خاتمة

استعرض هذا الكتاب تجليات العصر المعلوماتي وأبعاده المتنوعة، بالتركيز على فرضية أنه لا بد من التعامل مع الثقافات الإلكترونية على اعتبار أنها مُرتبِطة ارتباطًا تكراريًّا بالعالم المادي الواقعي، ومُتجذِّرة فيه، ومُشكَّلة بفعله. كما افترض الكتاب أن العوالم الافتراضية وثقافات الإنترنت «تتَّصل» في نقطةٍ ما بالأجساد المادية، والبِنى الاجتماعية القائمة على العِرق والنوع، والمُعتقدات الثقافية، وظروف الاقتصاد السياسي والسياسة.

قدَّمَ الفصل الأول، بعنوان «قراءة الثقافات الإلكترونية»، الفرضية الأساسية للكتاب: أن الثقافات الإلكترونية والعوالم الافتراضية لها بُعد «مادي». «العتاد الصلب» للعوالم الافتراضية والألعاب الرقمية مصنوع من أجساد، ومدن، وخرسانة، وكوابل، ومشاعر، وفضاءات عمل، وعمال، يخضعون جميعًا لديناميات العِرق والطبقة، والنوع، والتفاوتات الاقتصادية، والحكم، والظلم. بدأ الفصل بسَردٍ مُختصَر عن «مجتمع المعلومات» في عالَم مُعولَم. كانت العولمة والرأسمالية التكنولوجية هما أول ما نُوقش من موضوعات في القسم المعنون «المسائل الأساسية في دراسات الثقافة الإلكترونية». أخذ هذا القسم يُناقش المادية والجسمانية (أي موضوع الجسد المادي في الثقافات الرقمية). وتمعَّن في وجود أشكال عديدة من «الانقسام الرقمي» — التفاوت في القدرة على الاتصال، والجودة، وتوسُّع التكنولوجيات والثقافات الرقمية. كما دُرِست في هذا الموضع أيضًا مسألة الحكم الإلكتروني، وهي مسألة مهمَّة في الجانب والتطبيق السياسيَّيْن للتكنولوجيات الثقافية الإلكترونية. أبرزَ هذا القسم مسألة الهُوية، والمجتمع المدني في عصر الثقافات الرقمية، والطبقة، والعِرق، والفضاء والجغرافيا، والمخاطر، والمدينة الوسائطية، والجماليات. وكان كلٌّ من هذه المناقشات في هذا الموضع بمنزلة مقدِّمات إلى تفصيل أوسع فيما بعدُ في الكتاب.

واختُتِم الفصل بتفحُّص ثلاث «مقاربات» إلى الثقافات الإلكترونية. أما الأبعاد الإثنوجرافية للفضاء الإلكتروني فمن شأنها أن تشتمل على دراسة إسهام المُستخدِم النهائي في تصميم البرامج وتطبيقاتها، وإنشاء المجتمعات والشبكات على الإنترنت، والأشكال الثقافية الشعبية لمثل هذه التكنولوجيات، والهُويات الثقافية التي تَظهر في الفضاءات التكنولوجية الجديدة، والاقتصاد السياسي للثقافة الإلكترونية. وأما نظرية «الأباراتجايست» التي صيغت في بداية الأمر في سياق الاتصالات باستخدام الأجهزة المحمولة، فتَتناول «روح» الثقافات الإلكترونية و«منطقها». وافترض الفصل الأول أن «أباراتجايست» الثقافات الإلكترونية مزدوجة، تشمل: «الاتصال الدائم» (كما يفترض كاتس وأخوس ٢٠٠٢ فيما يخصُّ الهواتف المحمولة) والتضخيم. ومن شأن مقاربةٍ تَنتمي إلى حقل الدراسات الثقافية أن تتناول مسائل الفاعلية، والقوة، والهُوية. وأما استخدام هذا الكتاب مقاربة تنتمي إلى الدراسات الثقافية، فيعني أنه يُعامِل الثقافة الإلكترونية بوصفها صيغةً وسط ثلاثة عناصر حاسمة من الفاعلين: «العتاد الصلب» (الآلات، والكمبيوترات، وشبكات الكوابل)، و«العتاد المرن» (البرامج)، و«العتاد الرطب» (البشر)؛ حيث تكون العناصر الثلاثة مدمجة بعمق في السياقات الاجتماعية والتاريخية للتكنولوجيا؛ ومن ثَمَّ أيضًا «العناصر» أو العوامل الأخرى، من قبيل النوع والعِرق والأشكال الرمزية والثقافية، والاقتصاد والسياسة، والهُوية. يفترض الكتاب أنه لا يُمكن أن ننظر إلى الثقافات الإلكترونية على أنها محض تكنولوجيات معلومات واتصال، دون إشارة إلى التساؤلات المتعلِّقة بالقوة، والهُوية، والأيديولوجية، والثقافة. ويعني هذا إيلاء اهتمامٍ لمسائل السياسة: إذا كانت هناك سياسة (وربح) متضمَّنة في إنتاج الثقافات الإلكترونية، فهناك أيضًا سياسة في استهلاكها.

بدأ الفصل الثاني، بعنوان «الثقافات الإلكترونية الشعبية»، بوصف أربعة ملامح رئيسة للثقافات الإلكترونية الشعبية: «التلاقي»، و«إعادة الوساطة»، و«الاستهلاك»، و«التفاعلية». أما التلاقي، بتعبير هنري جنكينز (٢٠٠٦)، فهو اجتماع تطبيقات مُتنوِّعة عبْر أشكال متعدِّدة من الوسائط، على منصَّة أو واجهة تفاعلية مشتركة. وأما إعادة الوساطة، كما شرحها أول الأمر بولتر وجروسين (١٩٩٩)، فهي التناقُض الذي تحاول فيه التكنولوجيا من جهةٍ جعْل الجمهور يشعر وكأنه هناك بالفعل في المشهد، دون أي تكنولوجيا وسيطة (المباشَرة)، ومن الجهة الأخرى، جذْب الانتباه إلى الوسيط نفسه (الوساطة الفائقة). وأما الاستهلاك فيشير إلى الثقافة الاستهلاكية التي تُنتجها تكنولوجيات وسائل الإعلام الجديدة — من محرِّكات البحث المخصَّص إلى المنتَجات. وأما التفاعلية بين الجمهور والمنتِج والمنتَج فتُميِّز ثقافات وسائل الإعلام الجديدة؛ حيث يجرِّب الجمهور/المستخدِم الخيارات، بل يشارك في تكوين التكنولوجيا أو الوسيط.

