الفصل السابع

نشر كتاب «نشأة الإنسان»

العمل على كتاب «التعبير عن العواطف»

١٨٧١–١٨٧٣

[نُقِّحت آخرُ بروفات الطباعة المُعدَّلة لكتاب «نشأة الإنسان» في ١٥ يناير ١٨٧١، وبذلك فقد انشغل في إنجاز هذا الكتاب نحو ثلاث سنوات. أرسل خطابًا إلى السير جيه هوكر قال فيه: «انتهيتُ من آخر بروفات طباعة كتابي قبل بضعة أيام، لقد أنهكني العمل تمامًا، ولا أعرف إطلاقًا ما إذا كان الكتابُ يستحق النشر، أم لا.»

وأرسل خطابًا كذلك إلى الدكتور جراي، قائلًا:

«أتممتُ كتابي عن «نشأة الإنسان»، إلخ، ولا يؤخِّر نشرَه سوى الفهرس، عندما يُنشَر، سأبعث إليك بنسخة منه، لكني لا أعرف ما إذا كنتَ ستهتم به. أظن أن بعض أجزائه، كالجزء المتعلِّق بمسألة الحس الأخلاقي، ستُغضبك، وإذا تلقَّيتُ خطابًا منك، فمن المرجَّح أنني سأتعرَّض فيه لبضع طعنات من خنجر قلمك المصقول.»

نُشر الكتاب في ٢٤ فبراير ١٨٧١. طُبعت منه ٢٥٠٠ نسخة في البداية، ثم طُبِعَت ٥٠٠٠ نسخة أخرى قبل نهاية العام. ويذكر والدي أنه جَنى ١٤٧٠ جنيهًا من هذه الطبعة. تتناول الخطابات الواردة في هذا الفصل الاستقبالَ الذي لاقاه الكتاب، إضافةً إلى تقدُّم العمل المتعلِّق بكتاب «التعبير عن العواطف». وستُعرَض الخطابات هنا بترتيبٍ زمني نوعًا ما، وصحيح أن هذا الترتيب يفصل بالطبع بين خطاباتٍ ذات موضوعات متشابهة، لكنه ربما يقدِّم صورةً أصدقَ عن الاهتمامات والمجهودات المختلطة في حياة والدي.

لا شيءَ يمكن أن يعطي فكرةً عن نمو نظرية التطوُّر ووضعها آنذاك (في حيز صغير)، أفضلُ من هذه الفقرة المقتبسة من السيد هكسلي:١

«انقضى الزمن تدريجيًّا حتى صارت الفترةُ الزمنية التي تفصل بيننا وبين تاريخِ نشر كتاب «أصل الأنواع» أكثرَ من ١٠ سنوات، ومهما تكن الآراء والأقوال بشأنِ أفكار السيد داروين أو الطريقة التي طرحها بها، فمن المؤكَّد تمامًا أن كتاب «أصل الأنواع» قد أحدَث، في ١٢ عامًا، ثورةً كاملة في علمِ الأحياء كتلك التي أحدثها كتاب «مبادئ» في علم الفلك»، وقد أحدَث هذه الثورة «لأنه، على حد تعبير هلمهولتز، يحوي «فكرًا إبداعيًّا جديدًا في جوهره». ومع مرور الوقت، طرأ تغيير سارٌّ على منتقدي السيد داروين. فذلك المزيج من الجهل والتطاول الوقح، الذي كان يتسم به في البداية جانب كبير من الهجمات التي كان يتعرَّض لها، لم يَعُد السمةَ المُحزِنة التي تميِّز الانتقادات المعارضة للداروينية.»

تُظهِر فقرةٌ في مقدِّمة كتاب «نشأة الإنسان» أن المؤلِّف أدرك بوضوحٍ هذا التحسُّن في وضعِ نظرية التطوُّر. فهو يقول في هذه الفقرة: «عندما يجرؤ عالِم تاريخ طبيعي مثل كارل فوجت على أن يقول في خطابه، بصفته رئيسًا للمعهد الوطني في جنيف (١٨٦٩): «لم يَعُد أحد، في أوروبا على الأقل، يجرؤ على تأييد الفرضية القائلة بأن الأنواع خُلقت خلقًا مستقلًّا كلٌّ على حدة»، فمن الواضح بكل تأكيد أن عددًا كبيرًا على الأقل من علماء التاريخ الطبيعي يعترف بأن الأنواع كائناتٌ معدَّلة منحدرة من أنواع أخرى، وهذا ينطبق بالأخص على علماء التاريخ الطبيعي الصاعدين والأصغر سنًّا … فمن بين العلماء البارزين المرموقين الأكبر سنًّا في العلوم الطبيعية، لا يزال كثيرون، مع الأسف، يعارضون نظريةَ التطور معارضةً تامة.»

وفي مقالةٍ كتبها السيد جيمس هيج بأسلوبٍ لطيف تحت عنوان «قصة من الذاكرة عن السيد داروين» (مجلة «هاربرز ماجازين»، أكتوبر ١٨٨٤)، يتحدَّث عن زيارةٍ أجراها إلى والدي «في أوائل عام ١٨٧١» (لا شكَّ أنها كانت في نهاية فبراير، في غضون أسبوع بعد نشر الكتاب)، بعد وقت قصير من نشر كتاب «نشأة الإنسان». ويصف هيج والدي بأنه «بُهِر جدًّا بالقَبول العام الذي حظيت به آراؤه»، وبأنه قال «الجميع يتحدَّثون عن [الكتاب] دون أن يشعروا بصدمة.»

وفي وقت لاحق من العام نفسه، وُصِف الاستقبال الذي لاقاه الكتاب بلهجةٍ مختلفة في دورية «ذي إدنبرة ريفيو»:٢ «إنه يثير في جميع الجوانب عاصفةً من مزيجٍ من الغضب الشديد والعَجَب والإعجاب.»

وبخصوصِ الاستقبال الذي لاقاه كتاب «نشأة الإنسان» لاحقًا، أرسل والدي خطابًا إلى الدكتور دورن في ٣ فبراير ١٨٧٢، قائلًا:

«لم أكن أعرف، حتى قرأت مقالتك،٣ أن كتابي «نشأة الإنسان» أثار «ضجةً» هائلةً في ألمانيا. لقد حظي برواجٍ هائل في هذا البلد وفي أمريكا، لكنه لم يلقَ استحسانَ أيٍّ من علماء التاريخ الطبيعي تقريبًا، على حد علمي. لذا أظن أن نشْرَه كان تصرُّفًا خاطئًا منِّي، لكنه، على أي حال، سيمهِّد الطريقَ لعملٍ أفضل.»

بدأ العملُ على كتاب «التعبير عن العواطف» في ١٧ يناير ١٨٧١، وكانت آخرُ بروفة من بروفات طباعة كتاب «نشأة الإنسان» قد انتهت في ١٥ يناير. أتمَّ النسخةَ المبدئية في ٢٧ أبريل، وبعد مدة وجيزة (في يونيو)، قوطِع العملُ بسبب الانشغال بإعداد طبعة سادسة من كتاب «أصل الأنواع». وفي شهري نوفمبر وديسمبر، شَرَع في العمل على بروفات طباعة كتاب «التعبير عن العواطف»، وظلَّ منشغلًا بذلك حتى العام التالي، عندما نُشر الكتاب.

وَرَدت بعضُ الإشارات إلى العمل على كتاب «التعبير عن العواطف» في خطاباتٍ عُرِضَت سلفًا، ممَّا يوضِّح أن أساسَ الكتاب كان حاضرًا لديه على مدارِ بضع سنوات قبل أن يبدأ فعليًّا في تأليفه. ومن ثمَّ قال في خطابٍ إلى الدكتور آسا جراي في ١٥ أبريل ١٨٦٧:

«أعكف مؤخَّرًا على إخراج ملاحظاتي القديمة عن «التعبير عن العواطف» ومُطالعتها بإمعان، وأخشى ألَّا أستطيع أن أُبرز أهميةَ موضوعي المفضَّل بالقدْر الذي كنت أظن أنني أستطيع إبرازها به، غير أنه يبدو لي موضوعًا شائقًا أُهمِلَ بغرابة.»

بالرغم من ذلك، ينبغي تذكُّر أن الموضوع كان يشغل باله، إلى حدٍّ ما، منذ عام ١٨٣٧ أو ١٨٣٨، وذلك استنادًا إلى الإدخالات الواردة في دفاتره المبكِّرة. ذلك أنه كان قد بدأ إجراء ملاحظات على الأطفال في ديسمبر ١٨٣٩.

تطلَّب هذا العمل الكثيرَ من المراسلات، وليس ذلك مع المُبشِّرين وغيرهم ممن يعيشون بين الهمَج فحسب، والذين كان يُرسِل إليهم استفساراته المطبوعة، بل مع علماء وظائف الأعضاء والأطباء أيضًا. فقد حصل على معلوماتٍ كثيرة من البروفيسور دوندرز، والسير دبليو بومان، والسير جيمس باجيت، والدكتور دبليو أوجل، والدكتور كرايتون براون، وكذلك من متخصِّصين آخرين في الملاحظة.

يشير الخطاب الأول إلى كتاب «نشأة الإنسان».]

من تشارلز داروين إلى إيه آر والاس
داون، ٣٠ يناير [١٨٧١]
عزيزي والاس

غمرتني رسالتك٤ بسعادة بالغة، لا سيما أنني كنت حريصًا جدًّا على ألَّا أُعاملك بأيِّ قدرٍ من عدم الاحترام، ومن الصعب جدًّا على المرء أن يتحدَّث بإنصافٍ عندما يختلف في الرأي مع شخصٍ آخر. ولو كنتُ أسأت إليك، لأصابني ذلك بحزنٍ أشدَّ ممَّا ستقبل بتصديقه. ثانيًا، سُررتُ جدًّا بسماع أن المجلَّد الأول يثير اهتمامك؛ فأنا قد سئمت الموضوع كلَّه جدًّا إلى حدِّ أنني صرت أشكُّ في قيمة أي جزء منه على الإطلاق. قصدتُ، عند الحديث عن أن الإناث لم تُعدَّل خصوصًا من أجل الحماية، أن يشمل كلامي منْعَ انتقال السمات التي يكتسبها الذكر إلى الأنثى، لكني الآن أرى أنه كان من الأفضل أن أقول «تتعرَّض للتأثير خصوصًا»، أو مصطلحًا ما من هذا القبيل. ربما من الممكن أن يكون قصدي أوضحَ في المجلَّد الثاني. دعني أقول إن استنتاجاتي تستند بصفةٍ أساسية إلى النظر إلى الحيوانات كلِّها باعتبارها مجموعةً واحدة، مع مراعاةِ ما تبدو عليه قواعدُ الفروق الجنسية من شيوعٍ في جميع الطوائف. كانت النسخة الأولى من الفصل المتعلِّق بحرشفيات الأجنحة تتفق مع ما تقوله اتفاقًا وثيقًا جدًّا. بعد ذلك، واصلتُ العمل، وعُدتُ إلى جزء حرشفيات الأجنحة، وارتأيت أنني مُضطر إلى تعديله، ثم أنهيت جزءَ الانتقاء الجنسي وطالعتُ جزءَ حرشفيات الأجنحة بإمعان للمرة الأخيرة، وشعرت مجدَّدًا بأنني مضطر إلى تعديله. أرجو من الرب ألَّا يكون في المجلَّد الثاني أيُّ شيء يثير استنكارك، وأن أكون قد تحدَّثتُ عن آرائك بإنصاف، أخاف من هذه النقطة؛ لأنني قرأت للتو (ولكن ليس بإمعانٍ كافٍ) كتابَ ميفارت،٥ وأشعرُ «بيقين تام» أنه كان ينوي أن يكون منصفًا (لكنه كان مدفوعًا بالحماسة اللاهوتية)، وأنا أرى أنه لم يكن منصفًا تمامًا … أظن أن الجزء الذي سيترك التأثيرَ الأكبرَ هو ذاك الذي يطرح فيه السلسلةَ الكاملة من الحالات المشابهة لحالة عظام الحوت، والتي لا نستطيع أن نُفسِّر فيها الخطوات التدرُّجية، لكن مثل هذه الحالات لا تشغل بالي، لو أن بضعة أنواع من الأسماك كانت منقرضة، فمَن ذا الذي كان سيجرؤ حتى على تخمين أن الرئتَين قد نشأتا أصلًا في مثانةِ سباحة؟ وأمَّا في حالةٍ كحالة الببر التسماني، فأرى أنه كان يجب أن يقول إن التشابه بين فكِّه وفكِّ الكلب مجرَّد تشابه سطحي؛ لأن الاثنَين مختلفان بشدة في عدد الأسنان وتناظرها وتطوُّرها. أرى أيضًا أنه، في معرض حديثه عن ضرورة تعديل عدد من السمات معًا، لا بد أنه كان يفكِّر في أن الإنسان لديه القدرة، من خلال الانتقاء، على تعديلِ نقاطٍ كثيرة تزامنيًّا، أو على نحوٍ يقترب من ذلك، مثلما هي الحال في تهجين الكلب السلوقي أو خيول السباق، وذلك على النحو الذي عرضتُ به هذه المسألة بإسهاب في كتابي «الحيوانات الداجنة». يشن ميفارت هجومًا شرسًا ويُبدي احتقارًا تجاه ما كتبتُه عن «الحس الأخلاقي»، ومن المرجَّح جدًّا أنك ستفعل ذلك. إنني سعيد للغاية بأنه يتفق مع المرتبة التي وضعتُ فيها الإنسان، «فيما يتعلَّق بالطبيعة الحيوانية»، بل إنه يرى أنني أخطأت في المبالغة في تمييزه.

سامحني على إطالة الثرثرة إلى هذا الحد. لقد غمرتني بسعادة بالغة؛ فأشدُّ ما خشيت أن أكون قد عالجت آراءك بلا إنصافٍ عن غيرِ قصد. آمُل بكل صدقٍ أن أتفادى ذلك في المجلَّد الثاني أيضًا. لم أعُد أكترث كثيرًا الآن بما يقوله الآخرون. أمَّا بخصوص أننا لسنا متفقَين تمامًا، ففي مثل هذه الموضوعات المعقَّدة، يكاد يكون من المستحيل أن يتفق رجلان اتفاقًا تامًّا، وكلٌّ منهما قد توصَّل إلى استنتاجاته مستقلًّا عن الآخر، سيكون من غير الطبيعي أن يفعلا ذلك.

مع بالغ إخلاصي إلى الأبد
سي داروين

[يبدو أن البروفيسور هيكل كان من أوائل الذين راسلوا والدي بخصوص كتاب «نشأة الإنسان». وفيما يلي، أقتبسُ من ردِّ والدي الفقرة التالية:

«لا بد لي من أن أرسل إليك لأشكرك على خطابك الشائق، ويمكنني أن أقول بكل صدقٍ إنه خطاب ساحر. سُررتُ بأنك تستحسن كتابي إلى الحد الذي بلغتَه في قراءته. شعرتُ بحيرةٍ بالغة وشكٍّ شديد حيالَ عدد المرات التي كان يجب أن أُشير فيها إلى ما نشرتَه؛ فالحق أن جميع الأفكار الواردة في كتابي ممَّا قد نشرتَه من قبل، كان ينبغي أن تُذكَر على أنها مأخوذةٌ من أعمالك، وإن كنتُ قد توصَّلت إليها بصورةٍ مستقلةٍ عنك، لكن هذا كان سيجعل كتابي مملًّا جدًّا عند قراءته، فاكتفيت بإدراجِ اعترافٍ كامل مني في البداية، على أملِ أن يكون ذلك كافيًا.٦ لا أستطيع أن أصف لك مدى سعادتي بأنني قد عبَّرت عن إعجابي الشديد بجهودك بوضوحٍ كافٍ؛ أنا متيقن من أنني لم أبالغ في التعبير عنه.»]

