رباعية بحري

تجربة شخصية
إذا الإنسان طاف حول الإسكندرية في الصباح،
فإن الله سوف يصنع له تاجًا ذهبيًّا،
مرصعًا باللآلئ،
ومعطرًا بالمسك والكافور،
يشعُّ الضوء شرقًا وغربًا.
«ابن دقماق»

بداية، أنا لم أكتب عن البحر، ولا عن الصِّلة بين البحر واليابسة، وهو ما يبين في الكثير من إبداعاتي الروائية والقصصية، لم أكتب لطرافة الموضوع، وإنما لأنه لم يكن بمقدوري سوى الكتابة عن البحر. لم يكن في صلتي بالبحر أول مرة، لأني ولدت، ونشأت، على شاطئه. البحر يحتضن الإسكندرية من معظم جوانبها، ويُحيط بحي بحري من ثلاث جهات، كان هو المكان الذي تطلُّ عليه شرفة بيتنا، ويطلُّ السطح على امتدادِ آفاقه. كنتُ أسير على شاطئه، وأتابع التعامُل اليومي معه في صيد السنارة والطراحة والجرافة، وعمليات الشحن في الميناء الغربي، وركوب البحر نفسه في قوارب صغيرة تعبُر المسافة من باب واحد إلى باب رقم ستة، أو في لانشات تمضي إلى قرب البوغاز. حتى في الظلام، كنتُ أستمع إلى البحر، وإن كنت لا أراه. أتذكَّر قول رامبو: إنه البحر وقد رحل مع الشمس.

البحر ليس موضعًا طارئًا في حياتي. إنه الحياة نفسها — والموت أيضًا، كما سأُحدثك حالًا — وعلى الرغم من انقضاء عشرات الأعوام على ابتعادي — بصورةٍ عملية — عن الإسكندرية، فإني أُفضِّل — حتى الآن — أن تدور أحداث أعمالي في بحري، لأني أشعر أن الحي تحت تصرُّفي. أعرف تاريخه وأسواقه وشوارعه ومساجده وبناياته وسلوكيات حياته اليومية. أعرف المُعتقدات والقِيَم والعادات والتقاليد. حتى مُسمَّيات الأشياء واللهجة هي وسيلة التعبير عندي. حتى مستطيلات البازلت التي تتفق فيها مع المدن الساحلية الأخرى.

البحر عند الشخصيات الأدبية بعامة، مبعث للتأمُّل الرومانسي، ولقضاء إجازة الصيف. البحر عند شخصياتي مصدْر للرزق. يحصلون على قوت أيامِهم بالعمل فيه، والإفادة من تنوُّع خيراته، وتُشقِيهم أحوالُه من نوات وعواصف ورياح، حتى إنه يختطف البحارة والصيادين — أحيانًا — من فوق بلانساتهم (البلانس هو سفينة الصيد الكبيرة) ويُغيِّبهم في أعماقه، ويُعطي الموروث الشعبي تأثيراته التي تدين — غالبًا — للخرافة. البحر مرادف للحياة بعامة في الأعمال الإبداعية، فهو يتسربَل بالسحر والخرافة والأسطورة. أما البحر في أعمالي، فهو مرادف للحياة والموت في آن. قد يكون حصيرة — بلُغة أهل الإسكندرية — فيُتاح ركوبه، والحصول على الرزق من أعماقه. وقد يُعاني النوَّات والعواصف والرياح، فتنعكس معاناته على من يركبونه، أو يقِفون على شاطئه، بحثًا عن الرزق. ولعلِّي أذكر قول سان جون بيرس: «ليكن مشهد البحر دافعًا لوعودٍ بأعمال جديدة، أعمال حية وجميلة، لا تكون إلا جميلة وحية، أعمال مُتمردة مندفعة، تخلُق لنا — من جديد — طموح الحياة الإنسانية».

•••

كنتُ أتحدَّث في المركز الثقافي الإيطالي عن الإسكندرية، وحي بحري بخاصة. لاحظتُ — بدا لي الأمر كأني أكتشِفه للمرة الأولي! — أن أبناء بحري ينتمون إلى الطبقات ما بين الدنيا، وما فوق المتوسطة، فهم يعملون في صناعة المراكب والصيد وبيع السمك وأعمال البحر وشركات التصدير والاستيراد، وهم حرفيون وتجار ومِهنيون … لكن أصحاب رءوس الأموال الكبري — وكبار الاقتصاديين بعامة — يفضلون السُّكنى في منطقة الرمل. لذلك فإن بحري يخلو إلَّا من قصرَين مُتقابلَين، أحدهما سراي رأس التين الذي بناه الخديو إسماعيل في أواسط القرن التاسع عشر، وهو الآن أحد قصور الدولة. وفي مواجهته قصر آخر، صغير، للسيدة عصمت مُحسن حفيدة حسن باشا الإسكندراني، والتي كان يُطلَق عليها — لا أدري من كان وراء التسمية — لقب أم البحرية. فيما عدا قصري رأس التين وأم البحرية (أزيلَ القصر الثاني — فيما بعد — وشُيِّدت في موضعه بناية سكنية) فإن ملامح بحري المعمارية قوامها بيوت قصيرة، مُتآكلة، متلاصقة، وبنايات متوسطة، وما فوق المتوسطة. ثمَّة الأقل من البنايات الفاخرة، لكن النسق المعماري لحي بحري ينتمي — في معظمه — إلى الطبقتَين الفقيرة والدُّنيا

•••

أحبَّ كامي البحر، ولا أعتقِد أن أحدًا من الأدباء الفرنسيين عبَّر عن مشاهد طبيعة البحر المتوسط مثل كامي. وثمَّة ملفيل في عمله الضخم «موبي ديك»، وجوزيف كونراد الذي اتخذ البحر موضوعًا للعديد من رواياته، وأشهرها رائعته «قلب الظلام» … وثمة من الأدباء العرب صالح مرسي وحنا مينا وغيرهم.

وحي بحري بالإسكندرية هو الأرضية لمُعظم ما كتبتُ من إبداعات. وقد أردتُ في رباعية بحري بأجزائها: أبو العباس – ياقوت العرش – البوصيري – علي تمراز، أن أكتب فصولًا مستقلة، تتكامَل في تصوير حي بحري الذي أحببتُه، وامتداده الطبيعي إلى المكس، أو إلى الرمل.

قوام الرباعية هو الحنين إلى الماضي، إلى الزمان الماضي، والمكان الماضي. الجو حافل بالأسطورة والصوفية والرموز والخوارق والتأمُّلات الميتافيزيقية والتطلُّع والخنوع وطلب المدد.