وبتقديم هذه المفاهيم الأساسية، تفحَّصَ الفصل «أجناسًا» متنوعة من الثقافات الإلكترونية. «السايبربنك»، الجنس الأدبي الذي يُمثِّل الحياة في عالم موصول إلكترونيًّا، ويقدِّم فلسفة «ما بعد بشرية» باستخدام السايبورج. تؤمن «ما بعد البشرية» بأن قيود الجسد البشري — السن، والمرض، والمظهر، والإعاقة — يُمكن التغلُّب عليها، وأن قدراته — الأشكال، والذكاء، والقوة، ومقاومة الأمراض — يُمكن تضخيمها من خلال التدخُّل التكنولوجي. ركزت مناقشة السايبربنك على الجسد (الذي تتزايَد ترجمته إلى بيانات، أو يُعدَّل في هيئة سايبورج)، والنسل (منتجة قلقًا ثقافيًّا بخصوص الاستنساخ)، والزمان والمكان، والبيئة (عالم ما بعد هلاك العالم في معظم سرد السايبربنك التخيُّلي وأفلامه)، والمعلومات. كما عرض الفصل النقد النسوي للسايبربنك، الذي يرى التكنولوجيا مندمجة في الأبوية والرأسمالية؛ ومن ثَمَّ فهي استغلالية وظالمة في جوهرها.

تُمثِّل ألعاب الكمبيوتر أسرع صور الثقافات الإلكترونية انتشارًا. بدأ هذا القسم بمناقشة للطبيعة الاجتماعية للألعاب وعنصرها التفاعُلي. وجرى تأمُّل «التفاعل الاجتماعي الجديد» الذي ينشأ مع اللعب، مع استنتاج أن اللعب، وخصوصًا من نوع لَعِب أداء الأدوار المباشر، يُمثِّل علامةً على ظهور شكل جديد من التآلُف الاجتماعي، والثقافة العامة. ثم انتقل النقاش إلى النظر في تطوير القدرات الجديدة، و«البِنية» السردية للألعاب، وتأدية الأدوار، وأخيرًا، سياسة عالم الألعاب، «العِرقية» «المؤسَّسة على النوع»، مع افتراض أن الشخصية الموجودة في اللعبة تُشكَّل في الواجهة التفاعُلية للاعب البشري «الواقعي» والشكل المنتَج بالكمبيوتر على الشاشة، ولذا فهي ليست مستقلَّة بالكامل. عوالم الألعاب مُشكَّلة بطرقٍ خاصة، بناءً على كلٍّ من إنتاجها واستهلاكها، وهي في أغلب الأحوال مبنية على الصور النمطية عن النوع والعِرق والقومية.

يُشكِّل المعجبون على الإنترنت تجليًّا ثقافيًّا شعبيًّا مهمًّا للفضاء الإلكتروني. فاتحادات المُعجَبين ونصوصهم وسيلتان مهمَّتان لتحقيق الصلة بين الأفراد وغيرهم من الأفراد المتشابهين معهم في الفكر، ومن ثَمَّ تشكيل مجتمع. ومجتمعاتُ المعجبين على الإنترنت مثالٌ للأُلفة الثقافية التي تنشأ على الرغم من المسافات الجغرافية والزمنية. ومواقع المُعجَبين هي أراشيف، تُوثِّق كميات هائلة من التفاصيل عن شخصيتها الشهيرة المختارة، وهي كذلك فضاءات معلوماتية، رسمية أو دارجة (أي غير رسمية)، تدور حول شخصية شهيرة معيَّنة. يُتيح الإعجاب على الإنترنت لكثير من الأفراد أن يتجاوزوا خلفياتهم السياسية والاجتماعية والثقافية ليلتقوا بوصفهم مجتمعًا يوحِّده التركيز على الإعجاب، قد لا يمتُّ بصلة إلى مجتمعهم «الحقيقي». وغالبًا ما يتجاوز المعجبون على الإنترنت، أو يتجاهلون، «الانتماءات» الأخرى القائمة على الهُوية والعِرق والمكان ونظم المعتقدات، ليُشكلوا مجتمعًا مبنيًّا على أساس ذوق أو تفضيل مشترك. وكما افترض هذا الجزء، فسياسة المعجبين تخضع أيضًا لسياسة الثقافة الاستهلاكية وما يرتبط بها من تساؤلات بشأن الفاعلية والهُوية. وافترض هذا الجزء أن المُعجَبين واتحادات المعجبين يُفيضون من العالم الافتراضي على العالم الواقعي، وأن الصلات والقوة المرتكزتَيْن على مجتمع المعجبين الافتراضي مُفيدتان في تغيير الترتيبات الاجتماعية-العامة في العالم المادي.