من تشارلز داروين إلى إيه آر والاس
داون، ١٦ مارس ١٨٧١
عزيزي والاس

قرأتُ للتو مقالتك النقدية العظيمة.٧ إنك تتحدَّث عني فيها بلُطف بالغ من جميع النواحي، وهي أيضًا ممتازة في مادتها. كان آل لايل هنا، وقال السير سي إنه ما من أحدٍ يجيد كتابة المقالات العلمية النقدية مثلك، وكما أضافت الآنسة باكلي، فإن ممَّا يسرُّ منك أيضًا انتقاءُ كل جيد، دون أن تغفُل إطلاقًا عمَّا هو سيئ. وأنا أتفق معهما تمامًا في كل ذلك. سأظل على الدوام أرى مقالتك النقديةَ شرفًا عظيمًا، ومهما كثرت الإساءة التي قد يتعرَّض لها كتابي فيما بعد، وهو ما سيحدث بالتأكيد، فسأجد العزاءَ في مقالتك، وإن كنا نختلف بشدة. سأظل محتفظًا في ذهني باعتراضاتك على آرائي، لكني أخشى أن تكون هذه الآراءُ قد صارت ثابتةً في ذهني بدرجةٍ كبيرة. ظلِلتُ أُفكِّر على مرِّ أسابيعَ طويلة في الصعوبة التي تطرحها مسألةُ الوراثة والانتقاء، وغطَّيتُ كراساتٍ من الأوراق بكمٍّ هائل من الملاحظات سعيًا إلى إيجادِ حلٍّ لها، لكني لم أستطِع، وإن كان من الجلي لي أنني سأشعر بارتياحٍ كبير لو استطعتُ ذلك. سأكتفي بذكرِ تعليقَين أو ثلاثة. لقد أُعجِبت جدًّا بالحُجة التي تُعارِض بها أن اللون، في حالة الحشرات، قد اكتُسِبَ عن طريق الانتقاء الجنسي.٨ فأنا دائمًا ما كنت أرى الدليلَ على ذلك ضعيفًا جدًّا، لكني ما زلت أظن أنه، إذا سُلِّم بأن البنى الموسيقية لدى الحشرات قد اكتُسِبَت عبْر الانتقاء الجنسي، فلن يكون من المستبعَد إطلاقًا أن تكون الألوان قد اكتُسِبَت بالطريقةِ نفسها. أتفق مع حُجتك المتعلِّقة بتعرية البشر من الشَّعر، وتلك المتعلِّقة بالحشرات أيضًا، التي تقول فيها إن التفضيلات التي يحبِّذها أحدُ الجنسَين يجب أن تبقى كما هي تقريبًا على مرِّ أجيالٍ عديدة لكي يكون للانتقاء الجنسي أيُّ تأثير، وأعتقد أن هذه الحُجة ستكون سليمةً إذا استخدمها مَن أنكَر، على سبيل المثال، أن الريش الزاهي الذي يزيِّن طيورَ الجنة قد اكتُسِبَ بهذه الطريقة. أعتقد أنك تُسلِّم بصحة ذلك، وإذا كنتَ كذلك حقًّا، فلا أفهم كيف تنطبق حُجتك في حالاتٍ أخرى. أدركتُ منذ مدةٍ قصيرة أنني غفَلت عن أمرٍ مهم للغاية بأنني لم أناقش، قدرَ استطاعتي، مسألةَ اكتساب التفضيلات، وطبيعتِها الموروثة، وبقائها على حالها لفتراتٍ طويلة دون تغييرات تُذكَر.

[بخصوص نجاح كتاب «نشأة الإنسان»، أقتبسُ الفقرة التالية من خطابٍ إلى البروفيسور راي لانكستر (بتاريخ ٢٢ مارس ١٨٧١):

«أظن أنك ستفرح بسماعِ أن كتابي حقَّق مبيعاتٍ رائعة، باعتبارِ ذلك دليلًا على التحرُّر المتزايد الذي تشهده إنجلترا … لم أتعرَّض للإساءة حتى الآن بل للازدراء فحسب حتى في دورية «ذا أثنيام» المسكينة» (رغم أنني سوف أتعرَّض لبعض الإساءات القوية، بلا شك).

بخصوص المقالات النقدية التي لفتت انتباهه، أرسل خطابًا إلى السيد والاس (بتاريخ ٢٤ مارس ١٨٧١)، قال فيه:

«يوجد مقال ثانٍ عن كتابي في صحيفة «بول مول جازيت»، وهو لافت جدًّا للانتباه. وقد أثارت المقالات الواردة في مجلة «ذا سبيكتاتور»٩ أيضًا بالغ اهتمامي.

وفي ٢٠ مارس، قال في خطابٍ إلى السيد موراي:

«شكرًا جزيلًا على جريدة «ذا نونكونفورميست» [٨ مارس ١٨٧١]. فأنا أحب الاطلاعَ على كلِّ ما يُكتَب، وهذا يحمل لي بعضَ الفائدة الحقيقية. إذا سمعتَ بنُقادٍ في الصُّحف غير المألوفة، لا سيما الصحف الدينية، مثل «ريكورد» و«ذا جارديان» و«ذا تابلت»، فلتتكرَّم بإخباري. من الرائع أن الكتاب لم يُقابَل بإساءاتٍ١٠ حتى الآن، لكني أظن أنني سأتعرَّض لها لا محالة. في العموم، تحمل المقالاتُ النقدية استحسانًا شديدًا.»
تُشير الفقرة التالية، المقتبسة من خطابٍ إلى السيد موراي (١٣ أبريل ١٨٧١)، إلى مقالةٍ نقدية في صحيفة «ذا تايمز».١١

«ليست لديَّ أيُّ فكرةٍ عن هُوية كاتب مقالة «ذا تايمز». إنه غير مُلِمٍّ بالعلوم، ويبدو لي رجلًا ثرثارًا مليئًا بالأفكار الميتافيزيقية والكلاسيكية؛ لذا لا أكترث كثيرًا بحُجته المعارضة، وإن كنت أعتقد أنها ستُلحِق ضررًا بمبيعات الكتاب.»

وَرَد نقدٌ لكتاب «نشأة الإنسان» في دورية «ذا ساترداي ريفيو» (٤ مارس و١١ مارس من عام ١٨٧١). وقد تحدَّث عنه والدي واصفًا إياه بأنه «ممتاز». ويمكن اقتباس فقرة من المقال النقدي الأول (الذي نُشِر في ٤ مارس) لتوضيح الأساس العريض للقَبول العام الذي تحظى به فكرةُ التطوُّر الآن: «إنه يدَّعي أنه ضَمَّ الإنسانَ نفسه وأصله وتكوينه ضمن هذا الإطار الموحَّد الذي كان يسعى سابقًا إلى تتبُّعه عبْر كل أشكال الحيوانات الأدنى رتبة. وقد أسفر نمو الآراء في تلك الفترة الزمنية، بفضلِ أعماله التي توسَّطتها في المقام الأول، عن وضعِ مناقشةِ هذه المسألة في مكانةٍ أفضلَ بكثير من التي كانت تشغلها قبل ١٥ عامًا. فنادرًا ما كانت مسألة التطوُّر تُعالَج حينذاك على أنها أحدُ المبادئ الأولى، ولم يَعُد السيد داروين مُلزَمًا بخوضِ معركة ليحظى بفرصة أولى يعرِض فيها الحججَ المركزية لفرضيته، التي تحظى كما هي بدعمٍ من كتيبةٍ من الأسماء المميَّزة والواعدة جدًّا في نصفَي الكرة الأرضية كلَيهما.»

يبدو أن نتوء الأذن، الذي اكتشفه السيد وولنر، ووُصف في كتاب «نشأة الإنسان» قد بَهَر المُخيلة الشعبية؛ إذ قال والدي في خطابٍ إلى السيد وولنر:

«صارت تلك المنطقة الناتئة في أعلى الأذن شهيرةً جدًّا. فها هو ذا أحدُ النقاد (دورية «نيتشر») يقول إنها يجب أن تُسمَّى، كما اقترحتُ مازحًا، بالزاوية الوولنرية.١٢ وثمَّة رجلٌ ألماني يشعر بالفخر الشديد لأنه اكتشف أن النتوء في أذنَيه تامُّ التطوُّر، وأعتقد أنه سيُرسل إليَّ صورةً فوتوغرافية لأذنَيه.»]

من تشارلز داروين إلى جون برودي إنيس١٣
داون، ٢٩ مايو [١٨٧١]
عزيزي إنيس

سُررت جدًّا بتلقِّي خطابك المُبهج؛ لأنني، للأمانة، أحيانًا ما كنت أتساءل عمَّا إذا كنتَ ستراني منبوذًا هالكًا بعد نشرِ كتابي الأخير [«نشأة الإنسان»].١٤ لا أتعجَّب إطلاقًا من أنك لا تتفق معي؛ فكثيرٌ من علماء التاريخ الطبيعي المتمرسين لا يتفقون معي أيضًا. بالرغم من ذلك، حين أرى مدى الغرابة الشديدة التي تغيَّر بها حُكم علماء التاريخ الطبيعي منذ أن نشرت كتاب «أصل الأنواع»، أشعر باقتناعٍ أننا سنشهد، في غضون ١٠ سنوات، إجماعًا مماثلًا بشأنِ مسألة جسد الإنسان …

[تتناول الخطابات التالية المرسلة إلى الدكتور أوجل تقدُّم العمل على كتاب «التعبير عن العواطف».]

داون، ١٢ مارس [١٨٧١]
عزيزي الدكتور أوجل

تلقَّيتُ خطابَيك كلَيهما، وهما يُخبرانني بكلِّ ما كنت أريد معرفته بأوضحِ طريقة ممكنة، كدأبِ خطاباتك دائمًا بالفعل. أشكرك من أعماق قلبي. سأطرح حالة القاتل١٥ في مقالة موضوعي المفضَّل المتعلِّق بالتعبير عن العواطف. أخشى أن يكون سؤال قناة استاكيوس قد كبَّدك جهدًا مضنيًا؛ فإجابتك عليه تُشكِّل مقالةً قصيرة مكتملة. من الواضح تمامًا أن الفم لا يُفتَح عند الدهشة لتحسين السمع فحسب. لكن لماذا يُبقي الرجالُ الصُّم أفواههم مفتوحةً عادة؟ منذ بضعة أيام، كان ثمَّة رجل هنا يُقلِّد صديقًا أصمَّ، وذلك بإمالةِ رأسه إلى الأمام والجانبَين نحو المتحدِّث، فاغرًا فاه، كان ذلك تمثيلًا حيًّا لرجلٍ أصمَّ. يقول شكسبير في موضعٍ ما: «احبس أنفاسك واستمع» أو «أنصِت»، لا أتذكَّر أيهما بالتحديد. الدهشة تُسرِّع الأنفاس، ويبدو لي أن المرء يستطيع، عند التنفُّس السريع على الأقل، أن يتنفَّس عبْر فمه المفتوح بهدوءٍ أكبر ممَّا يتيسَّر له عند تنفُّسه عبْر أنفه. رأيت منذ بضعةِ أيام أنك شكَّكت في ذلك. نظرًا إلى أن الاعتراض هو اختصاصك في هذه الأيام، فأظن أن التنفُّس عبْر الأنف يقع ضمن نطاقه كذلك؛ لذا أرجو أن تتأمَّل هذه النقطة، وتخبرني برأيك. اعتبر الأنفَ زهرةً تُلقَّح، وعندئذٍ ستفهم الأمر برُمَّته.١٦ اضطُررتُ إلى أن أُشيرَ إلى ورقتك البحثية عن «حاسة الشم»؛١٧ فهل ترقيم الصفحات صحيح، أعني هل يسير على هذا المنوال: ١، ٢، ٣؟ إذا لم يكن كذلك، فأنا أعترض بشدة على الخطة التي اتبعها البعضُ بترقيم النُّسخ المهداة ترقيمًا خاطئًا، وكذلك يعترض رولستون على هذا أيضًا، كما قال لي في خطاب قبل بضعة أيام. في عُجالة سريعة.
مع بالغ إخلاصي
سي داروين

من تشارلز داروين إلى دبليو أوجل
داون، ٢٥ مارس [١٨٧١]
عزيزي الدكتور أوجل

ستظنني مملًّا بغيضًا، لكن «ثمَّة نقطة جديدة أودُّ ملاحظتها»؛ ولهذا ألتمس منك أن تتخيَّل بأشدِّ إتقان ممكن أنك تصادف شيئًا مرعبًا فجأة، وتتفاعل مع ذلك بهزةٍ بسيطة مفاجئة، «رعشة رُعب»، فلتفعل ذلك من فضلك مرةً أو اثنتَين، ولتلاحِظ نفسك بأفضلِ ما تستطيع، ولتقرأ «بعدئذٍ» الجزءَ المتبقي من هذه الرسالة، الذي وضعته بِناءً على أنك ستفعل ذلك. فقد أدهشني ما وجدتُه من أن عضلتي الجلدية العنقية تنقبض كلما تصرَّفتُ بهذه الطريقة. هل تنقبض تلك العضلة لديك؟ (ملحوظة: انظر إلى ما يُمكن أن يفعله المرء من أجل العلم؛ فها أنا ذا قد بدأتُ هذه الرسالة بكذبة فظيعة، ألَا وهي أنني أُريدك أن تدرس نقطةً جديدة).١٨ سأحاول أن أجعل بعضَ الأشخاص، الذين من حُسن حظهم أنهم لا يعرفون حتى بوجودِ هذه العضلة لديهم، أن يتصرَّفوا بهذه الطريقة، من المُرهِق جدًّا لأي شخص أن يفهم مسألةَ التعبير عن العواطف. هل الرعشة شبيهةٌ بالارتجافة أو الارتعاشة التي تُصيب المرء قبل الحمى؟ إذا كانت كذلك، فربما يُمكن ملاحظة العضلة الجلدية العنقية في مثل هذه الحالات. لقد أخبرني باجيت بأنه كان مهتمًّا جدًّا بمسألةِ الارتعاش، وكَتَب مخطوطةً عن هذا الموضوع، وأنه كان يُحيِّره بشدة. ذكر أيضًا أن تمرير القسطرة غالبًا ما يُسبِّب ارتعاشة. ربما سأُرسل إليه خطابًا بخصوص العضلة الجلدية العنقية. فهو دائمًا ما يُبدي كرمًا بالغًا في مساعدتي بشتَّى الطرق، لكنه يُفرِط كثيرًا في العمل، ولهذا يؤلم ضميري أن أزعجه؛ فأنا أيضًا ذو ضمير، وإن لم يكن كبيرًا كما يحق لك أن تعتقد ذلك. ساعدني إذا استطعت، وسامحني. لقد كانت حالة القاتل التي أرسلتها إليَّ مثالًا رائعًا على الانهيار من شدة الخوف.
مع بالغ إخلاصي
سي داروين

من تشارلز داروين إلى الدكتور أوجل
داون، ٢٩ أبريل [١٨٧١]
عزيزي الدكتور أوجل

إنني ممتن حقًّا لكل العناء البالغ الذي تكرَّمتَ بتحمُّله من أجلي. وأنا متيقن من عدم وجود مبرِّر يجعلك تعتذر لأنك لم تستطِع إعطائي معلومات محدَّدة؛ فما أمددتني به بالفعل أكثرُ بكثير ممَّا توقَّعتُ الحصول عليه إطلاقًا. لا تهمني حركةُ العضلة الجلدية العنقية كثيرًا، لكني أعتقد أنك ستتفهَّم (لأني أتصوَّر دائمًا أن عقلَينا متشابهان جدًّا) رغبتي الشديدة في ألَّا أكون متحيِّرًا تمامًا. صرت أعرف الآن أنها أحيانًا ما تنقبض بسبب الخوف والارتجاف، لكنها، على ما يبدو، لا تنقبض بسبب الإصابة بحالة خوف مطوَّلة كالتي يعانيها المجانين …

[نُشِر كتاب السيد ميفارت «تكوُّن الأنواع» — الذي يُعد إسهامًا في مؤلَّفات التطوُّر، والذي أثار اهتمامًا بالغًا — في عام ١٨٧١، قبل ظهور كتاب «نشأة الإنسان». ويشير الخطاب التالي، المرسَل من الراحل تشونسي رايت إلى والدي (بتاريخ ٢١ يونيو ١٨٧١)، إلى هذا الكتاب]:

«أرسلُ … بروفات طباعة منقَّحة خاصة بمقالةٍ ستُنشَر في عدد يوليو من مجلة «نورث أميريكان ريفيو»؛ وأُرسلها على أملِ أن تنال اهتمامك أو تكون حتى ذاتَ قيمة كبيرة لك. يبدو لي أن كتاب السيد ميفارت [«تكوُّن الأنواع»]، الذي تُعد هذه المقالةُ في الأساس نَقدًا له، بمثابة خلفية جيدة جدًّا يمكن الاستنادُ إليها في تقديم الاعتبارات التي كنت أسعى إلى طرحها في المقالة، دفاعًا عن نظرية الانتقاء الطبيعي وتوضيحًا لها. كانت غايتي الخاصة هي الإسهام في النظرية بوضعها في موضعها الصحيح من الأسئلة الفلسفية بوجه عام.»١٩

بخصوص بروفات الطباعة المرسَلة من السيد رايت، كتب والدي خطابًا إلى السيد والاس قال فيه:]

داون، ٩ يوليو [١٨٧١]
عزيزي والاس

أُرسلُ ضمن هذه الدفعة البريدية مقالةً نقدية كتبها تشونسي رايت؛ لأنني أرغب بشدة في أن يصلني رأيك فيه حالما تستطيع إرساله. فأنا أعتبرك ناقدًا أفضلَ مني بكثير. تبدو لي المقالة مثيرةً للإعجاب، وإن كانت مكتوبةً بأسلوب غير واضح، وسيئةً في بعض أجزائها بسبب نقص المعرفة. لكتاب ميفارت تأثيرٌ بالغ ضد نظرية الانتقاء الطبيعي، وضدي بالأخص. ومن ثَم، إذا رأيتَ أن المقالة جيدة ولو نسبيًّا، فسأُرسل خطابًا للحصول على إذنٍ بنشرها في صورة كُتيب صغير من تلك الكُتيبات التي تُباع بشلن، مع الإضافات الواردة في المخطوطة (مرفقة بهذا الخطاب)، التي لم يتسع المقام لذكرها في نهاية المقالة …

أعملُ الآن على إصدارِ طبعة جديدة ورخيصة من كتاب «أصل الأنواع»، وسوف أردُّ على عدة نقاط من تلك التي ورَدت في كتاب ميفارت، وأدرجُ فصلًا جديدًا لهذا الغرض، لكني أتناول الموضوع تناولًا يُركِّز على الجانب المادي الملموس بدرجةٍ أكبرَ كثيرًا من تلك التي يتَّسم بها عملُ رايت، بينما يقِلُّ تركيزي على المعالجة الفلسفية؛ فلن تتضارب المناقشة التي يعرضها أحدنا مع ما يعرضه الآخر. ستظنني متعصِّبًا حين أقول إنني، بعدما درست ما كتبه ميفارت، لم أكن من قبلُ أشدَّ اقتناعًا من الآن بأن الآراء الواردة في كتاب «أصل الأنواع» صحيحةٌ «في العموم» (أي دون تفصيل). حزنتُ عندما رأيت ما حذفه ميفارت من كلامي، وهذا ما اكتشفه رايت.٢٠ لقد شكوتُ إلى ميفارت من أنه يكتفي، في حالتَين، باقتباسِ بداية عباراتي، ومن ثمَّ يُغيِّر مقصدي، لكني لم أظن قَط أنه سيحذف كلمات. وتوجد حالاتٌ أخرى ممَّا أعتبره معاملةً غيرَ مُنصفة. أستنتجُ مع الأسف الشديد أنه، وإن كان ينوي التحلي بالأمانة، متعصِّب جدًّا إلى حدٍّ يُعجزه عن التصرُّف بإنصاف …

من تشارلز داروين إلى تشونسي رايت
داون، ١٤ يوليو ١٨٧١
سيدي العزيز

نادرًا ما قرأت في حياتي مقالةً غمرتني ببالغ الرضا كالمقالة النقدية التي تكرَّمت بإرسالها إليَّ. أوافقك في كلِّ ما تقوله تقريبًا. لا بد أن ذاكرتك دقيقةٌ للغاية؛ لأنك تعرف أعمالي جيدًا قدرَ ما أعرفها أنا شخصيًّا، ثم إن قدرتك على فهمِ أفكار الآخرين مذهلةٌ حقًّا، وهذه، على حد خبرتي، صفةٌ نادرة جدًّا. بينما كنت أمضي قُدمًا في القراءة، أدركتُ كيف اكتسبتَ هذه القدرة؛ بتحليل كل كلمة تحليلًا شاملًا.

