الحنين إلى بحري

«ليس بلدٌ بأحقَّ بك من بلد، خير البلاد ما حملك»

الإمام علي بن أبي طالب

حين خرج الرسول مُهاجرًا من مكة إلى المدينة، تطلَّع إلى البيت الحرام بنظرات حُب، ثم قال مُخاطبًا مدينته المقدسة: «والله إنك لأحبُّ أرض الله إليَّ، وإنك لأحب أرض الله إلى الله. ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت». وفي الحديث الشريف «الخروج من الوطن عقوبة». وقال عمر بن الخطاب «لولا حُب الوطن لخرب البلد السوء». وروى الدينوري عن الأصمعي قوله: قالت الهند: ثلاثُ خصالٍ في ثلاثة أصناف من الحيوان … الإبل تحنُّ إلى أوطانها وإن كان عهدها بعيدًا، والطير إلى وكرِه وإن كان موضعه مُجدبًا، وإنسان إلى وطنه وإن كان غيره أكثر له نفعًا. وقال الأصمعي: سمعتُ أعرابيًّا يقول: إذا أردتَ أن تعرف الرجل، فانظر كيف تَحنُّنُه إلى أوطانه وتَشوُّقُه إلى إخوانه، وبكاؤه على ما مضى من زمانه. وقال الشاعر العربي لمحبوبته: «سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا». والمثل يقول: «لا يعرف القُرب إلَّا من ابتعد». وثمَّة العديد من الكتُب التي جعلت الوطن محورًا لها: حنين الإبل إلى الأوطان لربيعة البصري، حب الوطن، والحنين إلى الأوطان للجاحظ، الشوق إلى الأوطان للسجستاني، حب الأوطان لأبي الفضل أحمد بن طاهر، الحنين إلى الأوطان للكسروي، الحنين إلى الأوطان لابن إسحاق الوشَّاء، أدب الغرباء للأصفهاني، المناهل والأعطاف والحنين إلى الأوطان للرامهرمزي، الحنين إلى الأوطان للتوحيدي، النزوع إلى الأوطان للسمعاني، وغيرها.

•••

لفيكتور هوجو مقولة طريفة: «عندما كنتُ صغيرًا، تمنَّيتُ أن أكون كبيرًا، فلمَّا كبرتُ عاودني الحنين إلى شبابي».

ويروي عباس خضر في ذكرياته أنه رأى شابًّا في قطار الصعيد يَبكي. سأله: مالك؟

– الغربة!

– أية غربة؟ وإلى أين أنت ذاهب؟

– إلى أسيوط. نقلوني إلى أسيوط. منهم لله!

ويقول الشاعر الإنجليزي وليام وردورث «الطفل أبو الرجل»، أي أن فترة الطفولة تترك تأثيراتٍ في فترات عُمر الإنسان التالية، لا تُفارقه، وتظلُّ مخزونًا يُفيد منه إذا كان مبدعًا. وفي رائعتِهِ القصيرة على مَن يقع اللوم يعتذِر بلزاك عن الإسهاب الذي تناول به مَعالم الشارع الذي تدور فيه أحداث القصة، فقد كان الحنين إلى الشارع الذي شهِد طفولة بلزاك هو الدافع لكل ذلك الإسهاب. المكان الذي أمضى فيه المرء طفولته — والقول لبرجسون — هو الفردوس المفقود، وهو يظلُّ في حياة صاحبِهِ كأنه ماسة في عنق الأبدية. وقد تتعدَّد الأماكن التي يُقيم فيها الإنسان، ولكن يظلُّ لمكان الطفولة تفرُّدُه، وسَمتُه الخاص، وحميميتُه المُطلقة. ويقول فوكنر: «أستطيع أن أكتُب عن قريتي وأنا خارجها دون توقُّف على الإطلاق». وحين سُئِل جابرييل جارثيا ماركيث: لماذا لا تعيش في وطنك كولومبيا؟ أجاب: مَن قال إني لا أعيش في كولومبيا؟ لقد غادرتُ الوطن، لكنَّني ما زلتُ أحيا في كولومبيا! بل إنَّ ماركيث يؤكد — في بساطة — أنَّ «مائة عام من العزلة» و«خريف البطريرك» و«قصة موت معلن» و«الحب في زمن الكوليرا»، جميعها جاءت من الحنين. وكان باعث الرواية الأولى لإيزابيل الليندي «بيت الأرواح» هو الحنين «الرغبة في استعادة العالم الذي فقدتُه بعد أن اضطُررتُ لمغادرة وطني والعيش في المَنفى». وكما يقول ميشيل بوتور، فعندما يكون المرءُ بعيدًا عن وطنه، وقد أسرَتْهُ الأماكن التي كان يحلُم بها، فإنه يحلُم بوطنه، ويشعُر بحنينٍ إليه، ويظهَر له بألوان الطيف. ولعلَّنا نَتبيَّنُ التأثير الإيجابي للحنين إلى المكان، إلى الموطن والوطن والنشأة، في إبداع جوجول روايته «النفوس الميتة» فترة إقامته في روما، وإبداع تورجنيف كل رواياته وهو بعيد عن الوطن، وإبداع ديستويفسكي أجمل رواياته في مدينة دريسدن. ولعلِّي لا أجِدُ مبالغةً في قول باسترناك — تعبيرًا عن الحنين — إنه موجود في الحياة فقط، لأنه يأمُل برؤية أهله وإخوته الذين هاجروا إلى المَنفى، حتى لقد سُمَّى نفسه «عضو العائلة بالمراسلة».

•••

الحنين إلى الماضي، إلى الزمان والمكان، تُكوِّن أساسًا في طبيعة الإنسان المصري، في شخصيته. وتُعد قصة سنوحي أول عملٍ إبداعي عن الحنين إلى الوطن. سنوحي الوزير الأول للفرعون. فرَّ من تُهمة ظالمة إلى أرض الشام. تواصلت أيامُه هناك في هناءةٍ وسعادة. وكانت الصحراء الشاسعة تُردِّد أغنياتِه وقصائده وأنغامه العذبة، حتى وصل صداها إلى شواطئ النيل، وردَّدها المصريون في كل أنحاء الوادي، لقرونٍ خمسة متوالية. لكن سنوحي ظلَّ على حنينه إلى وطنه وحبيبته تيكاهيت، يُغني لها الألحان الجميلة على قيثارته ونايه: «أيها الإله العظيم، يا من أمرتني بالهروب، وحمَيتني بالغربة. كن رحيمًا، وأعِدني ثانيةً إلى قصر الملك لأرى المكان الذي يسكن فيه قلبي، وأن تُدفن جثتي في الأرض التي وُلدتُ فيها، وخرجتُ منها، وبقُرب من أحببت». وظلَّ سنوحي على حنينه وأملِه في العودة إلى وطنه، حتى عفا عنه الفرعون سنوسرت، بعد أن تأكَّد أن فرار سنوحي من وطنِه لم يكن إلَّا للخوف على حياته من التآمُر.

•••

أثق أن «الحنين» كان هو الباعث لكتابة محمد حسين هيكل روايته زينب، والأعمال الأولى للحكيم. النظر إلى الوطن من بعيد، كالنظر إلى الماضي تمامًا، ينبض بالحنين، يتطلَّع بالمنظار الوردي، يُهمل السلبيات فلا يشغل الصورة إلَّا كل ما هو رائع ومُشرق وجميل. وربما الْتمع الدمع في العينَين لحديثٍ عابر، وانثالت عشرات الصور والذكريات.

لو أنَّ محمد حسين هيكل ظلَّ في مصر، ولم يُسافر إلى باريس للدراسة، هل كان يكتُب روايته الرائدة زينب؟ ولو أنَّ توفيق الحكيم تقدَّم لنَيل الماجستير، فالدكتوراه، في مصر، ولم يُحاول الحصول عليهما في السوربون، هل كان يُهمل الهدف الذي سافر من أجله، ويكتب — في شبه تفرغ — عودة الروح، وعصفور من الشرق، وزهرة العمر؟

زينب — كما يقول هيكل — «ثمرة حنين للوطن وما فيه، صوَّرها قلَم مُقيم في باريس، مملوء — مع حنينِه لمصر — إعجابًا بباريس، وبالأدب الفرنسي». ويقول هيكل في تقديمِه للرواية إنه «لولا هذا الحنين، ما خطَّ قلمي فيها حرفًا، ولا رأت هي نور الوجود». اختلط في نفسه الولع بالأدب الفرنسي بحنينِه العظيم إلى مصر. وكان من ذلك — على حدِّ تعبيره — أن همَّ بتصوير ما في نفسه من ذكرياتٍ لأماكن وحوادث مصرية. ويذكر أنه بدأ في كتابتها بالعاصمة الفرنسية في إبريل ١٩١٠م، وفرغ منها في مارس ١٩١١م، وإن كتب أجزاءً منها في لندن وفي جنيف أثناء الإجازة الصيفية. ثم دفع بها إلى المطبعة في ١٩١٢م. أما توفيق الحكيم فهو يتساءل: «هل من الشعور الطبيعي للإنسان أن يتوهَّج فيه الحنين لوطنه كلما زاد بعده؟ … كل الذي أعرفه أنَّني لم أعش داخل بلدي بحرارةٍ وقوةٍ وحبٍّ للوطن مثلما عشتُ في الوقت الذي كنتُ فيه بعيدًا. هناك في باريس، حوالي سنة ١٩٣٦-١٩٣٧م، أدَّي بي التفكير إلى استعادة أعنفِ ما مرَّ بي منذ ثماني سنوات، أي فكرتُ في ثورة مصر سنة ١٩١٩م، عادت إليَّ وأنا في الغربة بكلِّ عنفٍ مشاعرها، بكلِّ ما فيها من ذكريات، بكلِّ ما حاطها من ظروف وملابسات. وفي الغربة — حيث يُصبح كلُّ شيءٍ مُجسَّمًا والمشاعر أشد احتدامًا، والحنين في أعلى درجة حرارة — هناك بدأتُ أجسِّد هذه المشاعر الوطنية تجسيدًا فنيًّا واقعيًّا. وكان هذا هو مبدأ عملي في عودة الروح». حمل الحكيم مصر معه إلى باريس، وكتب فيها عودة الروح التي تُعَد — رغم تقضِّي الأعوام — عملًا طازجًا وجيدًا، وإن أدار فيها حوارًا مُصطنعًا بين إنجليزي وفرنسي، أكَّد فيه عظمة هذه المعشوقة الغالية، البعيدة: مصر! ويتحدَّث يحيى حقي عن الأعوام التي أمضاها في السلك السياسي المصري خارج البلاد: «لم أنقطع عن التفكير في بلادي وأهلها. كنتُ دائم الحنين إلى تلك الجموع الغفيرة من الغلابة والمساكين الذين يعيشون برزقِ يومٍ بيوم». ومع أن الكاتبة المصرية المولد والنشأة أندريه شديد قد استوطنت فرنسا منذ سنوات، فإن الحياة المصرية هي نبض غالبية أعمالها، يدفعها — باعترافها — ذلك الحنين الشاعري نحو بيئتها الأولى وناسها الأصليين!