يَشمل فن الوسائط الإعلامية الجديدة عروض الواقع الافتراضي، وإبداعات النصوص التشعبية، والتركيبات الفنية التفاعلية. الأفلام على الهواتف المحمولة، والمرئيات على الكمبيوترات المَكتبية، والموسيقى على الويب، والاتصالات الهاتفية عبْر الويب، والنصوص الحَرْفية بصيغة خدمة الرسائل القصيرة، هي الآن أشكال من الأنشطة الرؤيوية والسماعية والنَّصِّية واللمسية. وتمنَح ثقافة التلاقي داخل الفضاء الافتراضي قدْرًا هائلًا من القوة للمُستخدِم ليُصمِّم الواجهات التفاعلية، والجماليات والتعديلات داخل عالم الكمبيوتر. استكشف الجزء المعني بفن الوسائط الإعلامية الجديدة «النصية الرقمية» (تلاقي أشكال عديدة من وسائل الإعلام في العصر الرقمي؛ حيث يُمكن النفاذ إلى المطبوعات، والصوتيات، والمرئيات، والرسوم ومعالجتها من خلال تطبيق برامجي واحد مُشترَك). وكما افترض هذا الجزء، فالتلاقي يشمل أيضًا تلاقي التكنولوجيا دخل الجسد البشري. فن الوسائط الإعلامية الجديدة الذي يُشرِك الجمهور (الذي نراه في عروض مثل «تكست ترين») يُعيد تحريك الجمهور، ومن ثَمَّ يُمكن وصفه بأنه فن الجمهور النشط. وتجسِّد صور كثيرة أيضًا مبدأ «إعادة الوساطة»؛ حيث تنشأ أشكالٌ جديدة من الوسائط الإعلامية من الأشكال القديمة. يرفض فن الوسائط الإعلامية الجديدة، كما يزعم هذا الجزء، فصل العمل الفني عن الجمهور الذي يُشاهِده، مُحوِّلًا العمل الفني من كونه محض فُرجة أو منظر إلى كونه بيئة.

ظهر التسجيل والبث الرقميان وأجهزة الآي بود بوصفِها تكنولوجياتٍ شعبيةً يمكن استخدامها للترفيه والمعلومات والتعليم. وافترضتُ في هذا الجزء أن للبث الرقمي ملمحَيْن أساسيَّيْن: «التخصيص» و«التوزيع المضخَّم». خلافًا للووكمان أو الديسكمان، الذي تعامل مع المستمِع ببساطة على أنه مُستهلِك سلبي، يُحوِّل التسجيل والبث الرقميان المُستهلِكَ إلى مُنتِج. وبالنظر إلى دورهما في التعليم والجامعة، يصبح التسجيل والبث الرقميان وسيلةً لخلق أسلوب جديد لإنشاء المعرفة وبثها، لا يعتمد على المؤسَّسات.

أما الفن الجينومي فهو أحدث نزعة على المشهد الفني الأورو-أمريكي. باستخدام مفاهيم وأفكار من الهندسة الوراثية، والعلوم الكيميائية الحيوية، تَرغب هذه الأشكال الفنية — التركيبات الافتراضية، وتعديلات الجسد باستخدام الكمبيوترات والبرامج — من ستيلارك، وإدواردو كاك، وغيرها في تَمثيل التطوُّر المُمكن للبشر. وافترض هذا الجزء، بمعاملة مثل هذا الفن على أنه «فن ما بعد بشري»، أنه يَستكشف ويعرض إمكانات الشكل البشري. يَشمل هذا أنماطًا جمالية معينة، من قبيل الوحشي والمسخي، وخلق «الأجساد» المعلوماتية؛ حيث يكون الوسيط والجسد مُتماهيَيْن (ما سمَّاه يوجين ثاكر ٢٠٠٤أ «البيوميديا». ومع ذلك، فهذه الشاكلة من أنواع الفن ما بعد البشري، تَنطوي على أبعادها السياسية أيضًا؛ لأنها تُمثِّل، في رأيي، النزعة البشرية لتولي مسئولية القدَر نفسه.

وفي القسم الأخير من هذا الفصل، تناولتُ ظاهرة التواصل الاجتماعي، الشائعة الآن. أضحت مواقع التواصل الاجتماعي التي تُساعد على بناء النبذات التعريفية (الخاصة، أو العامة، أو شبه العامة) هي النزعة الرائجة، وخصوصًا بين الشباب عبْر المدن الكبرى. وكما افترض هذا القسم، فإن التواصُل الاجتماعي يُشوِّش التمييز بين الخاص والعام. كما جرى تناول موضوع الخصوصية في التواصُل الاجتماعي — وهو أيضًا مثار مخاوف ثقافية ووالدية كبرى — مع افتراض أن حصرية مواقع التواصل الاجتماعي ومراقبتها تُكرِّران الأوضاع الخاصة بالحصرية، والخصوصية، والحراسة في الحياة الواقعية. كذلك، تُساعد مواقع التواصل الاجتماعي على تضخيم العلاقات الاجتماعية. يَتزايد اعتماد الصداقات على الوسائط والتكنولوجيا من خلال التفاعلات على الإنترنت، ومواقع التواصل الاجتماعي هي أسلوب رئيسي لإنتاج «الصداقات». كذلك، يُمكِّن التواصل الاجتماعي الفرد بمعيار حيازة «رأس مال اجتماعي». وفيما يخصُّ الشباب، التواصل الاجتماعي هو أسلوب للتمثيل الذاتي والظهور؛ ومِن ثَمَّ تصبح إدارة النبذات التعريفية على الإنترنت؛ حيث يعكس المستخدمون شعورًا «بذوقهم» الحسن، أسلوبًا بالغ الأهمية لإنتاج الهُوية «الاجتماعية» وإشهارها. ويحظى الترابط الشبكي على الإنترنت، الذي يُؤدِّي غالبًا إلى علاقات وصداقات خارج الإنترنت، بعلاقات «مادية» رئيسية. ولذا، فإدارة النبذة التعريفية على الإنترنت هي مُكوِّن أساسي في الوقت الراهن للهُويات في الحياة الواقعية؛ لأنَّ الناس يزدادون التقاء على الإنترنت وخارجها معًا.

