بانت سعاد

وعيتُ على البحر في مواجهة بيتنا، وفي إحاطته بالبيت — والحي كله — من ثلاثِ جهات. لا أذكر متي استمعتُ إلى الحكايات الأولى، لكنها كانت في سِنٍّ باكرة للغاية، أهمُّها ما كان يُروَى عن عروس — جنية — البحر، واعتدتُ طيران النورس على امتداد الساحل، والبلانسات، والفلايك، وعمليات الصيد بالسنَّارة والطراحة والجرافة، وعسكري السواحل، وإيقاع جياد الملك في جولتها الصباحية، والمظاهرات ما بين سراي رأس التين وميدان المنشية، وأهازيج السحر من مِئذنة أبو العباس، والموالد، ومواكب الزفاف، وشوارع السيالة المُتشابكة، الضيقة، والحديقة الصغيرة أمام مستشفى الملكة نازلي، ومرسى القوارب بالميناء الشرقية، والرائحة التي لا يُخطئها الأنف في حلقة السمك، وزحام شارع الميدان، وخُطَب الشيخ عبد الحفيظ في صلاة الجمعة، ومواكب الصوفية، والجلوات، وسوق العيد.

كان ترامي صخَب الجلوات يَجذبني إليها، نقف — وإخوتي — وراء الشرفات باستدارة الشقة، نتطلَّع إلى الجلوة القادمة من شارع الأباصيري حتى ميدان الخمس فوانيس، ندور معها في شارع إسماعيل صبري، تُلاحقها نظراتنا قبل أن تَميل في شارع الميدان.

حين بدأت ملامح الأمكنة في التغيُّر، حاولتُ أن أحتفظ في ذاكرتي بكل ما أخشى أن يلحقه التلاشي. كنتُ أخشى أن تُبدد الأيام ما ألفت رؤيته، والحياة فيه، من مظاهر الحياة. ثمة ما لا تستطيع أن ترفضه، وإن كنتَ تشعر أمامه بالفقد، العمران الذي يزحف على البنايات القديمة والأزقة والساحات الخالية، وعلى الذاكرة الإنسانية أيضًا.

أشعر — أحيانًا — في رحلاتي المُتقاربة إلى بحري، أنه يبتعِد عن معنى الحي الذي ولدتُ فيه، وأمضيتُ أعوام الصبا والشباب الباكر. العالم الذي تركته كما أتذكَّره، لكنه ليس هو على وجه التحديد، المرئيات لم تعُد هي نفسها. حدث ما يصعُب أن أُدركه، لكنَّني أشعر به. مع ذلك، فإن التغيُّر يَبين في ملامح كثيرة، في البنايات والشوارع والميادين والحياة في المينا الشرقية وشاطئ الأنفوشي. حتى الناس ليسوا هم الذين اعتدت لقاءاتهم. ثمة الكثير من ثوابت الملامح، ليس في بحري وحدَه، وإنما في الإسكندرية جميعًا، لحِقها الشحوب، أو التلاشي، فلا تربطني بالملامح الآنية أية ذكريات.

في قصتي القصيرة «حلاوة الوقت» يعود الراوي إلى بحري، إلى الأماكن التي شهدت طفولته، ونشأته، يَروعُه أنَّ ما كان يعرفه واسعًا، أو ضخمًا، قد ضاق أو صغر؛ الشوارع، مداخل البيوت، الحجرات، أضاف إلى التبدُّل ما تهدَّم من بنايات قديمة، وطلوع بنايات أخرى، جديدة، لها قسماتها المُغايرة. ثمَّة مواضع كان لي فيها ذكريات شخصية، زالت كأنها لم تكن.

حدثتُك في حكاياتٍ عن جزيرة فاروس عن فاطمة فتاة البيت المُقابل، هدمته وزارة الأوقاف التي يتبعها، شيَّدَت مكانه بنايةً أخرى حديثة، رحلت فاطمة إلى حيث لا أدري، وحل في البناية سكان آخرون (إذا كانت السنُّ قد تقدمت بي، فلا بد أنها فعلت الأمر نفسه — الآن — في الجميلة فاطمة. هل ما تزال تحمل بقية جمال، أم أن الله تداركها برحمته؟!)

هذا هو بحري، لكن ما عشتُه يختلف عما أراه الآن، أشعر به، وإن لم أستطع تحديده تمامًا.

مع ذلك، فقد تغيَّر الكثير: الشوارع والميادين والساحات والبنايات وسلوكيات الحياة اليومية. بدأت البيوت القديمة، الصغيرة، المتساندة، في الذوبان، في التلاشي، بيوت قديمة توشِك على التهاوي، وبيوت مُتهدمة، أو تحوَّلت إلى خرائب، تداخلت بنايات الأسمنت المُسلح في البنايات ذات الأسقُف الخشبية، شُيدت عمارات عالية، ستة طوابق وأكثر، وإن ظلَّت غالبية الشوارع على ضيقها، فعانت الزحام بما أملتْه الزيادة السكانية، وتنامى أعداد الوافدِين إلى الحيِّ بالتالي. لم تعُد الصورة على حالها في مساحات كثيرة، وفي الشوارع الرئيسة والميادين بخاصة، تعرَّض كل شيء للهدم وإعادة البناء والتحوير والتبدُّل، وإن كنتُ لا أبرئ ذاكرتي. تتوالى الصور، تتعاقب، واضحة وشاحبة، تتَّسِع آفاقها وتضيق، تبين الملامح والتفاصيل، وتختفي تمامًا.