•••

الإحساس بالغربة بعيدًا عن الوطن، والحنين — في المقابل — إلى الوطن، يَنطلِقان من الأمثال الشعبية «الغريب أعمى ولو كان بصير» … «من خرج من داره اتقل مقداره» … «الغربة طربة تقل بالأصول» … «البطيخة ما تكبرش إلا في لبشتها» … إلخ. فإذا أُثير حديث الرحيل، قال المثل: «رب هنا رب هناك»

اللافت أنَّ مُعظم الأعمال الإبداعية تصدُر عن حنينٍ إلى الزمان أو المكان، أو إليهما معًا. وإذا راجعتَ معظم ما كتبت من إبداعات، فإنها محاولة للسَّير فوق ذلك الجسر المُسمَّى الحنين إلى عوالم مكانية وزمانية …

الحنين إلى المكان حالة يُسمِّيها علماء النفس «النوستالجيا»، بمعنى الافتقاد، أو الحنين. وكان الشعراء العرب القُدامى يُكررون ذِكر أسماء الأماكن في قصائدهم، كأنها أسماء من يُحبُّونهم. أُذكِّرك ببيت الشعر القائل:

قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزل
بسقط اللوى بين الدُّخول فحومل

الحبيب والمنزل في بيتٍ شعري واحد، لحظة حنين واحدة.

تبدو الشوارع والميادين والحدائق والأبواب أضيقَ ممَّا تعِيه ذاكرتي. أقف أمام البيت رقم ٥٤ شارع إسماعيل صبري. أشعر أني كنتُ هنا من قبل، وأن صداقتي قديمة لهذه البناية. كنت أجلس — في المدخل — على دكَّة عمِّ أحمد البواب (كيف كانت هذه المساحة الضيقة تسَعُني؟!) أصعد السلالِم إلى الطابق الثالث، أنظر من النوافذ ما بين الطوابق إلى الشارع الخلفي، أو إلى مئذنة سيدي علي تمراز، أدخل الشقة ذات الصالة والحجرات الثلاث، تُطل واجهتها على شارع إسماعيل صبري، وتُطل — من ناحية — على شارع فرنسا وشارع رأس التين، ومن الشرفة الخلفية على ميدان الخمس فوانيس وشارع رأس التين، يلتقي الميدان بشارع الأباصيري المُفضي إلى ميدان أبي العباس، وشارع محمد كريم (التتويج)، ويتَّجه الشارع — من ناحية — إلى شارع سراي مُحسن باشا، ومنه إلى الكناني والموازيني، ومن ناحية ثانية إلى الموازيني والحجاري والمسافرخانة وأبو وردة، وباب الجمرك رقم واحد.

لا أذكر من كلام أبي عن ساكن الطابق الأول — يمين السُّلم — الطبيب الأرمني مردروس، أنه كان يُعالج نوعًا مُحددًا من الأمراض، مرضاه ما بين الأطفال والشيوخ، إذا مرض أحدُنا فإنه يتردَّد على مردروس، بصرف النظر إلى سنِّه. ثم عاد الطبيب الأرمني إلى بلاده أرمينيا قبل أن أبلُغ العاشرة. حاولتُ أن أخمِّن البواعث في روايتي «صيد العصاري»، حصلت أرمينيا على استقلالها، فعاد المهاجرون من مُدن الشتات إلى بلادهم. استأجرَتْ شقة الطابق الأول أُسرة مصطفى أفندي (لا أذكر بقية الاسم)، وكان مُوظفًا بديوان محافظة الإسكندرية. ظنِّي أنه كان وثيقَ الصلة بأصوله الريفية، ذلك ما لاحظتُه في الزيارات المتوالية لرجال ونساء يرتدون ثيابًا ريفية، ويحملون الأقفاص والقُفَف. بدأت صداقة أبي ومصطفى أفندي منذ هبط الجار الجديد إلى قهوة المهدي اللبان أسفل البيت، موقف يُشابه نشوء العلاقة بين عبد الله الكاشف في روايتي «البوصيري» (رباعية بحري) وجلساء القهوة. وعرفت — بعد وفاة أبي — أنه كان يخصُّ جاره وصديقه بأسرارٍ شخصية للغاية. الشقة المُقابلة لأسرة الأستاذ سليمان الموظف المُهم في مصلحة البريد (لجأ أبي إليه في مراتٍ كثيرة، كي يُرسِل طرودًا إلى عمَّتي وعمِّي في القاهرة، بنظام «من الباب إلى الباب»، وهو خدمة بريدية مُهمة، أُلغِيَت لأسبابٍ غير مفهومة، وإن سهل فهمها في السياق المُجتمعي العام!) وكان الرجل أبًا لأربع بنات، اثنتان تكبُرانني في السن، واثنتان أصغر منِّي، وإن لم تُفرِّق مناوشة هواجس البلوغ في نفسي بين بنتٍ وأخرى. رحلت أسرة عبده فرج الصبروتي من الشقة المجاورة للسلم، إلى شقةٍ في شارع سيدي منصور خلف فرن حبيب، ثم رحلت إلى شقة في شارع الميدان. كان رب الأسرة مقاولًا وتاجرًا في العقارات، يسكن في شقة بآخر البنايات التي يُشيِّدها، ثم ينتقل إلى شقة في بنايةٍ حديثة أخرى، وهكذا. شقة الصبروتي في شارع سيدي منصور هي المكان البطل في روايتي «زمان الوصل». سكن الشقة أستاذ بكلية الطب اسمه النجار، لم يكن لدَيه أبناء، وكانت زوجُه التي تصغُرُه بسنواتٍ منطويةً على نفسها، بعكس شقيقته التي كانت تُماثلها في السن، لكنها كانت تملك جرأةً وقدرة على الاقتحام، تشجَّعتُ — بتحريض مُعلَن — فحاولتُ تقبيلها، وأرجعَتْ تملُّصها إلى مشروعاتي الجنسية الفاشلة، الكثيرة. أذكُر أن النجار هو الذي تابع الحالة الصحية لأُمي بعد أن اشتدَّ عليها مرض القلب، وهو الذي أنبأ أبي بقُرب رحيل أُمي، فلا بأس من أن تشرب كمية الماء التي تطلُبها. الشقة المقابلة في الطابق نفسه، أشرتُ إليها في سيرتي الذاتية الروائية «مد الموج». أسرة يهودية عزلت نفسها في «جيتو» حتى فُوجئ سكان البيت بخلوِّ الشقة (عرفنا — فيما بعد — أن الأسرة رحلت إلى فلسطين). حلَّت في الشقة أسرة أخرى مُسلمة، سيدة وابنان وثلاث بنات، مثَّلت صغراهنَّ في مُراهقتي حلمًا رومانسيًّا جميلًا، أجهضَتْه سذاجتي، وعبث أصدقاء صباي، وهو ما شكَّل لوحة في «مد الموج».

لم أتصوَّر أن في حياة أسرة عمِّ سيد (الطابق الرابع) ما يُجاوز المألوف، أسرة من ولدٍ وابنتَين، تمامًا مثل أُسَرٍ أخرى كثيرة، في البيت، وفي الدنيا كلها. الزمن هو ما لم أفطن إليه في تلك الأعوام الباكرة من طفولتي، انتقال عمر المرء — رجل أو امرأة — من الطفولة إلى الصبا، فالشباب، فالكهولة، فالشيخوخة. وكان عم سيد شيخ الأسرة، وإن اقترب أبناؤه من التسمية بوقوفهم على حافة غروب الكهولة. أزمع الابن الأكبر أن يُرجئ زواجَه، حتى تتزوَّج أختاه، لكنَّ الأعوام توالت دون أن يطرُق الباب خاطب. وتبينت الأسرة — عادة الزمن! — أن سِن الزواج قد فات، ربما ليس للابن الذي قارب المعاش، فالرجل — في بلادنا — يجد الزوجة الصالحة — والتي قد تصغرُه بعشرات السنين — في كل الأحيان. أما المرأة التي تُجاوز الثلاثين، فإنها قد تُوافق على الزواج من أرمل، له أبناء، أو عجوز مأربه الأهمُّ فيها أن تُمرِّضه، وتُحسِن رعايته، حتى تأتي اللحظة التي تغمض فيها عيناه!

اتجه أبي بابتسامته إلى الناحية المُقابلة، حين فسَّر عم أحمد البواب عزوف الابن الأكبر بسببٍ غير انتظار زواج الأختَين، عشقته جنِّية — يرى عم أحمد طيفها الليلي — ومنعته من الزواج!

فسَّر لنا أبي — فيما بعد — رواية عم أحمد، بأن الرجل ضاق بتقتير الأسرة، فهي تكتفي بالأجر الشهري الذي يتقاضاه من صاحِب البيت!

