث الله عند قراءة كل قارئ كلامًا لنفسه في محل القراءة (الملل، ج١، ص١١٦-١١٧).
٢٢٤  عند القائلين بأنه جسم، الكلام قائم في كل مكان مخلوق لا بعينه في الحال.
٢٢٥  عند القائلين بأنه عرض يضيفون على العرض الحركة والحروف.
٢٢٦  عند القائلين بأنه غير جسم مثل زهير الأثري الكلام عرض يوجد في أماكن كثيرة في وقت واحد (مقالات، ج١، ص٣٢٦، ج٢، ص٢٣٢). وعند أبي الهذيل والجبائي يوجد الكلام في ثلاثة أماكن: محفوظ ومكتوب ومسموع. وعند الجبائي أيضًا يجوز وجود عرض واحد في أماكن كثيرة في أكثر من ألف ألف مكان لجواز وجود كلام واحد في ألف ألف محل. والكلام المكتوب في المحل إذا كتب في غيره كان موجودًا في المحلين من غير انتقال من المكان الأوَّل إلى الثاني ومن غير حدوث في الثاني (الفِرَق، ص١٨٤). وعند جعفر بن حرب والنظَّام يوجد الكلام في مكان واحد لا في مكانين أو في أماكن عدة، وعند الأشعري الكلام في اللوح المحفوظ وفي الصدور محفوظ وفي الألسنة متلو وفي المصاحف مكتوب وفي الآذان مسموع (الإبانة، ص٣٠). القرآن كلام الله في المصاحف مكتوب وفي القلوب محفوظ وعلى الألسن مقروء وعلى النبي منزل (الفقه، ص١٨٤). محفوظ بالقلوب متلو بالألسن، مكتوب في المصاحف، مقروء في المحاريب على الحقيقة لا على المجاز وغير حال في شيء من ذلك، ولو حل في غيره لكان ذلك الغير متكلمًا به وآمرًا وناهيًا (الإنصاف، ص٢٦).
٢٢٧  عند معمر وأصحاب الطبائع أن الله لم يخلق الكلام إلا بمعنى أنه خلق ما أوجبه (الفِرَق، ص١٥٢). وعند معمر القرآن من فعل الطبائع (الانتصار، ص٥٧). الكلام من فعل الطباع المتمثل في أمر «كن»، وعنده خلق الجواهر والأعراض من فعل الجوهر، أي من فعل الطبيعة. فالقرآن فعل الجوهر الذي هو فيه بطبعه، فهو خالق ولا مخلوق، وهو محدث للشيء الذي هو حالٌّ فيه بطبعه (مقالات، ج٢، ص٢٣٢). وعند ثمامة بن الأشرس يجوز أن يكون من فعل الطبيعة، فهو أيضًا لا خالق ولا مخلوق. ويجوز أن يبتدئه الله فهو مخلوق (مقالات، ج٢، ص٢٣٣).
٢٢٨  بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ، وما في الصدور يكون مخلوقًا. قلنا المراد أنه محفوظ في القلوب غير موضوع فيها (البحر، ص٣٢-٣٣).
٢٢٩  عند وكيع بن الجراح بعض القرآن هو الخالق (مقالات، ج٢، ص١٣٤).
٢٣٠  وهنا يكون الله بعض القرآن (مقالات، ج٢، ص٢٣٤).
٢٣١  يرفض الأشعري التوقف (الإبانة، ص٢٩–٣١). لا يجوز أن يُقال لفظتين بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق (الإنصاف، ص٧١). يؤدي التوقف الذي يقوم على إلغاء الطرفين إلى تحصيل الحاصل، مثل: «لا خالق ولا مخلوق»، لأن الصفة توجب العلم، أو «العلم والحركة والفعل لا هو ولا غيره». كما يرفض أحمد بن حنبل القول بأنه غير مخلوق أو مخلوق.
٢٣٢  «لا يجوز لأحد أن يقول القرآن مخلوق أو لا مخلوق» (الفصل، ج٣، ص٩-١٠). «والإطناب في ذلك قليل الجدوى، فإن كنه ذاته وصفاته محجوب عن نظر العقول» (الطوالع، ص١٨٣). «وقد التزمنا التمسك بالقواطع في هذا المعتقد مع صغر حجمه وآثرنا إجراءه على خلاف ما صادفنا من معتقدات الأئمة. وهذا الشر يلزمنا طرقًا من البسط في مسألة الكلام» (الإرشاد، ص١٠١). «هذا البحث لغوي لا حظ للعقل البتة فيه. والمتكلمون من الفريقين قد طولوا فيه ولا فائدة فيه» (المحصل، ص١٢٤-١٢٥). «وهذا الذي ذكروه تخيلات لا تحصيل لها» (الإرشاد، ص١٢١–١٢٤).
٢٣٣  يقول رشيد رضا: «وقد حذفنا من هذا الموضع نحو صفحة من الرسالة في مسألة الخلاف في خلق القرآن عملًا بأمر المؤلف، إذ كتب بخطه في طرة نسخته ما نصه: في الطبعة الثانية يُحذَف القول في خلق القرآن. وبيَّن لنا السبب في ذلك في الدرس فقال إنه التزم في الرسالة بمذهب السلف. وهذه المسألة من البدع التي ليست من مذهبهم. وكان الذي ذكَّره بذلك الشيخ محمد محمود الشنقيطي. فأذعن وذكر ذلك في الدرس. وقد نوهنا هنا بذلك في مقالة للمنار عنوانها «سجايا العلماء»، وما شرحناه تصوير للحقيقة المثبتة لمذهب السلف الرافضة لبدع المعتزلة بما يقبله العقل والوجدان السليمان» (الرسالة، ص٤٥–٤٧). ويعتمد محمد عبده على مخترعات العلم الحديث قائلًا: «وقد اهتدى البشر إلى بيان ما في أنفسهم من الكلام لمن يريدون إعلامه بمعناه بطريقة سريعة خفية يكلم بها المرء غيره وهو يبعد عنه ألوفًا من الأميال بلا صوت، وذلك ما يعرف بالتلغراف السلكي واللاسلكي، وما يُؤدَّى به يُسَمَّى كلامًا أيضًا. فهذا أظهر مثال يُضرَب للوحي وتنزيه كلام الله عن مشابهة كلام الخلق. ثم اهتدوا إلى اختراع آلة أخرى تنقل الأصوات والكلام من قطر إلى قطر وإن بعدت المسافات وسمَّوها الراديو، وسمَّيناها المذياع» (الرسالة، ص٤٥–٤٧).