أقدمتُ على الكتابة، وفي داخلي أصداء من جسرٍ على نهر درينا لإيفو أندريتش، ذلك الجسر هو البطل في رواية أندريتش. أزمعت أن يكون حي بحري بالإسكندرية هو البطل في الرباعية، أن أكتب فصولًا مُستقلة، لوحات تُصوِّر الحياة في الحي عقب الحرب العالمية الثانية. لا صِلة بين الكثير من اللوحات، فلا يكاد القارئ يتبيَّن ما يربط بينها. عُنيت بالوحدة الداخلية، سواء على مستوى المكان، أو الشخصيات، أو الجو العام، بحيث تتكامَل الفصول — أو اللوحات — في بناء روائي يهبنا لوحةً مُتسعة الأبعاد والتفصيلات لهذا الحي الذي عشتُ فيه طفولتي وصباي وشبابي الباكر. وما زلت أحيا فيه — رغم البعد — ويحيا فيَّ، حتى الآن.

حين بدأتُ في كتابة أجزاء رباعية بحري، كان همِّي أن أصف الأشخاص القريبين منِّي، والذين ألفتُ رؤيتهم في جوامع بحري وميادينه وشوارعه وأزقته، وصيادي الجرافة بين الكورنيش وشاطئ البحر، والأماكن المرتبطة في وجداني بذكريات باقية. ولعلِّي أعترف أني حاولتُ أن أضمِّن الرواية — في سياق السرد — الكثير من المعارف البحرية (اكتشفت — وأنا أُراجع البوصيري — أني كررتُ اسمَي لوحتَين كتبتُهما في ياقوت العرش. فكرت في استبدالهما، لكنني شعرتُ أنه من الصعب أن أختار غيرهما للوحتَي البوصيري).

الرباعية فصول مستقلة، في أجزاء منفصلة، لكن الفصول، والأجزاء، مُتصلة بشكلٍ وثيق. إنها تُمثل — في مشهدها الكُلي — صورة للحياة في بحري، في الفترة ما بين نهايات الحرب العالمية الثانية إلى قيام ثورة يوليو. ولأن بعض الفصول جاءت أقربَ إلى القصة القصيرة، فقد نشرها «الأهرام» باعتبارها كذلك.

أضيف أنه لم يكن واردًا حتى مجرد الإفادة من التجربة المحفوظية في ثلاثية بين القصرين. قرأتُ أجزاء الثلاثية، فأحببتُها، وهي — حتى الآن — من أهم الإبداعات «العالمية» التي تُمثل امتدادًا أشدَّ تفوقًا لإبداعات بلزاك وزولا وستندال وغيرهم من روائيي الواقعية الطبيعية. بحري في روايتي هو البطل، السيد. أما ثلاثية محفوظ فإن المكان يظلُّ في خلفية المشهد الذي يُمثل تكويناته أفراد أسرة أحمد عبد الجواد، بداية بالأبوين، وانتهاء بالحفدة، مرورًا بالأُسَر التي ارتبطت بها بالقرابة والمُصاهرة.

•••

ما كدتُ أستعيدُ بعض الشخصيات التي تصورتُها سدى روايتي، حتى تبدَّى أمامي الحي بأكمله: الميادين، الشوارع، الحواري، الأزقة، المقاهي، البنايات، الأسواق، الجوامع، المقامات، الأضرحة، الزوايا. استعدتُ بحري الذي فارقتُه، وإن لم يُفارقني، الجزئيات والمُنمنمات والتفصيلات، ما غاب عن الذاكرة فتصورتُ أني نسيتُه، تشوش — للأسف — بزياراتي المتقاربة أو المتباعدة إلى الحي، عمليات الهدم والبناء والمحو والتعديل. حين بدأتُ الكتابة، وتركت العمل يكتب نفسَه — عادة ألِفتُها — قوَّضَت الملامح القديمة ما طرأ على الحياة، كأنها لم تتأثر بما لحِقَها من تبديل. حتى الشخصيات التي رحلت منذ سنواتٍ بعيدة، نفضت عنها غبار النسيان، وعادت إلى الأوراق تتحرك، وتتكلم، وتفعل الخير والشر، وتقدِم على الخطر، وتؤثر السلامة، تُشكل مشهدًا بانوراميًّا، فرضت ظروف النشر تقسيمَه إلى أربعة أجزاء.

