أودة القعاد

كنا نُسمِّيها أودة (حجرة) القعاد. تطل — من الواجهة — على امتداد شارع إسماعيل صبري إلى الكورنيش وأُفق البحر، وإلى اليمين امتداد الشارع إلى شارع الميدان وسيدي العدوي والترسانة البحرية. ومن اليسار شارع رأس التين إلى الموازيني وأبو العباس وأبو وردة وباب الجمرك رقم واحد وميدان إبراهيم باشا ومقابر البطالمة وسراي رأس التين.

لم تكن أوسع حجرات الشقة، لكنها استحقَّت تسميتَها بجلوسنا الدائم فيها، ننام، ونأكل، ونلعب، ونقرأ. أثاثها كنبة عريضة لصق الجدار المواجِه للبحر، وفي المدخل بوفيه ضخم يمتدُّ إلى نهاية الجدار، تعلوه رُخامة يتداخل فيها الأبيض والبُني، وله ستة أدراج مستطيلة، تتجاور في صفَّين. على رخامة البوفيه، كتب أبي برقية من كلمتَين «خديجة تُوفيت». وطالبَني أن أحمل الورقة إلى مكتب التلغراف في شارع فرنسا. كان موظف المكتب صديقًا لأبي، فأبدى تأثُّره.

في مساء اليوم نفسه، سبق الصوات جدتي وهي تقترب من باب البيت، عرفت أنها تسلَّمَت البرقية. بعد ظهر اليوم التالي، بدت الحجرة خاليةً من الأثاث، عدا سجادة افترشت الأرضية.

قال أبي في ضيق: ماذا أفعل لجدتك؟! … أصرَّت على المعدِّدة!

روت لي شقيقتي ما جرى في الحجرة من طقوس العديد … كلمات مُنغمة، حزينة، تنعي الراحلة — أُمي — وإن لم تُحسِن شقيقتي الْتقاط عبارة واحدة من كلمات العديد!

كان للحجرة شرفتان، الأولى تُطل — يمينًا — على شارع فرنسا، ويسارًا على شارع رأس التين، وفي المواجهة امتداد إسماعيل صبري إلى تقاطُعه مع التتويج، فطريق الكورنيش. تحد مساحة البحر المُتاحة للرؤية آخِر بنايتَين في أول إسماعيل صبري.

الشرفة الثانية تطل — من الوسط واليمين — على شارع إسماعيل صبري، ومن الوسط واليسار على شارع فرنسا. معظم الأيام مغلقة، لا نفتحها إلا استجلابًا لتيارات الهواء أوقات الصيف، أو لمتابعة الفرجة على المواكب القادمة من شارعي الأباصيري ورأس التين: المظاهرات والجلوات والموالد والعربات المُحملة بأثاث العرائس. قد يختار نافخ النار أو الحاوي أن يقف أسفلها لعرض ألعابه. نتلاصَق خلف سور الشرفة الحجري، نتابع اتساع الدائرة حتى ينتهي العرض.

بعد رحيل أبوَيَّ صرتُ — بالطبع — أكثر حرية، أقف وراء كل شرفةٍ بالقدر الذي يُتاح لي مشاهدته من صور الحياة حول البيت.

في الركن — ما بين الشرفة المُطلة على المينا الشرقية، والثانية المُطلة على شارع إسماعيل صبري — مكتبة تمتلئ بالكتب، كانت — كما رويتُ لك — هي مدخلي الحقيقي إلى دنيا القراءة.

يعود أبي من عمله، فيقلُّ تردُّدنا على الحجرة. ربما لا ندخلها. يجلس أبي على كرسي بالقُرب من المكتبة، يوسِّد ساعدَيه على كرسي آخر، وإلى جانبه طاولة صغيرة، فوقها سبرتاية وكنكة وأكواب صغيرة. يصنع لنفسه — بين فترة قصيرة وأخرى — كوبًا من القهوة، ثم يستأنف النوم. ربما تسلَّلت إلى الشرفة، أطلُّ على حركة الطريق، وإلى أُفق البحر. قد أُقلب في المكتبة، وأعود بكتابٍ لأقرأه.

قيمة القراءة أنها تنقلك — دون أن تترك مكانك — بين بلادٍ ومدنٍ وقرًى وصحارٍ وجبال وسهول ووديان وغابات وبحار ومُحيطات، ما لا تعرفه من الأمكنة، أداتك في التنقُّل — إلى جانب القراءة — حصيلتك المعرفية، وخيالك.