… الآن سألتمس منك أن تسدي لي صنيعًا. هلَّا تأذن لي مؤقَّتًا بإعادة طبعِ مقالتك في صورة كُتَيب صغير بشلن؟ أطلب ذلك مُؤقَّتًا فقط؛ لأنني لم أحظَ بعدُ بمتسع من الوقت للتفكير في الموضوع. أتصوَّر أن ذلك سيُكلِّفني، نحو ٢٠ أو ٣٠ جنيهًا بما في ذلك تكلفةُ الإعلانات، لكن الأسوأ هو أن الكُتيبات، حسبما أسمع، لا تُحقِّق أيَّ مبيعات. هل ترى أنك ستتكبَّد عناءً شديدًا فوق طاقتك في سبيل أن تُرسل إليَّ عنوانًا «تحسُّبًا لاحتمالية إصدار الكتيب»؟ أظن أن العنوان ينبغي أن يتضمَّن اسم ميفارت.

… إذا منحتني الإذن وأرسلت عنوانًا، فهذا يعني أنك ستتكرَّم وتتفهَّم أنني سأُجري مزيدًا من الاستفسارات أولًا عمَّا إذا كان ثمة أيُّ احتمال أن يُقرأ كُتَيب كهذا.

أرجو أن تتقبَّل أصدق تحياتي وخالص امتناني
سي داروين

[نُشر الكُتَيب في الخريف، وفي ٢٣ أكتوبر أرسل والدي خطابًا إلى السيد رايت، قال فيه:

«سُررتُ جدًّا بأنك راضٍ عن ظهور كُتَيبك. أنا متيقن من أنه سيقدِّم خدمةً جليلة لقضيتنا، وهذا هو الرأي نفسه الذي عبَّر لي عنه هكسلي.» («خطابات تشونسي رايت»، الصفحة ٢٣٥).]

من تشارلز داروين إلى إيه آر والاس
داون، ١٢ يوليو [١٨٧١]

… أشكُّ بشدة في مدى النجاح الذي سأُحقِّقه في الرد على ميفارت، فمن الصعبِ جدًّا أن أردَّ على اعتراضات على نقاطٍ مشكوك فيها، وأن أجعل النقاشَ واضحًا للقُرَّاء بسلاسة. سأكتفي بانتقاء نقاطٍ معيَّنة فقط. أسوأ ما في الأمر أنني ربما لا أستطيع الاطلاعَ على كل مراجعي بحثًا عن نقاط منفصلة؛ فهذا سيستغرق مني ثلاثة أسابيع من الجهد الشاق للغاية. ليتني كنت أملك قدرتك على الحِجاج بوضوح. أشعر حاليًّا بالسأم من كل شيء، ولو استطعت أن أشغل وقتي وأنسى همومي، أو بالأحرى مآسيَّ اليومية، فلن أنشر كلمةً أخرى أبدًا. ولكن يُمكنني القول إنني سأبتهج قريبًا، بعدما تعافيت للتو من هجومٍ سيئ. إلى اللقاء، لا أعرف إطلاقًا لماذا أُزعجك بشئوني. لا أستطيع أن أقول عن الحلقات المفقودة زيادةً عمَّا قلتُه. ينبغي أن أعتمد بشدة على عصورِ ما قبل السيلوري، لكن السير دبليو تومسون يَظهر حينئذٍ كشبح بغيض. إلى اللقاء.

… يوجد نقدٌ لاذع جدًّا لي في دورية «ذا كورترلي ريفيو»،٢١ لم أقرأ منه سوى بضع صفحات. ما رأيته فيه من براعةٍ وأسلوب يجعلانني أظن أن ميفارت هو كاتبه. سيُنظر إليَّ قريبًا على أنني أحقِّر الرجال. هذا النقد في دورية «ذا كورترلي ريفيو» يَحُضني على إعادة نشرِ ما كتبه سي رايت، وإن كان لن يُقرأ على الإطلاق؛ لأُظهِر فقط أنه يوجد مَن يعارض ميفارت، وأن ما يقوله (أي ميفارت) ينبغي ألَّا يُصدَّق دون تفكير … الرب وحدَه يعلم ما إذا كانت قدرتي وروحي المعنوية ستصمدان إلى أن أنشرَ فصلًا ضد ميفارت وآخرين؛ فأنا أكره الجدالَ بشدة، وأشعر بأنني سأفعل ذلك على نحوٍ سيئ جدًّا.

[كان نقد دورية «ذا كورترلي ريفيو» المذكور أعلاه موضوعَ مقالٍ كتبه السيد هكسلي في عددِ نوفمبر من مجلة «ذا كونتيمبوراري ريفيو». وكذلك نوقِش في هذا المقال مُجلَّد السيد والاس الذي يحمل عنوان «إسهام في نظرية الانتقاء الطبيعي»، والطبعة الثانية من كتاب «تكوُّن الأنواع» للسيد ميفارت. سنعرض فيما يلي مقتطفًا من مقال السيد هكسلي. يعتقد ناقد دورية «ذا كورترلي ريفيو»، وإن كان مؤمنًا بفرضيةِ التطوُّر إلى حدٍّ ما، أن الإنسان «أكثر اختلافًا عن الفيل أو الغوريلا، من اختلاف هؤلاء عن تراب الأرض الذي تطؤه أقدامها.» ويدَّعي الناقد أيضًا أن والدي قد «ازدرى المبادئ الأولى للفلسفة والدِّين كلَيهما بمعارضةٍ لا داعي إليها». وينتقل السيد هكسلي من الادعاء الآخر، الذي يُؤكِّد فيه ناقدُ دورية «ذا كورترلي ريفيو» عدمَ وجود تعارض ضروري بين التطوُّر والدِّين، إلى الموقف الأكثر وضوحًا الذي يتبنَّاه السيد ميفارت، ومفادُه أن المسئولين التقليديين في الكنيسة الكاثوليكية الرومانية يتفقون بكل وضوح على تأكيد الخلق الاشتقاقي، ومن ثمَّ «تتوافق تعاليمهم مع كلِّ ما قد يتطلَّبه العلم الحديث». وهنا شعر السيد هكسلي بالحاجة إلى «دراسة الفلسفة المسيحية» (بثوبها اليسوعي، علي أية حال)، والذي يتحدَّث به السيد ميفارت، فبدأ العمل على سد هذه الحاجة فورًا. كان يقيم آنذاك في سانت أندروز، وأرسل من هناك خطابًا إلى والدي قائلًا:

«من حُسن حظي الشديد، أنه توجد هنا مكتبة ممتازة، وفيها نسخةٌ جيدة من كتاب سواريز،٢٢ في دَزِّينة من المطويات. فغُصتُ بينها، أدهَش هذا قيِّم المكتبة بشدة، وبعدما تفحَّصتها «كما يحدِّق طائر أبي الحناء المتيقِّظ إلى فخ الحفَّار»،٢٣ أخذت معي المجلَّدَين الجليلَين اللذَين كانا مغلقَين بأبازيم وكانا واعدَين جدًّا.» حتى أولئك الذين يعرفون قدرةَ السيد هكسلي التي لا تُضاهى على دحض أي كتاب فلا بد أنهم تعجَّبوا من البراعة التي جعل بها كلام سواريز يؤيِّد موقفه. ذلك أنه كتب قائلًا: «لقد خرجتُ من هذا في ثوبِ شخصيةٍ جديدة بتحوُّلي إلى مُدافع عن المعتقدات الدينية التقليدية الكاثوليكية، وأفحمتُ ميفارت بكلامٍ من فم نَبيِّه الذي يؤمن به.»

ويُركِّز معظمُ الجزء المتبقي من نقدِ السيد هكسلي على تشريحِ نفسية ناقد دورية «ذا كورترلي ريفيو» وآرائه الأخلاقية. ويتناول أيضًا اعتراضات السيد والاس على نظرية التطوُّر من خلال أسبابٍ طبيعية فيما يتعلَّق بالقدرات العقلية للإنسان. وأخيرًا، خصَّص صفحتَين لتبرير وصفه مُعاملة ناقد دورية «ذا كورترلي ريفيو» للسيد داروين بأنها «غير منصفة وغير لائقة على حدٍّ سواء.»

سيتبيَّن أن الخطابَين التاليَين كُتبا قبل نشر مقالة السيد هكسلي.]

من تشارلز داروين إلى تي إتش هكسلي
داون، ٢١ سبتمبر [١٨٧١]
عزيزي هكسلي

لقد أسعدني خطابك بشدةٍ من نَواحٍ عديدة … يا لك من رجلٍ رائع لأنك تتحمَّل مشقة التعامل مع كتبِ الألوهية الميتافيزيقية القديمة هذه! يسرني جدًّا أنك ستردُّ على ما قاله ميفارت وتهاجمه إلى حدٍّ ما. لقد أحدث كتابه تأثيرًا بالغًا، كما تقول؛ إذ لاحظتُ أصداءه يوم أمس، حتى من إيطاليا. كان هذا هو ما جعلني أطلب من تشونسي رايت أن ينشر، على نفقتي الخاصة، مقالته التي أراها ذكيةً جدًّا، وإن كانت مكتوبةً بأسلوبٍ سيئ. ذلك أنه لا يملك من المعرفة ما يكفي لتناول ما قاله ميفارت بالتفصيل. أظن أنه لا يُمكن أن يوجد أدنى شكٍّ في أنه هو كاتب مقالة دورية «ذا كورترلي ريفيو» … أعمل الآن على إعداد طبعة جديدة من كتاب «أصل الأنواع»، وسوف أُدرج فصلًا جديدًا للرد على اعتراضات متنوِّعة، وسأُخصِّص الجزء الأكبر للرد على ما طرحه ميفارت من الحالات التي تتضمَّن صعوبةً متمثِّلةً في وجود بِنًى أولية ليس لها فائدة، وأجد أنني أستطيع فعلَ ذلك بسهولة. فهو لم يعرض حُجته بإنصاف قط، ويرتكب أخطاءً عجيبة … البساط يُسحب الآن من تحت أقدامنا نحو الجهة الأخرى، لكني واثق من أنه سيعود إلى أسفل أقدامنا قريبًا، وما من إنسان سيفعل نصفَ ما تفعله في سبيل إعطاء ذاك البساط دفعةً نحو الجهة الصحيحة، مثلما فعلتَ في البداية. فليسامحني الرب على كتابةِ مثل هذا الخطاب الطويل المغرور، لكنَّ هذا خطؤك لأنك غمرتني بسرورٍ بالغ؛ فأنا لم أتصوَّر قَط أنك ستحظى بمتَّسع من الوقت لقول كلمة واحدة دفاعًا عن قضيتنا، التي دافعتَ عنها مرارًا. ستكون معركة طويلة بعدما نموت ونفنى … فما أشدَّ قوةَ التحريف …

من تشارلز داروين إلى تي إتش هكسلي
داون، ٣٠ سبتمبر [١٨٧١]
عزيزي هكسلي

كانت لفتةً طيبة جدًّا منك أن ترسل إليَّ بروفات الطباعة؛ لأنني كنت متلهِّفًا «جدًّا» لقراءة مقالتك. لقد سُررت بها. إنك تسحق أفكارَ ميفارت اللاهوتية بقوة، تكاد هذه المقالة تضاهي مقالتك التي كتبتها ضد كونت،٢٤ والتي لا يُمكن أن تفوقها أيُّ مقالة أخرى أبدًا … لكنَّ ما أسعدني على نحوٍ استثنائي هو قراءة النقاش الذي طرحتَه عن الأفكار الميتافيزيقية [لدى ناقد دورية «ذا كورترلي ريفيو»]، لا سيما عن العقل وتعريفه له. كنت متيقنًا من أنه كان مخطئًا، ولكن لمَّا لم يكن لديَّ ما أعتمد عليه سوى الملاحظة السليمة والحس المنطقي السليم، فلم أعرف ما يمكنني أن أقوله في طبعتي الثانية من كتاب «نشأة الإنسان». أمَّا الآن، فسأستوفي هذا الغرضَ بحاشية سفلية وإحالةٍ مرجعية إليك … يُمثِّل هذا الجزء، من وجهة نظري الشخصية، أحدَ «أهم» أجزاء المقالة. بالرغم من ذلك، فما «أسعدني» شخصيًّا بالأخص هو أن كلماتي القليلة٢٥ عن التمييز بين شكلَي السلوك الأخلاقي اللذَين طرحهما ميفارت، إن جاز أن يُسمَّى تمييزًا، قد لفتت انتباهك. إنني مسرور جدًّا لأنك تتبنَّى الرأي نفسه وتعرِض مصادر مرجعية تؤيِّده، لكني بحثتُ في كتابات ستيورات مِل عن أي شيء بخصوص هذه المسألة دون جدوى. ما أروعَ الطريقةَ التي تعرِض بها حجَّتك كاملةً! إنني أنتقل من جزءٍ ممتاز إلى آخرَ أفضلَ منه؛ لأنني رغم كل شيء أظن أن الجزء الأفضل في مقالتك كلها هو حججُك التي طرحتَها ضد والاس بخصوص فِكر الهَمَج. لا بد أن أُخبرك بما قاله هوكر لي قبل بضع سنوات. لقد قال لي: «عندما أقرأ كتابات هكسلي، أشعر بأن فكري طفولي جدًّا.» أُقسمُ أنني شعرت بأن هذا حقيقي بالفعل طوال مقالتك. يا لك من رجل. إنها تضم الكثيرَ جدًّا من الفقرات الرائعة، ولا تخلو من ومضات البديهة الثاقبة. لقد غمرني الجزء الختامي من مقالتك بما هو أكثر بكثير من مجرَّد سعادة عادية، لا سيما أنني أعترف بأنني شعرت بالخزي بسبب اتهامي بالتعصُّب والغطرسة، وغير ذلك في دورية «ذا كورترلي ريفيو». لكني أؤكِّد لك أنه، حتى وإن كتب أسوأ ما لديه، فلن يُشعرني بالخزي مرةً أخرى أبدًا.
مع خالص امتناني يا عزيزي هكسلي
تشارلز داروين

من تشارلز داروين إلى إف مولر
هيردين، ألبري، ٢ أغسطس [١٨٧١]
سيدي العزيز

أثار خطابك الأخير بالغَ اهتمامي؛ فهو غني للغاية بالحقائق والأفكار الأصلية. اسمح لي أولًا بالتعبير عن سعادتي البالغة بما قلتَه عن كتابي. لقد حقَّق مبيعات «هائلة»، لكني تعرَّضت لإساءاتٍ بالغة بسببه، ولا سيما بسبب الفصل المتعلِّق بموضوع الحس الأخلاقي، ومعظم النقَّاد يعتبرون كتابي سيئًا. الرب وحدَه يعلم ما المحاسن التي ربما تكون كامنةً فيه حقًّا، كلُّ ما أعرفه أنني بذلتُ كلَّ ما بوسعي. أظن أن علماء التاريخ الطبيعي، مع التعوُّد، سيتقبَّلون فكرةَ الانتقاء الجنسي بدرجةٍ أكبر من تلك التي يبدو أنهم ميَّالون إليها الآن. أرغب بشدة في نشر خطابك، غير أنني لا أعرف كيف أجعله مفهومًا واضحًا دون كمٍّ هائل من الرسومات التوضيحية الملوَّنة، لكني سأستشير السيد والاس بخصوص هذه النقطة. آمُل بكل صدقٍ أن تكون محتفظًا بملاحظاتٍ من كل خطاباتك، وأن تنشر كتابًا يومًا ما، بعنوان «ملاحظات عالِم تاريخ طبيعي في جنوب البرازيل»، أو شيء من هذا القبيل. لا يعترف والاس إطلاقًا باحتمالية وجود انتقاء جنسي لدى حرشفيات الأجنحة، ومن المؤكَّد أن هذا مستبعَد جدًّا. لذا سُررتُ جدًّا حين عرفتُ بأمرِ الحالات التي طرحتَها لمجموعتَي الفراشات النطاطة Hesperiadæ، التي تعرِض أجنحتها بشكلٍ مختلف، وفقًا لأيٍّ من سطحَي الأجنحة هو الملوَّن، وسوف أستشهد بهذه الحالات في الطبعة التالية. لا أستطيع أن أُصدِّق أن هذا يحدث مصادفةً وبلا هدف معيَّن …

