(١٣) مَن هُم الأربعة؟

كان اللورد فيرلوند يجلس إلى مائدة الفطور أمام نسخةٍ مفتوحة من صحيفة «ذا تايمز». ولما كانت وجبة الفطور تتَّسم دومًا بطابعٍ من الانطوائية في بيت فيرلوند؛ فقد قنعت الليدي ماري، التي كانت في ثوبها الصباحي الأنيق، بقراءة رسائلها وصحفها وهي لا تتوقَّع أن يُحادثها الرجل العجوز.

نَظر إليها، وكان وجهه يدلُّ على انهماكه في التفكير. ودائمًا ما كانت الفتاة ترى في وجهه شيئًا من الحُسن حين يكون هادئًا رابط الجأش، وكانت عيناه الرزينتان تنظران إليها في تلك اللحظة نظرةً لم تتذكَّر الفتاة أنَّها رأتها من قبل.

سألها فجأة: «ماري، أأنتِ مُستعدةٌ لصدمة؟»

ابتسمت الفتاة غير أنَّ ابتسامتها لم تخلُ من القلق؛ فدائمًا ما كانت هذه الصدمات حقائق فعلية. قالت: «أظنُّ أنني أستطيع تحمُّلها.»

خيَّم صمت طويل لم تتزحزح فيه عيناه عن وجهها، ثم قال: «أتُدهشين إذا عرفتِ أنَّ ذاك الشيطان الصغير أخاك لا يزال حيًّا؟»

فصاحت وهي تهبُّ واقفةً على قدميها: «حيًّا!» لم يكن الرجل العجوز في حاجة إلى سؤالها عن رأيها في الخبر؛ إذ تورَّد وجهها من السعادة، ولمعَت عيناها من الفرحة. صاحت قائلة: «أهذا صحيح حقًّا؟»

قال الرجل العجوز بنبرةٍ كئيبة: «صحيح جدًّا. يا لَغرابة مآل الأمور! لقد كنتِ تظنين أن الشحاذ الصغير قد مات، أليس كذلك؟»

«آه، لا تتكلَّم هكذا أيها العم، أظنك لا تقصد ذلك.»

ردَّ الإيرل بنبرةٍ حادَّة مُفاجِئة: «بل أقصده بالطبع. ولمَ عساني ألا أقصده؟ لقد كان وقحًا للغاية في معاملتي. هل تعرفين بِمَ وصفني قبل أن يرحل؟»

قالت الفتاة: «لكنَّ ذلك كان منذ ستة عشر عامًا.»

فقال العجوز: «فلتَحترق الستة عشر اللعينة في الجحيم. لا فارق لديَّ وإن كان ذلك منذ ألف وستمائة عام؛ فهذا لن يُغيِّر من حقيقةِ أنَّه قد قالها. لقد وصفني بأنني عجوز مُمل مُزعج، فما رأيك في ذلك؟» ضحكت الفتاة، وتوهج وجه الرجل العجوز بسنًا يدلُّ على تجاوبه، ثم قال: «من السهل عليكِ أن تضحكي، لكن ليس من الهيِّن أن يصف شابٌّ من بلدة «إيتون» عضوًا في مجلس اللوردات بأنَّه عجوزٌ ممل مزعج. وحين تذكرتُ الكلمات التي قالها لي عند افتراقنا وأنَّه ذهب إلى أمريكا، إضافة إلى الحقيقة الشديدة الأهمية المتمثِّلة في أنني عضوٌ في الكنيسة وأواظب على التبرع لجمعيات الكنيسة، فقد ظننتُ بطبيعة الحال أنه قد مات. فبالرغم من كل شيء، يتوقَّع المرءُ مكافأةً ما من العناية الإلهية الكلية الحكمة.»

سألته: «أين هو؟»

فقال الإيرل: «لا أعرف. لقد تعقَّبتُ أثره حتى عرفت أنَّه وصل إلى تكساس، حيث يبدو أنه استقر في مزرعةٍ حتى بلغ الحادية والعشرين. وبعد ذلك، بدا تتبُّع تحركاته صعبًا بعض الشيء.»

