تبدو الرؤية عند القدماء على أنها أول وصف بل الوصف الوحيد للذات وقبل الصفات
نظرًا لأهميتها. وتبدو وكأنها الموضوع الأوحد في الذات نظرًا لأهميتها وحمية
النقاش حولها.
٦٦ كما تبدو وكأنها أول المسائل المختلف عليها في العقائد. وأحيانًا
تبدو في المقدمات الخطابية إثباتًا لها في إعلان العواطف الأولى مع التسبيحات والتحميدات.
٦٧ وفي المؤلفات المتقدمة تُذكر الرؤية بلا عد أو إحصاء في نهاية
الأوصاف والصفات وبعد موضوع العدل بلا ترتيب.
٦٨ وتُذكر بعض أوصاف الذات وصفاتها وبعد صفات التشبيه من وجه وعين ويد
واستواء وصفات الانفعال من حقد وحنق وميل ونفور.
٦٩ وكثيرًا ما تظهر كعبارات إنشائية ودون صياغة عقلية أو ذكر لوصف أو لصفة.
٧٠ وتُنفى من حيث هي متصلة بنفي الشبه.
٧١ وتُذكر الرؤية في معرض نفي الصورة في نهاية الأوصاف بعد إثبات
القِدَم وتجويز الوجود وإثبات الوحدانية وتجويز الشيء وتجويز النفس ونفي الشبه
(النور) وإثبات اليد والساق والأصبع والقَدَم وعدم تجويز المجيء والذهاب
والتدليل على الوحدانية.
٧٢ ثم تُذكر الرؤية في النهاية أيضًا وقبل نفي المكانية والاستواء.
٧٣ وقد تذكر الرؤية كأحد أبواب إبطال التشبيه.
٧٤ وحتى بعد ظهور أبواب التوحيد تظهر الرؤية في النهاية وتظهر في
نهاية أوصاف الثبوت السبعة وبعد الصفات المختلف عليها
٧٥ كاليد والوجه والاستواء والبقاء والقِدَم وصفات الإرادة، وقبل
الوحدانية والعدل. ونظرًا لأهمية صفة الرؤية قد تنتهي بها الصفات في بحث خاص،
٧٦ وقد يُعاد ذكر الرؤية ونفي كيفيتها الحسية في النهاية في تعبيرات
إنشائية دون صياغات عقلية أو ذكر لصفة. ويظهر موضوع الرؤية في نهاية التوحيد
قبل موضوع الكلام وما يتصل به.
٧٧ وفي أول إحصاء لأوصاف الذات في عشرة يظهر إثبات الرؤية كوصف تاسع
بعد الوجود والقِدَم والبقاء ونفي الجسمية ونفي الجوهر ونفي العرض ونفني الجهة
والتنزيه عن الاستقرار على العرش.
٧٨ وتُنفى الرؤية كسادس وصف للذات بعد إثبات الوجود والقِدَم ونفي
الحاجة ونفي الجسم ونفي العرض،
٧٩ وقبل الوحدانية أو قبل الوحدانية ونفي الحاجة.
٨٠ وهنا يكون نفي الرؤية من باب نفي التجسيم والتشبيه ومخالفة
الحوادث، أي من باب ما يستحيل على الله وليس من باب الجواز،
٨١ وتظهر عرضًا مع نفي التجسيم وأبعاض الإنسان أو كله.
٨٢ وعادةً ما يظهر هذا الوصف في نهاية أوصاف الذات بعد القِدَم
والبقاء والوجود والشيء، ونفي الجسم ونفي الجهة والحيز ونفي الجوهر، ونفي
الاتحاد والحلول.
٨٣ تظهر في نهاية صفات السلوب وقبل صفات الثبوت، صفات المعاني السبع،
وذلك لأن صفات السلوب نفي لمشاركة الذات لغيرها ونفي تركيبها، ونفي التحيز،
ونفي الاتحاد، ونفي الحلول، ونفي الجهة، ونفي المخالفة للحوادث، ونفي اللذة
والألم، وهي صفات ثمانٍ للسلوب.
٨٤ وتظهر على أنها خامس وصف في التنزيه بعد نفي المشاركة والجسمية
والحلول والاتحاد وقيام الحوادث بالذات.
٨٥ كما تظهر على أنها سابع وصف في التنزيهات بعد نفي الجهة والمكان
ونفي الجسمية ونفي الجوهر والعرض ونفي الزمان ونفي الاتحاد والحلول ونفي قيام
الحوادث بذاته.
٨٦ وتُنفى الكيفية بعد إثبات الوحدانية والقِدَم وظهور الصفات السبع
ثم نفي العرض والجسم والجوهر والصور والحد والعد والتبعيض والتجزيء والتركيب
والتناهي والماهية. والكيفية هي اللون والطعم والرائحة والحرارة والبرودة
والرطوبة واليبوسة وغيرها من صفات الأجسام وتوابع المزاج والتركيب.
٨٧
ثم انتقل الموضوع مما يستحيل على الله وصفات التنزيه إلى ما يجب لله وصفات
التشبيه، أي من صفات السلوب إلى صفات الثبوت، فظهر موضوع الرؤية في آخر التوحيد
بعد إثبات الوحدانية، الصفات السبع، قبل الانتقال إلى العدل.
٨٨ وتظهر بعد جميع أبواب التوحيد وقبل العدل.
٨٩ وقد تظهر بعد الصفات السبع وقبل الوحدانية وبعدها يأتي العدل.
٩٠ ويظهر نفي الألوان والطعوم والروائح ليس مع نفي الرؤية، ولكن لأنها
صفات لا مبرر لها في حين أن الصفات السبع لها ما يبررها، وهو إثبات الكمال في
الذات أو في الصفات أو في الأفعال.
٩١ وقد تظهر الرؤية في معرض الحديث عن صفة السمع، وهي الصفة الثانية
من الرباعي (السمع – البصر – الكلام – الإرادة) والخامسة من السباعي (العلم –
القدرة – الحياة – السمع – البصر – الكلام – الإرادة).
٩٢
وقد تُذكَر الرؤية عند المتقدمين في مسألة مستقلة، ليس فقط في التوحيد، بل
أيضًا في العدل، ثم يُعقَد لها فصل خاص مستقل في النهاية.
٩٣ وترتبط الرؤية بالعدل وذلك لأن نفي الرؤية مبدأ وليس عادة حتى لا
يُطعن في العدل. فلماذا يمنع الله نفسه عن البعض ويكشف عن نفسه للبعض الآخر؟
٩٤ وقد لا تُذكر الرؤية مطلقًا في بعض المؤلفات المتقدمة، ويحل العمل
في الجواز محل الرؤية في العقائد المتأخرة عند اكتمال البناء النظري للصفات في
أحكام العقل الثلاثة.
٩٥ ولما تحول مبحث العدل كله عند المتأخرين إلى مبحث التوحيد فيما
يجوز على الله في أحكام العقل الثلاثة، انتقل موضوع الرؤية من العدل إلى
التوحيد من جديد.
٩٦ فدخل فيما يجوز على الله، سواء في الصفات أو في الأفعال.
٩٧ وبالتالي تدخل الرؤية ضمن أحكام الجواز.
٩٨ وبالتالي يرجع الفضل للمتأخرين في نقلها من الاستحالة والوجوب كما
هو الحال عند المتقدمين إلى الجواز أو الإمكان، أي أنها مسألة فرعية لا تخص
جوهر الذات وصفاتها، ليست في لب التوحيد. وقد يترك الجواز عامة دون إعطاء مثل
الرؤية مما يدل على تناقض أهميتها تبعًا لاختلاف الظروف والدوافع.
٩٩ وقد تأتي في آخر مبحث الذات والصفات معًا.
١٠٠
وقد أعدنا نحن نقل الرؤية من حكم الجواز إلى حكم الاستحالة، كما نقلنا العدل
من حكم الجواز إلى حكم الوجوب. فالرؤية مستحيلة، وكان بالفعل أنسب وصف توضع فيه
استحالة الرؤية هو القيام بالنفس؛ لأن الرؤية تتطلب المحل، والقيام بالنفس ينفي
المحل. وهي ليست من الأصول، ويمكن استغناء التوحيد عنها كأحد مكوناته. فنفي
الرؤية في النهاية من الأوصاف السلبية ومن صفات التنزيه، أي أنها من تحديدات
النفي.
وهناك ثلاثة مواقف في موضوع الرؤية: الأوَّل إثبات الرؤية الموضوعية إمَّا مع
المقابلة أو بلا كيف، وهما موقفا التجسيم والتشبيه، والثاني إثبات الرؤية
الذاتية طبقًا لحالات الأفراد وقواهم النظرية والعملية، والثالث نفي الرؤية
الموضوعية كليةً وهو موقف التنزيه.
١٠١ وكل موقف يعتمد على حجج نقلية وعقلية، ولكن الغالب هي الحجج
النقلية مما يدل على أن موضوع الرؤية سمعي خالص، وبالتالي يجب استبعاده من
موضوع العلم طبقًا لنظرية العلم التي تكون فيها الحجج النقلية ظنية خالصة.
١٠٢ لا تثبت الرؤية سمعًا فحسب، فالعقل أساس النقل، وبالتالي يظل
الموضوع كله ظنيًّا ولا يتحول إلى موضوع يقيني إلا بحكم العقل.
١٠٣ بل إن إثباتها في الدنيا شرعًا عليه خلاف وبالتالي ينتفي عنها
الإجماع الشرعي والإجماع نفسه يحتاج إلى إثبات صحة تفسير وإبطال آخر. الإجماع
ذاته خاضع للتفسير والفهم، متغير وخاضع لتطور فهم اللغة ومتغير بتغير الظروف
وباجتهاد كل جيل، ويمكن خرقه بإجماع آخر أو باجتهاد. لا يثبت الإجماع إلا
أمورًا عمليةً وليست أمورًا نظرية. والدليل النقلي حتى ولو كان إجماعًا
متواترًا لا يقطع في مسألة نظرية أصولية.