درس الفصل الثالث، بعنوان «الأجساد»، ظهور أشكال جديدة من الأجساد البشرية الموصولة بالشبكات، والمتصلة، والمترابطة إلكترونيًّا، والمعدَّلة. في القسم الافتتاحي لهذا الفصل، ذكرتُ أن ما بعد البشري هو هذا الجسد البشري المتصل بالشبكات، المعدَّل، الذي لا يتناسب بأي شكل دقيق مع تعريف البشر أو الآلة. «يُجرَّد» الجسد من جسديته، ثم «يُعاد تجسيده» في عملية سميتُها «النشوء الاندماجي الإلكتروني»؛ حيث يتسبَّب اندماج العتاد الرطب (الجسد العضوي) والعتاد المرن (الدوائر الإلكترونية) في ظهور شكل جديد من البشر نفسه. ويُمكن أن يحدث هذا «النشوء الاندماجي الإلكتروني» ما بعد البشري من خلال التجميل (الذي يشمل تعديل الجسد بالتكنولوجيا العالية)، والترجمة إلى صيغة رقمية ومعلوماتية (الذي يَشمل وضع قواعد البيانات للجسد وعمليات إعادة تشكيل أكثر جذرية، من قبيل فيزياء البرودة وفلسفة ما وراء البشرية). ومع ذلك، كما افترض هذا القسم، فما بعد البشري هذا يُصبح جسدًا استهلاكيًّا آخر.

في القسم التالي من هذا الفصل درستُ الجسد «الموصول»؛ حيث يُزوَّد الجسد بوسائط التكنولوجيا، وتُصبح التكنولوجيا نفسها امتدادًا للجسد. وافترضتُ أن الجسد الموصول يشغل فضاءات عديدة في وقتٍ واحد، حتى مع امتداد الهُوية نفسها وراء الجسد وجلده. الخبرة ما بعد البشرية هي خبرة تجريد من الجسد وإعادة تجسيد (ما أسميتُه «النشوء الاندماجي الإلكتروني»). «يُجرَّد» الجسد من جسديته حينما يحوَّل إلى قاعدة بيانات، غير أنه يُعاد تجسيده أيضًا، بانتقال الذاتية إلى الخارج من الجسد إلى داخل دارة التحكُّم الإلكتروني. النشوء الاندماجي الإلكتروني ظاهرة يُوجَد فيها ما بعد البشر في «علاقة تكافلية» مع التكنولوجيا، لا تظل فيها التكنولوجيا مجرد أداة وظيفية أو ذرائعية، ولكنها تكون «مكوِّنًا» من مكوِّنات الهُوية ما بعد البشرية نفسها. وافترضتُ في هذا الموضع أيضًا أنه مع تزايد اعتماد الجسد على التكنولوجيا، يصبح الواقع كله قائمًا على الوسائط — ما سمَّاه مارك هانسن (٢٠٠٦) نموذج «الواقع المختلط». يُعيدنا كلٌّ من إعادة التجسُّد والنشوء الاندماجي الإلكتروني إلى الجسد، ولكن «الجسد في التقنيات» الذي يُسهِّل تلاقيه مع التكنولوجيا إدراكًا مضخمًا.

في القسم الأخير من الفصل الثالث استكشفتُ التبعات السياسية لهذا النشوء الاندماجي الإلكتروني لما بعد البشري. افترضتُ أننا في عصر «هُوية السايبورج»؛ لأننا لا نُحسُّ بأن هواتفنا المحمولة أو كمبيوتراتنا كيانات مختلفة، ولكننا نحس بأنها «ذواتنا». يوحي النشوء الاندماجي الإلكتروني لما بعد البشري بأن الهُوية لم تَعُد «مُسكَّنة في» جسد أو «مقيدة» به. إلا أنه يوجد تناقض مع ذلك في قلب الثقافات الإلكترونية: في عصرٍ يُمكن فيه جعل كل شيء فرديًّا ويُمكن فيه للناس أن يتسوَّقوا ويعملوا ويلعبوا أو يحكموا دون أن يَخْطوا خارج منازلهم — مثال متطرِّف للخصخصة و«اختفاء» الجسد — يُمكن أن يكون الفرد، نظريًّا، موصولًا بالعالم على مدار اليوم. هذه الحركة المزدوجة من الخصخصة/الاختفاء والإشهار/الاتصال هي سمة مُميِّزة للعصر الرقمي. أعترض على فكرة الشخص المواطن الافتراضي بالكامل؛ لأن تجاوز الجسد، كما بيَّنتُ في هذا الفصل، فيما يخص النساء والأقليات الذين طالبوا بالحقوق والمزايا المستندة إلى أجسادهم، هو نقمة وليس نعمة، للسبب البسيط الذي هو أن الجسد المادي «سياسي» من وجهة نظرهم؛ فالرِّفاه، والتوظيف، والخدمات الطبية، وحقوق التصويت، والمواطنة تُتاح للفرد على أساس لون الجسد «المادي»، وقدْرته، وهُويته الإثنية. ودون جسد مادي، لا يُمكن أن تكون هناك «مواطَنة افتراضية». تفحَّصتُ في هذا القسم أيضًا التشكيلات المتغيِّرة للشيخوخة، والأسرة، والجسد «الإجرامي». وعُدتُ إلى فرضية الكتاب؛ لأبيِّن كيف أن العوالم الافتراضية تُبنى بالأجساد العاملة الموسومة بالعِرق والنوع، مفترضًا أن السياسة يجب أن تظل قائمة على الأجساد الواقعية. حتى مع الأجساد الناشئة الاندماجية الإلكترونية، افترضتُ أن السياسة، والرفاه، والحقوق تستلزم جسدًا ماديًّا. وفي القسم الأخير؛ حيث تمعَّنتُ في موضوع المواطَنة، رأيت أن الفاعلية تكمن في قلب المواطَنة والحقوق. افترضت أننا، في عصرٍ تكون فيه الفاعلية، ولو جزئيًّا، هي نتاج المادة غير العضوية الملحقة بأجسادنا أو المغروسة فيها، قد لا نأخذ في إنشاء مواطنين جُدُد بقدْر ما ننشئ أشكالًا جديدة من ممارسات المواطَنة من خلال مشارَكةٍ أكبر في «المواجهات» الثقافية — عبْر القومية، والجالياتية، والمتعدِّدة الثقافات — التي تيسِّرها تكنولوجيات المعلومات والاتصال. وأعلنتُ ملحوظة احترازية حينما افترضتُ أن السايبورجات يُمكن أن تصبح المعيار الجديد «للأجسام».