فقالت فجأة وهي تُشيرُ إليه بإصبع اتهام: «عجبًا، كنت تُحاول تعقبه؟!»

بدا الرجل العجوز مرتبكًا للحظة قصيرة وصاح غاضبًا: «لم أفعل شيئًا كهذا. هل تظنِّين أنني قد أنفق أموالي على تتبع ذاك الوغد الذي …»

فأضافت قائلة: «آه، بل فعلت. أعرف أنَّك فعلت. لماذا تتظاهَر بأنَّك عجوز شنيع؟»

فقال مُتذمِّرًا: «على أيِّ حال، أظن أنَّ أحدهم قد عثر عليه، وهذا يسلبك قدرًا كبيرًا من الثروة التي كانت ستُصبح من نصيبك. لا أظنُّ أنَّ جريشام سيظلُّ راغبًا فيكِ الآن.» ابتسمت الفتاة. ونهض الرجل من أمام المائدة واتجه إلى الباب، ثم قال: «أخبري ذاك الوغد اللعين …»

«أيُّ واحد؟»

رد قائلًا: «جيمس. أخبريه بأنني لا أريد إزعاجًا. أنا ذاهب إلى غرفة مكتبي، ولا أُريد إزعاجًا لأي سببٍ كان، مفهوم؟»

وإذا كان ذلك الصباح حافلًا لفخامته، فقد كان حافلًا بالقدر نفسه لبلاك وصديقه؛ ذلك أنَّه كان صباح يوم الإثنين، أي يوم سداد ديون الرهانات، وكانت العديد من أندية الرهانات تعجُّ بوكلاء رهانات مُترقِّبين كانوا قد دوَّنوا اسمَي بلاك والسير آيزاك في دفاترهم مرات كثيرة، وكانوا يَتفقَّدون ساعاتهم في ذلك اليوم بمشاعر كادت أن تصل إلى القلق الشديد.

بالرغم من ذلك، فقد دُهِش جميع مَن يعرف الرجلين بأنَّ الديون قد سُدِّدت. لقد حظيَت «الشركة» بدعمٍ مالي.

قضى السير آيزاك ترامبر عصرَ ذاك اليوم سعيدًا؛ إذ رُفِع من غياهب اليأس إلى قمم البهجة. لقد سُدِّدت الديون التي التزم بها بكلمة شرف، وشعر حينئذٍ بأنَّه قادرٌ على مواجهة الدنيا بكلِّ ثقة. وبينما كانت سيارة الأجرة تقودُه بسرعة إلى مكتب بلاك، راح يُصفِّر بابتهاج، ويبتسم من ذهول وكيل المراهنات الذي كان يشكُّ في أنَّه سيُسدِّد ديونه، والذي حاول إخفاء ذلك الذهول بتأدُّب.

لم يكن الرجل الضخم في مكتبه، وكان السير آيزاك قد أمَرَ سائقه بالانتظار تحسُّبًا لذلك؛ فطلب منه التوجُّه إلى شقة «تشيلسي». كان بلاك يرتدي ثيابه استعدادًا للعشاء حين وصل السير آيزاك.