كانت أيام طه حسين أول ما قرأتُ من كتُبٍ أدبية. كنتُ في حوالي الثامنة. أمكنني الفهم في القراءة الثالثة، وكانت الرواية/ السيرة الذاتية هي الدافع — كما أشرتُ من قبل — كي أكتب محاولتي الأولى «الملاك». ثاني كتاب قرأته عن الحياة الجنسية، مؤلِّفه فائق الجوهري المحامي. التقيتُ بالاسم في أعمالٍ كثيرة سابقة وتالية. لم أكن أدركتُ البلوغ، لكن العنوان اجتذبني. سحبتُ الكتاب، وحاولتُ أن أُركِّز لأفهمَه، وأن أُعاود القراءة. نسيتُ كل ما قرأته، لكنني أتذكَّر معلومةً وحيدة أشار إليها الكاتب في سياق السرد. لأن الرجل في الغابة لا يرتدي ثيابًا من أي نوع، فإن عضوَه الذكري لا يطول — في لحظات الإثارة — إلا قليلًا، هو طويل حتى في أوقات الاسترخاء والبعد عما يثير!

تعدَّدت قراءاتي في الحجرة وتنوَّعت، بقدْر تعدُّد الكُتب في مكتبة أبي وتنوُّعها. كانت اقتصادية باعتبار مِهنة أبي كمُترجم في الاقتصاد، وإن ضمَّت كتبًا في التراث والأدب والسياسة والتاريخ والجنس، وخلت تمامًا من كتب الأطفال التي كنت سأسعد لو أني عثرتُ على أي كتابٍ منها.

منذ تلك الأيام البعيدة، صارت المكتبة تكوينًا مهمًّا في شخصيتي. أحبُّ التردُّد على المكتبات، والوقوف داخلها، وتقليب الكتب، وقضاء الساعات في القراءة وتسجيل الملاحظات. مجرد أن أكون في داخل مكتبة، يُشعرني بالأُسرية، بالحميمية، أني في مكانٍ يخصُّني.

أذكر قول محمود الشنيطي وأنا أبحث عن قراءاتٍ في مكتبه بهيئة الكتاب: أثق أنك أحببتَ القراءة قبل المُراهقة، المراهقة تُثبِّت ما نُحبه، الرياضة، القراءة، العادات اليومية … إلخ، هذه الفترة ما بين الرابعة عشرة إلى الرابعة والعشرين تُشكِّل الشخصية بما يصعُب تغييرُه.

أحببتُ القراءة بالفعل منذُ الطفولة: في مكتبة أبي المُطلة على المينا الشرقية، وفي بيوت الأصدقاء والجيران، وفي دكان حمادة النن بائع الصحف بشارع إسماعيل صبري، ومكتبة فارس بالقُرب من فُرن حبيب وانحناءة الترام في تقاطُع صفر باشا ورأس التين. أقسو على نفسي لكي أواصل القراءة. يَغلبني النوم، وقد يسقط الكتاب من يدي. ألتقِطه، وأنفض رأسي، وأفتح عينيَّ على اتساعهما، وأقرأ. لا أقرأ وفق خطةٍ مُحددة، ما تُصادفه يداي، كتبًا في الدين والسياسة والتاريخ والاقتصاد والطب والتجارة والأدب والفن.

في أثناء القراءة، أضع خطوطًا تحت العبارات التي تستوقفني — وهو ما أفعله حتى الآن — أو أضع الخطوط إلى جانب الأسطر إن طال التعبير الذي اجتذبَني. ربما سجلتُ ملاحظات تُعينني — في قراءة تالية — على فهم المعنى الذي توصلتُ إليه. ربما اكتفيتُ بالقراءة السريعة أو بالتصفُّح، لكن دواوين الشعر والروايات والمجموعات القصصية تشدُّني، فأُطيل القراءة، أستعيدُ الفقرات والتعبيرات والمواقف، أشعر أنها دُنياي المفضلة.

مع أن أبي كان قارئًا جيدًا، فإنه كان يرفض أن أقرأ ما لا يتَّصِل بالمواد الدراسية. يخشى أن تشغلني عنها كتب أجدُها في مكتبته للمنفلوطي وطه حسين والعقاد والمازني وفائق الجوهري وغيرهم.

صدر أول أعداد الرسالة في ١٩٣٣م، وصدر عددها الأخير يوم الاثنين ٢٣ فبراير ١٩٥٣م. رغم صغر سِني — نسبيًّا — آنذاك، فإني أذكر مقال طه حسين ذي العنوان المُفعم بالدلالات، عقب إغلاق الرسالة أبوابها نهائيًّا. وأذكر مقال الزيات الذي يفيض شجنًا وحسرة «وأي بأس؟» وقد نُشِر المقالان في الأهرام؛ أهم ما كان أبي يحرص على اقتنائه — بالإضافة إلى «المصري» — من الصحف اليومية.

