(١) مقدمة، السباعي: العلم، القدرة، الحياة، السمع، البصر، الكلام،
الإرادة
لم تستقر صفات الذات في سبع إلا متأخرًا. فقد كانت الصفات عامة دون تفريق بين
صفات ذات وصفات فعل، أو بين صفات وأوصاف، أو بين صفات وأسماء. فمع الصفات السبع
وضع الأشاعرة أحيانًا بعض الأسماء مثل الجلال والإكرام والجود والإنعام
والعظمة، فيتم التداخل بين الصفات والأوصاف أو بين الصفات والأسماء.
١ وقبل استقرار البناء النظري للصفات، تظهر وكأنها لا تعد ولا تحصى.
ولكن يثبت العلم والسمع والبصر والحياة بلا ترتيب، ويرفض القِدَم وغيرها من
الصفات التي لم تذكر نقلًا. وتدخل أوصاف الذات مع صفاتها، وصفاتها مع أسمائها،
ولا تتأكد القدرة في الثلاثي، وتتداخل صفات التشبيه مع مظاهر الإرادة.
٢ كما تظهر الصفات في العقائد المتأخرة متداخلة مع الأوصاف.
٣ وتدخل بعض أوصاف الذات ضمن صفات محتملة كالقِدَم وراء البقاء
وإرجاع بعض صفات التشبيه إلى صفات تنزيه مثل إرجاع الوجه إلى الوجود.
٤
وقد تزيد الصفات السبع إلى اثنتي عشرة صفة أكثر من ذلك أو أقل. فتزيد القوة
على الثلاثي، وتنفصل الإرادة إلى إرادة ومشيئة، ثم تُضاف ثلاث أخرى: الفعل
والتخليق والترزيق، على الكلام، فيكون المجموع اثنتي عشرة صفة. والحقيقة أن
القوة تكرار للقدرة، والإرادة والمشيئة شيء واحد، أمَّا الفعل والتخليق
والترزيق فهي صفة التكوين.
٥ وقد لا يكون التكوين صفة مستقلة، بل داخلة في القدرة.
٦ وقد تدخل صفات ثلاث أخرى: وصف الوحدانية للذات ثم صفتان وهما قائم
وغني على الصفات السبع، تبدأ بالحياة ثم القدرة ثم تدخل إرادة في الثلاثي ويدخل
العلم في الرباعي، ويكون المجموع عشرًا.
٧ وقد تدخل بعض أوصاف الذات مثل: موجود، قديم، باقٍ، وتنفصل
الوحدانية إلى واحد وأحد مع صفات الذات ويكون المجموع اثنتي عشرة صفة.
٨ ولأول مرة تظهر صفة الإلهية كصفة زائدة على الثمانية.
٩ فإذا ما أُثير سؤال: هل يمكن إدراك وصف الذات؟ وبالتالي يدخل موضوع
الرؤية وافتراض الحاسة السادسة وكأن الصفات ليست تصورات عقلية بل رؤى عينية.
وفي بعض الرسائل الإصلاحية يضطرب الإحصاء، وتظهر الحياة والعلم والإرادة
والقدرة والاختيار والوحدة، ثم الصفات السمعية، مثل: الكلام، والبصر، والسمع،
بزيادة الاختيار والوحدة من أوصاف الذات نظرًا لأهمية الاختيار في حرية
الأفعال، ويكون المجموع تسعًا.
١٠ وتظهر لأول مرة مسألة عدد الصفات في القرن السادس، هل ثمانٍ أم
أكثر أو أقل، في معرض التخصيص ونفي المخصصات والمقادير في رفض التشبيه، وكأن
إحصاء الصفات نوع من التشبيه وذلك بإدخال نوع من التجسيم العقلي والتصوير
الذهني للساكن.
١١
وقد تبدو الصفات أقل من سبع، خمس أو أقل، خاصةً إذا ما غاب العد والإحصاء،
وبقيت كل صفة وما بها من مسائل وأهمها العلم والإرادة والكلام والسمع والبصر،
وتختفي القدرة والحياة. قد تكون الصفات خمسًا: القدرة، والعلم، والحياة،
والسمع، والبصر، ثم تدخل الإرادة في العدل. فإذا كانت الإرادة في العدم لتعلقها
بحرية الأفعال، فلماذا الكلام؟ وتتصدر القدرة العلم في الثلاثي كاملًا لأهمية
القدرة في نظرية العدل.
١٢ وقد لا تذكر الصفات كلها، بل بضع منها فقط، وإسقاط الحياة مثل
الإرادة، العلم، القدرة، الكلام، الإدراكات.
ولأول مرة تظهر الصفات السبع على أنها صفات معنوية يمكن إثبات العلم بها.
١٣ وتظهر مسألة الصفات الأزلية حتى يتم إحكامها.
١٤ وقد تُسَمَّى الصفات السبع صفات المعاني ثم يذكر إثبات الصفات
السبع ثانية كصفات معنوية تأكيدًا لإثبات الصفات.
١٥ وتثبت الصفات المعنوية لإثبات الأحوال. فالأشياء أربعة: موجودات،
ومعدومات، وأحوال، واعتبارات.
١٦ ولكل صفة مطلب، وهو وضع أوصاف الذات الست كمطالب لصفاتها السبع
وزيادة مطلب سابع وهو التعلق بجميع الممكنات، فصفات المعاني السبع لكل واحدة
سبعة مطالب إلا الحياة فلها ستة، وبالتالي الجملة ثمانية وأربعين مطلبًا.
١٧ وقد تنقسم الصفات إلى قسمين: صفات تتوقف عليها أفعال كالقدرة
والعلم والحياة وسائر الصفات مثل الإرادة ثم السمع والبصر والكلام (مع البقاء
والاستواء والتكوين).
١٨
ويبدو أنه لم يكن هناك وعي في الترتيب، وأن الأمر كان مجرد إحصاء دون بناء
نظري محكم. كان الأمر مدحًا، وكيل المدح بصرف النظر عن طريقة التقديم.
١٩ وكانت العبارات إنشائية خالصة قبل أن تتحول إلى مصطلحات دقيقة كما
مرت في تاريخ كل دين في العقائد المسيحية مثلًا من تعظيم المسيح إلى ألقاب
المسيح إلى عقائد المسيح.
٢٠
وهذا التقسيم السُّباعي بالرغم من شيوعه عند القدماء، إلا أنه ليس جامعًا
مانعًا، فتدخل معه صفات غيره دون أن تكون جزءًا من الثلاثي أو الرباعي مثل
الألوهية أو البقاء أو العدم أو التكوين التي أفاض فيها القدماء كصفة مستقلة ثامنة.
٢١ ويدخل السباعي فيما يجب على الله كما دخلت أوصاف الذات فيما يستحيل
على الله.
٢٢ وفي هذه الحالة تكون هناك سبع صفات للمعاني قد يختلف ترتيبها أو
يتبع الترتيب المستقر. وكل صفة لها متعلق. فتضم القدرة والإرادة معًا لتعلقهما
بالممكنات، والعلم والكلام يتعلقان بجميع الواجبات والممكنات والمستحيلات،
والسمع والبصر يتعلقان بجميع الموجودات، والحياة لا تتعلق بشيء.
٢٣ المتعلق إذن على ثلاثة أنواع، تعلق تأثير مثل القدرة والإرادة،
وتعلق انكشاف مثل تعلق السمع والبصر والعلم، وتعلق دلالة مثل تعلق الكلام. تعلق
العلم مع السمع والبصر، وتعلق الكلام بمفرده.
٢٤ لذلك تثبت الصفات على أنها أسماء فعل وأسماء مفعولات، فتثبت القدرة
والمقدورات، والعلم والمعلومات، والسمع والمسموعات، والرؤية والمرئيات،
والإرادة والمرادات، والكلام ووجوه الكلام، إلا الحياة، فليس لها اسم مفعول
لأنه ليس متعديًّا بل لازم. فالحياة ذات وموضوع في آن واحد، أنا أحيا وأنا
موضوع حياتي.
وقد يتداخل الثلاثي والرباعي، فالفصل بينهما غير شائع ولا وارد بالرغم مما
بين المجموعتين من اختلاف في المستويات في التنزيه والتشبيه وفي الذات والفعل.
قد لا يوجد الثلاثي خالصًا، بل يوجد باستمرار متداخلًا مع الرباعي أو حتى مع
أوصاف الذات أو مع باقي الصفات والأسماء. وفي العقائد المتقدمة لا تظهر الصفات
الثلاث في مجموعة ثلاثية، ولا يثبت إلا العلم كنموذج لإثبات الصفات دون وعي
بالثلاثي أو بترتيبه. وتظهر الصفات الثلاث مع ذكر أوصاف الذات. ويظهر العلم
لإثبات الصفات والقدرة والحياة من أوصاف الصانع.
٢٥ قد يتدخل الثلاثي مع الرباعي كما هو الحال في العقائد المتأخرة،
فتُزاد الإرادة مع القدرة. وقد تُضاف الإرادة بعد القدرة، وتصير القدرة
والإرادة والعلم والحياة.
٢٦ وقد يتم التركيز على العلم والحياة من الثلاثي، ولا تظهر القدرة
إلا مع صفات التشبيه أو مع المظاهر الانفعالية للإرادة.
٢٧ ثم يأتي الكلام مركَّزًا على إعجاز القرآن، فالإرادة إذن هي العنصر
المزاحم والنافر من الرباعي إلى الثلاثي. فقد تأتي الإرادة بدل الحياة.
٢٨ وقد تبدأ القدرة السباعي وتُضاف إليها الإرادة وتأتي الحياة بدلًا
عنها في أول الرباعي.
٢٩ وفي العقائد المتأخرة يذكر السباعي ابتداءً من الحياة بعدها
الإرادة ثم العلم، فيصير الرباعي ثلاثيًّا والثلاثي رباعيًّا بنقل الإرادة من
الرباعي إلى الثلاثي.
٣٠ وقد تأتي الإرادة في آخر الثلاثي والحياة في أول الرباعي.
٣١ وقد يتداخل الثلاثي في الرباعي كليةً فتدخل الإرادة والسمع والبصر
مع القدرة في رباعي، وتدخل الحياة والعلم مع الكلام في ثلاثي.
٣٢ وقد تتصدر القدرة السباعي وبعدها الإرادة ثم العلم، وتتصدر الحياة الرباعي.
٣٣ وقد تتصدر القدرة ثم العلم ولا تظهر الحياة إلا مع الرباعي بين
الإرادة والكلام.
٣٤ وقد تتصدر الحياة الثلاثي والإرادة الرباعي.
٣٥ وقد ترحل الحياة من الثلاثي وتصبح ثاني وصف في الرباعي، وتأتي
الإرادة الصفة الأخيرة في الرباعي بدلًا عنها.
٣٦ وقد تأتي الإرادة أول وصف وتأتي الحياة في آخر السباعي ثم تأتي
القدرة بعد الإرادة نظرًا لارتباطهما معًا.
٣٧ وقد يأتي السمع والبصر مع الرباعي كبديل عن الحياة في الثلاثي
نظرًا لارتباط السمع والبصر بالعلم.
٣٨
ويُلاحَظ بالرغم من اختلاف مقاييس التصنيف عند القدماء أن التصنيف الشائع هو
جعل الصفات سبعًا في ثلاثي ثم في رباعي. يضم الثلاثي العلم والقدرة والحياة،
ويضم الرباعي السمع والبصر والكلام والإرادة.
٣٩ يضم الثلاثي صفات الذات المطلقة التي ليس لها محل والتي هي أقرب
إلى التنزيه، في حين أن الرباعي قد يتضمن صفات الفعل التي لها محل والتي قد
توحي ببعض التشبيه. وهناك بعض الصفات المتكررة، فالقدرة هي الإرادة، والسمع
والبصر كلاهما من ضرورات العلم، والكلام هو القرآن أي التعبير عن العلم
وإيصاله. فإذا أمكن رد الإرادة إلى القدرة، والسمع والبصر إلى العلم، كان لدينا
فقط العلم والقدرة والحياة. وبالتالي يمكن رد الرباعي الذي يخاطر بالتشبيه إلى
الثلاثي الذي في أمان التنزيه. يأخذ العلم ثلاث صفات، والقدرة واحدة، وتبقى
الحياة. وذلك يعني أن الحياة تظهر في صورتين: العلم والقدرة، أي العقل النظري
والعقل العملي. أمَّا الكلام فهو وسيلة الانتقال من النظر إلى العمل، أي أنه
الحكم على العالم بالنظر من خلال العمل. ويكون الكلام تعبيرًا عن الحياة بشقيها
النظري والعملي.
وقد تأتي براهين كلية وشاملة على الصفات السبع كلها مرة واحدة، ودعامتها
الأولى استحالة الحدوث والنقص. لذلك ارتبطت الصفات السبع بأضدادها السبع. ما
يجب لله وما يستحيل على الله. فالعلم ضد الجهل، والقدرة ضد العجز، والحياة ضد
الموت، والسمع ضد الصمم، والبصر ضد العمى، والكلام ضد البكم، والإرادة ضد
الكراهية. ويصل أهمية الضد إلى أن تصبح الصفات المضادة صفات. ولما كانت الصفات
سبعة معنوية وأضدادها سبعًا، وسبعة معانٍ وأضدادها سبعة، فيكون مجموعها ثمانٍ
وعشرين صفة.
٤٠ وعندما تتركز العقائد كلها في قطبي التوحيد والنبوة في «لا إله إلا
الله محمد رسول الله»، ويوضع التوحيد كله بين فعلي الاستغناء والافتقار، مستغنٍ
عن كل ما سواه، وافتقار كل ما عداه إليه، تظهر ثلاث صفات من الرباعي في
الاستغناء، ويظهر الثلاثي مع الصفة الباقي من الرباعي، وهي الإرادة، في افتقار
كل ما عداه إليه.
٤١ ويمكن البرهنة عقلًا على الثلاثي بمفرده، أمَّا الرباعي فيغلب عليه
البرهان النقلي. لو انتفى من الثلاثي شيء لما وجد شيء من الحوادث، أمَّا
الرباعي فيسهل البرهنة عليه من الكتاب والسنة والإجماع بالإضافة إلى استحالة
سريان النقص عليها وإبقاء برهان الكمال. لو انتفت القدرة والإرادة كمتعلق لها،
والعلم والحياة، لما وجدت المخلوقات حتى يحدث العقل والتأثير والقصد والخلق.
٤٢
(١-١) الثلاثي: العلم، القدرة، الحياة
وكما يكون الثلاثي زائدًا، فإنه يكون ناقصًا، فتختفي القدرة وتظهر ضمن
الحياة، ويكون التركيز على الحياة والعلم فقط.
٤٣ وقد لا يظهر من الثلاثي إلا العلم عندما تتحول الصفات إلى
مسائل دون إحصاء لها.
٤٤ وقد يظهر العلم والقدرة وتختفي الحياة. ولكن استقر الثلاثي:
العلم والقدرة والحياة، دونما زيادة أو نقصان.
٤٥ وقد اضطرب الترتيب أيضًا قبل أن يستقر على هذا النحو. فقد تأتي
الحياة قبل العلم،
٤٦ وقد تأتي القدرة قبل العلم،
٤٧ تصديرًا للثلاثي.
٤٨
والسؤال الآن: هل يخضع هذا الترتيب النمطي لضرورة عقلية منطقية أم لضرورة
حسية واقعية؟ فإن لم تكن الضرورة عقلية منطقية، فكيف يمكن معرفة واقع
المؤلَّه إن لم يتم ذلك بقياس الغائب على الشاهد؟ لا توجد ضرورة واقعية في
المؤلَّه تقتضي هذا الترتيب: العلم القدرة الحياة؛ لأن المؤلَّه تشخيص
لعملية التأليه، أي أننا في ميدان العمليات الشعورية الخالصة وليس له وجود
في الخارج، وحتى على افتراض وجود إله في الخارج طبقًا لمقتضيات الدليل
الأنطولوجي، فإنه لا يمكن الوصول إليه إلا بالعقل، أي أننا لا بد وأن نرجع
ثانيةً إلى عالم الأذهان، وفي هذه الحالة يعطينا الشعور الاحتمالات الستة
السابقة، ويكون أولها: العلم القدرة الحياة، هو المعبر عن هذه الضرورة
الذهنية. فللعلم والقدرة الأولوية على الحياة لأن العلم والقدرة أقل
تشبيهًا من الحياة، لا يتطلبان محلًّا، في حين أن الحياة تحتاج إلى محل.
ويكون للعلم الأولوية على القدرة لأن القدرة تحتاج إلى محل تظهر فيه في حين
أن العلم لا يحتاج لدرجة التنزيه. فالصفة المنزهة سابقة على الصفة التي
توحي بالتشبيه، وهو المقياس العام لتصنيف الصفات وترتيبها. والحقيقة أن هذه
الصفات ليست معنوية خالصة، فالعلم يقتضي العقل، والقدرة تتطلب الإرادة،
والحياة تتطلب القلب أو النفس أو الحرارة. فهي كلها صفات تشبيه وإن كان
تشبيهًا معنويًّا.
وقد يدل هذا الترتيب على أن النظر يسبق العمل، والمعرفة تسبق القيمة،
والقدرة تدل على أن العمل تالٍ للنظر، والوجود لاحق على المعرفة. أمَّا
الحياة فهي شرط الجميع، وإن شئنا تكون الحياة نظرًا وعملًا، معرفةً
ووجودًا، تخطيطًا وتحقيقًا، مثالًا وواقعًا. العلم والعمل ينشآن في الحياة،
والحياة تعبر عن نفسها في العلم والعمل. العلم وصف للخبرات الشعورية وتحليل
لها من أجل تغيير الواقع بالمعنى أو بالفعل وهو العمل. النظر يسبق العمل،
والعمل يلي النظر، والحياة شرطهما معًا. لا يمكن للحياة أن تتلو العلم
وتسبق القدرة، فالعمل تالٍ للنظر، والعلم يولد القدرة. ولا يمكن أن تبدأ
القدرة، فالقدرة بلا علم عمل عشوائي أهوج غير مقصود. ولا يمكن أن تتلو
الحياة القدرة، ويأتي العلم في النهاية وإلا كانت القدرة مجرد تعبير عن
الحياة في إرادة القوة. ولا يمكن أن تبدأ الحياة، فالحياة وحدها يشارك فيها
الإنسان والحيوان والنبات، ولا تميز الإنسان وحده كالعلم. ولا يمكن أن يأتي
العلم بعد الحياة. ولا يمكن أن تبدأ الحياة تتلوها القدرة، فتكون هناك
إرادة القوة، ولا يظهر العلم إلا في النهاية مبررًا وتاليًا
ولاحقًا.
وقد تكون العلاقة بين الصفات الثلاث علاقة شرط بمشروط. فالحياة شرط العلم
والقدرة. لا علم ولا قدرة بدون حياة. ولكن يأتي المشروط وهو العلم والقدرة
في الترتيب سابقًا على الشرط وهو الحياة؛ لذلك تساءل القدماء: هل يجمع بين
العلم والقدرة الموت؟ هل يمكن وجود المشروط دون الشارط؟ والجواب الطبيعي هو
النفي؛ لأنه يستحيل منطقيًّا تصور المشروط بدون الشارط.
٤٩ أمَّا الجواب بالإثبات فهو جواب ذهني خالص يقوم على افتراض
استحالة ثم إثبات إمكانها دليلًا على العظمة والجلال والقدرة المطلقة التي
تثبت معجزة عقلية، وهي إمكانية وجود الأضداد على خلاف العالم الإنساني الذي
يستحيل فيه وجود الأضداد مجتمعة.
٥٠ وإذا وجدت فإنها تدل أيضًا على قدرة المؤلَّه في الطبيعة وعلى
قدرته الجمع بين الأضداد في الخلق. وبالتالي يكون السؤال أساسًا موضوعًا
ليسمح بإجابة تعبر عن عواطف التعظيم والإجلال، وهي عواطف تعطي أحكام قيمة
على عواطف التأليه. فهو ليس سؤالًا موضوعيًّا يعبر عن مشكلة واقعية، بل
سؤال موجه نحو الذات، ونحو شخص المتكلم من أجل أن يسمح لنفسه بالتعبير عن
عواطف التعظيم والإجلال حتى لا يظل على المستوى الإنساني وحتى ينفي أي
مشاركة في الصفات. وقد تكون القدرة والحياة معًا شرطًا للعلم، ولكنهما أبعد
عن المعقول من كون الحياة شرطًا للعلم والقدرة.
٥١ وفي هذه الحالة يستحيل فصل القدرة عن الحياة، فكلاهما شرط
العلم. فإذا تميز العلم في صفة بمفرده، فقد توضع القدرة والحياة معًا غير
منفردين.
وبالرغم مما يُقال عن هذه الصفات الثلاث، وحدتها وافتراقها، مشروطها وشارطها،
٥٢ فإنها في الحقيقة ملكات نفسية مشخصة ولا يمكن فهمها إلا
بإرجاعها إلى تحليل وظائف الملكات النفسية. فإذا أخذنا التصور التقليدي
للثلاثي من أن الحياة شرط العلم، والعلم والقدرة مشروطان، نجد أن الحياة هو
الأساس، وأن العلم والقدرة لا يوجدان بدون الحياة. ويكون العلم حينئذٍ هو
المظهر العاقل للحياة، والقدرة هي المظهر الفاعل لها. العلم هو النظر،
والقدرة هي العمل، الوجه الآخر للنظر أو مصير النظر وغايته، والحياة شرط
النظر والعمل، فالحياة لها مظهران: نظر وعمل. الصفات الثلاث إذن: العلم،
والقدرة، والحياة، هي صفات الإنسان الثلاثة. تظهر القدرة من الإنسان الحر
القادر، ويظهر العلم في الإنسان العاقل، وتظهر الحياة في الإنسان الفاعل،
فالحياة هي الفعل، والعقل هو الحياة.
وبالإضافة إلى العلاقات الثلاثية إذا دخلت كل صفة في علاقة ثنائية مع
أخرى تكون لدينا ثلاث علاقات: العلم والقدرة، الحياة والقدرة، العلم
والحياة. فعلاقة العلم بالقدرة عند القدماء علاقة تبعية. العلم لاحق على
الإرادة كحل لمسألة حدوث الصفات وقِدَمها. والعلاقة في الحقيقة علاقة
إنسانية خالصة. العلم بلا قدرة علم العجائز، والقدرة بلا علم تعصب أعمى.
العلم هو العلم القادر على التنفيذ وليس العلم الأجوف، والقدرة هي القدرة
الواعية لا القوة الخرقاء. وهذا مطلب إنساني خالص. فكثيرًا ما نجد في
الحياة العامة انفصل العلم عن القدرة. هناك علم عاجز لا يؤدي إلى فعل. كما
أن هناك قوة غاشمة لا تستند إلى علم. حق الضعفاء علم بلا قدرة، وبطش
الظالمين قدرة بلا علم. وهو الصراع التقليدي بين الحق والقوة، وهذا لا يعني
الوقوع في البرجماتية الخالصة لأن العلم ما زال موجودًا.
٥٣
وعلاقة القدرة بالحياة وضعها القدماء في صيغة السؤال التالي: هل يجوز أن
تفرد الحياة من القدرة؟ وهو تساؤل لا عن واقع بل قائم على وضع استحالة
منطقية وافتراض قيام المشروط على الشارط. الإجابة بالنفي رغبةً في اتِّباع
المنطق وهو موقف إنساني عاقل. الكل لا يستنبط من الجزء.
٥٤ والإجابة بالإيجاب رغبةً في الوقوع في التناقض كنوع من المعجزة
العقلية ثم تجاوزها للتعبير عن عواطف التعظيم والإجلال، ويكون استخراج الكل
من الجزء أكثر تعبيرًا عن العظمة والجلال؛ لأنه يتجاوز حدود الموقف
الإنساني.
وعلاقة العلم بالحياة لم يتكلم عنها أحد من القدماء في حين أنها الموضوع
الأساسي في تأسيس العلم. الحياة موضوع العلم، والعلم هو الأساس النظري
للحياة. وتحدث الأزمة في العلم عندما ينفصل العلم عن الحياة فيكون العلم
منقولًا لبيئة دون أن يكون تعبيرًا عن حياتها أو مبتورًا من بيئة أخرى،
ويظن أن علم عام لكل عصر في حين أنه علم خاص نشأ في بيئة معينة وظروف خاصة
لا يمكن تعميمه في بيئة أخرى، ولا يمكن تفسيره إلا بإرجاعه إلى بيئته
الأصلية، وهي بيئة مؤقتة تتغير ويتغير العلم طبقًا لها. نقل العلم يخرجه من
ظروفه ومن حركته التاريخية وأخذه لفترة من فترات التاريخ وحدها على أنها كل
الفترات وكل العصور.
٥٥ فضلًا عن طمس البيئة بعلم دون تنظير مباشر للواقع الخاص. وهناك
فرق إذن بين نقل العلم وإنشاء العلم. والتنظير المباشر للواقع هو السبيل
لإنشاء العلم حتى ولو كانت هناك تجارب مشابهة سابقة وتنظير محكم. العلم هو
العلم في الشعور وليس العلم المنقول. «العلم في الرأس لا في
الكراس.»