أذكر — على سبيل المثال — ذلك الرجل الذي كان يجول الشوارع وهو ينادي: أبيَّض النحاس! أوعية الألمنيوم هي البديل الأرخص للأوعية المصنوعة من النحاس. وغاب الحاوي وصندوق الدنيا والأراجوز وسباق البنز وسباق القوارب وصيد السنارة والطراحة والجرافة، والأبوحمدات، والفتوات، ولابسات الملاءة اللَّف والقبقاب، وعسكري السواحل، وعفريت الليل، والغازية حاملة الغلق، ونافخ النار، ومن يبتلعون النار في الجلوة، ويصلون أسياخ الحديد في وجناتهم، ويقرقشون قِطَع الزجاج، ويتلهَّون بالحيات والثعابين، والقرداتي الذي كان يدفع حيوانه الصغير إلى حركات وشقلباظات، كأن يُقلِّد نوم الأعزب، أو يصنع العجين كما الفلاحة، وربما حرَّضه على السرقة في زحمة البلاهة المُتفرجة. ومضت سنوات بعيدة على رؤيتي للغجرية، تخترق الشوارع، وترفع رأسها إلى النوافذ والشرفات، وصوتها يعلو بالقول: أدق وأطاهر! لم أعد ألتقي كذلك بالرجل المفتول العضلات، يدعو المُلتفِّين حوله لتقييده بحبل، ويفك القيد لقاء وضع قروشٍ في طبق تحت قدمَيه. وكان أمْيز ما في أوقات الربيع سباق البنز من رأس التين إلى السلسلة. ألغته ظروف الزحام، وربما الظروف الأمنية، وهي الظروف نفسها التي ألغت العربات الصغيرة، على نواصي الطرق الجانبية، تُتيح لمن يحتسي الشاي أن يرفع — بالثمن نفسه — ثقل الحديد، أو يلعب تنس الطاولة. ظنِّي أن تلك الأشياء لو ظلَّت قائمة، فإنها كانت ستزيد فُرَص تقديم المتفوقِين في الألعاب الأولمبية، وغيرها.

•••

دنيا الفتوات في أعمالي، استعادة لذكريات أبي عن فتوات الإسكندرية. شكلوا مَعلمًا مُهمًّا في حياة المدينة، أزعج الناس بما كانوا يفرضون من إتاوات وعمليات ابتزاز ومعارك شِبه يومية بين فتوة حيٍّ ما وفتوة حيٍّ آخر، وتسيل الدماء، وتُدمَّر الممتلكات، ويدفع الثمن عامَّةُ تجار المدينة وناسها العاديون، ويحيا الجميع في قلقٍ دائم.

أثار الفتوات الذُّعر في بحري بمشاجراتهم التي لم تكن تنتهي بالسيوف والأسلحة البيضاء، وتتحطَّم بالتالي محال المنطقة والسيارات الواقفة على جوانب الطرق، فضلًا عن الخطر الذي يتهدَّد السكان والمارَّة.

لكنَّ أفعال فتوات الإسكندرية امتدَّت — في أحيانٍ كثيرة — إلى سلطة الاحتلال الإنجليزي، يترصدون لجنوده في شوارع المدينة، ويسرقون مُعسكراته. أذكر كالطيف — من طفولتي الباكرة — مجموعةً من الفتوات قفز أحدهم في سيارة نقل لجنود الإنجليز تحمِل كمياتٍ من الملابس، وقذف بها إلى زملائه الذين انطلقوا وراء السيارة، حتى نفد ما كان بها من ثياب.

كانت شرفة بيتنا ونوافذه الخلفية تطلُّ على ميدان الخمس فوانيس وجامع سيدي علي تمراز. شهدت في الميدان آخِر معارك فتوات بحري، تطايرت فيها كراسي، وتناطحت شوم ونبابيت، وسالت دماء، وسقط صرعى وجرحى، وشال البوليس الباقين إلى حيث غابوا عن شوارع بحري. وحين بدأتُ في كتابة «رباعية بحري» حاولتُ أن أُقدم عالم الفتوات، تعرفت إليه من خلال الذكريات القديمة لأبي، والقريبة لأبناء بحري الذين عاشوا فترة ما بين الحربَين. وكان فتوات نجيب محفوظ دافعًا لأن أكتب عن فتوات الإسكندرية، رغم اختلاف المكان والزمان، وطبيعة الشخصيات، ومِهَنهم أيضًا!

كانت «الفتونة» هي العمل الوحيد الذي مارسه فتوات نجيب محفوظ. عاشوا على البلطجة، وفرض الإتاوات، وافتعال المشاجرات، وخوضها لحساب الآخرين، في حين أنه كان لغالبية فتوات الإسكندرية مِهَنهم التي تكسَّبوا منها، أما الفتونة فلم تكن سوى هواية، وسيلة لإثبات الشهامة والنخوة والمروءة والجدعنة. وكان عمل فتوات نجيب محفوظ في غيبةٍ من السلطة، شغلهم الهرَب والتخفِّي واللواذ بالأماكن النائية. أما فتوات الإسكندرية فقد كان تحدي سلطة الاحتلال وحكومات الأقلية، حرصهم الأول. وكانت معاركهم في الساحات والميادين وعلى القهاوي، وأعلنوا الاحتقار لمن جعل الفتونة مِهنته. وكان أبلغ ما يعتزُّ به حميدو فارس — مثلًا — ورواه الذين فوجئوا بالمشهد، أنه كبس طربوش المحافظ على رأسه، لسبب تصوُّر أنه يمسُّ كرامته. وأفدتُ من الحادثة في روايتِي «الأسوار»، بيومي الدكر الذي كبس طربوش مدير المديرية على رأسه. وروى لي أبي كذلك، الكثير عن فتوات الإسكندرية. غالبيتهم — أو أكثرهم شهرة — من بحري، حيث قضيت طفولتي وصباي: حميدو فارس وأبو خطوة والسكران، وغيرهم ممَّن تغيرت بغيابهم — في أعقاب الحرب العالمية الثانية — صورة الحياة في الإسكندرية، وبالذات في أحيائها الوطنية.