أستعيد الآن ظروف الأسرة: هل أثَّرت عدم اجتماعية الابن الموظف بمصلحة الجمارك على مصير الأختَين، فلم يزُره أحد، يُطالع ما يدعوه إلى طلب قراءة الفاتحة؟

ما أذكره أن أولاد البيت وبناته كانوا هم زوَّار الشقة، يجدون ترحيبًا من الأختَين، يشمل مشاركتهم اللعب، وترديد الموروث من أغنيات الطفولة، وتقديم العصائر الباردة من الثلاجة الخشبية.

كان قدوم الطبيب الأرمني إلى عيادته في الطابق الأول يعني انصرافنا إلى حيث ألقت. لا أذكر أن أُسرة عم سيد شهدت من الأحداث ما يستدعي إنهاء إقامتنا شِبه الدائمة في الشقة. كانت أسرة منطوية على نفسها بامتياز. لعلَّ هذا هو السبب في إقامة العنوسة داخل الشقة، تأكل وتشرب وتنام، وتحرص على إغلاق الباب والنوافذ والشرفات!

أذكر أن المشكلة نفسها ناقشها أبي وأمي في دردشاتهما، عن شقة الدخاخني المُقابلة: الزوجين وأبنائهما الثلاثة، شابٍّ وفتاتَين. كانت أُمي تهمس بإشفاقها من الزمن الذي يكاد يمضي بعيدًا، فلا تلحَق البنتان سِن الزواج. ماتت أُمي، ثم مات أبي، وانتقلت أُسرة الدخاخني — بعد وفاة الأبوَين — إلى القاهرة (في روايتي «زمان الوصل» تأمَّلتُ ما تصير إليه حياتنا بفعل الزمن!) وعرفت — من أصدقاء — أن البنتَين قد تزوَّجتا، بعد أن جاوزتا — في تقديري — سِن الإنجاب!

•••

ظنِّي أن موقع البيت — ٥٤ شارع إسماعيل صبري — كان له دَورُه المُهم في تخلق وعيي بصورةٍ طيبة، قُربه من أبي العباس، وامتداده إلى المنشية ومحطة الرمل وأحياء المدينة الأخرى، أتاح للجلوات أن تخترقه من شارع الأباصيري، كما كانت المظاهرات السياسية ومواكب المسئولين القادمة من باب الجمرك رقم واحد تأتي من شارع أبو وردة، أو شارع رأس التين.

تابعت — من شرفة البيت — مواكب العودة من أوروبا لمصطفى النحاس وفؤاد سراج الدين وغيرهما من القادة السياسيين، وأشرتُ في روايتي «النظر إلى أسفل» إلى حشود المُتظاهرين القادمة من ناحية الجمرك (لا أذكر نقطة البداية على وجه التحديد) تلاقت سواعدهم، وانتظمت خطواتهم، وعلَتْ أصواتهم بنشيد سيد درويش: بلادي، بلادي، فداك دمي. كما شاهدتُ انسحاب القوات الإنجليزية من ثكناتها في رأس التين إلى ثكنات مصطفى باشا (مصطفى كامل) ومنها إلى منطقة القناة. اجتذبتني حوارات أبي وأصدقائه حول صورة الحياة السياسية في العالم بعامة، والحياة السياسية في مصر بخاصة، ومثلت إضافةً مهمةً لوعي صبيٍّ يتشكل بالدهشة والأسئلة والبحث عن المعاني الصحيحة.

•••

كان الشارع الخلفي، الواصل بين البيت وجامع علي تمراز، هادئًا في معظم أوقات اليوم، لا يصخب إلا عندما نتخذه ملعبًا للكرة (كاوتش أو شراب) أو نُجري فيه سباقات العدو (تقتلني الحسرة لأني تخلَّيتُ عن عادتي في الفوز بالمركز الأول!) ولم تكن صِلتي بالشارع مقصورة على اللعب. كنتُ أتردَّد على صديقي الصنايعي في دكان الترزي أسفل بيتنا، نتبادل القراءات، ونطرح الأسئلة، ونتناقش. وأغراني هدوء ليل الشارع على ارتكاب حماقاتٍ ساذجة، استدعيتُها في «رباعية بحري».

وفي أيام الأعياد وصلاة الجمعة، كانت الحُصُر تمتدُّ من الميدان إلى الشوارع الجانبية، والشارع الخلفي من بينها، ثم يعود — بعد أداء الصلاة — إلى هدوئه. ورغم أنه كان متصلًا بشوارع كثيرة، فإن الهدوء ظلَّ ميسمًا له حتى تركت الإسكندرية. وفي زياراتي إلى بحري، لاحظتُ أن أجيال الحفدة لم تعُد تلعب — لا أعرف السبب — في الشارع الخلفي.

مثَّلَت وقفة البيت المُتفردة بين أربعة شوارع (إسماعيل صبري ورأس التين وفرنسا والشارع الخلفي)، فضلًا عن إطلالة السطح على شِبه جزيرة بحري، مَعلمًا لا تُخطئه العين، ولا تُخطئه الملاحظات كذلك، فهو البيت الواقف بمُفرده. وظل الموقع الجميل مبعث اعتزازنا، حتى فوجئنا — ذات صباح — بالبدء في إزالة مجيرة عم عباس المجاورة (هي المجيرة التي شهِدت في رباعية بحري علاقةً جسدية بين أنسية والشيخ حماد) ووضع أساسات بناية جيدة، ما لبثت أن علَت حتى جاوزت بيتنا في ارتفاعه.

•••

عندما أكون خارج مصر، فإن الحنين يدفعني إلى استحضار الملامح المألوفة، واللهجة، إلى الحياة فيها ومعها، تذكَّر التفصيلات الصغيرة، والتافهة. ضغطة الزِّر في اللهجات المصرية، وصوت الناي، وتلاوة محمد رفعت وأبو العينين شعيشع، وغناء أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم وبدارة وعزت عوض الله، ورقصات سيد حلال عليه، ولوحات محمود سعيد، وروايات نجيب محفوظ، وقراءات فاروق شوشة في الإذاعة، والأفلام المصرية في التليفزيون. وثمَّة الإسكندرية. إنها — عندي — ليست مُطلقة، بل تتحدَّد في ذكرياتٍ شخصية وأماكن وبشَر. بالتحديد حي بحري، ناسه ومساجده وميادينه وأسواقه وشوارعه وأزقَّته وتميُّز الحياة فيه. الإسكندرية في داخلي أينما ذهبت، وإن كنتُ أنتمي — بمشاعري وذكرياتي — إلى بحري، إلى تلك المنطقة التي تبدأ من ميدان المنشية، وتنتهي في سراي رأس التين، أو العكس. أشرتُ في «مد الموج» إلى النسائم المُحمَّلة بروائح الملح واليود والأعشاب والطحالب، تلامس أنفي في مكانٍ ما، في لحظةٍ ما، على شاطئ الأطلسي، خورفكان، شاطئ الكورنيش بمطرح، فوق تلال الجزائر، حي البوسعيد التونسي … أستعيد الرائحة نفسها، على شاطئ الكورنيش، في المينا الشرقية، أو في الأنفوشي. يغلبني الشوق إلى ملء رئتي من هواء بحري، تصنعه تيارات من البحر الذي يُحيط بمعظم جوانبه.

وصف إدوار الخراط سكندريتي بأنها بحري، ظنِّي أن ما قاله ينطوي على الحقيقة، فإذا كنتُ أنتسِب — بالانتماء القومي — إلى الوطن العربي بتعدُّد أقطاره، وإذا كنت أنتسب — بالانتماء الوطني — إلى مصر بتعدُّد أقاليمها، فإني أنتسب إلى بحري، الموطن/الوطن الذي صار في حياتي تجسيدًا للإسكندرية.

سافرتُ إلى مدن كثيرة داخل مصر وخارجها، لكن وجداني لم يترك الإسكندرية — وبحري بخاصة — في أي وقت. أنا دائم الوجود فيه بالحنين والشوق واستعادة الذكريات والمقارنة والكتابة عن الوقائع والأماكن والشخصيات.

جغرافيًّا، قد أكون بعيدًا عن بحري بمئات، أو آلاف الكيلو مترات، لكنَّني أعيش في بحري، أسير في الشوارع والحواري والأزقة، أؤدي الصلوات في المساجد، أُذاكر في صحن أبي العباس، أشاهد الموالد، أزور الأضرحة والمقامات، وأقرأ الفاتحة، أندس وسط حلقات الذكر، أخترق زحام شارع الميدان، أقف على شاطئ البحر، أتابع عمليات صيد السنارة والطراحة والجرافة، أتردَّد على ورش القزق، أتابع تحليق الطائرات الورقية الملونة، أمد النظر إلى نهاية الأفق.

مع كثرة ما استمعت إلى صياح الديكة في مواضع من العالم، فإن ترامي الصوت ينقلني إلي بحري، بالتحديد إلى حجرة نومي في الشقة المُطلة على ثلاثة شوارع، يؤنسني صياح الديكة، وتسبيحات ما قبل صلاة الفجر، والأهازيج التي يعلو بها صوتٌ ألِفتُه، وإن لم أعرف صاحبه!

رغم انقضاء عشرات السنين على رحيلي من بحري، فإني أصحو — في الكثير من الأيام — على جلبة الطريق في ميدان الخمس فوانيس، ورائحة البحر، وأهازيج السحر، وجلوات الصوفية، وسوق العيد، ومواكب العرائس أسفل بيتنا. تختلط الذكريات والصور القديمة. أستغرِق لحظاتٍ قبل أن أعود إلي الآني.

لباشلار مصطلح الطوبوفيليا Topophilia، ومعناه محبة المكان. ثمة علاقة خاصة تربطني بالكثير من الأماكن في بحري، أسواق وشوارع وجوامع وحدائق وأضرحة ومقامات، فضلًا عن البحر الذي يطلُّ عليه بحري من جوانب ثلاثة. وبالطبع، فإن بحري — عندي — ليس مجرد المكان، إنه النشأة والذكريات واختزان ما يتَّصِل بالحنين، ما حاولت استعادته، وتوظيفه، في كتاباتي السردية.