١٠٤ ومهما كان العقل قادرًا على إيراد حجج، فإنه لا يستطيع في أمر
متعالٍ كهذا باعتراف الأصوليين،
١٠٥ فليس أمامهم إلا السمع، والسمع ليس حجة عقلية بل ظنية. ولما كانت
الرؤية لا تثبت إلا سمعًا، والإلهيات تقوم على العقل، كان موضوع الرؤية خاصةً
الرؤية في الآخرة أقرب إلى السمعيات وأدخل في المعاد خارج نظرية الذات والصفات
والأفعال التي تقوم على أحكام العقل الثلاثة. فالموضوع متعالٍ وحجته ظنية،
وبالتالي فهو خارج الإلهيات والعقليات طبقًا لمقاييس القدماء. ولا يصبح موضوعًا
لعلم أصول الدِّين إلا إذا كان موضوعًا عينيًّا من خلال التجربة الإنسانية
الخاضعة لتحليل العقل. وقد تكون في نهاية الأمر مسألة معرفية خالصة، رؤية
المعاني وإدراكها وبالتالي فهي جزء من نظرية العلم.
١٠٦
(٤-١) هل يمكن إثبات الرؤية الموضوعية؟
وتعني الرؤية حينئذٍ رؤية الله بالعين كرؤيتها للأشياء مع المقابلة وبشرط
الضوء والأشعة والملامسة والجهة والملاقاة والمداخلة. فإذا كانت الرؤية من
جهة الفوق فذلك لأن الفوق أشرف من التحت، والرؤية من علٍ تكشف أكثر من
الرؤية من أسفل، أكثر شمولًا واتساعًا واكتمالًا من الرؤية الجزئية الحسية
الجانبية. الأولى رؤية العقل والثانية رؤية الحس.
١٠٧ وقد تكون هذه الرؤية وما يصاحبها من حركات الملاطفة والمعانقة
والمجالسة والملامسة تعبيرًا عن كبت جنسي وحرمان دنيوي أو عجز فعلي.
فالصوفي محروم جنسيًّا، فيتخيل أنه يعانق الحور العين، ومحروم دنيويًّا
فيتوهم أنه يأكل من ثمار الجنة، وعاجز عن محاربة الظلم فيتصور محاربة
الشيطان، الشر المجسم. والمُضطهَد قد ضاع منه الله، واهتزت من تحت أقدامه
الأرض، فيتوهم أنه ممسك به معانقًا إياه، وأنه وحده المدافع عنه ضد الظلم،
أو أنه يعانق الزعيم الشهيد ويتشبث به ويتمسك بمبادئه. أمَّا جواز الرؤية
دون اشتراط الجسمية فإنه تحصيل حاصل، فلا رؤية حسية عينية في الخارج لشيء
موجود في الخارج إلا إذا كان جسمًا. ولا يكمن قياس الله على الملائكة في
جواز رؤيتهم دون أن تكون أجسامًا، فالله ليس من جنس الملائكة، كما أن
الملائكة يمكن للبعض رؤيتها كما تروي الأخبار والآثار والتجارب الروحية
للأولياء والصوفية. كما يستحيل إثبات الرؤية بلا كيف لأن الرؤية لا تكون
إلا كيفًا، كمن يقوم بخطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف أو من يثبت قضية ثم
ينفيها والموضوع واحد. لا يمكن أن تتم الرؤية بعين البصر إلا بالملاقاة وبالشعاع.
١٠٨
والحقيقة أن الأدلة النقلية لا تثبت الرؤية بقدر ما تنفيها.
١٠٩ فسؤال موسى «رب أرِني» لا يدل
على إمكان الرؤية؛ لأن العاقل لا يطلب المحال لأن السؤال قد يكون طلبًا
للمحال بغية التعليم. سؤال موسى إذن لا يعني الإمكان، بل يهدف إلى رد
الإنسان إلى حدوده الطبيعية مانعًا له من أي اغتراب في العالم، تاركًا رؤية
الأشياء إلى رؤية وهمية مشخصة للمعاني. كما أن الرؤية هنا تعني البيان
والإظهار والكشف ولا تعني الرؤية بالعين. وكلمة «لن» للتأبيد وليس للتوقيت،
للتأييد وليس للتأكيد. ولماذا يكون النفي للمستقبل؟ وكيف لا يدل على منع
الجواز ويدل على منع وقوع الجائز، إذ إن معنى الجائز أنه لم يكن واقعًا؟
وتعني الإجابة بالنفي الاستحالة لا الجواز. وهي آية مطلقة يرى الأشاعرة
أنها لا تمنع من الخصوص في بعض الأوقات في حين أن الحكم العام في كل
الأوقات، والاستثناء لا يكون قاعدة. ولا يُقاس ذلك على أن اليهود لن يتمنوا
الموت لأن الموت واقع والرؤية ليست كذلك. ولا يعني الاستقرار في المكان
إثبات الرؤية نظرًا لاستقرار الجبل، بل يعني العود إلى العالم، وأن من يريد
رؤية الله الثابت العظيم الشامخ الجليل فليرَ الجبل آية منه أو يكون
استقرار الجبل محالًا لأنه متحرك إمَّا بدوران الأرض أو بدكه، وبالتالي
تعليق الرؤية على شرط محال فتكون محالة. ثم إن موسى قد تاب عن سؤاله بقول:
«تُبت إليك.» والتوبة لا تكون إلا من
الذنب وهو طلب رؤية الله. كما أن اليهود «أخذتهم الصاعقة» جزاءً على طلب الرؤية، وكأن
اليهود هم الذين استدرجوا موسى للطلب، وموسى رغبةً في إيمانهم وجَّه الطلب
بدوره إلى الله دون أن يمعن أو يفكر فيه، كما طلب مائدة من السماء من قبل
فنزلت لهم. فالرؤية هنا ليست معجزة أو آية أو دليلًا، بل استحالة وذنب وطلب
من وعي مجسم مشبه وشعور مادي قاصر عن التنزيه وإدراك المعاني المستقلة. فهو
سؤال القوم على لسان موسى وليس سؤال موسى. موسى مجرد مبلغ حتى لا تأتي
الإجابة من السلطة مباشرةً وليس من موسى حتى يخف الاعتراض وتزداد درجة
القبول، وحتى يثبت لهم بالتجربة استحالة الرؤية بدخول طرف ثالث وليس مجرد
بسؤال وإجابة بين طرفين. وقد تخيل القدماء احتمالات أربعة لموسى: الأوَّل
هو السؤال عنها بعد العلم بجوازها، وهذا تحصيل حاصل، فمن أين يأتيه العلم
قبل السؤال؟ ولا يمكن السؤال إلا عن مجهول. والثاني هو السؤال عنها مع
العلم باستحالتها وهو أيضًا تحصيل حاصل، فمن أين يأتيه العلم بالاستحالة؟
وإذا كان يعلم بالجواز أو الاستحالة فلمَ السؤال عنه؟ والثالث هو السؤال
عنها وهو شاكٌّ فيها كما شك إبراهيم، ويريد موسى إجابة كي يطمئن قلبه، وهو
احتمال وارد، وكانت الإجابة بالاستحالة. والاحتمال الرابع هو السؤال عنها
وهو ذاهل العقل لا يفهم شيئًا، وهو متأزم من تعنت قومه، وهذا هو الاغتراب
في صورة التجربة الدينية عند موسى وقومه، فكانت لإجابة تصحيح الاغتراب. لم
يشأ موسى أن يرد الاغتراب بنفسه حتى يأتي التصحيح من الرب أقوى وأفعل.
بالإضافة إلى أن موسى نفسه كان مغتربًا صوفيًّا متأزمًا يود رؤية الله
تعويضًا له عن مآسي قومه وعصيانهم له.
١١٠ كما أن قصة موسى في مراحل الوحي السابقة وفي ظرف تاريخي خاص
لشعب معين، في مرحلة اليهودية والشخصية اليهودية والوعي الحسي اليهودي الذي
يطلب الرؤية الحسية والإله الحسي والنعيم الحسي والبرهان الحسي. وهي تورد
في مورد التهكم عليهم في إطار تطور مراحل الوحي، ولكن في نهاية الوحي وبعد
اكتماله لا يعود الموضوع مطروحًا. فالله لم يعد شخصه بل كلامه، وكلامه لا
يُرى بل يُسمَع ويُطبَّق كنظام للعالم.
وهناك حجج نقلية أخرى بعيدة وغير مباشرة تتحدث عن الرؤية في الآخرة لا في
الدنيا، وهي لغة مجازية صرفة تعني الرؤية، فيها الرحمة والثواب.
١١١ وأي تأويل آخر يحتاج إلى إثبات بدليل أو قرينة.
١١٢ أمَّا الأحاديث فإنها روايات يمكن الشك في صحة سندها كما يمكن
تأويل متنها. معظمها أخبار آحاد معارضة بغيرها، توجب التشبيه وتعارض الحسي.
وهي تُورَد في مورد التهكم عليهم في إطار تطور مراحل الوحي، ومجرى العادات.
كما أنها تتضمن الجبر بالإضافة إلى التشبيه وبالتالي تعارض مبدأي التوحيد
والعدل. رواتها من فرق المعارضة أو من جماعات الاضطهاد (الخوارج، الشيعة)
من أجل تقريب الله لصفوفها في مواجهة تمثل السلطة القائمة لله وتمثيلها له،
وبالتالي يكون القصد منها نزع السلاح من أيدي الخصوم، ودخول الرؤية في
معارك السلطة والمعارضة.
١١٣ تقع الأدلة النقلية كلها إذن في معارك تفسير النصوص، ولا يكون
الحل هو حل التعارض بين النصوص، بل إرجاعها إلى مواقفها الاجتماعية
والسياسية واستخداماتها في معارك السلطة والمعارضة. وما أسهل الاعتماد على
الدليل الشرعي في مجتمع الشرع فيه سلطة وعلى النقل والرواية وأهل السنة هم
الرواة، والفِرَق هم أهل الأهواء الذين لا تقبل رواياتهم ولا شهاداتهم،
وعلى الإجماع على لذة النظر وهم أهل السنة والجماعة، والفِرَق أهل الكفر
والضلال، وعلى قرائن أحوال الرسول، وكلهم إلى رسول الله منتسب، وعلى قول
الصحابي وهو صاحب السلطة وقريب السلطان، مع أن قوله ليس مصدرًا للتشريع،
والأولى ألا يكون مصدرًا للعقيدة.