•••

كان الخواجة ميخاليدس — البقال بشارع الميدان — يعيش الحنين نفسه الذي يعيشه كل الأجانب المقيمين في الإسكندرية، كل يحن إلى موطنه الذي ولد — أو نشأ — فيه، أو نشأ فيه أبواه قبل أن يُهاجرا إلى مصر، أو أن أصوله تنتسب إلى ذلك الموطن/الوطن. الوطني من أبناء المدينة يحن إليها إن ابتعد عنها، سواء ركب البحر، أم أخذته الهجرة إلى بلدٍ بعيد. أما الأجنبي فإنه يُعاني حنينًا في الاتجاه المقابل، الحنين إلى موضعٍ ما، بلدٍ ما، في الناحية الأخرى من البحر.

يُحدثني عن أيام تردُّده على شارع اللبان. يتردَّد على المقاهي والبارات، يشرب الخمر، يبحث عن النساء. يكتفي بأطراف كوم بكير — حي البغاء آنذاك — لا يُحاول اختراق شوارعه وحواريه وأزقته. تُضايقه العبارات الداعية والمُحرضة، من النسوة الواقفات على الأبواب، وابتزازات البلطجية، وتمازُج روائح النوم والمخدرات والقيء والعرق والعطن.

يُحدثني عن الصيد، السمَّان والبط وغيرها، ما يذكره يتباين مع مظهره. تأتي أسراب الطيور من الشمال فرارًا من البرد والصقيع، تتَّجه إلى الجنوب، إلى أفريقيا حتى أوغندا. تظل هناك إلى يونيو. يبدأ ما تبقى منها رحلة العودة. السمَّان طائر يكره الضوء والحرارة، عصبي المزاج، يُحب الحرية، غبي التصرُّف، فمن السهل صيده.

تعدُّد الميكروفونات في مساجد الحي، لم يعُد يقصر الأذان على أبو العباس، تتلاقي الأصوات في المآذن المتقاربة، تتشابك وتختلط، تسبق العبارات وتتأخَّر، يصعب تَبيُّن إلا مفردات: الله ومحمد والصلاة والفلاح. أستكمل العبارات بما أحفظه جيدًا، الأذان في ذهني ووجداني منذ بداية الوعي.

كانت الأراضي الخلاء في بحري، تتحول — تلقائيًّا — إلى ملاعب لكرة القدم. الخلاء المجاور لحلقة السمك، المَوضع الذي بُنيت فوقه — فيما بعد — سينما التتويج، الأرض المواجهة لسراي رأس التين، ومواضع أخرى كنتُ أحرص على التنقُّل بينها. يتقابل المرميان، وتُصَفُّ الكراسي على جانبي «الملعب». يُشارك في المباريات لاعبون من أندية الإسكندرية: الاتحاد، الأولمبي، الترام، بالإضافة إلى لاعبين من أندية القاهرة يُحاولون الإنفاق على إجازة الصيف مما تُدرُّه المباريات. كل كرسي بقرشين، يُمثل مجموعها مبلغًا لا بأس به في وقتٍ يختلف تمامًا عن وقتنا الحالي. أُذكِّرك بما رواه عبد الكريم صقر عن قطعة الجاتوه التي كان يظفر بها من يُجيد الأداء!

أما المستوقد في شارع سوق السمك القديم، فقد أزيل من موضعه. حلَّت — بدلًا منه — محطة للبنزين. أذكر نهايات أيامه. كان أبي يحرص على شراء الفول من البائع الذي يقف أسفل بيتنا، يضع قُدوره في المُستوقد لتنضج على رماده. طعم الفول ألذ وأشهى من الفول الذي ينضج بعيدًا عن المستوقد. وثمة الترام الصغير ذو العربة الواحدة في السكة الجديدة، والتكية أول شارع إسماعيل صبري، والطرق المرصوفة بالبازلت.

•••

ونحن صغار، كنا نترك بيوتنا، في أيدينا الفوانيس الملونة. ليست فوانيس هذه الأيام البلاستيكية بلمبة البطارية الصغيرة، وإنما فوانيس من الصفيح، تتراقَص فيها شمعة بحقٍّ وحقيق، يرافق تراقُصها غناؤنا لِما كنا نستمع إليه من أغنيات رمضان، مثل وحوي يا وحوي للمطرب الراحل أحمد عبد القادر، أو رمضان جانا لمحمد عبد المطلب، وغيرها من أغنيات شهر الصوم. فإذا صادَفَنا دكان، تعالت أصواتنا بالقول: الدكان ده كله عمار … وصاحبه ربنا يُغْنِيه. يَهبُنا صاحب الدكان مليمًا أو مليمَين — مبلغ لا بأس به بعملة ذلك الزمان! — فنُكرِّر القول: الدكان ده كله عمار … وصاحبه ربنا يغنيه. قد يطردنا صاحب الدكان، أو يلعن سنسفيل آبائنا، أو يَقذفنا بما في يده. نهتف ونحن نجري: الدكان ده كله خراب … وصاحبه ربنا يعميه.

نزهق من حمل الفوانيس. نُكومها في أي موضع، ثم تبدأ جولتنا في شوارع بحري وحواريه، نتعرف إلى مظاهر الاحتفال برمضان.

