الموروث الشعبي في كتاباتي الروائية

نشأتُ في بيئةٍ تحض على عشق الموروث الشعبي. حي بحري شِبه جزيرة في شبه جزيرة الإسكندرية. إلى اليمين الميناء الشرقي، أو المينا الشرقية في تسمية السكندريين. وإلى اليسار الميناء الغربي، أو المينا الغربية، وفي المواجهة خليج الأنفوشي، ما بين انحناءة الطريق من نقطة الأنفوشي إلى سراي رأس التين.

هذه البيئة تتميز بخصوصية مؤكدة، فالبنية السكانية تتألَّف من العاملين في مهنة الصيد وما يتصل بها، ومن العاملين في الميناء وصغار الموظفين وأعداد من الحرفيين والمتردِّدين على الجوامع والزوايا والأضرحة، فضلًا عن الآلاف من طلبة المعهد الديني بالمسافرخانة.

وإذا كان لبيئة البحر وما يتَّصل بها، انعكاسها في العديد من أعمالي الإبداعية، فإن البيئة الروحية لها انعكاسها كذلك في تلك الأعمال.

ثمة جوامع أبو العباس وياقوت العرش والبوصيري ونصر الدين وعبد الرحمن بن هرمز وعلي تمراز، وثمة أضرحة كظمان والسيدة رقية وكشك وعشرات غيرها من جوامع أولياء الله الصالحين ومساجدهم وزواياهم وأضرحتهم. وثمة الموالد وليالي الذكر والأهازيج والأسحار والتواشيح، وليالي رمضان وتياترو فوزي مُنيب وسرادق أحمد المسيري وتلاوة القرآن عقب صلاة التراويح في سراي رأس التين والتواشيح، واحتفالات الأعياد: سوق العيد وما يشتمل عليه من المراجيح وصندوق الدنيا والأراجوز والساحر والمرأة الكهربائية وألعاب النشان والقوة وركوب البنز والحنطور من ميدان المنشية إلى مدرسة إبراهيم الأول، وتلاقي الأذان من المآذن المُتقاربة، والبخور والمجاذيب والمساليب، والباحثين عن النُّصفة والبرء من العلل والمدد، بالإضافة إلى المعتقدات والعادات والتقاليد التي تُمثل — في مجموعها — موروثًا يحفل بالخصوصية والتميز.

حين أراجع أعمالي الإبداعية بدءًا من قصتي القصيرة الأولى (إلى الآن حوالي ٩٠ قصة قصيرة و١٨ رواية) فإن تأثير ذلك كله يَبين في العديد من المواقف والشخصيات، وفي تنامي الأحداث.

بل إن مُراجعتي لكتاباتي التي وظفت — أو استلهمت — الموروث الشعبي، أجد أنها وليدة العفوية ومحاولة التعبير عن الواقع. هذا هو ما أفرزتْه تجربة الحياة والمشاهدة والقراءة والتعرُّف إلى الخبرات. لم أتعمَّد الإفادة من الموروث الشعبي، بل هو الذي فرض مُعطياته في مجموع ما كتبت.

لقد وعيتُ على جلسات السمر، أو الثرثرة، في بيتنا، قوامها أفراد عائلة أُمي أو أبي، وأصدقاء أبي، يتحدَّثون عن وقائع يوقنون بحدوثها، عاشوها أو رواها آخرون، لقاءات في المقابر، وفي الطرق الخالية والخرائب، وربما على شاطئ البحر، بأرواح وأطياف وأشباح، وعفاريت تظهر في هيئة إنسية، وتتحوَّل بعد صحبة خطوات في الخلاء، وأولياء خاطبوا قاصديهم من داخل مقاماتهم، أو أضرحتهم.

بالطبع، فإن ما وعيتُ عليه، واستمر في حياتي إلى الآن، ليس استثناء، إنما هو يقين غالبية المصريين، بصرف النظر عن مستوياتهم الاجتماعية والمعرفية. إنهم يؤمنون بكرامات الأولياء ومكاشفاتهم، ومخاطبة الموتى، والسحر، ومعرفة الغيب، والتنجيم، والفأل، والطيرة، ووجود الجن والعفاريت والأشباح والأطياف.