بحري هو مدينتي، هو المدينة التي اختزنها وجداني، يُجاور أحياء أخرى، أعبرها، لكن بحري — حتى لو ابتعدت عنه — يحيا في داخلي. لا مكان يُزاحم بحري في نفسي، هو مغاير، متفرِّد، يحمل خصائص ومقومات يصعب أن أجدها في موضع آخر.

حين أخترق الزحام في ميدان أبو العباس، أو في شوارع بحري، فإن إحساسي بالوحدة يزول، أشعر بانتمائي إلى الأمواج المُحيطة بي، أنا قطرة تذوب في مياهه.

أي روح يكمُن في بحري؟ ما الذي أُحبه فيه؟ ما الذي يَجذبني إليه؟

لعلِّي أجد في الحي امتدادًا لبيتنا المُطل على أحد شوارعه، أتبادل السلام والتحية، أتردَّد على جوامِعه ودكاكينه وساحاته وأسواقه، أعرف الكثير من ناسه، الوجوه الطارئة، أو الحديثة العهد بالإقامة. البيئة — رغم اتِّساع الحي، بل ورغم أن كثافته السكانية محدودة، ومحددة. الطبقات من الوسطي فأدنى، المِهن المتصلة بحياة البحر، في السيالة والأنفوشي ورأس التين، الصيادين وغازلي الشباك وصغار الحرفيين والتجار. ليس في بحري شخصية استثنائية، ومُعتزة بخصيصةٍ ما، ناسه عاديون، يُمارسون مِهنًا، يحفظ عائدها حياتهم، تغيب — إلى حدِّ الندرة — أمراض الانتهازية والوصولية والتقافُز فوق أكتاف الآخرين. المسافة من انحناءة الطريق إلى المينا الشرقية، وموازاته في شارع محمد كريم (التتويج)، والامتدادات حتى المنشية مِهَن تجارية وحرة، أو ينتسبون إلى الكادر الوظيفي في مراتب مختلفة، الهجرة من الحيِّ وإليه قليلة، أو أنها معدومة، فالسِّحَن تبدو مألوفة، حتى السمات المعمارية لبنايات الحي تشهد تغيرًا بطيئًا، وغير ملموس. ما عدا ميدان أبو العباس الذي تضخَّمت عمارته بزعم توسيعه، فإن البيت الذي يلحَقُه الهدم يُبنى على المساحة نفسها ببيتٍ جديد، حتى الشوارع القديمة: الموازيني والحجاري والمسافرخانة وجودة وأبو وردة وصفر باشا وفرنسا وغيرها، لا تزال على حالها. بل إن تسميات الشوارع لم تتبدَّل على ألسنة الناس: سُمِّي شارع الميدان تعبيرًا عن الزحام الذي تصنعه حركة البيع والشراء، ثم أطلقت الدولة على الشارع اسم محمود فهمي النقراشي رئيس وزراء مصر الأسبق، بعد اغتياله في ١٩٤٨م، لكن التسمية الأولى ظلَّت كما هي، وظلَّ اسم إسماعيل صبري على الشارع الذي أُنشئ في أوائل الثلاثينيات، وكان الرجل محافظًا للمدينة، وعلى الرغم من أن الزعيم محمد كريم هو الاسم الذي يُطلَق الآن — رسميًّا — على شارع التتويج (نسبة إلى تتويج الملك فاروق ملكًا على مصر في ١٩٣٧م)، فإن التسمية القديمة هي التي يحرص عليها الناس. وشارع رأس التين لأنه يمضي إلى سراي رأس التين، والموازيني لأن جامع ولي الله على يمين الشارع في الطريق إلى أبو العباس. تحيَّرتُ في تسمية شارع فرنسا. لم أجد باعثًا لها في النوتة الصغيرة التي حدس صديقي الشاعر الراحل عبد الله أبو رواش أني ربما احتجتُ إليها في كتاباتي التي جعلت من فضاء بحري — بناياته، ميادينه، شوارعه — محورًا لها، ربما جاءت التسمية في مناسبة احتفالية، تخص فرنسا، أو أحد زعمائها. أُطلِق على الشارع — فيما بعد — اسم الشهيد كمال الدين صلاح، لكن التسمية ظلَّت — كالعادة — على حالها.

أحرص — في زياراتي إلى بحري — أن أخترق الشوارع الجانبية والأزقَّة والحارات. أُطيل التوقُّف والتأمُّل، أدرس علاقة المكان بالتاريخ السكندري، بالبشر الذين يعيشون فيه، أتأمَّل حتى ما قد يبدو هامشيًّا. العكس هو ما أفعله حين تدفعني الظروف للتردُّد على أحياء الإسكندرية الأخرى. أكتفي بالسير في الشوارع الرئيسة، لا أحاول الميل — إلا لضرورة — في الشوارع الجانبية، سَيرِي في بحري للتأمُّل واستعادة الذكريات. أما سَيري في الأحياء الأخرى فلِعَمل ما أسعى لإنجازه.

بحري — في لُغة أهل الإسكندرية — هو البلد. يُقال: أنا نازل البلد، المعني أنه سيذهب إلى بحري. هل لأنه الحي الأقدم في المدينة؟ هل لأنه الموضع الأصل قبل أن تنشأ الإسكندرية، وتتَّسِع، وتمتدَّ أحياؤها، وتأخذ صورتها الحالية؟

إذا نزلت البلد/بحري فإنك — غالبًا — سترحَل عنه وفي وجدانك بصماتٌ يصعُب أن تزول.

•••

سيرة بحري — منذ الطفولة إلى عامِي الثاني والعشرين — هي سيرتي الذاتية.

والحق أني حين أُغادر بحري أُعاني ارتباكًا وفقدانًا للاتجاه، أسأل بحثًا عن البناية التي — ربما — علَتْ أمامي، أو الشارع الذي — ربما — سِرتُ فيه. لم أكن أجاوز بحري إلَّا نادرًا، يَصحبني أبي، أو أحد أقاربنا، أو أضع تصوُّرًا مُحددًا للشوارع التي يجِب أن أخترقها، لا أميل إلى شوارع أخرى، ولو لإرضاء الفضول.

ولأن مدرستي الابتدائية، فالثانوية، في محرم بك، فقد حفظتُ الشوارع — بإرشاد أبي — جيدًا، لا أبدِّل المسار الذي يُعيدني إلى حكاية الحمار ما بين بيت خالتي نبوية (خالة أُمي) في دمنهور، والزراعات البعيدة. تابعتُه وهو يمضي في الشوارع الفسيحة والمدقَّات والطرق الترابية وفوق الجسور الصغيرة، حتى يصل إلى الأرض التي يملكها أبناء خالتي، فيقف، نهاية المشوار.

هذا هو حالي — فيما أظن — وأنا أمضي في شارع فرنسا، إلى ميدان محمد علي، ومنه إلى شارع شريف، أميل في اتجاه ميدان محطة الإسكندرية، إلى شارع محرم بك، حتى قُرب نهايته. أخترق — يسارًا — شارع المأمون، حيث تقع في أحد الشوارع المُتفرعة منه، مدرستي الفرنسية الأميرية. المشوار نفسه كنتُ أقطعه في التوجُّه إلى مدرستي، الإسكندرية الثانوية بشارع منشة. لا أذكر أني بدَّلتُ المسار لأي سبب، اللهم إلا للإفادة من مكتبة البلدية المُلاصقة لمدرسة الإسكندرية، في أوقات الفُسَح.

•••

حلمي الدائم — منذ أحببتُ الكتابة — أن أكتب عن الإسكندرية، عن حي بحري بخاصة.

حدثتُك في مقدمة كتابي «حكايات عن جزيرة فاروس» عن المساحة التي تبدأ بقصر رأس التين إلي ميدان المنشية، اسمها الرسمي حي الجمرك، أو قسم الجمرك، أما التسمية التي اعتاد الناس نطقها فهي: بحري. تشمل الكثير من الميادين والشوارع والحارات والأزقة، بالإضافة إلى الروحانية المُمثلة في الجوامع والزوايا وأضرحة أولياء الله ومقاماتهم والطُّرق الصوفية والموالد والأذكار، ما يصحُّ انتسابه إلى مدينة واسعة، فإنها تضمُّ العديد من شركات النقل والشركات الملاحية والمُستودعات، ويعمل غالبية أبنائها في الأنشطة المتعلقة بالميناء من نقل وتخزين واستيراد وتصدير وتفريغ، للسفن، وثمة فئات يرتبط عملها بالبحر الذي تطلُّ عليه المنطقة من ثلاث جهات، كالحمَّالين والصيادين والبحارة والعامِلين في الدائرة الجمركية، ودكاكين بيع أدوات الصيد، وتجَّار الأدوية البحرية.

البحر وصيادو السيالة وحلقة السمك وأولياء الله، حياة واحدة، عائلة واحدة. وأحيانًا، فإن الخاطر يلحُّ — حين يمرُّ الأوتوبيس أو المترو أمام محطة القاهرة — أن أُغادر مكاني وأتَّجه إلى القطار، فأسافر إلى الإسكندرية، حبيبةٌ أتوق للقائها كلما لاحت فرصة.