قال بلاك مُشيرًا إليه بالجلوس: «أهلًا! أنت الرجلُ الذي أُريده. لديَّ معلومة ستُسعدك. أعرفُ أنَّك من ذاك الصنف الذي يخشى رجال العدالة الأربعة هؤلاء. لا داعيَ إلى أن تخشاهم بعد الآن. لقد اكتشفتُ كلَّ شيءٍ عنهم. لقد كلَّفني هذا الاكتشاف ٢٠٠ جنيه، لكنَّه يستحق كل بنس.» نظر إلى ورقةٍ موضوعة أمامه، وأضاف: «هذه قائمة بأسمائهم. مجموعة غريبة، أليس كذلك؟ لن يَخطر ببالك أنَّ أي شخصٍ حتى وإن كان من أتباع مذهب جون ويسلي الميثودي قد يأتي بتلك الأفعال التي فعلها هؤلاء. مدير بنك في جنوب لندن، السيد تشارلز جريمبَرد، أظنُّك قد سمعتَ عنه؛ إنَّه الخبير الفني، شخصٌ غير متوقَّع، أليس كذلك؟ وولكنسون ديسبارد، إنَّه الرجل الذي كنتُ أشكُّ في انتمائه إليهم أكثر ممَّا شككتُ في أيِّ شخصٍ آخر. كنتُ أتابع الصحف بعنايةٍ منذ فترة. ووجدتُ أنَّ مجلة «بوست هيرالد»، التي يكتب فيها، دائمًا ما كانت على درايةٍ تامة بتلك الاعتداءات التي يُنفذها «الأربعة». يبدو أنَّها أدرى بهم من أيِّ صحيفة أخرى، وفوق ذلك، فهذا الرجل المدعو ديسبارد يكتب عن المشكلات الاجتماعية بكل همة. لديه بيتٌ في شارع «جيرمن ستريت». لقد كلَّفتُ رجلًا برشوة خادمه، الذي كان يُراهن وخسر أمواله. لقد ظلَّ رجلي يُلحُّ عليه أسبوعين.» قال بعد ذلك وهو يَرمي بالورقة إليه: «ستجدهم هنا أقلَّ إثارةً للرهبة مما يكونون عليه حين يلتزمون بأقنعتهم وألقابهم المُضحِكة.»

تفحَّص السير آيزاك القائمة باهتمام.

قال: «لكن لا يوجد هنا سوى ثلاثة؛ فمن الرابع إذن؟»

«الرابع هو القائد، ألا تستطيع تخمين هُويته. جريشام بالطبع.»

«جريشام؟»

قال بلاك: «ليس لديَّ أي دليل، هذا مجرد تخمين. غير أنني مُستعدٌّ للرهان بكل ما أملك في الدنيا على أنني مُحِق. إنَّه مطابقٌ تمامًا لصنف الرجال الذي يليقُ به أن يشارك في مثل ذلك العمل، وأن يُنظِّمه ويُرتِّب تفاصيله.»

سأله السير آيزاك مجددًا: «أمتيقنٌ من أنَّ الرابع هو جريشام؟»

قال بلاك: «متيقن جدًّا.» كان قد أنهى ارتداء ثيابه، وشرع في تنظيف معطف السهرة بعناية باستخدام فرشاةٍ صغيرة.

سأله السير آيزاك: «إلى أين أنت ذاهب؟»

أجاب الآخر: «لديَّ مهمة صغيرة يجب أن أقوم بها الليلة. لا أظن أنها تهمُّك كثيرًا.» توقَّف عن التنظيف بالفرشاة. بدا منهمكًا للحظة في تفكيرٍ عميق، ثم قال ببطء: «لقد أعدتُ التفكير في الأمر، وأرى الآن أنَّها قد تُثير اهتمامك. تعالَ معي إلى المكتب. هل تعشيت؟»

«لا، ليس بعد.»

قال بلاك: «يؤسفني أنني لا أستطيع أن أقدم لك العشاء؛ فلديَّ ارتباط مُهم بعد قليل يستحوذ على كل اهتمامي حاليًّا.» وأضاف: «إنك لا تَرتدي الثياب الرسمية، ولكن لا بأس في ذلك؛ فالمكان الذي سنذهب إليه لا يُلزِم الحاضرين بارتداء الثياب الرسمية.»

ارتدى معطفًا طويلًا فوق حُلَّة السهرة التي كان يرتديها، وأغلق أزراره حتى الرقبة. انتقى قبعة لُبادية ناعمة من خزانة الملابس الموجودة في الغرفة، واعتمرها أمام المرآة، ثم قال: «والآن، هيا بنا.»

كان الغسق قد حل، وبدا أنَّ الرياح العاتية، التي كانت تعصف في أرجاء الشارع المهجور بصريرها الشديد، برَّرت الكساء الإضافي الذي الْتحَفَ به. لم يستدعِ سيارة أجرة على الفور، بل سار حتى وصلا إلى طريق جسرِ «فوكسهول بريدج». وبحلول ذلك الوقت، كان صبر السير آيزاك قد نفد تقريبًا وكادت قواه على المشي تخور.

