ترام السكة الجديدة

أذكر أني كنتُ أسأل أبي عن مشوار إلى شارع السكة الجديدة، مجرد أن أذهب إلى الشارع. أعرف المقصد الوحيد الذي سيطلُبه أبي، هو شوكت أفندي الحلَّاق، يريد أبي موعدًا كي يحلق عنده. ليس في الأمر استظراف ولا مُبالغة، فلم يكن الرجل يستقبل زبائنه إلا بموعدٍ يُحدَّد من قبل. ولأن التليفون المحمول لم يكن — ربما — قد طرأ في ذهن مخترعه، وكانت التليفونات الأرضية مظهرًا للوجاهة، لا يقوى عليه إلا القلة، فقد كان أبي يبعث بي إلى الصالون، كي أُحدد موعد زيارة أبي ليُسلم له رأسه!

كان الرجل يسكن فيلَّا أنيقة بالقُرب من مدرستي الفرنسية الأميرية بمحرم بك، على الباب لافتتان: الأولى باسم صاحب الفيلا، والثانية تُحذِّر من خطر الكلاب. كان — في ذاكرتي — يخطو إلى السبعين، مُمتلئ الجسد، بشرته البيضاء أميَلُ إلى الحمرة، وصلعته — التي شملت كل رأسه — تُغنيه عن اللجوء إلى مِهنته. لعلَّه من بقايا العنصر التركي الذي شهد نهايته في الحياة المصرية، منذ بدايات الحرب العالمية الأولى.

العرض الذي أُقدِّمه لأبي، بعيد عن غواية التعريفة التي كنتُ أتقاضاها مقابلًا للمشاوير إلى شارع الميدان. كان هدفي الذي أُحبه، ولا أُعلنه، هو ركوب الترام ذي العربة الواحدة من أول الشارع إلى نهايته. هي عربة ترام تختلف عن غيرها من العربات التي تقطع شوارع الإسكندرية بصِغَر الحجم، وأنها تكتفي بنفسها. ما كان يَجذبني إليها كراسيها المُتقابلة، وقلة عدد الركاب، والمناقشات التلقائية، كأنها تدور بين أفراد أسرةٍ واحدة، أُشارك بالإنصات، وأخلي التصوُّر لعشرات الحكايات التي تُدخلني عوالِم لا أعرفها، مُغايِرة لتلك التي أعيشها في شوارع بحري، حتي زحام شارع الميدان بعمليته وصخبه، يختلف عن الضبابية الحالِمة التي تُحيط بالترام الصغير، وبي، ما بين أول شارع السكة الجديدة إلى قُرب نهايته. تُذكرني بحكايات جدي، وبما كنتُ أقرؤه في مكتبة أبي من كتب التراث الحافلة بالسِّحر والخيال والأسطورة.

أحببت الصعود إلى العربة العلوية في ترام الرمل. يلفُّني انبساط وأنا أجلس في المقعد المواجِه للنافذة الزجاجية المُستطيلة، أرقب الميادين والشوارع الواسعة والبيوت والدكاكين والمقاهي والإعلانات والأسوار، وقضبان الترام — في استقامتها وانحناءاتها — تندفع إلى الخلف، على جانبَيها الخُضرة والأعشاب البرية المتناثِرة ونبات عباد الشمس بصُفرته الوهَّاجة.

كان ذلك ما يفعله الراوي في روايتي «غواية الإسكندر».