بحري ليس هو الحي الذي عشتُ فيه أعوام الطفولة والنشأة ومطالع الشباب. عندي هو الذكريات، هو الجوامع والمساجد والزوايا والأضرحة والميدان الواسع قبالة أبي العباس، قبل أن تبتلِعه العشوائية التي تعاوَن في تحقيقها محافظ سابق وعددٌ من رجال الأعمال. بحري هو سوق العيد الذي تلاشت ملامحه بعد أن حظرت التعليمات وجودَه، وهو أبواب الجمرك المفتوحة دون تصاريح دخول، ولا قوائم ممنوعين. وهو ما استقرَّ في داخلي من تعامُلات البشر والمُعتقدات والعادات والتقاليد والعبارات والمُفردات والحواديت الصغيرة التي تركت تأثيرات في النفس، وربما تركت ندوبًا على الجسد. غاب عن بحري علماء دين وتجار وفتوات وشيوخ صيادين، هم الذين منحوا بحري زمنَه الجميل. أذكر درس المغرب للشيخ عبد الحفيظ؛ إمام جامع سيدي علي تمراز، ووقفة أم البحرية عصمت محسن في شرفة فيلَّتها المُطلة على سراي رأس التين، والشيخ أحمد صاحب الكتاب في شارع فرنسا، أمضيتُ فيه عامًا أو أكثر من طفولتي، والرشيدي بائع المشروبات، وعم أحمد الفكهاني، والطيبين بائع البسبوسة. مع ذلك، فإن بحري عندي ليس مجرد البحر والشاطئ والجوامع والميادين والشوارع والبشر. إنه كائن له قسمات وملامح وذكريات وحكايات. حتى الجدران والبيوت والنوافذ تمثل — في داخلي — ذاكرةً أحيا معها، وبها. أمام البنايات الجديدة، الأسمنت، والنوافذ الزجاجية الضيقة، والطوابق القصيرة، وغياب النقوش والزخارف والمُقرنصات — حتى لو تشوَّهت، أو تساقطت! — يغيب إحساسي بالألفة والحميمية والدفء. يتناهى رفع الأذان من موضعٍ قريب، داخل مصر وخارجها. أستعيد صورة المؤذِّن في صعوده درجات السُّلم الحلزوني لجامع علي تمراز، يستقر في وقفته على البسطة الأخيرة، الصغيرة، ويرفع الأذان. هذه عندي هي صورة المؤذن باختلاف المواضع التي يرفع فيها كلمات الأذان، يتماهى التذكُّر — التذكُّر قائم — بالحنين إلى الإسكندرية، وبحري، وجامع علي تمراز، بما لكلِّ ذلك في نفسي من مكانة. لكثرة ما استمعتُ إلى صوت الأمواج وهي ترتطم بصخور الشاطئ في امتداد الميناء الشرقي، فقد أصبح الصوت مُلازمًا لي في رحلاتي خارج الإسكندرية. أستعيده، فيُعيدني إلى مدينتي، وإلى البحر والبلانسات وصيد الجرافة وحلقة السمك والسلسلة ومتحف الأحياء المائية وقايتباي وحاجز الأمواج في مدى الأفق.

بعيدًا عن بحري، سواء في القاهرة أو في المدن المصرية الأخرى، أو في خارج البلاد، فإني كنت أُجري ما يُشبه المقارنات بين بحري وغيره من المناطق التي قد تتَّسم بخصوصية، خصوصية بحري حافلة بالتنوُّع والخصوبة والثراء، بيئة ساحلية يختلِط فيها البحر واليابسة بحميمية مُعلنة، مفرداتها الصيادون والغزل وتجار الأسماك وتجار أدوات الصيد وعمال الميناء وعساكر السواحل وأفراد القوات البحرية والبحارة الأجانب والسياح، بالإضافة إلى المفردات الروحية المتمثلة في عشرات الجوامع والزوايا والمقامات والأضرحة، مشهد غير مُتماثل ولا مُتكرر، يمثل — بالنسبة لي في الأقل — حافزًا للتأمُّل وتوظيف البيئة في أعمالي الروائية والقصصية.

  • ألِفْتُ رائحة بحري: البحر واليود والطحالب والأعشاب والأسماك والقواقع والأصداف. أستعيد الرائحة إن ابتعدتُ عن بحري، تقتحم أنفي وكل كياني. استعدتُ الرائحة في سوق السمك بمطرح، على شاطئ الخليج، أمام ساحل الأطلسي، في شرفة فندق «باب البحر» المُطلة على كورنيش طرابلس الغرب، وأماكن أخرى كثيرة تحمل رائحة بحري، وإن كانت لا تحمِل ملامحه.
  • التعبير المُتوارث: من يشرب ماء النيل مرة واحدة فلا بد أن يعود إليه. أُضيف إليه: من يشمُّ هواء الإسكندرية فلن يسهُل عليه نسيانها.

أذكر أبيات مريد البرغوثي:

السمكة،

حتي وهي في شباك الصيادين،

تظلُّ تحمِل

رائحة البحر.

•••

المثل يقول: «نحن نحمل أوطاننا في غربتنا». والحنين خاصية مؤكدة القسمات عند المصري الذي تضطرُّه الظروف إلى ترك وطنه. حنين دائم، ومُتصل. يحنُّ إلى وطنه وموطنه — المدينة، أو القرية، أو الحي الذي يحيا فيه — وإلى أهله وأصدقائه، وإلى الذكريات الصغيرة.

في قصتي القصيرة أحمس يلقي السلاح يدندن البطل — دون تدبُّر — بمطلع الأغنية:

على بلدي المحبوب ودِّيني
زاد وجدي والبُعد كاويني

إنه نفس الحنين القديم الذي بلور أمنيات سنوحي في أمنية واحدة، أن يعود إلى بلاده ليموت فيها! وحتي الآن، فإني أُفضل — رغم انقضاء عشرات الأعوام على مغادرتي الإسكندرية بصورة عملية — أن تكون أعمالي تعبيرًا عن الحياة في بحري، هذا الحي الذي وُلِدتُ فيه، وأمضيتُ أعوام طفولتي وصباي وشبابي الباكر. سرتُ في شوارع وميادين وأسواق، سبقني إلى السير فيها عبد الله النديم وسلامة حجازي وكامل الخلعي وسيد درويش وبيرم التونسي وعشرات ممن تأثروا بمظاهر الحياة المُميزة، والمتفرِّدة، في بحري، وانعكست تلك التأثيرات في إبداعاتهم.

تبقى حقيقة يجدُر بي أن أعترف بها: إذا لم أكن قد عشتُ معظم أعوام عمري في الإسكندرية/ بحري، فإن الإسكندرية قد عاشت في داخلي كل عمري.

بحري، هو المكان الذي أستعيدُه في لحظات الفقد والوحشة. كنتُ — في صباي وشبابي الباكر — أتعجَّل مغادرته. بدَت القاهرة مجالًا حقيقيًّا للفرصة التي أطلبها. وحين أقمتُ في القاهرة، صار الحنين إلى بحري هاجسي، ودافعي إلى العودة المتكررة إليه.

أحبُّ العيش في مصر الجديدة، إقامتي فيها تعود إلى ما قبل أربعين عامًا، لا أتصوَّر الإقامة في مكانٍ آخر، بي أُلفة للبشر والأماكن والأشياء. ألفتُ هذا الحي، هذا الشارع، هذا البيت، هذه الشقة، لا أفكر في الانتقال، ولو إلى مكانٍ أكثر ملاءمة. وإذا غادرتُ القاهرة، فإن الهاجس الذي يتملَّكني هو العودة إلى مكتبتي، هي خلاصة كل ما يَجتذبني إلى مصر الجديدة. مع ذلك، فإن مصر الجديدة تغيب — لا أدري لم؟ — في كتاباتي، لا أكتب عنها، ولا أُشير إليها، ناسها، شوارعها، مؤسساتها، مساجدها، كنائسها، بناياتها (الاستثناء في روايتي «ذاكرة الأشجار»). ربما البداية تُطالعني، تُناوِشني، وأنا أقود سيارتي في شوارع الحي، أو وأنا أجلس — كما اعتدتُ منذ أعوام كثيرة — جوار نافذة الأوتوبيس، أُمسك الكتاب بيد، والقلم باليد الأخرى، تشغلني القراءة، أشرد — بين فترة وأخرى — في زحام الشوارع، حتى أنتبه إلى محطة القللي (عرابي)، أعبُر الطريق إلى مبني «الجمهورية».

لأن العمل الإبداعي — كما قلتُ لك — يكتب نفسه، فإن ما أكتُبه — في سطوره الأولى — يستدعي الحياة في بحري: الشخصيات والأماكن والأحداث، ما أعرفه، وما أتصوَّره، وإن كانت الومضة في أيامي القاهرية. تنفسح الحياة في بحري بمساجدِه وشوارعه وبناياته وموالده وأذكاره وضرائحه ومقاماته، والصِّلة بين البشر واليابسة، وحلقة السمك، ومعهد الأحياء المائية، وقلعة قايتباي، وسراي رأس التين، وورش القزق، ومرسى القوارب في المينا الشرقية.

لم أكتُب في أعمالي التي عرضت للحياة في بحري عن مكانٍ لم أتردَّد عليه، ولا شخصية لم أتعرف إليها، ولا طقس لم أُمارسه، أو تابعتُ ممارسته جيدًا، مثلًا: صيد الجرَّافة والطرَّاحة والذِّكر والإنشاد الديني والجلوات … إلخ.

لعلِّي أُضيف إلى ذلك كله حُبًّا دافقًا للمكان وأهله، وهو ما ينعكس في تلمُّس الجذور والتكوينات والقسمات والملامح والمُنمنمات الصغيرة التي تُسهم — في مجموعها — في رسم اللوحة الكلية.

•••

ظلَّت أُمنيتي أن أقطن شقةً في وسط البلد، أقضي فيها ما تبقَّي من العمر. وسط البلد الذي أعنيه هو بحري. أنزل — في أي وقت — إلى الشوارع والأسواق والميادين والمقاهي، وكل ما ينتسِب إلى البيئة التي نشأتُ فيها. زوجتي تمتلك شقةً في العجمي، لكنَّني أضيق بها، فهي تبتعِد عن وسط البلد بالمعنى الذي أفهمه، تبتعِد عن بحري، فأنا لا أُحب الإقامة فيها. تعزلني عن الحياة التي ألِفتُها، وإن بدَّل توالي الأعوام كثيرًا من مظاهر الحياة في بحري: الإزالة دائمًا، وتشييد بنايات جديدة، أو تحويلها إلى مشروعاتٍ تجارية، وربما تحويل الميادين الفسيحة — والمثل ميدان أبو العباس — إلى مساحاتٍ مكتظة بالدكاكين والبنايات التجارية.

واصلتُ البحث، فلم أجد ثُقب إبرة. العدد كامل، وحركة البناء توقفت لأن كل الأراضي التي تصلح للبناء قد تمَّ بناؤها بالفعل. ثم عثرتُ على شقة في عمارة لم يكتمِل بناؤها تطلُّ على سيدي علي تمراز. بدت غاية المراد من ربِّ العباد، وإن تقاسَم واجهتَها — مع الميدان — حارة صغيرة تُفضي إلى شارع محمد كريم.