قال بانزعاج: «يا إلهي! ليس ذلك من نوعية الأعمال التي أحبها كثيرًا.»

قال بلاك: «تحلَّ بقليلٍ من الصبر. فأنت لا تنتظر مني بالطبع أن أستدعيَ سيارة أجرة ونحن في تشيلسي، وأخبر السائق بوجهتي أمام نص دزينةٍ ممَّن يتنصَّتون علينا ليسمعوها. يبدو أنَّك لا تعي يا آيكي أننا مُراقَبان عن كثب.»

تحدَّث السير آيزاك بالحق قائلًا: «حسنًا، ربما يُراقبونَنا الآن أيضًا.»

«ربما، لكن من المُستبعَد أنَّ يكون أيٌّ منهم قريبًا منا بالدرجة الكافية ونحن نُخبر السائق بوجهتنا المحددة.»

كان صوت بلاك وهو يُخبر السائق بوجهتهما خفيضًا جدًّا حتى إنَّ السير آيزاك نفسه لم يسمعه. وعبر اللوح الزجاجي الصغير في مؤخرة سيارة الأجرة، ظلَّ بلاك يتفحَّص المركبات السائرة وراءهما، ثم قال: «لا أعتقد أنَّ أحدًا يُلاحقنا الآن. إنَّها ليست مسألة شديدة الأهمية، لكن إذا عرف «الأربعة» أننا نحاول إحباط خططهم، فقد نقع في مأزقٍ حَرِج.»

قطعت السيارة الطريق المُلتوي المؤدي من حيِّ «أوفال» إلى «كينينجتون جرين». وشقَّت طريقها ببراعة وسط السيارات الأخرى ووصلت إلى شارع «كامبروِل رود». وفي منتصَف الطريق، أطل بلاك برأسه من النافذة، وانعطفت السيارة بحدَّةٍ إلى اليسار، ثم نَقَر على النافذة وتوقَّفت السيارة. ترجَّل من السيارة، ثم ترجَّل السير آيزاك. قال للسائق: «انتظرني عند نهاية الشارع.»

أعطى الرجل بعض النقود تعبيرًا عن حسن نيته، ثم ابتعد الاثنان. كان الشارع واحدًا من مآوي الحرفيين ذوي الفقر المُدقع، وقد استعان بلاك بالمصباح الكهربائي الذي كان يحمله في جيبه ليرى رقم البيت الذي كان يريده. وأخيرًا وصل إلى منزلٍ صغير أمامه حديقةٌ صغيرة جدًّا، وقَرَع الباب. فتحت الباب فتاةٌ صغيرة. فسألها: «هل السيد فارمر هنا؟»

قالت الفتاة: «نعم يا سيدي، فلتتفضَّل بالصعود إلى الأعلى.»

قادتهما الفتاة وصعدت بهما الدَّرَج الذي كان مفروشًا بالسجاد، وقرعت بابًا صغيرًا على اليسار. جاء صوتٌ أذِن لهما بالدخول، فدخل الرجلان. كان ثمَّة رجلٌ يجلس إلى الطاولة في غرفة فقيرة التأثيث لا تضيئُها إلَّا النيران. نَهَض ذلك الرجل حين دخلا.

قال بلاك: «يجب أن أوضح أنَّ السيد فارمر قد استأجر هذه الغرفة لأسبوعين فقط؛ فهو لا يأتي إلى هنا إلَّا من حين إلى آخر للقاء أصدقائه.» وأضاف مشيرًا إلى السير آيزاك: «هذا من أقرب أصدقائي.»

أغلق الباب، وانتظر حتى تلاشى وقع خطوات الفتاة على الدرَج.

قال الرجل المدعو فارمر: «إنَّ ميزة الاجتماع في مثل هذه المنازل أنَّ أدنى حركة تهزُّ المبنى كله من السطح إلى أسفل طابق.»