بحري — كما تعلم — هو أصل الإسكندرية. الْتقاء قرية راقودة بجزيرة فاروس. الحي — حتى الآن — هو التعبير عن «البلد». يقول ابن الرمل أو محرم بك أو سيدي بشر: أنا نازل البلد. المعنى أنه في طريقه إلى بحري. لبحري خصائصه التي لا تجدها في بقية أحياء الإسكندرية. الْتقاء اليابسة والبحر من كل الجوانب. شبه جزيرة في شبه جزيرة الإسكندرية، مساحتها كيلو متر مربع. غالبية سكان الحي من العامِلين في مِهَن تتَّصل بالبحر: صيادين وباعة سمك وغازلي شباك وبحارة وعمَّال ميناء وصغار موظفين. تتداخل البنية الديموغرافية مع الطبقة الوسطى من ميدان أبي العباس إلى ميدان المنشبة، حيث ينتهي حي بحري، أو ما يُسمَّى — إداريًّا — حي الجمرك.

بالإضافة إلى ذلك، فإن الروحانية سمة لافتة في بحري. ثمة المُرسي أبو العباس، أو سلطان الإسكندرية كما يُلقبه السكندريون. من حوله جوامع أولياء الله: البوصيري وياقوت العرش ونصر الدين وعبد الرحمن وعلي تمراز. وتتناثر — في شوارع الحي وحواريه وأزقته — مقامات وأضرحة لأولياء آخرين، فتتشكَّل صورة يصعب أن نجدها في أي موضعٍ آخر، داخل الإسكندرية أو خارجها. يضيف إلى اكتمال الصورة ما يشغي به الحي — على امتداد العام — من موالد وحلقات ذِكر وخيام صوفية وأكشاك ختان، والْتقاء الأذان من المآذن المتقاربة في مواعيد الصلاة الخمس (كان سلامة حجازي رافعًا للأذان في البوصيري وأبو العباس قبل أن يتَّجِه إلى الغناء!) وأهازيج السحر، والتواشيح، وتذكير الدراويش للمؤمنين بقُرب صلاة الفجر.

في خان خليلي نجيب محفوظ غنَّى الأطفال في استقبال رمضان: صيام صيام … كما أمر قاضي الإسلام.

لأن قاضي الإسلام كان يُقيم في القاهرة، فلا أذكر أن أطفال الإسكندرية — زمان — أنشدوا تلك الأغنية. قدموا أغنيات من التراث الصوفي — وللإسكندرية بفضل أقطابها الصوفيين نصيب وافر — وردَّدوا — فيما بعد — أغنيات الإذاعة.

قبل أن يبدأ التليفزيون تقديم فوازيره وبرامجه المُسلية ومسلسلاته، كانت سهرات رمضان تبدأ — بالنسبة للصغار — بعد الإفطار مباشرة، وبالنسبة للكبار بعد صلاة التراويح. ميدان المساجد منطقة استقطاب لكل أبناء الإسكندرية. يتنقلون في سوق العيد (يبدأ قبل رمضان، وينتهي بعد العيد): المراجيح وخيال الظل وصندوق الدنيا والمرأة الكهربائية والساحر والثلاث ورقات وألعاب القوة والنشان، أو يجلسون في خيام الصوفية، أو في السرادقات التي ينشد فيها الراوي الشعبي سيرة عنترة والهلالية. يظلُّ ليل بحري مُستيقظًا إلى ما بعد صلاة الفجر. حتى الأُسَر التي تُفضل البقاء في البيوت تُسلِّي سهرها بتناول المكسرات وقزقزة اللب وأبو فروة.

أذكر أن الطيبة اجتذبتني في ملامح المسحَّراتي. كنتُ أستمع إلى دقاته على الطبلة، ودعواته، ومناداته على أبناء الحي بالاسم. قلتُ له اسمي، وظللتُ متيقظًا إلى ما قبل فجر اليوم التالي، أنتظر مناداته اسمي. نطق الاسم بالفعل، وتبينتُ — حزينًا — أن غالبية أبناء الحي يتقاسمون اسمي: محمد.

أُصارحك أن الصورة لم يطرأ عليها تغيُّر ملموس ببدء الإرسال التليفزيوني. ظلَّت سهرات رمضان — بأبعادها الروحية والترفيهية — على عافيتها وتألُّقها. ما بدَّل الصورة — إلى حدٍّ كبير — ذلك البناء الخرساني الضخم الذي أُقيم في قلب ميدان أبي العباس، نتيجة صفقة — غابت حقيقتها — بين محافظ الإسكندرية السابق وعددٍ من رجال الأعمال. تحول الميدان إلى مؤسَّسات تجارية واقتصادية ومطاعم ودكاكين للبازار وشرائط الفيديو والكاسيت. أصبح سوق العيد — المظهر الأهم لسهرات رمضان — مجرد مواضع متناثرة فيما تبقى من الميدان، وتقلَّصت السرادقات والخيام، وغابت الجلوات التي كانت تنطلِق من باب جامع أبو العباس إلى أحياء الإسكندرية الأخرى.

رمضان زمان ذكريات جميلة في وجدان جيل الآباء، وعلى جيل أطفالنا الحالي أن يقنع ببرامج الإذاعة والتليفزيون، وبفوانيس البلاستيك، يحملونها وهم يُردِّدون الأغنية المتوارثة من زمن بعيد: حالو يا حالو … رمضان كريم يا حالو … فك الكيس وادِّينا بقشيش … لنروح ما نجيش … يا حالو.

يرتبط شهر رمضان في ذاكرتي بقراءتي الأولى لكتاب طه حسين «الأيام».

