الفصل التاسع

الأفلام كوسيلة للعيش: وظائف الفيلم

في عام ١٩٧٥م، عُرض فيلم «ظهيرة يوم قائظ» (دوج داي أفترنون) الذي أخرجه سيدني لوميت، وقام ببطولته آل باتشينو، وقام بأداء الأدوار المساعِدة كلٌّ مِن جون كازال، وتشارلز دورننج، وكريس ساراندون. وقد فاز فرانك بيرسون بجائزة الأوسكار عن أفضل سيناريو مأخوذ عن نص أدبي، كما رُشِّح الفيلم لخمس جوائز أوسكار أخرى من بينها جائزة أفضل فيلم. وقد حقَّق الفيلم عند عرضه نجاحًا جماهيريًّا ونقديًّا كبيرًا، ويُعتبر اليوم من كلاسيكيات سينما السبعينيات. كان هذا الفيلم نقطة تحول في تاريخ السينما، فلأول مرة يقوم نجم كبير بأداء شخصية رجل مِثْلِيٍّ. وقد اشتمل حوار الفيلم على الكثير من الارتجالات، بما في ذلك ترنيمة آل باتشينو الشهيرة، «أتيكا! أتيكا!» تدور القصة، المأخوذة عن واقعة حقيقية، حول لصَّيْن: سوني (باتشينو) وسال (كازال)، يداهمان بنكًا بمدينة نيويورك في ظهيرة يوم صيفي قائظ، لكنهما يَجِدَانه خاليًا من النقود. وعندما تقوم الشرطة بمحاصرة المبنى، يحتجز سوني وسال بعض الرهائن، لتنطلق سلسلة من المفاوضات المكثَّفة. ونكتشف في هذه الأثناء أن سوني أقدم على السرقة بهدف الحصول على الأموال اللازمة لتغطية نفقات عملية تغيير جنس لعشيقه. وعندما يطلب سوني إرسال سيارة تُقِلُّهما إلى المطار، يُصاب سال بطلْق ناري ويَلْقَى حتْفَه على يد شرطي، ويتم إلقاء القبض على سوني.

fig19
شكل ٩-١: آل باتشينو في دور سوني في فيلم «ظهيرة يوم قائظ» ١٩٧٥ (حقوق النشر محفوظة لفوتوس ١٢/آلمي).
بالنسبة إلى الكاتب باتريك هوريجن، كان الفيلم أكثر من مجرد حبكة مشوِّقة، أو فيلم حاصل على الأوسكار وحاز على إعجاب النقَّاد، أو نقد ثقافي لاذع.1 كان باتريك في الخامسة عشرة من عمره عندما شاهد الفيلم عام ١٩٧٩م، وكان ينتمي لعائلة كاثوليكية كثيرة العدد من ضواحي بنسلفانيا، وفي الوقت الذي شاهد فيه الفيلم على شاشة التليفزيون كان يخوض صراعًا ضد ميوله الجنسية. وقد انْبَهَر بوجْه خاص بتصوير الفيلم لمدينة نيويورك؛ حيث وجدها مكانًا قاسيًا لكن مغويًا أيضًا ونابضًا بالحياة.

وقد انجذب هوريجن إلى الشخصية التي أدَّاها باتشينو وتماهَى في الوقت نفسه مع معضلته. كذلك رأى أن السلطات حسنة النية، لكنها أبوية وعاجزة عن إيجاد مخرج لسوني من الظروف العصيبة التي تورَّط فيها. ويفسر باتريك مشهد استدراج سوني «للخروج» من مبنى البنك باعتباره مجازًا لتعقيدات خروج المثلي إلى الحياة العامة. فحتى مناشدات والدة سوني له للخروج من المبنى كان يمكن أن تكون لها عواقب مميتة. ولأن باتريك كان على وعي بمخاطر الخروج إلى الحياة باعتباره صبيًّا مثليًّا، فقد أثار هذا المشهد في نفسه اضطرابًا شديدًا. كذلك تأثَّر بوجه خاص بالمكالَمة الهاتفية الحميمية بين سوني وليون. وفي حين أن هذا المشهد تعرَّض فيما بعدُ للانتقاد على أساس أن استخدام الهاتف حَرَمَ صُنَّاع الفيلم من أي وسيلة بصرية لتصوير الاتصال الجسدي بينهما، فإن فرصة مشاهدة مشهد يُصوِّر مشاعرَ حميمية بين رجلَيْن كانت بالنسبة إلى باتريك أكثر أهميَّةً من الحميمية الجسدية.

لقد تحوَّل «ظهيرة يوم قائظ» إلى جزء من حياة باتريك الداخلية. فقبل مشاهدة الفيلم، اعتاد أن يستغرق في سلسلة من أحلام اليقظة التفصيلية، كان يرى فيها نفسه ممثِّلًا ومُخرجًا مشهورًا، وكان يدمج تلك الخيالات في الأفلام التي يشاهدها. كذلك تخيَّل كتابة ما يشبه جزءًا ثانيًا للفيلم يلعب فيه دَوْر رفيق سوني الشاب. وفي النهاية، تركت تجربتُه مع الفيلم واسترسالاتُه حولها تأثيرًا عميقًا عليه: «الإمكانية الفعلية لامتلاك هُوية مثلية والدخول في علاقة حب مع رجل آخر، التي رأيتُ لمحةً منها في تصوير الفيلم للعلاقة بين البطل وصديقه، اقتحمتْ عقلي وغيَّرتْ طريقةَ تفكيري.»2
في بعض الأحيان، يدرك الناس أن لأحد الأفلام تأثيرًا عليهم؛ فيشعرون أنه يقتحمهم، ويدركون الدور الذي يلعبه في تفكيرهم وأفعالهم. تلك هي إحدى نقاط القوى التي تتمتع بها الأشكال الرمزية مثل الفيلم. في تلك الحالات، لا تكون الرموز مجرد بدائل لمفاهيم مجرَّدة مثل الحب والقمع؛ ففي بعض الأحيان، تكون للرموز أهمية حقيقية في الطريقة التي يعيش بها الناس حياتهم.3