أُنسية ليست مُومسًا على أي نحو، ليست حتى مومسًا فاضلة، وليست — بلُغة علم الاجتماع — ضحية بريئة، لكنها فتاة من الطبقة الأدنى، واجهت مأزقًا صعبًا، بذلت أعوامًا من حياتها للتغلُّب عليه. وعندما تصوَّرَت أن ذلك ما حدث، واجهت مأزقًا أشدَّ قسوة، وهو أنها قد تعود إلى ما كانت فيه لو لم تُنجِب، لو لم تهَب الرجل مطلبَه في الولد والامتداد والخلود. وقد تطلَّع سيد الفران إلى الولد والامتداد لأنه — على حدِّ تعبيره — كان مقطوعًا من شجرة. وربما لامس المرء الوهم للخلاص من الواقع، كما فعل حمدي رخا. وحين يعجز المرء عن مواجهة الخطر أو الظلم، فإنه قد يلجأ إلى قوةٍ عُليا يجدُ فيها الحماية والأمان، وهي الصوفية. وهو ما فعله علي الراكشي عندما أجاد الحاج قنديل حصاره، فوجد الملاذ في كلمات يوسف بدوي، وفي قراءة كتب الصوفية وممارسة طقوسها. وحين ضاقت السُّبل بجابر برغوت، فإنه لجأ للسفر إلى القاهرة، يضع بين أيدي سادة الديوان الذي ترأسه السيدة زينب مشكلاتِ الناس وما يُعانون. وكما يقول إيفانز ريتشارد فإن «مواجهة الإنسان للأزمات والكوارث يؤدي إلى شعوره بالخوف والقلق، وأنه لا يستطيع أن يُسيطر على مشاعره، ويقضي على يأسه، إلَّا عن طريق تكوين الشعائر الدينية». واللافت أن عدد أعضاء الطرق الصوفية في مصر قد تزايد بعد نكسة ١٩٦٧م بنسبة ٢٥٪ (البناء الاجتماعي للطريقة الشاذلية في مصر — فاروق أحمد مصطفى — ١٩٨٠م). ولا شك أن الصوفية والأولياء والموالد والأذكار وغيرها من المظاهر الدينية أبعاد ثابتة في حي بحري. ثمة أبو العباس والبوصيري وياقوت العرش وكظمان ونصر الدين وعشرات من الأولياء الذين يَحظى بحري بوجود أضرحتهم ومقاماتهم، وبملايين المريدين والزوَّار من طالبي البركة والمُكاشَفة والنُّصفة والمدَد. ويربط حسن الساعاتي بين وجود عدد كبير من المساجد في بحري وبين استقرار الحياة في الحي، وزيادة كثافته السكانية، لأن أضرحة الأولياء تكون مراكز جذب للسكان، باعتبار أن الأهالي يُنزلونهم من أنفسهم منزلةً عظيمة، لأنهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وكان ذلك ما حدث في رائعة يحيى حقي «قنديل أم هاشم» حين حرص الجد — محسوب السيدة زينب — على الإقامة بجوار مسجدها. سيدي الأنفوشي له — في قلعة قايتباي، في الطرف الشمالي لمدخل الميناء الشرقية — مسجد وضريح ومقام، لكنه — دونًا عن جميع الأولياء — بلا أتباع ولا مُريدين، بلا دعوات وابتهالات وتهدُّجات واحتفالات مولد ونذور وأذكار. حياته لا يذكرها أحد: من هو؟ أصله؟ فصله؟ كراماته؟ سيرته؟ الرواية — أصلًا — غير مؤكدة. ربما الأنفوشي حقيقة، وربما رفاته في الضريح الذي يتوسط فناء مدرسة البوصيري الإلزامية بالموازيني. لكن مسجد قايتباي الصغير بلا اسم — مُعلن — لولي. ثمة رأي أن اسم الأنفوشي هو «الكهنفوشي»، وهو اسم فارسي لشيخ عجمي. والاسم موجود في كتاب «الضوء اللامع» للسخاوي. الهوية المجهولة حياة سيدي الأنفوشي. البداية منبعها الغموض، مصبُّها الغموض كذلك، وربما لم يكن في حياة الإسكندرية وليٌّ بهذا الاسم. أبو العباس المُرسي، حارس الإسكندرية، وسُلطانها، وكبير أوليائها، وحبيب الغلابة والمُنكسرين والمظلومِين والتائبين، والباحثين عن الذُّرية الصالحة والبرء من العلة والسقم. نسيج القصة رائق، متماسك، لا ينقص خيطًا: رحلة الزهد والتصوُّف من مرسيه إلى الإسكندرية: «فو الله ما رأيتُ العز إلا رفع الهمة عن الخلق، ولا السلامة في الدنيا إلا بترك الطمع في المخلوقين». انتشار الدعوة، تكاثر المريدين والأتباع. القسَم بياقوت العرش لا يمتدُّ إلى خواء، وإنما يمتدُّ إلى حياة طيبة، متكاملة. صديق المرسي ونديمُه وصفيُّه وتلميذه. لم يكن يؤذن لأية صلاة إلَّا إذا تناهى الأذان من العرش الإلهي. بُردة البوصيري الشهيرة تُحيط بصحن جامعه. علي تمراز مجذوب، وله كرامات، لا يدري أحدٌ من أين جاء، ولا كيف سارت حياته إلى الموت. حتى سيدي جابر الذي ترقُد رفاته في الجانب الآخر من المدينة، له أصل، وإن كان يصعب تحديده. اجتهادات تؤكد أنه الرحالة ابن جبير. اجتهادات مُقابلة، واثقة، ترى أنه سيدي جابر الأنصاري. بل إن بعض هؤلاء الأولياء ترتبط مكاشفاته بالبحر. كان الشيخ على الصياد — على سبيل المثال — صيادًا موفقًا. وكان يُحب أن يخلو إلى نفسه بعيدًا عن الناس حتى ألِفتهُ طيور البحر، فكان يُخاطبها بلسانها. وذات يومٍ أدركه المرض، فتبارت الطيور في إحضار الأعشاب الشافية من الجُزر البعيدة عبر الأفق، وراحت تنثُرها بين يدَيه متوسلةً إليه أن يُجرب علاجه بها، فقال لها: إذا كان قد حان أوان الشفاء، فسأُشفى بدونها، وإن لم يكن قد حان، فما الفائدة؟ وظلَّ على مرضه حتى لفظ آخر أنفاسِه عند الشاطئ. وبكتْهُ الطيور البحرية، ودعت الله أن يجعل مثواه في مملكتها، فاحتضنته مياه البحر، وصار الوليَّ الوحيد الذي تغمُر المياه ضريحَه. ويُحرِّم الصيادون على أنفسهم محاولة صيد آلاف الطيور التي تحجُّ إلى حرم الضريح.

•••

ما أوجه الاتفاق — والاختلاف — بين رباعية الإسكندرية ورباعية بحري؟

صدمَني السؤال في البداية، وربما تضايقتُ منه، ثم ألفتُه بالمعاودة. أُصارحك أني تعمدتُ ألَّا أقرأ رباعية الإسكندرية حتى لا أقع في شُبهة تأثُّرٍ — قراري بكتابة رُباعية بحري يعود إلى مطالِع حياتي الأدبية — وبالذات في ضوء الحفاوة النقدية الواضحة، والتي اعتبرت رُباعية داريل من أعظم إبداعات القرن العشرين.

ثم حاولت — بعد أن صدرت رباعية بحري — أن أُفتش عن جوانب الاتفاق والاختلاف، لا كناقد، فقد مللتُ التأكيد أنه حتى فوزي بجائزة الدولة في النقد لا يُلغي تفهُّمي لقُدراتي النقدية، وأني سأظلُّ دومًا خارج أسوار النقد!

يقول جون فويلز: «إن المدن المنفتحة هي أُمهات للمُجتمعات المُستنيرة، ووجود مثل هذه المدن هامٌّ بشكلٍ خاص للأدب. ولهذا فإنني أعتقد أننا نتعشَّق أوهامَنا عنها، ونغفِر لها الكثير من خطاياها». يضيف فورستر: نحن حين نفعل ذلك مع الإسكندرية، فإننا لا نُلام، لأنها النموذج الأصلي للكوزموبوليس وانصهار المُتناقضات (الإسكندرية تاريخ ودليل–١١).

واللافت أن كلَّ المُقيمين في بنسيون ميرامار: ماريانا، وعامر وجدي، وطلبة مرزوق، ومنصور باهي، وحُسني علَّام، أقاموا في البنسيون لهدفٍ شخصي، لا صِلة له بالجماعة ولا مشكلاتها، لا صِلة له بما يجري خارج البنسيون. دعكَ من زهرة، فهي قد جاءت إلى البنسيون لتؤدي الدور الذي رسمَه لها الفنان، أو رسمَتْه لها تطوُّرات الأحداث. إنها ضحية في كل الأحوال. حتى بائع الصحف محمود أبو العباس، اتخذ من الإسكندرية موضعًا للحصول على مكاسب شخصية بطُرق غير شريفة.