مع أني لا أذكر متي بدأت الاختيار، والقراءة، في مكتبة أبي — وكانت مُفعمة بالكثير من كتب اللغات والاقتصاد، وبالأقل من كتب التراث والأدب المعاصر — فإني أذكر قراءتي لكتاب «الأيام» جيدًا. أذكر ظروف قراءته وتأثيراته في نفسي. كنتُ أقرأ كلَّ ما تُصادفه يداي. أذكر أقلَّه، وأنسى معظمه. وحين قرأت «الأيام» لم يعلَق في ذاكرتي إلا السياج الذي تَصوَّر الصبي أنه نهاية العالم. لم تُتِح له العاهة التي كان يُعانيها أن يجيد التعرُّف إلى ما حوله. غابت تفصيلات المكان والزمان، فلم أعرف — وقتها — أن الأحداث جرَت في الصعيد، وأن زمنها هو أواخر القرن التاسع عشر. ولم أرسم ملامح مُحددة للصبي، وإن بدا — في مخيلتي — على الهيئة التي رسمَها الفنان الكبير بيكار تعبيرًا عن الأحداث.

في القراءة التالية، أشفقتُ على الصبي حين أخفق في أكل العدس، فحاول أن يقتل نفسه بالساطور. أغناني بيكار عن تخيُّل ما حدث برسمه للمشهد الدامي، أو الذي أوشك أن يكون داميًا، ولم تُغادر الصورة ذهني — منذ تلك الأيام البعيدة — حتى الآن. بل إنه كلما عراني الارتباك لسببٍ ما فرضَتْ معاناة صبي الأيام نفسها على ذاكرتي!

أما القراءة الثالثة، فقد كانت هي الدافع لأن أكتب أولى محاولاتي. كتيب صغير مطبوع سميتُه «الملاك». كتبتُه قبل أن أجاوز مرحلة الطفولة. تأثرتُ للغاية بالكلمات التي تَوجَّهَ بها الراوي إلى طفلته الصغيرة، يُحدِّثها عن فضل أُمِّها عليه، وعلى أُسرته الصغيرة. أعدتُ قراءة الكلمات حتى حفظتُها تمامًا، وأقدمتُ على محاولة المحاكاة في أول ما صدَر لي من ورقٍ مطبوع. تحدَّث طه حسين عن الملك الذي حنا عليه، وعلى ولدَيه … وتحدثتُ عن الملاك الذي فارقنا — إخوتي وأنا — ونحن صغار، وأسرفتُ في اختيار الكلمات التي تُبِين عن الافتقاد والحب، مستعينًا — أعترف — بعباراتٍ كاملة لطه حسين والحكيم والزيات والمازني وعبد الحليم عبد الله والسحار وغيرهم من كبار الأدباء في تلك الفترة.

الدرس الأهم الذي خرجت به من قراءتي للأيام، أن الإعاقة في الذهن وليس في الجسد. لقد تحدى طه حسين إعاقته، واستطاع — كما روى لنا في الأجزاء الثلاثة من الأيام — أن يُصبح أحد الرموز الثقافية، ليس على مستوى مصر فحسب، ولا على مستوى العالم العربي وحده، وإنما على مستوى العالم كله.

•••

كان أهم ما يميز شهر رمضان، السهرات الدينية التي تقام — على نفقة الملك فاروق — في حديقة سراي رأس التين، قوامها تلاوة من القرآن الكريم لقارئ القصر الملكي — هذا هو اللقب الذي أطلقه الملك عليه — الشيخ مصطفى إسماعيل.

لا أذكر أن أبي صحِبَنا إلى حديقة السراي. كنا نُرافق أمهاتنا، ونجلس داخل الحدوة الهائلة، يطوف علينا خدَم السراي بالمشروبات، وتُحيط بنا الأضواء من كل الجوانب، ويتناهى صوت الشيخ مصطفى إسماعيل بأدائه الجميل (هو الثالث، في تقديري، من أصحاب الأصوات السماوية بعد محمد رفعت وأبو العينين شعيشع).

نعود إلى شارع إسماعيل صبري، أُسر متجاورة من بيتنا والبيوت المتجاورة، أُمَّهات وأطفال، نسير على رصيف الكورنيش إلى تقاطع إسماعيل صبري، فتمضي كل أسرةٍ إلى بيتها.

كانت تلك الرحلة القصيرة — نسبيًّا — من رأس التين إلى إسماعيل صبري أمْيَز ما في السهرة جميعًا، نمارس ما يحلو لنا من ألعاب وسط زحام المارة والقعود، لا نعبأ بأوامر الأمهات وشخطاتهن. أذكر أن إحدى الأمهات ثارت على شقاوة طفلِها، صاحت مُستنكرة: شفتي الولد! الْتقط صِبية الأنفوشي التعبير، حوَّلوه — حالًا — إلى كلماتٍ مُغنَّاة قوامها قول الجارة: شفتي الولد … شفتي!

•••

في الأيام العشرة الأخيرة من رمضان، يعلو صوت مؤذن جامع أبو العباس بالتواحيش، وهي غير التواشيح. مفرداتها التأكيد على الإحساس بالوحشة في انقضاء أيام الشهر الفضيل: لا أوحش الله منك يا رمضان … لا أوحش الله منك يا شهر الصيام.

يُعد الناس أنفسهم لِما قبل عيد الفطر، وللعيد نفسه. تنشط حركتهم بين البيوت والأفران، وكعك العيد على الرءوس، يُقبلون على شراء المكسرات من شارع اسمه «النقلية»، يفترِش ما يُسمَّى بسوق العيد مساحاتٍ في الأرض الخلاء والساحات، مثل ميدان المساجد، والساحة المقابلة لجامع علي تمراز، ومواضع أخرى في الأنفوشي ورأس التين. يضيف إلى بهجة الليالي مولد المرسي أبو العباس الذي يأتي موعده في نهايات رمضان. الأعلام والبيارق واللافتات وخيام الصوفية وحلقات الذكر والتواشيح والإنشاد الديني ورواية السيرة النبوية وسِيَر الصالحين، والجلوة التي تطوف شوارع المدينة في آخر أيام المولد، تسبقها الشارات والأعلام والدراويش الذين يلجئون إلى أفعال الخوارق، تأكيدًا لمعنى المحو والفناء.