لم تُثِر اهتمامي أيُّ حقيقة في خطابك أكثرَ ممَّا أثارته تلك المتعلِّقة بالمحاكاة التنكُّرية. إنها حقيقة ممتازة عن أن الذكور يسعَون وراء الإناث الخاطئة. إنك تطرح صعوبة الخطوات الأولى في المحاكاة التنكُّرية بطريقةٍ لافتة و«مقنعة» جدًّا. لقد أثارت فكرتُك عن أن الانتقاء الجنسي ساعد المحاكاةَ التنكُّرية الوقائية، بالغَ اهتمامي؛ لأن الفكرةَ نفسها خطرت ببالي سلفًا في حالات مختلفة تمامًا، وهي شحوب ألوان كل الحيوانات في أرخبيل جالاباجوس وباتاجونيا، إلخ، وفي بعض الحالات الأخرى أيضًا، لكني خِفتُ حتى من التلميح إلى فكرةٍ كهذه. هل تمانع أن أُدرجَ جملةً ما على النحو التالي: «يظن إف مولر أن الانتقاء الجنسي ربما ظهر لمساعدة المحاكاة التنكُّرية الوقائية، بطريقةٍ غريبة جدًّا سيراها أولئك الذين لا يؤمنون تمامًا بالانتقاء الجنسي مستبعدةً للغاية. وهي أن الإعجاب بلونٍ معيَّن يتطوَّر لدى تلك الأنواع التي كثيرًا ما ترى أنواعًا أخرى مُزيَّنة بهذا اللون.» اسمح لي مرةً أخرى بأن أشكرك من صميم قلبي على خطابك المثير جدًّا للاهتمام …

من تشارلز داروين إلى إي بي تايلور
داون، [٢٤ سبتمبر ١٨٧١]
سيدي العزيز

آمُل أن تسمح لي بالتعبير عن بالغ سعادتي إذ أخبرك بمدى الاهتمام الشديد الذي أثاره لديَّ كتابك «الثقافة البدائية»، الآن وقد فرغت من قراءته. أرى أنه عملٌ عميق جدًّا، ومن المؤكَّد أنه سيكون قيمًا على الدوام، وسيظل مرجعًا طوال سنوات قادمة. ما أروعَ الطريقةَ التي تَتَّبِع بها الأرواحية لدى الأعراق الأدنى رتبةً إلى الإيمان الديني لدى أعلى الأعراق رتبة. إن هذا الكتاب سيجعلني أنظر إلى الدِّين — الإيمان بالروح، إلخ — من منظور جديد. كم غريبةٌ هي أيضًا بقايا العادات السائدة القديمة أو آثارها … ربما ستُدهش من تأخُّري كل هذه الفترة قبل أن أُرسل خطابًا إليك، لكنَّ الكتاب كان يُتلى عليَّ، وبسبب مرضي الشديد مؤخَّرًا، لم أكن أتحمَّل سوى فترات قصيرة من القراءة بين حينٍ وآخر. من المؤكَّد أنَّ إنجاز هذا العمل قد كبَّدك جهدًا مضنيًا. على أية حال، آمُل بكل صدق أن تتحمَّس لتناول مسألةِ الأخلاق بالأسلوب الموسَّع نفسه، الممزوج بالحذر، الذي تناولتَ به مسألة الأرواحية. يبدو لي من الفصلِ الأخير أنك فكَّرت في هذا. لم يكن لأحد أن يُجيد إنجازَ هذا العمل بقدرِ إجادتك الشديدة، ومن المؤكَّد أن الموضوعَ بالغُ الأهمية ومثير جدًّا للاهتمام. لا شكَّ أن لديك الآن مَراجَع تُرشدك نحو الوصول إلى تقديرٍ سليم لأخلاق الهمج، وشدَّ ما يختلف عدةُ كُتَّاب، مثل والاس، ولوبوك، إلخ، إلخ، في هذه المسألة. عذرًا على إزعاجك، وتقبَّل أصدقَ تحياتي واحترامي الشديد.

مع بالغ إخلاصي
سي داروين

١٨٧٢

[في بداية العام، كانت الطبعة السادسة من كتاب أصل الأنواع»، التي بدأت في يونيو من عام ١٨٧١، على مشارف الاكتمال. نُقِّحت بروفة الطباعة الأخيرة في ١٠ يناير ١٨٧٢، ونُشر الكتاب في أثناء ذلك الشهر. يختلف مجلَّد هذه الطبعة عن مجلَّدات الطبعات السابقة في المظهر والحجم؛ فهو يتكوَّن من ٤٥٨ صفحةً بدلًا من ٥٩٦ صفحة، وأخف وزنًا ببضع أوقيات، وطُبِع على ورق رديء، بخط صغير، مع تكديس السطور بالقرب من بعضها إلى حدٍّ مثير للاستياء. غير أنه كان يتفوَّق على الطبعات السابقة بميزة واحدة فقط؛ ألَا وهي أنه طُرِح بسعرٍ أقل. من المؤسف أن هذه الطبعة الأخيرة من «أصل الأنواع» قد ظهرت بشكلٍ قبيح جدًّا كهذا، من المؤكَّد أن هذا أدَّى إلى نفورِ قُراءٍ كثيرين من الكتاب.

ربما كان النقاشُ الذي طرحه كتابُ «تكوُّن الأنواع» أهمَّ إضافة إلى هذه الطبعة. تناول المؤلِّف الاعتراض الذي مفادُه أن البِنى الأولية لا يمكن أن تكون ذات فائدة، ببعض التفصيل؛ لأنه رأى أن هذا الاعتراض كان النقطة التي لفتت انتباهَ معظم القُرَّاء في إنجلترا في كتاب السيد ميفارت.

من الأدلةِ البارزة على اتساع رُقعة قَبول آراء والدي وشيوع هذا القبول أنه وجد ضرورةً في إدراجِ الجملة التالية (الطبعة السادسة، الصفحة ٤٢٤): «على سبيل تدوين الأوضاع السابقة، احتفظت في الفقرات السالفِ ذِكرُها، وفي مواضعَ أخرى أيضًا، بعدةِ جملٍ تشير ضمنيًّا إلى أن علماء التاريخ الطبيعي يؤمنون بأن الأنواع خُلقت خلقًا مستقلًّا كلٌّ على حدة، وقد تعرَّضتُ للكثير من الانتقادات الشديدة لأنني عبَّرت عن أفكاري بتلك الطريقة. لكنَّ المؤكَّد أن هذا كان هو الاعتقاد السائد عند ظهور الطبعة الأولى من هذا الكتاب الحالي … أمَّا الآن، فقد تغيَّر الوضع تمامًا، وصار كل عالِم تاريخ طبيعي تقريبًا يُقر بصحةِ مبدأ التطوُّر العظيم.»

أُدرِج في هذه الطبعة السادسة تصحيحٌ صغير مرتبط بإحدى أوراقه البحثية الثانوية: «ملاحظات عن عادات نقار خشب سهول البامبا.»٢٦ إذ كان قد كتب في الطبعة الخامسة من «أصل الأنواع»، الصفحة ٢٢٠:

«ولكن، حسبما أستطيع أن أؤكِّد، ليس بِناءً على ملاحظتي الخاصة فقط، بل بِناءً على ملاحظة أزارا الدقيقة أيضًا، فإن [نقار الخشب الأرضي] لا يتسلَّق الشجر أبدًا.» كانت الورقة البحثية المعنية ردًّا على تعليقات السيد هدسون بشأنِ نقار الخشب في عددٍ سابق من الدوريةِ نفسِها. والجملة الأخيرة من ورقةِ والدي البحثية جديرةٌ بالاقتباس بسبب نبرتها المعتدلة؛ إذ قال فيها: «أخيرًا، صِرتُ واثقًا من أن السيد هدسون أخطأ عندما قال إن أيَّ شخص على درايةٍ بعادات هذا الطائر قد يُدفَع إلى اعتقادِ أنني «تعمَّدت تحريفَ الحقيقة» لإثبات نظريتي. وصحيح أنه يبرِّئني من هذه التهمة، لكني لا أرغب في اعتقادِ أن العديد من علماء التاريخ الطبيعي قد يتهمون عالِمًا زميلًا لهم، دون أي دليل، بتعمُّد الكذب لإثبات نظريته.» وردت الفقرة في الطبعة السادسة، الصفحة ١٤٢، على النحو التالي: «في مناطقَ كبيرة مُعيَّنة لا يتسلَّق الأشجار.» ويواصل والدي كلامه ليذكر ادعاء السيد هدسون بأنه، في مناطقَ أخرى، يتردَّد على الأشجار.

كانت إحدى الإضافات في الطبعة السادسة (الصفحة ١٤٩) إشارةً إلى نظرية السيد إيه هايَت والبروفيسور كوب عن «التسارع». وبخصوص هذا، أرسل خطابًا (١٠ أكتوبر ١٨٧٢) إلى السيد هايَت قال فيه تلك الكلمات المميَّزة:

«اسمح لي أن أغتنم هذه الفرصةَ للتعبير عن ندمي الصادق على ارتكابِ خطأَين فادحَين في الطبعة الأخيرة من «أصل الأنواع»، في إشارتي إلى آرائك أنت والبروفيسور كوب بخصوص تسارُعِ التطوُّرِ وتباطئه. كنت أظن أن البروفيسور كوب قد سبقك، لكني الآن أتذكَّر جيدًا أنني قرأتُ من قبلُ باهتمامٍ قوي ورقةً بحثية من تأليفك عن حفريات رأسيات القدم كانت توجد في مكتبتي، وكانت تضم تعليقاتٍ بشأن هذا الموضوع، وحدَّدتُها بعلاماتٍ مميَّزة. ويبدو أيضًا أنني قد أسأت التعبيرَ عن رأيكما المشترك إلى حدٍّ كبير. وهذا ضايقني بشدة. أعترف بأنني لم أتمكَّن قط من فهمِ ما تريدان توضيحه على نحوٍ تام، وأظن أن هذا غباءٌ مني بالتأكيد.»

أخيرًا، يمكن ذكرُ أن هذه الطبعة الرخيصة الثمن، لمَّا كان الهدفُ منها إلى حدٍّ ما أن تكون طبعةً شعبية رائجة، قد صُمِّمَت لتشمل مسردًا للمصطلحات المتخصِّصة، «أضيف لأن العديد من القراء قد اشتكَوا … من أن بعض المصطلحات المستخدمة لم تكن مفهومةً لهم.» تكفَّل السيد دالاس بتجميع المسرد، ولمَّا كان هذا المسرد مجموعةً ممتازة من التعريفات الواضحة الوافية، فمن المؤكَّد أنه كان نافعًا للعديد من القراء.]

من تشارلز داروين إلى جيه إل إيه دي كاتريفاج
داون، ١٥ يناير ١٨٧٢
سيدي العزيز

إنني في غاية الامتنان لخطابك اللطيف جدًّا ومجهوداتك التي تبذلها لمساعدتي. كنت أظن أن نشْرَ كتابي الأخير [«نشأة الإنسان»] سيقضي على كل تعاطفك معي، ولكن يبدو أنني، وإن كنتُ قد قدَّرت تحرُّرك الفكري العظيم بأنه بالغٌ جدًّا، فإنني لم أقدِّره، رغم ذلك، حقَّ قدره.

سُررتُ بمعرفة أن السيد لاكاز-دوتييه سيصوِّت لأجلي؛٢٧ لأنني لطالما وقَّرتُ اسمه. لا أستطيع منْعَ نفسي من الشعورِ بالأسف لأنك تقضي وقتك الثمين سعيًا إلى أن تجعلني أحصل على شرف الانتخاب؛ لأنني أخشى، بِناءً على ما حدث في آخرِ مرة، أن يذهب كلُّ مجهودك سدًى. مهما كانت النتيجة، فسأظل محتفظًا في ذهني بذكرى حيَّة عن تعاطفك ولُطفك دائمًا، وسوف أجد في ذلك عزاءً يُهوِّن عليَّ رفضي.
مع بالغ احترامي وتبجيلي، وسأظل يا سيدي العزيز
ممتنًّا لك بكل صدق
تشارلز داروين
ملحوظة: بخصوص الأهمية الكبيرة التي توليها لمسألةِ مشي الإنسان على قدمَين، في حين أن رباعيات الأيدي تسير على الأطراف الأربعة كلها، دعني أُذكِّرك بأنه ما من أحدٍ يهتم كثيرًا بالاختلاف الكبير في طريقة التحرُّك، ومن ثَمَّ في البنية، بين الفقمات والحيوانات الآكلة اللحوم الأرضية، أو بين حيوانات الكنغر التي تكاد تكون ذات قدمَين والجرابيات الأخرى.

من تشارلز داروين إلى أوجست فايزمان٢٨
داون، ٥ أبريل ١٨٧٢
سيدي العزيز

الآن قد قرأت مقالتك٢٩ ببالغ الاهتمام. إن وجهةَ نظرك عن «أصل» السلالات المحلية من خلال فرضية Amixie؛ [أي منْع حدوث التوالد عن طريق العُزلة]، جديدةٌ عليَّ تمامًا، وأرى أنها تُلقي ضوءًا مهمًّا على مشكلةٍ غامضة. ومع ذلك، يوجد شيء غريب بخصوص فترات القابلية للتباين أو مدة استمرارها. لقد حاولتُ من قبلُ أن أدرس هذا الموضوع، لا عن طريق النظر إلى الزمن الماضي، بل إلى الأنواع المنتمية إلى الجنس نفسِه الموزَّعة على نطاقٍ واسع، ووجدت في حالاتٍ كثيرة أن الأنواع كلها، ربما باستثناء نوعٍ أو اثنَين، كانت قابلةً للتباين. سيكون هذا موضوعًا مثيرًا جدًّا لاهتمام أي عالِم أصداف إذا دَرَسه؛ أعني موضوعَ ما إذا كانت الأنواع المنتمية إلى الجنسِ نفسه قابلةً للتباين على مدار العديد من التكوينات الجيولوجية المتعاقبة. بدأت في البحث بشأن هذا الموضوع، لكني أخفقت في ذلك، كما أخفقت في أمورٍ كثيرة أخرى، بسبب قلة الوقت والعافية. أرى أنك، في تعليقاتٍ على مسألة التوالد، لا تولي أهميةً كافية إطلاقًا للحيوية الزائدة لدى الذرية المولَّدة من آباءٍ تعرَّضوا لظروف مختلفة. لقد عكفتُ في السنوات الخمس الماضية على إجراء تجاربَ بشأن هذه المسألة على النباتات، وذُهلت من النتائج، لكنني لم أنشرها بعد.
في الجزء الأول من مقالتك، ظننتُ أنك أهدرت وقتًا وجهدًا أكثرَ من اللازم على إم فاجنر،٣٠ لكني غيَّرت رأيي عندما رأيت مدى روعة الطريقة التي تتناول بها المسألة برُمَّتها، ومدى إجادتك في استخدام الحقائق المتعلِّقة بحلزون بلانوربِس Planorbis. ليتني درست هذه الحالة الأخيرة بعنايةٍ أكبر. إن الطريقة التي تمتزج بها الضروب المختلفة وتُشكِّل ضربًا واحدًا ثابتًا، كما تُوضِّح في مقالتك، تتوافق تمامًا مع رسوماتي التوضيحية الافتراضية.
منذ سنوات عديدة، وصف الراحل إي فوربس ثلاث طبقات متعاقبة على نحوٍ متقارب في تكوينٍ جيولوجي ثانوي، كلٌّ منها تحوي أشكالًا نموذجيةً من أصداف المياه العذبة نفسها، من الواضح أن الحالة مشابهة لحالة هيلجندورف،٣١ لكنَّ الضروب، أو الحلقات، الواصلة المثيرة للاهتمام لم تكن موجودة. أفرح حين أتذكَّر أنني قلت سابقًا، بأقصى ما استطعت من درجات التأكيد، إنه لا العزلة ولا الزمن يُحدِثان أيَّ تأثير في تعديل الأنواع بمفردهما. لا شيء في مقالتك كلها تقريبًا قد أسعدني على المستوى الشخصي بقدرِ رؤيةِ أنك تؤمن بالانتقاء الجنسي إلى حدٍّ ما. ذلك أن قلةً قليلة من علماء التاريخ الطبيعي هم مَن يؤمنون به حسبما أعتقد. ربما أكون قد أخطأت في نقاطٍ عديدة، وربما وسَّعتُ النظرية توسيعًا مبالغًا فيه، لكن لديَّ قناعة قوية بأن الانتقاء الجنسي سيُقبَل فيما بعدُ على أنه عامل قوي من عوامل التغيير. لا أستطيع أن أتفق معك فيما تقوله عن أن ذوقِ الحيوانات المتعلِّق بالجَمال لا يتغيَّر بسهولة. فثمَّة احتمال أنَّ حتى عادة مشاهدة الأشياء المحيطة ذات الألوان المختلفة تؤثِّر في ذوقها، وحتى فريتز مولر يذهب بعيدًا في افتراضاته إلى حدِّ الاعتقاد بأن رؤية الفراشات المبهرجة الزاهية ربما تؤثِّر في ذوق أنواع مختلفة. تحوي مقالتك تعليقاتٍ وادعاءات كثيرةً أثارت بالغ اهتمامي، وأشكرك على السرور الذي نلتُه من قراءتها.