٢٣٤  هذا هو الإعجاز التشريعي. وبهذا يكون الكلام هو «كلام الله المنزل على رسول أدخل في باب النعمة لأنه به يُعرَف الحلال والحرام، وإليه يُرجَع في الشرائع والأحكام. ولذلك قلنا: إن كلام الله لا يجوز أن يعرَّى عن الفائدة حتى لا يجوز أن يخاطبنا بخطاب ثم لا يريد به شيئًا أو يريد به غير ظاهره ولا يبينه لأن ذلك ينزل في القبح منزلة مخاطبة الزنجي بالعربية والعربي بالزنجية. فكما أن ذلك لا يحسن بل يعد من باب العبث كذلك في مسألتنا. فحصل من هذا الجملة أن كلام الله إنما يكون نعمة إذا كان على الحد الذي ذكرناه. فأمَّا إذا كان الأمر في ذلك على ما يقوله هؤلاء المجيرة، فإنه مما لا يثبت فيه شيء من ذلك سيَّما إذا أثبتوه قديمًا. فمعلوم أنه لا يصح الانتفاع بالقديم خاصةً إذا جوزوا عليه الكذب وإنما يأتي بخطاب لا يريد به شيئًا أصلا وأن يؤخر بيان المجمل من حال الخطاب بل من حال الحاجة.» الشرح، من ٥٣٠-٥٣١.
٢٣٥  عند النظَّام التأليف والنظم يقدر عليه العباد لولا أن الله منعهم (الانتصار، ص٢٧-٢٨). انظر الفصل التاسع عن النبوة وتطور الوحي في التاريخ.
٢٣٦  يقول القدماء: القرآن مكتوب في مصاحفنا، محفوظ في قلوبنا، مقروء بألسنتنا، مسموع بآذاننا غير حالٍّ فيها (النسفية، ص٧٩–٨٣). المكتوب في المصاحف، المقروء بالألسن، المحفوظ بالصدور، والمكتوب غير الكتابة، والقراءة غير المقروء، والمحفوظ غير الحفظ (العضدية، ج٢، ص٢٢٨–٢٤٥؛ الفقه، ص١٨٤-١٨٥؛ الإنصاف، ص٢٢–٢٧؛ الفصل، ج٣، ص٦-٧؛ الإبانة، ص٣٠؛ البحر، ص٣٠). الكلام مكتوب في المصاحف، مقروء بالألسنة، محفوظ في الصدور، ولا يحل ذلك حلول الأعراض والجواهر لأن كلام الله الأزلي لا يفارق الذات (النظامية، ص٢٠-٢١).
٢٣٧  عند ابن كلاب: الكلام ليس بحروف ولا صوت، ولا ينقسم ولا يتجزأ، بل معنى واحد بالله. والرسم هي الحروف المتغيرة، وهي القراءة، وسمِّي عربيًّا من أجل الرسم (مقالات، ج١، ص٢٤٧، ج٢، ص٢٤٤). القراءة صوت والكلام حروف، والصوت غير الحروف (مقالات، ج١، ص٢٤٧). السور والآيات والكلمات والحروف والأصوات ليس هو الكلام (الإنصاف، ص٧٨–٨٠). الكلام ليس هي القراءة والتلاوة (الإنصاف، ص٧٦). القراءة لكلام الغير وكلام النفس كلام غيرها، الكلام غير القراءة (مقالات، ج١، ص٢٤٧، ج٢، ص٢٤٤؛ الأصول، ص١٠٨؛ الإنصاف، ص٩٤).
٢٣٨  القراءة كلام (مقالات، ج٢، ص٢٤٤).
٢٣٩  أجمعت المعتزلة على أن قراءة القرآن غير المقروء. القراءة فعلنا والمقروء فعل الله، والقراءة كلام بسبب اللحن والصوت ولكن الكلام حروف (مقالات، ج١، ص٢٧١، ج٢، ص٢٤٥-٢٤٦). وهو أيضًا رأي أهل السنة وأصحاب الحديث مثل ابن كلاب. القراءة غير المقروء، المقروء قائم بالله، والقراءة محدثة مخلوقة مكتسبة. وهو رأي الباقلاني خاصة. فالقراءة غير المقروء، والتلاوة غير المتلو، والكتابة غير المكتوب. ويقع الخلط واللحن والتحريف والتصحيح في القراءة والتلاوة التي هي صفة القارئ. أمَّا المقروء فهو كلام الله الناظر غير المنظور (الإنصاف، ص٨٠–٩٣، ص١٠٣–١٠٦، ص٧١، ص٩٩).
٢٤٠  الكلام مسموع لنا على الحقيقة بواسطة القارئ، إنما المسموع فهو الكلام القديم صفة لله موجودة بوجوده قبل سماع السامع لها (الإنصاف، ص٩٤-٩٥).
٢٤١  «يسمع كلام الله»، والسمع هو الفهم. نسمعه متلوًّا. وقد سمعه موسى من الله (مقالات، ج٢، ص٢٣٣). سمع محمد وموسى وجبريل الكلام من الله بغير واسطة ولا ترجمان. سمعه من ذاته غير متلو ولا مقروء ومن عداهم يسمع الكلام متلوًّا مقروءًا (الإنصاف، ص٢٧). لا يُسمَع كلام الله بأسماعنا، بل نسمع الشيء المتكلم متكلمًا (مقالات، ج٢، ص٢٣٥). وأن يعلم أن كلام مسموع بالآذان وإن كان مخالفًا لسائر اللغات وجميع الأصوات وليس من جنس المسموعات. كما أنه مرئي بالأبصار وإن كان مخالفًا لجنس المرئيات كما أنه موجود مخالف لسائر الحواس الموجودات، وأن سامع كلامه منه بغير واسطة ولا ترجمان.
٢٤٢  الله يُسمِع كلامه لخلقه على ثلاث مراتب: (أ) بغير واسطة، ولكن من وراء حجاب مثل سماع موسى من الله. (ب) بواسطة مع عدم النظر أو الرؤيا مثل سماع الصحابة مع الرسول. (ﺟ) بغير واسطة ولا حجاب مثل سماع محمد في الإسراء والمعراج (الإنصاف، ص٩٥-٩٦). كلام الله مسموع لنا على الحقيقة بواسطة القارئ «حتى يسمع كلام الله». أمَّا المسموع فهو كلام الله القديم (الإنصاف، ص٩٤-٩٥). الكلام القديم غير مسموع الآن كما أنه تجوز رؤية ما ليس بجسم ولا عرض (المحصل، ص١٣٤-١٣٥).
٢٤٣  كلام المخلوقين يعتمد على الصوت لإظهاره وتقطيعه، والاعتماد حركة (مقالات، ج٢، ص٢٤٧).
٢٤٤  ينكر ضرار بن عمر حرف ابن مسعود وحرف أُبي بن كعب، ويشهد أن الله لم ينزله (مقالات، ج١، ص٣١٤؛ الفِرَق، ص٢٢٤). والحقيقة أن هذا الموضوع أدخل في علم القراءة منه في علم التوحيد.