أذكر — كالطيف — ليلة إعداد كعك العيد. كانت أُمي بصحتها، بمعنى أني ربما كنتُ في الخامسة أو السادسة من العمر. كانت تُشرف بنفسها على إعداد الصواني، تحمِلها دهب إلى فرن التمرازية القريب. ثمة نداءات وملاحظات وأنوار عالية، وباب الشقة مفتوح لتسهيل الحركة.

تظل المدينة — والأحياء الشعبية بخاصة — ساهرة ليلة العيد إلى موعد الصلاة. يدس الأطفال ثيابهم الجديدة تحت الوسادات، أو يضعونها إلى جانبهم على الأسرَّة، حتى تعلو التكبيرات. يحرصون في ذهابهم إلى الصلاة على ارتداء الثياب الجديدة، والحصول على العيدية من كبار الأسرة: الجد والجدة والأب والأم والأعمام والأخوال. يُحاكون الكبار في أدائهم للصلاة، ينتظرون — كما ينتظر الكبار — حتى ينتهي إمام الجامع من الخطبة.

تحلُّ بداية الاحتفال بالعيد — عند الأطفال — حين يتركون آباءهم، ويتَّجهون إلى ميدان سوق العيد، على ناصيته سيارات أجرة، مقابل ركوبها خمسة مليمات (لا يعرفها جيل الأطفال الحالي). تستوعب السيارة ما لا سبيل إلى حصره. تتداخل الأجساد والأيدي والأقدام بما لا يكاد يُتيح فرصة لالتقاط الأنفاس، ولا رؤية أي شيء. لكن سعادة المغامرة تلفُّ الجميع.

تنطلِق السيارة في شوارع غير مرئية، انعدام الرؤية لا يُتيح التعرُّف إلى ما يمكن رؤيته. يشعر الأطفال من رائحة البحر أنهم يسيرون بالقُرب منه. إذا قال السائق: وصلنا السراي … عرفوا أنه قد وصل إلى نهاية النزهة أمام قصر رأس التين. يبدأ رحلة العودة دون أن يُغادر الأطفال أماكنهم. مجرد إعادة الترتيب ستُفضي إلى نتائج سلبية، في مُقدمتها أن البعض لن يعثر على الموضع الذي كان يشغله داخل السيارة. يُهمل السائق صراخ المُعاناة من كتمة النفس. يواصل السير حتى يصل إلى نقطة البداية. يندلِق الأطفال من السيارة (هذا هو التعبير الأدق!) إلى أرض الطريق، لا يدرون كيف احتوتهم هذه العلبة الحديدية!

ما يكاد السائق يعلن عن بداية الرحلة التالية، حتى ينسي الجميع معاناتهم، يتسابقون إلى دفع المليمات الخمسة، ويندفعون داخل السيارة، تنحشر الأجساد والأيدي والأقدام، تأهبًا لرحلة تتزاوج فيها اللذة والألم.

فرض اختفاء الساحات والأراضي الخلاء والزحام غياب كل هذه المظاهر التي حدثتُك عنها. نحن نحتفظ بها في نفوسنا، وإن صحبنا أبناءنا إلى المُتاح من الحدائق العامة، بالإضافة إلى الفسحة الأجمل على شاطئ الكورنيش.

•••

زمان، كانت المسافة بين سراي رأس التين وسراي المُنتزة ساحة للألعاب والمسابقات التي تستمر طيلة أشهر الصيف، تجتذب أبناء الإسكندرية، بالإضافة إلى زائريها من المُصيفين.

كان سباق البنز يُقام كل اثنين، عشرات من عربات البنز يقودها أصحابها من رأس التين إلى المنتزة. كالعادة يبدأ السباق بمئات العربات، تتقلص تدريجيًّا، فيصل إلى نقطة النهاية مالا يُجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، والناس — على الجانبين — يُهللون، ويشجعون.

وكانت المينا الشرقية تشهد سباق القوارب بين صيادي رأس التين وصيادي السيالة، ما بين قلعة قايتباي ولسان السلسلة. تنزل الفلايك بالأعلام والرايات الملونة والمزامير والدفوف والطبول، تنطلِق وسط عبارات التشجيع والتصفيق والكلمات التي لُحِّنت خصوصًا لهذه المناسبة.

يُردِّد أبناء السيالة: قفة ملح وقفة طين … على دماغ رأس التين.

ويُردِّد أبناء رأس التين: سيالة يا سيالة … ياللي ما فيكي رجالة!

وعلى امتداد الشاطئ، تتعالى الصيحات والدعوات التي تنتصر لكل فريق، ويفوز أحد الفريقين، فتُطوى الأعلام، وتصمت الموسيقى، ويعود الجميع — متسابقين ومشجِّعين — إلى بيوتهم مُحمَّلِين بالذكريات الجميلة، وبوعدٍ على اللقاء في مسابقةٍ تالية، قريبة.

أما مسابقات السباحة، فقد كانت تُجرى من آخر نقطة في يسار الأنفوشي إلى لسان السلسلة، يشارك فيها مشهورون ومجهولون.

وفي الساحات الخالية في شارع التتويج (محمد كريم)، وبالقُرب من حلقة السمك، وأمام سراي رأس التين، كانت تُقام مباريات الكرة.

رأيت — في طفولتي — لاعبي الخمسينيات من الأهلي والزمالك والترسانة، الكراسي تُحيط بالساحة، الكرسي بقرشَين. عرفت أن الإيراد يُنفِق منه اللاعبون على مصاريفهم الشخصية أثناء الإجازة. وكما نعرف، فقد كانت كرة القدم آنذاك هواية خالصة، حدَّثَنا الضظوي — في وسائل الإعلام — عن قطعة الجاتوه بقرش صاغ التي كان يظفر بها مَن يُحرز هدفًا!