وإذا كانت صلة شخصيات ميرامار نجيب محفوظ بالإسكندرية هي صلة هامشية، حيث اختاروا الإقامة في الإسكندرية كمنفى، لا تشغلهم حياة ناسِها اليومية، ولا مُشكلاتهم. فالبنسيون بالنسبة لمن يُقيمون فيه — على حدِّ تعبير سيزا قاسم — مكان سلبي أقرب إلى محطة السكة الحديد، حيث يتقابل — للحظاتٍ معدودات — المسافرون، كلٌّ يلهث في طريقِه (روايات عربية، روايات مقارنة، ١٦١). إذا كان ذلك كذلك، فإنه من الصعب إهمال التأثيرات الأجنبية في حياة الإسكندرية. وعلى سبيل المثال، فإن يومَ الأحد في الإسكندرية يختلف عن اليوم نفسه في بقية المدن المصرية. الشوارع خالية نِسبيًّا، والكثير من المتاجر يُغلق أبوابه، ذلك لأن التأثيرات الأجنبية التي تحقَّقت من خلال «مواطنة» أعداد هائلة من الجاليات الأوروبية لم تندثِر من المدينة بصورةٍ كاملة بعد. لكن الصورة التي رسمَها داريل في رباعية الإسكندرية — على حدِّ تعبير صلاح عبد الصبور — تنتمي إلى داريل أكثر ممَّا تنتمي إلى الإسكندرية «فالإسكندرية ليست هي مدينة هذه الحفنة من الأجانب والمُتمصرين، وليس هي مخادع اللذة وأندية الشواذ والمُغامرين، بل هي مدينة مُمتدَّة مليئة بالرجال والنساء الذين يصنعون الحياة، ويأكلون العيش بعرق الجبين» (عالم القصة، العدد الرابع). ويقول صديقي الكاتب المسرحي الكبير ألفريد فرج «إن انتباه داريل — قبل أن يكتب رباعية الإسكندرية — كان مُتجهًا إلى مجتمع الأجانب والمُتمصِّرين دون المِصريين. المعنى نفسه يورده إدوار الخراط، فإسكندرية داريل هي أسطورته الشخصية أولًا وأخيرًا، أسطورة تكوَّنت من مشاهد خارجية التقطتْها عين أجنبية، ومشاهد وأخيلة تخلَّقت في نفسٍ منفصلة محجوزة عن قلب البلد وروحها، بانحيازات رازحة وراسخة. داريل لم يعرف من الإسكندرية إلَّا سطحها الخارجي، قشرتها السطحية: بيوت ومكاتب الدبلوماسيين والموظفين والملَّاك. الفئة الفوقية من المتمصِّرين الذين لم يعرفوا من مصر سوى أنها البقرة الحلوب، يطفون على عباب مدينة تمور بالحياة، كالزبد أو الرغوة. الشوارع والبيوت — والأحياء أحيانًا — التي كانت محرَّمة على أولاد البلد. ما كتبه عن الإسكندرية هو موقع أو حالات نفسية للأجانب ولأشباه المصريين، أو مجرد استعارات وأقنعة مصنوعة وزائفة للمصريين أو المُتمصِّرين، الذين لم يعرفوا من مصر إلَّا كيف يستغلُّونها. أما الوطنيون، فهم الخدم والبغايا وغيرهم ممن يَحيون في الهامش، وينظُر إليهم الكاتب بنفور، وبعدم مبالاة في الوقت نفسه (الأهرام ١٦ / ٧ / ١٩٩٦م). ويضيف إبراهيم فتحي أن رباعية داريل «تموج بأنماطٍ عجيبة من البشر لا تجد بينها وجهًا واحدًا نتعاطف معه، أو يعكس صورتنا الحقيقية. لقد كان داريل يُصور الإسكندرية المُستلقية في حلمها الأزرق كأنها إحدي الزواحف القديمة، يغمرها الضوء البرونزي الذي تُلقيه البحيرة» (العالَم الروائي عند نجيب محفوظ، ١٢٦). لقد اختار داريل شخصياته كلها من جو الأقليات الوافدة إلى الإسكندرية: اليهود واليونان والإيطاليين والفرنسيين والأرمن والإنجليز وغيرهم، ومع ذلك فإن اختياره اقتصر على فئة من الوافدين انغلقت على نفسها تمامًا، فهي تجد في الإسكندرية مكانًا، محلَّ إقامة، دون أن تُحاول التفاعُل معها كشعبٍ أو كمدينة (أفكار معاصرة، ٢٤٢-٢٤٣). ولعلَّ التعبير «ما قلَّ ودل» يصدُق على ما كتبَه الكاتب الصحفي عمرو عبد السميع بأن مُعظم شخصيات رباعية داريل من الأرمن والإيطاليين والفرنسيين وغيرهم من أبناء الجاليات، وأن الرواية قد امتلأت بإساءات بالِغة للمصريين، وبدت مُترعة بنظرة شديدة السوداوية للبلد، ولقاطنيه، واخترعت أحداثًا عجيبةً عن معاونة الأقباط للعصابات الصهيونية في فلسطين قبل نكبة ١٩٤٨م (الأهرام ٢١ /٢/ ٢٠٠٦م)

وعمومًا، فإن داريل كتب عن الإسكندرية، مُستمدًا من ثقافته لا من تجاربه، ومن ثم فقد جعل الإسكندرية مدينة إغريقية أو متأغرقة! إنها — على لسان كليا — تتراوح بين الوهم والحقيقة، بين الواقع والصور الشعرية التي يُثيرها اسمها بذاته في الأعماق (كليا، ١١).

ولعلَّنا نجد تعبيرًا عن شخصية لورنس داريل، في حديثه عن نفسه بأنه إنما يكتب «من أجل الشيكات التي تسد متطلبات الغاز والنور والتدفئة، إنني أكتب لأعيش».

•••

والحق أنه من الصعب أن أُجري شخصيًّا مقارنة بين ما كتبتُه وما كتبه مبدعون آخرون، لكن الذي أستطيع تأكيده أن الكتابة عن الإسكندرية — وبحري تحديدًا — حلمي القديم، الجميل، الذي يرافق محاولاتي الإبداعية منذ بداياتها. السؤال: لماذا، لم أُناقِشه — بيني وبين نفسي — على الإطلاق. فقد كانت الكتابة عن حي الطفولة والنشأة والسمات المُميزة والبيئة التي تختلف عن مثيلاتها في أحياء الإسكندرية الأخرى … كانت شيئًا أشبه بالقدر … لكنَّني أملك — فيما أقدِّر — طرح بعض الآراء التي تناولت رباعية داريل، ثم أترك للقارئ — قارئ أجزاء الرباعية وقارئ هذا المقال — أن يتعرَّف إلى ما ينشده من أوجه الاتفاق والاختلاف.

يقول الناقد الإنجليزي جلبرت فيلبس: «إن داريل يبذل قدرًا كبيرًا من الطاقة في رباعية الإسكندرية، لكنها أقرب تمامًا إلى أن تكون طاقةً ذهنية، ناشئة من الذهن، وموجهة إليه، ولا يمكن مقارنتها بذلك التعاطف الخيالي العميق الواسع المدى الذي يميز القصة العظيمة في أي عصر، والقيم الإنسانية في رواياته هزيلة ومُهتزة، فالروايات تُوهم بأنها تُحلل الحب، ولكن أين هذه الأمثلة للعلاقات الإنسانية التي يُمكن وحدَها أن تدعم الدعوى وتؤيدها؟ … إن المهارة هنا مهارة ذهنية، أو متعلقة بالسلوك الجنسي المُطلق في الحب. إنه جنس في الرأس، إن صح التعبير (مجلة «نادي القصة»، نوفمبر، ١٩٧٠م).