٢٤٥  قولنا القرآن وقولنا كلام الله لفظ مشترك يعبر عن خمسة أشياء، منها الصوت المسموع الملفوظ به قرآنًا، وهو كلام الله على الحقيقة. أمَّا الصوت كهواء مندفع من الحلق والصدر والحنك واللسان والأسنان والشفتين إلى آذان السامعين وهي حروف الهجاء، فكل ذلك مخلوق. وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ. واللغات مخلوقة (الفصل، ج٣، ص٧-٨؛ الاقتصاد، ص٦٨؛ البحر، ص٣٣-٣٤).
٢٤٦  كلام الله مسموع، قد يُراد به الإدراك أو الفهم أو الإحاطة أو الطاعة أو الانقياد أو الإجابة (الإرشاد، ص١٣٣-١٣٤).
٢٤٧  ليس الكلام هي الحروف والأصوات، ولا شيء من صفات الخلق. لا يفتقر الكلام إلى مخارج وأدوات، بل يتقدس عن جميع ذلك. الكلام القديم لا يحل في شيء من المخلوقات. والأدلة على ذلك: (أ) حرف الورق ليس حرفًا للكلام. (ب) مجرد ذكر حروف الهجاء ليس قرآنًا. (ﺟ) الحروف بلغات عدة والكلام واحد. (د) الحروف مخارج عدة والكلام ليس له مخارج. (ﻫ) الحروف متناهية والكلام لا متناهٍ (الإنصاف، ص٩٩–١٠٣؛ مقالات، ج٢، ص٢٤٦-٢٤٧). النسخ في الرسم والخط والتلاوة والحكم لا في الكلام (الإنصاف، ص٧٧). والمصحف وحمله والانتقال به ليس هو الكلام (الإنصاف، ص٧٨). أشيع في زمن الإمام ابن حنبل من جهلة العوام والرعاع والهمج ومن لا دراية له بالكلام فسمعوا مطلقًا أن كلام الله في المصاحف، فأثبتوا الكلام الأزلي في الدفاتر، فرسخ هذا الكلام في قلوب الحشوية. والكلام لا ينتقل من متكلم إلى دفتر، ولا ينقلب معنى النفس إلى أصوات سطورًا ورسومًا وأشكالًا ورقومًا (النظامية، ص٢٠-٢١).
٢٤٨  الكلام مكتوب في المصاحف على الحقيقة على الوجه الذي هو مكتوب فيه في اللوح المحفوظ، وإن اختلف اللوح والقلم والخط (الإنصاف، ص٩٣). القرآن حقيقة مكتوب في المصاحف بدليل السمع (الانتصار، ص٨٢). إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ، على الوجه الذي هو مكتوب في اللوح المحفوظ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ باختلاف الخط والمصحف والورق! (الإنصاف، ص٩٣؛ الأصول، ص١٠٨). كلام الله ليس حالًّا في المصاحف، بل مكتوب في المصاحف، محفوظ بالصدور، وليس حالًا في مصحف ولا قائمًا بقلب (الإرشاد، ص١٣٢-١٣٣). ونسمي المصحف كله قرآنًا وكلام الله. ونهى الرسول عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً. أمَّا المصحف فهو ورق من جلود الحيوان ومركب منها ومن مداد مؤلف من صمغ ولزاج وعفص وماء وكل ذي مخلوق، حركة اليد في الخط وحركة اللسان في القراءة، واستقرار كل ذلك في النفوس كلها أعراض مخلوقة، وكذلك عيسى كلمة الله مخلوق (الفصل، ج٣، ص٧–٩).
لا يعجبنك من أثير خطه
حتى يكون مع الكلام دليلا
٢٤٩  عند أبي القاسم الدمشقي حروف الصدق هي حروف الكذب بأعيانها لا على المثل والنظير، والحروف التي في قول لا إله إلا الله هي الحروف التي في قول الكافر لا إله إلا المسيح. وحروف القرآن هي حروف زرادشت بأعيانها لا على معنى أنها مثلها، والحروف التي كان النبي يقولها في كلامه هي نفس الحروف التي يؤلفها الكفار في تكذيبه (الفِرَق، ص١٩؛ الانتصار، ص٨٤). وعند كثير من المعتزلة الكلام حروف لا فرق بين كلام الله وكلام الإنسان. وعند النظَّام كلام الله صوت متقطع، وهي حروف. كلام الإنسان ليس بحروف! القرآن هي الحروف، أي التأليف، إمَّا منقولة أو محاكاة من كلام الناس (مقالات، ج٢، ص٢٤٧). وعند عبد الله بن كلاب الكلام حروف ومرسوم بالعربية (مقالات، ج٢، ص٢٣٣). وعند النظَّام وجعفر بن المبشر لم يسمع الناس القرآن على الحقيقة، وأن ما بالمصاحف ليس بكلام الله إلا على المجاز لأنه لا يوجد عرض في مكانين (الانتصار، ص٨٢). وقد رفض الغزالي ذلك، فكلام الله مكتوب في المصاحف محفوظ في القلوب مقروء بالألسنة، وأمَّا القلم والحبر والكتابة والحروف والأصوات فكلها حادثة لأنها أجسام وأعراض (الاقتصاد، ص٦٦).
٢٥٠  عند الجبائي الكلام حرف واحد وعند آخرين حرفان.
٢٥١  عند ابن كلاب الكلام معنى قائم بالنفس يُعبَّر عنه بالحروف. النطق هو إخراج ما في الضمير إلى الآخرين (مقالات، ج٢، ص١٤٧). الكلام الحقيقي هو المعنى الموجود في النفس، ولكن عليه أمارات تدل عليه مرة باللسان ومرة بالخط ومرة بالرموز والإشارات (الإنصاف، ص١٠٦–١١٢). وسبيل إثبات العلم بكون الباري متكلمًا كسبيل إثبات العلم بكونه سميعًا بصيرًا، ولكن القصد منه لا يتضح قبل أن نثبت كلام النفس ونرد على منكريه (الإرشاد، ص٧٦). وقد قال الشاعر:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما
جعل اللسان على الفؤاد دليلا
٢٥٢  الإنصاف، ص٩٦–٩٨؛ الإرشاد، ص٣٥؛ البحر، ص٢٩-٣٠.