صاحِب البناية في حوالي الخمسين. ينتسِب — من الخشونة الواضحة في يدَيه، ومن اختلاط الألوان في ملابسه — إلى فئة الحرفيين. تصوَّرتُ أني رأيتُه في تردُّدي — أحيانًا — على ورش سمكرة السيارات بالعطارين.

أفزَعني الرقم الذي حدَّده الرجل لامتلاك الشقة: ٣٥٠ ألف جنيه.

استعدت الرقم، فأكَّده.

لجأتُ إلى الدُّعابة: لِبِنايات الميدان أو للبناية وحدَها؟

قال من بين أسنانه: لِغرفةٍ واحدة إن شئت تملُّكها!

•••

قيل إن النظر من بعيدٍ يفتح أمام الرائي أفقًا غير محدود. ثمة المدن التي زُرتها، وأقمتُ فيها لفتراتٍ قصرت أو طالت. الحنين لا يقتصِر على الوطن أو المَوطن وحدَه. إنه — هنا — يأتي مرادفًا للإحساس بالغربة والشَّوق إلى الأهل والأصدقاء ومواطن الذكريات. الحنين يُداخلنا بعد أن نُمضي في بعض الأماكن فترات، ثم نترُكها. فأنا أحنُّ إلى الأردن وعمان والسعودية والإمارات والجزائر وفرنسا ولبنان وتونس وإنجلترا وموريتانيا وسوريا وليبيا وألمانيا وكل البلاد التي زُرتها، وأنشأتُ فيها صداقات، وتعرفت إلى أماكن وبشر. ربما خرجت بذكريات سيئة، لكن الحنين يتحرك بالابتعاد، ولعلَّه من هنا جاء قول مستر ميلز في رواية ديكنز الصغيرة ديترويت: «إن المرء دائمًا يُسامح المكان متي ابتعد عنه».

نحن نحيا المكان — كتجربة — عندما يُذكِّرنا بأماكِننا القديمة، الأليفة، أو يجعلنا نهرب منه إلى أماكننا القديمة، الأليفة. يضعنا في إطار الذكريات. وهو ما يُسمِّيه باشلار «تعليق» القراءة، فالقارئ يتذكر — من خلال العمل الإبداعي — أمكِنَته الخاصة، والحميمة.

في زياراتي المُتقاربة، الأولى، إلى بحري، وإلى الإسكندرية بعامة، كان يلفُّني شعور بالانتماء، أو بالحميمية، وربما بالامتلاك لكل ما حولي، هذا المكان يخصُّني، وأنا أُحبه، هو امتداد لبيتنا في شارع إسماعيل صبري، أعرف ميادينه وساحاته وشوارعه وأزقته وبناياته وجوامعه وزواياه ومقاهيه، لا أُخطئ ملامحها. أعرف الكثير من ملامح البشر أيضًا. تباعدَت زياراتي إلى بحري، وإلى الإسكندرية جميعًا. فيما بعدُ حدثت تبدُّلات وتغيُّرات في طبيعة المكان، لكن الصورة الماثلة في ذهني — ووجداني — ظلَّت قائمة لا يعتَوِرها تبديل، وهي الصورة التي حققت بطولة المكان — التعبير للنقَّاد — في أعمالي الإبداعية. أتذكر المرأة اللحيمة المُطلة من نافذة الطابق الأول بشارع الحجاري، المُتصوِّفة اللائذِين بجدران جامع أبو العباس، مرسى القوارب في المينا الشرقية، الطائرات الورقية الملوَّنة فوق خليج الأنفوشي، العجوز المُستلقي تحت العربة الصندوق على ناصية شارع الشوربجي، مبنى مقامات الأولياء المُفضي إلى السيالة، فلوكة مقلوبة فوق رمال الأنفوشي، إيقاع صحن العطارة في سوق الترك، صيادي السنارة فوق مكعبات الأسمنت ما بين السلسلة وقايتباي، بائع الصحف يُرتب الجرائد والمجلَّات على رصيف شارع فرنسا، لصق صيدلية جاليتي، الطفل — داخل التريانون — ينفث أنفاسه بخارًا في الواجهة الزجاجية المُغلقة، نداء الشحَّاذ الضرير في الموازيني: قصدتُ باب الكريم، درويش يفقد الوعي في استغراق الذِّكر، شِباك الصيد المُلقاة — لتجفَّ — على السور الحجري، تناثر أضواء البلانسات في ظلمة البحر، الرائحة النفَّاذة المُترامِية من حلقة السمك، انتشار بحارة السفن الأجنبية — جماعات — في شوارع المدينة. في الليل، يتحوَّل البحر — بعناق الظلمة — إلى كائنٍ غامض، تختفي الأمواج والآفاق، تخفُّ التأثيرات بأضواء البلانسات المُتناثرة في المدى، إذا انطبقت الظلمة تمامًا، فإن الرؤية تغيب، وتحلُّ الرهبة، ليس ما يشي بالحياة سوى ارتطام مدِّ الموج بصخور الشاطئ، وهدير انسحابها — بالجزْر — في توالٍ رتيب.

حول جوامع الحي ومساجده وزواياه وأضرحته ومقاماته، تدور حياة أبناء بحري، يبيعون، يشترون، يعودون من رحلات الصيد، يؤدُّون الصلوات، يُقيمون حلقات الذكر والموالد، يُحققون العلاقة المميزة بين البحر واليابسة، وبملامسة الأمواج للحي في إطار شِبه الجزيرة.

قبل أن أُغادر الإسكندرية، كنتُ أحرص على تأمُّل الأماكن التي أُحبها. البحر — من فوق سطح البيت — يُحيط ببحري من جوانب ثلاثة: المينا الشرقية بصيادي الجرافة والطراحة والسنارة، وتناثر البلانسات والقوارب داخل نصف الدائرة الهائلة من السلسلة إلى قلعة قايتباي، ومرسى القوارب في أقصى اليسار. المينا الغربية وما تشغي به من حياة، صنعها عشرات الألوف من البحَّارة والعمَّال والبواخر الضخمة والأرصفة والمخازن والحاويات والصافرات المُتشابكة. الأنفوشي بزحف ورش القزق على رماله في ما يلي مركز الشباب إلى قُرب سراي رأس التين. أذكر وصف أبي، وهو يشير إلى الساحة الخالية أمام سراي رأس التين، وما يتناثر فيها من بيوت، وصورتها القديمة حين كانت تضمُّ عششًا من الصفيح والأسمنت، مُغطاة بالخيش، وترعى أمامها الماعز، ويسرح البط والإوز والدجاج. كانت — في رأيه — صورة قبيحة، تُناقض فخامة السراي، وضرورة انسحابها على المنطقة المُحيطة بها. مشاهد كثيرة، أعيد تأمُّلها، أحاول اختزانها في الذاكرة، أعد نفسي باستعادتها حين أحاول الكتابة عن بحري. ذلك ما حاولته في رباعية بحري، والصهبة، وقاضي البهار ينزل البحر، والنظر إلى أسفل، ومد الموج، ونجم وحيد في الأفق، وحكايات الفصول الأربعة، ومواسم للحنين، وزوينة، والمينا الشرقية، والخليج، وزمان الوصل، والشاطئ الآخر، وأهل البحر، والبحر أمامها. بالإضافة إلى العديد من المجموعات القصصية.

ولعل تعدُّد الأعمال التي أكتبها عن البحر، مَبعثه تعدُّد الدلالات التي يَهبُها البحر، إنه — على حدِّ تعبير الدوس هكسلي — ذلك المتجدِّد دومًا.

إن مجرد الوقفة على شاطئ «المينا الشرقية»، والنظر إلى أُفق ما بعد السلسلة وقلعة قايتباي، والبلانسات المتناثرة، وحركة الأمواج بين السكون والثورة، والسماء المتقلبة، والطائرات الورقية، وصيحات أسراب طيور النورس، وصيادي السنارة يختبرون الصبر فوق المصدَّات الأسمنتية … ذلك كله يهبُ النفس المتأمِّلة فيضًا لا ينتهي من المشاعر، والمَيل إلى التعبير.

•••

ما الوطن؟ هل هو حيث الجذور والأصول، أو حيث أعيش؟ هل هو الأهل الذين تسافر، وتعود إليهم؟ هل هو الطفولة، وحكايات الجدَّات، واللعب في الساحات والشوارع الخلفية؟

طُرِح السؤال نفسه في العديد مما كتبت. الحنين إلى الوطن شاغل الأسرة اليونانية في الشاطئ الآخر، والصحفي رءوف العشري في الخليج، والشاب الزنجباري في زوينة، وهاشم رمضان السعدني في زمان الوصل، ونورا والطبيب الأرمني في صيد العصاري، وغيرهم، تبدَّلت آراؤهم ومواقفهم وتصرُّفاتهم — سلبًا وإيجابًا — من خلال الحنين إلى الوطن. بل إن الحنين قد يجاوز استعادة المكان ذي الذكريات، إلى المكان الذي نُدرك انتماءنا إليه، بحصيلتنا المعرفية، وروايات الأهل والمعارف.

خيَّرَت كالبسو الفتى يولسيس بين البقاء معها في جزيرة الخلود، وبين عودته إلى أرضه حيث لا بد أن يموت يومًا. ورفض يولسيس الخلود، واختار العودة إلى الأرض، إلى الوطن. وكان هذا هو اختيار هاشم السعدني في زمان الوصل. ولعلَّ ذلك هو ما واجهَهُ الراوي وياسمين في الشاطئ الآخر، وما واجهه الراوي وزوينة في «زوينة»، وما واجهه صلاح ونورا في «صيد العصاري». يفرض القرار نفسه في مواجهة السؤال الصعب: أيُّنا يتنازل عن وطنه ليُقيم في وطن الآخر؟

لكي يشعُر المرء بالانتماء إلى الوطن، لكي يشعُر بأنه واحد من مواطنيه، فلا بد أن يحيا في أرضه، ويُعايش مشكلاته وطموحاته. أوافق ميلان كونديرا في أن الكاتب — تحديدًا — ليس بمقدوره أن يحيا في أي مكانٍ إلَّا في وطنه.