في تقديم داريل لكتاب م. فورستر «الإسكندرية تاريخ ودليل» يؤكد أن المدينة العريقة هوت إلى قاع النسيان بقدوم العرب «مع وصول عمرو بن العاص وفرسانه». قدم داريل الإسكندرية المدينة، التي لا هي باليونانية ولا السورية ولا المصرية، لكنها خليط، شيء مشترك من كل هؤلاء، بل إن بعض شخصياته الأجنبية — ومعظم شخصيات الرواية من الأجانب! — كانوا يجدون في فلسطين ملاذًا مُرتقبًا لليهود، وللجاليات الأجنبية في مصر «لو استطاع اليهود أن يكسبوا حُريتهم، فإننا جميعًا سنكون في يُسر وهناء. إنها أملُنا الوحيد» (ماونت أوليف، ٢٥١). لكن مدينتي هي الإسكندرية السكندرية، الإسكندرية المصرية التي ينتمي أهلها إليها بتعاقُب الأجداد، وبالميلاد والطفولة والنشأة وأُفق المستقبل.

نحن نجد الإسكندرية السكندرية، الحقيقية، في أعمال إدوار الخراط ومصطفى نصر ومحمد الصاوي ومحمد حافظ رجب وصالح مرسي وأحمد حميدة وإبراهيم عبد المجيد ورجب سعد السيد ومحمود عوض عبد العال وعبد الفتاح مرسي ومنير عتيبة وحنان سعيد وعبد الفتاح رزق ومحمد عباس على، وغيرهم. أنت تتعرف — في أعمال هؤلاء الأدباء — إلى الإسكندرية المُوظفين والصيادين وباعة السمك والتجار والحرفيين وفِرَق الصوفية والباعة السريحة وعمَّال الميناء وكتَبَة المحاكم وروَّاد المقاهي … إلخ.

وبالنسبة لي، فقد وهبَني البحر رحابة الأفق. أرفض أن تُقيِّد حركتي ولا آرائي، ولا أن تحدَّ انطلاقَ مخليتي محظوراتٌ من أي نوع. أنا أكتب حتى ما قد يرفضه الرقيب في داخلي، انعكاسًا لمطالب الرقيب المجتمعي. لا يَشغلني إن وجد سبيله إلى النشر، أم أودعتُه أدراج مكتبي. وما أكثر ما تحتفظ به هذه الأدراج من أوراق.

•••

ينقل جبرا إبراهيم جبرا عن دبلوماسي من أوروبا الشرقية قوله: «كلما اقترب الإنسان من البحر المتوسط، ازداد تشبُّثه بالحياة، وكلما ابتعد عنه، هان عليه الموت». والحق أنه إذا كان البحر المتوسط صغيرًا للغاية، فإن عظمته وامتداد تاريخه — والقول للورانس داريل — يجعلاننا نتخيَّله أكبر مما هو عليه حقًّا (بلثازار). وقد تحققت العظمة وامتداد التاريخ على أيدي هؤلاء الذين يَحيَون على سواحل المتوسط، والسكندريون — كما تعلم — يحيون على سواحل المتوسط. أنا أُحب البحر المتوسط لأنه البحر الذي تطلُّ عليه الإسكندرية. أُحب أُفُقَه اللامتناهي. أقرأ عن مُدنه وجُزره وأسماكه. أقرأ حتى عن النفايات التي تقذف بها ناقلات البترول في مياهه، وعن التلوث البيئي، والمُستقبل المحفوف بالخطر (وهو ما استفزَّ الفنان — حسب اجتهادي الشخصي — في روايتي «غواية الإسكندر»).

يتحدَّث داريل عن الإسكندرية في «جوستين» بأنها مدينة تم بناؤها كقلعة حصينة تصد طوفان السود الأفارقة، لكن هؤلاء السود — بأقدامهم الناعمة — بدءوا في التسرُّب إلى الأحياء الأوروبية. ولأن «المسلمين» تمكَّنوا من مقاليد الأمور، عقب الحرب العالمية الثانية، فقد صارت المدينة أقلَّ شأنًا عن ذي قبل. أعاد داريل النغمة التي عزفها — قبل عشرات الأعوام — مفكرون وكتاب أوروبيون، وأنهم شعب من العبيد «لا تُوجَد لديهم ذمة أو حياء بشري»، وأنهم «جنس بائس» (بيير سوليه: مصر ولع فرنسي، ٢٢٠). بل لقد وجد هؤلاء الكتَّاب في البنية الهيكلية للمصريين، تماثلًا مع البنية الهيكلية للحيوانات التي تعيش معهم (المرجع السابق، ٢٢١). وفي الصفحات الأولي من «جوستين» يصف داريل الإسكندرية بأنها قد أصبحت مُعذَّبة بالتراب، وأنها صارت ملكًا للمُتسولين، وأنها «بركة من المياه الآسنة» و«مجرد مرحاض عمومي كبير». مقولة رجل مخابرات استعماري، تُحزنه الرؤية التي تستنِد إلى شواهد كثيرة، بقُرب غروب شمس الاحتلال الأجنبي، لتُصبح الإسكندرية — ومصر كلها — ملكًا لأبنائها، وهو ما تحقَّق علي المستويَين العسكري والمدني، عقب العدوان الثلاثي في ١٩٥٦م.