ولا يوجد في هذا الثلاثي أي مؤثرات أجنبية مسيحية أو غيرها. فمنهج الأثر
والتأثير غير مجدٍ في تحليلات الشعور التي ترد الفكرة التي أسسها النفسية
وليس إلى مصدرها التاريخي. يخضع هذا الثلاثي لضرورة عقلية خالصة ولمقاييس
التصنيف التي ارتضاها القدماء نقلًا أو عقلًا. فالصفات الثلاث تدل على صفات
الذات أو الصفات المعنوية أو الصفات الأولية بالنسبة إلى الرباعي. كما أن
الثلاثي يكشف عن ماهية التجربة الإنسانية وبنية الشعور كحياة وبُعديها في
النظر والعمل.
٥٦
(١-٢) الرباعي: السمع، البصر، الكلام، الإرادة
وهو أقرب إلى التشبيه من الثلاثي، فالصفات الثلاث الأولى حواس، لها أعضاء
حسية: الأذن والعين واللسان. وعادةً ما يأتي السمع والبصر معًا وكأنهما صفة
واحدة، وبهذا الترتيب يسبق السمع البصر إلا مرة واحدة يتغير الترتيب إلى
البصر والسمع أو توضع الإرادة بينهما.
٥٧ وقد ترتبط الإرادة بالكلام ارتباط السمع بالبصر؛ لأن الكلام لا
يصدر عن هوًى، بل هو وحي، ومِنْ ثَمَّ ارتبط بالإرادة التي يمتنع فيها
الهوى والانفعال. وقد يرتبط الكلام بالإرادة لإثبات قِدَم الكلام وخضوعه
لأمر «كن».
٥٨ وقد أخذت صفتا الكلام والإرادة أهمية أكبر من السمع والبصر.
فنظرًا لأهمية الإرادة يُعقد لها باب خاص بالإضافة إلى الصفات كما يُعقد
لخلق القرآن أبواب خاصة بالإضافة إلى الكلام.
٥٩ وقد تظهر الشيئية متميزة عن الإرادة، ويختفي الكلام وكأن
الشيئية بديل عنه.
٦٠ وقد يقل الرباعي إلى ثنائي السمع والبصر عندما تدخل الإرادة
والكلام في العدل ويخرجان من التوحيد، أي من نظرية الصفات إلى نظرية الأفعال.
٦١
والآن ما هو مقياس الترتيب النمطي القديم، السمع والبصر والكلام
والإرادة؟ السمع والبصر مرتبطان بالعلم ومستواه الحسي، والكلام هو التعبير
واللغة وإيصال العلم. والإرادة تجعل العلم والتعبير والعمل وباقي الصفات
خارجة عن نطاق الهوى والانفعال. السمع والبصر يلحقان بالعلم أي بالعقل
النظر، والإرادة تجعل العلم خالصًا لا يقوم على هوًى أو كراهة للعالم،
ويعبر عن العلم في كلام في العالم قبل أن يتحقق بالقدرة.
وقد يبدأ الكلام أول الرباعي نظرًا لأهمية الكلام على السمع والبصر
والإرادة، فيتصدر الرباعي. وقد يُعقَد له فصل خاص مع الإرادة باعتبارها أهم
من السمع والبصر، ولكن يغلب عليها نظرًا لأهميته، في حين توضع باقي الصفات
حتى العلم والقدرة والحياة متداخلة مع باقي أوصاف الذات ودليل الحدوث
والإعادة. وقد يظهر الكلام ضد نفاته من دعاة خلق القرآن، والإرادة ضد
نفاتها من دعاة حرية الأفعال، ويثبت السمع والبصر مع اليدين والوجه وباقي
صفات التشبيه مما يدل على اقتراب هاتين الصفتين بصفات التشبيه. وقد يبدأ
الرباعي بالإرادة نظرًا لأهميتها في حرية الأفعال، فتتصدر الإرادة.
٦٢
والرباعي: السمع والبصر والكلام والإرادة، صفات مطلقة كالثلاثي. وإذا
كانت توحي بالتشبيه فإن التشبيه في الحقيقة لا يعني الصفات الحسية بل
الصفات كصور فنية للتعبير عن معاني. الرباعي أقرب إلى وسيلة التعبير منه
إلى الشيء المعبر نفسه. وسيلة التعبير هي الصورة الفنية في حين أن الشيء
المعبر عنه هو المعني، وقد استطاع التنزيه حقًّا التمييز بين أسلوب الوحي
ومضمونه، ورفض اعتبار التصوير، وهو أسلوب التعبير في الوحي، هو المضمون
نفسه.
لذلك كان علماء البلاغة والنقد الأدبي أصدق في حديثهم عن أساليب
الاستعارة والكناية، وكذلك علماء القرآن في حديثهم عن التخييل من
المتكلمين. فالوحي لا يعطي أحكامًا على وقائع بل يعطي إيحاءات للتأثير على
النفوس. أحكام الوحي ليست أحكامًا طبيعيةً، بل أحكام شعورية. ولا يعني صدق
الوحي إعطاء وصف للتاريخ الموضوعي بل استخلاص المعنى المستفاد منه، أي أنه
يعطي معاني مستقلة لا حوادث مادية. وقد حاول الفلاسفة من قبل نفس الشيء
عندما تحدثوا عن ضرورة التأويل حتى يتفق النص مع العقل والحقائق الإنسانية
العامة. السمع والبصر والكلام توجد كصور فنية في الوجه. فالوجه أو الرأس
يحتوي على الأذن والعين والفم، وليس ذلك بأولى من الذوق والشم واللمس. فهل
السمع والبصر أقدر على الإدراك من اللمس والذوق والشم؟ هل الفنون السمعية
والبصرية، الموسيقى والشعر أو التصوير والرسم والنحت والعمارة والزخرفة
أقرب إلى النفس من فنون الطعوم والروائح والملموسات؟ هل أولوية السمع
والبصر في الترتيب تعطي أولوية للفنون السمعية على الفنون البصرية؟ أليس
الكلام سمعًا؟ وماذا عن باقي أعضاء البدن كوسيلة للكلام إمَّا بتعبيرات
الوجه أو بحركات اليدين كما هو الحال في فن الإيحاء ولغة البدن؟
٦٣
(٢) العلم
بالرغم من استقرار العلم على أنه أول صفة في السباعي، وبالتالي في الثلاثي،
إلا أنه يظهر أحيانًا مع أوصاف الذات.
٦٤ كما يظهر مع الأوصاف الستة الأخرى (باستثناء الكلام) ضمن الأوصاف.
٦٥ ويظهر بمفرده في معرض إثبات الصفات بعد الكلام وقبل الإرادة.
٦٦ وقد يظهر على أنه ثاني صفة في الثلاثي والسباعي معًا بعد القدرة أو
بعد الحياة.
٦٧ ويظهر كثالث صفة في السباعي والثلاثي معًا: القدرة والحياة والعلم
أو القدرة والإرادة والعلم.
٦٨ ومع ذلك استقر العلم على أنه الصفة الأولى حتى في حالة غياب العد
والإحصاء أو حتى في حكم نفي الصفات.
٦٩ ويظهر في المؤلفات المتأخرة على أنه الصفة الوحيدة في الثلاثي التي
تستحق معالجتها في فصل مستقل؛ لإثبات أنه أزلي واحد، متعلق بجميع المعلومات على
التفصيل، كلياتها وجزئياتها.
٧٠
وقد عرض القدماء لعدة مسائل في العلم مثل معرفة الله لذاته، ومعرفته لغيره،
سواء الجزئيات اللامتناهية أو الكليات المتناهية، والأدلة على العلم عند
الحكماء والمتكلمين. فقد سأل القدماء هل يعلم الله ذاته؟ العلم هنا متجه نحو
الذات، أي أنه علم بالذات لذاتها، وليس علمًا بموضوع خارج عنها، الذات ذات
وموضوع. فالإجابة بالنفي تقوم على أن العلم أعراض. فلو علم ذاته لكانت مُضافة
إلى نفسه، وإضافة الشيء إلى نفسه محال. ولكن الوعي بالذات ممكن وقائم، وعي
الذات بالذات لا يستحيل، ولا يدل ذلك على قسمة بل على درجة من الذاتية فتنبثق
الموضوعية منها. والإجابة بالإيجاب تجعل علم المؤلَّه المشخص بذاته أليق، فكيف
بعالم لا يعلم ذاته؟ هناك علم من ناحية وذات من ناحية أخرى. ولما كان العلم
مطلقًا فإنه يشمل العلم بالذات. وكيف بعالم يعلم الخارج ولا يعلم ذاته؟ بل إن
العالم بالذات شرط العلم بالعالم الخارجي.
٧١
وإذا كان العلم بالذات ممكنًا فإن العلم بالغير يكون ممكنًا كذلك، فالعلم
بالذات هو علم بالغير لأن الذات هي الغير، بل إن الوعي بالذات هو في نفس الوقت
وعي بشيء أي وعي بالآخر، وهذا لا يعني أن هناك علمين: علم بالذات وعلم
بالموضوع، بل علم واحد، وتغاير الموضوع لا يعني تغاير العلم. ليس هناك علم
بالذات يكون أشرف من العلم بالموضوع كصفة للذات، فهذه ثنائية تركيبية لا توجد
في وحدانية الذات. وليس من شرف الذات أن تكون وعيًا فارغًا، وعيًا بلا شيء،
خارج نطاق العالم، فهذا إسقاط للموضوع وتحديد للعقل وتفضيل لحكم الشرف والقيمة
على حكم العقل والواقع. ويقوم إنكار علم الذات بالغير على عدة حجج منها: أنه لو
عقل شيئًا لعقل ذاته، وهذا محال لاستحالة حصول النسبة بين الشيء ونفسه، وهو
محال. وهي حجة مبنية على افتراض مسبق هو استحالة العلم بالذات، كما أن علمه لا
يكون ذاته وإلا كان ذاته قابلًا وفاعلًا أي موضوعًا وذاتًا، وهو محال. لو قامت
بذاته صفة لكانت ذاته مقتضية لها، فيكون قابلًا وفاعلًا معًا وهو محال.
والحقيقة أن هذه الحجة تقوم أيضًا على افتراض استحالة العلم بالذات ولا تقوم
إذا ما ثبت خطأ الافتراض. فإن قيل أيضًا: لو كان العلم صفة كمال لكان الموصوف
به ناقصًا لذاته ومستكملًا بغيره، وهي نفس حجة نفي الصفات. والحقيقة أن الوعي
بشيء ليس نقصًا في الوعي بالذات، بل أحد مظاهر كماله، وإلا كان الوعي فارغًا
بلا مضمون. ولا يدل ذلك على احتياج وعوز وفقر، فتلك لغة تشبيهية إنسانية، ولكن
تدل على بناء الوعي على أنه وعي بذاته ووعي بغيره. أمَّا باقي الحجج فإنها
مستمدة من الحجج العامة لإثبات الصفات، مثل احتمال تعدد القدماء إذا ثبتت
الصفات أو افتراض التركيب ضد الوحدانية، وأن العالمية والقادرية واجبتان ولا
تعللان بقدرة أو بعلم، فالموجب للعالمية ذاته إمَّا بواسطة (الصفاتية)، أو بلا
واسطة. والعلم لا يختص بمعلوم دون معلوم وإلا وجب الحدوث والترجيح والتخصيص
والإضافة والتأثير. وقد تُقال حجة جدلية لنفي علم كل شيء مثل أنه لو علم شيئًا
لعلمه بعلم، وهذا العلم الثاني بعلم ثالث ويتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية،
وبالتالي يستحيل العلم لأن الوعي بالذات لا يحتاج إلى وعي بالوعي لأن الوعي
بالوعي هو وعي بالذات، علم كامل لا يحتاج إلى علم آخر كي يتم العلم به. وبداهة
التجربة الإنسانية وإدراكها المباشر أصدق من أية حجة جدلية منطقية صورية فارغة.
٧٢
وقد ينكر العلم بما لا نهاية له، فلا يعقل إلا المتناهي، وذلك لأن المعلومات
تتطرق إليها الزيادة والنقصان ولأن كل معلوم متميز عن غيره مفتقر إليه، فهو
متناهٍ، ولأن العلم بالمعلوم مخالف للعلم بغيره، فلو كانت المعلومات غير
متناهية لكانت العلوم كذلك. والحقيقة أن هذا خلط بين موضوع العلم وقانون العلم.
فإذا كانت موضوعات العلم غير متناهية فلأنها جزئية، والأجزاء لا تتناهى، أمَّا
إذا كان موضوع العلم هو القانون العلمي فالقانون متناهٍ لأنه مطَّرد في عدد لا
متناهٍ من الأجزاء.
٧٣
لذلك أنكر الحكماء العلم بالجزئيات، أي بالوقائع اللامتناهية عدًّا وإحصاءً
وإدراكًا، وأثبتوا فقط العلم بالكليات عقلًا واستنباطًا واطِّرادًا. وحجة
الفلاسفة أن ذلك يوجب تغيُّرًا في علم الله وجهلًا بتغير الوقائع. وقد رد
المتكلمون على الحكماء بعدة حجج، منها أن فاعل أبدان الحيوانات لا بد أن يكون
عالمًا بجزئياتها، وأن العلم صفة كمال تجب لله والجهل صفة نقص تستحيل على الله.
ولما كان العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول، وجب علم الله بالجزئيات، فعلم الله
الأزلي فيه ماضٍ وحاضر ومستقبل، فحقيقة أنه سيقع غير حقيقة أنه وقع لاختلاف
المتعلقين، وأن شرط العلم هو الوقوع، ويمكن العلم بأنه وقع مع الجهل بأنه سيقع
وهو مُحال. والحقيقة أن هذه مسألة إنسانية صرفة يظهر فيها التقابل بين العلم
القبلي العقلي الاستنباطي والعلم البعدي الحسي الاستقرائي، وكلاهما مطلبان
للمعرفة الإنسانية، والتوحيد بينهما أحد غايات الحكمة. وبالرغم من علم الذات
بالغير إلا أنه علم قبلي، سابق على البداهة. ومن الطبيعي أن يركز الحكماء عليه
لأنه في الذهن الإنساني سابق على التجربة، وبالتالي أشرف من العلم التجريبي
المستقى من العالم الخارجي، الأوَّل صوري عام يقيني والثاني مادي جزئي ظني.
لذلك كانت المثالية أكبر تعبير عقلي عن عواطف التأليه، فإذا حاول العلم الطبيعي
التعرف على نظام الكون والتعبير عنه في نظرية مستقلة، فهو ليس صفة مجردة لكائن
مشخص، بل فهم للطبيعة في مقابل ما بعد الطبيعة التي تحاول فهم هذا العلم كنسق
عقلي خالص لا شأن له بالطبيعة. ومن صفات العلم الشامل هو التحقق. لذلك لم ينفصل
عن المشيئة والإرادة. فهو عالم بكل الكليات والجزئيات، الموجودات والمعدومات،
الغائبات والحاضرات، المتغيرات والمفارقات، الواجبات والممكنات، عالم بما وقع
وبما سيقع كيف يقع وبما لم يقع لو وقع كيف كان سيقع! فالعلم أعم تعلُّقًا من
القدرة لأنها تختص بالممكنات دون الواجبات والممتنعات.
٧٤
ومع ذلك يثبت الحكماء العلم. فالواجب عالم لأنه مجرد، وكل مجرد عالم لأن
التجرد يستلزم المعقولية والبراءة من الشوائب، وعلمه مجرد لا ينال إلا
بالتجريد. العلم هو صور المعلومات القائمة بنفسها أو بذاته. أي أن الحكماء
يثبتون العلم بدليل مزدوج مؤداه أن الله مجرد، وكل مجرد عاقل لجميع الكليات،
وأنه يعقل ذاته وبالتالي فإنه يعقل ما عداه وهو دليل عقلي استنباطي صوري خالص.
كما أشار الفلاسفة إلى دليل الإتقان نظرًا لأن أفعال محكمة متقنة، وبالتالي فهو
عالم. المقدمة الأولى حسية، والثانية عقلية، ولكن الغالب عليهم كان الحجة الأولى.
٧٥
والعلم عند المتكلمين صفة قائمة بذاته، تنكشف بها له جميع الأشياء من
الواجبات والممكنات والمستحيلات. العلم انكشاف، وهو صفة كمال في الوجود،
والانكشاف مقولة إنسانية خالصة توحي بجهل الشيء ثم علمه، وهو ما يستحيل على
الله. أمَّا تعريف العلم بأنه نسبة العالم إلى غيره فإنه أيضًا يعتمد على كون
الصفة غير الموصوف، وبالتالي الوقوع في مخاطر التغاير والتعدد على عكس العلم
القائم بالذات. وبالإضافة إلى مشاركة المتكلمين للحكماء في الدليل العقلي إلا
أنهم فصلوا الدليل الحسي إلى دليلين لإثبات العلم، دليل الإتقان ودليل القدرة.
ويقوم دليل الإتقان على أن نظام العالم وحكمة الصنع يقتضيان إثبات العلم، وأن
التأمل في المخلوقات لا بد وأن ينتهي إلى العلم بعلم الصانع، وكما هو واضح في
عديد من الآيات في أصل الوحي. يبدأ الدليل بالتأمل في أحوال المخلوقات وفي
تشريح الأبدان وفي مسار الأفلاك، وأن كل ذلك إنما يتم عن اختيار وتوجه وقصد،
ولا يمكن أن يقوم ذلك إلا بالعلم، إذ لا يمكن التوجه وقصد ما ليس بمعلوم. ويقوم
الدليل على أصلين: الأوَّل نظام الكون واتفاق الصنع والثاني دلالة ذلك على
الفعل المحكم وبالتالي عن كونه عالمًا، الأصل الأوَّل اضطراري والثاني
استدلالي. والاعتراض الأساسي على هذا الدليل هو وجود القبح والشر والفوضى في
العالم وكيفية تفسير ذلك أو تبريره. فمثلًا قد يكون خلق القبح لطفًا في أداء
الواجبات ودعوة لشكر النعم، وقد يكون ابتلاءً وامتحانًا واختبارًا وشحذًا للهمة
وإعمالًا للاختيار. والواقع أن هذا الدليل مثل الأدلة على إثبات الصانع تشخيص
لنظام الطبيعة. فنظام العالم ناتج عن قوانين الطبيعة الثابتة التي يكتشفها
العقل. وأن استعمال ذلك كدليل لإثبات عالم ذي علم مشخص هو استمرار في الخلط بين
العقل والوجدان، بين الفكر العلمي والفكر الديني.
٧٦
أمَّا دليل القدرة فإنه في حقيقة الأمر أقرب إلى إثبات القدرة منه إلى إثبات
العلم. ولكن نظرًا لارتباط القدرة بالعلم في الثلاثي، فإنه لا يمكن إثبات العلم
دون إثبات القدرة؛ لأن العلم واقع متحقق، ولا يمكن إثبات القدرة دون العلم وإلا
كانت قدرة عمياء هوجاء لا قصد فيها ولا توجه، وهو ما يناقض الوعي التي تقوم
الصفات به. يرتبط العلم بالقدرة، سواء من حيث الإثبات أو من حيث الوصف. فالعلم
أوسع من القدرة لأن العلم يتعلق بكل الممكنات والواجبات والمستحيلات، في حين أن
القدرة تتعلق بالممكنات وحدها. والحدث دليل على القدرة والأحكام في الحدث دليل
على العلم، الأوَّل يُعرَف بالضرورة والثاني يُعرَف بالاستدلال. فالقدرة والعلم
كلاهما يثبتان كنتيجة لإثبات حدوث العالم. وليس في الشاهد ما يقضي ثبوت أحدهما
دون الآخر، وليس فيه ما يؤدي إلى تعلق العلم الواحد بجميع المعلومات فحسب دون
تعلقه بالمقدورات؛ لأن الأوَّل يتعلق بجميع المعلومات الواجبة والممكنة
والمستحيلة، في حين أن المقدورات تتعلق بالممكنة وحدها. والحقيقة أن ذلك أيضًا
تشخيص للمقدورات. فلماذا لا تكون الطبيعة فاعلة بنفسها ما دامت الطبيعة عاقلة،
والعقل أحد مظاهر الوعي، وبالتالي يتطلب العقل المقدرة؟ فكل قادر عالم بالضرورة
وإن لم يكن كل عالم قادرًا نظرًا لأن العلم أوسع نطاقًا من القدرة.
٧٧
وقد يدمج الدليلان معًا في دليل واحد في عبارات إنشائية، ويكون أقرب إلى صور
ذهنية للتقليد البدائي منه إلى البراهين العقلية عندما يُقال مثلًا إن الاتساق
في الكون يدل على علم، والعلم يدل على العالم أو أن النظام في الكون يدل على
القدرة، والقدرة تدل على القادر. إذ يقوم هذا اللون من التفكير على تفسير
الظواهر الطبيعية بعلل خارجية، وهو ما يتنافى مع الفكر العلمي الذي يفسر
الظواهر من داخلها. كما أنه يعمم الملاحظة إلى صفة مطلقة مجردة. فقدرة النار لا
تمثل قدرة مطلقة، وعلم الحيوان أو الإنسان لا يمثلان علمًا مطلقًا. وكل ما في
العالم ملاحظات جزئية لا تسمح بالتعميم والتجريد، ثم التعامل مع صفات مستقلة عن
العالم. كما أن ذلك تشخيص للقوانين وتحويلها إلى أسماء فاعل. فالقدرة قادر،
والعلم عالم، وهي إحدى صور التفكير البدائي في تشخيص الظواهر.
٧٨
والحقيقة أن العلم مثل إنساني أعلى يحققه الإنسان في ذاته، فإن استعصى تحقيقه
فإنه يحوله إلى إله، لما كان الإله هو أقصى ما يتمناه الإنسان من غاية.
فالتأليه حرص على الواقع كمثل في لحظة العجز عن التحقيق، والتمسك بالحق النظري
إن ضاع الحق العملي، التمسك بالمبدأ في غياب الواقع.
٧٩ ويتضح ذلك من تحليل لفظ «العلم» في أصل الوحي في الصيغة الفعلية
وليست الاسمية. فالعلم فعل، أو صفة «عليم» أو «علَّام»، أو اسم بمعنى الوحي، أي
العلم المعطى للناس وليس صفة لجوهر ثابت. وهو فعل مشترك بين الإنسان والله،
يعلم الإنسان كما يعلم الله. وهو أمر بالعلم حتى يصبح الإنسان عالمًا كما أن
الله عليم وعلَّام.
٨٠
(٣) القدرة
والقدرة ثاني صفة في الثلاثي، العلم والقدرة والحياة، وكأن العقل العملي تالٍ
للعقل النظري، وأن العمل لاحق على النظر وتحقيق له. وقد لا تظهر القدرة على
الإطلاق لأنه لا توجد مخاطر عليها أو تشكيك فيها.
٨١ وقد تظهر القدرة مع الحياة كشرطين للعلم في حين أن العلم هو شرط
الحياة والقدرة.
٨٢ وقد تظهر على أنها رابع صفة في السباعي بعد الحياة والعلم
والإرادة، بعد تقدم الإرادة عليها مما يحيي بصعوبة التفرقة بين القدرة والإرادة
كما سيظهر ذلك في مبحث الخلق.
٨٣ وقد تظهر على أنها أول صفة في الثلاثي والسباعي نظرًا لأهميتها حتى
على العلم، وهنا تكون الأولوية للعقل العلمي على النظري، وللعمل على النظر.
٨٤ وعلى العكس قد تظهر القدرة على أنها آخر وصف في الثلاثي بعد أن
يأخذ العلم مكانها وتتصدر الحياة.
٨٥ ولكن بعد أن استقر النسق تظهر القدرة على أنها ثاني صفة في السباعي
وفي الثلاثي معًا دون ذكر للضرورة العقلية لهذا النسق وكأنه ترتيب محتمل كغيره
حتى لو تغير ترتيب الصفات الأخرى كأن تكون الإرادة أوله والحياة آخره.
٨٦ وقد تظهر القدرة عرضًا مع القوة دون أن تكون مع الثلاثي بل يكتفي
بالعلم والحياة. وقد تظهر أيضًا بعد بعض صفات الرباعي مثل السمع والبصر مع صفات
التشبيه وبعض صفات الأفعال مثل العزة والرحمة والأمر والنفس والذات والقوة
والقدرة والأصابع. وقد تدخل أيضًا مع صفات الانفعال المتعلقة بالإرادة مثل
السخط والرضا والعدل والصدق والملك والخلق والجود والإرادة والسخاء والكرم،
وبهذا المعنى تتسع صفة القدرة وتشمل كل شيء، بل وتتصدر العلم.