والغربة لا تقتصر على البُعد عن الوطن، فقد أُعاني الغربة وأنا أحيا في وطني. بل إن الظاهرة المقابلة هي إيثار البعض للفرار من الوطن، والحياة خارجه. ولا يخلو من دلالة قول الكولونيل لورنس — وهو الذي أمضى أعوامًا طويلة في الصحراء العربية — إنه لم يُصبح إنجليزيًّا حتى بعد عودته إلى بلاده.

•••

ثمة ما ننساه تمامًا، كأنه لم يكن. قد يختفي المكان، لكن صورته تظلُّ في الذاكرة: التفصيلات والمنمنمات والرائحة. حتى الرائحة تظلُّ قريبة من أنوفنا، يستعيدها بالوقوف في الموضع نفسه، أو في موضعٍ مُشابه.

أشرتُ في مقدمة كتابي «مصر المكان» إلى المعني الخاص الذي لا أفهمه، وأنا أتأمَّل سقوط أشعة الشمس على المسقط السُّفلي لسينما ديانا. مجرد التحديق في المكان ينقلني إلى عوالم متشابكة، وغريبة، وموحية. الأمر نفسه هو ما كنتُ أشعر به في وقفتي وراء شرفة شقة الطابق الثالث في البيت رقم ٥٤ شارع إسماعيل صبري. نظراتي تتَّجِه إلى السماء، والبنايات المقابلة، والتقاءات الشوارع، والدكاكين، وحركة الطريق الهادئة نسبيًّا (أخترق الشارع هذه الأيام، فأتحسَّر على زمنٍ مضي. أنت لا تستطيع — في قلب الشارع — إلا أن تكون موجةً يُحركها توالي الموجات!) وأُردِّد أغنيتي عبد الوهاب: الجندول، وكليوباترة، تصدران عن قهوة فاروق، تنتقلان إلى الأذن دون شوائب. تتوقَّف النظرات طويلًا على الشرفة الصغيرة بين شقَّتَي الطابق الأول، مجرد واجهة بلا منفذٍ من أي نوع، ومساحتها من الداخل لا تبلُغ المتر. يتقاسم تأمُّلي لها شرود، أتمنى لو يُتاح لي الجلوس داخلها، دون أن يشغلني السؤال: ثم ماذا؟

لم يكن يراها، ولا يشعر بها أي أحد، كأنها سِرِّي الخاص، أجلس — بالتخيل — فيها، أطلُّ على الشارع، أرنو إلى نوافذ البيوت المقابلة، ربما أسندتُ رأسي إلى الجدار المصمت، وانشغلت بقراءة كتاب.

تصوَّرتُ الشرفة مكانًا مناسبًا لعرض البضاعة التي أضعها تحت السرير، يشتريها — بالأجل الذي لا يأتي! — إخوتي وأقاربي. لم تكن المشكلة في استحالة أن أجلس داخل الشرفة الصغيرة، ولكن في استحالة صعود الزبائن إليها، فهي مُعلقة بين شقتَين، ولا سَلالِم لها.

قد نُحب المكان بلا سبب، وربما نكرهه بلا سببٍ أيضًا. الشعور نفسه يتملَّكني عندما ألتقي شخصًا للمرة الأولى. الانطباع الأول يتحوَّل — بالأخذ والرد والتعامُل — إلى يقين، أو يبوخ الشعور لتصرُّفاتٍ سلبية كانت خافية.

لم تُفارقني الشرفة الحجرية طيلة ابتعادي عن الإسكندرية، فإذا عدتُ إلى المدينة، توقفت — كالعادة — أمام بناية الطفولة والنشأة. أكثر تأمُّلي للشرفة بمُقرنصاتها وزينتها الجصية.

حاولت أن تكون العلاقة بين الشرفة الصغيرة وبيني قوامًا لعملٍ ما، لكن المحاولة ظلت — على حالها — مجرد خاطرة لا أبوح بها.

•••

سِرْتُ في ما لا حصر له من الشوارع والميادين والحواري والأزقة والساحات والقاعات والردهات والغُرف والممرات الضيقة. يملؤني شعور بالحنين إلى مكانٍ لا أتبيَّنه، هو أشبَهُ بالمجهول الذي تغيب ملامحه. حين عدتُ إلى الإسكندرية أدركتُ أنها هي المكان الذي يتَّجِه حنيني إليه، ميادينها، مساجدها، شوارعها، أحياؤها، بناياتها، قعدات الناس في الحدائق، وعلى الشاطئ في امتداد الساحل.

الإحساس بالسكندرية (سكندريتي هي بحري) شعور يتملك كل أبناء المدينة، شعور قوي، مسيطر، قد يفرض الجهارة والتقريرية، ويفرض من المُبالغات والأخيلة والتصوُّرات ما قد تغيب عنه الحقيقة أحيانًا.

أحبُّ بحري، لا لأنه الحي الذي وُلِدتُ فيه، ونشأت، وإنما لأن الناس الذين أُحبهم يعيشون فيه (لم أكن أتردَّد — في أعوام الصبا — في النزول إلى الطريق بالجلباب أو البيجامة، وهو ما لم أفعله، في العمر نفسه، أوقات زيارتي لبيت عمَّتي بالمنيرة). يؤنِسني زحام الأسواق، وتلاصُق الأكتاف، ونداءات الباعة، وتلاغُط المساومات، والفصال، وأصوات الطيور داخل الأقفاص، ورائحة الكباب والفلافل، وصيادو السنارة والطراحة والجرافة وطبالو السمك في واجهة الدكاكين، ومرسى القوارب في يسار المينا الشرقية، ورفع الأذان (كم شاهدت — من النافذة الخلفية المُطلة على جامع علي تمراز — مؤذِّن الجامع وهو يصعد درجات السُّلم الحلزوني إلى أعلى المئذنة. يسند جانب وجهه إلى راحته، ويعلو صوته مُؤذِّنًا للصلاة)، وتصاعد الأهازيج والأدعية من مئذنة أبي العباس، ودروس المغرب في صحن علي تمراز، ومكتبة حمادة النن، وصافرات البواخر في المينا الغربية، وورش «القزق»، وحلقات الذِّكر على رصيف البوصيري، والموالد، والجلوات، وخيام الطرق الصوفية، والمجاذيب اللائذين بِجدران المساجد، وباعة المصاحف والأوراد والكتب الدينية والمسابح في ميدان الأئمة، وتناهي آيات القرآن والأغنيات من داخل المقاهي، والبخار المُتصاعد من أكواب الشاي، والحاوي، ونافخ النار، وألعاب البلي والنحلة والدوم. حتى العبارات المؤنِّبة والشتائم والمجاذيب والمُتسولين. ولعلِّي أذكر ما نقله بيرم التونسي عن عالِمٍ إنجليزي — لم يُسمِّه — إن أبناء بحري — في القرن التاسع عشر — هم أرذل الناس على وجه الأرض. وفسَّر التونسي معنى الرذالة بمحاولات الأولاد إيذاء الغرباء عن الحي، وهو تصرف يحدُث في كل الأحياء الشعبية، وفي كلِّ مدن العالَم.

تُؤاخِذني ملاحظاتٌ على اقتصار ما أكتب على بحري، لا أتحرك — إلا قليلًا — بعيدًا عنه، إلى أحياء أخرى، في الإسكندرية، أو إلى فضاءات أخرى في مصر والعالم. أنا لا أتعمَّد اختيار بحري موضعًا لكتاباتي، لكنه هو الذي يجعل نفسه سيدًا على هذه الكتابات: البحر والشوارع والميادين والأسواق والبنايات والجوامع والزوايا والأضرحة والمقامات والحدائق والمقاهي والقزق وحلقة السمك وقلعة قايتباي ومعهد الأحياء المائية ومرسى القوارب وصيد العصاري وسراي رأس التين، وغيرها من القسمات التي تُشكل الشخصية المُميزة لبحري.

الجمرك هي التسمية الإدارية لبحري. اسم بحري يُطلَق على الحي جميعًا. غربال وكرموز والقباري والورديان وغيط العنب، أحياء أو شياخات مُثبَتة في الأوراق الرسمية، بينما تخلو تلك الأوراق من تسمية بحري. إنه حي الجمرك، يتبعه العديد من الشياخات التي تخلو من تسمية بحري. يقول ابن محرم بك، أو باكوس، أو كوم الدكة، أنا نازل بحري، وأحيانًا يُقال: أنا نازل البلد، والمعنى هو ذلك الحي ذو الكيلو متر المُربع، بما يحويه من خصائص ومقومات.

بحري ليس مجرد حيٍّ يضمُّ نوعيات متمايزة من البشر، ولا أنماط حياة قد تختلف عما يحياه بشَر آخرون، لكنه يُمثل عالمًا صغيرًا، فضاء يمتزج فيه الواقع والخيال بما يَهَبُ خصوصية وتفردًا .

بحري هو أقرب أحياء الإسكندرية إلى نفسي، لاعتبارات عاطفية وفنية. أنا أدين له بمراحل الطفولة والنشأة والشباب الباكر، وأدين له بالملامح التي تركت تأثيراتها في الذاكرة والوجدان، وكانت هي الإطار الذي تحرَّكت فيه شخصيات وأحداث أعمالي الإبداعية.

أنا أعرف المكان جيدًا. ظنِّي أنه يعرفني جيدًا كذلك. هذه المدينة، الحي، الميادين، الشوارع، الحارات، الجوامع، البيوت، المقاهي، الدكاكين، الحدائق، الساحات … ذلك كله أنتمي له، وينتمي لي، هو الوطن، البيت، الأسرة، الصداقة.