ينطلق هذا الفصل من النقطة التي توقَّفنا عندها في الفصل السابق الذي استعرضنا فيه تأثيرات الإعلام. ورغم أن الفصلين يتعاملان مع الكيفية التي تتسلَّل بها الأفلام إلى حياتنا، فإن ثمة فارقًا أساسيًّا بينهما: ﻓ «التأثيرات» (الأثر، الوقع) تحدث «للناس». فعندما نقول إن لفيلم ما وقْعًا علينا، فإننا نتعامل معه باعتباره وسيلة فاعلة. لكن يحدث أحيانًا أن نستخدم فيلمًا ما بطريقة واعية في تحقيق أهدافنا الخاصة. فنقوم بتطبيقه على حياتنا، ونجعل منه أداةً لتنفيذ وظيفة معينة. وفي هذا السيناريو، نكون نحن الوسائل الفاعلة، والأفلام هي الأدوات التي نستخدمها.

(١) الوظائف المهنية للأفلام

إن أردنا أن نؤثِّر على مجموعة من الناس، فإن الفيلم هو إحدى الوسائل المتاحة لتحقيق هذا الهدف. فعند استخدامها بطريقة صحيحة كوسائل اتصال، يمكن للأفلام أن تساعد في تثقيف الجماهير بشأن مجموعة واسعة من القضايا: العناية بنظافة الفم والأسنان، والتاريخ، والسياسة، والتعايش مع الأحزان، إلخ. فالقوة الكامنة للصور المرئية يمكن تسخيرها وتشكيلها لتحقيق كل ما يَعِنُّ لنا من أهداف أخلاقية أو علاجية أو تعليمية.

استخدام الأفلام في التثقيف

لا يتفق المحتوى الميلودرامي و/أو الخيالي لأفلام السينما السائدة مع الصورة المعيارية للتعلُّم المنضبط. فالأفلام قد تبدو مجرد وسيلة للتسلية بدرجة تَحُول دون انتظار أيِّ نفْع منها. والسهولة الظاهرية التي يتعامل بها الناس مع الصور المرئية يمكنها أن تُثبِّط عملية التحليل المتأنِّي التي تشجِّع عليها القراءة وغيرها من وسائل التثقيف التقليدية. ورغم تلك التحفظات، فإن ما تتميز به الصور المتحركة من خصائص تجعلها في متناول الجميع تُثير حماس عدد كبير من التربويين. وفي حين أن المستويات المتقدِّمة من التعليم تفضِّل الكلمة المكتوبة، فإن الأفلام نالت اعترافًا واسعًا باعتبارها وسائل تعليمية مساعِدة في الكثير من الموضوعات المميَّزة.

ثمة صور مرئية في الأفلام والتليفزيون وأجهزة الكمبيوتر يتم إنتاجها خصوصًا لتلبية حاجة سوق التعليم، فضلًا عن وجود مجموعة كبيرة من الكتابات الهامة حول فاعلية تلك الطرق.4 وحتى الأفلام التي تُنتَج بهدف العرض في دُور السينما وُجد أن لها قيمةً تربوية، بالنظر إلى قدرتها على تعليم القِيَم والفضائل والأخلاق للأطفال والمراهقين. وحياتي الدراسية في فترة الطفولة تقدِّم مثالًا جيدًا في هذا الصدد؛ فقد كنتُ جزءًا من الرعيل الأول من جمهور مشاهدي برنامج «شارع سمسم» على شبكة تليفزيون بي بي إس. ورغم أنني لا أستطيع القول إنني تعلمتُ حروف الهجاء من خلال برنامج تليفزيوني، فإنني على يَقِين من أن صورة الانسجام المجتمعي كان لها تأثير كبير عليَّ. ففي المدرسة الابتدائية، كانوا يَعرِضون علينا من حين لآخر أفلامًا قصيرة تتضمَّن رسائل تعزِّز الحس الاجتماعي. وثمة فيلم على وجه التحديد، «التجديف صوب البحر» (بادل تو ذا سي)، يصوِّر قاربًا خشبيًّا منحوتًا على متنه رجل هندي، ينطلق في جدول مائي صغير، إلى أن ينتهي به المطاف في البحر، لا تزال أصداؤه تتردد في ذاكرتي إلى اليوم. وأعتقد أنه ساعدني في التماهي مع النُّظم الطبيعية المترابطة، وأن أقدِّر أهمية المثابرة والمصادفة في رحلات الحياة.5
لقد سعى التربويون إلى فهرسة مجموعة من الأفلام يمكن استخدامها، بمساعدة معلِّمين مَهَرة، في تعليم بعض القِيَم.6 ففيلم «جسر إلى تيرابيثيا» (بريدج تو تيرابيثيا)، وهو فيلم مغامرات من إنتاج ديزني، يقدِّم تيمات الصداقة والموت والتنمُّر. فيمكن أن يقوم المعلِّم بطرح مجموعة من الأسئلة على تلاميذه حول المَشاهِد التي تتعرَّض فيها الشخصية الرئيسية للسخرية بسبب فقْرِها: كيف كان، في تصوُّركم، شعور جيس عندما سخر منه الأطفال بسبب حذائه؟ لماذا تبدو السخرية من فقْرِ جيس سلوكًا خاطئًا؟ كيف كنتَ ستَرُدُّ على المضايَقة التي تعرَّض لها جيس لو كنتَ مكانه؟ هذه الوسيلة السينمائية لها أفضلية على مجرد التعليم باستخدام العبارات الأخلاقية (على غرار: «من الخطأ أن تُضايِق الناس»)؛ ذلك لأن الفيلم لديه القدرة على رفع حِدَّة الخِبْرة الشعورية والتعاطفية.
لسنوات طويلة، كانت المكانة الفكرية للفيلم المشكوك في أمرها تجعل الأساتذة يتردَّدون طويلًا في استخدامها كوسيلة مساعدة في التدريس، بَيْد أن الحركة التقدُّمية التي شهدتْها الستينيات فتحت الطريق أمام استخدام تشكيلة واسعة من الوسائل التربوية. وبدأ الأساتذة يستخدمون الأفلام في تدريس العلوم الإنسانية الكلاسيكية.7 وفي الألفية الجديدة، ظهرت كتب دراسية مخصَّصة بالكامل للأفلام الروائية، قدَّمت مجموعة من المفاهيم الهامة للعديد من المجالات البحثية؛ مثل علم الاجتماع،8 والعلوم السياسية،9 وعلوم البيئة.10