بالطبع فإن الكثير مما كان يشهده الساحل، سواء داخل البحر، أو على الشاطئ، لم يعُد يسهل إقامته في ظروف الزحام الحالية.

•••

تحول الحنطور إلى وسيلة نقل سياحية، يستقلُّه المُصيفون أو البحارة الأجانب، للفرجة على معالِم المدينة. أغلب سيره — كما أرى — في طريق الكورنيش، ما بين قصر رأس التين وقصر المُنتزة، عزيز قوم ذل، فلا يُلاحقه الأولاد بعبارات السخرية والشتم والصفات المعيبة. ذلك ما كان يُغضب الحوذية زمن طفولتي، يردون على العبارات القاسية والسخيفة بعباراتٍ أشد، أو يلجئون إلى الكرباج إن أفلح في بلوغ مصدر الصوت.

كان موقف عربات الحنطور على ناصية شارع إسماعيل صبري من ناحية شارع التتويج (شارع محمد كريم الآن). أعرض على الحوذي طلب جدتي بأن ينقلها إل محطة الأوتوبيس في ميدان محمد علي، أو محطة السكة الحديد، تُحدِّد لي جدتي السعر الذي أوافق عليه، تُحذرني من قبوله إلا بعد أن أساوم بأسعارٍ أقل، مقابلًا للسعر المُرتفع الذي سيعرضه الحوذي. سقف الموافقة هو المبلغ الذي حددتْه جدتي، أو أعود إلى البيت لعرض الأمر.

وكان الحنطور وسيلة احتفال بالعيدَين، إلى جانب سيارة التاكسي التي اعتدنا ركوبها — كما رويت لك — في زحام عشوائي. اختفى الحنطور من شوارع الإسكندرية وحاراتها، بل وأزقتها. تم الأمر في مدى أعوام طويلة كتأثيرات الزمن، وإن ظلَّت أعوام وجوده — كوسيلة نقل مهمة — ماثلة في الذهن.

تأثيرات الزمن تفرض ملامح جديدة، تُغَيِّب من حياتنا ما ألفنا وجوده كثوابت يصعب تصور افتقادها، اختفت الذكريات الحميمة، حل مكانها ما بدا لي مفاجأة خالصة. لم يعُد من الزمن القديم إلا الجوامع الكبرى، والزوايا، وما تبقى من البنايات القديمة، أنشئت العمارات الجديدة المُتعددة الطوابق، وعلت الإعلانات المضيئة، ومحال البضائع الحديثة. حديقة سراي رأس التين في اتساعها القديم، لكن لم يعُد في وسع أهل بحري أن يتردَّدوا عليها، أُقيمت أمامها متاريس تمنع الدخول. أفهم — وأتفهَّم — عملية إزالة البنايات المحيطة بالبيت الحرام، والبنايات التي أتاحت توسيع ميدان الحسين بالقاهرة، لكن من الصعب أن أتصوَّر إنشاء كتلةٍ خرسانية تحتلُّ المساحة الأكبر من ميدان أبي العباس بدعوى توسيع الميدان. أثق أن الإغراءات المادية كانت هي الباعث لِما حدث، وأثق — في الوقت نفسه — أن قرارًا حاسمًا تُصدره الجهة المسئولة، سيكفُل إعادة الميدان إلى صورته الأولى. قلَّت مساحات الشوارع المُبلطة بالبازلت، مقابلًا لزيادة المساحات المُسفلتة. اعتدت — في صباي — أن أتقافز فوق المكعبات البازلتية، وأعدَّها، حتى يُنبهني — فأفسح الطريق — هتافُ حوذي، أو قرقعة عجلات عربة كارو، أو كلاكس سيارة. في زياراتي إلى مدن ساحلية، بدت لي الطرق البازلتية ملمحًا مُهمًّا في شخصيتها، وكانت هي الملمح المُهم في شخصية الإسكندرية، لكنها ذوت، واقتصرت على بعض الشوارع الجانبية، والضيقة. حتى الحديقة المواجهة لمستشفى المكلة نازلي، عُطِّلت نافورتها، وغطَّى التراب أرضيتها التي كانت خضراء. غاب رونقها القديم. أما البوصة التي يتدلَّى منها خيط النايلون والسنارة. يجلس الصياد على المكعبات الأسمنتية، أو يقف فوقها. يقذف السنارة الحاملة لطعم الجمبري الصغير، يتشبَّث بالصبر حتى تحدُث الجذبة، فتعلو يده بالصيد الذي طال ترقُّبه. هذه الصورة شحبت، أو تلاشت. اشتريتُ أدوات صيد السنارة في أحيانٍ كثيرة، وشاركتُ الصيادين وقفَتَهم، وعدتُ إلى البيت وفي «الغلق» من آحاد المرجان والبربوني ما يحضُّ على التباهي. السنارة القديمة اختفت، حلَّت — بدلًا منها — ماكينات حديثة جيدة الأداء. لم تكن الثلاجة الكهربائية قد دخلت بعدُ معظم بيوت بحري. لذلك كان رواج تجارة عم أحمد في ألواح الثلج واضحة، يتوالى قدوم عربات النقل المُغلقة، يفتح بابها الخلفي على رصات الثلج، تستقر داخل الصندوق الخشبي الأخضر، ما يزيد يُرَصُّ في مدخل البيت المجاور، ساعة أو أقل — في الصيف بخاصة — ينفد كل ما حملته العربة، لتأتي عربة ثانية، وهكذا. مطعم الطنطاوي ما زال في مكانه، وإن بدَّل نشاطه. لم يعُد يقتصر على الفول والفلافل، لكنه أضاف إليهما وجبات خضار ساخنة، تغيرت نوعيات الزبائن نتيجة لتغيُّر الطلبات. سينما التتويج — في المواجهة — تحولت إلى جراج، ثم أُزيل لتُقام — في موضعه — بناية سكنية، ذات طوابق مُتعددة.