٨٧
والقدرة صفة قديمة قائمة بذاتها، توجد بها الحوادث وبعدمها يستحيل ضدها وهو
العجز. فهي إذن سبب الإيجاد وغيابها عجز يوجب العدم. أو هي صفة يتمكن بها
الفاعل من الفعل والترك، أي وقوع الفعل عند توافر الدواعي، والإيجاب بالنسبة
إلى ذات الفعل لا يمكنه من الترك. فالقدرة هنا أقرب إلى القدرة الإنسانية
والبواعث والاختيار بين الفعل والترك توحي بالجبر والحتمية على الفعل حين توافر
الدواعي. تعني القدرة إذن حصول التأثير من الله على سبيل القصد والصحة لا على
سبيل الوجود، وكأن فعل الله نموذج الفعل الموجب القائم على البواعث والموجه
بالقصد. ولكنها أصبحت عند المتأخرين القدرة على الخلق على الإيجاد وعلى
الإعدام. فهي صفة تؤثر في الممكن الوجود أو العدم تتعلق بالمعدوم فتوجده
كتعلقها بالموجود قبل وجوده، وتتعلق بالموجود فتعدمه. هذا التعلق «تنجيزي»،
تعلق حادث، وله تعلق «صلوحي» قديم أي صلاحيتها في الأزل. القدرة صفة الإيجاد
والإعدام لأن فعل العالم المريد فيما علم وأراد إنما يكون بسلطة له على الفعل
ولا معنى للقدرة إلا هذا السلطان.
٨٨
والقدرة أول ما يُعرَف استدلالًا من الصفات، فهو المحدث للعالم. فقد ثبت أنه
صح منه تعالى وبالتالي يكون قادرًا. والدليل على أنه عالم حي قادر إمَّا
الاضطرار أي البداهة أو الاستدلال. والحقيقة أن الدليل يجمع بين الاثنين، إذ لا
يجوز أن تظهر الصنائع إلا من قادر حي، وهو دليل الاختراع الشهير الذي سيتحدث
عنه الحكماء فيما بعد. أو هو دليل الإتقان والصنعة وهو دليل إثبات العلم.
الدليل على كونه قادرًا وجود المقدورات عن أول واتصافها بالجواز. فالإيجاد
والاختراع لا يصحان من كل موجود، بل اختصاص تصور الاختراع ببعض الموجودات.
وبالسبر يعرف أن الاختراع يشترط الحياة والعلم، ويمكن الاعتماد على قياس الغائب
على الشاهد لإثبات ذلك. وقد يفصل الدليل ويركب على دليل الحدوث فتثبت القدرة
بعد إثبات الحدوث. إذ يدل جواز الحادثات على كون بارئها قادرًا. فالحدوث مقدمة
لإثبات القدرة كصفة للذات كما كان مقدمة إثبات القِدَم كوصف لها. يعني الحدوث
قابلية التأثير والفاعلية والترجيح. ويتم ذلك عن طريق الاختيار وليس عن طريق
الوجوب بالذات كما هو الحال عند الحكماء في نظرية الفيض. ويبطل المتكلمون
الوجوب بالذات دون القدرة لأنه يلزم من ذلك قِدَم العالم أو حدوث الله، وكلاهما
باطل، أو استواء الأجسام في الماهية وبالتالي استواؤها في الصفات، والله ليس
بجسم والعالم إحساس أو لوجب معلومًا واحدًا أو معلومات كثيرة، والأول باطل لعدم
صدور الكثير عن الواحد أو يلزم عنه تغيرات لا يمكن أن تصدر عن الواجب بذاته. لو
كان الله واجبًا بذاته لا قادرًا على ما يقول الحكماء للزم إمَّا قِدَم العالم
أو حدوث حوادث لا أول لها أو متعاقبة وكلاهما محال.
وفي صيغة أخرى إن لم يكن قادرًا لزم إمَّا نفي الحادث أو عدم استناده إلى
المؤثر أو التسلسل إلى ما لا نهاية أو تخلف الأثر عن المؤثر والكل باطل، وبطلان
اللوازم دليل على بطلان الملزوم. ويقوم الدليل على أصلين: حدوث ما سوى الله
وأنه لا تجري به حوادث لا نهاية لها، وأن الحادث لا يستند إلى حادث مسبوق إلى
ما لا نهاية. يرفض الأشاعرة إذن استناد القدرة إلى الذات أو بالإيجاب، فكلاهما
باطل، ومع ذلك فهو قادر بقدرة قديمة أزلية قائمة بذات الرب متحدة لا كثرة فيها
متعلقة بجميع المقدورات غير المتناهية بالنسبة إلى ذاتها أو متعلقاتها، وهي غير
الإيجاد على نحو ما في التخصيص بالإرادة.
٨٩
والتأثير في العالم — عند متكلمي الأشاعرة — ليس عن طريق الطبع أو العلة، كما
هو الحال عند الحكماء والطبائعيين من المعتزلة، بل بالتأثير والاختيار. فلو كان
بالطبع والإيجاب للزم قِدَم العالم أو حدوث الباري. ولما كانت العلة لا تتغير
لزم أن يكون المعلوم كذلك، وبالتالي يتغير الباري. كما يلزم من عدم المعلول عدم
العلة. ومع ذلك فهناك اعتراضات عدة على القدرة بالتأثير والاختيار. فالمؤثر في
العالم إن استجمع الشرائط وجب الأثر وإلا كان فعله ترجيحًا بلا مرجح. كما أن
اقتدار القادر نسبة يتوقف على تمييز المقدور في نفسه وبالتالي يلزم الدور.
والمقدور لا يخلو من وجود أو عدم والحاصل واجب وبالتالي ينتفي الممكن. كما أن
الترك نفي عرض وعدم، وبالتالي لا يكون مقدورًا. والواحد لا يصدر عنه إلا
الواحد، والكثير إنما صدر بالوسائط عن الواحد على ما يقول الحكماء الكواكب هي
المدبرات أمر الدوران والحوادث السفلية مع مواضعها في البروج وأوضاعها بعضها
إلى البعض. وما علم أنه يكون واجبًا، وما علم أنه لا يكون ممتنعًا، والواجب
والممتنع غير مقدور، والقدرة لا تكون إلا للممكن. كما أن القدرة تتعلق بأحد
الضدين إمَّا لذاتها فيستغني الممكن عن المرجح فيسد باب إثبات الصانع ويلزم
قِدَم الأثر، وإمَّا لذاتها فلا يحتاج إلى مرجح، وبالتالي تنتفي القدرة.
٩٠
وبعد موضوع إثبات القدرة بالقصد والاختيار أو نفيها بالطبع والوجوب تعرض
مسألة شمول القدرة وحدودها. فالقدرة شاملة ومطلقة مثل العلم. الله قادر على
جميع الممكنات. ودليل إثبات القدرة هو نفسه دليل إثبات شمولها وإطلاقها.
فالمصحح للمقدورية الجواز، وبدونه لا يبقى إلا الوجوب والامتناع، وهما يمنعان
من المقدورية. والجواز مفهوم واحد بين جميع الجائزات، لذلك كانت القدرة شاملة
لها كلها. ولو لم يكن الله قادرًا على جميع الممكنات لوُجد سبب آخر وهو محال من
وجهين، لأن قدرة الله أقوى، فهو الأولى بالتأثير وبسبب دلالة التمانع واستحالة
اجتماع مؤثرين.
٩١
وقد يأخذ الموضوع صيغة أخرى، فكما أن المسألة الرئيسية في العلم هي البدء
الذي يشير إلى التغير والثبات، فإن المسألة الرئيسية في القدرة هي الكل أو
الجميع أو الغاية أو النهاية التي تشير إلى التقييد والإطلاق. فقد تساءل
القدماء: هل معلومات الله ومقدوراته لها كل أو لا كل لها؟ ولما كان الإشكال لا
يعبر عن موضوع في الخارج بل عن قسمة إنسانية خالصة يقوم بها الذهن كما هو واضح
في المنطق لتصنيف الأشياء بين الكل والجزء، الجميع والبعض، اللانهاية أو
الغاية، فإن الشعور يقوم بإسقاط قسمة الذهن هذه على التأليه المشخص. فالإجابة
بالنفي إثبات بالإطلاق حرصًا على التنزيه. فالقدرة شاملة كلية جامعة لا نهاية
لها لا تتجزأ ولا تتبعض ولا تنتهي. فالتجزئة والتبعيض والنهاية كلها مظاهر نقص،
والتأليه يعبر عن نفسه في صيغ الشرف والكمال. والإجابة بالإثبات أيضًا إثبات
للتنزيه؛ لأن المعلومات والمقدورات لا بد أن تنتهي حتى يبقى المؤله وحده ولا
شيء معه كما كان لا شيء معه. فتحديد المعلومات المقدورات ليس تقييدًا للمطلق بل
إطلاق له وتقييد لما سواه ورد للموجودات إلى مكانها الطبيعي في عالم الحدوث.
٩٢
وبعد إثارة المسألة العامة إطلاق القدرة وتقييدها تظهر الدوافع الحقيقية
للمسألة التي كانت وراء نشأتها والتي أصبحت نوعًا من التمرينات العقلية
والتطبيقات العملية التي تكشف عن عملية التأليه وشدها وجذبها بين الوجدان
والعقل، أي بين إطلاق القدرة وتقييدها. إذ يفترض العقل صعوبة أو استحالة أو
تناقضًا حتى يقوم الشعور بتجاوزها بسلاح القدرة ويعبر من خلالها عن عواطف
التعظيم والإجلال. ويقف الإنسان أمام هذه الاستحالة أو التناقض إمَّا يعلن
استسلامه لهذه العواطف والتسليم بالقدرة المطلقة والخضوع لها أو يعلن رفضه لها
وتمرده عليها وإثبات قدرته الخاصة.
وأول مشكلة مُثارة هي اصطدام القدرة مع العلم في سؤال: هل الله قادر على ما
علم ألا يكون؟ فالجواب بالإيجاب إثبات لعموم القدرة وشمولها على العلم، والجواب
بالنفي إثبات لشمول العلم وأولويته على القدرة. فالعلم أوسع نطاقًا من القدرة،
وإمكانيات العقل النظري أكبر بكثير من إمكانيات العقل العملي. ولكن يظل سؤال:
وكيف يكون هناك علم لا يقع، ونظر بدون عمل؟ فالمسألة لا حل لها، ولكنها مجرد
فرصة للتعبير عن عواطف التعظيم والإجلال بين المزايدة فيها وإحكامها
بالعقل.
وقد تصطدم القدرة بحرية الأفعال في سؤال: هل الله قادر على أفعال العباد؟
فالرد بالإيجاب إثبات لمطلق القدرة على حساب حرية الإنسان، في حين أن الجواب
بالنفي إثبات لحرية الإنسان حتى ولو كان في ذلك تحديد للقدرة المطلقة. وأيهما
أولى بالتضحية، حرية الإنسان أم مطلق القدرة؟ وأيهما أولى بالإثبات، حرية الله
أم حرية الإنسان؟ إن أكثر أفعال الحيوانات مقدور لها، وبالتالي يلزم مقدورين
لقادرين. وقد تحول الإشكال النظري إلى اختيار الإجابة الأولى، وأصبحت نوعًا من
المسلمات الوجدانية. فتظهر في البسملات مع المشيئة والإرادة مسيطرة على كل شيء،
على الإنسان أفرادًا وجماعات، وعلى الطبيعة والتاريخ، على حساب الحرية
الإنسانية وحركة الجماهير ووعيها وقوانين الطبيعة ومسار التاريخ، وكأن القدرة
سلطان قاهر على كل شيء، مما سبب رد فعل طبيعي وهو تأكيد الحرية الإنسانية وخلق
الأفعال كحد من القدرة المطلقة وإرهابها وتدخلها في كل شيء.
٩٣
وقد تصطدم القدرة بموضوع العدل في سؤال: هل يقدر الله على فعل الظلم للإنسان؟
هل يقدر على فعل الشرور والقبائح في العالم؟ فإثبات القدرة المطلقة تضحية
بالعدل في سبيل التوحيد، ونفيها إحكام عقلي للتوحيد في سبيل العدل. وليس هناك
حل عقلي مرضٍ؛ لأن المسألة كلها تمرين عقلي للمزايدة في عواطف التعظيم والإجلال
على حساب الإحكام العقلي وتأكيد حق الإنسان. وقد يمتد السؤال من هذه الدنيا إلى
غيرها. حينئذٍ تصطدم القدرة بأمور المعاد في السؤال: هل الله قادر على إثابة
المسيء وعذاب المحسن؟ وهو نفس مسألة العدل مع تطبيقها في نهاية الزمان خارج
العالم وليس في الزمان في هذا العالم.
٩٤
ولكن الصدام الأكبر هو الذي نشأ بين القدرة المطلقة وبين العالم الطبيعي،
سواء في نهاية الزمان في إفناء العالم أو في هذا الزمان في تغيير قوانين الطبيعة.
٩٥ ويكشف هذا الصدام عن صراع فعلي بين الفكر الديني والفكر الطبيعي،
بين الفكر اللاهوتي والفكر العلمي ودفاع الفكر الطبيعي والعلمي عن استقلال
الطبيعة واستحالة تحول الوجود إلى عدم أو العدم إلى وجود، فالأجسام لها طبائع مستقلة.
٩٦ وقد تتردد بعض الآراء بين الفكر الديني التقليدي والفكر الطبيعي
العلمي الناشئ عندما تحاول الجمع بين القدرة المطلقة وطبائع الأشياء في وجود
ثالث تظهر فيه القدرة وتفنى فيه الأشياء وهو الفناء نفسه. ويتم ذلك مرةً واحدةً
لا على فترات؛ لأن طبيعة الشيء لا تتجزأ ولأن فناء الكل أعظم قيمةً من حيث
القدرة من فناء البعض، ولأنه فناء طبقًا لمبدأ وليس طبقًا لحالات فردية خاصة.
يشير هذا التردد بين الإطلاق والتقييد في الصفات إلى بزوغ الفكر الطبيعي العلمي
الناشئ من باطن الفكر الديني التقليدي واستقلال الطبيعة حتى ولو كانت في صيغة
أخرويات مشخصة عن الإرادة الإلهية وإعلان توقفها بعد أن تكمل غايتها في
التاريخ. وإن كان هناك إطلاق فهو إطلاق من طبيعة الشيء وليس من إرادة مشخصة
خارجة عنها.
٩٧
ولكن تظهر الطبيعة في هذا العالم كحد للقدرة في كون الأشياء موجودة، وأن
الوجود هو القدرة. الوجود والقدرة شيء واحد، ويعني ذلك أنها من جنسه. القدرة
تحيل الوجود إلى عدم، والعدم إلى وجود. وما دامت القدرة قد ثبتت فقد ثبت
الوجود. وما دام هناك وجود فهناك قدرة. القدرة هنا ليست قوة مشخصة يرمز إليها
باليد بل هو الوجود ذاته. ومِنْ ثَمَّ لا يستحيل عليها شيء؛ لأنها هي الشيء.
٩٨
وقد يتحول التمرين العقلي من الوجود العام إلى الوجود الخاص، أي إلى الأجسام،
ويصبح التمرين هو: هل يقدر الله على خلق العرض؟ والتمرين العقلي لا يبغي حل
مشكلة موجودة بالفعل، بل هو مجرد سؤال يوجهه العقل للشعور حتى يسمح للشعور
بالتعبير عن عواطف التعظيم والإجلال، وهي الصياغات العقلية لعواطف التأليه.
والرد بالإيجاب يسمح للشعور بتجاوز الممكن إلى المستحيل، وباستعمال طريق
الأولى، وهو الاستدلال المنطقي الذي يعبر عن عواطف التأليه. وهو الموقف
التقليدي الشائع، موقف الأشاعرة وأهل السنة، يشاركهم فيه بعض المعتزلة.
٩٩ أمَّا الرد بالنفي فهو إثبات لطبائع الأشياء المستقلة حتى ولو كانت
أعراضًا. فالأعراض مع طبائع الأجسام.
١٠٠ وقد لا يكون النفي نفيًا للقدرة وحطة في التنزيه، بل هو تصور علمي
للتنزيه يستبعد التشخيص ويعيد الاستقلال للأشياء. وماذا في القدرة على خلق
العرض من تنزيه؟ ليس فيها إلا من إثبات لقدرة تفعل ما هو جدير بها وما ليس
بجدير كالقدرة المسيطرة التي تفعل كل شيء، كبيرًا كان أم صغيرًا، في حين أن
جلالة القدرة وعظمتها لا تفعل إلا ما لا يقدر غيرها على فعله. والعظيم هو الذي
يتعفف عن فعل صغائر الأمور. تستخدم الموضوعات الطبيعية إذن لإثبات القدرة، ليس
فقط في خلق الجواهر، بل أيضًا في خلق الأعراض. ويصارع الفكر العلمي الطبيعي في
جعل الأعراض حالة بالجواهر وبالتالي ينكر خلق الأعراض. والقضية هي: أيهما أولى
بالدفاع، قدرة الله المطلقة مع إنكار كل قدرة أخرى، أم استقلال الطبيعة وحركة
الأجسام وقوانينها؟
١٠١
فإذا كان التمرين العقلي، وهو القدرة على خلق العرض، يسمح للشعور بالتعبير عن
القدرة على الممكن، فإن التمرين العقلي الثاني: هل يقدر الله على خلق جواهر لا
أعراض فيها؟ يعطي للشعور فرصة أكبر لتجاوز المستحيل؛ وذلك لأن الجواهر لها
أعراض، والأعراض لا توجد إلا في جواهر. ولكن القدرة العظمى تستطيع خلق جواهر
بلا أعراض، وأن تتحكم في طبائع الأشياء وتتحداها، على عكس الإنسان الذي لا
يستطيع خلق جواهر بلا أعراض حين تخضع قدرته لطبائع الأشياء وقوانين الطبيعة.
فالرد بالإيجاب يسمح للشعور بالتعبير عن عظمة القدرة وجلالها حتى ولو كان في
هذا التعظيم القضاء على العالم كله في حين أن الرد بالنفي إثبات لطبائع الأشياء
ولقوانين الطبيعة، وتصور علمي للتنزيه وقضاء على تشخيص القدرة.
١٠٢
ثم يأتي تمرين ثالث يسأل عن قلب الأجسام من جوهر إلى عرض ومن عرض إلى جوهر في
صيغة: هل يقدر الله على قلب الأجسام أعراضًا والأعراض أجسامًا؟ والغاية من
السؤال السماح للشعور بالتعبير عن عواطف التعظيم والإجلال طبقًا لاستدلال شعوري
على النحو الآتي: بما أن الإنسان لا يقدر على قلب الأجسام أعراضًا والأعراض
أجسامًا، بل إنه لا يقدر على مجرد تغيير الجواهر إلى جواهر مثلها أو الأعراض
إلى أعراض مثلها، يكون المؤلَّه المشخص إذن هو وحده القادر على ما لم يقدر عليه
الإنسان، فيستطيع أن يقلب الأجسام أعراضًا والأعراض أجسامًا. وبتعبير آخر بما
أن الإنسان لا يقدر على تغيير قوانين الطبيعة، فإن المؤلَّه المشخص إذن يكون هو
وحده القادر على ذلك. ومِنْ ثَمَّ يفي الرد بالإيجاد بهذا الغرض، في حين يكون
الرد بالنفي إثباتًا للنظرة العلمية واستقلال الطبيعة وانتظام قوانينها، وكأن
القدرة لا تثبت إلا على حساب العالم وأن استقلال الطبيعة لا يثبت إلا على حساب
القدرة. ويكون المكسب والخسارة هو: أين موقف الإنسان وموقعه في العالم؟ هل هو
مدافع عن حق الله أم مدافع عن حقه كإنسان وعن استقلال قوانين الطبيعة ووجوده في
عالم يحكمه قانون، وبالتالي ينشأ العلم ويتأسس النظام؟
١٠٣ ويمكن التوفيق بين الموقفين عن طريق التمييز بين نوعين من
الموجودات: الأوَّل يحدث في ذات المؤله، وهو يدخل تحت قدرته، والثاني يحدث في
العالم الخارجي وهو لا يدخل تحت قدرته بل يسير طبقًا لطبائع الأشياء. بل إن
الخلق نفسه لم يتم بالقدرة الشخصية للتأليه، بل بالكلام وحده أي بالفكر وليس
بالإرادة، بالمعنى وليس بالقوة، بالعقل وليس باليد.
١٠٤
ثم يأتي تمرين رابع ليعطي نفس الفرصة للشعور كي يعبر عن عاطفة التأليه، وهو:
هل يقدر الله على صيرورة الجسم جزءًا لا يتجزأ؟ ويقدم الذهن قسمته المنطقية،
الكل والجزء، ثم يسقطها على الأجسام فيصبح الجسم كلا يتكون من أجزاء لا تتجزأ.
ويكون التمرين: هل يمكن تحويل الكل إلى جزء؟ وبما أنها استحالة منطقية وطبيعية
عند الإنسان، فإن المؤلَّه المشخص يكون هو وحده القادر على تجاوز هذه الاستحالة
وتحويلها إلى إمكانية بالقدرة المنظمة. فالرد بالإيجاب يسمح للشعور بالتعبير عن
عواطف التأليه في هذه القسمة المنطقية التي قدَّمها الذهن وأسقطها على الطبيعة.
١٠٥ ويكون الرد بالنفي هو التزام بالنظرة العلمية والتمييز بين عواطف
التأليه التي يمكن التعبير عنها في صياغات عقلية علمية لا تمسها استقلال
الطبيعة وحتمية قوانينها وبين القسمة المنطقية التي يقدمها الذهن تعبيرًا عن
عواطف التعظيم والإجلال.
وقد يُثار نفس السؤال عن طريق إدخال القدرة الإنسانية، وبالتالي يقدر الله في
العالم ويفعل في الأجسام والأعراض من خلال قدرة الإنسان، هدمًا لها وقضاء عليه
حتى لا تقوى أن تصمد أمامها الطبيعة، ولا أن يقف في مواجهتها الإنسان. وصيغة
السؤال: هل يوصف الباري بالقدرة على أن يقدِّر خلقه على الحياة أم لا؟ وعلى فعل
الأجسام أم لا؟ هل يقدر الله أن يخلق قدرة لأحد على فعل الحياة والموت أم لا
يوصف بالقدرة على ذلك؟ وفي مقابل الإيجاب الذي يمثل القدرة المطلقة الشاملة
١٠٦ هناك النفي النسبي عن طريق نفي الأقدار من الأجسام وإثباته في
الأعراض أو إثباته في بعض الأعراض ونفيه في البعض الآخر.
١٠٧ وهناك النفي المطلق في الأجسام والأعراض معًا تأكيدًا لقدرة
الإنسان ودفاعًا عن استقلال الطبيعة.
١٠٨ ولما كان موضوع القدرة كإقدار داخلًا في موضوع الكسب فقد جعل البعض
الإنسان قادرًا على الكسب عاجزًا عن الخلق، وأن المقدور على كسبه هو المعجوز عن خلقه.
١٠٩ ويفضل البعض الآخر إلغاء المشكلة كلها، فلا يوصف الإنسان لا
بالقدرة ولا بالعجز لا على الكسب ولا على الخلق، ورفض التمرين العقلي نظرًا لما
يقدمه من متاهات لا تسمح إلا بالتعبير عن عواطف التأليه تعظيمًا للمؤلَّه
وتحقيرًا للطبيعة وتعجيزًا للإنسان.
١١٠
وقد يُضاف إلى القدرة صفة أخرى تابعة لها أو مستقلة عنها، وهي صفة الخلق أو
التكوين فتكون الصفات ثمانٍ. رباعي ورباعي. والحقيقة أنها صفة إضافية؛ لأن
القدرة صفة مؤثرة على سبيل الصحة، وصفة الخلق أو التخليق مؤثر أيضًا على سبيل
الصحة، ومِنْ ثَمَّ لا فرق بين الصفتين. أمَّا التكوين فإنه ليس صفة مستقلة بل
داخل في القدرة أو في الإرادة؛ لأن التكوين تخصيص مثلها.
١١١
والحقيقة أن اللفظ في أصل الوحي يشير إلى الفعل والموصوف ولا يشير إلى الصفة،
مما يدل على أن القدرة فعل أو فاعل، ولكنها ليست اسم فعل مستقل عن الفعل
والفاعل. ولا تعني فقط القدرة بل تعني أيضًا التقدير وحسن الإدراك وميزان
الأمور والتخطيط والاعتدال في النسب، مما يدل على أن القدرة ليست فقط قوة مشخصة
خارج الطبيعة، بل إنها تقدير في الطبيعة وتقدير من الإنسان للطبيعة.
١١٢
(٤) الحياة
هي ثالث صفة في الثلاثي بعد استقرار نسق الصفات وإن اضطرب مكانها في البداية
بين الثلاثي والرباعي.
١١٣ وقد لا تظهر الحياة على الإطلاق لأنه لم تكن هناك مخاطر عليها.
١١٤ وقد لا تظهر إلا في عبارة يختتم بها السمع والبصر (الإدراكات) في
أمر الرباعي والسباعي معًا.
١١٥ وقد تظهر في الثلاثي بعد القدرة والعلم.
١١٦ ولكن الغالب ظهورها نظرًا لأهميتها غير المتوقعة في أول السباعي
والثلاثي معًا.
١١٧
ويجمع القدماء على أن الحياة شرط العلم أو شرط العلم والقدرة معًا، فلا يوجد
عالم إلا حي، ولا يوجد عالم قادر إلا كان حيًّا. وأحيانًا تمتد الحياة فتصبح
شرطًا للرباعي أيضًا. فالحياة شرط الإدراك كالسمع والبصر. وقد يوجد الشرط دون
المشروط، ولكن لا يمكن وجود المشروط دون الشرط.