استكشف الفصل الرابع، بعنوان «الثقافات الفرعية»، الطرق التي نشأت من خلالها الثقافات الهامشية، والبديلة، والهدامة في الفضاء الإلكتروني. الثقافات الفرعية ممارسات غير معتَرف بها، أو تُعَد غير قانونية في نظر دولة التيار السائد أو ثقافة المؤسَّسة. إذا كان الفضاء الإلكتروني منظومة من الممارسات الاجتماعية، فحينئذٍ، تصبح هذه الممارسات التي لا تجد القبول ثقافاتٍ فرعيةً. بدأ التدوين بوصفه ممارسة هامشية في الثقافة الإلكترونية، ولكنه اكتسب الآن مكانة «التيار السائد». وافترض هذا الجزء أن المدوَّنات تمثل بناء الذات وتمثيل الذات اللانهائيَّيْن في عصر وسائل الإعلام الجديدة، خالقة ذاتًا اتصالية من أجل الاستهلاك العام. يصبح التدوين وسيلة للحوار مع العالم. والمجال التدويني هو عالم مبني من جانب المستخدِمين من خلال نشر تكنولوجيات المعلومات والاتصال، ويُمكن أن يصير أساس تشكيل المجتمع.

تشمل تكنولوجيات التمثيل الذاتي كاميرات الويب. وكما أفترض، فاستخدام النساء لكاميرات الويب يُحوِّل الشأن اليومي إلى فرجة، وتصبح أسلوبًا لتحكُّم المرء في تمثيله، ومن ثَمَّ وسيلة لتمكين المرأة. وهي تُمكِّن الفرد العادي من أن يصير مؤديًا يراه العالم.

من أشكال الثقافة الإلكترونية هذه «الآمنة» نسبيًّا، انتقل الفصلُ إلى مناقشة الجريمة الإلكترونية والاختراق. تُنتِج تكنولوجيات المعلومات والاتصالات أشكالًا جديدة من السرقة. فحصَ هذا القسم تصنيفًا للأشكال المتنوعة من الجريمة الإلكترونية، موضحًا أن المخترقين هم، على الأغلب، أفراد يقتحمون الأطر الرئيسية على سبيل التحدي، لا بغرض السرقة. ولذا، يصبح المخترقون رموزًا ﻟ «المقاوَمة الثقافية الإلكترونية»؛ حيث يرمزون للنفاذ «غير المرخَّص». ويُمكن النظر إلى الاختراق على أنه شكل من أشكال المرور أو التنكُّر؛ حيث تساعد الهُويات الزائفة في وسيط مائع مثل الإنترنت المخترقين على تجاوز الضوابط. والاختراق ثقافة فرعية؛ لأنه يُعيد تشكيل التكنولوجيا والعلاقات الاجتماعية بهدم القواعد، والقوانين، والأعراف الاجتماعية بخصوص استخدام التكنولوجيا.

بعد ذلك، بحث الفصل النشاط الاختراقي، ووسائل الإعلام التكتيكية، والإرهاب الإلكتروني. أما النشاط الاختراقي، أو الاختراق بدوافع سياسية، فيُستخدَم في أغلب الأحوال بوصفه شكلًا من الدعاية. ويُحيل الفضاء الإلكتروني مجالًا عامًّا متنازَعًا عليه، مُمدِّدًا داخل الفضاء الإلكتروني اهتمامات الفضاء العام في الحياة الواقعية، وسياسته، ونشاطه. وافترضتُ أن النشاط الاختراقي متَّصل بالحركات الاجتماعية الجديدة في القرن العشرين.

أما وسائل الإعلام التكتيكية فظهرت ردًّا على أشكال وسائل الإعلام المؤسَّسية أو التابعة للدولة، التي ترغب في القضاء على تنوُّع الرأي. تستخدم وسائل الإعلام التكتيكية كل أشكال الوسائط الإعلامية، وتتَّسم بأنها مؤقتة، و«مفتوحة المصدر». وهي تنشر التضليل، وتتتبع التضليل، وترتب الاعتصامات، وتُخرِّب شبكات معلومات الدولة أو المؤسَّسة.

وأخيرًا، التفتُّ إلى الإرهاب الإلكتروني. الإرهاب الإلكتروني هو الفعل الذي تمارسه مجموعة من الناس باستخدام شبكات الكمبيوتر لتخريب أو تدمير البِنية التحتية الإلكترونية أو المالية أو المادية لدولة أو جماعة من أجل غرض سياسي. ومع ازدياد رقابة الدولة أو المؤسَّسة على الفضاء الإلكتروني، ومع تعاظُم اتخاذ المعاملات المالية المسار الإلكتروني، يجد الإرهابيون الإلكترونيون أن هذه التكنولوجيا مفيدة.

كان الصنف التالي الذي درستُه داخل الثقافة الإلكترونية هو الإعجاب على الإنترنت. يُشكِّل هذا الإعجاب صورة جديدة من صور تشكيل المجتمع، تساعد الناس المتماثلين في الأذواق والأشياء التي يعجبون بها على الالتقاء في الفضاء الإلكتروني، بصرف النظر عن مواقعهم المادية والجغرافية. ويَكثُر جدًّا أن تعمل كتابات المُعجبين وفنونهم، مثل السَّرد الإبداعي للمثليِّين، على الضد من مشاهير التيار السائد أو ثقافة المعجبين السائدة.