كان الرجل يتكلم بصوتٍ يُمكن وصفه «بالرُّقيِّ المُصطنَع». لقد كان صوت رجلٍ عادي قضى وقتًا طويلًا في صحبة سادة الطبقات الراقية، ويسعى إلى تقليد نبرتهم دون أن يُحاول اكتساب مفرداتهم.

قال له بلاك: «تستطيع التكلم بحرِّية يا سيد فارمر؛ فهذا الرجل مؤتمن على أسراري. وكلانا مهتمٌّ بهذه المنظمة السخيفة. أعرفُ أنَّك تركت العمل لدى السيد ولكنسون ديسبارد، أليس كذلك؟»

أومأ الرجل، قال مع كَحة قصيرة تدلُّ على شعوره بالإحراج: «بلى يا سيدي. لقد تركتُه يوم أمس.»

«حسنًا، وهل اكتشفتَ هوية الرابع؟»

تردَّد الرجل، وقال: «لستُ متيقنًا يا سيدي. من الأمانة أن أقول إنني لستُ متيقنًا تمامًا، لكنِّي أظنُّ أنَّك تستطيع الاعتماد على أنَّ الرجل الرابع هو هوريس جريشام.»

قال بلاك: «إنك لم تَقُل ذلك حتى اقترحتُ الاسم بنفسي.»

لم يرتبك الرجل إطلاقًا من التشكيك الكامن في هذه العبارة. كان صوته هادئًا وهو يردُّ قائلًا: «أعترفُ بذلك يا سيدي، لكنِّي كنتُ أعرف الرجال الثلاثة الآخرين، أما الرابع، فلم أكن أعرف عنه أي شيء. كان يجيء إلى بيت السيد ديسبارد في وقتٍ متأخِّر من الليل، وكنتُ أُبلِّغه إذن سيدي بالدخول، لكنِّي لم أر وجهه ولم أسمع صوته قَط؛ إذ كان يتَّجه إلى غرفة مكتب السيد ديسبارد مباشرة. وإذا عرفت تصميم البيت من الداخل، فستُدرك أنَّ سماع أيِّ شيء يكاد أن يكون مُستحيلًا!»

سأله بلاك: «كيف عرفت أنَّ هؤلاء الرجال هم «الأربعة»؟»

قال الآخر وقد بدا عليه الانزعاج: «حسنًا، الحق يا سيدي أنَّ الخدم عادةً ما يكتشفون بعض الأشياء؛ كنتُ أتنصَّت.»

«ومع ذلك لم تعرف هوية القائد قَط؟»

«لا يا سيدي.»

«هل اكتشفتَ أيَّ شيء آخر لا أعرفه؟»

قال الرجل بلهفة: «نعم يا سيدي. اكتشفتُ قبل تركِ العمل لدى السيد ديسبارد أنَّهم يستهدفونك. هذا مصطلحٌ قديم في الجيش يعني أنَّهم قد أدرجوك ضِمن قائمة مَن سيُعاقبونهم.»

قال بلاك: «آه، يَعتزمون معاقبتي، أحقٌّ هذا؟»

«لقد تنامى ذلك إلى سمعي في الليلة الماضية. حسنًا، تتألَّف الاجتماعات عادةً من أربعة أشخاص، غير أنَّ الرابع نادرًا ما كان يظهر إلَّا إذا كان يوجد شيء يجب أن يفعله. لكنَّه دائمًا ما يكون هو الروح التي تقودهم. هو الذي يُوجِد لهم الأموال عند الحاجة إليها. هو الذي يُوجِّه «الأربعة» إلى مهامِّهم المختلفة. وهو الذي دائمًا ما يختار الأشخاص الذين يستحقون العقاب. وقد اختارك يا سيدي. لقد اجتمعوا الليلة قبل الماضية، وكانوا يتحدَّثون عن أشخاصٍ مختلفين، وسمعتُ اسمك.»

«كيف استطعت أن تسمعهم؟»

«كنتُ في الغرفة المُجاورة يا سيدي. توجد غرفةٌ لتبديل الملابس تؤدي إلى خارج غرفة السيد ديسبارد، حيث كانت تُعقد هذه الاجتماعات، وكانت لديَّ نُسخة من المفتاح.»