ظنِّي أن ذلك كله قد انعكس في العديد من أعمالي الروائية والقصصية، تعبيرًا عن الواقع، وليس مجرد تقديم العجائبية والغرائبية. هذه هي حياة الشعب المصري، يُخالط تديُّنه نزوع إلى الخرافة، والإيمان بقوى خيِّرة وشريرة، قد لا نراها، لكنها تعيش في صميم وجودنا.

الحكايات والحواديت ليست تزجية فراغ، ولا هي لمجرد التسلية، أو الرغبة في الإدهاش، لكنها تُعبر عن معانٍ حاضرة، وتحاول التعبير عن معانٍ غائبة. ما قد ينتسِب إلى الخيال يتلقَّاه الوجدان الشعبي باعتباره حقيقة، سواء من حيث الحكاية، أو الدلالة التي نحاول — في إطار من الفنية — تقديمها. إنه الخيال نفسه الذي أطال في عمر عنترة، فعاش مئات الأعوام، حتى تظهر الدعوة المُحمدية، فيدرأ عنها خطر الأعداء. وثمة الظاهر بيبرس الذي غفر له الوجدان الشعبي إقدامه على فعل الخيانة، فقتل قائده المُنتصر، وجد الناس في إنجازاته العسكرية والسياسية والاجتماعية ما يُنسيهم فعل الخيانة (كم يكرهها المصريون!) وجعلوا من بيبرس بطلًا قوميًّا. ومع أن عروس البحر تبدو — في مدخل متحف الأحياء المائية — دميمة إطلاقًا، مجرد كتلة غير مُتناسقة من اللحم، فإن الوجدان الشعبي أقرب إلى تلقِّي حكايات الجسد الفارع، والشعر الذهبي المنسدل، والعينَين الزرقاوين، والأغنيات التي تجتذب راكبي البحر، تغوص بهم في عوالمها السحرية.

•••

الغريب أن بعض نُقَّادنا يُنكر أن تكون لإبداعاتنا صِلة بالواقعية السحرية، رغم أن معظم مُبدعي الواقعية السحرية في أمريكا اللاتينية أكدوا تأثرهم بحكايات ألف ليلة وليلة، حتى إن الأرجنتيني بورخيس كان يضع كتاب الليالي في الحقيبة التي تُرافقه في رحلاته.

وبالنسبة لي، فأنا أبدأ الكتابة الإبداعية، وأُتمها، في ما يشبه الكتابة الآلية، وإن كان من الصعب أن أنسب هذه الأعمال إلى السوريالية.

لعلَّ الواقعية الروحية، هي التسمية التي تصحُّ على إبداعاتنا التي تنطلِق من تمازُج الواقعي واللاواقعي، الحقيقي وما يجنح إلى الخرافة، ما نعيشه وأحلامنا. المُكاشفات والكرامات ومخاطبة الموتى، وغيرها مما قد لا يرتبط بالواقع، أو حتى يرفضه العقل، إنما هو عند الغالبية العظمى من المصريين جزء من حياتهم العادية. نجده في حواديت الجدات، وطقوس الموت، والإيمان بالأرواح، وبخوارق أولياء الله، وهو ما تناولته بخاصة في رباعية بحري وأهل البحر، وتناولته بعامة في الكثير من أعمالي الروائية والقصصية.

قد تعكس طقوس الموروث الشعبي ما يرفضه العقل، لكنها تتحرَّك على أرضية من المُعتقدات التي تبلغ — بدرجةٍ كبيرة — حدَّ اليقين. نحن نلجأ — على سبيل المثال — إلى أضرحة الأولياء ومقاماتهم، سعيًا لحل مشكلاتنا، ولطلب النصفة والمدد. بل إننا ننسب إلى كل وليٍ كرامات مُحددة، يختصُّ بها (لا أدري من أوجد ذلك التقسيم؟) فثمَّة من يُعيد الأولاد التائهين، ومن يبرئ المرضي، ومن يُعالج عُقم المرأة. وثمة الديوان الذي يُعقد ظُهر كل خميس لتدارس المشكلات التي توضع في نذور أولياء الله، ترأسه السيدة زينب، ويضمُّ إلى عضويته السيد البدوي، والرفاعي، والدسوقي، والشافعي (الجيلاني في روايات أخرى).