٢٥٣  ونسمي المستقر في الصدور قرآنًا ونقول إنه كلام الله حقيقةً لا مجازًا (الفصل، ج٣، ص٨). الكلام هو القول القائم بالنفس الذي تدل عليه العبارات وما يصطلح عليه من إرشادات (الإرشاد، ص١٠٤–١٠٦؛ الاقتصاد، ص٦٤؛ النهاية، ص٣٢٠–٣٢٢؛ الحصون، ص٨٠-٨١؛ الإنصاف، ص١٠٦–١١٠). وينكر المعتزلة كلام النفس، فالكلام مجرد أصوات متقطعة وحروف منتظمة (الإرشاد، ص١٠٤–١٠٨). ذهب النظَّام إلى أن الكلام جسم لطيف منبعث من المتكلم ويقرع أجزاء الهواء فيخرج الهواء بحركته ويتشكل بشكله ثم يقرع العصب المفروش في الأذن فيتشكل العصب بشكله ثم يصل إلى الخيال فيعرض على الفكر العقلي فيفهم، وعند أبي الهذيل والشحام وأبي علي الجبائي الكلام حروف وأصوات مثل باقي المعتزلة (النهاية، ص٣١٨–٣٢٠). في حين يثبت الأشعري كلام النفس، ولكن المشكلة هل هي النفس الإلهية أم النفس الإنسانية؟ النفس الإلهية لا نعلمها إلا من خلال النفس الإنسانية، أي الوحي المقروء والمكتوب والمفهوم باللغة العربية في عصر معين، ولدى جيل معين، وربما لدى طبقة معينة أو فئة أو سلطة. فالنفس الإلهية هي النفس الإنسانية مدفوعة إلى أعلى، خارجة عن ذاتها، مغتربة عن نفسها، في حالة نسيان وفقدان الوعي بالذات.
٢٥٤  عند البعض تعني شهادة الألسن والأيدي والأرجل إمَّا دلالة من غير كلام في الحقيقة أو اضطرارًا أو شهادة باللسان (مقالات، ج١، ص١٤٩). وتغريد الطيور وأصوات النحل ودبيب النمل كل ذلك لغات (النهاية، ص٣٢٢–٣٢٥).
٢٥٥  عند أبي الهذيل يجوز أن يكون الكلام اختيارًا، ويجوز أن يكون اضطرارًا. كلام أهل الآخرة اضطرار وخلق من الله. وعند ابن كلاب الكلام اضطرار واكتساب معًا.
٢٥٦  وكذلك القرآن محفوظ بالقلوب على الحقيقة، بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ (الإنصاف، ص٩٣-٩٤). وفي القلوب محفوظ (الأصول، ص١٠٨).
٢٥٧  أثبت الجبائي كلام النفس ويسميه الخواطر، وأنه يسمعها ويدركها بحاسة السمع. انظر الفصل الثامن عن العقل والنقل.
٢٥٨  الاقتصاد، ص٦٢-٦٣.
٢٥٩  وعند الفلاسفة يطلق النطق على اللسان، أي الحروف المنظومة بأصوات متقطعة في مخارج مخصوصة نظمًا يعبر عن المعنى الذي في النفس بحكم الاصطلاح والمواضعة أو بحكم التوقيت والمصادرة، ويطلق النطق على التمييز العقلي والتفكير النفساني والتصوير الخيالي، وهي معانٍ في الذهن مختلفة الاعتبار، ويستمر الفلاسفة في الحديث عن مقدمات المنطق (النهاية، ص٣١٨–٣٢٢).
٢٦٠  النهاية، ص٣٢٨–٣٤٠. ويُسَمَّى المفهوم من ذلك الصوت قرآنًا وكلام الله على الحقيقة. فإذا فسرنا الزكاة في القرآن والصلاة والحج وغير ذلك قلنا في كل هذا كلام الله وهو القرآن والمعاني المعبر عنها بالكلام المؤلف من الحروف من الله (الفصل، ج٣، ص٧-٨).
٢٦١  توحد المعتزلة بين الكلام النفسي والعلم والإرادة! (الحصون، ص٧٥-٧٦؛ الاقتصاد، ص٦٢-٦٣). وإن قراءتنا للقرآن كسب لنا فنُثاب عليها ونُلام على تركها إذا وجبت علينا في الصلوات (الإنصاف، ص٢٧). القرآن كلام الله وبإجماع المسلمين قبل ظهور الخلاف. آيات وحروف منتظمة وكلمات مجموعة مقروءة مسموعة، لها مفتتح ومختتم، معجزة الرسول ودالة على صدقه. وكان السلف يقولون: يا رب القرآن العظيم، يا رب طه، يا رب يس. سُمِّي القرآن قرآنًا للجمع، قرأت الناقة لبنها في ضرعها أي جمعت. والكلام الأزلي لا يوصف كذلك. نقرؤه باللسان، ونلمسه بالأيدي، ونبصره بالأعين، ونسمعه بالآذان.
٢٦٢  لذلك رأى الحكماء وجود الكلام في أربع: في الذهن، وفي الواقع، وفي اللسان، وفي اليد. وركز علماء الكلام على الوجود في الذهن وفي اللسان وفي اليد فحسب.
٢٦٣  عند الرازي حقيقة الكلام هو الخبر، والأمر والنهي خبر لأنه إخبار عن ترتيب الثواب والعقاب على الفعل والترك (المحصل، ص١٣٤؛ المعالم، ص٥٧-٥٨). وعند البعض الآخر يرد كله إلى الأمر أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ.
٢٦٤  بالرغم من أن صفة الكلام واحدة إلا أن الكلام عند الأشاعرة أمر ونهي وخبر واستخبار ووعد ووعيد (النهاية، ص٢٨٨؛ الملل، ج١، ص١٤٢–٢٤٤). رد الآمدي الأقسام الخمسة إلى قسمين: الطلب والخبر، فالوعد والوعيد داخلان في الخبر (الغاية، ص١١٢–١٢٠). وقد اختلف القدماء على الصيغ الخمسة بالإضافة أو بالحذف. وقد تكون الصيغ الخمسة: الأمر والنهي والخبر والاستخبار والنداء، بالإضافة والحذف في آن واحد. وقد تكون الصيغ أربعة: النهي والخبر والوعد والوعيد (الأصول، ص١٠٦–١٠٨). وكذلك: أمر ونهي وخبر واستخبار (المسائل، ص٣٧٠-٣٧١؛ الحصون، ص٧٩-٨٠). والحقيقة أنهما اثنان فالنهي هو الأمر المضاد، والوعد والوعيد يعرفان بالخبر. وقد ترد الصيغ الستة إلى اثنتين. إذ يمكن تعليق الكلام كله على قضية واحدة أن تعلق بفعل أو ترك كان طلبًا وإن تعلق بغيره كان خبرًا.
٢٦٥  الهجوم على نظرية الفيض باعتبارها نظرية في الكثرة لا يقل عن الهجوم عليها باعتبارها نظرية في الوحدة. المهم هو الهجوم على الفلسفة فهي أس الشرور كما كان الشيعة والمشبهة والمجسمة والرافضة والخوارج من قبل. علم العقائد في حاجة إلى خصوم أزليين أبديين دائمين حتى تُصاغ العقائد ضدهم. فالخصوم هم العقائد المضادة أو نقائض العقائد. وقد اعتنى الشهرستاني في «نهاية الإقدام» بهذه القضية، العقائد والعقائد المضادة وأيهما مصدر للآخر.