وعلي الرغم من أن سلسلة روايات الهلال قصرت إصداراتها من الروايات العالمية على المُلخصات، فإنها أتاحت لي آفاقًا غير محدودةٍ من الوعي، وملامسة الخيال الجميل. كانت هي المدخل الحقيقي لقراءة الروايات الكاملة، أدَّت الدور نفسه الذي قامت به مسامرات عمر عبد العزيز أمين، وكتاب حلمي مراد.

كنت أقف — أحيانًا — على باب الحجرة، أو أجلس على الأرض بين أصحاب أبي، يتناثرون على الكنبة وكراسي المائدة المنقولة من الصالة، يخوضون في مناقشاتٍ عن الجوِّ ومواعيد النوَّات وغلاء الأسعار ومباريات كرة القدم وحزب الأغلبية وأحزاب الأقلية والملك وأفعال اليهود في فلسطين. ألتقِط ما يسهل فهمه، وأحاول — بيني وبين نفسي — فَهم ما قد يكون غامضًا.

أذكر — على سبيل المثال — أني لم أكن أعرف الفرق بين روسيا وسوريا، وأنطق القدس بفتحة على القاف، والحمل بسكون على الميم، لكنني — على نحوٍ ما — كنتُ أعي الأسماء والأحداث والتطوُّرات، والصِّلات بينها، ولماذا يؤيد أبي وأصدقاؤه هذا التصرُّف من هذا الزعيم السياسي، وينتقدون التصرُّف نفسه من زعيمٍ آخر، والمأساة التي تُهدد بابتلاع أرض فلسطين، وهجمات البدو على قوافل الحجَّاج المُتجهة إلى الحجاز، والفرق بين أداء الشيخ على محمود والشيخ محمد رفعت، ومعنى فوز فريق كرة السلَّة المصري ببطولة أوروبا، ويُجيبون عن السؤال: ما صحَّة الشائعة التي تذهب إلى أن محمود شكوكو يتقاضى مبلغًا شهريًّا من إسماعيل يس حتى يُتيح الأول للثاني فرصة العمل في ظل انتشار شكوكو المفاجئ، الكاسح، حتى بيعت تماثيل حلوى في هيئته على عربات اليد، شكوكو بتعريفة!

كنتُ أتجاسر، فلا أكتفي بالسؤال، وإنما أحاول التعبير عن رأيي في المناقشات المُحتدِمة. يكتفي أبي بدلائل إعجابٍ صامتة، ويُثني أصدقاء له على وجهة نظري، ويرى آخرون أن المشاركة بالسماع هي الدور الذي يجِب ألَّا أجاوِزه.

إذا كان أبي خارج البيت فإن جلساتنا في الحجرة تطول، ننشغل بالكلام والمُذاكرة والقراءة وتناوُل الطعام، وننام — أحيانًا — متجاورين على المكتبة العريضة.

أجمل المشاهد حركة القوارب في المينا الشرقية لصيد الميَّاس، صيد العصاري. ظنِّي أن التسمية لأن الصيد في ذلك الوقت من النهار. وسيلة الصيد الوحيدة — كما كنتُ أراها — هي الطرَّاحة، يقذف بها الصياد من فوق قاربه الصغير، في دائرةٍ صغيرة، ثم يَسحبها بما يكون داخلها من سمك المياس. بالمناسبة، فإن السمك ليس من أكلاتي المُفضلة. أستبدِل بالسمك المشوي أو المقلي الذي تعدُّه أُمي، طبق فول بالزيت — بمليمَين — من الطنطاوي في شارع التتويج … لكنني أحببتُ المياس، منذ أوقاتِ صيده حتى تحوُّلِه إلى طبقٍ شهي بين طبقات من شرائح البطاطس.

أذكر أني كنتُ أتساءل: كيف يعيش أبناء المدن الداخلية في مصر دون أن يُشاهدوا البحر، بل كيف يعيش سكان أحياء الإسكندرية البعيدة عن البحر (وهي — في الحقيقة — أحياء قليلة) دون أن يكون البحر في مرمى أنظارهم.

البحر، الأفق، البرتقالة الهائلة التي تغوص في البحر، دائرة من الألوان المتداخلة، وإن غلبت الحمرة، تشحب وتتقلَّص، وتغيب، فتحلُّ الظلمة، يأتي الليل، وتتَّجِه عيناك إلى حيث القمر، يواصِل رحلة النهار والليل.