المضاد الجوهري لثقافات المعجبين على الإنترنت هو الكراهية الإلكترونية. نظر هذا القسم في الثقافات الإلكترونية المستندة إلى العِرق، والجنس، الفتاكة الظاهرة في الوقت الراهن. تبسط مواقع الجناح اليميني أيديولوجياتها في الفضاء الإلكتروني. وتمامًا كما يستخدم النشطون الاختراقيون تكنولوجيات المعلومات والاتصالات لنشر حملاتهم المناهضة للدولة، أو كما تستخدمها جماعات أنصار البيئة لنشر الوعي، تستطيع جماعات اليمين الراديكالية استخدامها لنشر الكراهية.

تَنشُد النسوية الإلكترونية تطويع تكنولوجيات المعلومات والاتصالات لاستخدام النساء وتحريرهن. وتسعى النسوية الإلكترونية، في مقاومتها الأيديولوجية الذكورية، ومن ثَمَّ الأبوية التي تتَّسم بها تكنولوجيات المعلومات والاتصال، إلى تحرير الفضاء الإلكتروني. السايبربنك النسوي حركة ثقافية فرعية تؤمن بأن هناك رابطة شيطانية جوهرية بين الثقافة الإلكترونية، والتكنولوجيا، والرأسمالية، والأبوية. ترى كاتبات مثل مارج بييرسي وبات كاديجان موضوع تجاوُز الجسد مهربًا من وقائع القمع المؤسَّس على العِرق والنوع. ويُثِرن التساؤلات حول موضوع «الغريب» المألوف للغاية في السرد الإبداعي العلمي والتيار السائد في السايبربنك. تعيد كاتبات السايبربنك النسوي تعريف التكنولوجيا من حيث استخدامها، ويُدرجن السحر، والروحانية، والعواطف باعتبارها استجابات وأساليب لتطويع لتكنولوجيات المعلومات والاتصال، بالقدْر نفسه من الأهمية. كذلك، ويرى السايبربنك النسوي التكنولوجيا متجذِّرة في سياق اجتماعي وثقافي محدَّد. وإذ يمدِّد الفن النسوي الإلكتروني من جماعات مثل في إن إس ماتريكس، اهتمامات النسوية الإلكترونية، فهو يُحوِّل الخطابة والمجازات الأبوية والمتحيزة للجنس عن النساء إلى أساليب للتمثيل الذاتي. وتصبغ أشكال الفن النسوي الإلكتروني صبغة فاقعة من الأنشطة الجنسية والسيطرة على الأجساد. يؤكد هذا النمط من الفن كيف يمكن تطويع التكنولوجيا من جانب النساء لتقوية أنفسهن.

وقد خلص هذا الفصل إلى أن الثقافات الإلكترونية تتمدَّد في عالمٍ آخر، وبدرجة أعظم من التواصل والاجتماع والظهور، وأشكال تفكير ومعتقدات وممارسات موجودة بالفعل ومقاوِمة.

بدأ الفصل الخامس، المعنون «النوع والهُويات الجنسية»، بوصفٍ للطريقة التي تتأثَّر بها النساء بالتكنولوجيا وتُؤثِّر فيها من خلال استعراض سريع للانتقادات النسوية للعلوم التكنولوجية. ثم انتقل لمناقشة مسألة النساء والفضاء الإلكتروني. وإذ تفحَّص الجزء الأول مسألة التجسُّد والتكنولوجيا، فقد حدَّد مكانة «البيت» — الذي يُعَد تقليديًّا فضاءً «أنثويًّا» — باعتباره فضاءً للوجود المجسَّد تُمارَس فيه أنشطة اعتيادية على نحوٍ متكرِّر. فمن خلال تكنولوجيات المعلومات والاتصال، تختبر النساء اللاتي يُنشئن صفحاتهن التعريفية نوعًا مختلفًا من التجسُّد. وكما افترضتُ، فاستخدام كاميرات الويب والمدوَّنات يساعد النساء على الإفلات من هُوياتهن وإنشاء هُويات جديدة.

بحث هذا الجزء أيضًا في تصوير الفضاء الإلكتروني المستمر للنساء على أنهن أشياء للتلاعب، مُفترِضًا أن «الهروب» من الجسد أو «تجاوُزه» الذي يحتفي به المتحمِّسون للثقافة الإلكترونية ليس هدفًا مرغوبًا للنساء الأقلية. واستمرارًا في مناقشة المقولة المبيَّنة في الفصل الثالث، كرَّر هذا الجزء أن الجسد لا يمكن تجاوُزه؛ لأن الهُوية والفاعلية والسياسة، والعدالة لا تزال تُسند إلى الجسد المادي.

بعد ذلك، انتقل الفصل إلى التدبُّر في استخدامات الفضاء الإلكتروني المُستنِدة إلى النوع؛ فشبكات النساء، مثلًا، تُجسِّد تطويع وسائل الإعلام والبيئات الجديدة القائم على النوع — المادي والخطابي معًا. وبينما تتواصَل الخطابات الأبوية التقليدية عن النساء في الفضاء الإلكتروني، فلا يزال المجال مع ذلك مصدرًا مُمكنًا للمشاركة الأنثوية المضخَّمة في الفضاء الإلكتروني. افترض هذا القسم أن الاستخدامات الممكنة للثقافات الإلكترونية لا تنطبق على كل النساء. فالاختلاف في استخدام تكنولوجيات المعلومات والاتصالات وفي النفاذ إليها، فيما بين العمال البيض والأفارقة والجنوب شرق آسيويين، على سبيل المثال، يبقيان من المسائل الأساسية. ومن ثَمَّ فالتناقض المتمثِّل في أن الفضاء الإلكتروني، بوصفه مجالًا عامًّا إلكترونيًّا مضادًّا ونسويًّا، ذا هُويات، وحريات، وحراكات، وفاعلية مضخَّمة، تُتيحه عاملات لن يُتاح لهن أبدًا (النفاذ إلى) مثل هذه الهُويات، أو الحريات، أو الحِراكات، أو الفاعلية.