أتنقَّل بين المُدن ومخيلتي تُلازِم العيش في بحري. أحرص على النزول إلى الحي — في فترات متقاربة — لمجرد أن أشمَّ الرائحة التي تفرض مُغايرتها، مهما تعدَّدت الفضاءات التي أتنقَّل بينها، أُمنِّي النفس بكتابات عن البحر الذي أُحبه. أُقيم في القاهرة منذ بداية الستينيات، لكنني أحرص — في كل زيارةٍ لي إلى الإسكندرية — أن أجلس إلى الصيادين في البلانسات، داخل حلقة السمك، على رمال قزق الأنفوشي ومقاهي بحري، حياتهم في الأمواج والشباك والعواصف والنوَّات والخطر، أمضي إلى شارع إسماعيل صبري، أُطيل الوقوف أمام البيت رقم ٥٤، أرنو إلى الطابق الثالث، أستعيدُ ما هو ثابت في الذاكرة، وما أَدرَكَه الشحوب. أعرف أن محمد كريم وعبد الله النديم وعبد الله دراز وسيد درويش وبيرم التونسي وأم البحرية وسلامة حجازي ومحمود سعيد وعبد الرحمن الرافعي ومحمود كامل الخلعي ومحمد محمد حسين ومحمد زكي العشماوي وحسين بيكار وغيرهم، ساروا في الشوارع نفسها التي أسير فيها، لا أعرف الجوامع التي تردَّدوا عليها، ولا أين كانوا يجلسون، ولا أين كانوا يلتقون بالناس، ولا الأماكن التي تحمِل تأثيراتهم، لكنني أكاد أشمُّ رائحة وجودهم في جولاتي التي لا تنتهي داخل بحري. أخترق الشوارع والحارات والأزقة، أطلُّ على شاطئ البحر والمقاهي والخرائب والساحات. أتخيَّل ما كان.

أذكر أني سألت أبي: لماذا سُمِّي حيُّنا بحري؟

قال أبي: لأنه يطلُّ على الناحية البحرية.

– أظن أن التسمية من البحر.

– الإسكندرية كلها على البحر، لماذا التسمية على هذا الحي وحده؟!

إذا كانت التسمية لأن الحي يقع بحري الإسكندرية، أو لأن مصدر بحري هو البحر. فإن بحري — كما قلت لك — شِبه جزيرة، في شِبه جزيرة الإسكندرية، بيئة خاصة، ومُتفردة، دُنياها البحر، المِهن والمُعتقدات والعادات والتقاليد، سلوكيات الحياة بعامة.

معظم الأُسَر في بحري على صِلة بالبحر، سواء بالعمل فيه، أو الحياة إلى جانبه، أو مشاهدته دومًا.

بدأت السيَّالة — على سبيل المثال — بثلاثِ عائلات، مارست مِهنًا مُتصلة بالصيد، وحتي الآن فإن شياختَي الصيادين والسيَّالة هما موطن صائدي الأسماك في المدينة.

قد يبين التشابُه بين البحر والصحراء في الآفاق اللانهائية، سواء أمام الواقف، أو الجالس على شاطئ البحر، أو حول راكب الباخرة في انطلاقها وسط الأمواج، لكن الاختلاف ما بين الحركة والسكون، الصخب والهمس، التوقُّع والملل، المخلوقات التي يعتمد المرء على ما تَهَبُه من تواصُل الحياة، والمخلوقات التي لا تَعني شيئًا، أو تترصَّد بالأذي.

كانت أول مرة أركب فيها البحر، لمَّا أقلَّتني — وصديقي عادل الصبروتي — فلوكة صغيرة — للنزهة — من الرصيف الأمامي لباب نمرة واحد، حتى رصيف باب نمرة ستة، ثم العودة. اختُصرت الأبواب من اثنَين إلى خمسة، لم نُحاول مشاهدتها، ولا تَبيُّن ما إذا كانت مفتوحةً أم مغلقة، تأذن بالحركة والدخول والخروج. الشعور بالدهشة تغلَّب على ما عداه، والفلوكة تكاد تُلاصِق بواخر البوستة الخديوية الهائلة (هذه البواخر الضخمة، الراسية على الرصيف، ستُبحر إلى أماكن أخرى، إلى أرصفةٍ أخرى، في موانٍ أخرى، في مدن بعيدة)، وأصابعنا تُلامِس بُقَع الزيت فوق المياه الساكنة، ومن حولنا الفلايك والمُعدات والمياه المائلة إلى البُنيِّ بتأثير الزيوت المُتسرِّبة من البواخر والأرصفة والرافعات، وتلاحق صافرات السفن الداخلة من البوغاز، والخارجة منه، والطيور المُتباينة الأشكال والألوان في تقافُزها على الساكن والمُتحرك، تهبط فتكاد تلامِسنا، والصيحات والنداءات البعيدة، يمتصُّ الفراغ رجْع صداها فلا تَبين مفرداتها. غمرَني شعور بالسعادة وأنا أعبر هذه المسافة القصيرة (تكرَّرت النزهة!) كأني في حلمٍ جميل، أو أني في الجنة.

في داخلي حنين إلى دُنيا لم تعُد موجودة، دنيا الموالد والأذكار والجلوات وسوق العيد وحفلات الزفاف والختان والخيام والبيارق والأعلام والدفوف والطبول والأدعية والأناشيد والأهازيج. غابت تلك الدُّنيا في غابات الأسمنت التي تلاصقت، حتى في ميدان أبو العباس الذي لم يبقَ منه سوى الاسم.

إسكندريتي ليست البنايات الضخمة على الكورنيش، ولا في الميادين والشوارع الفسيحة. إنها البيوت الصغيرة، المُتلاصقة، والشوارع الضيقة، المتقاطعة، تتراكم فيها مياه الأمطار، تختلط بالتراب، فتصنع ما يُشبه كومات الطين، تعلو فتهبط أبواب البيوت تحت مستوى الطريق. وثمة القهاوي والغُرَز والأضرحة والزوايا، ومدرسة البوصيري الأوَّلية، وروضة مصر الفتاة، وكتَّاب الشيخ أحمد، والمذاكرة في صحن أبو العباس، وقلعة قايتباي، والبيت المهجور بشارع سيدي داود، أُهرول أمامه لتصوُّر أن الأشباح تسكُنه، ونادي مدرسة إبراهيم الأول، وخُطَب الشيخ عبد الحفيظ، وتياترو المسيري، وفرقة فوزي منيب، وحديقة سراي رأس التين، وجياد الملك في جولاتها الصباحية، والمظاهرات الصاخبة لا أعرف من أين جاءت، ولا إلى أين تنتهي، تهتف بسقوط الملك وزعماء الأقلية، وبحياة النحاس، وصيد العصاري، وحلقة السمك ورائحة الزفارة والعطن وأريج البخور والكتاتيب والصوفية والموالد وحلقات الذكر والأهازيج، والوقفة أسفل بواخر البوستة الخديوية، ومباريات الكرة في الأراضي الخلاء، وقهوة فاروق، وحلواني الطيبين، وسباق البنز والطائرات الورقية والجبب والقفاطين وملاءات اللف.

إذا كان قد خطر لي — أحيانًا — أن أدخل البناية رقم ٥٤ شارع إسماعيل صبري، أصعد إلى شقة الطابق الثالث المجاورة للسُّلَّم، أستعيد ملامح وذكريات، فإن الخاطر نفسه راوَدَني في أن أدخل واحدةً من البنايات المواجهة للميناء الشرقية، أطلُّ من نافذةٍ على أفق البحر. المُحيط الجغرافي — على حدِّ تعبير إيزابيل الليندي — هو الذي يُحدِّد شخصية الإنسان. لعلَّ البحر في مقدمة ما أفدتُ من تأثيره، ليس البحر في إطلاقه، وإنما أفق البحر، حَضُّه على التأمُّل بما لا يَحضرني في موضعٍ آخر.

حلمي الذي لا يتبدَّل — منذ تركت الإسكندرية، وفرضَتِ الظروف أن تُخلِي أسرتي شقة إسماعيل صبري — أن أستأجِر شقةً لها نافذة تطلُّ على البحر مباشرة، على الميناء الشرقية بخاصة، أتأمَّل امتدادات الأفق والأمواج والبلانسات والقوارب وصيادي الجرَّافة والطرَّاحة وصيادي السنارة والجالِسين على الكورنيش.

ثمة شارعان يفصلان بين شقتِنا في شارع إسماعيل صبري وشاطئ البحر. الشقة التي تمنيتُها هي التي صارت شقةً للسيدة نجاة في روايتي «البحر أمامها».

سأكون مُمتنًّا لو أُتيح لي — وأنا أتهيَّأ للمجهول — أن أقرأ سورة الرحمن في جلستي أمام البحر، مثلما فعل عماد حمدي في الفيلم المأخوذ عن رواية نجيب محفوظ «ميرامار»:

الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * … تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ»

•••

ربما لو أني لم أترُك بحري، ما لاحظت الاختفاء، التلاشي، الذي ابتلع الكثير من البنايات والشوارع والميادين. حتى الميدان الأشهر الذي يطل عليه جامع السلطان، تبدَّلت هيئته، فقد توسَّطه مبنًى هائل، تحوَّلت أطراف الميدان من حوله إلى شوارع صغيرة، ضيقة، واتصلت — بالكاد — بما كان قائمًا من الشوارع الجانبية.

أقول: ربما لو أني لم أترُك بحري، وأعود إليه، على فتراتٍ متباعدة، ما لاحظتُ ذلك التبدُّل في قسمات الحي.

أنا أتبيَّن — في كل عودةٍ إلى بحري — ما لم أكن لاحظتُه من قبل.

وربما لم أكُن أكتب عن بحري كل هذه الصفحات، بكلِّ هذا الحُب، لو أني ظللتُ في الحي، لم أبتعِد عنه. الابتعاد يتولَّد عنه الذكريات والشوق والحنين وغيرها من المشاعر التي تستفزُّ المُبدع في داخلي. الصور التي أُشاهدها وأنا أجول في شوارع بحري وأزقَّته، تختلف تمامًا عن الصور التي أستعيدُها وأنا في مكتبي.

كيف يحيا سكان المدن والقرى التي لا تطلُّ على البحر، دون هذا العالَم الحافل بالمُغايرة والسحر؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