١١٨ يستحيل وجود الفعل من موات، وما دام الله فاعل الأشياء وجب أن يكون
حيًّا. ولما ثبت بالدليل على أن الباري صانع قادر فاعل، وصح الفعل وقوعه من
الميت فإن وقوعه من الحي أولى. الحي هنا من يشعر بنفسه ويعلم ذاته وغيره،
العالم بجميع المعلومات القادر على جميع المقدورات. ويمكن تأسيس هذا الدليل على
أساس الإحصاء والملاحظة والسبر والتقسيم. وذلك في الحقيقة هو قياس الغائب على
الشاهد بدليل استعمال التشبيه بالحياة الإنسانية في عبارة «الواحد مِنَّا»، وقد
تستعمل بعض الأدلة النقلية لإثبات الحياة ولإثبات أن الله حي.
١١٩
ولكن ماذا تعني الحياة؟ نظرًا لارتباط العلم والقدرة والحياة فقد تفيد الصفات
الثلاث معاني بعضها البعض مما يدل على الوحدة بينها. كما تفيد كل صفة معناها
على حدة مما يشير إلى التغاير بينها.
١٢٠ وقد لا ينطبق ذلك على الثلاثي وحده، بل ينطبق أيضًا على السمع
والبصر من الرباعي لما كانا طريقين للعلم ومظهرين للحياة. وقد يفيد إثبات
الثلاثي إثبات الذات نظرًا للتوحيد بين الذات والصفات.
١٢١ ومع ذلك قد يفضل البعض تمايز المعاني بين الصفات الثلاث،
١٢٢ ولكن بالإضافة إلى التعريف بالشرط،
١٢٣ أو التعريف بالذات هناك عدة تعريفات أخرى تتراوح بين الصفة الأزلية
والوظيفة العضوية. فالحياة صفة قديمة أزلية تطلق عليها الأحكام العامة الثلاثة
للصفات. وقد تكون استحالة الضد أي الموت نظرًا لأن الصفات هي قلب للأضداد. وقد
تكون الحياة اعتدال المزاج النوعي أو قوة تنبع من ذلك الاعتدال. على أية حال
الحياة شعور بديهي، كما يستتبع العلم والإرادة وكل مظاهر الحياة. والحياة كصفة
أزلية هي حياة المطلق بلا مادة أو مضادة لحياة المادة، فهي الحياة الخالصة
الطاهرة. وهو قلب للوضع الإنساني. فبما أن الحياة الإنسانية ملامسة للمادة،
حياة البدن، فالأشرف أن تكون حياة التأليه منزهة عن البدن.
١٢٤ وقد نشأ من هذا التصور للروح الطاهرة سلوك متطهر يقوم أيضًا على
قسمة الحياة إلى روح ومادة، واعتبار المادة أقل شرفًا وأحط مرتبةً من الروح وما
يترتب على ذلك من مخاطر الازدواجية والنفاق والخلط في السلوك الإنساني، الفردي والجماعي.
١٢٥
لم يتعرض القدماء كثيرًا لهذه الصفة الثالثة، وهي الحياة، مع أنها الصفة التي
تستطيع أن تكشف الإنسان من حيث هو حياة كما كشف العلم عن تغير الواقع وتكيف
العلم طبقًا له وكما كشفت القدرة عن طبائع الأشياء وعن الحرية الإنسانية. لم
يذكر القدماء إلا أن الباري حي؛ لأنه يفعل فلا فعل بدون حياة. الحياة حياة
الفعل، والفعل فعل الحياة.
١٢٦ وبما أننا لا نحيا، وليس لدينا شعور بالحياة فلم نهتم بتفصيل هذه
الصفة كما فعلنا في العلم والقدرة لإثبات أن الله عالم بكل شيء
يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ لإعطاء تصور تمثله السلطة
لإحكام سيطرتها. ومع ذلك إن لم يعبر جيلنا عن الحياة في صياغة عقلية تقوم على
تحليل الواقع، فإنه يعبر عن نفسه بأسلوب التهكم والسخرية كنوع من التفريج السري
عن الهم أو في التعبيرات الرمزية في الأدب والصحافة من أجل رفع الغطاء عن
الحياة المانع لها من الصياغات العقلية الصحيحة أو في خطاب الزعيم الذي يهدف
إلى تخفيف حدة الأزمة نفسيًّا أو بإعطاء الوعود أو بإظهار بطولة ابن البلد
والفروسية القديمة أو التحول إلى المنظمات السرية من أجل تحويل المشكلة من
الكبت النظري إلى التفريج العملي أو عدم الوعي بها على الإطلاق، وحصر الحياة في
البحث عن لقمة العيش للمحافظة على الحياة العضوية، أو باستغلال الأزمات للمكاسب
الشخصية وللحصول على المناصب والرزق الوفير أو تعميقها وتبريرها ولويها لصالح
السلطة بالتستر وراء الحكم، وهو في الحقيقة وضع للعلم في سوق السلطة أو هروبًا
إلى حلقات الذكر والطرق الصوفية أو في حلقات الحشيش وجلسات المرح. أمَّا في أصل
الوحي فالحياة هي الحياة الدنيا، حياة الناس. الحياة امتحان واختبار وعمل،
قانونها الأضداد، إخراج الحياة من الموت والموت من الحياة. وهي فعل لله لإحياء
الأرض والبلاد والعظام والنفس والناس ولم تستعمل كصفة له. الحياة فعل لفاعل
أكثر منها صفة مستقلة له.
١٢٧
(٥) السمع والبصر
وهما أول صفتين في الرباعي، يأتيان معًا باستمرار في هذا الترتيب بدايةً
بالسمع وتثنيةً بالبصر. وهما أقل ظهورًا من الإرادة والكلام، كما أن الحياة أقل
ظهورًا في الثلاثي من العلم والقدرة. وكلاهما يدخلان على أنهما من الإدراكات.
لذلك لا يظهران كصفتين مستقلتين بل يظهران مع العلم في إثباته، ومع إثبات أوصاف
الصانع وعلى أنهما مظهران للحياة.
١٢٨ يظهران في إثبات صفات التشبيه عرضًا وضد نفاتها بإرجاعها إلى العلم.
١٢٩ وقد تداخلت الصفتان في الثلاثي. فعندما تنتقل الإرادة إلى الثلاثي
يظهر البصر كثاني صفة في الثلاثي: الكلام، البصر، السمع.
١٣٠ وعندما يصير الرباعي ثلاثيًّا بعد إدخال الإرادة بعد القدرة في
الثلاثي يبقى السمع والبصر والكلام.
١٣١ ويظهر السمع والبصر مع القديم بعد العلم وقبل الحياة، وأهمها إثبات
الصفات أو نفيها قبل قِدَمها أو حدوثها.
١٣٢ فإذا ما استقل الثلاثي فإن السمع والبصر يظهران إمَّا آخر الرباعي
وإمَّا في وسطه وإمَّا في أوله.
١٣٣ وقد لا يفترق السمع والبصر عن باقي الأسماء.
١٣٤
ويثبت السمع والبصر بالنقل وبالعقل. والنقل ليس حجة يقينية كالعقل لأنه معارض
بنقل معارض، ويمكن تأويله على نحو مجازي. والعقل هو أن الله حي، ومن صفات الحي
السمع والبصر. الحي لا يكون إلا متكلمًا سميعًا بصيرًا.
١٣٥
وقد تراوح تعريف السمع والبصر كذلك بين الصفة الأزلية القديمة القائمة بالذات
أو الوظيفة الإدراكية العضوية الصرفة. فالسمع صفة واحدة أزلية قائمة بذاتها
يسمع بها جميع المسموعات من الأصوات والكلام، وكذلك البصر صفة واحدة أزلية يبصر
بها جميع المبصرات.
١٣٦ ولكن السمع والبصر أيضًا ليسا صفتين مستقلتين عن العلم، بل وسيلتان
للعلم، أي إدراكان. فهو مدرك للمسموعات والمبصرات والإدراك لا يزيد على العلم،
بل هو العلم الحسي التجريبي. يرجع السمع والبصر إلى الإدراك قبل أن يصبح علمًا
نظريًّا أو استدلاليًّا. هما إدراكان قبل العلم يتعلقان بالمدركات الخاصة بكل
واحد بشرط الوجود. فهما قبل العلم كإدراك وبعد العلم كنظر
١٣٧ فالإدراكات من قبيل العلوم. صحيح أنه قد يحدث إدراك حسي دون علم
وقد يحدث علم دون إدراك حسي؛ وذلك لأن تحويل الإدراك إلى علم مشروط بسلامة
الإدراك وبالانتباه على ما هو معروف في نظرية العلم وفي نظرية الرؤية. ويعتمد
نفي السمع والبصر كصفتين مستقلتين عن العلم على تعدد القدماء أو لو كانا حادثين
لكانت الذات محلًّا للحوادث وعلى احتياجهما إلى حاسة وآلة وعضو ووظيفة وهو
محال. وقد يتوقف البعض دون إثبات أو نفي.
١٣٨ والعجيب أنه في نفس الوقت الذي يثبت فيه السمع والبصر كصفات أزلية
قائمة بالذات يثبتان أيضًا على الحقيقة كوظيفتين سمعيتين وبصريتين.
١٣٩ وكأن الإيغال في إثبات الصفة القديمة ينقلب إلى تشبيه حسي لإثبات
وظيفتين حسيتين. لذلك حرص البعض على إثبات السمع والبصر دون الآلة أو العضو، لا
يثبتان بآلة صماخ وأذن أو عين وحدقة. كذلك يمكن تعريف السمع والبصر عن طريق
الاكتفاء بنفي الضد أي الآفة، أي استحالة الصمم والعمى، فكلتاهما صفات نقص
والسمع والبصر صفتا كمال وضدهما نقص. فالحي إن لم يكن موصوفًا بآفة تمنعه من
الإدراك كان سميعًا بصيرًا،
١٤٠ وذلك يدل على أن نشأت الصفات هي في أضدادها عن طريق القلب، أي نفي
مظاهر النقص الإنساني لإثبات مظاهر الكمال الإنساني.
ويذكر أحيانًا السمع بمفرده دون وضع مسائل جديدة زيادة على استقلالها عن
العلم أو ارتباطها بالإدراك أو ارتباطها بالقدرة كالقول بأن سمع الإله قدرته
على إدراك مسموعاته.
١٤١ ولكن يبدو أن البصر قد حظي باهتمام أكبر من السمع بالرغم من أن
الوحي سمعي لا بصري. فكل موجود يجوز أن يكون مسموعًا ومرئيًّا، وبالتالي لا
يوجد موجود إلا إذا أدرك من خلال الحواس. لا يسمع إلا ما كان كلامًا أو صوتًا
ومع ذلك يظل السمع صورة للعلم حتى ولو كان غير موجود أو كان أصوات الهامسين.
١٤٢ ويثبت البصر أيضًا بنفس حجة ثبوت السمع. فتجوز رؤية كل ما هو موجود
وتستحيل رؤية المعدوم. ولكن هل تجوز رؤية ما هو قائم بنفسه وتستحيل رؤية
الأعراض؟
الدليل على رؤية الأعراض هو التمييز بالبصر بين الألوان وبين التأليف
والأكوان. ومع ذلك فالبصر صورة للعلم والتحقق من وجود المعلوم حتى ولو كان
مختفيًا عن الأنظار. فالبصر يعني العلم، والإدراك الحسي مقدمة للعلم وليس هو
العلم. العلم لا يكون إلا نظريًّا. ولا يمكن أن تكون الرؤية هي العلم، فقد يرى
الإنسان شيئًا ولا يعلمه أو يعلم الإنسان شيئًا ولا يراه. ويخلط القدماء بين
السمع والبصر كصفات ذات وبين المسموع والمبصَر كموضوعات إدراك. وبالتالي يظهر
موضوع الرؤية من جديد من الذات إلى الصفات في سؤال: هل يسمع الله ذاته؟ هل يرى
الله ذاته؟ وبالتالي تتحول الصفات الذاتية إلى موضوعات مسموعة أو مرئية، ثم
تتحول الموضوعات إلى ذات مُشخصة، ويصبح الله ذاتًا وموضوعًا، سامعًا ومسموعًا،
مبصِرًا ومبصَرًا.
١٤٣
وقياسًا على السمع والبصر، ما المانع من نسبة الذوق والشم واللمس كصفات للذات
خاصةً وأن فقدانها نقص، وأنها من كمالات الحي؟ ولماذا لا يثبت التلذذ والتألم
والشهوة، فهي أيضًا كمالات للحي؟ الحواس كلها طريق للعلم وللاتصال بالعالم
والتعبير عنه سواء بسواء، مثل السمع والبصر. هل يغني السمع والبصر عن باقي
الحواس لأن باقي الكيفيات الحسية داخلة فيهما، وكأن المدركات نوعان: سمعية
وبصرية، مثل الفنون، لا ذوقية أو شمية أو لمسية؟ وقد أبدعت الحضارة قديمًا ليس
فقط في الفنون السمعية (الشعر)، بل أيضًا في الفنون البصرية (الكتابة
والزخرفة)، والذوقية (الطعوم)، والشمية (الأراييح)، واللمسية (الحرائر).
١٤٤ والحقيقة، أن ذلك كله هو إكمال للوعي بالحواس وسيلة الاتصال
بالعالم والتعبير عنه، مع إعطاء الأولوية للسمع والبصر على الذوق والشم واللمس
لأنهما أقرب إلى إدراك المعاني. والحواس ليست صفات أزلية قديمة قائمة بالذات
(المستوى الصوري) ولا أعضاء ووظائف حسية تقوم على الأشعة والعين والأجسام
والأعراض، والحواس والآلات، والأذن والصماخ، والآفات وصحة البنية (المستوى
المادي)، بل هي مدركات حسية يعي الوعي من خلالها العالم. الوعي يرى ذاته خارجًا
منه، مطرودًا من العالم، غريبًا عنه. وهذا ما يؤكده تحليل السمع والبصر في أصل
الوحي. فالسمع فعل أكثر منه صفة، وفعل إنساني وليس فعلًا إلهيًّا. وهو مرتبط
بالعلم وطريق له. أمَّا البصر فهو أيضًا فعل للإنسان أكثر منه فعلًا لله. وكذلك
البصر والإبصار للإنسان للإدراك الموجه بالانتباه.
١٤٥
(٦) الكلام
وهو الصفة السادسة من صفات الذات. وفي العقائد يصعب الفصل بين أوصاف الذات
وصفاتها فتظهر بعض الصفات مع الأوصاف. فمثلًا يظهر العلم والقدرة والحياة
والسمع والبصر مع نفي الجسمية والشبه وإثبات الواحد وإعادة المخلوقات.
١٤٦ ولا يظهر إلا الكلام والإرادة متميزان على باقي الصفات السبع نظرًا
للمخاطر المحدقة بهما. الكلام لإثبات قدمه ضد خلقه، والإرادة لإثبات شمولها ضد
حرية الأفعال.
١٤٧
ونظرًا لأهمية الكلام، فإنه يظهر بوضوح تام أمام الرباعي كما يطغى أحيانًا
على الثلاثي: العلم والقدرة والحياة، كما غلبت من قبل صفتا المخالفة للحوادث
والقيام بالنفس على أوصاف الذات الست. ويعقد له باب خاص قد يكون هو الباب
الأوحد المستقل في الصفات. وفي بعض المؤلفات يظهر الكلام (القرآن) وتختفي باقي
الصفات الست الأخرى.
١٤٨ ويأتي الكلام في أول الرباعي نظرًا لأهميته.
١٤٩ وعندما تدخل الإرادة مع الثلاثي الأوَّل يظهر الكلام ثاني صفة في
الرباعي بعد الإرادة وقبل السمع والبصر نظرًا لأهميته على السمع والبصر
وارتباطه بهما في نفس الوقت.
١٥٠ ويظهر الكلام في ثلاثة أبواب مستقلة بعد الإرادة، وقبل السمع
والبصر، فتتصدر أهم صفتين تتلوهما الصفتان الأقل أهمية.
١٥١ ونظرًا لارتباط الإرادة بالقدرة، وارتباط الكلام بالسمع والبصر،
فقد تأخر الكلام.
١٥٢ وقد يأتي الكلام في آخر الرباعي بعد الإرادة نظرًا لتكوينه موضوعًا
خاصًّا مستقلًّا حسيًّا.
١٥٣ وقد يذكر معه القرآن نظرًا لأن القرآن هو التعبير الحسي الملموس عن
الكلام أي الكلام الجسمي.
١٥٤ ونظرًا لأهمية إثبات خلق القرآن أو قِدَمه، فإنه يظهر في باب خاص
تالٍ للرؤية وإثباتها. ويظهر كأنه هو كل مسألة الكلام، ولا تذكر مسائل الكلام
الأخرى كالكتابة والتلاوة والحفظ إلا عابرًا في معرض المحاجَّة على قِدَم القرآن.
١٥٥ وقد يظهر الكلام كأحد أبواب العدل ويخرج عن كونه صفة للذات في
أبواب التوحيد. ووجه اتصاله بالعدل هو أن القرآن فعل من أفعال الله يصح أن يقع
على وجه فيقبح وعلى وجه آخر فيحسن. وباب العدل كله في أفعاله وما يجوز أن فعله
وما لا يجوز.
١٥٦ ويثبت عن طريق إجماع الأنبياء دون أن يتوقف ثبوت نبوتهم عليه أي
أنه ليس دليلًا على النبوة كالمعجزة.
١٥٧
ويشمل مبحث الكلام عدة موضوعات، إثبات الكلام أو نفيه، قِدَمه وحدوثه (مشكلة
خلق القرآن)، ثم وصف مراحل الكلام ابتداءً من السمع والبصر حتى الرؤية والتحقق
مارًّا بالحفظ والأداء ثم صيغ الكلام (وحدته وكثرته).
١٥٨ ولكن ما هو تعريف الكلام؟ يتراوح تعريف القدماء بين الكلام كأصوات
وحروف مسموعة أو مقروءة، أي الكلام الحسي، وبين الكلام كمعنى، أي الكلام
النفسي. وينشأ الخلاف في الكلام الحسي، أي الأصوات والحروف، هل هي قائمة بذات
الله أم قائمة بغيره في الهواء أو على الألواح؟ كما ينشأ الخلاف في الكلام
النفسي هل هو قائم بذات الله، أي بنفسه، أم أنه معنى قائم بنفس الإنسان المستمع
أو القارئ؟ فلا خلاف عند القدماء على كونه متكلمًا ولكن الخلاف في معنى
كلامه.
وحجة الكلام الحسي أن الكلام أصوات دالة على معانٍ مخصوصة في أجسام مخصوصة،
الكلام أصوات وحروف يخلقها الله في غيره كاللوح المحفوظ أو جبريل أو النبي.
وهنا يبرز سؤال: وهل اللوح المحفوظ أو جبريل موضوعان حسيان يظهر فيهما الكلام
كما يظهر على لسان النبي وبصوته؟ كما يبرز سؤال آخر: هل الكلام أصوات وحروف
فحسب؟ ألا تدل الحروف والأصوات على معنًى وبالتالي يكون الكلام لفظًا ومعنًى؟
وبالتالي يسهل اتهام الكلام الصوتي فحسب بأنه تعطيل للمعنى أو تجسيم له. ولكن
السؤال الأهم: إذا كان الكلام هو الأصوات والحروف، فكيف يقومان بذات الله
القديم؟ بل قيل إن الجلد والغلاف قديمان! الرغبة في عدم التضحية بالنظرة الحسية
والتمسك بالعقيدة الإيمانية في آنٍ واحد حاصرت العقل فلم يعطِ أي تأسيس لهذا
الجمع بين الكلام الحسي والصفة القديمة، بين الكلام المتكثر والكلام الواحد.
١٥٩
وحجة الكلام النفسي أن الكلام صفة غير الحروف والأصوات؛ لأنها تفيد معاني
وضعًا أو اصطلاحًا. هو الكلام القائم بالنفس، معاني حقيقية قائمة بها،
والعبارات مجرد تعبيرات مختلفة ومتغيرة.
١٦٠ وهو كلام واحد ينقسم إلى أمر، ونهي، واستفهام، وخبر، ونداء، أي خمس
صيغ حسب التعلق. يمتنع عليه الكذب اتفاقًا إمَّا لأنه قبيح والله لا يفعل
القبيح، ولأنه منافٍ لمصلحة العالم والأصلح واجب عليه، أو لأنه نقص والنقص محال
على الله، أو لأنه لو اتصف بالكذب لكان كذبه قديمًا، فيمتنع عليه الصدق، أو
لأنه خبر النبي الذي يُعلَم صدقه بالمعجزة وليس بالكلام حتى لا نقع في الدور.
والحقيقة أن صدق الكلام يكون إمَّا من حيث الصحة التاريخية وهو موضوع النقد
التاريخي وعلوم الرواية ومصطلح الحديث أو من حيث الفهم، ويكون ذلك عن طريق
قواعد اللغة وأسباب النزول أو من حيث التحقق الفعلي كنظام للعالم، ويكون ذلك من
خلال الفعل للأفراد وللجماعات في التاريخ. فلا يرجع صدق الكلام إلى صدق الذات
بحسب كمالها، فذاك صدق علوي مفارق، بل يرجع إلى ضبط الإنسان له بمناهجه في
النقل وبقواعده في التفسير وبأفعاله في السلوك. ولكن تبدو الصعوبة في تصور
الكلام النفسي صفة للذات الإلهية وليس معنًى في الشعور الإنساني. إذ كيف يكون
هذا الكلام مغايرًا للعلم والإرادة، بل قد يخالفهما، فقد أمر الله أبا لهب
بالإيمان (الكلام في صيغة الأمع) مع علمه بأنه لا يؤمن، وامتناع إرادته عما
يخالف علمه محال؟ لذلك آثر الحكماء الحديث عن الكلام الإنساني لفظًا ومعنًى،
الحسي والمعنوي. والحجة أنه لو كان للباري كلام فإمَّا أن يكون من جنس كلام
البشر أو لا يكون. والأول إمَّا أن يكون لسانيًّا وهو تشبيه أو نفسانيًّا وهو
باطل نظرًا لارتباط النفساني باللسان، ولأن النفس بها تفكير ووهم وخيال. كلام
الله إذن ليس من كلام البشر. ولا حيلة للحديث عنه إلا قياس الغائب على الشاهد
وبالتالي الانتهاء إلى الكلام كلفظ أو كمعنًى أو التوقف والتسليم بالعجز عن
تعريف الكلام وهو ما يناقض نظرية العلم؛ لأن الجهل من مضادات العلم.
١٦١
(٦-١) الإثبات والنفي
وهي قضية تتعلق بإثبات الصفات ونفيها. فالباري متكلم بكلام ليس من جنس
الأصوات والحروف، صفة منافية للسكون والآفة، تكلم الله بها، آمرًا، ناهيًا،
مخبرًا. والدليل على ذلك إمَّا النقل والتواتر والإجماع وأمَّا العقل.
والنقل كثير ولكنه ظني، معارَض بنقل آخر، ويمكن تأويله لإثبات الضد. كما
أنه دور؛ لأن النقل نفسه كلام في حاجة إلى إثبات، ولا يثبت إلا بعد إثبات النبوة.
١٦٢ وقد يثبت بتواتر من الأنبياء وبإجماعهم وإن لم يكن دليلًا على
صدق النبوة كالمعجزة.
١٦٣ والتواتر لا يثبت إلا صحة النقل الخارجي دونما نقد داخلي، ولا
يثبت إلا الكلام الحسي من المبلغ إليه. والحقيقة أن إجماع الأنبياء متوقف
على صدق الرسل وصدق الرسل متوقف على صحة الكلام، وبالتالي نقع في الدور.
وقد يثبت بإجماع الأمة، وهو ضعيف؛ لأن الإجماع لا يكون إلا على اللفظ وليس
على المعنى مثل التواتر.
أمَّا العقل فإنه يعتمد على عدة حجج أولها حجة الكمال. فالسمع والبصر
والكلام مظاهر كمال، والصمم والعمى والخرس مظاهر نقص. فلو لم يكن الباري
موصوفًا بها لكان الإنسان أكمل منه فوجب أن يكون الباري سميعًا بصيرًا
متكلمًا بلا صماخ وحدقة ولسان. وهنا يقوم الشعور بإثبات شيء بطريق التشبيه
ثم نفيه بطريق التنزيه أو إثبات الشيء عن طريق نفي الضد، وإثبات الكمال عن
طريق نفي العيب.
١٦٤ وقد يثبت الكلام بكلام النفس قياسًا للغائب على الشاهد مما يدل
على أن الإنسان لا يتحدث عن الكلام إلا وفي ذهنه كلامه، وكأن الكلام على
الإطلاق تجريد لكلامه الخاص، وتحويل للواقع إلى مثال.
١٦٥ وقد يثبت الكلام عن طريق الأحكام. فأفعال العباد مترددة بين
الحظر والإباحة والندب والوجوب. واختصاصها بهذه الأحكام يستدعي مخصِّصًا،
وليست كذلك إرادة الله لأن الله قد يأمر بما لا يريد، وهذا المخصِّص هو الكلام.