الإسكندرية البعيدة عن الأحياء الوطنية — في رواية داريل — ليست مدينة مصرية، لكنها مدينة متأغرقة، هي ليست إسكندرية القرن العشرين، ولكنها إسكندرية القرون الوسطى. فحين انهارت دولة الإسكندر المقدوني، واقتسمها أتباعه، ازدهرت عواصمهم الصغرى، مثل أنطاكية وإسكندرية وغيرهما من مدن الشرق الأوسط القديم. وكانت هذه المدن تحاول أن تتمسَّك بطابع سادتها الإغريقي، وتحاول أن تتمثل الثقافة الإغريقية وتُعيد بعثَها في أثوابٍ جديدة ومظهرٍ جديد. وحين انتشرت المسيحية في هذه المدن تصالحَت المسيحية مع النزعة الإغريقية، ومن ذلك كله وُلدت نزعتان دافقتان قويتان، كانت أولاهما عطاءً مسيحيًّا في أصله، مختلطًا بالوثنية القديمة، وذلك هو فلسفة الأفلاطونية الجديدة التي ابتدعها إغريقي سكندري هو أفلوطين. وكانت ثانيتهما عطاءً وثنيًّا في جوهره، مُحتكًّا بالمسيحية الناشئة، وهي النزعة الحسية المُسرفة، حين تتوزع بين صبوات الجسد، ثم تتلذَّذ بعد ذلك بالندم على الخطيئة. ومن استشراف الأفلاطونية الجديدة وتصوفها وإيمانها بالروح، ومن إيمان الوثنية القديمة بالحس والشهوة والخطيئة ولدت الروح الهلنستية أو المُحاكاة للهيلينية، والمتأغرقة أو المُحاكية للإغريقية. ولأن داريل كان يكتب عن الإسكندرية مُستمدًّا من ثقافته لا من تجاربه، فقد جعلها مدينة هلنستية أو متأغرقة … الإسكندرية — في تقدير لورانس — عاصمة أوروبا الآسيوية، حيث تُهيمن الفرنسية والإيطالية واليونانية على المشهد كله، وكل شيء مصبوب في قالب أوروبي (مانت أوليف، ١٨١). بل إن «جوستين» تتشابه مع الإسكندرية في أن لكلٍّ منهما نكهة قوية، دون أن يكون لها شخصية حقيقية (جوستين، ١٥٤). ويصف داريل إسكندرية الحرب العالمية الثانية بأنها عاصمة أوروبا الآسيوية. إذا كانت القاهرة تصبُّ حياتها كلها في قالبٍ مصري، حيث العربية هي لغة الجميع، فإن الأحاديث في الإسكندرية يُهيمن عليها الفرنسية والإيطالية واليونانية «الجو المحيط هنا، والسلوك الاجتماعي، وكل شيءٍ مختلف. إنه مصبوب في قالب أوروبي، حيث تعيش الإبل وأشجار النخيل وأهل البلد المُتلفعون بالعباءات، يعيشون فقط، وعلى نحوٍ ما، كحاشيةٍ وضَّاءة ملونة، كخلفيةٍ وضَّاءة ملونة، كخلفية قماشية لحياة مقسَّمة إلى أصولها المختلفة» (مانت أوليف، ١٨١). إنها «خمسة أجناس، وخمس لغات، ودستة من المذاهب: خمسة أساطيل تدور بظلالها اللزِجة عبر البحر خلف حاجز الميناء. إلَّا أنَّ هناك ما يزيد على خمسة أجناس يبدو العنصر اليوناني الشعبي متميزًا فيما بينها» (جوستين، ١٢). ويقول: «إن عقل مصر هو مجتمعها الأجنبي» (مانت أوليف، ١٣٠). ويتحدث الراوي في «كليا» عن نسيم الذي بدأ «المصريون» في تجريده من مُمتلكاته، فانشغلت الإسكندرية كلها في الدفاع عن عزيزها (كليا، ١٤٢)، ومن الواضح أنه عُني بكل الإسكندرية الوافدين إليها من أبناء الجاليات الأجنبية. وإذا كان اليهود — في ثنايا الرواية — يتطلَّعون إلى أرض الميعاد، فإن الأقباط يُمثلون أقلية مُستضعفة ومقهورة. الرواية تحفل بعبارات التكريس للعداء المُختلق بين المُسلمين والمسيحيين. والكاتب يرى أن «الإسكندرية التي تبدو مُسالِمة في ظاهرها، لم تكن — في الحقيقة — مكانًا مأمونًا للمسيحيين» (جوستين، ١٦٩). يقول على لسان قبطي مصري: «إننا الإخوة المسيحيين طابوركم — الأجانب — الخامس في مصر» (مانت أوليف، ١٤٣). ويتحدَّث عن حركة سِرية ينظمها الأقباط للاستيلاء على الحكم، وتحرير البلاد من المُسلمين، تستعين في ذلك بتسليح البدو (مانت أوليف، ٢٧٥).

عاش داريل في الإسكندرية فعلًا لوقتٍ قليل خلال الحرب العالمية الثانية حين كان يعمل في المخابرات البريطانية، ولكن هذه الحياة المعزولة بطبيعتها، الضائعة في صمت التكتم والتآمُر لم تُتح له الفرصة لمعرفة الإسكندرية بناسِها الخُلص، ونبضها الصادق، فقد كان كل من يراهم فلولًا من المُتمصِّرين والأجانب والمغامرين والجواسيس المزدوجين، وكل أولئك البشر حين ينتظم خيطٌ فني لا يصنعون إلَّا عملًا وثنيًّا مليئًا بالخطيئة والندم مثل «رباعية الإسكندرية» (مجلة «عالم القصة»، العدد الرابع). يضيف أحمد بهاء الدين — وأعتذر لأني سأنقل نصًا مطولًا، لكنه مُهم للغاية — أن داريل يرسم للإسكندرية صورة بنفسجية بديعة، بكل ما فيها من تفصيلات وضواحٍ وأسماء: محطة الرمل وشوارع سعد زغلول وصفية زغلول والسبع بنات والنبي دانيال وفندق سيسل ومطاعم المكس المُطلة على البحر ورمال العجمي البيضاء، ولكنه يرسم للمجتمع الوطني صورة تنزف بالصديد، لا يكاد المرء يعثر في رواية على شخصية فيها صراع بين القوة والضعف. كل البشر عنده تقريبًا مشوَّهون من الداخل، مُستسلمون تمامًا للضعف والنقائص بدون أية مقاومة أو صراع، واستكمالًا لهذا الإحساس حشد الكاتب في قصته عددًا لا مثيل له من ذوي العاهات: ليزا الجميلة الفاتنة عمياء، وسميرة عذراء الإسكندرية بدون أنف، نيروز شقيق نسيم مشقوق الشفتَين، نسيم نفسه يفقد إحدي عينَيه خلال الغارات، وتنتهي القصة وهو بعين واحدة، و«كليا» الرسامة تنتهي القصة ويدُها التي ترسم بها مُصابة (أفكار معاصرة، ٢٤٨-٢٤٩). وانطلاقًا من ذلك كله، فإن أحمد بهاء الدين يُعلن ثقته في أن التاريخ الأدبي لن يضع داريل في مصاف الأدباء العظام، لأن كاتب القصة العظيم — في تقدير بهاء — لا بد أن تكون فيه صفة مهمة جدًّا، وهي الإحساس بأنه يتعاطف مع الإنسانية المُمثَّلة في أبطال قصصه، كلهم، أو بعضهم. داريل لا يروي قصة الحياة، لكنه يروي فضيحتها، وهو يُحاول أن يدسَّ في نفس القارئ إحساسًا بالشماتة لا بالعطف (المرجع السابق).

من ناحيتي، فقد أدهشني أن داريل جعل السيالة حيًّا للبغاء، وهو حي له عاداته وتقاليده ومعتقداته الدينية. برَّر داريل ذلك الخطأ المعيب في حوارٍ مع صديقي فتحي الإبياري بأنه اقتبس «الصورة» من حي كلوت بك القاهري! … وكانت ميليسا في رباعية داريل مُومسًا محترفة، فاضلة، ولم تكن أنسية — كما تعرف — كذلك. لم تكن أنسية مومسًا، إنما هي فتاة مصرية عانت مأزقًا، وأمضت الكثير من سِني عمرها في محاولة اجتيازه.