ومع ذلك، لا يزال هناك قلق من أن استخدام الأفلام في المستويات المتقدمة من التعليم قد يُعتَبَر وسيلة رخيصة لإغراء الطلاب المستهترين بهدف رفع معدلات الالتحاق. إن مقرَّر «علم نفس الفيلم» الذي أقوم بتدريسه يَحظَى دائمًا بنسبة الْتِحاق أعلى من سعته المقرَّرة؛ مما يثير حسَدَ زملائي الذين يدرسون مقرَّرات عن كانط أو الإمبريالية الإسبانية. لكني أُبادِر بالاعتراف بأن شعبيته تعود إلى حدٍّ كبير إلى كلمة «الفيلم» في عنوانه. فمِن الواضح أن الطلاب يُدرِكون أن مشاهدة الأفلام سوف تتداخل في أضيق الحدود مع دوري البيسبول أو غيرها من الأنشطة الشبابية في فصل الربيع. وبينما أحرص أن يشتَمِل المقرَّر على واجبات قراءة وكتابة شديدة الجدية لتبديد شكوك زملائي، فإنني لا أترفَّع أبدًا عن استغلال الجاذبية العميقة للأفلام لجذب الطلاب إلى المواد الدراسية، وتعميق خبرة التعلُّم.

يمكن أيضًا استخدام الأفلام كأدوات تعليمية في العلوم التطبيقية مثل الطب. فمصطلح «التعليم بالسينما» يصف طريقة استخدام الأفلام التجارية في تدريس الطب عن طريق عرض مواقف وإثارة أسئلة حول شتَّى القضايا الطبية.11 وفي حين أن هناك عددًا قليلًا من الأفلام قد تكون ذات فائدة في دراسة تشريح الجهاز الدوري، فإن العلاج الطبي أوسع نطاقًا من التشريح والعقاقير والإجراءات الطبية. فممارسة الطب تتضمَّن أبعادًا نفسية واجتماعية وتبادلية بين الأشخاص تُجيد الأفلام تصويرَها (أو تُسيء تصويرَها، وهو ما قد يكون مفيدًا أيضًا).
  • تأثير الأمراض المزمنة على العائلة: يصوِّر فيلم «صُلْب ماجنوليا» (ستيل ماجنوليا) الأثر الذي تتركه إصابة امرأة شابة بمرض قاتل على أمها وعائلتها الممتدَّة.
  • تبليغ أخبار سيئة: المشهد الذي لا يُنسى في فيلم «شروط التحبُّب» (تيرمس أوف إنديرمينت) الذي يقوم فيه طبيب، وهو يشعر بضيق بالِغ، بإبلاغ مريضه بحقيقة مرضه، يتناقض مع الشكل المثالي للتواصل بين الطبيب والمريض.
  • أمراض الأطفال: يدور فيلم «زيت لورينزو» حول زوج وزوجة يخوضان صراعًا للتغلب على مرض ابنهما المزمن. ويتم تسليط الضوء على تأثير ذلك على علاقتهما الزوجية، فضلًا عن محاولة الأم استكشاف كل وسائل العلاج الممكنة.
رغم ما يشوب صورة المشورة الطبية والعلاج النفسي في السينما من تشوهات، لجأ الأطباء النفسيون إلى بعض الأفلام كوسيلة لتدريس علم النفس. والكثير من الكتب يستخدم الأفلام لتعريف الطلاب بنظرية الشخصية12 والمرض النفسي،13 فضلًا عن العديد من ورش العمل المخصَّصة لمساعدة المعالِجين النفسيين في شحذ مهاراتهم المهنية باستخدام الأفلام.14 فالأفلام تُستخدم للاستفادة من حيوية صورها، وأيضًا لأنها تشجِّع على التماهي، وتقلِّل من الخِزْي الذي يرتبط بالمرض النفسي في أذهان طلاب الطب،15 وتزيد من تعاطفهم مع المرضى.16

استخدام الأفلام في العلاج النفسي

العلاج بالسينما هو استخدام الأفلام كوسائل للعلاج النفسي.17 ولأن الأفلام تتيح للمشاهدين عَقد صلات مجازية بين محتوى الفيلم وعالم الواقع، فإن المعالِج النفسي البارع بإمكانه مساعدة مرضاه في عقد تلك الصلات من أجْل حلِّ مشاكلهم وتسهيل تحقيق تقدُّم في عملية العلاج.18 وينبغي النظر إلى العلاج بالسينما باعتباره «وسيلة» علاج، وليس نوعًا من العلاج قائمًا بذاته. وفي حين أنه يتعيَّن على أيِّ معالِج نفسي يستخدم الأفلام أن يأخذ في اعتباره ما تَنطَوِي عليه من إمكانيات رمزية، فإن ثمة طرقًا عديدة محتمَلة يمكن استخدامها لهذا الغرض. فقد يلجأ معالج نفسي إلى استخدام الأفلام كوسيلة لمساعدة مرضاه في فهم بعض أنماط التفكير المزعجة (العلاج المعرفي-السلوكي)، بينما يستخدمها معالِج آخَر في مساعدة مرضاه في فهم قِيَمهم وطموحاتهم (العلاج الإنساني)، في حين يستخدمها ثالث في مساعدة مرضاه على فهم صراعاتهم الداخلية (العلاج الديناميكي النفسي).
فقد استخدم أحد المعالِجين النفسيين فيلم «كابوس في شارع إلم» في علاج مراهِق — يُشار إليه بالاختصار «سي» — كان يتلقَّى علاجه داخل المستشفى.19 كان «سي» قد أُدخِل إلى المستشفى في البداية بسبب إدمانه المخدرات، وطبيعته المشاكسة، وأدائه السيِّئ في المدرسة، فضلًا عن قيامه بتحطيم منزل الشخص المسئول عن رعايته. فبعد أن هجرتْه أمه وهو في التاسعة من عمره، انتقل للعيش مع عمِّه المُتزَمِّت، ونَمَتْ بينهما علاقة سادها التوتُّر. كان الصبيُّ مولعًا بأفلام سلاشر، لكنه حُرم من مشاهدتها بعد تفاقم ما كان يسبِّبه من مشاكل. وبعد فترة عَزْل في المستشفى، سعى معالِجُه النفسي إلى التقرُّب إليه عن طريق الحديث معه حول أفلام الرعب المفضلة لديه، التي كانت تستحوذ على جماع مشاعره.