١٦٦ ولما كان الله ملكًا مطاعًا، وكان له الأمر والنهي فإن ذلك
يستلزم بالضرورة الكلام.
١٦٧ وقد رد الحكماء على حجة الطاعة بأن ذلك يستلزم التصديق. وكيف
يمكن الرد على منكرها والجاحد لصدقها في نفسها؟ أليس ذلك نقلًا لموضوع
الكلام إلى موضوع آخر هو النبوة؟ وأخيرًا إذا دلت الأفعال من حيث إتقانها
على العلم، ويستحيل أن يعلم الله شيئًا ولا يخبر عنه، والله يصح منه
الإرشاد والتنبيه والتعليم والإخبار، فوجب أن يكون له كلام. وهي حجة قائمة
على جواز انبعاث الرسل، وبالتالي تقوم على شيء مطلوب إثباته.
١٦٨ والحقيقة أن إثبات الكلام بالإرادة أو بالقدرة أو بالعلم أو
حتى بكلام النفس إثبات ضعيف. فالإرادة إمَّا للامتثال أو لإحداث الصيغة أو
لجعلها دالة على الأمر. والأول يعارضه أبو جهل وإبراهيم يذبح ولده، والقدرة
معنًى يتعلق بكل ممكن، والإرادة أخص، والعلم أعم من الأمر، وأحاديث النفس
مرتبطة باللسان.
١٦٩ والحقيقة أن الكلام ليس في حاجة إلى إثبات إنما الإشكال في
إثبات كلام من؟ إن الكلام الإنساني يفرض نفسه، والوحي ذاته كلام بلغة
الإنسان، وصيغه صيغ الكلام الإنساني، أمر ونهي وخبر.
١٧٠
وليس إثبات الكلام أو نفيه مجرد وقوع في التشبيه أو حرصًا على التنزيه،
بل إن الأمر يتعلق بالكلام نفسه. فإن إثبات الكلام كصفة للتأليه المشخص
يوقع في التشبيه، ويعطي الأولوية للذات المشخصة على الصفة ثم للصفة على الكلام.
١٧١ وأن نفي الكلام إثبات للتنزيه لأن الكلام يؤدي إلى الانفعال،
والانفعال نقص في التنزيه على مستوى الكمال ونفور من التشخيص. فالكلام فعل
وانفعال وحركة. الكلام لا صلة له بالذات المشخصة، بل هو من فعل الطباع.
١٧٢ فنفي الكلام إذن قضاء على الاغتراب وعود إلى الكلام الإنساني،
ورد الوعي إلى ذاته مدركًا ومتكلمًا، وإعمال للعقل بدل الوهم، ورؤية للواقع
لا للخيال.
وقد يكون هناك حل وسط بين إثبات الكلام ونفيه، وجعل الكلام صفة فعل لا
صفة ذات، فالتأليه المشخص لا يتكلم، بل هو متكلم.
١٧٣ ومِنْ ثَمَّ يمكن إثبات الصفة دون الوقوع في التشبيه. وصفة
الفعل توحي بأن الكلام ذو اتجاه واحد، وهو قصد من الذات نحو الآخر دون
القضاء التام على التشخيص؛ لأن الذات المؤلَّهة ما زالت موجودة. وقد تنقلب
الآية فلا يصبح التأليه المشخص متكلمًا أو مكلمًا، بل يصبح متكلمًا بكلام
غيره، ومكلمًا لغيره، أي أنه يصبح محلًّا للحوادث كسائر المتكلمين.
١٧٤
والحقيقة أن هذا وضع خاطئ للمشكلة. فالكلام لا ينسب إلى شخص المتكلم أو
حتى إلى السامع، بل يدرس في نفسه. لا يحتاج الأمر إلى افتراض شخص متكلم؛
لأن الكلام موجود بالفعل بدليل الوحي. لا يهم أن يكون الوحي كلام شخص، بل
هو مجرد كلام. والذهن البشري يبحث بعد واقعة الكلام وليس قبلها. المقصود من
الكلام هو اتجاه الكلام وغايته وليس مصدره وأصله، على عكس الصوفية الذين
أرادوا بالتأويل إرجاع الكلام إلى مصدره الأوَّل في شخص المؤلَّه. لا يدل
الوحي على أن هناك متكلمًا، بل على أن هناك مستمعًا. ما يهمنا ليس هو
الإلهيات، بل الإنسانيات، أي فهم الكلام كمقصد أو اتجاه نحو الإنسان.
والشخص نفسه لا يُعرَف إلا من خلال الكلام؛ لأن الكلام يشير إلى تشخيص
عواطف التأليه. الكلام هو نقطة البداية لا الشخص، وأن ما يطرق الأذن هي
الكلمة لا الشخص الذي تفوه بالكلمة. الكلمة موجودة بفعل طرق الأذن، ولكن
الشخص قد يكون وراء ستار أو متحدِّثًا عن بُعد. وأن التحول في تاريخ
العقائد إنما يكون باستمرار من الكلمة إلى الشخص كما تم في تاريخ العقائد
المسيحية وتفسير معنى الكلمة.
١٧٥
فإذا كان السمع والبصر يشيران إلى العلم، فهما طريقان إليه. وإذا كانت
الإرادة ما هي إلا صفة تشبيهية للقدرة وتشخيصًا لها كان الكلام في الرباعي
موازيًا للحياة في الثلاثي. فما الصلة بين الحياة والكلام؟ يمكن القول بأن
الحياة تعبير، وبأن المشخص ليس فقط في ذاته عالمًا قادرًا، بل هو أيضًا
متصل بالحياة ويراسلها. ليس التأليه فقط ارتفاعًا إلى أعلى ومفارقةً كما هو
الحال في التنزيه، بل هو أيضًا نزول إلى أسفل واتصال بالآخرين وحديث مع
الناس.
(٦-٢) هل الكلام قديم؟
وهو الموضوع الغالب على تحليل صفة الكلام كتطبيق خاص للحكم العام على
الصفات بالقِدَم أو الحدوث، كما كان العلم نقطة تطبيق لموضوع العلاقة بين
الذات والصفات، علاقة زيادة ومساواة، غيرية وهوية. والكلام هو الصفة
الوحيدة من الصفات السبع التي لها تحقق ملموس، مرئي ومسموع، هو القرآن. ومن
هنا أتت أهميته كدليل حسي مادي على وجود الباري. وأهمية القرآن هو أنه
الخبر، وهو مصدر العلم، وهو الصفة الأولى التي منها تثبت باقي الصفات
الأخرى نقلًا، وبالتالي له الأولوية عليها باعتباره مصدرًا. وابتداءً من
القرن السادس انتقلت مسألة القِدَم والحدوث من صفة الكلام إلى مسألة الوحدة
والكثرة. فإثبات وحدة الكلام إثبات لقدمه وقيامه بالذات، وإثبات الكثرة
إثبات لحدوث الكلام وقيامه بالحوادث.
١٧٦ والعجيب أن اسم المشكلة ليس قِدَم الكلام وحدوثه، فذلك اسم
الحكم العام للصفات كلها أو قِدَم الكلام فقط، وهو ما ركز عليه الأشاعرة،
بل «خلق القرآن»، أي نظرية خصومهم المعتزلة. فالتعبير ذاته يوحي بالنفور.
فليس هناك مسلم واحد يرضى بخلق القرآن نظرًا لأن الإحساسات الدينية
للمسلمين تمج الخلق ولا تقبل إلا القِدَم. القِدَم أكثر تعظيمًا وإجلالًا
من الخلق، القديم أفضل من الجديد، والماضي أعمق من الحاضر، والأصلي أقرب
إلى القلب من التقليد.
وقد أجمع أهل الإسلام على أن لله كلامًا، وعلى أن الله كلَّم موسى، وعلى
أن كلامه في سائر الكتب المنزلة في التوراة والزبور والإنجيل والقرآن، أي
في الصحف.
١٧٧ ولكن المسألة هي الصلة بين الكلام كصفة للذات وبين الكلام
الحسي المقروء. فالصفة المجردة تدخل تحت إشكال القِدَم والحدوث والكلام
الحسي يدخل تحت إشكال المعنى واللفظ. وتنشأ المشكلة عندما يتم الخلط بين
المستويين للكلام الصوري والمادي، فتعتبر الصفة المجردة حادثة أو يعتبر
الكلام الحسي قديمًا. وهنا تنشأ الحلول المتوسطة التي تحاول الجمع بين
الطرفين مثل قِدَم الصفة المجردة وحدوث الكلام الحسي، أو قِدَم الذات وحدوث
الصفات، قِدَم المعنى في النفس وحدوث اللفظ المجرد أو رفض الجميع والتوقف
عن الحكم. المواقف إذن أربعة: إمَّا أن يكون الكلام قديمًا حتى بأصواته
وحروفه، وإمَّا أن يكون قديمًا ككلام نفسي دون الأصوات والحروف، أو يكون
الكلام حادثًا حتى في الذات والصفات كرد فعل على قِدَم الذات والصفات، أو
يكون حادثًا غير قائم بالذات بل قائم في المحل.
١٧٨ والحقيقة أنه يمكن رد هذه المواقف الأربعة إلى اثنين: الأوَّل
عدم التمييز بين المستويات، سواء كان ذلك قولًا بقِدَم الكلام ذاتًا وصفةً،
معنًى ولفظًا، أو بحدوثه ذاتًا وصفةً، معنًى ولفظًا. والثاني التمييز بين
المستويات سواء كان بين الذات والصفة أو المعنى واللفظ أو كان بين القيام
بالذات والقيام بالمحل.
والحشوية مذهب يقوم على التوحيد بين الكلام كصفة قديمة أزلية وبين الكلام
كأصوات وحروف. لذلك يُسَمَّى مذهب المشبهة الحلولية المجسمة. وينشأ الخلط
من الجمع بين الكلام القديم، وهو مفهوم بمفرده كحكم مبدأ بقِدَم الصفات
وبين الكلام كحروف وأصوات، وهو مفهوم كحكم واقع على كلام حسي مرئي. فالجمع
بين الاثنين خلط وتناقض دون تأصيل عقلي يكشف عن الرغبة في الجمع بين
الحساسية الدينية والرؤية الحسية، بين متطلبات الإيمان ومقتضيات الحس،
فينشأ مذهب إيماني حسي. ويعتمد المذهب على مجموعة من الحجج النقلية
والعقلية تعتمد كلها على أن القراءة هي المقروء والتلاوة هي المتلو، وأن
القديم يحل في الحادث ويختلط به مع أن ذلك خلط بين المعنى واللفظ، بين
الماهية والواقع، بين الشيء والدلالة. تقوم الحشوية إذن على الخلط بين
المستويات في مقابل تصور آخر يقوم على التمييز بين المستويات.
١٧٩ والحقيقة أن معظم الأدلة النقلية من القرآن قد أُخرجت من
سياقها ودُفعت إلى أعلى بدلًا من أن تتوجَّه إلى أسفل. خرجت عن العالم
بدلًا من أن تتجه إليه، تتحول إلى صفة لذات مشخصة مع أنها تصورات للعالم
وبواعث للسلوك ونظم للمجتمعات وقوانين للتاريخ. أمَّا الأحاديث فمعظمها ظني
من حيث السند أو المتن، يظهر فيها أثر الخيال الشعبي وأساطير الخلق
وتحديداتها في الزمان والمكان. ويسهل توجيه نقل مضاد لهذا النقل لإثبات عكس
القضية، فيصبح الموقف المذهبي هو الأساس والنقل مجرد تابع ومبرر ومؤيد له.
ومعظم الحجج العقلية من الأحاديث وليست من القرآن، روايات آحاد أكثر منها
تواترًا، عقائد نظرية أكثر منها شرائع عملية، مما يدل على الاغتراب وقذف
الكلام خارج العالم وإلحاقه بالذات المشخصة، الغاية منها التعبير عن العظمة
واللانهائية وليس إصدار حكم على مادة الكلام. الغرض منها الإيحاء النفسي
والتوجيه العملي الذي يصل إلى حد الإرهاب بالعظمة والجبروت وليس المعرفة
الخبرية. وكثير من هذه التأويلات تقوم على بواعث سياسية خالصة، الغاية من
الإلغاز فيها هو السماح للتأويل السياسي سواء من السلطة أو من المعارضة لحل
اللغز طبقًا لمصلحة كل فريق، خاصةً فيما يتعلق بزوال الدول وانهيار أنظمة
الحكم وقدوم دولة أخرى والتبشير بنظام قادم به الخلاص.
هناك إذن فرق بين اللفظ والمعنى، بين الدليل والمدلول، فالقراءة غير
المقروء، والتلاوة غير المتلو، والكتابة غير المكتوب. والأدلة على ذلك
كثيرة من النقل والعقل، من الكتاب والسنة والإجماع والحس والعقل، نقل في
مقابل نقل وعقل في مقابل عقل. والحجة الشاملة هي أنه لا يمكن فهم الكثرة
والوحدة في الكلام إلا بناءً على التفرقة بين اللفظ والمعنى، بين القراءة
والمقروء، بين التلاوة والمتلو. يتعدد القرآن والقرآن واحد، وتتغير الألحان
والقرآن واحد، ويتغير الإعراب والقرآن واحد، ويُثاب كل فرد على قراءته
والقرآن واحد، وتتعدد القراءات والقرآن واحد، يُقرأ بالكلام بالعربية فهو
قرآن، وبالعبرانية فهو توراة أو زبور، وبالسريانية فهو إنجيل. الكلام واحد
والتعبير متعدد اللغات. الأمر بالتلاوة استدعاء للفعل، والفعل صفة المأمور
لا صفة الأمر. القراءة صفة، والمقروء موصوف، وشرط الصفة القيام بالموصوف.
والقراءة وقت الجنابة ممكنة لأن المقروء غير القراءة. كلام الله لا يُلفظ
أو يُحكى به. هو كلام واحد ومتعلقاته كثيرة. وهناك حجج أخرى متعددة، منها
أن القراءة مرة طيبة مستلذة، ومرة فجة تنفر منها الطباع، مرة رقيقة ومرة
منخفضة، وكذلك الكتابة تارة حسنة وتارة سيئة. القراءة فعل الإنسان وعمله،
القراءة طاعة وقربى أو معصية وسوء. لا يتصف الكلام القديم بالحروف والأصوات
ولا شيء من صفات الخلق ولا يفتقر إلى مخارج وأدوات، بل يتقدس عن جميع ذلك.
لا يحل في شيء من المخلوقات. لا يتكلم أحد بكلام الله، فالقراءة أصوات
القراء وأكسابهم، أمَّا المقروء فهو المعروف والمعلوم. القرآن إذن لفظ
متشابه، يُحمَل على القراءة كما يُحمَل على المقروء.
١٨٠
إن كل اختلاف في القراءات أو تغير في الأصوات أو إسقاط لبعض الحروف لا
يحدث تغييرًا في الكلام. الصوت المسموع أو الكلام المكتوب ليس هو الكلام،
ولا يمكن لحروف متفرقة أو متناهية تكوين كلام دال لا متناهٍ. القراءة فعل
فردي شخصي مكتسب تنفيذًا للأمر، في حين أن الكلام هو الأمر. كل ذلك يثبت في
النهاية قِدَم الكلام وأولويته على القراءة.
١٨١ لذلك لا يجوز القول بأنه يلفظ بالقرآن؛ لأن التلفظ رمي، واللفظ
يوحي بالخلق لا بالقِدَم.
١٨٢ لذلك يفضل البعض وصف القراءة بأنها ذكر حتى تتميز عن القراءة
اللفظية للكلام البشري.
١٨٣ والإثبات يلغي هذا التميز بين فعل القراءة وموضوعها، ويجعل فعل
الذات مطابقًا للموضوع تمشيًّا مع اعتبار الكلام موضوعًا حسيًّا خالصًا.
فالمقروء دون فعل القراءة افتراض خالص أو إمكانية محضة لا يمكن معرفتها إلا
من خلال مظهر حسي هو فعل القراءة وما يصدر عنه من أصوات وحروف. لا توصف
القراءة بأنها تلفظ لأنها تختلف عن القراءة العادية لكلام البشر.
١٨٤
البديل إذن عن الخلط بين المستويات هو التمييز بينها. فالقرآن قديم كصفة
أزلية قائمة بالذات ومحدث باعتباره أصواتًا وحروفًا منزَّلة على النبي.
١٨٥ وكل ما هو خارج الصفة مثل اللوح المحفوظ وجبريل وليلة القدر
وبيت العزة والسماء الدنيا والصحف والسور المكية والسور المدنية كلها مخلوقة.
١٨٦ الكلام قديم، والحروف والأصوات مخلوقة. العلم غير مخلوق ولكن
الأمر والنهي مخلوقان. العلم يحتوي على التصور النظري للعالم والأمر والنهي
يمثلان التطبيقات العملية لهذا التصور في الزمان والمكان.
١٨٧ وقد يميز بين الحدوث والخلق، فليس كل محدث مخلوق أو غير مخلوق بالضرورة.
١٨٨ وقد يميز بين الحدث والمحدث، فكل حدث لا يكون بالضرورة محدثًا.
١٨٩ وقد يكون بعض الكلام لا في محل والبعض الآخر في محل.
١٩٠
كلام الله إذن قديم أزلي، نفساني، أحدي الذات، ليس بحروف ولا أصوات.
١٩١ ولا يكفي إثبات ذلك عن طريق تفنيد الموقف الحشوي الذي يقوم على
الخلط بين المستويات، أي عن طريق إثبات استحالة الضد، بل هناك أدلة إيجابية
لإثبات التمايز بين المستويات، بالنقل والعقل. ويشمل النقل الكتاب والسنة والإجماع.
١٩٢ والحقيقة أن ذلك لا يثبت شيئًا، فالنقل معارَض بنقل غيره،
والنقل الأوَّل قد يُؤوَّل حتى يتحول إلى نقل مضاد، فكل نقل خاضع لتفسير
وتأويل طبقًا للمذهب المسبق الذي قرأ نفسه في النص فابتسره وأخرجه من سياقه
ومضمونه وأبعده عن اتجاهه من داخل العالم إلى خارج العالم. أمَّا الأحاديث
فهي آحاد أو ضعيفة معارضة بأحاديث أخرى، أغلبها يظهر فيه الدين الشعبي.
أمَّا الإجماع فإنه ليس تامًّا، وإنه من فرق واحدة، وإنه يقوم على الهوى،
وإنه معارض بالنقل، وإنه لا يتم إلا في مسألة عملية تتعلق بصالح الأمة.
أمَّا الحجج العقلية فمعظمها جدلي يقوم على القسمة واستحالة الحدوث بناءً
على دليل الحدوث لإثبات الصنع وصفة القديم كوصف للذات. وقد تكون حججًا
خطابيةً إيمانيةً مستمدة من الحجج النقلية دون إحكام عقلي نظري كافٍ. وقد
يقوم البعض منها على إثبات استحالة الضد، أي إنها براهين خلق.
١٩٣ وتقوم حجج أخرى لإثبات القِدَم على الفصل التام بين الكلام
والصفة والذات القديم وبين الكلام كموضوع حسي موجود مكتوب ومقروء ومسموع
استنكافًا من المادة وتأفُّفًا منها، ومِنْ ثَمَّ يكون إثبات القِدَم
تعبيرًا عن عواطف التطهر.
١٩٤ وقد كان هم كل متكلم أشعري المباراة في إثبات قِدَم الكلام
والتفصيل في الحجج وكأنها مسألة بها تُرعى مصالح الأمة. منها ما يعتمد على
قِدَم الصفات أو على إثبات الأزلية أو على نفي الضد واستحالة الخلق أو على
مجرد المعنى العام المفهوم من الخبر.
١٩٥
والقول بقِدَم الكلام يؤدي بالضرورة إلى القول ببقائه. فإذا كان الكلام
أزليًّا فإنه يكون كأوصاف الذات المشخص. فهو لا أول ولا نهاية له في
الزمان. ولا يؤثر في ذلك كون الكلام جسمًا أم عرضًا؛ لأنه يكون حينئذٍ
جسمًا أو عرضًا باقيًا في حين أن الأجسام والأعراض الأخرى غير باقية.
١٩٦ وإمعانًا في إثبات البقاء يكون الكلام كله باقيًا، سواء كان
الكلام صفة للذات المشخص أو كلام الإنسان.
١٩٧ ومع ذلك لم تحظ صفة البقاء بما حظيت به صفة القِدَم تمامًا كما
كان الحال في أوصاف الذات عندما حظي القِدَم باهتمام أكبر من البقاء، وكان
ما لا أول له أهم بكثير مما لا نهاية له، وكأن الماضي أهم من المستقبل،
وكأن الغوص في الماضي والبحث عن الجذور أهم من التطلع إلى المستقبل
والتخطيط له. فإذا كان القول بالقِدَم يستتبع القول بالبقاء كما يستتبع
القول بالحدوث القول بالفناء فكيف يشارك الكلام الله في البقاء كما يشارك
في القِدَم؟ أليس ذلك قولًا بتعدد القدماء؟ وكيف يشارك الكلام وهي صفة في
القِدَم وهو وصف للذات؟
والحقيقة أن القول بتمايز المستويات في الكلام تفاديًا للخلط بينهما يكون
موقفًا تطهريًّا صرفًا، يقوم في حقيقة الأمر على مادية مقنعة، وكأن موقف
الخلط وموقف التمييز كلاهما واحد، الأوَّل مادية صريحة، والثاني مادية
مقنَّعة. فما السبيل إلى معرفة الكلام القديم الأزلي؟ نحن لا نعرفه إلا من
خلال الكلام الحادث، وبالتالي لا يمكن معرفة كلام الله كصفة قديمة إلا من
خلال الوحي، أي بلغة الإنسان المقروءة والمسموعة، وهو كلام حادث. وإذا كان
الكلام نفسانيًّا ليس بأصوات ولا حروف فإن السؤال يكون نفسانيًّا بالنسبة
لمن: نفس الله أم نفس الإنسان؟ وهل لله نفس يختزن فيها المعاني كما هو
الحال عند الإنسان؟ أليست نفس الله هي نفس الإنسان مدفوعة إلى أعلى، صورة
مكبرة لصورة أصغر بدافع التعظيم والإجلال، إقلالًا من شأن الذات، وتعظيمًا
من شأن الآخر؟ وإذا كان الكلام أحدي الذات، فإن إنكار التعدد إنكار
للمستويات، وبالتالي وقوع في الخلط بينها من جديد. وإذا كان الكلام ليس
بحروف ولا أصوات ضد الحدوث، فما علاقة الكلام القديم بالكلام الحادث؟ ليس
المهم هو الاعتراف بالتمييز بين المستويات، بل إيجاد الصلة بينها، وإلا
وقعنا في الخلط بينهما من جديد. وإذا كان الكلام مغايرًا لباقي الصفات،
فكيف يكون مغايرًا لها وهو مصدرها؟ ما صلة الواحد بالكثير، والمعنى باللفظ؟
لذلك لا فرق في النهاية بين الخلط وبين المستويات أو بين التمييز بينها.
الأوَّل يجعل الله إنسانًا، فالكلام صوت وحرف، والثاني يجعل الإنسان إلهًا،
فالإنسان تكلم بكلام الله القديم. إن القول بقِدَم الكلام لناتج عن ربطه
بالتأليه المشخص وجعله مشاركًا له في القِدَم والأزلية والأبدية
واللانهائية. وما دام التأليه المشخص غير مجسم كان الكلام كذلك. فالكلام
قديم لفظًا ومعنًى مما يؤدي في النهاية إلى القول بأن الكلام جسم أو أنه
قديم ومحدث في آن واحد، فإذا ما غالى البعض في إثبات القِدَم مزايدةً في
التنزيه، فإنه يجعل الكلام كله قديمًا، سواء كان معنًى أو لفظًا قائمًا
بالذات المشخصة أو بفعل القراءة وبحركة اللسان.
١٩٨
ولما أدى الحكم بالقِدَم سواء في الخلط بين المستويات أو في التمييز
بينها إلى تصور حسي للعالم، كان من الطبيعي أن يعترف بذاك صراحةً. الحكم
بالخلق أو بالحدوث ليس فقط في صفة للكلام، بل في الذات. فلم يعد القرآن
نفسه حادثًا، بل الذات نفسها حادثة ومحلًّا للحوادث، ومن لا يعود هناك فرق
بين الحشوية وأهل السنة وبين المشبِّهة. فالطرفان يلتقيان على التجسيم أو
التشبيه، مرة لحساب الله ومرة لحساب الجسم. ليست صفة الكلام وحدها هي
الحادث، بل إن الذات نفسها تكون محلًّا للحوادث أو محلًّا للقدرة الحادثة.
١٩٩
(٦-٣) خلق القرآن
أمَّا الحكم بالحدوث فقد ظهر في موضوع «خلق القرآن». والحقيقة أن لفظ
الخلق من وضع الخصوم، والأصوب هو الحديث عن القرآن المسموع المرئي المتكون
من الأصوات والحروف والعبارات الدالة والمقروء والمحفوظ، وهي النظرة الأكثر
علمية للكلام.