قام بلاك كأنه يَهمُّ بالرحيل.

تساءل السير آيزاك الذي كان يُصغي إلى حديثهما: «يبدو مؤسِفًا أنَّك تركت ذلك الرجل. هل تحدثوا عنِّي من قبل؟»

قال الخادم باحترام: «لا أعرفُ اسمك يا سيدي.»

فقال البارونيت فورًا: «لا، ولن تعرفه أبدًا بالتأكيد.»

قال الرجل: «الآن أيها السيدان وقد فقدتُ وظيفتي، فإنني أرجو أن تفعلا كل ما بوسعكما لتُوفِّرا لي وظيفة أخرى. وإذا كان أيٌّ منكما أيها السيدان يُريد خادمًا جديرًا بالثقة.»

قالها وهو ينظر مُستفسرًا إلى السير آيزاك؛ إذ رأى أنه الأقدرُ بين الاثنين على تشغيله لديه.

فقال الآخر بحِدَّة شديدة: «ليس أنا؛ فأنا أصلًا أجدُ صعوبةً في حفظ أسراري دون أن يكون لديَّ أيُّ رجل لعين مُتنصِّت على الأبواب يتجسَّس علي.»

لم يبدُ أنَّ الرجل الذي وُجِّهَت إليه هذه الكلمات قد تألَّم كثيرًا من فظاظة الآخر؛ إذ اكتفى بأن أحنى رأسه ولم يرُد.

أخرج بلاك محفظة مسطَّحة من جيبه الداخلي وفتحها وأخرج منها ورقتين نقديتين.

قال: «هاك عشرين جنيهًا، وبذلك يصبح إجمالي ما أخذته مني ٢٢٠ جنيهًا. والآن، إذا استطعت اكتشاف أيِّ شيءٍ آخر يستحق المعرفة، فلن أمانع في جعل المبلغ يصل إلى ٣٠٠ جنيه، لكنه يجب أن يكون شيئًا قيِّمًا. احفظ الود مع الخُدَّام الآخرين. فأنت تعرف بقيتَهم. هل يوجد أيُّ سبب يمنعك من العودة إلى الشقة؟»

«لا يا سيدي، لقد طُرِدتُ بسبب الإهمال فقط.»

قال بلاك: «جيد جدًّا. تعرفُ عنواني وتعرف أين تجدني. إذا جَدَّ أيُّ جديد، فأخبرني.»

«حسنًا يا سيدي.»

قال بلاك وهو يهمُّ بالرحيل: «بالمناسبة، هل يفكر «الأربعة» في فعلِ أيِّ شيء قريبًا؟»

قال الرجل بلهفة: «لا يا سيدي. أنا مُتيقنٌ جدًّا من ذلك؛ فقد سمعتهم يناقشون مدى صواب فكرة الافتراق؛ ذلك أنَّ أحدهم يرغب في السفر إلى القارة شهرًا، ويريد آخر الذهاب إلى أمريكا ليتدبر شئون أرضه التي قد يكون في باطنها بعض المعادن. بالمناسبة، لقد اتفقوا على أنه ما من شيء ضروري يستدعي لقاءهم على مدار شهرٍ قادم؛ ولهذا قد استنتجتُ أنَّهم لن يفعلوا شيئًا طوال هذه المدة.»

قال بلاك: «ممتاز!» ثم صافح الخادِم وغادَر.

قال له السير آيزاك وهما عائدان إلى سيارة الأجرة: «ما أبغض أن يكون لدى المرء رجل كهذا في المنزل.»

قال بلاك بحسٍّ فُكاهي: «نعم، لكنه ليس منزلي، بل إنني لا أشعر بأي حرج حيال فعل ذلك.» وأضاف بشيءٍ من الفضيلة: «صحيحٌ أنني لا أَستحسِنُ سؤال الخدَّام عن معلومات بشأن أسيادهم وسيداتهم، لكنَّ هذا السلوك يكون مُبرَّرًا تمامًا في بعض الأحيان.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