•••

رحلت أُمي، ثم لحق بها أبي. اختزلنا الشقة في حجرة القعاد، لا نكاد نتركها. ظلَّ كل شيءٍ في مكانه، وإن وضعت مكتبًا صغيرًا إلى جوار الكنبة، وضعت فوقه ما يُهمني من مكتبة أبي، وقصرت أوقات القراءة والكتابة فوقه. صار تنقُّلي في حرية بين الشرفتَين. وحين تناوشتني رغبات المراهقة، أكثرت من التطلُّع إلى ما بداخل الشُّقق المواجهة، وإلى عابرات الطريق، ربما تمازج الخيال واليد الصاخبة في صُنع النشوة.

لم أكن أعرف أن الفعلة التي ألتذُّ بها هي العادة السرية، لم أحاول حتى أن أربط بينها وبين ما قرأته لفائق الجوهري في مكتبة أبي عن العادة السرية، وأن الفتاة تُمارسها بكعب قدمها، بينما يلجأ الولد إلى يده. ثم قرأت — في صحيفة الحائط بمدرسة الإسكندرية الثانوية — حديثًا للرسول (ص) يُحذر فيه من يُمارس الاستمناء بأنه سيدخل النار ويدُه حبلى.

سألت، ففطنت إلى أني — إن لم أتب حالًا — فسأكون أحد هؤلاء الذين يدخلون النار بأيديهم الحُبلى!

كنتُ أُطل من شرفة حجرة القعاد، البحر يمتدُّ بلا أفق، وخيالاتي تمتدُّ في الأفق اللامحدود كذلك، يساعدني على الاختلاء بنفسي أني كنتُ أدَّعي التفرغ للمذاكرة، وأُغلق باب الحجرة من الداخل، وأواجِهُ البحر، وخيالاتي، أرقُب الانبثاق الرائع في لحظةٍ تختلف عن كلِّ ما عشتُه من قبل.

بدَتْ لي عالمًا غريبًا، حافلًا بالرؤى والأخيلة والأسرار المُتجدِّدة.

كانت وقفتُنا تطول وراء الشرفة في متابعتنا للمناسبات الدينية: صلاة الجمعة التي تجتذِب خُطَب الشيخ عبد الحفيظ ناسها، يَمتلئ بهم ميدان الخمس فوانيس أسفل البيت، ويمتدُّ الحصير إلى عمق الشوارع الجانبية، صلاة العيد، سوق العيد، الجلوات القادمة من مولد أبو العباس، مواكب الطرق الصوفية بالبيارق والأعلام والدفوف والطبول والرفاعية والحواة والمُنشدين، استقبالات الزعماء والرجال المُهمِّين من باب رقم واحد عبر شارع أبو وردة، وشارعَي رأس التِّين وفرنسا وميدان المنشية وشارع شريف، إلى ميدان محطة الإسكندرية.

أدركتُ — في لحظةٍ لا أذكرها — أن الحجرة هي صِلتي الحقيقية بالعالم الخارجي. أُطل منها على الجيران في البيوت المُقابلة والجانبية، وعلى أحوال البحر في تقلُّباتها المختلفة، والباعة أمام الدكاكين، وعلى الأرصفة، وحركة الطريق. اختزلتُ العالَم في مساحة الحجرة المُحددة، والمحدودة. أشاهد، وأستمع، وأتأمَّل، وأقرأ، وأكتب، وأُمنِّي النفس بمصادقة المُستحيل.

حجرة القعاد شخصية رئيسة في العديد من أعمالي الروائية والقصصية. رواية «صيد العصاري» — على سبيل المثال — التي استعدتُ فيها الصِّلة بين البحر وبيني. أطل من الشرفة — في أوقات العصر — على قوارب الصيد الصغيرة، وهي تصيد المياس.

لماذا وقت العصر؟ ولماذا سُمِّي المياس صيد العصاري؟

لم يشغلني المعنى، وإن خلَّفَت في وجداني تلك العلاقة المُحددة بوقت مُحدد، تأثيراتٍ يصعُب إهمالها، وانعكست — في كتاباتي — على العديد من الشخصيات والمواقف والأحداث.

•••

بعد أن تركتُ البيت رقم ٥٤ شارع إسماعيل صبري، تبينتُ — آسفًا — غياب صورةٍ واحدة لي في أودة القعاد، وفي الشقة جميعًا. ليس إلا صورة واحدة الْتقطَها مصور أتى به أبي. وقفتُ إلى جانب سميرة وعلي في جانب الطريق، أمام البيت، من حولنا جيران ومارة.

تمنيتُ لو أني صحبتُ معي إلى القاهرة صورةً لي في داخل الشقة، أعود إليها فأتذكَّر أجمل سِني العمر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