وكان الترام وسيلة تنقلي بين بحري وأحياء الإسكندرية الأخرى. لم أستقل الأوتوبيس إلَّا لأماكن يغيب عنها الترام. يُقلُّني الترام من المحطة أمام قهوة فاروق إلى محرم بك، حيث مدرستي الفرنسية الأميرية والإسكندرية الثانوية، مشوار يومي ألفتُه إلى حد الإحساس بالرتابة، وربما الملل. الطريق هو هو، شوارعه وميادينه وانحناءاته والدكاكين على الجانبَين، كل شيء يتكرَّر كأنه مشهد يُعاد عرضه. أنشغل بالعادة التي لا أذكر متى صارت جزءًا في تكويني، فأنا أجعل المواصلات مكانًا للقراءة. أعزل نفسي عما حولي، وأنغمس في قراءة كتاب، لا أرفع رأسي إلا لمتابعة مناقشة حادَّة بين الكمساري وأحد الركاب، أو ما يستدعي الالتفات في الطريق. حتى لو أغمضتُ عيني، بتأثير سهر الليلة الفائتة، فإني أطمئنُّ إلى محطة الوصول. وحين استضافني البرنامج التليفزيوني «رائحة المكان» الذي أبدعَه الفنان سيد شلبي، فقد حرصتُ أن أبدو كأني أهمُّ بركوب الترام … عِشرة قديمة لم أنسها!

أخترق شارع الميدان إلى تقاطُعه مع شارع السكة الجديدة. عربة الترام الوحيدة في وقفتها — غالبًا — كأنها تنتظِرني.

الشعور بالنشوة يتملَّكني، ونظرتي تجول بين الركاب (لم يزيدوا مرة عن عدد أصابع اليدَين) والمحال على جانبي الشارع حافلة بالبضائع: البقالة وأجولة العطارة وصناديق الفاكهة ومشغولات النحاس وقطع الغيار وورش الحدادة والمطاعم والمقاهي الصغيرة، وثمة مزيج لروائح البخور والفلافل والكباب والكفتة والمكرونة (لم تفتح محال الكشري في الإسكندرية إلا متأخرًا) وقلي الأسماك. يبدو لي كل شيء — ربما للترام، ولضيق الشارع — مُغايرًا لشارع الميدان. يُضيف إلى ضبابية الصورة — أحيانًا — مُشيعو جنازة، أسرعت خطواتهم وراء النعش لإكرام الميت بدفنه قبل أن يحلَّ المساء، يتداخَل المشهد الطارئ، الصامت، في عمومية المشهد، كأنه حلم.

اختفى الترام — فيما بعد — ورفعت القضبان، تحوَّل إلى ذكرى، أستعيدُها حين يعرض التليفزيون عرباتٍ مُماثلة في مُدن العالَم.

لم يغِبِ الترام الصغير — وحدَه — من حياة السكندريين. اختفت مظاهر أخرى كثيرة، كانت تضيف — بالنسبة لي في الأقل — مغايرة جميلة، مثل الجولة الصباحية لخَيل الملك، وجلوات المولد، وموسيقى الشرطة في عروضها بشوارع المدينة، والصواريخ الملونة فوق السلسلة.

الزحام الذي تُعانيه الإسكندرية الآن، جعل أهلها يأمُلون فحسب أن تسعَهم الشوارع — مشاة وراكبين — بما يُعينهم على قضاء أعمالهم.

•••

لا أذكر المرة الأولى التي ركبتُ فيها الترام بمفردي. اعتدتُ رفقة أبي في زياراتٍ لأماكن وأصدقاء، وحدي أو مع أخي الأكبر. زُرنا بيت عمَّتي في شارع ابن طريف بمحرم بك، وبيت عمِّي في شارع أمير البحر بالحي نفسه، وبيت عمتي (ماتت وأنا طفل، فلا أذكُرها) نلتقي وديدة وعدولة ابنتَي عمَّتي الراحلة، وأباهم عم كمال، وابنتَيه من زوجته الأولى، الراحلة.

صحِبَني أبي كذلك إلى الشركات التي كان يعمل بها: الجراية للورق، كوري للأقطان، شركة التأمين الأهلية. تعرفت إلى عددٍ من مسئولي الشركات الثلاث، ورافقته إلى سراي الحقانية، عرَّفني بالشاعر عبد اللطيف النشار، وبالمُحامي والسياسي أحمد مرسي بدر، زُرناه في مكتبه بشارع شريف باشا، وعرَّفني بأصدقاء آخرين، يُقيمون في مواضع مختلفة بالإسكندرية، وكان الترام وسيلة بلوغي أماكن تلك الشخصيات. وأظنُّ أني أفدتُ من ذلك كله في العديد مما كتبت، مثلًا: رواية «حكايات الفصول الأربعة»، قصة «نبوءة عرَّاف مجنون».