تقبَّل خالص احترامي.

سأظل، يا سيدي العزيز، حاملًا بالغ الإخلاص لك
تشارلز داروين
ملحوظة: إذا اقتنعتَ في أي وقت على الإطلاق بالتفكير في نظرية الانتقاء الجنسي برُمَّتها، أظن أنك ستهتدي إلى استنتاجٍ مفادُه أن السمات التي يكتسبها أحد الجنسَين غالبًا ما تنتقل إلى الجنس الآخر بدرجةٍ أكبرَ أو أقل.

[بخصوص مقالة موريتز فاجنر الأولى، أرسل والدي خطابًا إلى هذا العالِم المتخصِّص في التاريخ الطبيعي، في عام ١٨٦٨ على ما يبدو، قائلًا:]

سيدي العزيز المحترم

أشكرك بكل صدق على إرسالك ورقة «قانون الهجرة، إلخ» إليَّ، وعلى ما تبذله من عطفٍ في انتباهك المُشرِّف جدًّا الذي تُولِي أعمالي إياه. فأنا أؤكِّد لك أن اتفاق عالِم تاريخٍ طبيعي مثلك، سافرَ إلى عددٍ هائل من المناطق البعيدة ودَرس حيواناتٍ من طوائفَ كثيرة جدًّا معي، يمنحني أقصى ما أستطيع نيله من السعادة … صحيحٌ أنني رأيت تأثيراتِ العزلة في حالة الجزر وسلاسل الجبال، وكنت على دراية ببضع من حالات الأنهار، لكنَّ العدد الأكبر من حقائقك كان جديدًا عليَّ تمامًا. أرى الآن أنني، بسبب قلةِ المعرفة، لم أستفِد استفادة كافيةً إطلاقًا من الآراء التي تناصرها، وأكاد أتمنَّى أن أومن بأهميتها قدرَ إيمانك بها؛ لأنك تُبيِّن جيدًا، بطريقةٍ لم تخطر ببالي قط، أنها تُزيل صعوباتٍ واعتراضاتٍ كثيرة. بالرغم من ذلك لا بد أن أومن بأنه، في العديد من المناطق الكبيرة، قد عُدِّل كل الأفراد المنتمين إلى النوع نفسه ببطء، بالطريقة نفسها التي حُسِّنت بها خيولُ السباق الإنجليزية على سبيل المثال؛ أي بالانتقاء المستمر لأسرع الأفراد، دون أي فَصل أو عزل. لكني أعترف بأن هذه العمليةَ ستجعل وجودَ نوعَين جديدَين أو أكثرَ ضمن المنطقة المحدودة نفسها صعبًا للغاية، وسيكون حدوث قدرٍ من الانفصال مفيدًا جدًّا، إن لم يكن ضروريًّا ولا غنى عنه، وهنا ستكون حقائقك وآراؤك ذات قيمة كبيرة …

[الخطاب التالي متعلِّق بالموضوع نفسه. ويشير إلى مقالة البروفيسور إم فاجنر، التي نُشرت في مجلة «داس أوسلاند»، ٣١ مايو ١٨٧٥:]

من تشارلز داروين إلى موريتس فاجنر
داون، ١٣ أكتوبر ١٨٧٦
سيدي العزيز

أتممتُ الآن قراءة مقالاتك، التي أثارت بالغ اهتمامي، مع أنني أختلف معك بشدة في عدة نقاط. فعلى سبيل المثال، تدفعني اعتباراتٌ كثيرة إلى التشكُّك فيما إذا كانت الأنواع أكثرَ قابليةً للتباين في فترةٍ ما من قابليتها للتباين في فترةٍ أخرى، إلا أن يكون ذلك بفعل ظروف متغيِّرة. بالرغم من ذلك، فليتني أستطيع الإيمانَ بهذه النظرية؛ لأنها تزيل صعوباتٍ عديدة. لكن اعتراضي الأشد على نظريتك هو أنها لا تُفسِّر أساليبَ التكيُّف البنيوية المتعدِّدة التي تظهر في كل كائن عضوي، مثل تلك التي حدثت في النقار الحقيقي ليتسلَّق الأشجار ويصطاد الحشرات، أو في طائر الخَبَل ليصطاد الحيواناتِ ليلًا، وهلم جرًّا. لن أقتنع إطلاقًا بأي نظريةٍ ما لم تفسِّر هذه التكيُّفات بوضوح. أظن أنك قد أسأت فهْمي بخصوص الانعزال. أعتقد أن كل الأفراد في نوعٍ مُعيَّن يُمكن أن يتغيَّروا ببطء ضمن حدود المنطقة نفسها، وذلك بطريقةٍ تكاد تكون مماثلةً للطريقة التي يؤثِّر بها الإنسان بواسطةِ ما أسميتُه عمليةَ الانتقاء غير المقصود … فأنا لا أعتقد أن أحدَ الأنواع سيلد نوعَين جديدَين أو أكثرَ ما دامت هذه الأنواع تتزاوج معًا ضمن حدودِ المنطقة نفسها. بالرغم من ذلك لا يسعني الشكُّ في أن العديد من الأنواع الجديدة تطوَّرت في آنٍ واحد ضمن حدود المنطقة القارية الكبيرة نفسها، وقد حاولت في كتابي «أصل الأنواع» أن أشرح الكيفية التي ربما تؤدِّي إلى تطوُّر نوعَين جديدَين مع أنهما الْتقيا وتزاوجا على «حدود» نطاقهما. كان سيبدو أمرًا غريبًا لو تجاهلتُ أهميةَ الانعزال، نظرًا إلى أن ما دفعني أساسًا إلى دراسةِ أصلِ الأنواع هو حالات كحالات أرخبيل جالاباجوس. أرى من وجهة نظري أن أفدح خطأ ارتكبتُه هو أنني لم أولِ أهميةً كافيةً للتأثير المباشر للعوامل البيئية؛ أي الغذاء والمُناخ وما إلى ذلك. فالتعديلات التي تنتج عن هذه الطريقة، والتي لا تفيد الكائنَ المعدَّل ولا تضره، ستُفضَّل، كما أرى الآن من ملاحظاتك في الأساس، من خلال الانعزال في منطقة صغيرة، حيث يعيش عدد قليل فقط من الأفراد في ظروفٍ شبه موحَّدة.

عندما كنت أكتب «أصل الأنواع»، وطوال عدة سنوات بعد ذلك، لم أجد سوى القليل من الأدلة القوية على تأثير البيئة المباشر، أمَّا الآن فتوجد مجموعةٌ كبيرة من الأدلة، وتُعَد حالة عُثة ساتورنيا Saturnia التي طرحتَها أحدَ أبرز الحالات اللافتة التي سمعتُ بها. بالرغم من أننا نختلف بشدة، آمُل أن تسمح لي بالتعبير عن احترامي لجهودك المستمرَّة منذ فترةٍ طويلة والناجحة في سبيل مجال العلم الطبيعي.
سأظل، يا سيدي العزيز، مخلصًا لك على الدوام
تشارلز داروين

[الخطابان التاليان أيضًا مهمَّان لأنهما متعلِّقان بآراء والدي بشأنِ تأثير الانعزال من حيث علاقته بأصل الأنواع الجديدة:]

من تشارلز داروين إلى كيه سيمبر
داون، ٢٦ نوفمبر ١٨٧٨
عزيزي البروفيسور سيمبر

عندما نشرتُ الطبعة السادسة من «أصل الأنواع»، فكَّرت مليًّا في الموضوع الذي تُشير إليه، وكان الرأي الوارد فيها هو قناعتي التي توصَّلت إليها بدراسةٍ متأنية. لقد ذهبتُ إلى أبعدِ ما يمكنني، وربما أبعدَ ممَّا ينبغي، في الاتفاق مع فاجنر، ومنذ ذلك الوقت، لم أجد سببًا يدفعني لتغيير رأيي، لكن يجب أن أُضيف أن ثمَّة موضوعاتٍ أخرى قد استحوذت على اهتمامي. توجد فئتان مختلفتان من الحالات، كما يبدو لي؛ إحداهما تلك التي يُعدَّل فيها أحدُ الأنواع ببطء في البلد نفسه (لا أشك في وجود حالاتٍ لا حصر لها من هذه الفئة)، وأمَّا الفئة الثانية فهي تضم الحالات التي ينقسم فيها أحدُ الأنواع إلى نوعَين جديدَين أو ثلاثة أو أكثر، وفي هذه الفئة الأخيرة، أظن أن الانفصال شبهُ التام سيساعد بشدةٍ في «انتواعها»، إن أردنا التعبيرَ عن الأمر بمصطلح جديد.

إنني سعيد جدًّا بأنك تتولَّى هذا الموضوع؛ لأنك ستحرص على كشفِ الكثير من جوانبه. أتذكَّر جيدًا تردُّدي الشديد بشأنِ هذه القضية قبل فترةٍ طويلة؛ فعندما كنتُ أفكِّر في الحيوانات والنباتات الموجودة في جزر جالاباجوس، كنت أقتنع تمامًا بفكرةِ الانعزال، وعندما كنت أُفكِّر في أمريكا الجنوبية، كنت أشكُّ فيها بشدة. أرجو أن تتقبَّل أصدقَ تحياتي

مع بالغ إخلاصي
سي داروين
ملحوظة: آمُل ألَّا يكون الخط الذي كُتِب به هذا الخطاب غير مقروء تمامًا، ولكن ليس عندي ناسخٌ في الوقت الحالي.

من تشارلز داروين إلى كيه سيمبر
داون، ٣٠ نوفمبر ١٨٧٨
عزيزي البروفيسور سيمبر

بعد الكتابة إليك، تذكَّرت بعضَ الأفكار والاستنتاجات التي كانت قد خطرت ببالي في السنوات الأخيرة. في أمريكا الشمالية، يبدو من الواضح، عند الانتقال من الشمال إلى الجنوب أو من الشرق إلى الغرب، أن ظروفَ الحياة المتغيِّرة قد عدَّلت الكائناتِ الحية في المناطق المختلفة؛ لذا صارت الآن تُشكِّل سلالات مختلفةً أو حتى أنواعًا مختلفة. والأوضح من ذلك أن الكائنات التي تعيش في المناطق المعزولة، مهما كانت هذه المناطق صغيرة، دائمًا ما تخضع لتعديلاتٍ طفيفة، لكني لا أستطيع أن أُكوِّن رأيًا مُحدَّدًا بشأنِ مدى ارتباط ذلك بطبيعة الظروف المختلفة قليلًا التي تتعرَّض لها هذه الكائنات، ومدى ارتباطه بالتهجين، على النحو الذي شرحه فايزمان. لقد خطرت ببالي هذه الصعوبةُ نفسها (كما هو مُوضَّح في كتاب «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين») فيما يتعلَّق بالسلالات الأصلية من الماشية والأغنام وما إلى ذلك، في المناطق المنفصلة في بريطانيا العظمى، بل في أنحاء أوروبا كلها. ومع تحسُّن معرفتنا، لا ننفك نكتشف أن الاختلافاتِ الطفيفةَ جدًّا، التي يعتبرها خبراء التصنيف اختلافاتٍ بنيويةً غيرَ مهمة، ذاتُ أهمية وظيفية، وقد بهرتني هذه الحقيقة خصوصًا في حالة النباتات التي اقتصرت عليها ملاحظاتي في السنوات الأخيرة. لذا أرى أنه من التسرُّع بعض الشيء اعتبارُ أن الاختلافات الطفيفة بين الأنواع النموذجية، ولتكن مثلًا تلك الأنواع التي تعيش في جزرٍ مختلفة من الأرخبيل نفسه، لا تُشكِّل أهميةً وظيفية، وأنها لا ترجع بأي شكلٍ من الأشكال إلى الانتقاء الطبيعي. بخصوص كل البِنَى المتكيِّفة، وهي لا تُحصى، فلا أستطيع أن أرى كيف أن رؤيةَ إم فاجنر تُوضِّح أيَّ شيء فيما يتعلَّق بالكيفية والعلة، اللتَين تؤديان إلى أن تصبح الأشكال المنعزلة لفترة طويلة مُعدلةً بقدرٍ طفيف على الدوام تقريبًا، بل إن الحالات العديدة التي طرحها لا تُضيف إلى فهْمي الذي اكتسبته من قبلُ أيَّ شيء جديد. لا أعرف ما إذا كنت ستهتم بسماعِ رأيي الإضافي في هذه النقطة المعنية؛ لأنني، كما قلتُ من قبل، لم أعُدْ أهتم كثيرًا بمثل هذه المسائل في السنوات الأخيرة، معتقدًا أنه من الحكمة، الآن في ظل تقدُّمي في السن، أن أعمل على مواضيعَ أسهل.

مع أصدق تحياتي وبالغ إخلاصي
سي داروين

آمُل أن تُلقي ضوءًا على هذه النقاط، وأثق في أنك ستفعل ذلك.

ملحوظة: سأُضيف تعليقًا آخرَ أتذكَّر أنه خطر ببالي عند قراءتي الأولى لِمَا كتبه إم فاجنر. عند أول مرة يصل فيها أحدُ الأنواع إلى جزيرة صغيرة، من المرجَّح أن يزداد عددُه بسرعة، وما لم يتغيَّر كل أفراد هذه النوع فورًا (وهذا مستبعَد للغاية)، فلا بد أن تتزاوج الذُّرِّية التي تُعدَّل ببطء، إلى حدٍّ ما، بعضها مع بعض، ومع آبائها غير المُعدَّلين، وأي ذرِّية لم تُعدَّل بعد. حينئذٍ ستكون الحالة شبيهةً بحالة الحيوانات الداجنة التي عُدِّلت ببطء، إمَّا بتأثير الظروف الخارجية، أو العملية التي أسميتُها «الانتقاء غير المقصود» بفعلِ الإنسان، وهو عكس الانتقاء المنهجي.

[تستأنف الخطابات التالية تاريخ عام ١٨٧٢، الذي قوطِع بسبب الاستطراد عن موضوع الانعزال.]

من تشارلز داروين إلى الماركيز دو سابورتا
داون، ٨ أبريل ١٨٧٢
سيدي العزيز

أشكرك بكل صدق وقد تشرَّفتُ جدًّا لِمَا بذلته من جهدٍ في سبيل إعطائي أفكارك عن أصل الإنسان. يُسعدني بشدة أن بعض أجزاء عملي قد أثارت اهتمامك، وأننا نتفق في الاستنتاج الرئيسي المتمثِّل في أن الإنسان اشتُقَّ من شكلٍ أدنى رتبة.

سوف أُفكِّر فيما قلتَه، لكني لا أستطيع حاليًّا التخلي عن إيماني بالعلاقة الوثيقة بين الإنسان والقرود الأعلى رتبة. فأنا لا أُعوِّل كثيرًا على أيِّ سمة واحدة، حتى تلك المتمثِّلة في طابع الأسنان، لكني أضع اعتمادي الأكبر على تشابهاتٍ في أجزاء كثيرة من التكوين العضوي كله؛ لأنني لا أستطيع أن أُصدِّق أن مثل هذه التشابهات يُمكن أن تنتج من أيِّ سبب آخرَ غير قَرابة دم وثيقة. ويُوضِّح تصنيف لينيوس، الذي كان خبيرًا بارعًا جدًّا في صلات القرابة، أن الإنسان قريبُ الصلة بالقردة العليا. ثم إن أعلم رجال إنجلترا ببنية القرود؛ أعني السيد ميفارت، الذي يعارض نظرياتي عن اشتقاق القوى الفكرية معارضةً حادة، اعترف علنًا رغم ذلك بأنني لم أُبالغ في درجة التشابه التي أُؤكِّد وجودها بين الإنسان والقرود العليا، من ناحية البنية الجسدية. لا أظن أن مسألة عدم وجود ارتدادات في البنية لدى الإنسان تحمل أهميةً كبيرة، بل إن سي فوجت يُؤكِّد أن [وجود] البلهاء ذوي الرأس الصغير يُعد حالةً من حالات الارتداد. لا أحدَ ممَّن يؤمنون بالتطوُّر سيشك في أن حيوان الفوكا منحدرٌ من أحد الحيوانات الأرضية الآكلة للحوم. بالرغم من ذلك، فلا أحد سيتوقَّع أن يصادف مثل هذا الارتداد كهذا. ربما تُعزى قلةُ تشعُّب الطابع في أعراق الإنسان مقارنةً بأنواع القردة إلى أن الإنسانَ انتشر في أنحاء العالم بعد القردة بفترة طويلة. إنني على أتمِّ استعداد للاعتراف بالقِدَم الهائل للإنسان، ولكن يوجد لدينا دليل، في جنس قرود Dryopithecus، على القِدَم الهائل للقرود الشبيهة بالإنسان.

يُسعدني سماعُ أنك تعمل على نباتاتك المتحجِّرة، التي اتضح في السنوات الأخيرة أنها مجالٌ غني جدًّا جدير بالاكتشاف. مع جزيل الشكر على لطفك الشديد.