١١٤ والحقيقة أن آيات الرؤية في أصل الوحي لا تشير إلا إلى رؤية
الأشياء الحسية أو رؤية ظواهر الطبيعة كآيات الله، وتبين حدود الرؤية
الإنسانية وخداع الحواس وأن الله لا يكون موضوعًا للرؤية بل هو شرط الرؤية
للأشياء. فهو ذات وليس موضوعًا، شرط وليس مشروطًا، يرى ولا يُرى.
١١٥
أمَّا الحجج العقلية، فمنها حجج جدلية، مثلًا: إذا كان الله يجعل الأشياء
لنا مرئية، فليس من المعقول ألا يكون هو مرئيًّا من نفسه أو مِنَّا.
١١٦ وتعتمد الحجة على أن الله شرط الرؤية كما يبدو ذلك من بعض
الآيات. والحقيقة أن هذه الحجة تخلط بين الذات والموضوع. فالله ذات رائية
وليس موضوعًا مرئيًّا، ويتعامل مع ذات رائية، ممكِّنًا إياها من الرؤية،
فلا يتحول إلى موضوع لرؤيتها. كما أنها ليست الرؤية الغالبة. فالغالب أنَّا
نرى الأشياء بأنفسنا. والله ليس موضوعًا منقسمًا على نفسه، مرة ذاتًا ومرة
موضوعًا. وقد تُصاغ هذه الحجة الأولى بطريقة أخرى فيُقال: إذا كان الباري
رائيًا لذاته وجب أن يراه غيره، وهذا في الحقيقة تصور للقسمة في الله
وتحويله إلى ذات وموضوع، والله لا قسمة فيه. كما أن رؤية الذات لذاتها لا
تعني بالضرورة رؤية الغير لها. فالإنسان لا يرى ذاته ولا ذات غيره، فالأولى
ألا يرى ذات الله. الذات الخالصة لا تُرى إلا من خلال الجسم، والله لا جسم
له. والله ليس رائيًا لذاته؛ لأن ذاك يحتاج إلى أن ينقسم إلى ذات وموضوع
كما قال الحكماء: عقل، وعاقل، ومعقول. على أقصى تقدير يمكن رؤية ذات لذات
أخرى عن طريق الغوص في شعور الآخر كما هو الحال بين الصديقين أو الحبيبين،
أو بين الصوفي والله. ولكن الرؤية في هذه الحالة عن طريق الاتحاد وليس عن
طريق المقابلة، كما أنها ليست رؤية بصرية بل اتحاد بالشعور. وقد تُصاغ
الحجة على نحو ثالث فيُقال: إذا كان الله رائيًا لغيره، فيجب أن يرى نفسه.
والحقيقة أن رؤية الذات للغير لا تعني بالضرورة رؤية الغير للذات. وحتى إذا
كان الله رائيًا لنفسه، فإنه لا يمكن للغير أن يراه، إذ إن الشعور الجسمي
غير قادر على رؤية الشعور الخالص نظرًا لاختلاف مستويات الخالص. وهي في
النهاية حجة قائمة على التمثيل. وهي مجرد افتراض نظري راجع إلى عمليات
الشعور. فتصور الله رائيًا للأشياء ولنفسه تشخيص لعمليات التأليه. وإعطاء
المؤلَّه القدرة على أن يرينا الأشياء تفخيم وتعظيم. والقياس باطل، «ما دام
الله رائيًا للأشياء فالأولى أن يكون موضوعًا للرؤية»؛ لأن الذات لا تتحول
إلى موضوع. وإحالة موضوع الرؤية إلى موضوع القدرة هو إحالة العقل إلى
السلطة.
والحجة الثانية أننا ما دمنا نرى الأعراض، فإننا نرى الجواهر بالضرورة.
١١٧ والحقيقة أن هذه الحجة ترى أن صلة العالم بالله صلة الأعراض
بالجواهر، في حين أن الله جوهر مفارق على ما يقول الحكماء والأصوليون
المتأخرون طبقًا لنظرية الوجود.
١١٨ والأقرب أن تكون الصلة هي صلة الدال بالدلالة أو بالآية
المدلول حيث يكون التمييز بين المستويين قائمًا. وطبقًا للشاهد لا ترى إلا
الأعراض، والجوهر مجرد افتراض يفسر تكثر الأعراض بافتراض وحدة الجوهر.
الجسم لا يُرى. وما يُرى هو الامتداد أو الثقل، وكلاهما عرض. الجسم امتداد
وحركة، وهما موضوعان عقليان خالصان كما هو الحال عند الحكماء.
والحجة الثالثة أن كل موجود يُرى، وما دام الله موجودًا فإنه يُرى.
والحقيقة أن الوجود ليس هي الواقعة الحسية حتى تكون مرئية، بل قد يكون
الموجود هو المعنى أو الماهية أو الشعور الخالص. ولماذا يكون القياس عامًّا
وشاملًا؟ وما العلة في التخصيص بالرؤية؟ وقد تأخذ الحجة صورة لاهوتية
منطقية لإثبات الرؤية، ولكن العقل الصريح وتحليل عمليات الشعور يكفيان
لبيان نشأة المشكلة في الشعور. فالمقدمة الأولى «لا يوجد موجود إلا وجائز
أن يرينا الله» غير صحيحة؛ لأن الله لا يُرينا ذاته. وهناك كثير من
الموجودات لا يُرينا الله إياها. كما أن الرؤية في الغالب لا تتم بفعل
إلهي، بل بحاسة بشرية أو بحدس إنساني أي بوسائل المعرفة الحسية دون إحالتها
إلى القدرة الإلهية. والله موجود، ولا يعني ذلك أنه موضوع للرؤية، فلفظ
موجود لفظ اشتباهي يعني الوجود الحسي كما يعني الوجود العقلي. كما أن
المقدمة الكبرى تتضمن النتيجة سلفًا، وبالتالي فالحجة لا تتجاوز الجدل العقيم.
١١٩ تتضمَّن الحجة، وهي حجة الأشعري، خلطًا في معنى الوجود، فليس كل
وجود يُرى. هناك وجود الأفكار والمُثُل والغايات والأهداف، وهناك وجود
الروح، ومنها وجود الله غير المتعين. وهو ما يقوله الأشاعرة أنفسهم في أن
واجب الوجود غير ممكن الوجود، وأن وجود القديم غير وجود الحادث مما يدل على
غياب اتساق مذهب الأشعرية مع نفسه. لذلك يثبت الأشعري الرؤية عن طريق
القياس ومع ذلك ينفي أوجه التشابه بين الله موضوع الرؤية والشيء الموجود
والحادث. فما المقياس؟ وفيمَ يقع القياس وفيمَ لا يقع؟ وبالتالي يكون
اعتراض المعتزلة قائمًا، وهو: ما السبب إذن في الاختلاف بين الذوات؟
١٢٠
والحجة الرابعة جدلية خالصة تقوم على أن النفي إثبات؛ لأن كل نفي نفي
لشيء، ولا يمكن نفي شيء إلا إذا كان موجودًا ومثبتًا من قبل. وبالتالي فإن
نفي الرؤية يعني إثباتها. فنفي الشيء يعني أنه موجود أوَّلًا ومنفيٌّ ثانيًا.
١٢١ والحقيقة أن النفي يمكن أن يكون للمعدوم وليس فقط للموجود. كما
أن النفي ليس إثباتًا، بل إن الإثبات هو نفي النفي.
وهناك حجج أخرى خطابية عامة، مثل أن الرؤية لا تؤدي إلى حدوث أو تشبيه
بالضرورة، وهذا نقل الفرع إلى الأصل، فالرؤية فرع التشبيه. والحقيقة أن
إثبات الرؤية إثبات للتشبيه، فلا وجود لشيء اسمه رؤية بلا كيف؛ لأن الرؤية
بالضرورة كيف، والكيف بالضرورة وقوع في التشبيه. أو أن يُقال: كان الرسول
ينظر إلى جبريل ويسمع كلامه، ومحل الله مثل جبريل. ويبدو أن الأدلة كلها هي
قياس الغائب على الشاهد. تتراوح بين الجدل والخطابة وينقصها البرهان.
١٢٢
ولا يعني بالضرورة افتراض الإدراك بالبصر الرؤية، فقد تعين العين على
الجسم المرئي ولا تتم الرؤية. وقد يتجه الحدس إلى المعنى وتتم الرؤية.
فالرؤية لا تعني بالضرورة وجود العين والجسم. وقد توجد العين ويوجد الجسم
ولا تتم الرؤية، بل يحدث مجرد انطباع حسي غير مدرك وانتقال صورة الجسم في
العين إذا لم يكن الوعي منتبهًا حتى يتم الإدراك. وهذا هو معنى لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ. ولا يمكن أن يكون
المعنى جسمًا، بل يظهر المعنى في تجربة حية في الشعور. قد تكون له حوامل
واقعية، وهي التجارب والمواقف، ولكن يظل المعنى مستقلًّا عنها، أشبه بدلالة
مستقلة أو ماهية، وهي تعادل الواقع الشعوري. ومِنْ ثَمَّ ليس التنزيه شيئًا
مرئيًّا، بل هو معنى أو عملية إدراك المعاني واستبصارها والبحث عن الدلالات
الأخيرة. ووجه التمدح هو كون المعاني دلالات وليست وقائع محسوسة؛ لأن
الوقائع المحسوسة ثبوت وسكون، والتنزيه تعالٍ ومفارقة مستمرة، والتوجه إلى
ما هو أبعد. ولما كانت المرئيات ليست وقائع، فكل براهين إثبات الرؤية
القائمة على إثبات وجود المرئي لا تؤدي إلى إثبات شيء. ولما كان وجود الإله
ليس وجودًا حسيًّا ماديًّا مُعيَّنًا في المكان والزمان، ولكنه وجود معنوي،
كان الخطأ في التفسير أساسًا أن تتحول النصوص إلى أحكام وقائع وليس إلى
أحكام ماهيات. ولو كان الإله مرئيًّا لما اختلفت آخر مراحل التوحيد عن
أوائله، ولأعلن التوحيد فشله أمام المساواة بين الوجود والرؤية أو الوجود
والحسية المادية كما كان الحال في مراحل التوحيد السابقة. فقد كان صراع
التوحيد مع إثبات وجود المعاني، والكشف عن بناء الشعور، وإعطائه القدرة على
التنزيه، أي التعالي المستمر. كان السؤال ممكنًا في مراحل الوحي السابقة،
ولكن بعد اكتمال الوحي واستقلال الشعور يصبح مستحيلًا. بل إنه في مراحل
الوحي الأولى كانت الرؤية مستحيلة، وكان الممكن هو التجلي أو الظهور كما
تجلى الله للجبل كأحد المعجزات، تجلي الذات، بالإضافة إلى ظهور الأفعال
فيصعق الجبل. هذا في الوقت الذي كانت فيه المعجزة برهانًا على صدق النبي
وعلى وجود الله. أمَّا في آخر مراحل الوحي، فلم تعد المعجزة برهانًا:
وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا
أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ (١٧: ٥٩). وأصبح العقل
قادرًا على الوصول إلى الحق، والإرادة قادرة على تحقيق الفعل.