وقد اتفق المعالِج و«سي» على مشاهدة مقاطع من الجزء الرابع من فيلم «كابوس في شارع إلم: سيد الحلم» أثناء الجلسات ثم مناقشتها معًا. وقد ساعدتْ تلك المشاهدة المشتركة في تحسين العلاقة بين المعالِج والمريض؛ حيث زادتْ من ثقة «سي»، وأتاحتْ للمعالج مراقبة ردود أفعاله. وقد كشف «سي» عن أنه رغم إعجابه بقوة فريدي كروجر، فإنه كان يتماهَى مع ضحاياه قليلي الحِيلة من المراهقين، كما ارتبط فريدي في ذهنه بالبالغين المتسلِّطين، لا سيما عمُّه. وقد ساعد المعالج النفسي «سي» في التعرف على مخاوفه من إساءة المعاملة والهَجْر باعتبارها مصدرَ ما يشعر به من سخط تجاه الآخرين. وتم تطبيق هذا الاستبصار في العلاج النفسي العائلي، مما ساعد «سي» على البَوْح بآلامه (وليس سخطه فحسب) للقائمين على رعايته. وساعده هذا في التنفيس عن غضبه والنجاح في الاندماج في الحياة العائلية مرة أخرى.

وفي شكل آخر من أشكال العلاج، يعمد المعالجون إلى اختيار فيلم ملائم لوضعية المريض (نوع مشكلته، سِنه، نوعه، خلفيته الثقافية، إلخ)، ثم مناقشته معه بعد مشاهدته. فأحيانًا يعوِّل المعالِجون على قيام المرضى بعقد صلات مع الفيلم من تلقاء أنفسهم، لكن في أحيان أخرى يتم توجيههم إلى الغرض من الفيلم، وأيضًا إلى إمعان التفكير في أسئلة معينة.20 ففيلم «البحث عن بوبي فيشر» (سيرشينج فور بوبي فيشر)، على سبيل المثال، يُستخدَم في معالجة المشاكل الخاصة بالعلاقة بين الآباء والأبناء. فالطفل المعجزة في لعبة الشطرنج (ماكس بوميرانس) يتعرَّض لضغوط من والده (جو مانتيجنا) ومدربه (بن كينجسلي) للتخلِّي عن رِقَّة طبْعِه وتعلُّم العدوانية سعيًا وراء الفوز. وفي النهاية يُدرِك الأب أنه يتسبَّب في إلْحاق ضرر بالغ بابنه. لذا بإمكان الفيلم مساعدة الآباء على إدراك كيف أنهم يُسقِطون طموحاتِهم الخاصة على أبنائهم والتحذير من مخاطر هذا النوع من الإشباع بالنيابة. كذلك يمكن لهذا الاستبصار مساعدة الآباء في تعلُّم احتضان مواهب أبنائهم، والموازنة، في الوقت نفسه، بينها وبين غيرها من احتياجاتهم كأطفال (للاطِّلاع على قائمة بالمشاكل النفسية المرتبطة ببعض الأفلام، انظر الملحق «د»).
يتميَّز العلاج النفسي باستخدام الأفلام بوجود المعالِج النفسي حاضرًا بشخصه أثناء الجلسة. فقد أظهرتِ الأبحاث الحديثة أن أهم مؤشر على حدوث تقدُّم في عملية العلاج النفسي هو متانة العلاقة الشخصية بين المريض والمعالج.21 أضِفْ إلى ذلك أن الأفلام توفِّر مجموعة من الخصائص العلاجية الهامة؛ فهي تستحوذ على المشاعر، وذات طبيعة مجازية إلى حدٍّ بعيد. لهذا السبب، يعتقد علماء النفس وغيرهم من الكُتَّاب في أهمية التأمل الذاتي الذي تُشجِّع عليه الأفلام، حتى وإنْ لم يتمَّ هذا تحت إشراف المعالج النفسي أو مشاركته؛ ويؤكدون في كتبهم المخصَّصة للمساعدة الذاتية على أن إمعان التفكير في الأفلام بإمكانه أن يقود إلى حياة أكثر ثراءً، وأوْفَر صحَّةً، وأشد استقامةً.
في كتابه «قتل الوحوش: لماذا يحتاج الأطفال إلى الفانتازيا والأبطال الخارقين والعنف المصطنع؟» يقدِّم جونز إجابات مُقنِعة لسؤال: لماذا يمكن لصور الفانتازيا والعنف أن تنشِّط الخيال وتساعد على اكتساب حسٍّ بالذات عبْرَ التماهِي مع شخصيات قوية؟22 وتذهب كتب أخرى إلى أنه بإمكان الأفلام المساعَدة في تسهيل عملية التواصل بين الآباء والأبناء حول جميع الموضوعات، بما في ذلك الطلاق والمخدرات والموت، وحتى الأمور الخارقة.23 ففي كتاب «العلاج بالسينما: كيف تساعدك الأفلام في التغلُّب على مشاكلك الحياتية؟» (٢٠٠١)، يقوم سولومون بمراجعة بضع مئات من الأفلام من حيث قدرتها على معالجة مجموعة من المواقف الحياتية المختلفة. ويسلك كتاب «الإشباع السينمائي» لجريس دَرْبًا مُشابِهًا، فيما عدا أن المؤلِّفة تُرتِّب مجموعة الأفلام التي تقترحها في سياق خطة متدرِّجة لتحسين الحياة.24
أما أكثر الكُتُب السينمائية تجذُّرًا في المنظورات النفسية الراسخة، فهو كتاب «علم النفس الإيجابي في الأفلام: استخدام الفيلم في بناء الفضائل ونقاط القوة في الشخصية» من تأليف ويدينج ونيميك.25 يزعم علم النفس الإيجابي أن علم النفس، على مدار تاريخه، انصبَّ تركيزه على الجوانب السلبية من البشر — المرض النفسي، الفظائع الاجتماعية، الأخطاء المعرفية — بدلًا من تقديم رؤية لأفعال الشخصية الإنسانية المثالية.26 وبالمقابل، يربط الكتاب بين أربع وعشرين نقطة من نقاط القوة في الشخصية وستِّ فضائل أساسية. وباستخدام تحليلات منهجية، يرى الكاتبان أن نقاط القوة تلك ارتبطتْ دائمًا على مدار التاريخ بالعظمة الإنسانية.27