تبقى ملاحظة مهمة يجدُر بي أن أشير إليها: إن رباعية بحري تختلف عن رباعية داريل وميرامار نجيب محفوظ ورجل فتحي غانم الذي فقد ظلَّه، في أن الفصول/اللوحات منفصلة، متصلة، وأن الرواية لا تتكرَّر عبر تعدُّد الأصوات، فالصوت واحد سواء أكان الراوي العليم، أو الراوي المشارك، أو من خلال التداعي، والمونولوج الداخلي. روايتي «بوح الأسرار» هي ما ينتسب — بالفعل — إلى تعدُّد الأصوات. الحادثة الواحدة يتعدَّد رواتها، كلٌّ من وجهة نظره. لذلك فإني أسمح لنفسي بأن أختلف مع صديقي الناقد شوقي بدر يوسف في أن رباعية بحري تحتفي بالشكل نفسه الذي سبق أن ظهرت عليه رباعية داريل (الرافد، ديسمبر ٢٠٠١)

•••

أصارحك أني لم أفهم قول أ. م. فورستر «إن السكندريين لم يكونوا أبدًا مصريين حقيقيين» (الإسكندرية تاريخ ودليل، ٤٨). دعك من حكاية الموقع الفريد، وغيرها من التعبيرات التي تحاول أن تنزع عن الإسكندرية صفتها الوطنية (لا يخلو من دلالةٍ وصف أ. م. فورستر، الرياح الشمالية الباردة بأنها القديس — الولي — الحقيقي الحارس للإسكندرية). وبالتأكيد فإن أهل الإسكندرية — أو غالبيتهم — ليسوا امتدادًا خالصًا لأبناء الإسكندرية القديمة. ثمة القادمون من الصعيد ومدن الدلتا. ومع اعتزازي بسكندريتي، وأنها كانت هي بداية تعرُّفي إلى كلمة وطن، فإنه من الصعب أن أُهمِل انتماء أبي إلى عائلة من بركة غطاس بأبو حمص، ومولد أُمي في دمنهور.

كم حزنتُ عندما قرأت في الصحف عن بركة غطاس، باعتبارها من القرى المنسيَّة في جغرافيا مصر. لم يشفع لها تصدِّيها لقوات الفرنسيين، بحيث أقدموا على محوِها من الخريطة، لتُبنى من جديد، ولا زكَّتها عمليات التطوير التي شملت مدينة دمنهور بخاصة، ومدن وقرى البحيرة بعامة. ظلَّت — فيما يبدو — على حال التخلُّف، حتى تذكَّرها مسئولو الميديا، والباحثون عن إنجازاتٍ تُنسب إليهم. نُظمت المواكب السياسية إليها، وجري تطوير ما بها من منشآت البنية التحتية: المدارس ومكتب البريد والمساكن وغيرها، مما تباهي المسئولون بافتقاده قبل أن تمتدَّ إليه أيديهم — أيدي الخير! — بالإصلاح والتعمير وإعادة البناء!

والحق أني — قبل نشر هذه الأنباء — لم أكن أعرف شيئًا عن أحوال بركة غطاس، صورتها الجميلة كونتُها من أحاديث أبي (تعود إلى أكثر من نصف قرن) وانسقْتُ وراء الصورة الجميلة، فجعلتُ محمد أفندي الكاشف بطل روايتي «البوصيري» (رباعية بحري) يحنُّ للعودة إلى بركة غطاس، وقضاء أيامه الأخيرة بين خضرتها وناسها الطيبين وهنائها!

•••

أذكر قول صياد حلقة السمك في ثقة، إن السكندري الحقيقي أصله من رشيد. لا يخلو التعبير — بالطبع — من مبالغة، لكن المعنى الذي يُهمني إظهاره أن الكوزموباليتينية التي كانت لإسكندرية ما قبل الحرب العالمية الثانية، وربما إلى حرب ١٩٥٦م، قد انتهت إلى أهلها الوطنيين (أذكِّرك بروايتي «الشاطئ الآخر»). وأعداد كبيرة منهم ليست من مواليد المدينة، أو أن آباءهم ليسوا كذلك. الإسكندرية تكوين في الجغرافية المصرية، قطعة من الزمكانية المصرية. المواطن السكندري هو ابن راقودة وفاروس والصعيد والدلتا والبحر والبادية. هو تلاقي ذلك كله، واختلاط ذلك كله. قال داريل إن الإسكندرية لن تتغيَّر أبدًا طالما استمرت الأجناس تموج هنا كالخمر في دنٍّ من الدنان (كليا، ٧٧). وقد تغيَّرت الإسكندرية. نزحت الأجناس التي كانت تموج فيها، ولم يعد إلا أهلها.

بالتأكيد فإني أنتمي إلى موطني الإسكندرية، وإلى وطني مصر، وإلى قوميتي في امتداد الأقطار العربية بهمومها ومشكلاتها وتطلُّعاتها، وإلى انتمائي إلى المجتمع الإنساني في إطلاقه. ولعلَّ فورستر يدحض رأيه الغريب في تأكيده — هو نفسه — بأن الأجانب لم يختلطوا بأبناء الإسكندرية الأصليين إلا نادرًا (الإسكندرية تاريخ ودليل، ت. حسن بيومي، المجلس الأعلى للثقافة).

•••

الصورة لي وأنا أضع ابنتي أمل على صدري، ومياه حمام السباحة تصل إلى ما فوق ركبتي. أعتز بأني فزتُ بجائزة «السير» في الحمام. الحمام ليس جزءًا من قصرٍ أو فندق أو فيلَّا، لكنه جزء من شاطئ سان استيفانو، شيَّدته إدارة الفندق المقام على الناحية المقابلة من الشاطئ، يسبح فيه الأطفال، فلا يُواجهون خطر الغرق. هو حمام سباحة عادي، لكنه أُقيم داخل مساحة البحر، على الرمال المُوصلة بينه وبين اليابسة.

كانت تلك آخِر قدراتي للسباحة في البحر. وكانت ابنتي هي الحجة التي استندتُ إليها، حتى أنزل حوض السباحة المخصَّص للصغار. نزعت ثياب الوقار، وارتديتُ لباس الشاطئ، وتكفل من لا أذكُره بالتقاط هذه الصورة التي تعكس فوزي بجائزة عبور ما بين ضفتي حمام السباحة!

أنا لم أسبح في البحر أبدًا، البحر الذي أعنيه هو المينا الشرقية، أو الأنفوشي، أو أحد الشواطئ المُمتدة حتى المنتزة، معلومة أذكرها وأنا أعاني ارتباكًا حقيقيًّا، فليس من المُتصوَّر أن الكاتب الذي جعل من البحر شخصية رئيسة في العديد من أعماله، تقتصر صِلته بالبحر على تأمُّل أحواله من الشاطئ.