(٤-٢) هل يمكن إثبات الرؤية الذاتية؟
وهي محاولة لإثبات الرؤية دون وقوع في التجسيم أو التشبيه بالتجاوز عن
شروط الرؤية من مسافة ومقابلة وشعاع وملامسة، ومِنْ ثَمَّ تنتفي الرؤية
الموضوعية، وينتفي خطر تحويل الله من ذات إلى موضوع.
فالرؤية باطنية كشفية داخلية ينعم بها المؤمنون وحدهم دون الكافرين في
هذه الدنيا. والحقيقة أن هذا هروب من الموضوعية إلى الذاتية وترك الذاتية
بلا أحكام أو منطق، فتصبح ذاتية فارغة. كما أن هذه القسمة أمر سابق لأوانه،
إذ إنها لا تتحدد إلا في الحكم النهائي في اليوم الآخر. كما تفسح المجال
للأنانية والغرور، إذ قد يدعي كل فرد لنفسه الإيمان ويتهم الآخرين بالكفر.
وما دامت الرؤية ذاتية ينتفي منها صفة الموضوعية، وبالتالي يمكن للمسيحي أن
يرى مريم العذراء والسيد المسيح طبقًا لإيمانه ولا يراها سواه، مما يطلق
العنان للخيالات والأوهام. كما ينتفي منها الشمول والموضوعية وأي مقياس
للصدق أو اليقين.
١٢٣ ولما كان الأنبياء نموذج المؤمنين، كانوا أقدر الناس على رؤية
الله. والحقيقة أن هذا إعطاء للأنبياء دورًا أكثر مما لهم. فالنبي ما هو
إلا رجل يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، يوحى إليه ليبلغ الرسالة وليس له
أية درجة فوق درجة البشر.
١٢٤
وقد تكون الرؤية على قدر الأعمال. فالعمل الصالح يساعد الشعور في الرؤية،
والممارسة نوع من العلم.
١٢٥ والحقيقة أنه حتى في هذه الحالة تختلف الرؤية من فرد إلى فرد
باختلاف درجات الأعمال، وتكون رؤية ذاتية خالصة. وكيف يكون موضوع الرؤية
متفاوتًا في الدرجة طبقًا للأعمال؟ ماذا يساوي نصف عمل أو عمل كامل في
الرؤية؟ هل تنقسم الرؤية إلى درجات طبقًا للأعمال، رؤية قوية وأخرى ضعيفة،
وبالتالي لا يكون للكافرين رؤية؟ وماذا عن صاحب الأعمال الصالحة دون إيمان
أو إقرار؟ وهذا في الحقيقة إحالة لموضوع الرؤية إلى موضوع النظر والعمل.
١٢٦ وهل ما يُرى هو ذات الله أم القدرة على الثقة بالنفس والعلم
والبصيرة بالأشياء والوعي بالعالم والدراية بالكون؟ وماذا عن المغفرة؟ أليس
هذا ادعاء وغرور من المؤمنين؟ كل مِنَّا يدعي الإيمان ويتهم الآخر بالكفر.
أليس الإيمان والكفر نتيجة للعمل الصالح ومشروطين به؟ فالرؤية بهذا المعنى
تتم للشعور اليقظ وليس الغافل، وللشعور الباطن بالتقوى وليس بالمظاهر
الخارجية. ليس المفر إذن من افتراض الرؤية في الآخرة بعد أن ينكشف كل شيء
ويعلم حقيقة المؤمن من الكافر.
فإن لم تتم الرؤية للجميع دون التمييز بين مؤمن وكافر، فإنها تتم للأخيار
وحدهم في الدنيا والآخرة. فالرؤية على قدر الأعمال، العمل الصالح يساعد
الشعور على الرؤية، والعلم يأتي من الممارسة. وهنا تكون الرؤية ذاتية
خالصة، تحدث للبعض دون البعض الآخر. والرؤية الذاتية قد تكون مجرد إسقاط
نفسي أو تركيز القلب كي يخلق موضوعه أو نوعًا من الهلوسة. في حين أن غير
المؤمنين قد يكون لهم شعور محايد لا يرون المعبود لحياد شعورهم وسلامته من
كل انفعالات، وهو الشعور الذي لا يرى إلا ما هو موجود في الواقع. لذلك جعل
الأصوليون وعلماء الحديث حياد الشعور من شروط موضوعية الرواية التي من
أجلها تم استبعاد رواية أهل الأهواء ومنهم المتكلمون. وكان الإسلام أحد
شروط حياد الراوي في أخبار الآحاد لأنه مضاد للهوى.
وقد تحدث الرؤية في وقت معين دون وقت طبقًا لحالات الفرد النفسية ودرجة
تقواه ولحظته الصادقة المتميزة. وهي في الحقيقة لحظات الإبداع ورؤية
الحقائق وليس رؤية الله كموضوع.
١٢٧
وقد تحدث الرؤية في حالة النوم دون اليقظة، إذ يستحيل في اليقظة بمعنى
مواجهة الحس لموضوع الرؤية.
١٢٨ والحقيقة أن ما يحدث في النوم هو رؤيا وليس رؤية، وحلم وليس
إبصارًا، وأدخل في تحليل مضمون الوعي والحالات النفسية منه في تحليل الحواس
وموضوع الإدراك. تستحيل الرؤية الحسية في النوم نظرًا لعدم توفر شروط
الإدراك من وجود حاسة على صلة بموضوع وتوفر وعي يجعل الإدراك الحسي ممكنًا.
قد تكون الرؤية في هذه الحالة هي الحدس الذي يرى مضمون الشعور في حالة
اليقظة وليست رؤية العين لموضوع مادي. وتكون اليقظة عند الصحو وليس عند
النوم وإلا كانت الأحلام رؤية. والفرق بين الرؤية والحلم هو الفرق بين
اليقين والظن، بين الإدراك المباشر وبين التأويل. بل إن الحلم منه ما قد
يكون صادقًا، ومنه ما قد يكون أضغاث أحلام. وكيف يمكن تفسير الأحلام
وتأويلها؟ إن لم تتم الرؤية في حال اليقظة فإنها لا تتم في حال النوم حيث
تغيب الرقابة. أمَّا تفسير الأحلام فموضوعه تحليل اللاشعور ومعرفة الرغبات
المكبوتة والمتمناة التي لم تتحقق بعد.
وقد يتم التحايل لإثبات الرؤية بعدة افتراضات حول كيفية الرؤية. مثلًا:
لا تكون الرؤية بالتحديق وإمعان النظر، بل رؤية عادية على نحو معين.
١٢٩ وهو افتراض يقوم على نفي المشابهة بين رؤية الله ورؤية أي
موضوع آخر، مجرد نفي دون إثبات. قد تكون الرؤية بالتحديق وإمعان النظر، وقد
لا تحتاج إلى تحديق وتكون مجرد رؤية عادية. والتحديق مغالاة في الرؤية
وتعبير عن الدهشة كما يحدث في العالم من اتساع الحدقة حين رؤية الموضوع غير
العادي. وقد تتم الرؤية بعد تهيؤ العين للإدراك، فالحواس لا تعمل إلا من
خلال الشعور. وقبل هذا الإعداد لا تحدث الرؤية، فالرؤية البصرية بلا إدراك
مجرد انطباع حسي ينقصه الوعي حتى يتحول إلى إدراك. وهذا هو سبب التفرقة بين
الإبصار والإدراك. فإذا كانت الرؤية بالإبصار ممكنة، فإن الإدراك بالإبصار
غير ممكن. الإبصار حس في حين أن الإدراك يتجاوز الحس إلى شرطه وهو الوعي أو
الانتباه أو اليقظة. وهي التفرقة التي تحاول الجمع بين الحواس الظاهرة
والباطنة، فالرؤية تتم بالعين ولكن الإدراك أي الوعي بالشيء يتم برؤية
الشعور للماهيات وإدراكه للمعاني.
١٣٠ وقد تتم الرؤية بتغير في موضوع الرؤية ذاته وتشكله في صورة
أخرى حتى يمكن للعين رؤيته. وهذا في الحقيقة احتيال من الله وإظهار نفسه
على غير صورته أو تقلب وتغير، وهو ما يستحيل على الله. كما أن رؤية صورة
الله ليست رؤية لذاته. وهو أقرب إلى القول المسيحي، وكما هو معروف في تاريخ
الأديان، أديان الوحي أو ديانات الطبيعة بأسماء التجلي والتشكل والتناسخ
وظهور الله في صور شتى على ما يقول أصحاب التناسخ والحلول والمجسمة بوجه عام.