وببالغ الاحترام، سأظل يا سيدي العزيز المخلص لك دائمًا
تشارلز داروين

[في أبريل ١٨٧٢، انتُخِب عضوًا في الجمعية الملكية الهولندية، وأرسل خطابًا إلى البروفيسور دوندرس، قائلًا:

«شكرًا جزيلًا على خطابك. لقد سُررتُ جدًّا بنيل شرف انتخابي عضوًا أجنبيًّا في جمعيتكم الملكية. فدائمًا ما كنت أرى أن نيل المرء لتعاطف زملائه من العلماء هو أسمى مكافأة على الإطلاق يُمكن أن يتطلَّع إليها أيُّ عالِم. وقد زادت سعادتي كثيرًا لأنك أول مَن أخبرتني بنيل هذا الشرف.»]

من تشارلز داروين إلى تشونسي رايت
داون، ٣ يونيو ١٨٧٢
سيدي العزيز

شكرًا جزيلًا على مقالك٣٢ المنشورِ في دورية «نورث أميريكان ريفيو»، الذي قرأتُه ببالغ الاهتمام. لا يمكن أن يوجد ما هو أوضح من الطريقة التي تُناقش بها مسألة ثبات الأنواع أو بقائها على حالها. لم يخطر ببالي قط أن أفترض أن أيَّ شخص قد نظر إلى المسألة كيفما يبدو أن السيد ميفارت ينظر إليها. لو كنتُ قرأت ردَّه عليك، لربما أدركتُ ذلك، لكني عقدت العزم على ألَّا أُهدر مزيدًا من الوقت في قراءة المقالات النقدية لأعمالي أو المتعلِّقة بنظرية التطوُّر، إلا عندما أسمع أنها جيدة وتتضمَّن محتوًى جديدًا … من الواضح جدًّا أن صبْر السيد ميفارت قد نفد ولم يعُد قادرًا على التحمُّل فيما يتعلَّق بهذا الموضوع.

نظرًا إلى أن ذهنك صافٍ جدًّا، وأنك تُفكِّر بإمعانٍ شديد في معنى الكلمات، أتمنَّى أن تتحيَّن أيَّ فرصة عابرة لتتأمَّل ما هي المواضع الصحيحة التي يُمكن أن يُقال فيها إن شيئًا ما قد تأثَّر بإرادة الإنسان. ما دفعني إلى هذه الرغبةِ هو قراءة مقال «ضد» شلايخر بقلم أستاذك ويتني. فهو يُحاجج بأنه لَمَّا كانت كل خطوة من خطوات التغيير في اللغة تُتخذ بإرادة الإنسان، فإن اللغة كلها تتغيَّر بهذه الطريقة، لكني لا أعتقد أن هذا صحيح؛ فما للإنسان نيةٌ لتغيير اللغة أو رغبة في ذلك. إنها حالةٌ مشابِهة لِمَا أسميته «الانتقاء غير المقصود»، الذي يعتمد على أن الرجال يتعمَّدون الحفاظَ على أفضل الأفراد، ونتيجةً لذلك يُغيِّرون السلالة كلها دون قصد.

مع بالغ إخلاصي يا سيدي العزيز
تشارلز داروين
[بعد ذلك بفترة ليست طويلةً (في سبتمبر)، جاء السيد تشونسي رايت في زيارة إلى داون، وقد تحدَّث عنها في خطاب٣٣ إلى الآنسة إس سيجويك (التي صارت الآن السيدة ويليام داروين): «إن كنتِ تستطيعين أن تتخيَّليني وأنا مُتحمِّس، حماسةً تامَّة مطلقًا، دون أي «اعتراض» أو انتقاد، فلتتخيَّلي محادثاتي مع السيد داروين مساء أمس وصباح اليوم … لم أشعر في حياتي من قبلُ بهذه الإثارةِ البالغة، ولم يحدث من قبلُ أني نِمت مثل هذه الساعات القليلة تحت سقف البيت المضياف … محال أن أتمكَّن من أن أصف في خطابٍ هذه المحادثات التي كانت تدور بيننا قبل العشاء وأثناءه وبعده، وأثناء الفَطور، وعند الوداع قبل الرحيل، لكني لا أُحب أن أكون أنانيًّا و«أدلي بشهادتي» كالمتعصِّبين الدينيين الآخرين دون أي إثبات أو إشارة إلى تجرِبة مماثلة.»]

من تشارلز داروين إلى هربرت سبنسر
باسِت، ساوثهامبتون، ١٠ يونيو [١٨٧٢]
عزيزي سبنسر

يُمكنني القول إنكَ ستظنني رجلًا أحمقَ، لكني لا أستطيع مقاومةَ الرغبة في التعبير عن إعجابي اللامتناهي بمقالك٣٤ الذي تردُّ فيه على السيد مارتينو. إنه رائع حقًّا، وليس مقالك الثاني المتعلِّق بعلم الاجتماع بأقلَّ منه روعةً (وإن كنتُ لم أكمله بعد)، لم أومن قَط بأن الرجال العظماء لهم تأثير سائد على تقدُّم العالم، لكني لو سُئلتُ عن سبب عدم تصديقي ذلك، لتحيَّرت بشدة في سبيل إعطاء إجابة وجيهة. يجب على كل إنسان لديه عينان يرى بهما وأذنان يسمع بهما (وليس هؤلاء بالكثيرين مع الأسف) أن ينحني على ركبتَيه أمامك، وأنا عن نفسي أفعل ذلك.
مع أصدق تحياتي وبالغ إخلاصي
سي داروين

من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، ١٢ يوليو [١٨٧٢]
عزيزي هوكر

يجب أن أُعبِّر عن سعادتي بالطريقةِ التي تناولَت بها الصحفُ قضيتك. لقد رأيتُ صُحُف «ذا تايمز»، و«ديلي نيوز»، و«بول مول جازيت»، وسمعتُ أن صحفًا أخرى تناولت القضية.

عادت المذكِّرة بنفعٍ كبير من هذا الجانب، مهما تكن النتيجة في إجراءات حكومتنا السيئة. بروحي أن هذا يكفي ليجعل المرءَ مناصرًا قديمًا مخلصًا لحزب المحافظين …

إذا أرسلت ردًّا على هذا الخطاب، فسأشعر بالندم على أنني نفَّست عن مشاعري بإرساله إليك.

مع خالص مودتي
سي داروين

[كانت المذكِّرة المشارُ إليها هنا موجَّهةً إلى السيد جلادستون، وكانت تحمل توقيعاتِ عدد من الرجال البارزين، منهم السير تشارلز لايل، والسيد بينثام، والسيد هكسلي، والسير جيمس باجيت. وهي تعرض سردًا كاملًا للمعاملة التعسُّفية الجائرة التي كان السير جيه دي هوكر يلقاها من رئيسه الحكومي، المفوَّض الأول للأشغال. نُشرت الوثيقة كاملةً في دورية «نيتشر» (١١ يوليو ١٨٧٢)، وهي جديرة جدًّا بالدراسة باعتبارها مثالًا للمعاملة التي يُمكن أن يلقاها العِلم من البيروقراطية. وكما تذكُر دورية «نيتشر»، فهي ورقة من المؤكَّد أن رجالَ العلم في كل أنحاء العالم يقرءونها بأشدِّ سخطٍ في نفوسهم، وأن كل الرجال الإنجليز يقرءونها بمنتهى الخزي. ويختتم الموقِّعون على المذكِّرة توقيعَهم بالاحتجاج على العواقبِ المتوقَّعة لاضطهاد السير جوزيف هوكر؛ أي استقالته، وخسارة «رجل مُبجَّل لنزاهته، ومحبوب للُطفه وحنان قلبه، وقضى في الخدمة العامة حياةً لا تشوبها أيُّ شائبة؛ فهي ناصعة تمامًا.»

من حسن الحظ أن هذه المصيبةَ قد مُنِعَت، ولم يَعُد السير جوزيف يتعرَّض لمزيد من المضايقة.]

من تشارلز داروين إلى إيه آر والاس
داون، ٣ أغسطس [١٨٧٢]
عزيزي والاس

أكره الجدل، وربما يكون السببُ الأساسي في ذلك أنني لا أُجيده، لكن نظرًا إلى أن الدكتور بري يتهمك٣٥ بأنك «ارتكبت أخطاءً فادحة»، ارتأيتُ أنني مُلزَم بإرسال الخطاب المرفَق إلى دورية «نيتشر»،٣٦ هذا إن كنتَ ترغب في ذلك أصلًا. فلترسل به إلى الدورية من فضلك إن كنت ترغب في هذا. وإن كنت لا ترغب في ذلك «إطلاقًا»، فأنا أُفضِّل عدمَ نشْره، وأرجوك أن تُمزِّقه في هذه الحالة. وأرجو منك أن تفعل الشيء نفسه إذا كنت تنوي أن تردَّ على الدكتور بري بنفسك؛ لأنك ستفعل ذلك أفضل منِّي بكثير. وأرجو أيضًا أن تُمزِّقه إذا لم يعجبك.
مع بالغ إخلاصي يا عزيزي والاس
سي داروين

من تشارلز داروين إلى إيه آر والاس
داون، ٢٨ أغسطس ١٨٧٢
عزيزي والاس

انتهيت أخيرًا من المهمة الشاقة المتمثِّلة في قراءة كتاب الدكتور باستيان،٣٧ وقد أثار بالغَ اهتمامي. كنت ترغب في معرفة انطباعي، لكنه لا يستحق أن أُرسله.

يبدو لي رجلًا بارعًا للغاية، كما ارتأيتُ بالفعل عندما قرأت مقالته الأولى. فحُجته العامة التي يُؤيِّد بها النشوءَ التلقائي قويةٌ على نحوٍ رائع، وإن كنت لا أستحسن القليلَ من حُججه. والنتيجة هي أن ادعاءاته حيَّرتني وأذهلتني، لكني لست مقتنعًا بصحَّتها، وإن كنت أرى، في العموم، أن فرضية النشوء التلقائي صحيحةٌ على الأرجح. وأحدُ أسباب عدم اقتناعي هو الطابع الاستنباطي الذي يكسو جزءًا كبيرًا من استدلاله، ولا أعرف، لكني لا أقتنع بالاستنباط أبدًا، حتى في حالة كتابات إتش سبنسر. لو كان ترتيبُ محتوى كتاب الدكتور باستيان معكوسًا، وكان قد بدأ بالحالات المتنوِّعة للنشوء الحيوي المتغاير، ثم انتقل إلى المواد العضوية، ثم إلى المحاليل الملحية، وبعدها طَرَح حُججه العامة، لكان أكثر إقناعًا لي، على ما أعتقد. بالرغم من ذلك، أظن أن الصعوبة الرئيسية التي أُواجهها هي أن تأثير المعتقدات القديمة قد ترسَّخ في ذهني. يجب أن يتوفَّر لي مزيدٌ من الأدلة على أن الجراثيم، أو أدقَّ أجزاء الأشكال دائمًا ما تُقتَل بتعرُّضها لدرجة حرارة مقدارها ٢١٢ درجة فهرنهايت. ربما سيكون تكرار ادعاءات الدكتور باستيان [بأقلام] رجال آخرين، ممَّن أحترم حُكمهم وممَّن عملوا فترةً طويلة على دراسة الكائنات الحية الأدنى رتبة، كافيًا لإقناعي. ها هو ذا اعترافٌ جيد بالضَّعف الفكري، لكن المعتقد إطار فكري يتعذر تفسيره!

وبخصوص أن الدوارات Rotifers وبطيئات المشية Tardigrades تتولَّد تلقائيًّا، فلا يستطيع عقلي أن يستوعب مثل هذه الادعاءات، سواء أكانت صحيحةً أم خاطئة، مثلما أن معدتي لا تستطيع أن تهضم كتلةً من الرصاص. دائمًا ما يُشبِّه الدكتور باستيان عمليةَ النشوء التلقائي، وكذلك النمو، بالتبلور، لكن هذا الرأي يعني أن الدوارات أو بطيئات المشية تتكيَّف مع ظروفِ حياتها المتواضعة بمصادفةٍ سعيدة، وهذا ما لا أستطيع تصديقه … لا بد أنه عَمِل بموادَّ مليئةٍ جدًّا بالشوائب في بعض الحالات؛ لأن كائناتٍ حيةً عديدة قد ظهرت في محلول ملحي لا يحتوي على ذرة نيتروجين واحدة.

أختلف تمامًا مع الدكتور باستيان في نقاطٍ عديدة وَرَدت في فصوله الأخيرة. ولذا أرى بوضوح أن تكرار وجود أشكال عامة في الطبقات الأقدم يشير إلى أن الأشكال الأحدث تشعَّبت من أصلٍ مشترك. بالرغم من كلِّ تعليقاته الساخرة، لم أستسلم بعدُ ولم أتخلَّ عن موقفي بخصوصِ فرضية «شمولية التكوين». أودُّ أن أعيش إلى أن أرى ثبوت صحة فرضية «النشوء التلقائي»؛ لأنها ستكون اكتشافًا ذا أهمية فائقة، أو أعيش إلى أن أشهد دحضها إذا كانت خاطئة، ومن ثمَّ أرى طريقةً أخرى لتفسير الحقائق، لكني لن أعيش إلى أن أرى كل هذا. لو ثبتت صحةُ فرضية الدكتور باستيان على الإطلاق، فسيكون قد أسهَم إسهامًا بارزًا في المجال. ما أعظمَ السرعة التي يتقدَّم بها العلم؛ إنها تكفي لتهوِّن علينا الأخطاء العديدة التي ارتكبناها، وتعوِّضنا عن جهودنا التي تتوارى وتُنسى في خِضم الحقائق الجديدة والآراء الجديدة التي تظهر يوميًّا.

هذه كل الأشياء التي وددتُ قولها عن كتاب الدكتور باستيان، وبالتأكيد لم تكن على قدرٍ كبير من الأهمية كي أذكرها …

من تشارلز داروين إلى إيه دي كوندول
داون، ١١ ديسمبر ١٨٧٢
سيدي العزيز

بدأتُ قراءة كتابك الجديد٣٨ في وقتٍ أبكرَ ممَّا كنت أنوي قراءته فيه، وحالما بدأت، لم أستطِع التوقُّف، والآن يجب أن تدعني أشكرك على السعادة البالغة جدًّا التي منحني إياها. فنادرًا ما قرأت من قبلُ ما هو أكثرُ أصالةً وإبداعًا من تناولك للأسباب المواتية لنمو الأفراد وتطوُّرهم إلى علماء. كان العمل كله جديدًا تمامًا عليَّ، وشائقًا للغاية. عندما بدأتُ قراءة مقالتك، كنت أخشى أن تهاجم مبدأ الوراثة فيما يتعلَّق بالقدرات العقلية، لكني سرعان ما وجدتُ نفسي راضيًا باتباعك وتقبُّل القيود التي تطرحها. أثار الجزء الثاني من عملك اهتمامًا خاصًّا لدَي، لكنه لم يكن جديدًا بالنسبة إليَّ بقدرِ ما كان يحويه الجزءُ الأول من جِدة. إنك تُشرِّفني جدًّا في العديد من الأجزاء، وكل هذا التشريف أكثرُ ممَّا أستحق. ولأن المؤلِّفين عادةً ما يرغبون في معرفةِ أيِّ النقاط كانت أكثرَ إثارةً لاهتمام مختلِف القراء، فسأذكر أن أكثرَ النقاط إثارةً لاهتمامي في مقالاتك الأقصر كانت تلك المتعلِّقة بالانتشار المستقبلي للغات، وتلك المتعلِّقة بالتحصين، وكذلك المتعلِّقة بالإحصاءات وحرية الإرادة بالتأكيد. إن الفكرةَ القائلة بأن القابلية الشديدة لأمراضٍ مُعيَّنة تجعل التأسُّل الرجعي مرجحًا جدَّا، جديدةٌ عليَّ تمامًا. تقترحُ في الصفحة ٣٢٢ أنه ينبغي فصلُ أحد صغار طائر السنونو، ثم إطلاق سراحه من أجل اختبار قوة الغريزة، لكن الطبيعة تُجري هذه التجرِبة سنويًّا؛ إذ إن كبارَ طيور الوقواق في إنجلترا تُهاجر قبل صغارها المولودة في العام نفسه، بفترة تبلغ بضعة أسابيع. بالمناسبة، ها أنا ذا قد استخدمتُ للتو كلمة «الطبيعة» المحظورة، التي أكاد أكون قد قرَّرت، بعد قراءة مقالتك، ألَّا أستخدمها مُجدَّدًا أبدًا. لا أعترض إلا على عددٍ قليل للغاية من التعليقات الواردة في كتابك، لكنك عندما تؤيد آسا جراي في ادعائها أن الغرائز كلها عاداتٌ فطرية، يجب أن أحتج.

وأخيرًا، هلَّا تسمح لي بأن أسألك سؤالًا: هل لاحظت بنفسك، أو لاحَظ شخصٌ ما يُمكن الوثوق به تمامًا، أن الفراشات الموجودة على جبال الألب مُروَّضةٌ بدرجةٍ أكبرَ من تلك الموجودة على السهول المنخفضة؟ هل تنتمي إلى النوع نفسه؟ وهل لوحِظَت هذه الحقيقةُ لدى أكثر من نوع واحد؟ وهل هي أصناف زاهية الألوان؟ إنني مُتلهِّف جدًّا لمعرفة السبب الذي يجعلها تحط على الأجزاء الزاهية الألوان من فساتين السيدات، لا سيما أنني أكَّدتُ أكثرَ من مرة أن الفراشات تُحب الألوان الزاهية، كألوان أوراق نبات بنت القنصل في الهند مثلًا.