آخِر من كنتُ أعرف بشارع إسماعيل صبري، الأسطى إبراهيم شعبان، صاحب دكان الترزي أسفل بيتنا. كنتُ أحرص — في زياراتي إلى الشارع — أن أسأله عن الأحوال: كيف كان الزمن القديم، ومن بقي منه، وماذا عن الجديد؟ وكان يصبر على أسئلتي التي تُذكِّره بأسماء نسِيها هو نفسه.

طالعني دكان إبراهيم شعبان — في زيارةٍ أخيرة — بالإغلاق. عرفتُ أنه قد أصيب بشللٍ مفاجئ، فحمله الجيران (الجيرة لها معناها الجميل في الأحياء القديمة) إلى المستشفى، أقام فيها أيامًا، ثم عاد إلى بيتِه في وضعه المُرضي، أرقدوه على فراشه، فلم يعُد يُغادره.

إبراهيم شعبان هو آخِر الخيوط التي كانت تربطني بشارع إسماعيل صبري الذي أعرفه، تحُوطني الغربة بالنظرات المُتسائلة، والسِّحَن التي لم يسبِق لي رؤيتها، والمحال التي تُقدِّم أنشطة فرضها إيقاع العصر، كالموبايل والأجهزة الكهربائية ووجبات الطعام السريعة.

•••

من عادتي — كما قلتُ لك — أن أعود إلى بحري، وما تزال ذاكرتي تستعيدُ شخصياته وأحداثه، حتى التي مضى على غيابها أعوام طويلة.

أحيانًا، فإني أنفي ما شاهدته، أستعيد ما عشتُه من المواضع القديمة، ما تعرَّض للإزالة والتقويض والتدمير، لتحلَّ — بدلًا منه — مواضع جديدة: شوارع وميادين وبنايات. تلك هي حيلتي للعيش في زمن الطفولة والصبا، الزمن الذي تدين له ذاكرتي بما تعرفتُ إليه — وحاولت التعبير عنه — من شخصياتٍ ووقائع.

•••

بحري هو نبض الكثير مما كتبت، وأثق — لو أسعفني العمر — أنه سيكون نبضًا لأعمالٍ أخرى تالية.

أُصارحك بأن الحزن يلفُّني عندما أزور الإسكندرية، حي بحري بالذات، هذه الأيام.

تغيرت الصورة تمامًا، فأنا أفضل أن أعتمد على صور الذاكرة.

أفلح الانفتاح في أن ينفذ — بمظاهره السيئة — إلى المَوطن الذي نشأت فيه، وأحببته. بحري الذي عشت فيه يختلف عن ذلك المبنى الخرساني الهائل الذي احتل ميدان أبي العباس، فذوت الروحانية وحميمية البشر، تعرضت العمارة الجميلة لجامع أبو العباس، وفي الجانبين جامع البوصيري وياقوت العرش، إلى عملية تشويه متعمدة، بالسطو على مساحة الميدان، وإقامة هذه الكتلة الخرسانية الهائلة موضعها، تشغلها المولات والمطاعم ودكاكين البازار. أفتقد الحديقة الهائلة أمام سراي رأس التين تُتيح خضرتها للجميع، ويُتلى فيها القرآن في ليالي رمضان. شاطئ الأنفوشي احتلته الكبائن وورش المراكب، فضاعت فُرَص أبناء الحي في الإفادة من البحر الذي وُلدوا على شاطئه … الكثير من الصور التي أحببتُها، وعبرت عنها — فنيًّا — في أعمالي، مقابلًا للكثير من الصور التي لا تعدو تشوُّهات في الجسد الجميل.

حي الجمالية بعمارته الإسلامية وشوارعه الضيقة وأقبيتِه ومساجده وزواياه وحرفِيِّيه، هو التعبير عن القاهرة المُعِزية بكل زخمها التاريخي والمعماري والإنساني. ذلك ما يصدق — إلى حدٍّ كبير — على حي بحري، وإن انتسب الكثير من أبنائه إلى المِهن المتصلة بركوب البحر.

وإذا كانت وزارة الثقافة تُحاول إنقاذ الجمالية من الزحف الخرساني، فلعلَّ ذلك ما يحتاج إليه بحري، لا أقصد البيوت القديمة المُتهالكة، فلا بد أن تمتدَّ إليها يد الإنقاذ وفق أسس معمارية محددة، وإنما أقصد المعالِم المعمارية والتاريخية المهمة.

لتكن البداية — على سبيل المثال — بإزالة تلك الكتلة الخرسانية الهائلة من ميدان أبي العباس، مقابلًا لما حدث في ميدان الحسين، فيعود إلى الميدان ما سُلب منه، وما ألِفه من ملامح مُتفردة، يفتقِدها أهل الإسكندرية وزوَّارها!

•••

غير الزمن طبيعة المكان، الكثير من الأشياء غابت ملامحها، أو تداخلت في ملامح أخرى جديدة. ليس هذا هو بحري الذي عشتُ فيه طفولتي وصباي وسنين من شبابي، الفضاءات التي صارت — فيما بعد — محورًا لكتاباتي، كل الصور في ذاكرتي ثبتت على مشاهد مُحددة. تغلِبني الحيرة وأنا أحاول الكتابة، وأنا أحاول استعادة الملامح والقسمات، ما بين المشاهد الآنية وتوصيف الذاكرة، ما أزاله الهدم، والجديد الذي بدَّل طبيعة المكان. كما رويت لك، فإني أغمض العينَين أحيانًا (لي قصة اسمها «إغماض العين») وأحاول استعادة ما كان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