الوجدان الشعبي، أو الضمير الجمعي، هو الذي يهب الواقعية الروحية أبعادها. إنها موروث وتراث، ننشأ على فهمه وتفهُّمه وممارسته: السِّيَر والتراجم والحكايات وقصص التاريخ والحواديت. الواقعية السحرية فعل الفنان. أما الواقعية الروحية فهي فعل الجماعة. إنها لا تستنِد إلى الخيال، ولا تنطلِق منه، فهي المعنى الذي نؤمِن به، ونعيشه، ونُمارسه، باعتبار أن تلك هي حياتنا. الغرائبية — أو العجائبية — هي الإطار الذي تتحرَّك الواقعية السحرية في إطاره، إنها مضاهاة الواقع، التوازي — أو لنقل التماهي — معه، لكن تظلُّ الواقعية السحرية تعبيرًا عن مخيلة الفنان، بعكس الواقعية الروحية التي تُقارب اليقين الدِّيني، والمُمارسات المجتمعية.

العالَم الآخر ليس تخمينًا ولا خيالًا، إنه حقيقة، يقين، نؤمن بوجوده، وبكل ما يحويه من تجليات. نحن نعيش اليقين الديني، والحياة الآخرة، شفاعات أولياء الله ومكاشفاتهم وبركاتهم، والصراط والحساب والعقاب والجنة والنار. نثِق أن أعزاءنا فارقونا بأجسادهم، لكن أرواحهم تظلُّ في حياتنا، إن لم يكن أثناء الصحو، ففي أثناء النوم.

وفي قصصي القصار، تتناثر لمحات من الموروث الشعبي، مُتمثلة في العديد من سلوكيات الحياة، والمفردات، والتعبيرات، وغيرها مما يعبِّر عن التميُّز الذي تتَّسِم به منطقة بحري في حدودها الجغرافية، المُحددة، والمحدودة: الزي الوطني، الطب الشعبي، ألعاب الأطفال وأغنياتهم، نداءات الباعة، الكناية، النكتة، المُعايرة، القَسَم، الطرفة، المثل، الحلم، وغيرها.

•••

رباعية بحري، عمل روائي من أربعة أجزاء: أبو العباس، ياقوت العرش، البوصيري، علي تمراز. تعرض للحياة في بحري، منذ أواخر الحرب العالمية الثانية إلى مطالع ثورة يوليو ١٩٥٢م. لوحات منفصلة من حيث تكامُل اللحظة القصصية، ومُتصلة من حيث اتصال الأحداث، وتناغم المواقف، وتكرار الشخصيات.

أنسية التي طالَعَتْنا في بداية الجزء الأول من الرباعية، هي أنسية التي انتهت بها أحداث الجزء الرابع والأخير. وما بين البداية والنهاية نتعرَّف إلى دورة الحياة من ميلاد وطفولة وختان وخطبة وزواج وإنجاب وشيخوخة ووفاة، فضلًا عن الحياة في المعهد الديني بالمسافرخانة، وحلقة السمك، وحياة الفتوات، والعوالم، وما يتَّسِم به ذلك كله من اختلافٍ وتميز، بقدْر اختلاف البيئة وتميزها.

علي سبيل المثال، فإن الحياة في البحر، وصلة البحر واليابسة، والمؤمنين بطهارة الماء، وقُدرة البحر على أعمال السحر، والحكايات والمعتقدات عن عرائس البحر والعوالم الغريبة وكنوز الأعماق، والخرافة، والأسطورة، والزي التقليدي، والمواويل، والأغنيات، والأمثال، والحكايات، وخاتم سليمان، والمِهَن المتصلة بمهنة الصيد كالصيد بالسنَّارة والطراحة والجرافة، وأسرار الغوص في أعماق البحر، وغزل الشباك، وصناعة البلانسات والفلايك والدناجل وغيرها، وركوب البحر، وبيع الجملة في حلقة السمك، وبائعي الشروات … ذلك كله يتوضح في الشخصيات التي كانت الحياة في البحر مورد الرزق الأهم — أو الوحيد — لها.