٢٦٦  والأشاعرة على وعي بأن الوحدة في الصفة وليست في المتعلقات والصياغات. فمع أن كلام الله واحد إلا أنه أمر ونهي وخبر واستخبار ووعد ووعيد (النهاية، ص٢٨٨). كلام الله واحد وهو متعلق بجميع متعلقاته (الإرشاد، ص١٣٦-١٣٧). ويقول الشهرستاني: «كيف يتصور التقدير في حق الباري والتقدير ترويد الفكر وتصريف الخواطر وذلك من عمل الخيال والوهم» (النهاية، ص٣٠٣–٣٠٥).
٢٦٧  تعجبت المعتزلة من موقف الأشاعرة، فالكلام أمر ونهي وخبر واستخبار، كلها حقائق مختلفة. والقول بأن الكلام واحد يقتضي كون الحقائق الكثيرة واحدة وذلك باطل. والأمر هو الإعلام بحلول العقاب وكذلك النهي، والاستفهام إعلام مخصوص فترجع جميع الأحكام إلى الأخبار. ولا يمنع أن يكون العلم الواحد علمًا بأشياء كثيرة كما يكون الخبر الواحد خبرًا عن أشياء كثيرة (المعالم، ص٥٧-٥٨).
٢٦٨  مثلًا: وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ، فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا، وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ، يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي.
٢٦٩  كذلك قال الجبائي إن القرآن يحدث نفسه عند القراءة.
٢٧٠  انظر رسالتنا الأولى Les Méthodes d’Exégèse، القسم الثالث الشعور العملي. وقد حاولنا في كتاباتنا الشعبية العديدة إحياء التعددية وتقليص الأحادية. انظر: «الدين والثورة في مصر، ١٩٥٢–١٩٨١م، ج١، في الثقافة الوطنية؛ ج٤، في اليسار الديني».
٢٧١  ذُكر لفظ الكلام ومشتقاته في القرآن ٧٥ مرة، فعلًا (٢٤ مرة)، واسمًا (٥١ مرة)، أي إن الكلام اسم أكثر منه فعلًا على عكس العلم والقدرة وباقي الصفات. ويستعمل لله كفاعل ٧ مرات في حين أنه يستعمل أيضًا للملك ولمريم وللمسيح وللنفس وللمؤمنين وللدابة وللكفار وللأيدي وللموتى. وتستعمل لله إيجابًا، مثل: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ (٢: ٢٥٣) (٣ مرات)، وسلبًا مثل: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا (٤٢: ٥١)، وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (٢: ١٧٤) (٤ مرات). أمَّا الاسم فقد استعمل لله (٣٥ مرة) سواء في صيغة كلام (٤ مرات)، أو كلمة مفردًا وجمعًا (٤٢ مرة)، أو الكلم (٤ مرات)، أو تكليمًا (مرة واحدة)، كلام الله، حكمة من الله، حكمة ربك (١١ مرة)، ولكنها استعملت أيضًا مجازًا (١٦ مرة) في كلمة سواء، كلمة طيبة، كلمة خبيثة، كلمة الفصل، كلمة باقية، كلمة التقوى. أمَّا الكلم فيشير إلى تحريف اليهود له أو إلى صعوده إلى الله: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ (٣٥: ١٠)، فالكلام لا ينزل من الله إلى الإنسان ولكنه أيضًا يرتفع من الإنسان إلى الله بالفعل المحقق له.
٢٧٢  الإرادة، العلم، القدرة، الحياة، السمع، البصر، الكلام (الغاية، ص٣٨، ص٥٢–٥٧). الإرادة، القدرة، العلم، السمع، البصر، الكلام، الحياة (الحصون، ١٧-١٨).
٢٧٣  الكفاية، ص٤٦–٤٨.
٢٧٤  الرسالة، ص٣٩.
٢٧٥  التحقيق، ص٦٩–٧٢.
٢٧٦  التمهيد، ص٤٧-٤٨؛ النهاية، ص٢٣٨–٢٦٧.
٢٧٧  الشرح، ص٤٣١–٤٧٧.
٢٧٨  الغاية، ص١١٨–١٢٠.
٢٧٩  الشرح، ص٤٣١-٤٣٢. ص٣٣٩-٤٤٠. وتشمل الإرادة موضوعات ثلاث: (أ) كون الباري مريدًا على الحقيقة (ضد خلق الأفعال). (ب) في أن إرادته قديمة لا حادثة (الحكم العام للصفات). (ﺟ) في أن الإرادة متعلقة بجميع الكائنات (الكفاية، ص٢٣٨). الإرادة واحدة متعلقة بجميع ما يقبل من الصفات (الملل، ج١، ص١٤٢–١٤٤). لو كانت مقدورة لكان مقدورها بتعدد متعلقاتها. وهو غير متناهٍ، وتكون هي بأعدادها غير متناهية (الغاية، ص٧٢–٧٥؛ الكفاية، ص٤٦–٤٨؛ التحقيق، ص٧٠–٧٢).
٢٨٠  الإرادة هي علم يوجب النظام الأكمل ويُسَمَّى عناية، وعند أبي الحسين علمه يقع في الفعل ويوجبه ويُسَمَّى الداعية. وعند النجار أمر عدمي، عدم كونه مكروهًا. وعند الكعبي فعله في العلم وفي فعل غيره الأمر. وعند الأشاعرة صفة ثالثة مغايرة للعلم والقدرة توجب تخصيص أحد المقدورين (المواقف، ص٢٩٠–٢٩٢). والإرادة بمعنى أنه آمر رأي أبي القاسم البلخي والنظَّام (الشرح، ص٤٣٤-٤٣٥). وعند الحكماء الإرادة للواجب نفس العلم بجميع الموجودات من الأزل إلى الأبد أي العناية. وعند النجار: الإرادة كونه غير مغلوب ولا مُكرَه، أي أن الإرادة حرية. وقال الكعبي: الإرادة بالنسبة إلى أفعاله علمه بها وبالنسبة إلى أفعال غيره أمره بها (الشرح، ص٤٣٢–٤٣٥). وعند باقي المعتزلة وأبي علي وأبي هاشم والقاضي عبد الجبار الإرادة صفة زائدة مغايرة للعلم والقدرة (الأصول، ص١٠٢). ويشترك الغزالي في حجة المخصص ويسميها الترجيح (الاقتصاد، ص٥٤-٥٥).
٢٨١  لا خالق ولا مبدع إلا الله، وأن الإبداع والخلق لجميع الحادثات لا يكون إلا عن إرادة واختيار لا عن طبع واضطرار. لو لم تتعلق إرادته بجميع الكائنات لكان كمال واجب الوجود بالنسبة إلى ما لم تتعلق به إرادته من الكائنات أخص بالنسبة إلى حال من تعلقت به إرادته من المختارين وهو مُحال (الغاية، ص٦٤-٦٥).