١٣١
فإذا ما استعصى التحايل على وظيفة العين أو على موضوع الرؤية يفترض وجود
حاسة خاصة تتم بها وهي الحاسة السادسة! وهي ليست العين المجردة، بل أقرب
إلى القلب أو الشعور. وقد تكون إحدى وظائف الشعور الباطنة. وليس السؤال كما
وضعه القدماء هو قدرة الله على خلق حاسة سادسة، فذلك تحويل لموضوع الرؤية
إلى موضوع القدرة، إنما عن كيفية الرؤية. فكون المؤلَّه قادرًا على أن يرى
نفسه لعباده لجوء إلى افتراض القدرة، واعتماد على برهان السلطة والعظمة
وليس افتراضًا عقليًّا. إنه افتراض شعوري خالص ناتج عن عواطف التأليه
للإجابة على مشكلة واقعية هي موضوع الرؤية. وفي الحقيقة أن الحاسة السادسة
هي الحدس الذي به تتم رؤية الماهيات في الشعور. فالشعور ليس مجموعة من
الحدوس الظاهرة والباطنة، بل هو موطن الحدس، هو الذات العارفة أو الوجود
الإنساني من حيث هو ذات عارفة، وهو ليس حاسة سادسة لها مركز ووظيفة ومحل،
بل هو الشعور الواعي اليقظ. ويقترب هذا الحديث مما يقوله الصوفية عن العين
الباطنة. ويكون السؤال: ما الدليل على وجودها؟ ما مقياس صدقها ومعيار
صحتها؟ وكيف تتم بها الرؤية في الآخرة ولم تتم بها في الدنيا؟ إنها مجرد
حاسة فاضلة شريفة تتفق مع جلال الموضوع وشرفه. الحاسة السادسة أفضل وأعلى
من الحواس الخمس العادية، ومتسقة مع علو الموضوع وشرفه. هو مجرد افتراض محض
عن طريق التمني والحصول على مكاسب بمجرد تخيل الوسائل.
١٣٢
فإذا كانت رؤية الله في الدنيا عليها خلاف بين أهل السنة، فإن رؤيته في
الآخرة عليها اتفاق نظرًا لسهولة الإجماع عليها نظرًا لغياب الدليل، ولأن
الآخرة طبقًا للشعور تسمح بإمكانيات أكثر مما تسمح به الدنيا، فالعلاقة
بينهما علاقة اللانهائي بالنهائي. فهو مرئي يوم القيامة من غير موازاة
ومقابلة ومواجهة ودون شعاع خارج أو داخل. رؤية قلبية أكثر منها عينية. وقد
تحدث الرؤية من جانب الموضوع، أي الله عندما ينكشف لعباده المؤمنين في
الآخرة انكشافًا تامًّا من غير ارتسام صورة المرئي في العين أو اتصال شعاع
خارج من العين إلى المرئي. فالرؤية لا تكون بالعين إطلاقًا لما كانت العين
لا تقوى على النظر إلى الشمس في الدنيا، ولكنها قادرة على ذلك في الآخرة.
١٣٣ والحقيقة أن هذا تحايل على الموضوع وإدراك لصعوبة الرؤية في
الدنيا وخوف من نفيها، وبالتالي لا يبقى إلا إثباتها في الآخرة التي يسهل
افتراض كل شيء فيها، إذ لا يعلم أحد عنها شيئًا، وليست موضوعًا للحس أو
العقل، ولا نعلم عنها شيئًا إلا بالخبر، والخبر دليل ظني طبقًا لنظرية
العلم. ومع ذلك فالآخرة شعوريًّا تعويض عن الدنيا، ورغبة في الاستمرار في
الحياة بعد الانقطاع بالموت، وكشف العالم طبقًا لقوانين العدل. فالآخرة
ليست مكانًا أو زمانًا موضوعيًّا بل عالم التمني عندما لا يتحقق بالفعل.
يختلط فيها المكان بالزمان، فيتصور المكان خارج العالم ثم يوضع في الزمان.
وهو عالم شعوري كما لاحظ الحكماء والصوفية يعبر عن حالات ذهنية أو نفسية
تهدف إلى التأثير في سلوك الناس وليس عالمًا ماديًّا موجودًا بالفعل. ويبدو
هذا الخلط في إثبات الرؤية في الآخرة ليلة الإسراء والمعراج، مع أنها ليلة
في الدنيا مما ينفي الرؤية في الدنيا. وإذا كان لا بد من إثبات الرؤية
فأيهما أفضل، إثباتها في الدنيا أم في الآخرة؟ إثباتها في الدنيا قد يعلم
عنها ويخبر بها ويستفاد منها في حياة الناس، أمَّا إثباتها في الآخرة بعد
انتهاء الوقت وبعد الامتحان فلا يفيد أحدًا. اللهم إلا إذا كان جزاءً
للمؤمنين، نعيمًا ولذةً، مكافأةً لأهل الجنة، وبالتالي تثبيت الرؤية بناءً
على أخلاق الثواب والعقاب، ومكافأة حسية تدل على حرمان وكبت وتعويض واهم عن
مساوئ النظر في الدنيا. والرؤية القلبية في النهاية هي تأويل يتحاشى كيفية
الرؤية كما يتحاشى إثبات الرؤية ونفي الكيفية حتى لا يُثبت الشيء ويُنفى في
وقت واحد، خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف، مثل جسم لا كالأجسام، وشيء لا
كالأشياء، تحصيل حاصل، إقدام وإحجام، «محلك سر»، مثل عبارات السياسيين
والقادة التي لا تقول شيئًا: «نحن لم ننتصر ولم ننهزم.»
والأدلة النقلية لإثبات الرؤية في الآخرة هي نفس الأدلة على إثبات الرؤية
بوجه عام، سواء من القرآن أو من الحديث أو الإجماع.
١٣٤ فآيات القرآن لا تعني الرؤية بل النظر والاعتبار والتفكر أو
تحقيق الغاية. والأحاديث آحاد معارضة بأحاديث أخرى. والإجماع له حدود في
علم الأصول.
أمَّا الأدلة العقلية فهي معتمدة أيضًا على الأدلة النقلية تفسيرًا
وتأويلًا واستنباطًا. فسؤال موسى لا يعني فقط إمكانية الرؤية، ولكنه أيضًا
يفيد الاستحالة بدليل الرد الحاسم بالنفي. والسؤال وإن بدا في ظاهره
شرعيًّا إلا أنه في الحقيقة لا شرعي يدل على اغتراب الإنسان، والقصد منه أن
يرد الإنسان إلى وضعه الطبيعي كموجود في العالم، ويكشف إمكانياته وموضوعاته
ووجوده وسط الأشياء. كما أن تعليق الرؤية باستقرار الجبل، والجبل مستقر،
إحالة إلى الجبل، أي إلى العالم الطبيعي وإلى الكون بدلًا من الخروج عنه
والذهاب إلى ما ورائه. كما أنه إثبات للسكون والثبات وأن تتحول النظرة من
خارج العالم إلى داخله. وتستحيل الرؤية الحسية نظرًا لحاجتها إلى المكان
والجهة والطول والعرض والعمق، وهي كلها من صفات الحدوث. كما أن الهدف من
الاستحقاق ليس هو الجنة بالضرورة ونعيمها ولذة الرؤية إلى الله، وإلا كانت
رؤية الله مثل نكاح الحور العين والأنهار التي من عسل مصفى والتين والزيتون
والرمان. تعالى الله عن هذا الوصف وعن هذا المستوى من الموضوعات. وقد تكون
رؤية الأنبياء، لو صحت، حالة خاصة، وليست حالة عامة، ومع ذلك فالأنبياء
بشر، والله واحد، وما ينطبق على البشر في الرؤية ينطبق على الأنبياء.
واختصاص الأنبياء في الوحي في التشريع وحده (تحريم الزواج من زوجات النبي)
وليس في أمور العقائد. والصديقيون مثل الصوفية، ينطبق عليهم ما ينطبق على
الأنبياء وعامة الناس في الرؤية، أي لا اختصاص لهم في ولاية أو كشف أو
رؤية. وكيف تكون الرؤية جائزة في الجنان عقلًا وموضوع المعاد نفسه موضوع
سمعي؟ وكيف تكون جائزة عقلًا تحقيقًا لوعد الله، والوعد والوعيد أيضًا من
أمور المعاد وهي من الأمور السمعية؟
١٣٥ ولا يمكن القطع في موضوع سمعي. كما أن اعتبار الرؤية مكافأة
يقوم على أخلاق الثواب والعقاب وليس على أخلاق الحسن والقبح لذاتهما. ومِنْ
ثَمَّ يكون موضوع الرؤية أدخل في الأخلاق التجارية المادية الحسية.
وقد اتفق الصوفية مع الأشعرية على إثبات هذه الرؤية الذاتية مما يدل على
أن الموضوع أيضًا موضوع صوفي وليس فقط موضوعًا عقائديًّا.
١٣٦ فالرؤية بمعنى الانكشاف يوم القيامة علم ضروري، وكل من ينكره
ينكر الرؤية. الرؤية بالقلب تبدأ بالحس ويحفظها التخيل ثم تنتقل إلى
التصور. التخيل والتصور إدراك ورتبة أعلى من الحس في الوضوح والكشف وكمال
النفس. ولما كان ذات الله وصفاته لا يُدرَك بالحس فإنه يُدرَك بالخيال
والتصور مباشرةً. ولا يتم ذلك والنفس في شغل البدن وكدورة صفاته محجوبة
عنه. الشاغل والكدر مانعان للرؤية، والتصفية والتنقية شرط لها. يتم إثبات
الرؤية إذن إمَّا بإثبات الصفات كما هو الحال عند الأشاعرة أو بالتأويل
الحرفي للنصوص كما هو الحال عند المشبهة والحشوية وبعض الفقهاء أو بالتجسيم
كما هو الحال عند المجسمة، أو بالرؤية الباطنية كما هو الحال عند
الصوفية.
إثبات الرؤية في الآخرة إذن تركيب خطأين أحدهما على الآخر. فالرؤية ليست
الإدراك الحسي والموضوع ليس الموضوع الحسي. والرؤية تتم في هذا العالم وليس
في عالم آخر لا ندري عنه شيئًا إلا عن طريق النقل، والنقل ظن. الخطأ
الأوَّل تأكيد مادي، والثاني افتراض وهمي. والمادة والوهم نقيضان يلتقي
أحدهما بالآخر كما يلتقي كل طرفين.
(٤-٣) نفي الرؤية الموضوعية
لما كان إثبات الرؤية الذاتية خطوة نحو نفي الرؤية الموضوعية عن طريق قلب
النظرة من الخارج إلى الداخل، ومن الإبصار إلى الإدراك، ومن رؤية العين إلى
رؤية القلب، فإن نفي الرؤية الموضوعية هو الخطوة النهائية للقضاء على جسمية
الله وتصوره كموضوع حسي للرؤية. في حين أن الجدل يجعل نفي الرؤية الموضوعية
نقيض إثباتها وأن إثبات الرؤية الذاتية هو مركب الدعوى ونقيضها.