اسمح لي مرةً أخرى بأن أشكرك على إرسالِ كتابك إليَّ، وعلى السعادة الهائلة الاستثنائية التي انتابتني وأنا أقرؤه.

مع وافر الاحترام، سأظل يا سيدي العزيز أكِنُّ لك بالغ الإخلاص
تشارلز داروين

[أُتمَّ التنقيحُ الأخير لكتاب «التعبير عن العواطف» في ٢٢ أغسطس ١٨٧٢، وقد كَتَب عن ذلك في دفترِ مُذكِّراته: «استغرق مني نحو ١٢ شهرًا.» وكالعادة لم يكن يعتقد أن الكتابَ من الممكن أن يكون ناجحًا في العموم. تُعطي الفقرةُ التالية المقتطفة من خطابٍ إلى هيكل انطباعًا بأن تأليفَ هذا الكتاب قد أصابه بإجهادٍ شديد بعض الشيء:

«فرغت من تأليف كتابي الصغير، «التعبير عن العواطف»، وعندما يُنشَر في نوفمبر، سأُرسل إليك نسخةً بالطبع، في حالِ إن كنت تودُّ قراءته للتسلية. استأنفتُ كتابًا قديمًا مُتعلِّقًا بعلم النبات، وربما لن أُحاول مُجدَّدًا أبدًا أن أُناقش آراءً نظرية.

فأنا أكبَر في السن وأزدادُ وَهنًا، ولا أحدَ يستطيع أن يعرف متى ستبدأ قواه الفكرية تنهار. أتمنَّى لك طول العمر والسعادة من أجلك، ومن أجل العلم.»

نُشِر الكتاب في الخريف. كانت الطبعة مُكوَّنةً من ٧٠٠٠ نسخة، بِيع منها ٥٢٦٧ نسخةً في فعاليةِ طرحِ الكتاب للبيع التي أقامها السيد موراي في نوفمبر. ثم طُبِعَ ٢٠٠٠ نسخة في نهاية العام، وقد تبيَّن أن ذلك من سوء الحظ؛ لأن تلك النسخ لم تُبَع بسرعة كبيرة بعد ذلك؛ ولذا تُرِكَت مجموعةٌ هائلة من ملاحظاتٍ جمعها المؤلِّف دون أن تُستخدَم قَط لإصدار طبعة ثانية في حياته.

من بين المقالات النقدية التي كُتِبَت عن كتاب «التعبير عن العواطف»، ربما يُمكن ذكرُ المقالَتين القصيرَتين المُعارِضَتين اللتين وردتا في دورية «ذا أثنيام»، بتاريخ ٩ نوفمبر ١٨٧٢، وصحيفة «ذا تايمز» بتاريخ ١٣ ديسمبر ١٨٧٢. وقد نُشِرت مقالةٌ نقدية جيدة بقلم السيد والاس في دورية «ذا كورترلي جورنال أوف ساينس» في يناير ١٨٧٣. وفيها يقول السيد والاس، وهو محقٌّ في ذلك، إن الكتاب يعرض بعضَ «خصائص عقل المؤلِّف بدرجةٍ بارزة»؛ ألَا وهي «الشوق النهم لاكتشاف أسباب الظواهر المتباينة المعقَّدة التي تتسم بها الكائنات الحية.» ويُضيف أنه يبدو في حالة المؤلِّف أن «ما يتسم به الأطفال من فضول لا يهدأ لمعرفة «سبب» كل شيء و«عِلَّته» و«كيفيته»» «لم يضعف أبدًا.»

فيما وصف كاتبٌ آخر، في إحدى المقالات النقدية اللاهوتية، الكتاب بأنه «الأقوى تأثيرًا والأخبث ضررًا» بين أعمال المؤلِّف كلها.

وقدَّم البروفيسور ألكسندر بين نقدًا للكتاب قد ورد في حاشيةٍ مضافة إلى كتابه «الحواس والفِكر»؛ ويشير الخطاب التالي إلى هذه المقالة:]

من تشارلز داروين إلى ألكسندر بين
داون، ٩ أكتوبر ١٨٧٣
سيدي العزيز

إنني في غاية الامتنان لك لأنك أرسلت إليَّ مقالتك. انتقاداتُك كلها مكتوبة بروحٍ مُنصفة تمامًا، ولا يُمكن بالطبع لأي شخص يعرفك أو يعرف أعمالك أن يتوقَّع منك أيَّ شيء آخر غير ذلك. إن ما تقولُه عن غموضِ ما أسميتُه التأثير المباشر للجهاز العصبي منصفٌ تمامًا. شعرت بأنه كذلك آنذاك، بل ازداد شعوري بذلك مُؤخَّرًا. أعترف بأني لم أستطِع قَط أن أفهم مبدأ العَفْوية الذي طرحتَه، وكذلك بعض نقاطك الأخرى، فهمًا تامًّا؛ لكي أُطبِّقها على حالات خاصة. ولكن لأننا ننظر إلى كل شيء من منظورَين مختلفَين، فمن المستبعد أن نتفق بدرجة كبيرة.

فرحتُ جدًّا بما تقوله عن تعبير البكاء وعن التورد خجلًا. هل قرأتَ مقالةً نقدية في عدد حديث من دورية «ذي إدنبرة»؟ لقد كان مفعمًا بازدراءٍ رائع تجاهي وتجاه آخرين كثيرين.

أحتفظُ بذكرى سارة جدًّا عن إقامتنا معًا في ذاك المكان المُبهِج، مور بارك.

مع شكري المتجدِّد، سأبقى يا سيدي العزيز
مخلصًا لك على الدوام
سي داروين

من تشارلز داروين إلى السيدة هاليبرتون٣٩
داون، ١ نوفمبر [١٨٧٢]
سيدتي العزيزة هاليبرتون

يُمكنني القول إنك ستُفاجئين بتلقي خطابٍ منِّي. غايتي من إرسال خطاب الآن هي أن أقول إنني نشرتُ للتو كتابًا بعنوان «التعبير عن العواطف لدى الإنسان والحيوان»، وخَطَر ببالي أنكِ ربما تريدين قراءةَ بعض الأجزاء منه، ولا أظن إطلاقًا أن هذا كان سينطبق على أيٍّ من الكتب التي نشرتها سلفًا. لذا أرسل كتابي الحالي ضِمن هذه الدُّفعة البريدية. وبالرغم من أنني لم أتواصل معكِ أو مع أفراد أسرتك الآخرين منذ فترةٍ طويلة جدًّا؛ فما من ذكريات تراود عقلي بتلك الوتيرة والوضوح الشديد الذي تخطر به على عقلي ذكريات الأيام الخوالي السعيدة التي قضيتها في وودهاوس. أرغب جدًّا في أن أسمع ولو القليل من الأخبار عنك وعن أفراد أسرتك الآخرين، إذا كنتِ مستعدةً لتكبُّد عناء إرسال خطاب إليَّ. فقد كنتُ أعرف قبل ذلك بعض أخبارك من أخواتي.

صحتي سيئة منذ سنوات عديدة، ولا أستطيع زيارةَ أي مكان منذ فترة، وأشعر الآن بأنني طاعن جدًّا في السن. ما دام نمطُ حياتي ثابتًا تمامًا، أستطيع إنجازَ بعض العمل اليومي في التاريخ الطبيعي، الذي لا يزال شغفي، كما كان في الأيام الخوالي، عندما كنتِ معتادةً أن تضحكي عليَّ لأنني كنت أجمع الخنافس بحماسة شديدة في وودهاوس. باستثناء مرضي المستمر، الذي عزلني عن المجتمع، فحياتي سعيدة جدًّا، لكنَّ أكبرَ عيب يشوبها هو أن العديد من أطفالي قد ورث مني الصحة الواهنة. أرجو من كل قلبي أن تكوني محتفظة، ولو إلى حدٍّ كبير على الأقل، ﺑ «صحة آل أوين» الشهيرة. بخالص مشاعر الامتنان والمودَّة لكلِّ مَن يحمل اسم أوين، أجرؤ على التوقيع على هذا الخطاب.

صديقك المُحِب
تشارلز داروين

من تشارلز داروين إلى السيدة هاليبرتون
داون، ٦ نوفمبر [١٨٧٢]
عزيزتي سارة

سُررت جدًّا بخطابك، الذي يجب أن أصفه بأنه فاتن. لم أجرؤ إطلاقًا على تخيُّل أنكِ ستحتفظين بذكرى طيبة عنِّي طوال هذه السنوات العديدة. لكني مع ذلك كنت متيقنًا بكل تأكيد من أنك ستظلين طيبةَ القلب ومخلصةً كما كنتِ دائمًا منذ أقدم ذكرياتي عنك. أعرف جيدًا كمَّ الأحزان المؤلمة التي مررتِ بها، لكني حزنت بشدةٍ عند سماع أن صحتك ليست على ما يرام. إذا استطعتِ استجماعَ بعض القوة لتزورينا هنا في الربيع أو الصيف، عندما يتحسَّن الطقس، فنسعد حقًّا أنا وزوجتي، كما تريدني أن أقول، برؤيتك، وأعرف أنك لن تبالي بأن تشعري ببعض الملل هنا. سوف أبتهج حقًّا برؤيتك. شكرًا جزيلًا على إخباري بأحوال أسرتك، وقد كان الكثير ممَّا ذكرتِه عنهم جديدًا عليَّ. كم كنتم كلكم لطفاء معي في صباي، وأنتِ بالأخص، وما أكثرَ السعادة التي أَدين لكم بها! مع أصدق التحيات من صديقك المُحِب والممتن

تشارلز داروين
ملحوظة: لعلكِ تودين أن ترَي صورةً فوتوغرافية لي الآن وأنا عجوز.

١٨٧٣

[كان العمل الوحيد في هذا العام (بخلاف العمل المتعلِّق بعلم النبات) هو إعدادَ طبعة ثانية من كتاب «نشأة الإنسان»، الذي يُشار إلى عملية نشره في الفصل التالي. كان أداء هذا العمل ثقيلًا جدًّا على نفسه؛ لأنه كان منهمكًا حينها بعمقٍ في مخطوطة كتاب «النباتات الآكلة للحشرات». ولذا قال في خطابٍ إلى السيد والاس (بتاريخ ١٩ نوفمبر): «لم أندم في حياتي كلِّها على أي شيء قاطَعَني بقدرِ ما أندم على هذه الطبعة الجديدة من «نشأة الإنسان». وفي وقتٍ لاحق (في ديسمبر)، قال في خطاب إلى السيد هكسلي: «لقد اتضح أن الطبعة الجديدة من «نشأة الإنسان» مهمةٌ بشعة. لقد استغرق الأمر منِّي ١٠ أيام بأكملها لإلقاء نظرةٍ سريعة فحسب على الخطابات والمقالات النقدية التي تتضمَّن انتقاداتٍ وحقائقَ جديدة. إنها مهمة صعبة للغاية.»

استمرَّ العمل حتى ١ أبريل ١٨٧٤، عندما استطاع العودة إلى نباتات جنس الندية المفضلة بشدة لديه. قال في خطاب إلى السيد موراي:

«انتهيتُ أخيرًا، بعد أكثرَ من ثلاثة أشهر من أصعب عمل أدَّيته في حياتي، وهو إتمام إصدارٍ مُنقَّح من كتاب «نشأة الإنسان»، وأودُّ بشدة أن يُطبَع في أقربِ وقت ممكن. ونظرًا إلى أنه سيُطبع باستخدام القوالب، فلن ألمسه مُجدَّدًا أبدًا.»

يشير أول خطابات عام ١٨٧٣ المتنوِّعة إلى زيارةٍ لطيفة تلقَّاها من الكولونيل هيجينسون من مدينة نيوبورت الأمريكية.]

من تشارلز داروين إلى توماس وينتوورث هيجينسون
داون، ٢٧ فبراير [١٨٧٣]
سيدي العزيز

فرغت زوجتي للتو من تلاوةِ كتاب «الحياة مع فوجٍ أسوَد» عليَّ، ائذن لي بأن أشكرك من صميم قلبي على السعادة البالغة التي منحنا إياها من نواحٍ كثيرة. دائمًا ما كنتُ أستحسن الزنوج، بِناءً على اللقاءات القليلة التي جمعتني ببعضهم، وسُررتُ بأن انطباعاتي غيرَ المؤكَّدة قد تأكَّدت، وأن شخصيتهم وقدراتهم العقلية قد نوقشت ببراعة شديدة. عندما كنتَ هنا، لم أكن أعرف بالمنصب النبيل الذي قد شغلتَه. كنتُ قد قرأت من قبلُ عن الأفواج السوداء، لكني عجزتُ عن ربط اسمِك بمهمتك الباهرة. صحيح أننا استمتعنا جدًّا بزيارتك إلى داون، لكننا، أنا وزوجتي، ندِمنا مرارًا وتكرارًا على أننا لم نكن نعرف بأمرِ الفوج الأسود؛ لأننا كُنَّا سنرغب بشدة في أن نسمع شيئًا عن الجنوب من شفتَيك شخصيًّا.

لقد أثارت أوصافك في عقلي ذكرياتٍ واضحةً جدًّا عن الجولات التي كنت أخوضها سيرًا على الأقدام قبل ٤٠ عامًا في البرازيل. لدينا مقالاتك المُجمَّعة، التي تفضَّل السيد [مونكيور] كونواي بإرسالها إلينا، ولكن لم يسنح لنا وقتٌ حتى الآن لقراءتها. أعرف بعضَ أخبارك في بعض الأحيان من صحيفة «ذي إندكس»، وقرأت في الساعة الماضية مقالةً شائقة من كتابتك عن تقدُّم الفِكر الحر.

مع أصدق تحياتي يا سيدي العزيز وخالص إعجابي
تفضَّل بقَبول بالغ إخلاصي
سي داروين

[في ٢٨ مايو، أرسل الإجابات التالية ردًّا على الأسئلة التي كان السيد جالتون يُوجِّهها آنذاك إلى عدةِ علماء، في سياق الاستقصاء الذي طُرِح في كتابه «رجال العلم الإنجليز: طبيعتهم وتنشئتهم» ١٨٧٤. وبخصوص الأسئلة، كتب والدي: «ملأتُ الإجابات قدرَ ما استطعت، ولكن من المستحيل تمامًا عليَّ أن أُحدِّد الدرجات.» ومن أجل التسهيل، وُضِعت الأسئلة والإجابات المتعلِّقة ﺑ «التنشئة» قبل تلك المتعلِّقة ﺑ «الطبيعة»:

التعليم   كيف تعلَّمت؟ أعتبرُ أن أي شيء ذي قيمة قد تعلَّمته ذاتيًّا.
هل أسهم في تحسين عادات الملاحظة أم حجَّمها؟ حجَّمها؛ لأنه كان تعليمًا تقليديًّا تمامًا في الجزء الأكبر منه.
هل أسهم في تحسين الحالة الصحية أم لا؟ نعم.
هل توجد له مزايا خاصة؟ لا، إطلاقًا.
ما أبرز الأشياء التي لم يشملها؟ لا رياضيات، ولا لغات عصرية، ولا أي من عادات الملاحظة أو الاستدلال.
هل كان للعقيدة الدينية التي دُرِّستَ إياها في شبابك أيُّ تأثير رادع في حرية أبحاثك؟ لا.
هل تبدو تفضيلاتك العلمية فطرية؟ فطرية بالتأكيد.
هل حدَّدتها أي أحداث معيَّنة، وما هي تلك الأحداث؟ نزعتي الفطرية للتاريخ الطبيعي قد أكَّدتها ووجَّهتها رحلة «البيجل».
السؤال أنت والدك
اذكر أي اهتمامات كانت تُمارَس بانتظام شديد. العلوم وبعض الرياضات الميدانية بشغف في أيام الشباب.   
الدِّين؟ تابعٌ لكنيسة إنجلترا اسميًّا. تابع لكنيسة إنجلترا اسميًّا.
السياسة؟ ليبرالي أو جذري. ليبرالي.
الصحة؟ جيدة في أيام الشباب، سيئة في الأعوام الثلاثة والثلاثين الأخيرة. جيدة طوال حياته باستثناء النِّقرِس.
القامة وما إلى ذلك؟ الطول؟ الهيئة الجسدية، وما إلى ذلك؟ محيط الرأس. الطول؟ الهيئة الجسدية، وما إلى ذلك؟
٦ أقدام. نحيلة وإن كانت سمينةً بعض الشيء في الشباب. ٢٢ بوصة ورُبع. ٦ أقدام وبوصتان. عريضة وبدينة جدًّا.
لون الشعر؟ لون البشرة؟ لون الشعر؟ لون البشرة؟
بُني. شاحبة بعض الشيء. بُني متورِّدة.
الطبع المزاجي؟ عصبي بعض الشيء. متفائل مَرِح.
الطاقة الجسدية وما إلى ذلك؟ تتجلَّى الطاقة في النشاط الكثير، وفي القدرة على مقاومة التعب وقتما كانت صحتي بخير. كنا نستطيع أنا ورجل آخر وحدنا إحضار الماء إلى مجموعة كبيرة من الضباط والبحَّارة المنهكين تمامًا. كانت بعض رحلاتي الاستكشافية في أمريكا الجنوبية ذات طابع مُغامِر. أنهض في الصباح الباكر. قدرة هائلة على التحمُّل، مع أنه كان يشعر بتعب شديد، سواءٌ بعد المشاورات أو الرحلات الطويلة، وكان نشطًا جدًّا دونما إفراط، وكان ينهض في وقت باكر جدًّا، ولم يكن يسافر. قال والدي إن والده كان يعاني بشدةٍ الشعورَ بالإرهاق؛ لأنه كان دءوبًا جدًّا في عمله.
الطاقة الذهنية وما إلى ذلك؟ تتجلَّى في العمل الدقيق المستمر فترة طويلة على موضوع واحد، مثل العمل طيلة ٢٠ عامًا على «أصل الأنواع»، وتسعة أعوام على «هدابيات الأرجل». عادةً ما كان ذهنه نشطًا جدًّا، وكان ذلك يتجلَّى في محادثاته مع مجموعات متوالية من الأشخاص طوال اليوم.
الذاكرة؟ ذاكرة ضعيفة جدًّا في تذكُّر التواريخ والتعلُّم عن ظهر قلب، لكنها جيدة في تذكُّر العديد من الحقائق تذكُّرًا عامًّا أو تقريبيًّا. ذاكرة قوية جدًّا في تذكُّر التواريخ. ففي سنٍّ كبيرة، وبينما كان شخصٌ ما يتلو عليه كتابًا لم يقرأه إلا في شبابه، استطاع أن يسردَ له الفقرات التالية في الكتاب، كان يعرف تواريخ ميلاد كل الأصدقاء والمعارف وتواريخ وفاتهم وما إلى ذلك.
الاجتهاد في الدراسة والمطالعة؟ مجتهد جدًّا، ولكن دون تحصيل كبير. لم يكن مجتهدًا جدًّا، ولا منفتح الذهن للغاية، باستثناء الحقائق التي كانت تُذكَر في المحادثات، وكان بارعًا جدًّا في جمع النوادر والحكايات.
استقلالية الرأي؟ مستقل إلى حدٍّ كبير، على ما أظن، لكني لا أستطيع ذِكرَ أمثلة. لقد تخلَّيت عن المُعتقَد الديني التقليدي بقناعةٍ شبه مستقلة منِّي، بناءً على تأمُّلاتي الخاصة. كان يُفكِّر باستقلالية في المسائل الدينية. ليبرالي لديه شيء من النزعة نحو الفلسفة المحافِظة.
الأصالة أو الشذوذ عن المألوف؟ يظن … أن هذا ينطبق عليَّ، أما أنا فلا أظن ذلك؛ أقصد نقطة الشذوذ عن المألوف. أظن أنني أبديتُ أصالةً في العلم؛ لأنني اكتشفتُ اكتشافاتٍ تتعلَّق بأشياءَ شائعة. شخصية تتسم بالأصالة، وكان له تأثير شخصي بالغ وقدرة على جعل الآخرين يهابونه. كان يحفظ حساباته بعناية بالغة بطريقة غريبة في عددٍ من الكتب الصغيرة المنفصلة دون استخدام أي دفتر عام.
المواهب الخاصة؟ لا يوجد، باستثناء تولِّي شئون المال والأعمال، كما يتجلى في حفظ الحسابات، والرد على المراسلات وإجادة استثمار المال. منضبط جدًّا في عاداتي كلها. إتقان الجانب العملي من شئون المال والأعمال؛ إذ جنى ثروةً كبيرة ولم يتكبَّد أي خسائر.
خصائص ذهنية ملحوظة بشدة، متعلِّقة بالنجاح العلمي، ولم تُذكَر أعلاه؟ الاتزان الذهني والفضول الشديد لمعرفة الحقائق ومعناها. وبعض الحب تجاه ما هو جديد وعجيب. عاطفة اجتماعية قوية وتعاطف مع الآخرين في أفراحهم. متشكِّك تجاه الأشياء الجديدة. فضولي تجاه الحقائق. بصيرة ثاقبة. لم يكن اجتماعيًّا جدًّا، وكان كريمًا جدًّا في منحِ المال والمساعدة.
ملحوظة: أعجزُ تمامًا عن تقدير شخصيتي بدرجاتك.

يشير الخطاب التالي إلى أشياءَ كثيرة، من بينها خطابٌ ظَهَر في دورية «نيتشر» (بتاريخ ٢٥ سبتمبر ١٨٧٣) «عن ذكور بعض هدابيات الأرجل وذكورها المكملة، وعن الأعضاء الأثرية.»:]

من تشارلز داروين إلى إي هيكل
داون، ٢٥ سبتمبر ١٨٧٣
عزيزي هيكل

أشكرك على كتابك٤٠ الذي أهديتني إياه، وقد سُررتُ جدًّا برؤية نجاحه الباهر. ستُقدِّم نفعًا هائلًا في نشر فكرة التطوُّر؛ إذ تدعمها بالعديد من الملاحظات الأصلية. لقد قرأتُ المقدمة الجديدة باهتمامٍ بالغ. غير أن تأخُّر ظهور الترجمة الإنجليزية يضايقني ويفاجئني؛ لأنني لم أستطِع قَط قراءته قراءةً شاملة بالألمانية، وسوف أفعل ذلك بالتأكيد عندما يصدر باللغة الإنجليزية. هل حيَّرَتك من قبلُ معضلةُ المراحل الأخيرة من عملية تقليص البِنى العديمة الفائدة؟ شدَّ ما تُحيِّرني هذه المعضلة مؤخَّرًا. وقد أرسلتُ للتو خطابًا إلى دورية «نيتشر» يتضمَّن تفسيرًا افتراضيًّا لهذه الصعوبة، وسأُرسل إليك الورقةَ البحثية مع تمييز الفقرة. سوف أُرسل أيضًا ورقةً بحثية أثارت اهتمامي، ولا داعي إلى إعادتها. إنها تتضمَّن ادِّعاء فريدًا بخصوصِ ما يُسمَّى التولُّد التلقائي. أرغب بشدة في أن تُحسَم هذه المسألةُ الأخيرة، لكني لا أرى احتماليةً لحدوث ذلك. إذا أمكن إثبات صحتها، فسوف يكون هذا مهمًّا جدًّا لنا …
مع تمنياتي لك بكل النجاح والتوفيق في مهامك الرائعة، سأظل يا عزيزي هيكل مخلصًا لك على الدوام
تشارلز داروين

هوامش

(١) مجلة «ذا كونتيمبوراري ريفيو»، ١٨٧١.
(٢) يوليو ١٨٧١. نقد مُعارِض. يُلخِّص الناقد مقالته قائلًا: «ربما لم يشهد تاريخ الفلسفة قَط اشتقاقَ تعميماتٍ واسعة كهذه من أساسٍ حقيقي ضئيل كهذا.»
(٣) في مجلة «داس أوسلاند».
(٤) كتب السيد والاس في الرسالة المُشار إليها، والمؤرَّخة بتاريخ ٢٧ يناير، ما يلي: «شكرًا جزيلًا لك على مجلَّدك الأول الذي انتهيتُ للتو من قراءته بأقصى قدرٍ من الاستمتاع والاهتمام، ويجب أيضًا أن أشكرك على الرقة البالغة التي تعاملت بها معي ومع هرطقتي». المقصود بهذه الهرطقة هي محدودية تأثير الانتقاء الطبيعي فيما يتعلَّق بالإنسان. فقد كتب والدي (في كتاب «نشأة الإنسان»، الصفحة ١٣٧): «لذا لا أستطيع أن أفهم كيف يؤكِّد السيد والاس أن «الانتقاء الطبيعي لم يكن بإمكانه سوى أن يمنح الهَمَج عقلًا أفضلَ قليلًا من عقل القرد.»» وكتب السيد والاس في الخطاب المُقتبَس أعلاه: «فصولك المتعلِّقة بالإنسان ذاتُ أهمية بالغة، لكن الجزء الذي تتطرَّق فيه إلى هرطقتي الخاصة ما زال غير مُقنع تمامًا، وإن كنتُ أتفق تمامًا مع كل كلمة وكل حُجة تُسهِم في إثبات تطوُّر الإنسان أو ارتقائه من شكلٍ أدنى.»
(٥) «أصل تكوُّن الأنواع»، بقلم سانت جي ميفارت، ١٨٧١.
(٦) كتبَ المؤلِّف في مقدِّمة كتاب «نشأة الإنسان»: «نَشَر عالِم التاريخ الطبيعي الأخير هذا [هيكل] … مؤخَّرًا … كتابه «تاريخ الخَلق»، الذي يعرض فيه نقاشًا كاملًا عن نَسب سلالة الإنسان. ولو كان هذا الكتاب قد ظهر قبل كتابة مقالتي، لَما أكملتها أبدًا على الأرجح. فأنا أرى الغالبية العظمى من الاستنتاجات التي توصَّلتُ إليها، وهو أكثرُ درايةً مني بالعديد من النقاط.»
(٧) دورية «ذا أكاديمي»، ١٥ مارس ١٨٧١.
(٨) يقول السيد والاس إن التزاوج بين الفَراشات يتحدَّد على الأرجح بأن أحدَ الذكور يكون أقوى أجنحةً من بقيةِ الذكور أو أشدَّ عنادًا منها، لا بناءً على اختيار الإناث. ويستشهد بحالةِ اليساريع التي تتسم بألوانٍ زاهية لكنها مع ذلك عديمة الجنس. وكذلك طَرَح السيد والاس نقدًا جيدًا قال فيه إن كتاب «نشأة الإنسان» يتكوَّن من كتابَين مختلطَين معًا.
(٩) مجلة «ذا سبيكتاتور»، عدد ١٨ مارس ١٨٧١. بخصوص مسألةِ تطوُّر الضمير، يرى الناقد أن والدي يتفوَّق بدرجةٍ كبيرة على كثيرٍ من سابقيه في الاقترابِ من «صميم المسألة النفسية». ويتضمَّن المقالُ الثاني نقاشًا جيدًا عن علاقةِ الكتاب بمسألة التصميم، ويختتمه الكاتب مشيرًا إلى أنه يجد في الكتاب إثباتًا لصحةِ وجودِ الإله أروع من ذاك الوارد في كتاب «اللاهوت الطبيعي» الذي ألَّفه بالي.
(١٠) «تراودني قناعةٌ تامة بأن فصلي المتعلِّق بالإنسان سيلفت الانتباه ويتسبَّب في ظهور إساءات كثيرة، وأنا أعتقد أن الإساءة مفيدةٌ لبيعِ أي كتاب بقدرِ ما تُفيده الإشادة.» — (من خطاب إلى السيد موراي، ٣١ يناير ١٨٦٧.)
(١١) «ذا تايمز»، ٧ أبريل و٨ أبريل، عام ١٨٧١. لا تكتفي المقالةُ باستنكارِ الكتابِ قيدِ المناقشة، بل تستنكر فرضيةَ التطوُّر بوجه عام، كما سيُبيِّن الاقتباس التالي: «حتى لو صار من المرجَّح للغاية، وهو ما نشكُّ في أنه سيحدث، أنَّ خلْقَ الحيوانات قد تشكَّل إلى ضروبه المتعدِّدة والشديدة الاختلاف بالتطوُّر فقط، سيظل من اللازم إجراءُ تحقيق علمي مستقل مكتمل تمامًا يتسم بقوةٍ إقناعية ساحقة لتبريرِ افتراضِ أن الإنسان ليس سوى عنصر في هذه السلسلة الذاتية التطوُّر».
(١٢) دورية «نيتشر»، ٦ أبريل ١٨٧١.
(١٣) المبجَّل جي برودي إنيس، من ميلتون برودي، الذي كان كاهن أبرشية داون سابقًا.
(١٤) قال والدي في خطابٍ سابق إلى السيد إنيس: «اختلفنا مرارًا، لكنك أحدُ هؤلاء البشر النادرين الذين يستطيع المرء أن يختلف معهم، ولا يشعر مع ذلك بمثقال ذرة من العِداء، وهذا شيء سأفتخر به جدًّا، إذا كان بإمكان أي شخص أن يقوله عني.»
(١٥) كتاب «التعبير عن العواطف»، الصفحة ٢٩٤. حالة اعتقال قاتل، كيفما شهدها الدكتور أوجل في أحد المستشفيات.
(١٦) كان الدكتور أوجل قد تراسل مع والدي سلفًا بشأنِ ملاحظاته الشخصية بخصوص تلقيح الزهور.
(١٧) دورية «ميديكو-شيرورج ترانز». المجلَّد الثالث والخمسون.
(١٨) من المؤكَّد أن هذه النقطة وُصِفَت بأنها نقطة جديدة؛ ليتجنَّب والدي احتماليةَ لَفتِ انتباه الدكتور أوجل إلى العضلة الجلدية العنقية، التي كانت قد نوقشت سلفًا في خطاباتٍ أخرى.
(١٩) كتاب «خطابات تشونسي رايت»، بقلم جيه بي ثاير. لم تُطبع منه سوى نسخٍ خاصة، عام ١٨٧٨، الصفحة ٢٣٠.
(٢٠) مجلة «نورث أميريكان ريفيو»، المجلَّد ١١٣، الصفحتان ٨٣ و٨٤. يقول تشونسي رايت إن الكلمات المحذوفة «ضرورية للنقطة التي يستشهد بها [السيد ميفارت] من السيد داروين.» جديرٌ بالذكر أن الفقرة التي حُذِفت منها الكلمات لم تُدرَج في كتاب السيد ميفارت ضمن علامتَي تنصيص.
(٢١) يوليو ١٨٧١.
(٢٢) اليسوعي العلَّامة الذي يعتمد عليه السيد ميفارت في معظم ادعاءاته.
(٢٣) طالِع كتاب «قصائد الملك الرعوية».
(٢٤) مجلة «ذا فورتنايتلي ريفيو»، ١٨٦٩. بخصوص علاقات الفلسفة الوضعية بالعلم، قال والدي في خطابٍ إلى السيد سبنسر عام ١٨٧٥: كم هو شائقٌ ومسلٍّ أن نرى مدى كراهية المؤمنين بالفلسفة الوضعية لكل رجال العلم! أتصوَّر أنهم لا يُدركون الأخطاء الفادحة المضحكة التي ارتكبها نبيُّهم في التنبُّؤ بمسار العلم إلا بدرجة طفيفة.»
(٢٥) كتاب «نشأة الإنسان»، المجلَّد الأول، الصفحة ٨٧. نقاش عن مسألةٍ ما إذا كان الفعل الذي يُفعَل باندفاع أو حافز غريزي يمكن أن يوصَف بأنه أخلاقي أم لا.
(٢٦) دورية «بروسيدينجز أوف ذا زولوجيكال سوسايتي»، ١٨٧٠.
(٢٧) لم يُنتَخب عضوًا بالمُراسلة لدى الأكاديمية الفرنسية إلا عند حلول عام ١٨٧٨.
(٢٨) أستاذ علم الحيوان في فرايبورج
(٢٩) «عن تأثير العُزلة على تكوُّن الأنواع». لايبزيج، ١٨٧٢.
(٣٠) كتب البروفيسور فاجنر مقالتَين عن الموضوع نفسه. مقالة «النظرية الداروينية وقانون الهجرة»، في عام ١٨٦٨، ومقالة «عن تأثير العزلة الجغرافية … إلخ»، التي كانت خطابًا أُلقي أمام الأكاديمية البافارية للعلوم في ميونيخ، ١٨٧٠.
(٣١) «عن أشكال حلزون بلانوربِس المتعدِّدة في الحجر الجيري المترسِّب من المياه العذبة في شتاينهايم». دورية «موناتسبريخت» التابعة لأكاديمية برلين، ١٨٦٦.
(٣٢) يقصد هنا بروفات طباعة مقال ظَهَر في عدد يوليو من مجلة «نورث أميريكان ريفيو». كان هذا المقال ردًّا سريعًا على ردِّ السيد ميفارت (مجلة «نورث أميريكان ريفيو»، أبريل ١٨٧٢) على كُتيب السيد تشونسي رايت. يقول تشونسي رايت عنه (كتاب «خطابات»، الصفحة ٢٣٨): «إنه ليس ردًّا سريعًا بالضبط، بل مقال جديد، يُكرِّر بعضَ نقاط كُتيبي ويشرحها، ويردُّ عَرَضًا على بعض ردود السيد ميفارت.»
(٣٣) كتاب «خطابات»، من الصفحة ٢٤٦ إلى ٢٤٨.
(٣٤) «آراء السيد مارتينو في مسألة التطوُّر»، بقلم هربرت سبنسر، مجلة «ذا كونتيمبوراري ريفيو»، يوليو ١٨٧٢.
(٣٥) كان السيد والاس قد نشر مقالًا ناقدًا عن كتاب الدكتور بري، «عرضٌ للمغالطات الموجودة في فرضية السيد داروين»، في دورية «نيتشر»، ٢٥ يوليو ١٨٧٢.
(٣٦) قال في ذلك الخطاب إن السيد والاس عَرَض ما قَصَد قوله بخصوص الموضع المرجَّح للإنسان في الجزء المبكِّر من تسلسل نَسَبه عرْضًا صائبًا تمامًا، وإنه لا يعرف كيف أخطأ الدكتور بري تمامًا هكذا في فهْم مقصده.
(٣٧) «بدايات الحياة.» إتش سي باستيان، ١٨٧٢.
(٣٨) «تاريخ العلوم والعلماء»، ١٨٧٣.
(٣٩) كانت السيدة هاليبرتون ابنةَ صديق والدي القديم، السيد أوين من وودهاوس. وكان زوجها، القاضي هاليبرتون، هو المؤلِّف الشهير الذي ابتكر شخصية «سام سليك».
(٤٠) الطبعة الرابعة من «تاريخ الخلق». لم تُنشَر الترجمة الإنجليزية حتى عام ١٨٧٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