٢٠٠ ولا فرق في خلق القرآن بين إثبات الصفة ونفيها. ففي كلتا
الحالتين الكلام مخلوق أو حادث. وقد يفضل البعض إقامة فرق دقيق بين الخلق
والحدوث. فإذا كان القرآن محدثًا فإنه يمتنع أن يكون مخلوقًا تجنُّبًا من
الوقوع في التجسيم.
٢٠١ فإذا كان كلام الله أصواتًا وحروفًا ليست قائمة بذاتها، بل
يخلقها في غيره كاللوح المحفوظ أو جبريل أو النبي، فإن ذلك بناءً على أن
أفعال العباد مخلوقة لهم كذلك إمَّا مباشرةً ابتداءً وإمَّا بالتوليد. هناك
إذن صلة بين خلق القرآن وخلق الأفعال، كلاهما فعل إنساني خالص مباشر أو متولد.
٢٠٢ والقول بالحدوث يستتبع بطبيعة الحال القول بالفناء، فكما أن
الكلام حادث فإنه يفنى.
٢٠٣
وهناك عديد من الحجج النقلية لإثبات خلق القرآن.
٢٠٤ وهي أيضًا ظنية؛ نظرًا لأنها ابتسار للوحي وقراءة للمذهب في
النصوص وحق المذهب المضاد في نفس القراءة. وما أسهل من تحويلها إلى حجج
مضادة للمذهب نفسه بقراءة أخرى وبتأويل مضاد. أمَّا الأحاديث فمعظمها ضعيف
وخبر آحاد وتعبر عن الدين الشعبي في الإجلال والتعظيم.
أمَّا الحجج العقلية فنوعان: الأوَّل تقوم على برهان الخلق، أي استحالة
النقيض. مثلًا: لو كان قديمًا لكنا أمام إلهين قديمين: الله والقرآن. لو
كان قديمًا لوجب أن يكون مثل الله لأن القِدَم صفة من صفات النفس والاشتراك
في صفة من صفات النفس يوجب التماثل، أي الاشتراك في جميع صفات النفس. لو
كان قديمًا لاختص ببعض المخلوقين دون البعض مثل اختصاصه بالرسول والقرآن
معجزته، وهو تناقض لأن القديم لا متعلق له. لو كان قديمًا لاستوت نسبته إلى
المتعلقات كالعلم، ووجب أن يكون عالمًا لذاته، قادرًا لذاته كالقديم. ولو
كان قديمًا لاستحال أن يعدم لأن العدم مستحيل على القديم. ويتبع برهان
الخلق حجة جدلية مؤداها أن كلامه إمَّا أن يكون مثل كلامنا أم لا، والأول
مخلوق والثاني لا يعقل؛ لأن الكلام هو الكلام. أمَّا حجج الإثبات فتقوم على
النسخ، ففي القرآن ناسخ ومنسوخ، والنسخ من صفات المحدثات، والقديم يمتنع
عليه النسخ سواء في اللفظ أم في المعنى. والقرآن أوامر ونواهٍ، وليس من
الحكمة أن يأمر بالعدم وينهى عنه. وإذا ما أدى الإنسان الأمر لم يبقَ إلا
الآمر. ويستحيل قِدَم الكلام لاستحالة قِدَم الأمر، فلا يوجد مأمور في
الأزل. والقرآن معجزة الرسول، فيمتنع أن يكون قديمًا. وأخيرًا القرآن مسموع
ومكتوب ومحفوظ، وبالتالي فهو متغير، نلفظ به ونحرك به اللسان. والحقيقة أن
القول بالخلق أو الحدوث أكثر إطلاقًا لعواطف التنزيه، إذ كيف يكون الكلام
بالصوت والحرف المسموع المرئي صفةً تعبر عن التنزيه وهي لا تخلو من حس
وتشبيه؟ كيف يكون القديم حسيًّا؟ إن القول بالخلق والحدوث هو في نفس الوقت
تنزيه للذات وأكثر اقترابًا من الكلام كموضوع حسي علمي يمكن دراسته في علم
الصوت أو في علوم اللغة.
٢٠٥
(٦-٤) هل الكلام مخلوق وجسم وعرض؟
فإذا كان الكلام مخلوقًا، فإلى أي حد هو مخلوق، وإلى أي حد يكون المحل
جسمًا؟ الخلق لا في محل يقرب الكلام من الصفة، والخلق في محل يقربه من
الجسم تنزيهًا للذات.
٢٠٦ ولما كان الجسم جوهرًا له أعراض، فيصبح الكلام مخلوقًا جسمًا
وعرضًا، ثم تتنوع الأحكام عليه بين النفي والإثبات، وبالتالي تكون لدينا
مجموعات سبع. يكون الكلام في محل، إمَّا: (١) مخلوق وجسم وعرض. (٢) مخلوق
وجسم. (٣) مخلوق وعرض. (٤) جسم وعرض. (٥) مخلوق. (٦) جسم. (٧) عرض.
ويُلاحَظ على هذه المجموعات السبع المحتملة عدة أشياء؛ أوَّلًا: الحالة
الأولى يمثلها أهل السنة والأشاعرة، والحالة الأخيرة يمثلها المعتزلة
والكرامية، أي إن الحالتين الأولى والأخيرة على طرفي نقيض، في حين أن باقي
الحالات متوسطة. ثانيًا: إن الحالات المتوسطة أيضًا تدخل في أضداد فيما
بينها، وكأننا أمام الأحكام الخمسة في علم أصول الفقه.
٢٠٧ ثالثًا: إن المجموعات التي تتعامل مع صفة واحدة مثل مخلوق أو
جسم أو عرض لا يوجد فيها إلا احتمالات، النفي والإثبات دون حالات متوسطة،
وكأن التوسط لا يأتي إلا باجتماع أكثر من صفة. رابعًا: هناك احتمالات واردة
نظرًا ولكنها غير واردة عملًا، خاصةً في المجموعات التي تجمع أكثر من صفة.
فالاحتمالات العقلية شيء والمواقف العملية شيء آخر، خاصةً إذا كانت بعض
الاحتمالات العقلية متناقضة لا ينتج عنها موقف فعلي عملي. خامسًا: كل
المواقف القائمة على صفة واحدة كلها احتمالات عملية واقعية، وليس بها
احتمالات قائمة نظريًّا غير واردة عمليًّا. فإذا عرضنا المجموعة الأولى
التي تضم ثلاث صفات: مخلوق، وجسم، وعرض، متدرجة من النفي إلى الإثبات،
نجدها تضم ثمانية احتمالات، كل منها مضاد للآخر، وبالتالي تكون لدينا في
الحقيقة أربعة احتمالات وأضدادها:
- (١)
لا مخلوق ولا جسم ولا عرض. وهي النظرة التقليدية التي تثبت
قِدَم الكلام وتنفي أن يكون مخلوقًا أو جسمًا أو عرضًا، وهي
مضادة للاحتمال الثامن، وهو احتمال وارد ويمثل أهل السنة.
٢٠٨
- (٢)
لا مخلوق ولا جسم وعرض. وهي النظرة التي تثبت قِدَم الكلام
وتنفي أن يكون جسمًا، ولكن في نفس الوقت لا ترى حرجًا في أن
يكون عرضًا لأولوية الذات عليه. وهي معارضة للاحتمال السابع.
وهو احتمال موجود نظرًا وغير وارد عملًا.
٢٠٩
- (٣)
لا مخلوق وجسم ولا عرض. وهي النظرة التي تثبت قِدَم الكلام
ولا ترى حرجًا في جعله جسمًا بما أنه مكتوب مقروء. ولكنه يتميز
عن باقي الأجسام في أنه لا عرض. وهي مضادة للاحتمال السادس.
وهو أيضًا احتمال موجود نظرًا غير موجود عملًا.
- (٤)
لا مخلوق وجسم وعرض. وهي النظرة التي تثبت للكلام صفة
القِدَم ولا ترى حرجًا في كونه جسمًا أو عرضًا كباقي الأقسام.
يكفي أنه يتميز عليها بالقِدَم. وهي النظرة المضادة للاحتمال
الخامس. وهو احتمال وارد نظرًا وغير وارد عملًا.
- (٥)
مخلوق ولا جسم ولا عرض. وهي النظرة التي تثبت خلق الكلام
الحسي ثم تستنكف أن يكون مشابهًا للأجسام، فتنفي أن يكون جسمًا
أو عرضًا، وهي مضادة للاحتمال الرابع.
٢١٠
- (٦)
مخلوق ولا جسم وعرض. وهنا يكون الكلام مخلوقًا وعرضًا
باعتبار أولوية الذات عليه. ولكنه ليس جسمًا لأنه متصل بالذات،
وهي النظرة المعارضة للاحتمال الثالث. وهو وارد نظرًا وغير
وارد عملًا.
٢١١
- (٧)
مخلوق وجسم ولا عرض. وينزل الكلام هنا درجة نحو الحس، ويكون
مخلوقًا وجسمًا، ولكنه يفتقر عن غيره من الأجسام في أنه لا
عرض، وهي النظرة المعارضة للاحتمال الثاني.
٢١٢
- (٨)
مخلوق وجسم وعرض. وهي آخر درجات الحس، والتي يصبح فيها
الكلام موضوعًا حسيًّا خالصًا، وهو الاحتمال الغالب عند
المعتزلة والكرامية وكل المشبهة والمجسمة عندما يتخلص الكلام
نهائيًّا من صفة للذات إلى موضوع لعلوم اللغة.
وتضم المجموعة الثانية صفتين فقط، مخلوق وجسم، وتكون لدينا احتمالات
أربعة، يردان إلى اثنين وأضدادهما، وهي:
- (١)
لا مخلوق ولا جسم. وهي النظرة التقليدية التي تنفي أن يكون
الكلام مخلوقًا أو جسمًا، كما هو الحال في الاحتمال الأوَّل في
الموقف الأوَّل، وهو الموقف المضاد للاحتمال الرابع.
- (٢)
لا مخلوق وجسم. وهي النظرة التي تحاول الجمع بين الكلام
الصوري في أنه غير مخلوق والكلام الحسي في أنه جسم كالاحتمال
الثالث في المجموعة السابقة، وهو موجود نظرًا وغير موجود عملًا
وهو مضاد للاحتمال الثالث.
- (٣)
مخلوق ولا جسم. وهي النظرة التي تثبت الكلام الحسي ثم تنفي
عنه أن يكون جسمًا كباقي الأجسام كالاحتمال الخامس في المجموعة
السابقة. وهو وارد نظرًا وغير موجود عملًا؛ لأنه لا يمكن
للمخلوق إلا أن يكون جسمًا، وهو مضاد للاحتمال الثاني.
- (٤)
مخلوق وجسم. وهي النظرة التي تثبت الكلام الحسي دون أي
استنكاف من الأجسام المخلوقة الأخرى كالاحتمال الثامن في
المجموعة السابقة. وهو الاحتمال المضاد للأول، والأكثر شيوعًا،
والذي هو وارد نظرًا وعملًا.
٢١٣
وتضم المجموعة الثالثة صفتين، مخلوق وعرض، وتكون لدينا أيضًا احتمالات
أربعة يردان إلى اثنين وأضدادهما، وهي:
- (١)
لا مخلوق ولا عرض. وهي النظرة التقليدية الأولى التي تثبت
قدرة الكلام وتنفي عنه أن يكون عرضًا مثل الحالة الأولى
والثالثة في المجموعة الأولى، والحالة الأولى في المجموعة
الثانية، وهي مضادة للاحتمال الرابع.
٢١٤
- (٢)
لا مخلوق وعرض. وهي النظرة التي تثبت قِدَم الكلام ولا ترى
حرجًا في جعله عرضًا لأولوية الذات عليه كالحالتين الثانية
والرابعة في المجموعة الأولى والحالة الثانية في المجموعة
الثانية. وهي واردة نظرًا وإن لم تكن واردة عملًا. ونظرًا
لاستحالة كلام قديم يكون في نفس الوقت عرضًا.
- (٣)
مخلوق ولا عرض. وهي النظرة التي تثبت الكلام الحسي ثم تجعله
مباينًا لباقي الأعراض. وتنفي عنه أن يكون عرضًا كالحالتين
الخامسة والسادسة في المجموعة الأولى، والثالثة في المجموعة
الثانية.
- (٤)
مخلوق وعرض. وهي النظرة التي تثبت الكلام الحسي، وأنه مخلوق
وعرض دون الاستنكاف من شيء مادي كالحالة الثانية من المجموعة
الأولى، والرابعة في المجموعة الثانية.
٢١٥
وتضم المجموعة الرابعة صفتين، الجسم والعرض، دون التطرق إلى مشكلة
القِدَم والخلق. فتكون لدينا مثل المجموعتين الثانية والثالثة أربعة
احتمالات يردان إلى اثنين وأضدادهما:
- (١)
لا جسم ولا عرض. وهي النظرة التقليدية الأولى من المجموعة
الثلاث السابقة التي تنفي عن الكلام أن يكون جسمًا أو عرضًا.
٢١٦
- (٢)
لا جسم ولا عرض. وهي النظرة التي تنفي عن الكلام الجسمية ولا
ترى حرجًا في إثباته عرضًا. ولا توجد نظرًا أو عملًا نظرًا
لاستحالة وجود أعراض بلا جواهر مثل الاحتمال السادس في
المجموعة الأولى.
- (٣)
جسم ولا عرض. وهي النظرة التي تثبت الكلام جسمًا وتستنكف أن
تجعله مماثلًا للأعراض فتنفيها عنه، وهي ممكنة فقط عند من يرى
إمكانية تعري الجواهر عن الأعراض كالاحتمال السابع في المجموعة
الأولى.
- (٤)
جسم وعرض. وهي النظرة التي تثبت الكلام الحسي الخالص دون
استنكاف من المادة، كالحالة الأخيرة في المجموعات الثلاث
السابقة.
وتقوم المجموعة الخامسة على صفة واحدة هي مخلوق، ويكون لدينا احتمالان،
النفي والإثبات:
وتقوم المجموعة السادسة أيضًا على صفة واحدة، هي جسم، ويكون لدينا أيضًا
احتمالان، النفي والإثبات:
- (١)
لا جسم. وهي النظرة التقليدية التي تنفي عن الكلام صفة
الجسم، مثل الحالة الأولى من المجموعات الخمس السابقة.
٢١٧
- (٢)
جسم، وهي النظرة الموضوعية التي تثبت الكلام الحسي مثل
الحالة الأخيرة من المجموعات السابقة.
٢١٨
وتضم المجموعة السابعة والأخيرة صفة واحدة، العرض، ويكون لدينا أيضًا
احتمالان، النفي والإثبات:
- (١)
لا عرض، وهي النظرة التي تنفي عن الجسم أنه عرض، مثل الحالة
الأولى من المجموعات الست السابقة.
٢١٩
- (٢)
عرض، وهي النظرة التي تنفي الكلام الحسي في أكثر صوره
مباشرةً مثل الحالة الأخيرة من كل المجموعات السابقة.
٢٢٠
وما دام الكلام مخلوقًا وجسمًا وعرضًا، فإنه يكون في مكان. وإذا كان في
مكان فهل ينتقل من مكان إلى مكان؟ وهي مسألة لا تعرض إلا للقول بالخلق وليس
للقول بالقِدَم. ويرجع إنكار المكان أساسًا إلى إنكار الصفات الثلاث، مخلوق
وجسم وعرض، وإثبات الكلام قائمًا بالذات وإرجاعه إلى الذات المشخص وتأسيسه
من أعلى وليس من أسفل. فإن كان إنكار المكان في التأليه تعبيرًا عن
التنزيه، فإنكار المكان للكلام رفض للمكان الحسي ووقوع في الصورية والتشخيص.
٢٢١ وقد يؤدي إنكار المكان الموضوعي إلى إثبات مكان آخر أسطوري
خارج العالم كتشخيص للوجود وكإثبات للكلام من عالم آخر زيادةً في التعظيم
والإجلال. وكيف يكون الكلام في مكان من هذا العالم؟ كيف يكون حينئذٍ قراءةً
وكتابةً وسمعًا ورؤيةً؟ قد يكون المكان الأسطوري أكثر عقلانية فيكون الجو.
ولكن يظل الجو أيضًا افتراضًا محضًا لا برهان عليه كأسطورة.
٢٢٢ وهناك بعض الحلول المتوسطة تحاول الجمع بين إنكار المكان
وإثباته، فتجعله قائمًا بالذات المشخص ثم موجودًا في لحظة السمع أو القراءة
أو الرؤية أو الكتابة لقسمة الصفات إلى صفات ذات وصفات فعل.
٢٢٣
وقد يثبت الكلام في المكان دون تحديد، ويكون الكلام في كل مكان حتى وإن
كان مخلوقًا، فإنه لا يوجد بعينه في الحال.
٢٢٤ وإثبات الكلام يعني أن الكلام موجود في اللسان تلاوةً وقراءةً،
وفي الذاكرة حفظًا، وفي العين رؤية، وفي اليد كتابة. ومع أن إثبات المكان
في التأليه وقوع في التجسيم وفي التشبيه، إلا أن إثبات المكان للكلام تمسك
بالنظرة الموضوعية وبالكلام.
٢٢٥ ولكن أين الكلام في الأذن سمعًا، وفي العقل معنًى، وفي الشعور
باعثًا، وفي الواقع بناءً؟ إن وجود الكلام في القراءة والتلاوة والحفظ
والكتابة ليس إحصاءً عامًّا لمظاهر وجود الكلام، بل أكثرها مادةً وأقلها
معنًى. والوجود الفعلي للكلام هو وجوده في الذهن كمعنًى أو كفكر أو كنظر،
ثم وجوده في الشعور كباعث أو سلوك وحياة، ثم وجوده في الواقع كنظام
اجتماعي. يجد الكلام إذن في أماكن كثيرة في مكان واحد، والمكان هنا لا يعني
المحل والمظهر. ولا فرق في هذا بين من يثبت تكثر الكلام أو وحدته. فالوحدة
تشير إلى وحدة الكلام كمعنًى والتكثر يشير إلى مظاهره المتعددة، ولا فرق في
هذا بين من يثبت قِدَم الكلام أو حدوثه.
٢٢٦
والقول بالطباع تجاوز للنفي والإثبات ورفض للأحكام العقلية الخارجة عن
الموضوع وذهاب إلى الموضوع ذاته ورد استقلاله إليه، وقضاء على التشخيص
كليةً، وتحويل الإشكال كله إلى البعد اللغوي وإثبات المجاز في أسلوب
التعبير. القول بالطبائع إعادة لوضع المشكلة ونفي للتشخيص عن طريق الخلق،
ورفض لثنائية الخالق المسيطر والمخلوق النسبي المُسيطَر عليه. وهو رد فعل
عنيف على القول بالقِدَم. فالقِدَم يعطي الفعل كله للذات في حين يعطي القول
بالطباع الفعل كله للشيء وينكر دور الذات المشخص على الإطلاق.
٢٢٧ وقد يعني فعل الطبيعة أن الكلام ازدهار للطبيعة واكتمال لها.
والكلام هو الطبيعة في صورتها المثلى، متطابقًا مع الطبيعة بفعل النزول،
وتطور للطبيعة بفعل النسخ، واكتمالًا للطبيعة بفعل اكتمال الوحي.
٢٢٨ قد يعني فعل الطبيعة أن الكلام تعبير عن الواقع وتأسيس عليه،
والواقع هو الموقف الإنساني المتشابك، مصالح الفرد والجماعة، الصالح العام،
كل ما هو إيجابي ومنتج في الحياة.
وقد ينكر البعض الحلين المتعارضين، القول بالقِدَم وإعطاء الفعل كله
للذات المشخص ورفض الوقوع في القول بالطباع كليةً وإعطاء الفعل كله
للأشياء، فيصبح بعض الكلام خالقًا.
٢٢٩ وقد يوفق البعض الآخر بين الحلين المتعارضين لصالح كلام الخالق
وتصبح الذات المشخص بعض الكلام.
٢٣٠ والتوقف عن الحكم كليةً إلغاء للوضع الخاطئ للمشكلة دون إعطاء
الوضع الحقيقي أو بيان لنشأة الوضع الخاطئ في الشعور. التوقف يعني أن النفي
والإثبات معًا لا يكفيان كحل للمشكلة، وبأن كلًّا منهما أضيق نطاقًا من
الموضوع. ولا يمكن رد الكل إلى جزء. كما يعني أيضًا أن الواقع لا يقبل
القسمة، وأنه يصعب إرجاع وجود الموضوع إلى قسمة ذهنية خالصة. كما أن التوقف
يعني أن الواقع لا يتحمل حلولًا قاطعةً وأنه ذو أوجه. فقد يكون الإثبات من
وجه والنفي من وجه آخر. وقد لا تكون القسمة ثنائية بل ثلاثية أو رباعية،
ومِنْ ثَمَّ فهي قسمة غير جامعة. وقد يدل التوقف على رغبة في التطهر وعلى
رفض الدخول في متاهات غير مأمونة النتائج ومجهولة العواقب. التوقف هنا يعبر
عن التقوى لا عن الثقة بالعقل، فالعقل هنا مغامرة غير محسوبة العواقب.
٢٣١
وقد لاحظ بعض القدماء والمحدثين أن المسألة كلها تمرين عقلي على التنزيه
والتشبيه لا وجود لها بالفعل دفاعًا عن الوحدانية ضد التعدد مهما اختلفت
الطرق وتعددت الوسائل. ولكنها مسألة في حد ذاتها لا طائل منها ولا فائدة،
وأنه موضوع لغوي صرف لا خيال فيه ولا إيهام.
٢٣٢ كما رفضت بعض الحركات الإصلاحية الدخول فيه أو تجمع بين
المطلبين القِدَم والحدوث، بين المعنى واللفظ من غير تمثيل ولا تعطيل
بالاعتماد على مخترعات العلم الغربي الحديث.
٢٣٣ وقد تكون المسألة كلها سياسية في نشأتها. فقد أرادت السلطة
إيقاع المعارضة في حبائل الموضوعات النظرية الصرفة إبعادًا منها لها عن
المسائل العملية، فساهمت في إثارة مسألة خلق القرآن حتى يسهل حصار المعارضة
وتشويه صورتها أمام العامة المؤمنة بعقائد أهل السنة والمطيعة للنظام.
فاستُعمل الموضوع النظري كسلاح عملي للتكفير وللمحاصرة ولعزلة المعارضة عن
جماهيرها وإعطاء السلطة الحق في اضطهادها واستئصالها والقضاء عليها باسم
الدفاع عن الإيمان والمحافظة على عقائد الأمة.
والحقيقة أن الكلام هو الوحي الذي بين أيدينا المتجه من الله إلى الإنسان
وإلى العالم. الكلام قصد من الله إلى الإنسان ورسالة إلى مرسل إليه عن طريق
المبلغ وهو الرسول. فهو ليس صفة للذات المشخصة أي قصدًا من الإنسان إلى
الله تعظيمًا وإجلالًا وتأليهًا. الوحي إذن كلام الله بلغة الإنسان، وبهذا
المعنى يكون مخلوقًا، أي أنه أرسل إلى الإنسان. هذا هو الخلق الطبيعي أو
الإنساني عندما يتحول كلام الله إلى الإنسان وإلى الطبيعة مثله مثل حكمة
البشر التي تخلد الجماعات والشعوب من خلالها في مأثوراتها وحكمها وأمثالها
وقصصها وسيرة أبطالها. والكلام موضوع طبقًا لأسباب النزول. فهو ليس مفروضًا
على الواقع بناءً على نداء الواقع واكتمل بناءً على تطوره وأُعيدت صياغاته
طبقًا لقدراته وأهليته على ما هو معروف في الناسخ والمنسوخ. هي عملية جدلية
بين الفكر والواقع، الواقع ينادي على الفكر ويطلبه والفكر يأتي مطورًا
للواقع ويوجهه نحو كماله الطبيعي. ثم يعود الواقع فينادي فكرًا أدق وأحكم
حتى يتحقق الفكر ذاته ويصبح واقعًا مثاليًّا يجد فيه الواقع الطبيعي كماله.
ولا يتطلب ذلك التصور افتراض شخص المجرب بل هي عملية تاريخية طبيعية لا
شخصية. الإنسان في العالم موضوع التجربة، وهذا هو الخلق التجريبي. والكلام
كرسالة في التاريخ ينتقل منذ ساعة الإعلان عنه من جيل إلى جيل عبر الرواية
الشفاهية ثم المدونة حتى تضمن صحته التاريخية. الكلام بهذا المعنى هو الخبر
الصادق من خلال مناهج النقل وطرق الرواية. وهذا هو الخلق التاريخي لا بمعنى
أن الكلام من صنع التاريخ أو من وضعه بل إنه محفوظ في التاريخ بلا زيادة أو
نقصان من خلال أعمال الإنسان وإحكامه أنطق الرواية. فالصحة التاريخية
للكلام لا تنتج عن عصمة الرسول ولا من حفظ المرسل ولا من صحة العقيدة أو
الإيمان بالسلطة على ما هو معروف في نظريات «الصدق الإلهي» في تاريخ
الأديان كبديل عن غياب الصدق التاريخي. بعد ذلك يمكن فهم هذا الكلام فهمًا
إنسانيًّا، والاستفادة منه تحقيقًا لمصالح الإنسان، ومِنْ ثَمَّ يتحول إلى
بناء إنساني اجتماعي، يدافع الإنسان عنه دفاعًا عن وجوده. وهذا هو الخلق
المعرفي. يحتوي الكلام على «أيديولوجية» علمية، أو هو بناء نظري للواقع
يتحول إلى بناء فعلي بفعل الإنسان وبجهده ونشاطه.