١٣٧
ويقوم نفي الرؤية الموضوعية كذلك على السمع والعقل، وبالتالي لا يصبح
إثباتها أولى من نفيها وتتعادل القضية.
١٣٨ وبقدر اعتماد الإثبات على الحجج النقلية يعتمد النفي على الحجج
العقلية. وإذا كان الإثبات يعتمد على الحجج النقلية أكثر من اعتماده على
الحجج العقلية، فإن النفي يعتمد على الحجج العقلية أكثر من اعتماده على
الحجج النقلية. وكل فريق أقرب إلى نسقه العام من حيث أولوية النقل على
العقل أو أولوية العقل على النقل. فالله عند الفريق الأوَّل يفعل ما يشاء،
ورؤيته إرادته، وبالتالي تثبت الرؤية. والله عند الفريق الثاني لا يفعل
القبيح، ورؤيته قبح، وبالتالي تستحيل الرؤية.
والحجج النقلية على نفي الرؤية كثيرة، أشهرها:
لَا
تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ إشارةً إلى حدود الرؤية وإمكانياتها
واستحالة إدراك النسبي للمطلق إدراكًا عينيًّا مباشرًا على الإطلاق دون
استثناء، سواء من حيث وسيلة الرؤية بالقلب أو العين الباطنة مثلًا، أو مكان
الرؤية وزمانها (في الدنيا فقط دون الآخرة).
١٣٩ وكذلك
لَنْ تَرَانِي حتى يرد
الإنسان إلى العالم ويقضي على اغترابه. وقد كان موسى مغتربًا، تاركًا
العالم، باحثًا عن شيء آخر، مشمئزًّا من عصيان قومه، باحثًا عن الله فوق
الجبل وخلف النار، لا فرق في ذلك بين الإبصار والإدراك أو بين الإدراك
والرؤية. وكذلك
وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ،
أي أنه ذات وليس موضوعًا، يرى ولا يُرى، يُدرِك ولا يُدرَك، فهو ذات خالص
لا ينقسم على نفسه إلى ذات وموضوع، ولا يتحول إلى موضوع.
١٤٠ وأيضًا:
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ
يُكَلِّمَهُ اللهُ … أي استحالة الرؤية، ليس فقط في وقت
الكلام، بل في كل وقت. وكذلك:
فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى
أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ أي استعظام واستنكار طلب الرؤية. وأيضًا:
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ
لِقَاءَنَا واللقاء ليس الرؤية. وهناك روايات أخرى من الحديث
ليس نفيها بأفضل من إثباتها، ورواية برواية، ليس أحدهما بأولى من الآخر.
١٤١
ولا سبيل لتجنب التجسيم والتشبيه ومواجهة الروايات وحل تعارضها إلا
بالتأويل. فقد تعني آيات الرؤية الاعتبار، ولكن الآخرة ليست دار اعتبار.
وقد تعني الانتظار، ولكن النظر من الوجه. وقد يعني نظر القلب، ولكنه لا
يكون في الجنة. وقد يعني النظر إلى الثواب، والثواب لا يكون إنعامًا بل
استحقاقًا. وقد يعني التعاطف والتراحم، وهو ما يستدعي مقابلته بتعاطف
وتراحم من الباري. وقد يعني الإنعام إذا كان الوصل باللام (الفَرق بين
اللام وإلى). والحرف إلى ليس حرف جر بل مفرد وجمعه آلاء وهي النعم، ومِنْ
ثَمَّ تكون الرؤية انتظار النعم بالرغم مما يتطلب ذلك من تقليب الحدقة. وقد
تعني التفكر والاستدلال إذا كان الوصل بحرف الجر في. وقد تعني أخيرًا
العلم. فالرؤية لا تزيد على مجرد العلم، وتعبير آخر عن الفكرة. وفي معظم
اللغات تشتق الفكرة من الرؤية.
١٤٢
أمَّا الحجج العقلية فإنها تقوم كلها على أن الله مقدس عن الجهة ومقدس عن
المكان ومتعالٍ عن المواجهة، وهو أقرب إلى الاتساق من القول بالرؤية دون
اشتراط الجسم والتقابل والشعاع والمماسة والمحاذاة على ما تقول الأشاعرة
وهو أقرب إلى تحصيل الحاصل وإثبات الشيء ونفيه في نفس الوقت. ومِنْ ثَمَّ
تنتفي الرؤية في كل الأمكنة وفي كل الأوقات، في الدنيا والآخرة؛ لأن النفي
حكم عام لا يمكن تخصيصه. تتطلب الرؤية المكان والحيز والجسمية، والله ليس
في مكان وغير متحيز وليس جسمًا.
١٤٣ لا تجوز عليه الرؤية لأن الرؤية لا تكون إلا للأجسام، وهو ليس
بذي جسم. ولا تجوز عليه الرؤية في جميع الأحوال سواء في هذه الدنيا أم في
دنيا غيرها، سواء بالعين أم بحاسة سادسة ظاهرة أو باطنية. ولو كان مرئيًّا
لرأينا الآن بل وفي الحال، فحجة الواقع أبلغ من أية حجة نظرية.
١٤٤
وقد صاغ المعتزلة ذلك كله في عدة أدلة لنفي الرؤية وفي مقدمتها دليلان:
دليل المقابلة ودليل الموانع. فدليل المقابلة ينفي كون الرؤية قائمة على
عين كعضو وموضوع مادي ومقابلة العين للموضوع. ويقوم الدليل على ثلاث
مقدمات: الأولى أن الرؤية بالحواس، والثاني أن الرؤية لا تتم إلا
بالمقابلة، والثالثة أن القديم ليس مقابلًا. والمقابلة والانطباع يستلزمان
الجسمية. ومِنْ ثَمَّ يؤدي إثبات الرؤية بالضرورة إلى إثبات الجسمية، كما
يؤدي نفيها إلى نفي الجسمية؛ لأن الرؤية للعين والمرئي هو المحسوس. فالبصر
لا يرى إلا ما كان مقابلًا لأن الإبصار في الشاهد حواس مقابلة وانطباع. فلو
كان الله مرئيًّا لكان مقابلًا. ويتضمن دليل المقابلة نفي الجهة والمحاذاة،
وهو ما لا يمكن للذات ولا للصفات التي هي عين الذات. يمكن فقط رؤية الأفعال
وهي الآيات الكونية ومظاهر الطبيعة من جانب العالم وليس من جانب الذات.
١٤٥
أمَّا دليل الموانع فهو الرد على الحجة القائلة بأن الشيء إنما يُرى لما
هو عليه في ذاته، والله حاصل لما هو عليه في ذاته، فما المانع أن يُرى؟
والرد على ذلك بأن ما لا يُرى ينقسم إلى ما لا يُرى لمنع أو لاستحالة،
والقديم لا يُرى لاستحالة لا لمنع لأنه ليس بمرئي في نفسه وإلا لأمكن رؤية
صفاته مثل الحياة والعلم والقدرة. ومع ذلك فإن موانع الرؤية في دليل
الموانع عديدة، قد تكون ستة وقد تكون ثمانية، وهي: الحجاب، الرقة، الكثافة،
البعد المفرط، كون الرائي من غير جهة محاذاة الرائي وكون محله ينقصه شيء من
هذه الأوصاف، سلامة الحاسة، الصغر، القرب المفرط. وكل ذلك يستحيل على الله.
١٤٦
والحقيقة أن نفي الرؤية لا يرجع لأمور ترجع إلينا مثل الحواس أو الموانع،
بل إلى طبيعة الموضوع، فالذات ليس موضوعًا، ولا يُرى من الإنسان شعوره.
فأنا لا أرى شعوري وذاتي، بل أرى جسمي، ولكن أشعر بذاتي كما أشعر بالآخر أو
أشعر بالماهية ولا أراها ولكن أوجد في الموقف وأشعر بالتجربة الحاملة للماهيات.
١٤٧ وكذلك الله لا يمكن القول إنه يرى ذاته؛ لأنه لا ينقسم على
نفسه. تثبت رؤية العين وتنكر رؤية الذات؛ لأن الأولى إثبات لرؤية الأشياء،
في حين أن الثانية نفي لتجسيم الذات.
١٤٨
ويبدو من تحليل الرؤية أنها الرؤية المحدقية، وصلتها بالعلم وتحليل العين
والأشعة، أي أنها إمَّا جزء من تحليل عمل الحواس أو جزء من نظرية الإدراك،
وفي النهاية جزء من نظرية المعرفة وليست من الإلهيات، وكأن رؤية الباري هي
إحدى نقاط التطبيق من نظرية المعرفة ككل.
١٤٩ والخلاف بين إثبات الرؤية ونفيها هو الخلاف أساسًا في المعرفة
الحسية، هل هو مجرد انطباع حسي من الخارج إلى الداخل أم أنها مشروطة بالوعي
أو الانتباه الداخلي، أي بشعاع مقابل من الداخل إلى الخارج. وقد توصل
الفريقان إلى هذه التفرقة بين الإبصار والإدراك أو بين الرؤية والمعرفة.
فالرؤية غير الإدراك. قد تكون هناك رؤية دون إدراك، وقد يحدث إدراك دون
رؤية. والإدراك غير العلم. قد يكون هناك إدراك دون علم، وقد يقع علم دون
إدراك. العلم ليس مرتبطًا بالإدراك بالحاسة بل بالحياة، فالحياة شرط العلم
وليست الحاسة. وقد يكون الإدراك بحاسة وقد لا يكون. فالحدس لا حاسة له،
والشعور ليس له حاسة ولا آلة ولا حالًا بآلة.
١٥٠ لا يتولد الإدراك من فعل خارجي فحسب، بل قد يتولد من أفعال
الشعور الداخلية، مثل رؤية ترابط المعاني واستنباط معانٍ جديدة.
١٥١ لا يتم الإدراك إلا بشعاع من المرئي إلى العين يقابله شعاع آخر
من العين إلى المرئي وهو الانتباه والوعي أو الاهتمام أو القصد. الأوَّل
انطباع حسي خالص والثاني إدراك ورؤية.