ومع ذلك، ففي بعض الحالات، يُعيد الفضاء الإلكتروني تشكيل الفضاء العام والمجال العام؛ لأنه يَسمح بأشكال جديدة من النقاش، والتعبير، وصياغة الآراء، ليست مقيدةً بمعايير «الرشادة» و«العقل».

في القسم الثالث، التفتُّ إلى موضوع «الإنترنت الجنسي»، مقدِّمًا استعراضًا للشبكة العنكبوتية العالمية ذات الطابع الجنسي. وبدراسة غلبة الجنس الإلكتروني، باعتباره تطوُّرًا تجاريًّا للإنترنت وتكنولوجيات المعلومات والاتصال، وضع هذا القسم حرية الفضاء الإلكتروني باعتبارها عاملًا مؤثِّرًا في صعود الغَزَل الإلكتروني، وأشكال مختلفة من الجنس الإلكتروني (قدمتُ تصنيفًا نموذجيًّا من نقاد ودراسات متنوِّعين أيضًا). فحص هذا القسم أيضًا الاستجابات النسوية للإنترنت الجنسي. يرى بعض النِّسويين الثقافة الإلكترونية تمديدًا وتعزيزًا للصور النمطية من الحياة الواقعية، بينما يراها آخرون محرِّرة للنساء ليستكشفن نزعات وتفضيلات جنسية بديلة. وكما افترض القسم، تعمل الإباحية على الإنترنت على نحوٍ تكراري؛ حيث تعود تفضيلات العميل بالمزيد من التنويعات والتطويرات على صناعة الجنس على الإنترنت.

وفي القسم الأخير، التفتَ الفصل إلى الفضاء الإلكتروني باعتباره موقعًا للنزعات الجنسية البديلة. وتعامل مع تطويعات الفضاء الإلكتروني من جانب المثليِّين، وجماعات مزدوجي الجنس؛ حيث يُقلِّل خفاء الهُوية من المخاطرة، ويوسِّع فرص المواساة، والغرام، والنصح، وإقامة مجتمع.

أما الفصل السادس، بعنوان «الفضاءات العامة»، فانصبَّ اهتمامه على الفضاء العام والمجال العام باعتبارهما فضاءَين محوَّلَيْن من خلال انتشار تكنولوجيات المعلومات والاتصال. وكانت فكرته الأساسية هي أنه بينما لا يمكن افتراض أن الفضاء العام الإلكتروني فضاءٌ جديد بالكامل، فهو يدل على تضخيم الفضاءات العامة القائمة، وعلى امتداد في عالَم آخر من المجتمعات، ومواقع النشاط السياسي، والفاعلية التي توجد في المجال العام الواقعي. وكما افترضتُ، فالفضاءات العامة هي أيضًا فضاءات للمراقبة من خلال استخدام الدوائر التليفزيونية المُغلقة وشاشات العرض.

تمعنتُ أولًا في طبيعة «الفضاء الإلكتروني» نفسها، بادئًا بالفضاءات الثقافية العالمية. وتشمل هذه فضاءات الإنترنت التي أنشأتها مجتمعات الجاليات، والتتجير الحاد للفضاء الإلكتروني من خلال الإعلانات، وانتشار الدين والمُعتقَدات من خلال التكنولوجيات الإلكترونية.

عَنَتْ إعادة التركيب العالمية من خلال تكنولوجيات المعلومات والاتصالات أن المدن الكبرى هي الآن «مدن مرنة» أو مدن عالَمية، مترابطة شبكيًّا، وتعمل عمل العُقَد في تدفُّقات المال. ومع ذلك، افترضتُ أن إعادة التركيب هذه ليست متساوية دومًا؛ لأنها تَنطوي، في كثير من الحالات، على علاقة استغلالية بين المدن والمناطق.

ثم اختبرتُ مناهج رسم خرائط الفضاء الإلكتروني، من خلال استخدام الإنترنت، وفضاء المعلومات، والبيت، والجاليات. البيوت المتصلة هي السائدة الآن، وهي تُغيِّر على نحوٍ ملموس من طريقة الإحساس بالفضاء الشخصي/العائلي. وتُعيد مجتمعاتُ الجاليات تشكيلَ النزوح الجغرافي بالالتقاء في الفضاء الإلكتروني. وتؤثِّر التكنولوجيا أيضًا في الحيوات اليومية حينما تُسقِط التمييزات بين البيت والمكتب، كما يسقط التقسيم ما بين الخاص والعام. المستخدمون العاديون للشبكة العنكبوتية العالَمية وتكنولوجيات المعلومات والاتصالات «يرسمون خرائط» المدن على نحوٍ مختلف أيضًا، من خلال استخدام أنظمة تحديد المواقع أو من خلال منافذ المعلومات.

بدأت المجتمعات المحلية تتصدَّى لمشكلات الجوار، وتُطلِق المناقشات على الإنترنت، دالَّة بذلك على شكل جديد من التفاعُل الاجتماعي والتدخُّل المحلي. يُنتِج «المجتمع الشبكي» نسقًا جديدًا من الفضاء العام في المجال العام، بإتاحة المشاركة في النقاش العام حتى للرجال والنساء اللازمِين بيوتهم. وهو يُمدِّد نطاق الهيئة الحاكمة المحلية، ويُمكِّن جمهور المواطنين من الاتصال. وبينما يعتمد جانب كبير من هذا الفضاء وطبيعة المجال العام على القدرة على الاتصال، وعلى جودة الاتصال، والردود (من جانب السلطات)، فهما يُتيحان أيضًا النفاذ إلى أشكال جديدة من المعرفة (مثل مواقع الويكي) التي ربما تكون أقل «قابلية للضبط».