لكن ركوبي الترام — بمفردي — للمرة الأولى، عندما توجَّهت إلى مدرسة الإسكندرية الابتدائية في شارع مُتفرع من شارع الإسكندراني بمحرم بك. أمضيتُ فيها أيامًا قليلة، قبل أن يُصدر أبي فرمانًا بنقلي إلى المدرسة الفرنسية الأميرية بشارع المأمون، المُتفرِّع من الرصافة. وجد في الفرنسية لغةً للمُستقبل، وهو ما ثبت خطؤه فيما بعد — كما نرى — فقد أوشكتِ الإنجليزية أن تبتلِع لغات العالم، حتى الفرنسية تُعاني أزمة مُعلنة.

ولأني كنتُ اعتدتُ ركوبي الترام مع أبي، فقد ظلَّ الشعور بالاعتيادية في داخلي، حين ركبتُ الترام للمرة الأولى، وأنا أحفظ الطريق إلى مدرستي الجديدة — آنذاك — الفرنسية الأميرية في نهاية شارع المأمون بمحرم بك. ثم أصبح ركوب الترام بتذكرة القرش — ذهاب وإياب — تصرفًا يوميًّا في ذهابي إلى المدرسة، وعودتي منها، أُشاهد، وأستمع، وأتأمل، وأكتسب معارف وخبرات.

كان الحدَث الأهم في علاقتي بالترام، عندما واجهتُ الموت، بعد أن قفزتُ على السُّلَّم في أثناء سير الترام، لكن قدمي أخطأت الموضع، وسقطَت في الفراغ، ولولا أني تمددتُ في المساحة بين الرصيف والقضبان، ربما كنت في خبر كان، وهو ما سأرويه في أسطرٍ تالية.

عرفت — فيما بعدُ — أني نجوت — ذلك اليوم — من المصير الذي لقِيَه زميل لي بالمدرسة، حاول — مثلي — أن يقفز على سُلَّم الترام، فأخطأ القفزة، وشطرت عجلات الترام ساقه. ظل ينزف في موضعه، وحين وصلت سيارة الإسعاف كان قد مات.

•••

لماذا اختفى الترام من شوارع القاهرة أو كاد، بينما الترام مَلمَح رئيس في وجه الإسكندرية؟

ظنِّي أن زحام القاهرة كان له تأثيره، ليس في اختفاء الترام فحسب، وإنما في اختفاء وسائل نقلٍ أخرى، مثل عربات الحنطور وعربات الكارو … إلخ، والسبب — في تقديري — هو الزحام الذي شهدته القاهرة خلال العقود الأخيرة، حتى مترو مصر الجديدة، اختُصِرت مسافة النهاية، فلم يعُد يشقُّ شارع الجلاء إلى كورنيش النيل. اقتصرت محطة النهاية — أو البداية — على ميدان رمسيس. أما ترام الإسكندرية فهو ملمح مُهم في الحياة السكندرية، قد تمتلِك سيارة خاصة، أو تستقل الأوتوبيس، أو تُفضل السير ماشيًا، لكنك تلجأ — في أوقاتٍ ما — إلى الترام، سواء في داخل المدينة، أو في منطقة الرمل، يُقلُّك من ناحيةٍ إلى أخرى.

الشوارع التي يخترِقها ترام الرمل، تأذن له بالسير إلى جانب وسائل المُواصلات الأخرى، بينما مُعظم شوارع المدينة واسعة نسبيًّا، فهي تسمح بمدِّ قُضبان الترام دون خشية على حركة المرور، وثمة شوارع يُهمل السكندريون ضِيقها، لأنهم يحتاجون إلى الترام في معظم تنقُّلاتهم.