أما الروحية التي تُمثل بعدًا مُهمًّا في حي بحري، فهي تبين عن ملامحها في كثرة الجوامع والمساجد والزوايا والأضرحة، ورفع أولياء الله عن الغلابة والمُنكسرين ما يحيق بهم من ظلم، وكرامات الأولياء من اطلاع على الكائنات، وطي الأرض، والسير على الماء، والطيران في الهواء، وإتيان بالثمار في غير أوانها، وتحويل ماء البحر إلى ماءٍ عذب، وتواصُل الكرامات حتى بعد أن يرحل الولي، والمكاشفة التي تحقَّقت على يدِ أبي الدرداء حين أنقذ الإسكندرية من طوربيد ألماني في غارات الحرب العالمية الثانية، والخضر الذي يظهر للمراكب حين يُهددها خطر النوات، فيُنقذها، وتجليَّات الصوفية في الإشارات والأسرار والرموز، وارتقاء الدرجات من المُريد إلى المُقدِّم فالنقيب فالخليفة خاتمة الدرجات الروحية، ودروس المغرب، وتصوُّرات مشاهد الجنة والنار، والخوف من الجن والمردة والعفاريت، وإيقاد الشموع على أضرحة الأولياء، وتقديم النذور، وكنس النساء للأرض بالملاءات، أو التمرُّغ عليها، يطلبنَ الخلفة والمصلحة والشفاعة والمدَد، والوصفات الشعبية، وأعمال السحر، والتربيط، والأعمال السُّفلية، والوسائل التي بلا حصرٍ لعلاج الإجهاض، أي سقوط الجنين قبل أن يكتمِل نموه: وَصفات غريبة، وقاسية، وتجارب لا بد أن تخوضها المرأة الحامل لتحتفظ بالجنين، ودلالات ظواهر الطبيعة من شمس وقمر ونجوم وكواكب ورياح وعواصف ونوات ومناطق وفرة — وجدب — السمك. الشمس تجاوز صفتها الظاهرة، فتتحوَّل إلى صديقٍ للجدِّ السخاوي، يعرض عليها مشكلاته، ويأخذ منها ويُعطي، وحين يحسُّ بدنو الأجل فإنه يتطلَّع إليها ويُخاطبها بما لم يتبيَّنه أحد.

وتُطالعنا رواية «أهل البحر» بالكثير من الأخبار والوقائع والحكايات الأسطورية والخرافية، والكثير من الموروث الشعبي. وكما أشرتُ في مقدمة الرواية، فإن بحري يحتضن العشرات من الأضرحة والمقامات والمساجد والزوايا، أسماؤها بأسماء أولياء الله الصالحين وأقطاب الصوفية … مارس أبناؤه الحياة بصُوَرها الرتيبة والمُغايرة … عرفوا الواقع والخيال والسحر، وبركات أولياء الله ومكاشفاتهم.

وفي روايتي القصيرة الصهبة تناولٌ لطقسٍ شعبي، تغلِب عليه الأسطورة. المرأة المُنقبة التي تخضع لمزادٍ وهمي، من يرسو عليه، يرفع عن وجهها النقاب، فيتجدَّد أملُها في الإنجاب. ويختلط الواقع بالحلم في أحداث الرواية، فتغيب الملامح. لا يدري إن زارته في الصحو أو في المنام، ولا يُبين ناس الصهبة عن هويتهم حتى يهمس صوت الأم وهي ترى ابنها ينزل درجات البيت إلى حيث يتجمَّعون: هل انجذب؟!

أما روايتي «زهرة الصباح» فهي محاولة لتوظيف حكايات ألف ليلة وليلة في عملٍ أدبي حديث. زهرة الصباح هي الفتاة التي تلي شهرزاد في قائمة الفتيات اللائي ينتظرهن سيف «مسرور». كانت تحيا في ظلِّ الخوف من أن يملَّ شهريار، أو تخفق شهرزاد في الحكي، فيحلَّ دورها. وحاول أبوها — وهو من المُقربين إلى شهريار — أن يفيد من تلك الفترة في رواية الكثير من الحكايات والطرائف والنوادر والأخبار والعِبر والسِّيَر والمواويل، تُنصِت إليها زهرة الصباح، وتحفظها. تُحيلها مخزونًا حكائيًّا ليُعينها على مواصلة الحكي.