افترض الفصل أن الحركات الاجتماعية في الفضاء الإلكتروني تملك القدرة على التأثير في الحيوات الواقعية. يُقدِّم الفضاء العام الإلكتروني والمجال العام إمكانية حدوث تضخيم للحركات الساعية إلى العدالة الاجتماعية في العالَم المادي، بتقديمهما مجالًا عامًّا رقميًّا يغيِّر من طبيعة المجال العام المادي.

ويَخلُص الفصل إلى أنه على الرغم من محاولات إبقاء الشبكة العنكبوتية العالمية «مفتوحة»، فإن أشكال الضبط تتزايد. ويعني ذلك أن حكم الفضاء الإلكتروني مسألة نزاعية، وأن المؤسَّسات، والدول القومية، والشركات، تفرض قدْرًا عظيمًا من القوة في تنظيم هذا «الفضاء العام».

قدَّم الفصل السابع، بعنوان «الثقافات الإلكترونية: التشكيلات الجديدة»، مقاربة ما بعد استعمارية، وإن كان من الممكن اعتبار أن هذه المقاربة تدعم الكتاب كله. وتفحَّص الطبيعة العِرقية للفضاء الإلكتروني، وخصوصًا في الاقتصاد السياسي للثقافة الإلكترونية، في سياق التعهيد في تسيير الأعمال، والعمال (العمال الآسيويِّين وغير البِيض)، واللغة (هيمنة اللغة الإنجليزية)، والهُويات ما بعد البشرية (الموسومة بالسيولة و«التجاوُز» الجسدي)، والتمثيلات ذات الطابع العِرقي (في الألعاب). وأيَّد إضفاء طابع «ما بعد استعماري» على الفضاء الإلكتروني — عملية تأويل وتطويع (للفضاء الإلكتروني)، لا تتنبه فقط للأوضاع الاستغلالية المحدَّدة على أساس العِرق التي يعيشها عمال تكنولوجيا المعلومات والاتصال، ولكن للإمكانية التحريرية التي تنطوي عليها الثقافات الإلكترونية أيضًا. يشمل هذا تحديد الأيديولوجيات والآليات الاستغلالية الأساسية الفعَّالة في العلوم التكنولوجية المعاصرة، وتعاملًا ما بعد استعماريًّا مع العولمة، من شأنه أن يشمل إضفاء طابع محلي على المعرفة ذاتها. ولهذا، درَس الفصل المحاولات التي تبذلها الأقليات ومجتمعات الجاليات، من أجل تطويع العوالم الرقمية لأغراضها. وافترض أن أي مقاربة ما بعد استعمارية للثقافات الإلكترونية من شأنها أن تشتمل على:
  • انتباه للأنماط الإلكترونية (مثل التمثيلات الثقافية) الرائجة في الفضاء الإلكتروني.

  • الأوضاع المادية المستندة إلى العِرق (العمل، والعاملين في مجال المعرفة) التي تنتج الفضاء الإلكتروني.

  • تكامُل الدول القومية (ما بعد الاستعمارية) مع المعلوماتية وتشكيل المعرفة العالميَّيْن ذَوَي المنشأ الأورو-أمريكي.

  • أنماط التعبير البديلة الممكنة للعامِّي والمحلي.

  • فحصًا لعلاقات القوة غير المتكافئة بين الأعراق في الثقافة الإلكترونية، التي تؤسِّسها تكنولوجيات العتاد المرن والعتاد الصلب على النوع (من حيث تعليم الكمبيوتر للأقليات، مثلًا، أو النفاذ إليها بلغاتهم).

  • فتح الشاشة للاختلاف الثقافي؛ حيث تكون الشاشة حرفيًّا هي فضاء «الآخر» الذي يستدعي استجابة أخلاقية.

بعد ذلك انتقل الفصل إلى التفكُّر في حقوق الإنسان في العصر المعلوماتي. هل يشكل الحق في النفاذ إلى الاتصال والفضاء الإلكتروني حقًّا إنسانيًّا؟ ركَّز الفصل في دراسته هذه المسألة على «حقوق الاتصال»، وحقوق الأقلية في الفضاء الإلكتروني، وأسلوب التوثيق والحماية لحقوق التجمُّع، وحقوق النساء، والحقوق الثقافية في العصر الإلكتروني. واستكشف الفصل في قسمه الختامي دور التكنولوجيات الرقمية في مناصَرة البيئة. واستنتج، بعد استخدام بضع دراسات حالة، مكَّنت التكنولوجيات الرقمية فيها تعزيز مبادرات التنوُّع الأحيائي، أن وجود «إنترنت أخضر» هو أحد الإسهامات الأساسية لتكنولوجيات المعلومات والاتصال. وذهبت الخاتمة إلى أن تكنولوجيات المعلومات والاتصالات تستطيع أن تساعد على إنتاج رؤية بديلة للعالم، يستطيع فيها الآخر، والغريب، والمُعاني أن يظهروا وأن يستثيروا استجابة. قد يكون الفضاء الافتراضي هو الفضاء الذي يمكن فيه نشوء جغرافيا عاطفية للعالم، بينما تجعلنا الشاشة منفتحين على الآخر. يتيح الافتراضي إنشاء مثل هذه «المجتمعات العاطفية»؛ حيث تُتاح سياسة اهتمام مشترك جديدة بالكامل، على الرغم من مواقع المرء الواقعية: الجغرافية أو العِرقية أو النوعية الاجتماعية. واختتم الفصل بالقول إن «الثقافات الإلكترونية الساعية إلى حالة ما بعد استعمارية»، مع التركيز على العِرق، وحقوق الإنسان، ومناصَرة البيئة، هي نقلة باتجاه جغرافيا عاطفية جديدة بالكامل للعالم المادي تظهر افتراضيًّا في أول الأمر على شاشتنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