يشير كتاب «علم النفس الإيجابي في الأفلام» إلى وجود تلك الخصائص في العديد من الأفلام، ويقدِّم لنا خلاصة وافية بها. فعلى سبيل المثال، يتم الربط بين خاصية الإبداع وفيلم «الحياة جميلة» (لايف إز بيوتيفول)؛ حيث يبتدع جيدو (روبرتو بينيني) عالمًا خياليًّا من أجْل ابنه المحتجَز في أحَد معسكرات الاعتقال، وهو أكثر الأوضاع مدعاةً لليأس والتشاؤم. كذلك نقع على تجسيد نموذجي للحيوية في فيلم «كول هاند لوك» من خلال صورة لوك (بول نيومان) الذي لا يستطيع كبْتَ روحه المتفرِّدة حتى لو دفع حياته ثمنًا لذلك. أما فيلم «إنها حياة رائعة» (إتس أ وندرفول لايف) فيجسِّد أهمية الشعور بالامتنان عندما يدرك جورج (جيمي ستيوارت) الأهمية الحقيقية لحياته بعد التفكير مليًّا في الانتحار. تلك الأفلام وغيرُها يتمُّ تقديمُها باعتبارها أعمالًا فنية لديها القدرة على الارتقاء بالحياة البشرية.

(٢) الوظائف العامة للأفلام في الحياة اليومية

إنَّ الأبحاث حول الاستخدامات والإشباعات هي مقارَبة تنتمي لميدان العلوم الاجتماعية، تهدف إلى دراسة الطريقة التي يُشبِع بها الإعلام حاجات الجمهور ورغباته.28 وقد انعكست عملية الإشباع في تفضيلات الأفلام والاستمتاع بها التي ناقشناها في الفصلين الخامس والسابع من هذا الكتاب. لكن بجانب الاستمتاع، هل تؤدي الأفلام أيَّ وظيفة أخرى في حياة الناس؟ كيف «يستخدم» الناس ما يشاهدونه من أفلام؟
إنَّ الاستخدامات والإشباعات تكمِّل أبحاث التأثير؛ فكلا المجالين يسعيان لتحديد النتائج العملية المترتبة على التعرض للإعلام، مع وجود العديد من الاختلافات الهامة بينهما. أهمُّها على الإطلاق يتمثَّل في أن السؤال الذي يَقُود خُطَى مقارَبة الاستخدامات والإشباعات هو: ماذا يفعل الناس بالإعلام؟ (في مقابل السؤال: ماذا يفعل الإعلام بالناس؟) يعتقد هؤلاء الباحثون أن المشاهدين يمتلكون نسقًا أساسيًّا من الدوافع والمشاعر والمعارف، وأن الإعلام يوفِّر ساحةً لإشباع تلك الدوافع. كذلك يعتقدون أيضًا أن البشر لديهم من الوعي الذاتي ما يكفي للتَّماسِّ مع دوافعهم وخبرتهم بالإعلام. وعلى العكس من الفاعلية الاجتماعية لأبحاث التأثير، تُحجِم هذه المقاربة عن إصدار أحكام بشأن كون استخدامات الإعلام تلك جيدة أم سيئة.29

تسعى هذه المقاربة لتحديد الأنماط المختلفة للوظائف التي يؤدِّيها الفيلم وصور الإعلام الأخرى. ورغم تمايُزِها، فإن ثمة تداخُلًا ملحوظًا بين بعضها وبعض. ففيلمٌ ما قد يكون ذا فائدة لأحد الأشخاص، وليس لآخَر؛ في حين أن فيلمًا آخر قد يكون له استخدامات كثيرة لدى أشخاص مختلفين. ورُبَّ مُشاهِدٍ قد يستخدم الفيلم نفسَه في إشباع عدد من الحاجات، في حين يستخدم مشاهد آخر فيلمًا معينًا بطريقة وفيلمًا آخر بطريقة مختلفة.