عدم تعلُّم السباحة، وعدم النزول إلى البحر أصلًا، نتيجة من نتائج. قدت السيارة دون أن أقود الدراجة. لم أركب الدراجة يومًا، ولم أمارس رياضات كثيرة مما يُمارسه الأطفال رضوخًا لأوامر أُمي. كانت تخشى علينا نسمة الهواء، تجد في لعبنا مع الأولاد في الشارع الخلفي ما يكفي وزيادة، تطلُّ علينا من نافذة المطبخ على فترات متقاربة، ثم تطمئن إلى أننا لم نخترق الأسوار غير المرئية، المُتمثلة في تقاطعات الشارع الخلفي مع الشوارع الأخرى. هذه هي المساحة المتاحة للعب، وقائمة الألعاب الخطرة تبدأ بركوب الدراجة «تقع على جدور رقبتك»، وتنتهي بلعب الكرة «تيجي الكورة في وشك تضيع لك عينيك»! وكانت طفولتي الشقية تتمرَّد — في معظم الأحيان — على أوامر أُمي الصارمة، وأخرج على النص، بل إني خضت — في المساحة المحددة، والمحدودة — مغامرات خطيرة، منها — كما أشرتُ في كتابي «حكايات عن جزيرة فاروس» — لعبة «شكَل للبيع» التي أقفز فيها على عابر سبيل، يسقط بالمفاجأة، يواجه — في اللحظة التالية — ضربات الأولاد بالعصي التي يحملونها!

لأن القراءة صارت تكوينًا في حياتي في سنٍّ باكرة، فقد غابت عني أهمية تعلم السباحة، واقتصرت صِلتي بالبحر — فيما بعد — على مشاهدته في وقفتي على الكورنيش الحجري للميناء الشرقي وخليج الأنفوشي، أو فلوكة صغيرة داخل الميناء الغربي.

لا أذكر أني ارتديتُ لباس البحر، فضلًا عن السباحة في مياهه. غاية اقترابي منه حيث أجلس على الشاطئ، أقرأ، وأحتفظ بثياب أخي وأصدقائه أثناء نزولهم المياه. إذا كان في شخصية محمد قاضي البهار بضعة منِّي، فقد كان نزول الشاب البحر فعلًا روائيًّا، وليس حقيقة. أكتفي — هذا ما أفعله حتى الآن — بالجلوس على الشاطئ — تحت شمسية في الأغلب — لا أبدل القميص والبنطلون، أرقب البحر والحياة من حولي، وأتأمَّل، وأقرأ، ربما سجلتُ ملاحظات صغيرة في الغلاف الذي أودع فيه الكتاب، فهو يُغني عن نوتة أو أوراق زائدة، ويحُول دون اتساخ غلاف الكتاب من عرق اليدين.

لكن البحر ظل صديقًا مُهمًّا، صيادوه وصناع سفنه وأمواجه وأفقه وقواربه وطيوره وأنواؤه، وما تشغي به أعماقه من حكايات مُثيرة.

أحببت البحر مطلقًا، وحاولتُ أن أُعبر عن هذا الحب في العديد من أعمالي الروائية والقصصية.

•••

الإسكندرية — مثل كل مدن الساحل التي أُتيح لي زيارتها — تنحدِر في اتجاه البحر. كانت تلك صورة الخرائط الأولى التي وضعها علماء البطالمة، ولم تتغيَّر كثيرًا عما كانت عليه. ثمة انحناءات والتواءات، لكن الصورة الكلية لقطع الشطرنج تظلُّ قائمة، وانفراجات نهاياتها تفضي إلى البحر.

في أي موضع في بحري تستطيع أن تري البحر.

أقرأ تعبيرًا مجازيًّا عن المدينة التي تستحم في البحر. بحري يستحم في البحر فعلًا، شواطئه تتداخل مع البحر، تستحم، من جهات ثلاث، فهو شبه جزيرة تستحم في البحر. البحر عندي امتداد لليابسة، وبالتحديد هو امتداد لبحري الصيادين والحلقة والبحارة وعمَّال الميناء والجوامع وأضرحة الأولياء والمقاهي وحكايات الموروث الشعبي. البحر امتداد للبيئة الساحلية، للأنشطة التي تعتمِد على ركوب البحر والصيد. فضلًا عن رائحة الملح واليود والطحالب والأعشاب. الرائحة التي لا يُخطئها أنفي حين أقترب من بحري. تبدو كأصواتٍ هامسة في الميناء الشرقي، ثم تعلو الأصوات، وتتضوَّع الرائحة في الاقتراب من امتداد الطريق إلى معهد الأحياء المائية وقلعة قايتباي، وانحناءة الطريق إلى الأنفوشي.

مفردات البحر هي: الأمواج، الرمال، الأسماك، الطيور، الصخور، الطحالب، الأعشاب، السماء، الشمس، القمر، النجوم، الأفق، السفن، الصيادون، البحارة، عمال الميناء، المواني، البواغيز، الفنارات، الحاويات، الأوناش.

البحر مكان وزمان وأحداث وموروث وواقع يومي ودلالات. إنه الرزق والمغامرة والحرية والآفاق اللامتناهية والجمال والخوف والجو المُتمايز، المُعتدل، والنافذة التي تطلُّ على العالم، تناقضاته هي تناقضات الحياة نفسها.

البحر في أعمالي كيان، شخصية، محور، مكان، سيد، يهبُ تأثيراته في البيئة من حوله، ويحرك الأحداث.

تحضرني ملاحظة ذكية أبداها أستاذنا علي الراعي حول مسرحية «مهاجر بريسبان» للكاتب اللبناني جورج شحادة. تقدير الراعي أن «الأدب العالمي كان يكسب كثيرًا لو أن شحادة استخدم قُدراته الكبيرة في ترجمة لبنان إلى العالَم» (الهلال، فبراير، ١٩٦٩م). تقدير الراعي كذلك أن «العالم محتاج إلى أن يتعرَّف على أجزائه الكثيرة المُترامية. وهذه الحاجة ثقافية وفنية قبل أن تكون سياسية. فإذا جاء المُمتازون من كتَّاب البلاد الصغيرة — أُبادر فأنفي انتسابي إليهم! — وكتبوا بلغةٍ غير مُميزة تسلكهم في أي عداد شِئنا، فالخسارة خسارة الأدب العالمي مثلما هي خسارة الأدب المحلي» (المرجع السابق).

البحر عندي هو الموطن، هو بحري، والطفولة، والنشأة، والذكريات المُلتصقة بلحم جسدي.

أتذكر قول فورستر — تاني! — «إن الطريقة المُثلى لرؤية الإسكندرية هي أن تتجول فيها في هدوء، وبلا هدف». أواصل السير — الآن — في شوارع بحري وميادينه وحواريه وأزقته. أتأمَّل البيوت والدكاكين والجوامع والزوايا والمقامات والأضرحة والمقاهي والأسواق والساحات. كل ما انطبع في ذاكرتي وألِفتُ رؤيته، تغيَّر. اختلط بما لم يكن موجودًا، أو اختفي.

•••

أتمنَّي أن أظلَّ أكتب، وأكتب، بينما نظراتي تتَّجِه إلى البحر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