١٥٢ فالوجود ليس هو شرط الرؤية الوحيد، بل وجود الرائي الذي ترجع
له اختلافات الرؤية.
١٥٣ وتعليق الرؤية بآلة تأكيد على نفي رؤية العين، ولكنه ليس نفيًا
لرؤية الماهيات، ليس فقط إحاطة بها، بل إدراكًا لها. فالماهيات ليست
امتدادًا حتى يمكن الإحاطة بها، بل تقوم بتوجيه الشعور إلى منطقة حقيقية
وإلى لب الأشياء. الخطأ هو وضع المعاني على مستوى الأشياء وتحويل الماهيات
إلى وقائع، وفقد الشعور لموضوعه وتحويله من شعور مليء إلى شعور خاوٍ. الخطأ
هو قلب الماهيات والقضاء على كل صفات الماهية من شمول وعموم ومعيارية. لا
تعني الرؤية تقليب الحدقة طبقًا لبُعد العين عن الموضوع، بل تعني إعمال
الشعور أو النظر في مضمونه، أي محاولة الإيضاح والاستبصار. فالرؤية ليست
معطاة سلفًا، بل هي عملية توضيح.
١٥٤ ولا ينفي خداع الحواس المعرفة الحسية، فالشعور قادر على تجاوز
هذا الخداع، ويمكن تفسيره عمليًّا بتحليل عمل الحواس وشروطها وموانعها.
١٥٥ فالحس ذاته مشروط بعوامل لا حسية مثل وعي الشعور ويقظته
وانتباهه واهتمامه تأكيدًا للفَرق بين الانطباع الحسي والإدراك الحسي. فقد
يحدث الانطباع دون الإدراك، وقد يحدث الإدراك دون الانطباع عن طريق الحدس العقلي.
١٥٦ إن الحس والمشاهدة قادران على إعطاء تجارب حية تكشف عن المعنى
والقانون والماهية. وتتم الرؤية في الزمان الشعوري وليس في الزمان المكاني،
وليس بالضرورة في الآن دون استرجاع الماضي أو استباق المستقبل، وما دامت
الرؤية ممكنة بعد أن توفرت شروطها في الرائي لعدم استمرارها.
١٥٧ الرؤية إذن اقرب إلى رؤية العلم، أي رؤية الشيء في الشعور بعد
العلم به دون ما حس أو شعاع أو عين أو موضوع، رؤية يشعر بها الإنسان في
قلبه كحالة شعورية لموضوع شعوري، هي رؤية الكشف العلمي، رؤية الموضوع في
الشعور أو حدس الماهيات.
موضوع الرؤية إذن مرتبط بنظرية العلم ووسائل المعرفة: هل تتم معرفة الشيء
بآثاره أم بذاته أم برؤيته رؤية العين؟ وهو ما يماثل درجات المعرفة عند
الصوفية، المعرفة الحسية والمعرفة العقلية والمعرفة القلبية، علم اليقين،
وحق اليقين، وعين اليقين، وهي المعرفة التي استمد منها الفلاسفة أيضًا
أنواع المعارف العقلية.
١٥٨ ومما لا شك فيه أن المعرفة من النوع الأوَّل يتفق عليها الناس
جميعًا. أمَّا المعرفة من النوع الثاني فعليها خلاف، وهو العلم بذات الله،
والعلم بذات الله مستحيل، والعلم بآثاره هو الممكن. أمَّا النوع الثالث،
رؤية الله، فهو مستحيل أيضًا لأن الله ليس موضوعًا للرؤية كما أنه ليس
موضوعًا للعلم. إنما العلم موضوعه كلام الله، أي الوحي كقصد نحو العالم
وكنظام له، فإذا كان النوع الثاني مستحيلًا فالأول والثالث ممكن. العلم
بذات الله مستحيل، ومعرفة آثاره الطبيعية ونظمه الاجتماعية والسياسية
ممكنة. ليس في إثبات الرؤية كموضوع أي مدح أو تعظيم أو ثناء عليه، بل يعني
مجرد الكشف عن الذات الخالص وأخص ما يميزه وهو التعالي، وأنه من عالم
المعاني وليس من عالم الأشياء. المدح ليس للذات أو لأفعالها، بل هو تمثل
قيمة التعالي في الشعور.
١٥٩ وتحليل الرؤية تحليلًا علميًّا يمنع من خلق الأوهام وبناء
الأساطير، وهو كله مخالف للواقع، ولا يوجد حل وسط بين الواقع والوهم.
فإمَّا أن يرى الإنسان أو لا يرى، وليس هناك شيء لا يراه الإنسان أو أن يرى
الإنسان لا شيء. ذلك هو كمال العقل، أمَّا العلم فإنه يجوز فيه الخفي
والجلي وتلك مهمة الإيضاح. يزداد يقين الإدراك بالجماعة، أي بالإدراك
الجماعي والاتفاق في الرؤية، وذلك هو أحد مقاييس موضوعيتها. وكل حكم على
الغائب فإنه يقوم بالضرورة على قياس الغائب على الشاهد والتعميم بالقياس
وهو أساس الفكر الديني.
١٦٠ ولما كانت اللغة أساسًا هي المعنى، فإذا تعارضت مع المعنى
فالأولوية للمعنى. ولكن نظرًا لا تُعارض اللغة المعنى، وأن التحليل اللغوي
لا يعارض التحليل العقلي. فإذا أعطت اللغة معنيين وأعطى العقل معنًى
واحدًا، فإنه يؤخذ من معنى اللغة المعنى المتفق مع ما أعطاه العقل. وإذا
استحال اتفاق اللغة مع المعنى أصبحت اللغة مجازًا. والمجاز ليس خروجًا على
اللغة، بل هو من طبيعتها. المجاز حلقة الاتصال بين اللغة والعقل. إن وسيلة
التعرف على الله العقل والوجدان وليس العين والمشاهدة؛ لأن الله لا يُرى
إلا بوسائل المعرفة على ما هو معروف في نظرية العلم، والمحسوسات أولى مراحل
المعرفة بالإضافة إلى الوجدانيات والمعقولات والمتواترات. والله ليس شخصًا
أو ذاتًا أو موضوعًا ثابتًا، بل حياة وحركة ونشاط. وإذا قيل إن النظر هو
الانتظار، فمعناه توجه الشعور نحو شيء دون تحديد للشيء. كل شعور يتجه نحو
شيء. بنية الشعور أنها تؤشر نحو شيء وتنطلق نحو شيء دون أن يكون هذا الشيء
واقعة حسية في العالم الخارجي. ولا فَرق بين المجسمة وأهل السنة وأصحاب
الحديث ما دام المعبود مشابهًا للجسم، فإنه يكون مثله مرئيًّا بالإبصار
بناءً على الخبر وإن لم يكن بناءً على تحليل الواقع أو اعتمادًا على سلطة
العقل أو على دوافع نفسية حددتها الظروف الاجتماعية للجماعة كما هو الحال
في التجسيم. فلولا الخبر لما قيل بالتشبيه؛ لأن التشبيه تفسير خاطئ للخبر
وعدم دراية بطبيعة اللغة وبوظيفة الصورة الفنية وبتعدد وسائل التعبير. لا
يُثبِت الخبر شيئًا، بل يعطي صورة فنية للإيحاء للجماهير بمعانٍ نفسية
ويوجهها نحو مقاصد واتجاهات في العالم. المقصود هو الأثر النفسي وليس إثبات
الشيء المادي. التشبيه خطأ لغوي في الحقيقة والمجاز يصبح فيه المجاز حقيقة،
وتتحول فيه الصورة الفنية إلى شيء مادي. لذلك يحيل البعض الإشكال كله إلى
النصوص لحل التعارض بين الحجج النقلية وإلا فلا حيلة إلا التأويل.
١٦١
الرؤية مطلب إنساني خالص يعبر عنه السؤال عنها وطلبها، ولكن لا يعني ذلك
أنها ممكنة. وبهذا المعنى كل ما يطلبه الإنسان يكون موجودًا كمطلب وحاجة.
ويظل الفرق قائمًا بين عالم التمني وعالم الواقع، وعالم التمني أوسع نطاقًا
من عالم الموضوعات. ليس كل ما يطلبه الشعور يكون له وجود في الخارج وهو ما
قاله القدماء من الفصل بين الوجود في الأذهان والوجود في الأعيان. إثبات
الرؤية الموضوعية وقوع في النظرة الحسية الخالصة وبحث عن النعم والملذات،
لا فَرق في ذلك بين حسية ومعنوية. وهو نسيان للمجاز. الله حقيقة والرؤية
معرفتها ومشاهداتها عن طريق التجربة. فالمعرفة الحسية يقين مثل المعرفة
العقلية. موضوع الرؤية موضوع وجداني خالص شريف، يكشف عن شرف الموضوع أكثر
من الموضوع بالفعل. ولما كان أشرف موضوع لا يُرى إلا من أشرف ذات، فالله
يرى نفسه ولا يراه غيره مما يدل على أن الموضوع كله إجلال وتعظيم وتمرين
نفسي على مقتضى التأليه، تشريف وتعظيم وإحسان وتحقيق وعد ومكافأة.
١٦٢
وقياسًا على الرؤية، لماذا لا يكون الله موضوعًا للذوق أو الشم أو اللمس
أو السمع؟ أليس صوت الله أقرب إلى صوت الضمير؟ ألم يأتِ الوحي، وهو كلام
الله عن طريق السمع؟ هل تعشق العين قبل الأذن أم تعشق الأذن قبل العين؟
أليست الموسيقى أكثر الفنون قدرةً على التعبير من الرسم والتصوير والنحت
والعمارة؟ أليست الفنون الصوتية أقرب إلى القلب من الفنون التشكيلية؟ وقد
تعرضت نظرية الوجود في مبحث الأعراض عن تفاضل البصر والسمع. لماذا يكون
الله موضوع الرؤية وحدها؟ لماذا لا يكون موضوع اللمس أو الذوق أو الشم أو
السمع؟ مما لا شك فيه أن الله موضوع للسمع من خلال الوحي عن طريق الكلام؟
ولكن ماذا عن اللمس والذوق والشم؟ ومن يجيز أن يكون الله موضوعًا للرؤية لا
بد أن يجيز أيضًا أن يكون موضوعًا للحواس الأخرى أو أن يصوغ نظرية لتفرد
البصر على غيره من الحواس لرؤية الله، وأن يكون الله موضوعًا للرؤية وحدها.