إحدى وظائف الفيلم هي «الترفيه»، رغم أن تلك الفئة كثيرًا ما تُستخدَم باعتبارها مصدر جَذْب شديد عندما يكون من غير المستطاع تحديد وظائف أخرى. إن الإشارة لفيلم ما باعتباره «ترفيهيًّا فحسب» تتضمَّن أنه لا يؤدِّي أيَّ وظائف أخرى. وثمة توصيفات أخرى لوظائف الفيلم على القدر نفسه من الغموض؛ مثل «تزجية وقت الفراغ» أو «قتْل الوقت». والأسئلة حول لماذا يكون أحد الأفلام ترفيهيًّا أو شكلًا مفضَّلًا لتمضية وقت الفراغ، تظلُّ معلَّقة بلا إجابة. فرغم أن الترفيه وثيق الصلة بالمتعة، فإن الاستمتاع بالإعلام ظاهرة معقَّدة تتطلَّب استقصاءً أكثر تعمقًا.30
استخدام آخر للفيلم؛ هو «التحكُّم بالمشاعر». فكثيرًا ما يستخدم الناس الأفلام بهدف الاسترخاء أو تخفيف حِدَّة التوتُّر، والأفلام الكوميدية من الأنواع المفضَّلة في هذا الصدد. ومن الواضح أن الناس كثيرًا ما يستخدمون أفلام الحركة والمغامرات بهدف الحصول على دفعة شعورية عندما يشعرون بالضجر والحاجة إلى الإثارة. تشكِّل تلك الوظائف مجموعة من العمليات المتكامِلة يُطلَق عليها «إدارة الحالة المزاجية»؛ أي استخدام الإعلام للحصول على مستوًى مثاليٍّ من الإثارة (برفع أو خفض حِدَّتِها)،31 وهو استخدام يُضاهِي الطريقة التي تُستخدم بها المخدرات والخمور.

كذلك يمكن استخدام الأفلام وغيرها من وسائل الإعلام لتحقيق «أغراض اجتماعية». فارتياد دُور العرض نشاط اجتماعي يمكن، بصورة ما، ألَّا يكون له علاقة بالمحتوى السينمائي للفيلم. فبعض الناس قد يتطلَّعون إلى لافتة معلَّقة على مجمع سينمائي تحمل عناوين «أثر الثمالة» (هانج أوفر) الجزء الثاني، أو «شجرة الحياة» (ذا تري أوف لايف) لتيرينيس ماليك، أو «منتصف الليل في باريس» (ميد نايت إن باريس) لوودي آلِن، ويعلنون أنهم لا يهتمون كثيرًا أيٌّ منها سوف يُشاهدونه. فمحتوى الفيلم ليس حافزًا بقدْر ما هو ذريعة للخروج؛ مقابلة صديق أو موعد غرامي، قيادة السيارة إلى دار العرض، الجلوس معًا، الحديث عن الفيلم بعد مشاهدته، إلخ.

كذلك تؤدِّي الأفلام أيضًا وظيفة اجتماعية حتى عندما يكون الناس بمفردهم؛ ذلك لأنها تمنحهم شعورًا بالتواصل الإنساني يمكنه أن «يخفِّف وطأة الإحساس بالوحدة». ولأن الأفلام يَصنَعها البشر، فإنها في حَدِّ ذاتها شكلٌ من أشكال التواصل.32 هذا التواصل يمكن أن يكون غير مباشر وأحاديَّ الجانب، لكنه يظل وسيلة للتواصل الرمزي مع الآخرين عبر الانغماس في قصة عامة والتماهي مع شخصياتها. وبينما يعد التليفزيون الوسيلة الأكثر استخدامًا في هذا الغرض، فإن أجهزة الفيديو المنزلية وارتياد دور العرض يمكن أن يلعبا دورًا مماثلًا.33
إضافةً إلى ذلك، يتيح الإعلام الجماهيري للناس فرصة «المشاركة في المعلومات». تلك الوظائف تضطلع بها نشرات الأخبار والاتصالات الهاتفية في المقام الأول، لكن يمكن أن تنطبق أيضًا على أشكال الترفيه. فقد أظهرتْ دراسة أجرتْها جانيس رادواي أن أحد الأسباب الشائعة لقرَّاء الروايات العاطفية هو «التعرُّف على الأماكن النائية والأزمنة الموغلة في القِدَم»،34 حتى وإنْ لم يكن التثقيف هو ما يرتبط بتلك الكتب في أذهان معظم الناس بصفة عامة. فالتثقيف ليس هو العامل الأساسي الذي يدفع الناس إلى ارتياد دُور العرض، لكنْ لأن الأفلام تقدِّم صورًا شديدة الحيوية لأماكن وأنشطة لا يتاح لأغلب الناس فرصة أخرى للاطِّلاع عليها، فإن التثقيف يعتبر في هذه الحالة وظيفة إضافية. فالناس قد يتعلَّمون شيئًا عن الإبادة العرقية في أفريقيا من خلال فيلم «فندق رواندا»، أو عن التاريخ البريطاني من فيلم «خطاب الملك»، أو عن الفصام من فيلم «عقل جميل». وقد ينزعج المتخصصون في مجالات معينة مما يشوب بعض التجسيدات السينمائية من عدم دقة،35 بيد أن المظهَر الواقعي لصور الأفلام يؤثِّر بقوة على الناس الذين لا تتاح لهم أيُّ وسيلة أخرى للاطِّلاع على تلك الموضوعات.
كثيرًا ما تُستخدم الأفلام كوسيلة «للهروب». تلك الوظيفة شديدة الشيوع إلى حدِّ أنها تُستغل أحيانًا في الدعاية والمراجعات النقدية؛ «الفيلم «س» وسيلة رائعة للتخلص من همومك.» وهي، علاوة على ذلك، وظيفة راسخة؛ لأن هناك الكثير من وسائل الهروب.36 إن السعي للهروب من الحالة الشعورية الراهنة هو طريقة أخرى للحديث عن التحكُّم بالحالة المزاجية. وفي أحيان أخرى، قد يسعى المشاهدون إلى الهروب من روتين الحياة اليومية وعمل شيء مختلف (وهو أحد أسباب ما تتمتع به دُور العرض السينمائية حتى الآن من جاذبية خاصة لدى الكثير من المشاهدين). وأخيرًا، يستخدم بعض المشاهدين الأفلام كوسيلة للهروب من أنفسهم؛37 فبدلًا من الاستسلام للضجر أو القلق، توفِّر الأفلام لمثل هؤلاء المشاهدين واقعًا بديلًا يفوق نمط حياتهم الراهن. هذا النوع من الهروب إلى عالم بديل قد يُقدَّم بصورة مبالَغ فيها في أفلام مثل «الرجل العنكبوت» (سبايدر مان)، و«سيد الخواتم»، و«جنس في المدينة» (سكس إن ذا سيتي).
وظيفة أخرى للأفلام هي «تطوير الذات». ورغم أنها قد تبدو نقيضًا للهروب، فإن الوظيفتين مرتبطتان. فمع أن الهروب من الذات يتيح للناس تجنُّب حقائق حياتهم اليومية، فإن تجربة الهروب يمكنها أن تزوِّدهم أحيانًا بلمحة من طرق أخرى للعيش، ما يحفِّزهم على التأمل في حياتهم الخاصة. إن عملية إنتاج المعنى من خلال الأفلام ليست صورة من صور المتعة فحسب،38 بل بإمكانها أيضًا جعل عملية الارتقاء بالذات ممكنة.