•••

للترام وجوده في العديد من أعمالي. أذكر — على سبيل المثال — عندما تملَّكني التردُّد — لثوان — والترام يزيد من سُرعته، بعد أن غادر محطة الصينية بمحرم بك إلى محطة الرصافة. كنت قد اخترقت شوارع جانبية من مدرستي — الفرنسية الأميرية — لأركب الترام من أوله. أغراني قيام الترام قبل أن أصعد إليه بأن أقفز داخله. جاوَزَتْ سُرعته تردُّدي. اندفعتُ أقبض — بيدٍ — على القائم الحديدي، بينما اليد الأخرى تحمل حقيبة الكتب، لكن قدمي أخطأت السُّلم. انحشرتُ بطولي في الفجوة التي تخلَّفت من عمليات صبِّ خرسانة بين قضيب الترام وأسفلت الطريق. حلَّت لحظة سكون، لا صِلة لها بانطلاق عجلات الترام الحديدية بجوار جسدي المكوَّم داخل الحفرة الطولية، ولا بالكتب التي تناثرت من الحقيبة. غاب التذكُّر والرؤية والإحساس باللحظة والخوف والأمل، حتى الصراخ خنقَتْه قوة في داخلي لا عهدَ لي بها. تنبَّهت — بعد زمن — إلى أنَّ الترام مضى بعيدا، فعُدت إلى نفسي.

أذكر المرأة التي لمحتُها في انحناءة الترام من شارع النبي دانيال إلى شارع السلطان حسين. كانت تضع على صدرِها أكياسًا من الورق، يطلُّ منها خضار وفاكهة. اجتذبَني الوجه الأبيض المُشرَب بحمرة، والشعر المُسدَل في إهمال، والجبهة المُندَّاة بعرَقٍ خفيف، والعينان الواسعتان الصافيتان، تُظلِّلهما رموش واضحة، والأنف الدقيق، والشفتان الرقيقتان. وكانت ترتدي فستانًا واسعًا، وحذاءً بدون كعب. ظلَّت الملامح في ذهني حين عُدت إلى البيت. استعدتُ الوقفة والأكياس المُحتضنة، وظللتُ أستعيدُها، تنبثِق في رأسي كالومضة، ثم تختفي، وتظهر بعد فترةٍ تطول وتقصر، ثم تختفي. مضت أعوام كثيرة، وما زلتُ أستعيد صورة المرأة في انحناءة الترام، كأني رأيتها أمس.

وفي روايتي «غواية الإسكندر» لم يعُد نزول الأستاذ الجامعي وليد شكري إلى الطريق للذهاب إلى مكتبه وحدَه، ولا إلى مواقع التنقيبات. يحرص، فيغيب عن البيت، يمضي الوقت في تأمُّل الأماكن، والسير بلا هدف. تتفرَّع أمامه الميادين والشوارع. تختلِط المعالِم والرؤي والتوقعات. أصعد إلى الدور الثاني من ترام الرمل، أجلس في المقعد الأمامي، تبين الشوارع باتساعها، البيوت والدكاكين والمقاهي وقضبان الترام في استقامتها وانحناءاتها. على جانبَيها الخضرة ونبات عباد الشمس بصُفرته الوهَّاجة. يستقل ترام الخط الدائري، والأوتوبيس من بدايته في ميدان المنشية إلى نهاية الخط، ويعود. لا يشغله المسار الذي يمضي فيه، ولا المحطة النهائية. يظلُّ في جلسته حتى يعود إلى بداية الخط. يمضي في الشوارع الضيقة، المُنحدِرة، ناحية البحر. ولمَّا أُحيل الأب رجب كيرة إلى المعاش، من وظيفته في شركة الترام (رواية «صخرة في الأنفوشي») كان قد خلَفَه ابنه الأكبر مدحت في الوظيفة نفسها. وظلَّ الرجل سعيدًا بالأبونيه المجاني للترام، حتى إنه كان يستقلُّه في المسافة القصيرة ما بين قهوة فاروق وجامع أبو العباس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