٢٨٢  الأفعال إمَّا بالإرادة أو بالطبع. ولما كانت ليست بالطبع فهذا من صفات المخلوقين، فهي إذن أفعال إرادة (الإنصاف، ص٣٩–٤١). لا فرق بين الإرادة والمشيئة والاختيار والرضا والمحبة، فالاعتبار بالمآل لا بالحال. فمن رضي عنه لم يزل راضيًا عنه لا يسخط عليه أبدًا، وإن كان في الحال عاصيًا، ومن سخط عليه فلا يزال ساخطًا عليه ولا يرضى عنه أبدًا وإن كان في الحال مطيعًا (الإنصاف، ص٤٤-٤٥). عند الخازمية (الخوارج) وأهل السنة الولاية والعداوة صفتان لله. الله لم يزل محبًّا لأوليائه ومبغضًا لأعدائه (الفِرَق، ص٩٤؛ مقالات، ج١، ص١٦٦، ص١٦٩).
٢٨٣  المسائل، ص٣٦٤؛ المعالم، ص٤٤-٤٥؛ الرسالة، ص٣٩؛ الشرح، ص٤٣٢-٤٣٣، ص٤٣٦–٤٣٩؛ التمهيد، ص٤٧-٤٨؛ المحصل، ص١٢١–١٢٣.
٢٨٤  الإرادة طريقها الضرورة والإحساس بها ولا يمكن معرفتها استدلالًا (الشرح، ص٤٣٢-٤٣٣).
٢٨٥  الإنصاف، ص٤٠. ونظرًا لأن الانفعالات أقل من الصفات من حيث التنزيه فقد جعلها المعتزلة صفات فعل، وعند ابن جرير صفات ذات (مقالات، ج٢، ص٢٣١). والحقيقة أنها صفات انفعال وليست صفات فعل.
٢٨٦  التمهيد، ص٤٨. باب في الرضا والغضب وأنهما من الإرادة. مسألة في أنه لا يجوز عليه الشهوة.
٢٨٧  المحصل، ص١٣٦. وأثبت عبد الله بن سعيد الرحمة والكرم والرضا والسخط صفات وراء الإرادة.
٢٨٨  الإنصاف، ص٢٤.
٢٨٩  البحر، ص٦٦-٦٧.
٢٩٠  الإنصاف، ص٢٥.
٢٩١  المسائل، ص٣٦٠، في أنه سبحانه منزه عن اللذة والألم.
٢٩٢  المحصل، ص١١٥. اتفق الكل على استحالة الألم على الله.
٢٩٣  المعالم، ص٣٦. الألم واللذة على الله محال.
٢٩٤  الإنصاف، ص٤١.
٢٩٥  في إحالة الآفات والسرور والغم عليه (الأصول، ص٧٩–٨١).
٢٩٦  في بيان غِنى الصانع عن خلقه (الأصول، ص٨٢).
٢٩٧  الأصول، ص٨٨.
٢٩٨  الشرح، ص٢١٣–٢١٦.
٢٩٩  المحيط، ص٢١٣–٢٢٤. في نفي الحاجة عنه، المغني، ج٤، الكلام في أنه لا تجوز عليه الحاجة، ص٧–٣٢.
٣٠٠  الفصل، ج٢، ص١٤٤.
٣٠١  البحر، ص٢.
٣٠٢  العضدية، ج١، ص٢٥٧؛ متصفًا بجميع صفات الكمال منزَّهًا عن جميع سمات النقص وهو منزه عن جميع صفات النقص، ج٢، ص١٢٨.
٣٠٣  المسائل، ص٣٣٠-٣٣١.
٣٠٤  لم تغيره سوالف الدهور، ولم يلحقه في خلق شيء مما يخلق كلال ولا تعب ولا مسه لغوب ولا نصب (الإبانة، ص٤).
٣٠٥  لم يزل مريدًا وشائبًا ومحبًّا ومبغضًا وراضيًا وساخطًا ومواليًا ومعاديًا ورحيمًا ورحمانًا. وترجع جميع هذه الصفات إلى إرادته في عباده ومشيئته لا إلى غضب يغيِّره ورضا يسكنه طبعًا له. وضيق وغيظ يلحقه، وحقد يجده، وهو متعالٍ عن الميل والنفور (الإنصاف، ص٢٤). ونعتقد أن مشيئته ومحبته ورضاه ورحمته وكراهيته وغضبه وسخطه وولايته وعداوته كلها راجع إلى إرادته (الإنصاف، ص٢٦). يغضب ويرضى، يحب ويبغض، يوالي ويعادي بإرادة إثابة من رضي عنه وأحبه وتولاه، وعقوبة من غضب عليه وأبغضه وعاداه (الإنصاف، ص٣٩–٤١). الرضا والغضب من الإرادة للنفع والضرر أو يكون الغضب تغير الطبع ونفور النفس والرضا والسكون بعد تغير الطبع، وذلك محال. فهو غنيٌّ عن اللذة ويمتنع عليه الألم. فهو ليس بذي جنس ولا نوع ولا شكل ولا ملتذ ولا متألم ولا منتفع ولا مستضر، فثبت أن رضاه وغضبه وسخطه هي إرادته وقصده إلى نفع من في العلوم أنه ينفعه وضرر من سبق علمه وخبره أنه يضره. وكذلك الحب والبغض والولاية والعداوة هي نفس الإرادة للنفع والإضرار فحسب (التمهيد، ص٤٨). مسائل في السخط والرضا والعدل والصدق والملك والخلق والجود والإرادة والسخاء والكرم وما يخبر عنه بالقدرة عليه وكيف يصح السؤال في ذلك كله … نقول لم يزل الله عالمًا بأنه سيسخط على الكفار وسيرضى على المؤمنين وسيعذب بالنار من عصاه وسينعِّم بالجنة من أطاعه وسيعدل إذا حكم وسيصدق إذا أخبر (الفصل، ج٢، ص١٥٥–١٦٩). عند أهل السنة والجماعة، الرضا والسخط من صفات الله الأزلية بلا كيف ولا تشبيه، ولا تتغير من حال إلى حال مثل سائر الصفات، الإرادة والسمع والبصر والكلام (البحر، ص٦٦-٦٧). والأدلة النقلية شاهد على ذلك.
٣٠٦  عند الزيدية الإرادة للشيء هي الكراهية لضده، سخطه على الكافرين، رضاه بتعذيبهم، ورضاه بتعذيبهم سخطه عليهم، ورضاه عن المؤمنين سخطه أن يعذبهم، وسخطه أن يعذبهم رضاه أن يغفر لهم. لا نقول سخطه على الكافرين هو رضاه عن المؤمنين (مقالات، ج١، ص١٣٨). إرادته للشيء كراهيته ألا يكون (مقالات، ج٢، ص٢٠٣). وعند أهل السنة إرادة الشيء كراهيته لضده، وأمره للشيء نهيه عن تركه (الفِرَق، ص٣٣٦).
٣٠٧  مقالات، ج١، ص١٦٦، ص١٦٩.