تُفضِّل أبحاث الاستخدامات والإشباعات، شأنها شأن أبحاث التأثير، الطرق المسْحِيَّة والتجريبية التي توفِّر صورة عريضة لوظائف الفيلم لدى مختلف شرائح السكان. تلك الطرق ليستْ مصمَّمة لتناول المحتوى الرمزي لأفلام بعينها والعمليات التفسيرية لأفراد بعينهم. إن وظيفة مثل تطوير الذات، التي تختلف من شخص لآخر، تفتح آفاقًا أدقَّ حال استخدام طرق مخصَّصة لجمع البيانات.

(٣) الوظائف الشخصية للأفلام في الحياة اليومية

في دراسته الواسعة التأثير «الأدب كوسيلة للعيش»، يشير كينيث بيرك إلى أن الاستخدام المجازي للكلمات يمكنه أن يؤثِّر على الفعل الإنساني، كما في المَثَل: «الحَجَر المتدحرِج لا تتراكم عليه الطحالب» أو «كلما ارتفع القرد كشف عن جزء أطول من ذيله.» فتلك الأمثال بمثابة نصائح حول كيفية التصرف في موقف حياتي معين. بالنسبة إلى بيرك، تُعَدُّ الأمثال أكثر الأشكال الأدبية اختصارًا. ومسرحيات شكسبير تؤثِّر هي أيضًا على سلوكنا، وإن كان ذلك بطريقة أكثر تعقيدًا وبلا حدود. إن وظيفة الناقد، بحسب بيرك، هي استخلاص الفئات المتنوعة التي يمكن بواسطتها استخدام الأدب:
تلك الفئات ستنظر إلى الأعمال الفنية — كما أعتقد — باعتبارها استراتيجيات لانتقاء الأعداء والحلفاء، ومشاطرة المصائب مع الآخرين، ودَرْء العين الشريرة، والتطهُّر، والاسترضاء، وتدنيس المقدَّسات، والعزاء، والانتقام، والوعظ، والتذكير، وأوامر أو تعليمات مضمرة من نوع أو آخر. فالأشكال الفنية مثل «التراجيديا» أو «الكوميديا» أو «المحاكاة الساخرة» من شأنها أن يتم التعامل معها باعتبارها «وسائل للعيش».39
يقابل بيرك هذه المقاربة للأدب بذلك الاتجاه الذي ينظر للأدب باعتباره كيانًا يسكن في ملكوت للجمال الخالص منقطع الصلة بعالم الواقع. إن الأدب، من وجهة نظره، كيان حي من حيث قدرته على الامتزاج بحيوات القرَّاء. غير أن الأدب ليس هو الفن الوحيد الذي يتمتع بتلك الخاصية الحية. فجميع الوسائل الرمزية لديها القدرة على التأثير على الحياة.40 ومقولة إن الأفلام وسيلة للعيش، التي نأخذها عن مقولة بيرك، تَصِف ما يحدث عندما يقوم المشاهدون، بطريقة واعية، بتطبيق المعاني التي يجدونها في الأفلام، على تجاربهم الشخصية.41
تستخدم الأفلام الروائية الرموز لتحكي قصصًا عن أحداث مترابطة في الزمان والمكان، وينبغي على المشاهدين أن يفهموا تلك الرموز ويفسِّروها.42 إن عملية فهم العالم من خلال القصص التي نرويها هي مكوِّن أساسي من مكونات الطريقة التي يعمل بها العقل.43 ويرى دان ماك آدامز أننا لا نستخدم الأشكال السردية في فهم الخيال فحسب، بل في فهم أنفسنا أيضًا.44 فالسبب في أن الناس يَروُون قصصًا بعضهم لبعض على الدوام (في صورة محادثات وروايات ومسرحيات وأفلام) هو أننا نروي قصصًا لأنفسنا بلا انقطاع. إن «ذواتنا» ليست إلا مجموعة من القصص. والاستبصارات التي نستخلصها من كتابَي طبيب الأعصاب أوليفر ساكس («الرجل الذي أخطأ بين زوجته والقبعة» و«عين الخيال») لا تتأتَّى من التحليل التقني لعلم تشريح الأعصاب، إنما من قدرته على تجسيد قصص مرضاه، التي استطاع من خلالها تجسيد تجاربهم الذاتية، ما أتاح للقرَّاء فرصة للتعاطُف معهم.
عندما نتحدث عن استخدام الأدب أو الأفلام كوسيلة للعيش، فإننا نستخدم شكلًا فنيًّا سرديًّا لفهم قصصنا الخاصة. فالقصص الخيالية تصير جزءًا من قصص حياتنا. والخيال هو «محاكاة» رمزية لخبرة الحياة. فباستطاعة الفنان التعبير عن جميع الخبرات الحياتية بصورة مضغوطة في شكل سرديات خيالية. والقصص هي مَعامل تزوِّدنا بمواقف شبيهة بمواقفنا الحياتية يستطيع الجمهور من خلالها تجربة مختلف الاستجابات الممكنة.45 وعبر الانغماس في تلك الحكايات، نتعلَّم الكثير عن العديد من جوانب المجتمع، بما في ذلك المواقف غير العادية التي قد لا نتعرَّض لها أبدًا بصورة مباشرة. تلك المحاكات السردية تؤهِّلنا رمزيًّا لمواجهة التحديات المستقبلية، فضلًا عن أنها تساعدنا على فهْم أحداث وقعتْ لنا في الماضي. ولأن الانغماس في القصص يتضمَّن بُعْدًا شعوريًّا فضلًا عن التماهي والتعاطف، فبإمكانه تعظيمُ قدْرتنا على التعاطف مع «شخصيات» العالَم الواقعي: الغَيْر.
جميع الوسائل الخيالية لها مزايا وعيوب من حيث الطريقة التي يمكن أن نستخدمها بها كوسيلة للعيش. والقصص المكتوبة تتطلَّب جهدًا ذهنيًّا؛ نظرًا لوجود فرق إدراكي بين الوسيلة (علامات مطبوعة بالحبر) وبين عالم القصة. أما الأفلام، بالمقابل، فهي صور تسمح بالدخول إلى عالم الخيال بسهولة نسبية.46 في بعض الأحيان، تشجِّع تلك السهولة المشاهدين على الهروب، وتُثبِّط هِمَمَهم عن القيام بالمهمَّة الذهنية الصعبة المتمثلة في عقد مقارنة بين عالم الخيال وعالم الواقع. لكن عندما ينجح المشاهدون في اتخاذ مسافة تأملية من فيلم ما، فإن حقيقة أن المحاكاة السينمائية نابضة بالحياة وشديدة الشَّبَه بعالَم الواقع يمكن أن تجعل تلك التجربة مُثمِرة بوجه خاص؛ حيث «يشعر» المُشاهِد كأنه «كان هناك وفعل ذلك.»
يمكن تحديد وسائل العيش من خلال التحليل النصي، تمامًا كما هي الحال مع مقاربات المشاهدة الأخرى. فأفلام البيوت المسكونة بالأشباح («البريق»، و«رعب إيميتيفيل» (ذا إيميتيفيل هورُر)، ومؤخرًا «نشاط خارق») على سبيل المثال، يمكن تحليلها من حيث طريقتها في تقديم سيناريوهات كارثية تعكس قلق عالمنا المعاصر، مع إمداد المشاهدين، في الوقت نفسه، بطرق تساعدهم على التعايش مع هذا القلق.47 ومع ذلك، فإن تفحُّص استجابات المشاهدين للأفلام مباشرةً يُتيح لنا التعرُّف على الفروق الفردية، ويمكن أن يزوِّدنا بنماذج أكثر حيويَّةً.48 وهناك العديد من التجارب الشخصية الهامة في مشاهدة الفيلم وجدت طريقَها للنشر (مثل استجابة هوريجن لفيلم «ظهيرة يوم قائظ»)، وسوف أُشيرُ لاحقًا إلى بعض تلك الأمثلة. كذلك سأستخدم، فضلًا عن ذلك، مقابلات غير منشورة (تتراوح كلٌّ مِنها بين ٤٥ و٩٠ دقيقة) طرحتُ فيها على ٥٠ مشاركًا الأسئلة التالية: «عندما تسترجع شريط ذكرياتك، هل هناك فيلم معيَّن كانت له أهمية خاصة لديك؟ ما هذا الفيلم؟ وما وَجْه أهميته لك؟» ثم أعطيتُ المشاركين مُهلةَ يومٍ واحد على الأقل ليفكِّروا جيدًا في تلك الأسئلة. وكانت حصيلة تلك المقابلات مجموعة من القصص الثرية والمؤثِّرة عن قدْرة الأفلام على التأثير على حياة البشر.