٢٣٤ إن الكلام مجموعة من الصور الإنسانية الخالصة، خاصة بأسلوب
التعبير والمخاطبة دون وصف لواقع بل للإيحاء به وتوجيهه. الخلق هنا بمثابة
عملية يقوم بها الخيال من أجل توجيه السلوك والتأثير على الناس، وهذا هو
الخلق الفني، وهو جزء من عملية الفهم والتفسير من أجل التوجيه والإعداد.
وأخيرًا الكلام هو في نهاية الأمر بنية الواقع ذاته وكماله وغايته، يتحقق
كنظام مثالي للعالم تجد فيه الطبيعة ازدهارها وكماله. فالكلام مشروع تحقق،
والوحي مشروع اكتمال. وهذا هو الخلق الفعلي. كل ذلك هو الكلام وأوجه خلقه.
هو كلام الله بلغة الإنسان وطبقًا لقدراته والذي يضمن الإنسان صحته
التاريخية وصدقه النظري وتحقيقه العلمي. الخلق أهم صفة تميز الإنسان،
أعطاها للذات المشخص وعزا إليها القدرة والإبداع والتكوين، وسكت هو عن
الخلق، بل قلبه إلى إعجاز وتعجيز وظن أنه لن يقدر على الخلق وأعلن عجزه وأن
الذات المشخص قد صرفت دواعيه وأحالته إلى عاجز مطلق ولم يبقَ له إلا التقليد.
٢٣٥
(٦-٥) مراحل الكلام
ظهر من تحليل القدماء لصفة الكلام أن هناك ثلاثة مستويات له: المستوى
الصوري حيث يبدو الكلام كصفة للتأليه المشخص وإطلاق الحكم للصفات من جديد
القِدَم أو الحدوث. وهو مستوى صوري نظرًا لأنه تحليل نظري خالص ولا يوجد به
أي محك للصدق إلا مجرد الافتراض النظري، وهو البعد القبلي للكلام، ويدخل
فيه الحديث عن اللوح المحفوظ والملائكة والرسل وكل ما يتعلق بنظرية النبوة.
والمستوى الحسي وهو الكلام المقروء أو المسموع أو المكتوب المكون من
الأصوات الحرف، وهي دراسة موضوعية يمكن ضبطها بمقاييس ملموسة نظرًا لوجود
موضوع حسي، وهذا هو البعد الحسي. وأخيرًا المستوى الشعوري، وهو الكلام
عندما يحل كمضمون للشعور، سواء في الذهن ويصبح مفهومًا ويتحول إلى معنى أو
في الوجدان ويصبح باعثًا ويتحول إلى دافع، أو في الذاكرة ويصبح محفوظًا
ويتحول إلى تيار دائم للشعور. وفي نفس الوقت تبدو هذه المستويات وكأنها
مراحل لعملية الكلام ابتداءً من الكلام الحسي حتى الكلام الصوري النظري
المجرد. فالكلام مقروء ومسموع ومكتوب، تقوم به ثلاثة أعضاء: اللسان والأذن
والعين. ثم هو مفهوم ومحفوظ ومحرك يقوم بذلك الذهن والذاكرة والوجدان.
فالكلام الخارجي صوت (المسموع والمقروء) وحرف (المكتوب)، والكلام الداخلي
معنى في الحاضر (المفهوم) أو من الماضي (المحفوظ) أو باعثًا على التحقيق.
٢٣٦
ما هو المقروء؟ المقروء قبل أن يكون مقروءًا أي موضوعًا للقراءة هو فعل
للقراءة، ومِنْ ثَمَّ يرد المفعول إلى الفاعل. ويكون السؤال: ما هي
القراءة؟ هل القراءة كلام؟ الإجابة بالنفي تثبت الكلام المستقل عن القراءة،
وأن الكلام لا يمكن رده إلى مجموعة من الأصوات والحروف إبقاءً على الكلام
كصفة مستقلة وإن لم تكن صراحة صفة الذات.
٢٣٧ والكلام قراءة لأنه قراءة وأكثر، في حين أن القراءة ليست
كلامًا لأنها أقل منه. وإذا كان المقصود بالكلام هو الكلام المعنوي أو
النفسي فإنه أيضًا لا يعبر عنه إلا في صياغات حسية من حروف وأصوات.
والإجابة بالإثبات تنفي أن يكون من الكلام صفة مستقلة وتجعله كلامًا حسيًّا
خالصًا مؤلَّفًا من مجموعة من الأصوات والحروف يمكن ضبطها.
٢٣٨ وبعد فعل القراءة يأتي المقروء، وهو الموضوع الشعوري لفعل
القراءة. هل القراءة هي المقروء؟ هل يساوي فعل القراءة موضوعها؟ وهو نفس
السؤال ولكن في نطاق أضيق. فالنفي يرمي إلى إثبات الفَرق بين فعل القراءة
وهي مجموعة من الأصوات البشرية والحروف وبين موضوع القراءة وهو المقروء
الذي لا يمكن رده إلى مجرد أصوات وحروف لأن له استقلالًا ذاتيًّا خاصًّا به
كالكلام أو الصفة. فعل القراءة صوت بشري بفعل الإنسان الحر يمكن اللحن فيه،
في حين أن المقروء ذاته باقٍ وقائم خارج الأصوات البشرية ولا يهم أين، في
الذهن أو في النفس.
٢٣٩
وما المسموع؟ لا يختلف المسموع عن المقروء إلا من ناحية العضو. المقروء
موجود في اللسان والمسموع في الأذن، وكلاهما صوت. ويكون السؤال: هل المسموع
الكلام أو الصوت؟ إثبات المسموع كلامًا إثبات للصفة القديمة ورفض لرد
الكلام إلى مجرد الصوت.
٢٤٠ ويكون السمع هنا بمعنى الفهم فيسمع الكلام متلوًّا.
٢٤١ ويكون السمع مباشرةً بغير واسطة ودون حاجة إلى قراءة أو تلاوة.
وقد يكون السمع متلوًّا ومقروءًا.
٢٤٢ والسمع المباشر قد يكون سمعًا بلا حجاب ومصاحبًا برؤية هذه
المراتب في السماع تعبر في الحقيقة عن درجة القرب من الذات المشخص حتى يمكن
تصنيف الأنبياء طبقًا لها، ويكون أفضل الأنبياء من يسمع مباشرةً بلا حجاب،
ويتلوه من يسمع مباشرةً حجاب. ثم يأتي عامة البشر الذين يسمعون بطريق غير
مباشر عن طريق الأصوات دون رؤية أو نظر للصوت أو لمصدره. أمَّا إثبات
المسموع صوتًا فهو وصف لعملية السماع الحسية دون إثبات أي كلام خارج الصوت
المسموع. وتقوم الإرادة بفعل تقطيع الصوت. ولا يهم بعد ذلك إذا كانت
الإرادة حركة أم ليست حركة.
٢٤٣ الكلام لا يسمع بالأسماع، بل المسموع هو الشيء المتكلم. وقد
تختلف اللهجات للمسموع تبعًا لاختلاف القراءات نظرًا لتغيير مخارج الأصوات
دون تغيير في الحروف.
٢٤٤ وقد يتوحد المسموع والمقروء والملفوظ والمتلو في شيء واحد.
٢٤٥ فالقارئ بصوت والسامع بصوت والتالي كطريقة في الأداء أقرب إلى
القلب وأبلغ في النفس من القراءة بلا صوت أي بالكتابة. وإذا كان المتكلم لا
بد أن يكون متكلمًا بكلام مسموع، فماذا عن الصمت؟ ألا يعني السمع أيضًا
امتثال الأوامر وليس مجرد سماع الأصوات؟
٢٤٦
وما المكتوب؟ الحقيقة أن التقابل موجود بين الصوت والحرف. فالصوت يشمل
المقروء والمسموع، أي عضوي اللسان والأذن، والحرف هو المكتوب الموجود في
العين رؤية وفي اليد كتابة. فالكلام إمَّا مقروء أصواتًا أو مكتوب حروفًا.
وكما كان السؤال هل كل الكلام قراءة أو مقروء يكون السؤال أيضًا بالنسبة
للكتابة والمكتوب، هل الكلام حروف؟ فالإجابة بالنفي إثبات للاختلاف بين
الكلام والحروف وإعلاءً لشأن الكلام ورفض لرده إلى مجرد الحروف التي يتكون
منها كلام البشر. فإذا كان استقلال الكلام بمعناه وإثبات استقلال المعنى عن
اللفظ نظرية مثالبة للغة فإنه كون المعنى خارج الذهن كصفة لذات مشخص نظرية
دينية غيبية للغة.
٢٤٧ وقد يتم التوحيد بين الكلام والحروف لا من أجل نظرية عملية
للكلام، بل من أجل تقديس الحرف واعتباره مقدسًا قديمًا كالكلام. والكلام
مكتوب في هذا العالم كما أنه مكتوب في عوالم أخرى سابقة على هذا العالم
ولاحقة عليه. وهذه أسطورة حسية تقوم على التجسيم.
٢٤٨ وإثبات الهوية بين الكلام والحروف إثبات للكلام الحسي الخالص
ورفض للذهاب إلى ما وراء الصيغ والعبارات إلا من خلال هذه الصيغ وهذه
العبارات نفسها.
٢٤٩ ولكن وحدة الحروف في لفظ واجتماع الألفاظ في عبارات تعطي معاني
ليست هي الحروف. وإذا كان الكلام حروفًا فكم يكون أقل الكلام من حروف؟ أقل
الكلام حروفًا إمَّا حرف واحد، فالكلام اسم أو فعل أو حرف أو حرفان، مثل لا.
٢٥٠
إذا كان المقروء والمسموع والمكتوب هو الكلام الحسي الخارجي، فإن المحفوظ
والمفهوم والباعث هو الكلام النفسي، وهو البعد الثالث الذي يتوسط الكلام
الصوري والكلام الحسي. ويشمل الكلام النفسي المعنى القائم بالنفس أو بالذهن
حيث يصعب التفرقة بين وجود المعنى في الذهن أو في الذاكرة أو في الوجدان.
والسؤال هو: هل يتكلم الإنسان بكلام غير مسموع؟ إن إثبات الكلام النفسي
إثبات لاستقلال المعنى عن الألفاظ والمخارج والحروف. فهو موجود وجودًا
ذاتيًّا خالصًا يشعر به المتكلم ولكن لا يملك التعبير عنه إلا لفظًا أو
إشارةً أو رمزًا، أي في صورة حسية للتعبير عنه وإيصاله للآخرين. يؤكد
الحكماء وجوده في التأمل الخالص والذي لا يمكن التعبير عنه إلا بالصورة
الفنية والخيال وكذلك الصوفية في العلم الإشراقي الذي لا يمكن التعبير عنه
إلا رمزًا أو إشارةً أو تلميحًا.
٢٥١ ويجد الكلام نفسه طريقه بين الكلام القديم والكلام الحسي.
ويغني عن إثبات الكلام القديم لأن الكلام النفسي يميز بين القراءة والمقروء
والدليل والمدلول والحرف والمعنى، كما أن كلام الله منزل على قلب النبي
نزول إعلام وإفهام لا نزول حركة وانتقال. المنزِل هو الله، والمنزَل عليه
قلب النبي، والنزول هو اللغة العربية، والنازل على الحقيقة هو قول جبريل،
ليس بمعنى الإنزال من أعلى إلى أسفل بمعنى الانتقال فذاك ما يخص الأجسام.
٢٥٢ الكلام تجربة شعورية خالصة يكتشف بها الإنسان المعاني في نفسه
بناءً على أفعال الشعور من شك وظن واعتقاد ويقين واستفهام وتفكير وتدبير.
والدليل على كلام النفس هو الدليل على إثبات الكلام، فالكلام هو الكلام
النفسي. فمثلًا صيغ الكلام من أمر ونهي وخبر واستخبار تثبت معاني في النفس
لا تختلف باختلاف العبارات بحسب الأوضاع والاصطلاحات. فالكلام اللفظي يدل
على الكلام النفسي دلالة باللزوم. الكلام الحقيقي موجود في النفس، ولكن تدل
عليه أمارات إمَّا بالقول أو بالإشارة أو بالرمز. وقد لا يعلن عن حديث
النفس بالألفاظ، بل يظل معاني قائمة فيها. قد يخفي الإنسان أشياء ولا يعلن
إلا عن بعضها. والنفاق هو في الحقيقة اختلاف الكلام اللفظي عن المضمون
النفسي. كما أن الإكراه في الكفر لا يمنع اطمئنان القلب بالإيمان. والأمر
يتضمن الطاعة مثل قول: «افعل» التي تتضمن استحبابًا أو وجوبًا أو إباحةً
وذلك ليس موجودًا في اللفظ. والتجارب الشعرية كلها تثبت أن أقوال الشعراء
لها رصيدها في معاني النفس. بل إن الكلام الحسي المادي لا يمكن أن يؤدي إلى
المعنى دون المرور بكلام النفس.
٢٥٣
وقد لا يكون الرمز لغويًّا فحسب، بل يكون شيئًا يشير إلى معنى. فالعين
إشارة إلى الرؤية أو التجسس، والرِّجل تشير إلى السعي، واليد تدل على
القدرة. ولكن هذه الإشارات ليست كلامًا، بل وسيلة لتوصيل المعاني، والكلام
ما هو إلا إحدى الوسائل. فإذا استعملنا الإشارات في الكلام فإنها تكون
صورًا فنيةً لا وقائع مادية. فاليد لا تتكلم بل هي صورة الفعل. فإذا كان
السؤال ماذا يعني إسناد الكلام إلى غير المتكلم؟ تكون الإجابة: لا يمكن
إسناد الكلام إلى غير المتكلم اضطرارًا، بل لشهادة اللسان أو يشير الشيء
إلى معنًى مباشر دون الألفاظ، وفي هذه الحالة لا يكون كلامًا بالمعنى
الدقيق بل مجرد لغة، أي وسيلة للتعبير والإيصال.
٢٥٤ ولا يكون الكلام اضطراريًّا لأنه فعل المتكلم، ولا يكون ضرورة
للجسم لأنه في هذه الحالة لا يكون كلامًا بل دلالةً على المعنى. ويحدث
الكلام في هذه الدنيا، أمَّا في العوالم الأخرى المستقبلية فلا يمكن معرفته
أو إصدار حكم عليه إلا بعد أن يقع بالفعل. قد يكون هناك اضطرار إنساني في
هذا العالم عندما يتكلم الإنسان ويضطر بفعل التعذيب أو عندما يفقد القدرة
على السيطرة على النفس في حالة التنويم المغناطيسي أو بالوسائل العلمية
القديمة عندنا أو الحديثة في الغرب أو في حالات الكذب الأبيض حفاظًا على
الحياة. ولكن هذا الاضطرار وقتي خالص يتغير بتغير الظروف النفسية
والاجتماعية ويعبر عن نفسه أيضًا بالكلام.
٢٥٥
ويكون المعنى النفسي في الشعور محفوظًا ومفهومًا وباعثًا. فالمحفوظ هو أن
يصبح الوحي كلامًا إنسانيًّا خالصًا بمجرد قراءته في الشعور أو تنكشف
ماهيته بناءً على التجربة الشعورية التي تحدث لكل فرد. وهي تجربة واحدة
نظرًا لأن الشعور هو الشعور الإنساني العام. وقد تختلف التجارب باختلاف
البيئة والظروف الاجتماعية التي قد تطغى على الشعور العام وتقلل من شموله.
٢٥٦
أمَّا المفهوم فهو المعنى في النفس، وقد يكون خاطرًا، فالمفكر قبل ورود
السمع يجد في نفسه خاطرين، أحدهما يدعوه إلى معرفة الصانع وشكر المنعم
وسلوك سبيل المحاسن والمسيرات، والثاني يدعوه إلى النقيض. فيختار الإنسان
الأوَّل دون الثاني، وكلاهما من كلام النفس.
٢٥٧ وقد تُسَمَّى المعاني في النفس بعد الألفاظ فكر، وتُسَمَّى
القدرة التي عنها يصدر الفعل قوة مفكرة.
٢٥٨ والكلام إمَّا أن يكون عبارات وألفاظًا وقضايا أو نطاقًا أي
منطقًا خالصًا للكليات والجزئيات والقياس والبرهان.
٢٥٩
وقد يتطور الأمر ويتحول الكلام النفسي إلى إثبات النفس نظرًا للسيادة
الفلسفية على الكلام ابتداءً من القرنين السادس والسابع، ويصبح الموضوع
إثبات أن النفس جوهر روحاني، ويتحول الكلام إلى التحليل لمضمون النفس
وقواها وملكاتها علمًا وإرادة، وإيراد البراهين على أن النفس ليست بجسم ولا
تنقسم، وامتياز النفس الإنسانية على سائر الأجسام، وتحليل استعداداتها
وأمزجتها، والردود على الاعتراضات بالنسبة للحد والرسم أو خواص أفعالها أو
إدراكاتها وأحوالها وكأن الموضوع قد انقلب إلى حديث في علم النفس الخالص.
٢٦٠
أمَّا الباعث فينتج عن أن الكلام ليس معنى فقط أي علمًا بلا إرادة.
فالكلام النفسي يشمل ثلاثة جوانب، الذهني أي المفهوم وهو العلم، والعملي أي
الإرادة والفعل، ثم الوجداني أي الباعث والدافع سواء كعلة فاعلة أو القصد
والهدف كعلة غائية. المعاني في النفس غير إرادة المتكلم وإن كُنَّا
متلازمين. كلام النفس يظهر في الإرادة، فالكلام توجه وفعل. والوحي أصلًا
موجه إلى الشعور، والشعور طرف له، ويتحقق بالفعل والعالم مصب له. تتحول
ماهية الشعور إلى فكر يجمع بين الذهن والشعور والواقع. يتحول الوحي إلى
أيديولوجية نظرية إنسانية لأنها نتاج التجربة الإنسانية وعلمية لأنها
مستمدة من الواقع. ثم تتحول الأيديولوجية إلى نظام للواقع، ويصبح الكلام
هنا وجودًا واقعيًّا كنظام اجتماعي وبناء إنساني تكتمل فيه الطبيعة وتجد
كمالها. يحدث هذا التحول بفعل الإنسان وبحركة الجماهير. هو تحول ممكن مشروط
بوجود الإنسان وبقدرته على الجهد وتنظيم الفعل وتوجيهه وتحريك الواقع به.
وجود الكلام كبناء للواقع هو البديل الوحيد لما ظنه القدماء على أنه صيغة
ثابتة في ذات مشخص.
٢٦١ ولا يتفاضل الكلام طبقًا لموضوعاته وطبقًا لدرجات الشرف
والعظمة والجلال، بل إنه يحتوي على مجموعة من المبادئ يتمثلها العقل وتتحول
إلى بواعث وسلوك وعمل بشري قبل أن تصبح اجتماعية.
٢٦٢
(٦-٦) صيغ الكلام
مضمون الوحي توجيهات للإنسان في صيغ الكلام.
٢٦٣ وهنا يبدو الكلام باعتباره لغة وقضايا ومنها تخرج المعاني،
وتنشأ البواعث، وتظهر وحدة الكلام وكثرته. ففي نفس الوقت الذي يتصارع فيه
المتكلمون حول قِدَم القرآن وحدوثه كصفة أزلية فيكشفون عن اغترابهم عن
العالم تظهر تحليلات طبيعية عن وعيهم بالعالم الشرعي في وحدة الكلام
وكثرته، أي صياغات الكلام، مثل الأمر والنهي والخبر والاستفهام والتعجب،
وكأن تعدد الصياغات لا تنال إلا من وحدة الكلام. وهو تناول لموضوع الكلام
تناولًا إنسانيًّا علميًّا واقعيًّا عمليًّا، هذا الكلام الحسي المقروء
المكتوب المفهوم المحفوظ المحرك لسلوك الأفراد والجماعات تنطبق عليه قواعد
اللغة العربية وصيغ الكلام فيها، ولكن ضاع هذا التحليل الجزئي في خضم
المشكلة الكبرى وهي قِدَم الكلام وحدوثه «خلق القرآن». وبالرغم من الخلاف
حول عدد صيغ الكلام ست أو خمس أو ثلاث أو اثنتان أو واحدة إلا أنه يكفي
انتقال الموضوع من علم العقائد إلى علم التوحيد.
وصيغ الكلام ست: الأمر والنهي، والخبر والاستخبار، والوعد والوعيد. ولكن
لما كان الخبر والاستخبار في النهاية خبرًا لما كان الاستخبار غير متصور في
حق الله، بل يرجع إلى التقدير وهو نوع من الأخبار مثل:
أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى، فقد تصبح الصيغ خمسًا.
وقد يسقط الوعد والوعيد، ويحل محلهما الدعاء والنداء. وقد ترد الصيغ إلى
ثلاث، فالنهي عكس الأمر، والوعيد عكس الوعد، والخبر والاستخبار واحد. وقد
ترد إلى صيغتين طلب فعل أو اقتضاء يشمل الأمر والنهي والوعيد ثم الخبر. وقد
ترد الصيغ كلها إلى واحدة هي الأمر. وقد يزاد في الأمر والنهي الندب وأمر
الإيجاب ونهي التنزيه ونهي التحريم. وفي كل قسم من الخبر والاستخبار أقسام
مثل الخبر عن الماضي والمستقبل والمواجهة والمغايبة. وينتهي الأمر إلى
تحليل صيغ الكلام وكأنها صيغ أفعال، فالكلام فعل. وقد تُضاف مباحث لغوية
أخرى مستمدة من علم أصول الفقه مثل العموم والخصوص والمجمل والمفسر والناسخ والمنسوخ،
٢٦٤ وبالتالي تتم وحدة علمي الأصول، أصول الدِّين وأصول الفقه في
تحليل صيغ الكلام.
ويُقال ذلك في كل صفة، في الإرادة والعلم مثلًا وليس في الكلام وحده،
ولكن الكلام هو الذي فجرها نظرًا لوجود الكلام المحسوس المجسم في مقابل
الصفة الأزلية، ونظرًا لوجود صيغ الكلام وتباين التفسير واختلاف التأويل.
هي نفس المشكلة بين القدرة والإرادة، القدرة واحدة والإرادة متعددة، وقد
تنتقل المشكلة إلى الميتافيزيقا الخالصة، الله والعالم، الواحد والكثير،
المبدأ الأوَّل والكثرة، وتظهر نظرية الفيض معادلة لصيغ الكلام. وقد يتحول
التوحيد تبعًا لذلك من الكلام إلى التصوف، ومن العقل إلى الإشراق أثناء
الانتقال من الكلام إلى الفلسفة، والحديث عن مشكلة الواحد والكثير على
مستوى المعرفة والوجود.
٢٦٥ ويظل التوتر بين الوحدة والكثرة قائمًا. فإثبات الوحدة دون
الكثرة تترك قضية المتعلقات والتضاد بلا تأسيس، فالأمر والنهي متضادان،
ولهما خاصيتان مختلفتان تقتضيان الكثرة والتعدد. ولو كان الكلام واحدًا
لاستحال أن يكون أمرًا ونهيًا وخبرًا واستخبارًا ووعدًا ووعيدًا. إن
الاختلاف والتباين يصل إلى درجة التقابل والتضاد وبالتالي إلى اختلاف
المتعلقات، ومع ذلك ترجمها الأشعرية بالرغم من اعترافها بالصيغ إلى الصفات الأزلية.
٢٦٦ فكلام الله في الأزل لا يتصف بكونه أمرًا ونهيًا وخبرًا
واستخبارًا إلا عند وجود المخاطبين واستجماعهم شرائط التكليف. والأحكام من
صفات الأفعال وليس من جانب الصفات الأزلية، هي أوامر ونواة للعباد وليس
علمًا مجرَّدًا لله.
٢٦٧
وإذا كان الكلام أزليًّا تكون الصيغ كلها أزلية وهو مستحيل. فالأمر يُضاف
إلى المأمور، والمأمور ليس أزليًّا. والكلام من غير مخاطب سفه. والخطاب مع
موسى غير الخطاب مع النبي، ويستحيل المعنى الواحد أو الأمر الواحد في كلا
الخطابين. كما أن الخيربن عن أحوال أمتين مختلفان لاختلاف أحوالهما.
والأوامر والنواهي تختلف في أزمنتها وتتحقق في أوقاتها بدليل النسخ،
والبراءة الأصلية أو عدم جواز الالتزام بالشرع السابق.