صحيح أن البصر في سباق مع السمع من حيث دقة الإدراك وعمقه، ومع ذلك فاللمس
والذوق والشم من لذات الجنان، لمس الحرير، وذوق العسل، وشم الروح والريحان.
فلماذا تخصيص الرؤية دون الذوق والشم واللمس والسمع؟
إذا كان بعض المجسمة يتصور المعبود جسمًا دون أن يصفه باللون أو الطعم أو
الرائحة أو المجسة، فإن البعض يضع الجسم في اتجاه الشعور فيصبح ذا لون وطعم
ورائحة ومجسة، وكل ذلك بالتساوي. فاللون هي الرائحة وهما المجسة، والثلاثة
هو الطعم، والأربعة هو نفسه. لا يوجد تغاير أو اختلاف أو تنوع بين الصفات والذات.
١٦٣ وقد يؤثر البعض جعل المعبود ذا لون فحسب دون الطعم أو الرائحة
أو المجسة أو الطول والعرض والعمق، وإن كان في مكان دون مكان ومتحركًا من
وقت الخلق. فالصفات المفضلة ما اللون والحركة، وهما الصفتان المطلوبتان في
الرسم. ويكون المعبود هنا مدركًا بالعين وحدها لا بالأذن أو باللسان أو
باليد أو بالأنف. ويكون الفنان هنا تشكيليًّا يؤثر الفنون المرئية على
الفنون السمعية. وقد يطغى اللون على سائر المحسوسات ويكون المعبود ذات لون
فقط. فالبصر أكبر من اللمس والذوق والشم. والتوحيد بين الكيفيات المحسوسة
يدل على وحدة الروح أكثر مما يدل على اختلاف الأجسام وتعددها.
١٦٤
ويقع نفي الإدراكات الأربعة الأخرى على مثبتي الرؤية أكثر مما يقع على
نفاتها. فنفاة الرؤية بالضرورة ينفون باقي الإدراكات بطريق الأولى. أمَّا
مثبتو الرؤية فإنهم في حاجة إلى تبرير إثبات الرؤية ونفي باقي الإدراكات؛
لأن القياس يعمم عليهم.
وينفي أهل السنة الكيفيات المحسوسة كأوصاف للذات بالرغم من إثبات الصفات،
وذلك لاعتبار هذه الصفات أقل كمالًا من صفات العلم والقدرة والحياة. فهي
توابع للمزاج والتركيب. أمَّا اللذة والألم فهما حسيان. واللذة العقلية
نفاها الملِّيُّون وأثبتها الفلاسفة، فالله كمال في ذاته متجرد عن اللذة.
فما دام الله كمالًا في ذاته، واللذة إدراك الملائم، التذ الله ضرورة. ولما
كانت كلها كمالات فلذته كمال. أمَّا السمع فإن موسى سمع كلام الله وليس ذات
الله. أمَّا اللمس والشم فلم يقل بهما إلا المُجسمة. وتدل الإدراكات الخمسة
على أن تصور الله ناتج عن وضع الإنسان وحياته وحواسه ثم إسقاط ذلك كله على
الله، كل يتصور الله على شاكلته ومثاله. يتصوره المتكلم عالمًا قادرًا؛ لأن
الدولة تعرف كل شيء وتسيطر على كل شيء، ويتصوره الفيلسوف يلتذ عقلًا؛ لأنه
حكيم عاقل.
١٦٥
لا يعني نفي الرؤية الموضوعية لله كموضوع أي تعطيل أو جحود على ما تقول
الأشاعرة، بل يعني التنزيه وإعطاء الله حقه في تحقيق مقصده في العودة إلى
العالم والاتجاه من الله إلى العالم، ومن شخص الله إلى البناء الاجتماعي.
الرؤية مطلب إنساني نتيجة الاغتراب في العالم والإشاحة بالوجه عنه، وقلب
القصد. الرؤية سؤال ومطلب إنساني ممكن، ولكنه يعبر عن وضع غير طبيعي أو غير
شرعي، عندما يسقط العالم من الحساب، ويضيع العقل، ويغيب المنطق، ويخرج
الإنسان خارج العالم فيظهر السؤال. هناك فرق بين الخيال والواقع، فالخيال
أوسع نطاقًا من عالم الأشياء، وليس كل ما يطلبه الوهم يكون له وجود في
الخارج، وليس كل ما في العالم الداخلي له مقابل في العالم الخارجي. إذا تمت
الرؤية فإن الجبال تُدَك، وتُطبق السموات على الأرض، أي تدمير العالم
وانتهاء الكون، وخرق قوانين الطبيعة، وبالتالي يعيش الإنسان في عالم مستحيل
لأنه أصبح له موقف غير شرعي. تعليق الرؤية على استقرار الجبل لا يثبت
الرؤية لأن تحقيق الرؤية يستلزم تدمير الجبال وبالتالي تعليق الجواز على
شرط مستحيل يكون أقرب إلى الاستحالة والامتناع.
١٦٦ الرؤية اغتراب عن العالم وخروج بالوعي إلى خارج العالم، خارج
الزمان، وخارج التاريخ تحت أثر الأشعرية والصوفية. إن الله ليس هدفًا، بل
الهدف هو العالم والإنسان، وبالتالي تكون رؤية الله تحويل الإنسان عن موقفه
الطبيعي واغتراب له، وتحويل للوحي عن مقصده الشرعي. في الرؤية يتحول الوحي
إلى شخص، وتتحول عواطف التأليه إلى تشخيص، والتشخيص داء العصر، وتصور كل
شيء على أنه مادي محسوس بطريقة غيبية لا علمية. رؤية الغير ممكنة أمَّا
رؤية الذات فمستحيلة. ليس المقصود بالرؤية رؤية شخص واحد إله مشخص أو نبي،
بل الرؤية ذاتها كحقيقة مستقلة، كأحد جوانب نظرية العلم. الله ليس موضوعًا
بل ذات، وليس مشخصًا بل مقصد، وليس جسمًا بل معنى. هناك إذن ضرورة للانتقال
من رؤية الله إلى رؤية العالم، فالله ليس موضوعًا للرؤية، بل موضوع
للتحقيق، وليس من ناحية المعرفة بل من ناحية الوجود، وليس من جانب النظر بل
من جانب العمل. هناك ضرورة للانتقال من رؤية الذات إلى رؤية الموضوع، فالله
ذات تتحقق في العالم. رؤيته تحيله إلى موضوع وبالتالي يكون أقل قيمة من
الذات الإنسانية. الله وعي خالص مثل وعي الإنسان الخالص، ولا غرابة في ثورة
الإنسان وغضبه إذا ما تحول إلى موضوع عن طريق نظرة الآخر إليه أو عن طريق
تحويله إلى موضوع طبيعي من العلوم الإنسانية. وهناك ضرورة العودة إلى
العالم والقضاء على الاغتراب، فالرؤية للعالم، لمشاكله وقضاياه، للبشر
ولأوضاعهم. لا تتم الرؤية إلا للجسم والمادة والموضوع والشيء. الرؤية خارج
العالم تعمية وتغطية وتستر وتسكين وتخدير وإيهام. الرؤية ليست نعيمًا ولا
لذةً، بل ألم وحسرة وغضب مما يحدث الفعل من مأسٍ للبشر، من فقر وجهل ومرض
وتخلف وضياع وتشرذم وقهر وتعذيب. هي الرؤية التي تبعث في النفس الغثيان من
العجز عن المقاومة للعدو الخارجي. ومن النفاق والمداهنة للحكام، ومن اللهث
وراء لقمة العيش بأبخس الأثمان.
ما دام وجود الشيء هو الحاجة إليه، والشيء الذي لا حاجة إليه لا يكون
موجودًا، فإن رؤية الله موضوع من هذا النوع، لا يحتاج إليه العصر في هذه
الصورة المغتربة المقلوبة. يحتاج العصر إلى رؤية العالم وإلى معرفة المعاني
وإدراك الماهيات. إن وجود الشيء هو قصده، وقصده شرعيته. وبالتالي لا وجود
للرؤية كقصد وكوجود شرعي. لقد حاولت الحركات الإصلاحية من قبل إلغاء
الموضوع والعودة إلى بساطة الموضوع.
١٦٧ فما أهميته حاليًّا؟ هل هي مشكلة؟ هل أنكرت إسرائيل رؤية الله
ونحاربها نحن لإثبات الرؤية أم احتلت الأرض وتركناها تحتل ما تشاء في عصر
الهيمنة الإسرائيلية؟ ومهما قال المتكلمون وفصلوا وصاغوا وبرهنوا فإنها
كلها مسالك مردود عليها باعترافهم أنفسهم ولم يزيدوا على الواقع شيئًا إلا
تأكيدًا للاغتراب واستمرارًا فيه.
١٦٨ وقد بلغ القدماء حد تكفير مثبت الرؤية وتكفير نافيها وتكفير من
شك في إثبات الرؤية أو نفيها أو في نفيها إلى ما لا نهاية، وكأن رؤية الله
معركة وطنية تتحرر بها أراضي المسلمين من الاحتلال، وبها تقام مجتمعات حرة
دون قهر، تعمها العدالة والمساواة دون استغلال وتفاوت طبقي، وبها تتوحد
الكلمة بدل التشرذم والتفتت والتجزئة.
١٦٩
يعني هذا الوصف الخامس «الوعي الخالص» الشعور الخالص الذي لا تخالطه
شائبة المادة، فالوعي ليس في محل، والفكر ليس في الدماغ، والإحساس ليس من
الحواس. لا يوجد الوعي الخالص في محل لأنه غير متحيز، وهذا ما عبر عنه
القدماء بالاستغناء وعدم الافتقار والاحتياج. لا يرى، وليس موضوعًا للرؤية،
بل راءٍ ومدرك وعالم، شرط القيام بالنفس هو بقاء الذاتية دون أن تتحول إلى
موضوع من خلال الرؤية.