كانت قدرة شهرزاد على استدعاء الحكايات، أو اختراعها، وروايتها، هي وسيلتها للإبقاء على حياتها، فهي إما أن تصِل الحكايات، كل حكاية بأخرى، أو تموت. فإذا نفد ما بحوزتها من الحكايات، أو فقدت القُدرة على الإدهاش، وفقد شهريار بالتالي فعل المتابعة والدهشة، واصل السيَّاف مسرور حلقات سلسلة الإعدام … ذلك كله كان يعلمه عبد النبي المتبولي، فشغل مُعظم وقته بتحويل ذاكرة زهرة الصباح إلى خزانة تستوعب كل ما استطاع حفظه فيها من الحكايات والحواديت والعظات والعبر.

تضمن السرد الروائي الكثير من جوانب الموروث الإبداعي العربي. ضُفِّر في نسيج العمل الروائي، لا لانتساب الرواية إلى عالَم ألف ليلة وليلة باعتبارها تراثًا إبداعيًّا فحسب، وإنما لأن أحداث الرواية تدور في أجواء شعبية، ففيما عدا الشخصيات الرئيسة القليلة، فإن غالبية الشخصيات من الطبقات الأدنى والمُهمشين.

•••

ونحن نستطيع التعرُّف إلى البدايات الأولى للموروث الشعبي في حياتنا الآنية، من خلال توالي الإجابة عن الأسئلة الاثنين والأربعين التي أعادت تقديم سيرة حياة المواطن «زاو مخو» في صورتها الصحيحة، في روايتي «اعترافات سيد القرية». الإيمان بالخلود، تقديم النذور والقرابين، الأدعية والرقى والتعاويذ، العلاقات الأسرية، السيرة، الأسطورة، الخرافة، الحكاية الشعبية، الخطابة، الطرفة، الطب التقليدي، التيقن من القدرات العلاجية لشجرة الجميز، الوصفات الشعبية التي تُشعل الشبَق في جسد الرجل، وتَسري بالخصوبة في جسد المرأة، المُوسيقى الوطنية … إلخ.

•••

في منطقةٍ ما، يتداخل الموروث والتراث، المُعتقدات والعادات والتقاليد والقراءات والخِبرات الشخصية وخِبرات الآخرين، يتداخل ذلك كله، فيصنع ما يصعُب تصنيفه بصورةٍ مُحددة. وقد مثَّل صندوق الدنيا هذا التداخُل في مخيلتي، ولعلَّه كان دافعًا — على نحوٍ ما — لتوزُّع محاولاتي ما بين توظيف الموروث، كما في «الصهبة»، وتوظيف التراث كما في «زهرة الصباح»، فضلًا عن توظيف التاريخ كما في «قلعة الجبل» و«اعترافات سيد القرية» و«الجودرية» و«من أوراق أبي الطيب المتنبي» و«ما ذكره رواة الأخبار عن سيرة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله» وغيرها.

كنت أجلس إلى جوار شقيقتي على الدكة الخشبية الصغيرة، نتلاصق بما يأذن لأعيُننا كي تنظر — من وراء الستارة المُهترئة — إلى توالي الصور الثابتة، يُرافقها صوت الرجل، يذكر الأسماء: السفيرة عزيزة، أبو زيد الهلالي، الزناتي خليفة، ست الحسن، الشاطر حسن … إلخ.

لم تغادر الصور ذاكرتي، وكانت قصتي «سوق العيد» استدعاءً لما كنت أشاهده في صندوق الدنيا. تحركت الصور الثابتة، وصنعت حياة لها دلالاتها، وأفدت كذلك من الصندوق العجيب في العديد من المحاولات الروائية والقصصية.

•••

روايتي «بوح الأسرار» تحاول — من خلال معالجة فنية — أن تُجيب عن السؤال: لماذا اختار الوجدان الشعبي هذه الشخصية أو تلك، ليُضفي عليها من هالات القداسة والعظمة ما يجعل منها أحد أبطاله الشعبيين؟

حاولت أن أجيب عن هذا السؤال — بصورة مطولة، تقترِب من العلمية ما أمكن — في كتاب لي صدر مؤخرًا بعنوان «البطل في الوجدان الشعبي المصري» ناقشتُ فيه جوانب البطولة في عددٍ من الشخصيات التي وضعها الوجدان الشعبي في ذلك الإطار: لماذا اختار عنترة من بين مئات الشعراء في الجاهلية؟ ولماذا اختار الظاهر بيبرس من بين حُكام المماليك؟ ولماذا اختار السيد البدوي من بين الكثير من أولياء الصوفية الذين نُسبت إليهم مساجد وأضرحة؟ ولماذا اختار على الزيبق وابن عروس وياسين ومتولي وأدهم الشرقاوي وغيرهم؟