٢٦٨ لا يعني القول بالتعدد أية مخالفة للإجماع، فلا إجماع في مسائل
نظرية عقائدية، ولا إجماع عن اجتهاد أو تأويل. كما لا يعني التعدد الفناء
والحدوث في محل وبالتالي يصبح الذي بين أيدينا هو كلام الله أو دليلًا على
معجزة النبي ولا قرآنًا بل يعني أن الكلام متعدد الأوجه، متباين المستويات،
مختلف المراحل.
٢٦٩ إن الاختلاف والكثرة في الأخبار والأوامر لا ترجع إلى العبارات
فقط، إذ إنها تطابق المعنى الصحيح. المعاني المختلفة كالمعلومات المختلفة
تستدعي علومًا مختلفةً وإن شملها اسم العلمية. لا يكون التعدد في الصيغ
وحدها، بل في المعاني وفي أنماط الوجود ذاتها. ولما سادت الوحدة الصورية
الفارغة في شعورنا التاريخي ضاع من وجداننا الحالي روح التعدد والكثرة.
وضحينا بالاختلاف والتباين والفروق الفردية حتى وقعنا في الفردية من وراء
ستار، الفردية المنعزلة والتناطح بين الأفراد الذين لا تجمعهم قضية واحدة.
بل لم تؤدِّ الوحدة الصورية إلى نتائجها الإيجابية فأصبحت وحدة السلطة في
الحاكم الأوحد، ووحدة المذاهب في التيار السياسي الأوحد، ووحدة الكيان
الاجتماعي في الأسرة الواحدة، والمجتمع الواحد بالرغم من التعارض بين
الآباء والأبناء وبالرغم من الصراع بين الطبقات الاجتماعية.
٢٧٠ وبالرغم من إفاضة القدماء في صفة الكلام إلا أنها في أصل الوحي
ليست بأهمية باقي الصفات، ومضافة للإنسان أكثر من إضافتها لله، وأنها تشير
إلى معنى مجازي وهو تحقيق الكلمة أكثر منها صفة أو شيئًا لذات مشخص.
٢٧١
(٧) الإرادة
هي آخر صفة للذات كما استقر ذلك في علم العقائد. ومع ذلك فقد تظهر في أول
السباعي نظرًا لأهميتها.
٢٧٢ وقد تظهر كثاني صفة في الثلاثي بعد القدرة.
٢٧٣ وقد تظهر كثالث صفة في الثلاثي بعد الحياة والعلم وقبل القدرة والاختيار.
٢٧٤ ولكن الغالب ظهورها قبل الكلام في الرباعي والسباعي، كثالث صفة في
الرباعي بعد السمع والبصر وقبل الكلام نظرًا لما يهددها من مخاطر في حرية
الأفعال. تظهر مرتبطة بالخلق وأفراد الذات بهما في باب مستقل لأهميتها.
٢٧٥ وقد تُذكَر الإرادة في ذاتها بصرف النظر عن تعلقها بحرية الأفعال.
وفي المؤلفات المتأخرة تظهر الإرادة في باب مستقل بعد العلم.
٢٧٦ لذلك قد تنتقل الإرادة كلية من التوحيد إلى العدل لأنها ألصق بها وبشمولها.
٢٧٧
ولكن هل الإرادة صفة مستقلة أم يمكن ردها إلى العلم أو القدرة أو الحياة؟
فالعلم إرادة أو قدرة نظرًا لارتباط العقلين النظري والعملي. وبالتالي قد تعني
مريد قادرًا وعالمًا، وقد تعني شيئًا آخر مستقلًّا. قد يريد الإنسان ما لا يقدر
عليه، وقد يقدر على ما لا يريده. قد يريد ما لا يعلمه ويعلم ما لا يريده. الحي
يريد والميت لا يريد، والإرادة تعبير عن الحياة. وإذا كانت صفتا السمع والبصر
في الرباعي تعبران عن صفة العلم في الثلاثي فإن صفة الإرادة ما هي إلا تعيُّن
أو تحدُّد لصفة القدرة. وإذا كان إلحاق القدرة بالوجود مبحثًا ميتافيزيقيًّا
فإن إلحاق القدرة بالإرادة مبحث حسي. الإرادة تشبيه للقدرة. إذا كانت القدرة
صفة ذات فالإرادة صفة فعل. ومع ذلك هناك فرق بين الإرادة والقدرة. تأثير القدرة
في الإيجاد وتأثير الإرادة في التخصيص بالأحوال والأوقات. علاقة القدرة
بالإرادة مثل علاقة العام بالخاص، الطاقة المطلقة بالفعل الواحد، الإمكانية بالتحقيق.
٢٧٨ الإرادة هي المخصص، المخصص للحسن دون القبيح، أي أنها الباعث على
الاختيار. التخصيص بالنسبة للقدرة، وبالتالي تقع الأفعال في الزمان والمكان
بالإرادة. الإرادة هي مخصص الشيء وتخصيص الشيء كمال. وهو ما ينفي التعطيل نظرًا
لتحقق مقدور بين مقدورين ومراد من مرادين. ولا يكفي العلم كمخصص لوجهين:
الأوَّل أن الله عالم بجميع المعلومات بما فيها الصالح والفاسد، والثاني أن
الله عالم بجميع الأشياء ما وقع منها وما لم يقع، فلزم التخصيص بالإرادة. وإذا
كان المخصص مرة العلم ومرة القدرة ارتبطت الإرادة بالثلاثي أكثر من ارتباطها
بالرباعي. أمَّا الاعتراض على التخصيص بأن الإرادة لو تعلقت بفرض لكان الباري
ناقصًا لذاته مستكملًا بغيره، فإنه لا يثبت نظرًا لأن تعلق المراد لذاتها لا
لغيرها. ويقوم على نفي الغائية والقصد مع أن الإرادة هي القصد والباعث على
الفعل والاتجاه نحوه. ومع ذلك هناك فرق بين الإرادة والقصد والاختيار. المريد
ينظر إلى الطرف المراد والقصد هو الإرادة المقارنة والاختيار اختياري، فالمختار
ينظر إلى الطرفين فيختار أحدهما. أمَّا الاعتراض بأن الإرادة صفة نفسية قديمة
لا تتعلق بمتعلقات على وجه التخصيص فهو رجوع إلى مسألة الذات والصفات. وتحديد
الإرادة كصفة تجعل الذات مريدًا ليس تعريفًا للإرادة بل إرجاع لها إلى علاقتها بالصفات.
٢٧٩ كما أن الإرادة صفة تتبع الحياة. بل إن الحياة والسمع والبصر
والكلام كلها تتبع الإرادة. فلا إرادة إلا من حي، ولا حي إلا إذا كان سميعًا
بصيرًا متكلمًا. ويتضح ارتباط الإرادة بالعلم والقدرة والحياة في تعريفها الذي
يتراوح بين هذه الصفات الثلاث. وقد يشير التعريف إلى صفة الكمال، فالإرادة
بالنسبة لذاته هي أن يفعل على وجه السهو والغفلة بالنسبة لغيره على أنه آمر.
وقد يشير التعريف إلى دائرة الانفعالات. فقد تعني الإرادة المحبة لا الكراهة.
فالمحبة أو الرغبة أو الفعل في مقابل الكراهة والإحجام عن الفعل وعدم الرغبة أو
النفور والاشمئزاز والإحباط والخمول وعدم الاهتمام والفتور واللامبالاة.
٢٨٠ الإرادة إذن علم أو باعث وكلاهما من صفات الكمال. ولكن الأهم في
التخصيص بالإرادة هو اصطدامها بالحرية الإنسانية، وباختلاف مرادات البشر. فكيف
يكون الله مريدًا لإرادة زيد وإرادة عمرو عند اختلاف مرادهما، وهي دلالة
التمانع؟ كيف تتعلق الإرادة وهي خير محض بإرادات خيرة وشريرة؟ كيف يكون المأمور
والمنهي مرادًا، الأوَّل علم وقوعه والثاني لم يعلم وقوعه، وتكليف أبي جهل
بالإيمان من غير إرادة له؟ كيف تجوز الإرادة على الله وهي لا تكون إلا عزمًا مع
سبق فكر وتردد؟ يبدو أن في إثبات الإرادة لله مخاطر على الحرية الإنسانية وخلق
الأفعال. فالإرادة نفي للقصد وللاختيار وحرية الأفعال. وفي هذه الحالة تكون
أفعال العباد بالطبع أولى، إذا كان الأمر نفيًا بنفي. ويكون القول بالطباع رد
فعل على القول الإرادة، فعلى الأقل يبقى الطبع للإنسان كالفعل الحر.
٢٨١ وقد لا تتغير إرادة الرضا إذا ما عصى المطيع وقد لا تتغير إرادة
السخط إذا ما أطاع العاصي.
٢٨٢
وقد يكون الدليل على ثبوت الإرادة كون الذات حيًّا، فالإرادة أحد مظاهر
الحياة والميت لا يريد. ولما كانت أفعال الصانع بعضها متقدمة والأخرى متأخرة،
ويجوز في العقل تقديم المتأخر وتأخر المتقدم واختصاص بعضها دون البعض، كانت
الإرادة هي الصفة المخصصة. تثبت الإرادة إذن بإثبات المخصص للأفعال.
٢٨٣ وقد تثبت الإرادة بالأمر، فالأمر لا يكون أمرًا إلا بالإرادة وكذلك
الخبر، والحكم لا يكون حكمًا إلا بالإرادة، وكذلك تأثير القدرة والعلم،
فالكرامة تمنع الفعل وتمنع التأثير على عكس الإرادة. ليست الكراهة باعثًا على
الفعل، بل على امتناع الفعل. الكراهة تؤدي إلى النفور. الإرادة شهوة والكراهة
نفور دون رد الإرادة إلى الشهوة والنفور. فقد يكره الحي ما لا ينفر طبعه عنه
مثل الزنا وشرب الخمر، وقد ينفر طبعه عما لا يكرهه مثل الدواء. وقد تكون
الإرادة تجربة شعورية بديهية لا برهان منطقي عليها.
٢٨٤
وبالرغم من أن الإرادة في نشأتها أمر سلبي أو عدمي إلا أن متطلبات الكمال
تقتضي جعلها أمرًا إيجابيًّا أو ثبوتيًّا. فالكمال لا يجوز أن يصدر عن العدم
لأن العدم نقص. لذلك الإرادة صفة كمال تنفي عن الذات الأهواء والميول والرغبات
والتحيزات والمحاباة. بل إن هذا الجانب السلبي في الإرادة أصبح عنوانًا لها
وبديلًا عنها أو مكملًا لها ومفصَّلًا لمضمونها. فيخصص لصفات الانفعال مسألة
خاصة لربط الانفعالات بالإرادة ونفي الأهواء.
٢٨٥ وتبدو وكأنها قسم من الإرادة ينفي أضدادها لأنها تذكر بعد صفة
الإرادة، خاصةً وأن الإرادة ليس لها معنى مستقل عن القدرة في الثلاثي.
٢٨٦ وتبدو أحيانًا وكأنها من الصفات المختلف عليها مثل التكوين والبقاء
والقِدَم واليد والوجه والاستواء والإدراك والشم والذوق واللمس.
٢٨٧ وقد يظهر نفي الانفعالات النفسية في نهاية ذكر الأوصاف والصفات من
غضب ورضا وحنق وحقد وميل ونفور.
٢٨٨ كما تبدو صفات الرضا والسخط أحيانًا مع الأخرويات في الوعد والوعيد
نظرًا لأنها مقاييس الثواب والعقاب في غياب تصور قانوني لها.
٢٨٩ وتُنفى صفات اللذة والألم والنفع والضرر في النهاية بعد أوصاف
الذات وصفاتها وصفات التشبيه والاستواء وصفات الانفعال والرؤية.
٢٩٠ ويظهر هذا الوصف في نهاية الأوصاف كلها وقبل صفات المعاني السبع.
٢٩١ وتظهر في النهاية قبل الصفات الثبوتية السبع وقبل نفي الطعوم
والألوان آخر صفات السلوب مثل نفي مشاركة الذات لغيرها ونفي التركيب ونفي
التحيز ونفي الاتحاد والحلول ونفي الجهة ونفي قيام الحوادث بالذات.
٢٩٢ ويظهر نفي الألم واللذة كسابع وصف بعد نفي الجسمية ونفي الجوهر
ونفي المكان ونفي الحلول ونفي قيام الحوادث بالذات ونفي الاتحاد.
٢٩٣ ويعقد لنفي الشهوة مسألة خاصة مما يدل على بداية تموضعها في وصف مستقل.
٢٩٤
ويظهر لأول مرة نفي الانفعالات كوصف للذات سلبًا بنفي السرور والغم.
٢٩٥ وتظهر ثانية إيجابًا بإثبات غناه عن الخلق.
٢٩٦ ويظهر الغنى عن الأماكن والأزمان والخلق وبعد القيام بالذات
والوجود والشيء.
٢٩٧ كما يظهر نفي الله عن الحاجة كثالث وصف للذات بعد الوجود والقِدَم.
٢٩٨ وقد يأتي نفي الحاجة كآخر وصف للذات قبل الوحدانية.
٢٩٩ وقد تنفى صفات النقص مع الواحد والحق بذاته في معرض الحياة دون أن
تكون بابًا خالصًا، نفي السهو والنوم والحس والجهل والوهم.
٣٠٠ ويظهر وصف الكمال في عبارات إنشائية دون إحصاء بعد الوحدانية
والقِدَم ونفي الشبه.
٣٠١ كما يظهر إثبات الكمال ونفي النقص في العقائد بعد إثبات الوجود
والقِدَم قبل الصفات السبع وكذلك بعدها نفيًا لجميع صفات التشبيه.
٣٠٢ وفي المقدمات الخطابية يظهر أيضًا إثبات الكمال.
٣٠٣ وينفي عن الله الكلل والتعب.
٣٠٤
وأهم الانفعالات الرضا والسخط، والمحبة والبغض والموالاة والمعاداة.
٣٠٥ وقد تكون الإرادة مضادة للكراهية. فإرادته لشيء كراهيته لضده.
تنتقل الصفات إذن إلى مستوى الانفعال والإرادة فتكون العاطفة رفضة للعاطفة المضادة.
٣٠٦ وتتحول الصفات والصفات المضادة إلى عاطفتي المحبة والكراهية أو إلى
انفعالي الولاية والعداوة والرضا والسخط. وهنا يسقط الإنسان من انفعالاته
الإيجابية والسلبية على الذات المشخص. فالولاية والعداوة انفعالان نفسيان
أسقطهما الشعور على المعبود وجعلهما صفتين له في ذاته.
٣٠٧ وقد يخضع الذات المشخص للانفعالات المضادة فيفرح ويغتنم، ويسر
ويحزن بناءً على ما يحدث في العالم كما يحدث للإنسان تمامًا. يسر بطاعة أوليائه
وينتفع بها ويلحقه العجز بمعاصيهم. يسر ويغنم، يستريح ويتعب، يفرح ويحزن، يمل
وينسى، ويستحي ويهتم.
٣٠٨ وقد كانت هذه الانفعالات هي السمات الغالبة على الآلهة في الديانات
القديمة إذ لم تكن قد تحولت بعد إلى صفات عامة، شاملة عقلية مطلقة، فالانفعالات
أولى المراحل في تصوير الصفات.
٣٠٩
وأحيانًا يتحول الرضا والسخط إلى صفات مستقلة عن الإرادة، وبالتالي تمتد
الصفات لتشمل باقي الانفعالات. ولما كانت الانفعالات فيما يبدو مظاهر للنقض،
فقد تم نفيها إثباتًا للكمال لا فرق بين معتزلة وأشاعرة.
٣١٠ فالرضا والسخط لا يجوزان على الله لأن أحواله لا تتغير. وكذلك
الولاية والعداوة لتعارضهما مع حرية الأفعال، وكذلك جميع مظاهر الانفعالات
الحسية. ولكن قد يختار البعض الفرح دون السرور والرضا والغضب والسخط دون الشفقة
والرأفة والهمة والعناية طبقًا للتوقيف أي للنقل دون العقل، وذلك تحويل للتصوير
الفني إلى وقائع ثابتة وتحويل للتأثير النفسي إلى صفة وانفعالات،
٣١١ أو إثباتها مظاهر للإرادة وليس صفات شاملة.
٣١٢ كما تجمع الفِرَق على نفي مظاهر الآفات كلها وشتى صنوف العاهات
والنافع والضار واللذة والألم، والسرور والملذات والشهوة. لا يعتريه أي مظهر من
مظاهر النقص بل هو الكمال المطلق. وهنا يظهر الفكر على أنه تعبير عن مطلب نفسي
أكثر منه وصفًا لواقع أو على أنه رغبة في الكمال واستنكاف من النقص أو على أنه
تعبير عن عواطف الطهارة والتقوى في صياغات عقلية.
٣١٣
كذلك لا يجلب على نفسه نفعًا ولا يدفع عن نفسه مضرة. لا يخشى شيئًا ولا
يستعين بأحد، لا يخشى الشيطان، ولا يستعين بالملائكة. ولذلك فهو غني عن خلقه
ليس في حاجة وليس في حاجة إلى شكر كما هو معروف في «شكر المنعم»، فالله غنيٌّ
عن العالمين. والحقيقة أن إثبات غنى الله يدل على افتقار الإنسان ورغبته في أن
يكون غنيًّا ولكنه لم يستطع فألَّه الغني. وكل ما قيل عن غنى الله يدل على
حرمان الإنسان منه وشوقه إليه. وقد تدل صفة الغنى عن تأليه الغني لنفسه ونموذجه
وتأييد طبقته تعبيرًا عن واقعه عن طريق الامتداد وليس عن طريق القلب. الغنى وصف
يطلقه الفقير لحرمانه والغني لشبعه. وهو الغنى على الإطلاق والإنسان هو الغني
لا على الإطلاق إذ تعتريه الحاجة ولا يستغني عن أحد أو عن شيء. وهو حي لا تجوز
عليه الحاجة؛ لأنه لا تجوز عليه الشهوة والنفار التي تجوز على الأجسام. لا تجوز
عليه الشهوة؛ لأنه لا يجوز عليه النفور. فالإلجاء على ضربين بطريقة المنع أو
المنافع والمضار ويستحيل كلاهما في حقه.
٣١٤
كل ذلك يدل على نفي صفات النقص عنه وإثبات صفات الكمال له.
٣١٥ بل إن عواطف التأليه كلها قائمة على دليل الكمال دونما حاجة إلى
قسمة عقلية أو صياغة منطقية مثل دليل الأولى. إذ يقوم على افتراض خالص ويعبر عن
عواطف التعظيم والإجلال وليس فكرًا علميًّا وتحليلًا لموضوع. وهو حكم مسبق من
أن المؤلَّه قادر قدرة مطلقة، وعالم علمًا مطلقًا، وكامل كمالًا مطلقًا.
٣١٦ وتصور الكمال المشخص لا يعطي الشعور وجودًا أنطولوجيًّا بل يستعمل
فقط كفكرة محددة. فعندما يوصف الموجود المشخص ويثبت بالعقل يُقال: «وهذا لا
يجوز على الله»، أو: «وهذا يستحيل على الله»، أو: «وهذا ممتنع»، أو: «محال في
حق الله»، مثل وجود النقص أو مسئوليته عن الشر أو تشبيهه بالإنسان. فالكمال حل
لمعظم المشاكل عن طريق التنزيه الشعوري أي عملية التأليه القائمة على تعظيم
الآخر والإجلال له. وقد يقوم دليل الكمال على إثبات الكمال للإنسان من أجل
التخلي عن موقف تعذيب الذات، ولكن يأتي دليل الصانع ثم يجعل كمال الإنسان
دليلًا على وجود مخلوق كامل سبب هذا الكمال ومصدره مع أن كمال الإنسان لا يفترض
بالضرورة وجود صانع كامل.
٣١٧ وزيادة في التنزيه فإن مفهوم الكمال نفسه نفي للنقص، وبالتالي لا
يجوز وصف الله بأنه كامل.
٣١٨ وأخيرًا تجمع صفة الكمال بين جميع الصفات الإيجابية مرة واحدة. فهي
صفة كلية لا تشير إلى وجه واحد من أوجه الكمال، بل تشير إلى الكمال ذاته. وتنشأ
صفة الكمال من إحساس الإنسان بالنقص أمَّا في نفسه، فالإنسان ليس ناقصًا إلا
بناءً على إحساس مرضي باحتقار الذات أو في الواقع، حين يعجز الإنسان عن تحقيق
الكمال، إمَّا في ذاته بتطويرها من درجة أقل إلى درجة أعلى، وإمَّا في الواقع
فإنه يؤله الكمال إذا عجز عن أن يكون كاملًا أو عجز عن تحقيق الكمال في واقعه.
وتختلف صورة الكمال حسب تصور الشعور له. لا توجد صورة واحدة للكمال. كل الصور
تعبير عن درجة إحساس الشعور به.
٣١٩
والسؤال الآن: هل يمكن وصف الله بالمكر والسخط والغضب والكراهية وسائر
الانفعالات السلبية؟ يبدو أن الإسقاط الإنساني أحيانًا للانفعالات السلبية لا
يكون مصاحبًا بالنفي وكأن الانفعالات ليست عيبًا مثل سائر الانفعالات التي يصدر
عليها الحكم بالنفي كعيب ونقص مثل الجهل والعجز والموت والصمم والعمى والبكم.
فالانفعالات الإنسانية إذن لها جوانبها الإيجابية. الحياة ليست علمًا وقدرةً
فحسب بل غضب وسخط وكراهية وحزن وفرح. بل إن الملل والهم والنسيان وكل
الانفعالات السلبية إيجابية وخلَّاقة وبواعث على الصمود والمقاومة وبذل الجهد
لتجاوزها والسيطرة عليها. لذلك ارتبطت الإرادة بالبواعث وشملت الانفعالات. ولكن
الباعث هو الانفعال الواعي المروي، وهو الانفعال الموجب لا السالب. أسقط
الإنسان في التأليه الشخصي جميع انفعالاته لأنه لا يمكن تصور الحياة دون
انفعالات. وقد تدوم الانفعالات وتصبح عامة لا تتغير بتغير الفعل إنساني. وهي
صيغة الانفعال الثابت الذي لا يتغير أن حصل كما هو الحال في الأفكار الثابتة
المستقلة عن الأشخاص والتي لا تتغير مهما تغيرت أفعال الأشخاص. يوصف الله إذن
على مستوى إنساني، فلا يفعل الحديد إلا الحديد: وَمَكَرُوا
وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ. الله إنسان انفعالي،
والانفعال بعد إيجابي في الحياة الإنسانية لذلك يتصف به الله. وهذا كله مجاز
وتشبيه، استعارة وكناية، تشير إلى البعد الفني في رؤية الإنسان لذاته وتصويره
لصفاته، قياسًا للغائب على الشاهد، وأن أي إدراك أو تصور لا يتم إلا بناء على
مقياس إنساني خالص. كل شيء إنساني، والحقيقة إنسانية، والله إنساني ولكن
الإنسان في اغترابه عن ذاته يجهل ذلك وكأن الإنسان هو الوحيد اللاإنساني.
وأحيانًا تكون الانفعالات مزدوجة مثل المحبة والكراهية، الرضا والسخط، وأحيانًا
فردية مثل الجود والكرم إذ لا يجوز وصف الله بالبخل والتقتير: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ بناءً على الانفعالات الإنسانية وتناقضات الوجود
الإنساني … لذلك تشابه الانفعالات المزدوجة أحوال الصوفية المزدوجة أيضًا،
وتشابه الانفعالات الفردية مقامات الصوفية الفردية.
وقد تستثنى بعض الانفعالات الحسية مثل اللذة والألم والنفع والضرر، وكأن
الانفعالات الحسية لا تجوز على الله في حين أن المنفعة والضرر أساس التشريع
ومقياس له وأن تعريفهما لا يتم إلا باللذة والألم. وقد تستثنى بعض الانفعالات
غير الحسية مثل الميل والنفور مع أنها لا تختلف نوعًا وكيفًا عن باقي
الانفعالات المنسوبة إلى الله مثل الولاية والعداوة والرضا والسخط. وقد يُستثنى
الحاجة والفقر مع أنهما ليسا انفعالين بل يخصان الوجود ذاته هل هو محتاج إلى
غيره أم أنه غنيٌّ عنه. تبدو الانفعالات إذن على مستويات ثلاثة، الصوري الوجودي
مثل الغنى والحاجة، الوجداني مثل الرضا والسخط، والحسي مثل اللذة
والألم.
وأخيرًا قد تختلط بعض الانفعالات بالأسماء مثل الجود والكرم والرحمة، وكأنه
لا يوجد إحصاء تام للانفعالات كما هو الحال في الأوصاف الستة والصفات السبع
والأسماء التسعة والتسعين. ومع ذلك فقد جعلها القدماء مظاهر للإرادة وأحيانًا
أخرى للقدرة؛ لأن الله قادر على كل شيء.
٣٢٠ فالقدرة والإرادة قرينان. والحقيقة أن الإرادة في أصل الوحي فعل
وليست اسمًا وفعل للإنسان أكثر منها فعلًا لله ولكن الإنسان أسقطها ومظاهرها
على الله ورضي برؤية ذاته فيه إذا ما استعصى العالم عليه وأصبح عاجزًا فيه.
٣٢١