٣٠٨  يرى أبو شعيب وابن شعيب الناسك أن الباري يسر بطاعة أوليائه وينتفع بها وبإثابتهم ويلحقه العجز بمعاصيهم (مقالات، ج١، ص٢٦٢-٢٦٣؛ الفِرَق، ص٣٣٣). وحكي عنهما أنهما أجازا عليه السرور والغم والتعب والاستراحة (الأصول، ص٧٩). ويُروى حديث: «الله أفرح بتوبة العبد من الواجد ضالته.» ويفرق البغدادي بين ثلاثة أنواع من الفرح: الأوَّل السرور، والثاني الغبطة إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ، وهذان لا يليقان بالله، والثالث الرضا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ، أي راضون، وهو المعنى المضاف إلى الله في توبة العبد إليه (الأصول، ص٧٩-٨٠). وفي الحديث: «إن الله لا يمل حتى تملوا …» وأمَّا حديث الملالة فإنما سُمِّي فيه الفعلان مللًا والملل في أحدهما الإزواج بينهما كقوله: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ، والعقاب هو الثاني لا الأوَّل (الأصول، ص٧٩-٨٠). وأمَّا النسيان: نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ، المضاف إليهم، فمعناه الترك أي تركوا العمل بطاعته وجزاؤه ترك الثواب والمغفرة لهم. وأمَّا السهو فلا يكون عليه العقاب (الأصول، ص٨٠-٨١). حديث: «إن الله يستحي أن يرفع العبد إليه يديه فيردهما صفرًا» (الأصول، ص٨٠).
٣٠٩  عند المجوس اهتم الله لما تفكر في خروج ضد له، فتولد من اهتمامه الشيطان (الأصول، ص٧٩). ويُروى عن اليهود أن الله خلق الخلق في ستة أيام واستراح يوم السبت، ولذلك يستريح اليهود يوم السبت تشبُّهًا بالله، فكما أن الله خلق الإنسان على صورته ومثاله فإن الإنسان يشبِّه نفسه بالله، كل منهما يرى الآخر في مرآة نفسه، ويعكس ذاته فيها. قلنا لهم إن السبت لم يسمَّ سبتًا للراحة فيه، وإنما لقطع العمل فيه، ويجوز أن يكون الله أكمل خلق العالم يوم الجمعة فلم يخلق يوم السبت شيئًا من أركان العالم دون أعراضه، فإنه يجدد الأعراض في كل حال (الأصول، ص٧٩-٨٠). وقد أثبت الفلاسفة اللذة العقلية (الإسفراييني، ص٦٤؛ الطوالع، ص١٦٢).
٣١٠  وعند بشر ما والى الله مؤمنًا في حال إيمانه ولا عادى كافرًا في حال كفره، ولا يكون مواليًا لمؤمن في حال طاعته أو معاديًا لكافر في حال كفره (الفِرَق، ص١٥٧). واتفق العقلاء على أنه لا يتصف بشيء من الأعراض المحسوسة بالحس الظاهر والباطن كالطعم واللون والرائحة والألم مطلقًا وكذا اللذة الحسية وسائر الكيفيات النفسانية من الحقد الثاني للوجوب الذاتي. وأمَّا اللذة العقلية فقد نفاها الملِّيُّون وأثبتها الفلاسفة (الإسفراييني، ص٦٤). في نفي الأعراض المحسوسة عنه تعالى، أجمع العقلاء على أنه غير موصوف بشيء من الألوان والطعوم والروائح ولا يلتذ باللذائذ الحسية، فإنها تابعة للمزاج، وأمَّا اللذة العقلية فقد جوَّزها الحكماء. وقالوا من تصور نفسه كمالًا فرح به ولا شك أن كماله أعظم الكمالات، فلا بعُد من أن يُلتذَّ به (الطوالع، ص١٦٢).
٣١١  لا يوصف بالسرور لأنه من الحوادث، ولم يرد به توقيف، ويوصف بالفرح ويكون بمعنى الرضا ويجوز وصفه بالرضا والغضب والسخط لأنه ورد في القرآن، ولا يوصف بالشفقة والرأفة والهمة والعناية؛ لأن في ذلك صرف الهمة إلى شيء ولم يرد بتوقيف (الدر، ص١٥١).
٣١٢  وأنه سبحانه لم يزل مريدًا وثائبًا ومحبًّا ومبغضًا وراضيًا وساخطًا ومواليًا ومعاديًا ورحيمًا ورحمانًا؛ لأن جميع هذه الصفات راجعة إلى إرادته في عباده ومشيئته لا إلى غضب بغيره ورضا يسكن طبعه وحنق وغيظ يلحقه، وحقد يجده إذا كان سبحانه متعاليًا عن الميل والنفور (الإنصاف، ص٢٤).
٣١٣  لا تجري عليه الآفات، ولا تحل به العاهات … لا يجوز عليه اجترار المنافع ولا تلحقه المضار، ولا يناله السرور واللذات، ولا يصل إليه الأذى والآلام … لا يلحقه العجز والنقص، تقدس عن ملامسة النساء وعن اتخاذ الصاحبة والأبناء (مقالات، ج١، ص٢١٦-٢١٧). وينفي جمهور أهل السنة عنه الآفات والآلام واللذات. وهو غير ملتذ ولا متألم بإدراك شيء منها ولا مشقة منها ولا مشقة له منها ولا نافر عنها ولا منتفع بإدراكها ولا متغير بها، ولا يجانس شيئًا منها ولا يضادها وإن كان مخالفًا لها (الفِرَق، ص٣٣٣؛ الإنصاف، ص٢٥). لا يوصف بالشهوة أي شوق النفس وميل الطبع إلى المنافع والملذات، وكل ما يدل على الحدوث أو على سمة النقص. فالرب يتقدس عنه (الإنصاف، ص٤١). في أنه لا تجوز عليه الشهوة أي توقان النفس وميل الطبع إلى المنافع والملذات (التمهيد، ص٤٨). لم تغيِّره سوالف صروف الدهور ولم يلحقه في خلق شيء مما يخلق كلال ولا تعب ولا مسه لغوب ولا نصب (الإبانة، ص٤). في إحالة الآفات والسرور والغم عليه. أجمع الموحدون على نفي الآفات والغموم والآلام واللذات من الله (الأصول، ص٧٩). هو المقدس في أفعاله عن الشهوة وفي علمه عن الشبهة المتعالي في أفعاله عن المادة المنزه في كلامه عن الريبة والتهمة (المسائل، ص٣٣١). في أنه منزه عن اللذة والألم. والدليل أنهما تابعان لتغير المزاج وتغير المزاج صفة الجسم المركب الذي هو قابل للزيادة والنقصان. ولما كان التغير عليه محالًا كان الألم واللذة أيضًا عليه محالًا (المسائل، ص٣٦٠). الألم واللذة على الله محال لأن المعقول من الألم هو الحالة الحاصلة عند تغير المزاج إلى الفساد، ومن اللذة هو الحالة الحاصلة عند صلاح المزاج. فمن كان متعاليًا عن الجسمية كان هذا محالًا في حقه ولأن اللذة لو صحت عليه لكان طالبًا لتحصيل الملتذ به، فإن قدر عليه في الأزل لزم إيجاد الحادث في الأزل وإن لم يقدر عليه لكان متألمًا في الأزل بسبب فقدان الملتذ به وهو محال (المعالم، ص٣٦). استحالة الألم على الله. أمَّا اللذات العقلية فلم يثبتها إلا الفلاسفة، فاللذة والألم توابع اعتدال المزاج وتنافره، وذلك لا يعقل إلا في الجسم، ولا يلتذ بخلق شيء آخر لكن علم الكمال المطلق يوجب اللذة (المحصل، ص١١٥).