التقيتُ بالمجرم محمد أبو عبده، أو ابن بمبة في قرية السمارة الواقعة على حدود الشرقية والدقهلية. بدا في أحاديث الجميع شخصية أسطورية. كان أبناء القرية يتحدَّثون عنه بتوقير وحب، في حين حذَّرني مأمور مركز السنبلاوين وعمدة القرية من محاولة التعرُّف إلى الرجل، وأظهروا خشيتَهم من أن يرفض لقائي، أو لا يُحسن استقبالي. لكن الرجل استقبلني بحميمية مصرية، ودعاني إلى تناوُل الغداء. وتأمَّلت توسُّطه لحلِّ مشكلات أبناء القرية، ومساعدته لهم في كل ما يطرأ على حياتهم. حتى الحريق الذي أشعلَتْه شرارة حطب ظُهر يوم الصيف الذي تصادف أني زُرته فيه، أذهلني تَصدِّيه لإطفائه رغم أعوام عُمره المتقدمة.

بدا لي الرجل وأنا أغادر القرية، تجسيدًا للبطل في الوجدان الشعبي — في بالي الكثير مما استمعتُ إليه من الحكايات في أعوام النشأة: كيف يكتسب صفاته، فيُصبح — في توالي الروايات والحكايات والمواويل والسير — ذلك البطل الذي تُنسَب إليه الأفعال الخارقة والمعجزات (روى الصديق رفعت السعيد في ذكرياته — فيما بعد — عن تعرُّفه إلى ابن بمبة في رحلة الاعتقال والسجن. بدا مُعجبًا بالرجل، وأشار إلى أنه (الرجل) قتل تسعة أشخاص، لكن الرجل أكد لي أنه لم يُجاوز التخويف، ولم يقتُل أحدًا). تصورت ابن بمبة ذلك البطل في عملية التحول داخل الوجدان الشعبي. ولجأتُ إلى تقنية تعدُّد الأصوات التي اختلفت رواياتها في تصاعد درامي، تتحول فيه شخصية فرج عبده زهران، أو ابن شفيقة، من شابٍّ يحترف الإجرام إلى وليٍّ له بركاته وكراماته ومُكاشفاته، وضريحه الذي يقصده الناس لالتماس المدد، والمولد السنوي، وحفلات الذكر … ما بواعث التحول؟ وكيف؟ وما نتائجه؟

تباينَت الروايات في طفولة ابن شفيقة، ونشأته، والظروف التي أفضت إلى تحوُّله إلى بطلٍ شعبي. بالتحديد إلى ولي صوفي. لكن الروايات لم تختلف في أنَّ فرج خليل قد أصبح له ضريح ومقام وخليفة وتلامذة ومُريدون، يؤمنون بكراماته، ويذكرون الله تعالي.

وكما يقول الصديق الدكتور أحمد شمس الدين الحجاجي في دراسته ﻟ «بوح الأسرار» «إنه إذا كانت أسطورة فرج قد مرت بمراحل ثلاث: مرحلة المظلوم، ومرحلة الدافع للظلم الواقع على الناس، إلى مرحلة المُقدَّس، فإنه — في المراحل الثلاث — كان مُطاردًا. مطاردًا من عمدة ظالم، ثم من قوة الإدارة المُتحكمة في الجماعة، ثم محاولة هذه القوة مُطاردة أسطورته. وحتي بعد موته، فإن استخدام تعدُّد الأصوات جعل الأصوات المُطاردة خافتة، لترتفِع الأصوات الواقفة مع فرج ساعة تكوُّن أسطورته. إن الأسطورة هنا تُمثل الواقع الاجتماعي للجماعة».

أشير إلى العلاقة بين الموروث الصوفي والموروث الشعبي، المُعتقدات والسلوكيات وأساليب العبادة. فالأتباع والمُريدون ينسبون إلى من آمنوا بولايتهم، كرامات ومكاشفات وخوارق، مُعظمها ينطلق من الخيال وليس من الواقع.

إنها حكايات مُتخيَّلة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