٣١٤  وأجمعوا على أن الله غنيٌّ عن خلقه لا يجتلب بخلقه إلى نفسه ولا يدفع بهم عن نفسه ضررًا. وهذا خلاف قول المجوس في دعواهم أن الله إنما خلق الملائكة ليدفع بهم عن نفسه أذى الشيطان وأذى أنواعه (الفِرَق، ص٣٣٣). في بيان غنى الصانع عن خلقه. من أصلنا أن الله غنيٌّ عن خلقه. ما خلق الخلق لاجتلاب نفع إلى نفسه ولا لدفع ضرر عن نفسه. ولو لم يخلقهم لجاز، ولو أدام حياتهم لجاز ولو أفناهم في حال واحد جاز. وزعمت المجوس أن الله إنما خلق الملائكة ليدفع بهم عن نفسه أذى الشيطان وأنواعه. وفي رأي المعتزلة أنه إنما خلقهم للعبادة وليشكروه مع علمه بكفر الكثير منهم، فلو لم يكلفهم معرفته وشكره لم يكن حكيمًا. وهذا يوجب عليهم أن يكون أنما كلفهم لحفظ الحكمة على نفسه، وفي هذا اجتلاب نفع ودفع ضرر إلى نفسه (الأصول، ص٨٢-٨٣). وبأنه غنيٌّ لذاته عن الأماكن والأزمان وعن سائر خلقه ولا يصح عليه المنافع والمضار، وإنما خلق المنافع والمضار لغيره لا لنفسه (الأصول، ص٨٨). لم يخلق الخلق على مثال سابق، وليس خلق شيء بأهون عليه من خلق شيء آخر ولا بأصعب عليه منه. لا يجوز عليه اجتراء المنافع ولا تلحقه المضار، ولا يناله السرور والملذات، ولا يصل إليه الأذى والآلام. ليس بذي غاية فيتناهى، ولا يجوز عليه الفناء، ولا يلحقه العجز والنقص (مقالات، ج١، ص٢١٦-٢١٧؛ الشرح، ص٢١٣–٢١٦).
٣١٥  فهو متصف بجميع صفات الكمال، منزَّه عن جميع صفات النقص (العضدية، ج١، ص٢٥٧). وهو منزه عن جميع صفات النقص (العضدية، ج٢، ص١١٨). والإيمان بالله يتضمن التوحيد له سبحانه والوصف له بصفاته ونفي النقائص الدالة على حدوث من جازت عليه (الإنصاف، ص٢٣).
٣١٦  وعليه يقيم الأشعري الدلالة على أن الله واحد، وعلى جواز إعادة الخلق (اللمع، ص٢١–٢٣). وكذلك يستعملها الأشعري في إثبات العلم، فمن لا علم له يلحقه الجهل والنقصان. وهو مستحيل على الله (الإبانة، ص٣٩–٤٣).
٣١٧  وهو الكامل بذاته الأزلي، بصفاته المنزهة عن النقصان (البحر، ص٢). وقد قام البرهان بأنه الحق بذاته، وأن كل ما في العالم فإنما هو محقق له، وإنما كان حقًّا بالباري ولولاه لم يكن حقًّا فهذا هو البرهان الصحيح الثابت الذي لا يعارَض ببرهان وهذا هو نفي التشبيه. ثم إننا ننفي عن الباري جميع صفات العالم فنقول إنه لا يجهل أصلًا ولا يفضل البتة ولا يسهو ولا ينام ولا يحس ولا يخفى عليه مثلهم ولا يعجز عن مسئول عنه لأننا قد بَيَّنَّا من كتابنا أن الله بخلاف خلقه من كل وجه، فوجب نفي كل ما يوصف به شيء مما في العالم (الفصل، ج٢، ص١٤٤).
٣١٨  كان الجبائي يقول: لا يجوز وصف الباري بأنه كامل لأن الكامل هو من تمت خصاله وأبعاضه، ولأن الكامل في بدنه هو الذي قد تمت أبعاضه، وكذلك الكامل في خصاله من تمت خصاله مِنَّا نحو كمال الرجل في علمه وعقله ورأيه وقوله وفصاحته. فلما كان الله لا يوصف بالأبعاض لم يجز أن يوصف بالكمال في ذاته ولا بالنقصان. ولما لم يجز أن يشرف بأفعاله لم يجز أن يوصف بالكمال في ذاته من جهة الأفعال، فكذلك لا يوصف بأنه وافر لأن معنى ذلك كمعنى الكامل، وكذلك لا يُقال تام لأن تأويل التام والكامل واحد (مقالات، ج٢، ص٢٠٠).
٣١٩  الكامل من تمت خصاله وأبعاضه، ولا يوصف بالشجاعة لأنها جراءة على المكاره (مقالات، ج٢، ص٢٠٠).
٣٢٠  الفصل، ج٢، ص١٥٥–١٦٩.
٣٢١  ورد لفظ الإرادة ومشتقاته في أصل الوحي ١٤٧ مرة، كلها أفعال، ولا يوجد اسم واحد في صيغة إرادة مما يدل على أن الإرادة فعل وليست صفة أو اسم فعل أو اسم فاعل. تستبعد منها ٩ مرات في صيغة «راود» بمعنى الإرادة المتبادلة، المراودة عن النفس (٧ مرات) أو عن الضيف أو عن الأب. ومرة واحدة بمعنى يبطئ «رويدًا». أمَّا الأفعال فمنها حوالي ٥٠ مرة والأكثر ٨٨ مرة للإنسان، منها ٣٠ مرة للمنافقين والذين يتبعون الشهوات والذين في قلوبهم مرض، والباقي إمَّا سلبًا لمن أراد أن يبطئ أو يتبع الشهوات أو من كان يريد ثواب الدنيا أو العاجلة إيجابًا لمن كان يريد الآخرة أو أن يكون عبدًا شكورًا. والباقي للإنسان أو للمؤمنين أو للنبي أو للأزواج أو النساء أو الشيطان أو حتى للجدار تشبيهًا في: جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فليس الفعل لله، بل للإنسان حقيقةً، وللطبيعة مجازًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