«الفيلم الذي لن أنساه أبدًا»: وظائف السيرة الذاتية

حَظِيتِ الذاكرة بقَدْر كبير من الاهتمام في علم النفس. وفي حين أن جزءًا كبيرًا من هذا الاهتمام انصبَّ على عملية تذكُّر الأرقام وقوائم الكلمات والوقائع المعلوماتية، كان هناك اتجاه ركَّز على ذاكرة السيرة الذاتية (الذكريات المتعلِّقة بالتجارب الشخصية).49 وقد أظهرتِ النتائج دائمًا أن ذكرياتنا عن أحداث الحياة عُرْضة لكثير من التحريفات، لكن بعض الباحثين ذهبوا إلى أن ذكريات السيرة الذاتية ليست مسألة متعلِّقة بالدقة فحسب؛ فذكرياتنا عن خبرات الماضي قد تكون غير صحيحة فيما يتعلَّق بالتفاصيل الموضوعية، لكنها تجسِّد الجوهر الشعوري والشخصي لتلك الخبرات. وكثيرًا ما تتخذ تلك الأنواع من الذاكرة شكلًا سرديًّا.50
بهذه الطريقة، يمكن للأفلام أن تغدو جزءًا حيًّا من نسق الذاكرة الشخصية للمرء، بيد أن هذا لا ينطبق على جميع الأفلام، بطبيعة الحال. فبعض الأفلام لا تخلِّف أيَّ أثر في الذاكرة. وبعد مُضِيِّ بضع سنوات أو حتى شهور على مشاهدتها، لا يكون بوسع الناس تذكُّر تفاصيل الحبكة أو الشخصيات (وأحيانًا ينسَوْن حتى أنهم شاهدوا الفيلم تمامًا). ومع ذلك، نعثر أحيانًا في ثنايا تلك الأفلام المنسيَّة على بعض الذكريات الحية، بعضها قد يكون صادمًا،51 والبعض الآخر ساميًا.

إنَّ الناس الذين أُجريتْ معهم مقابلات حول الأفلام المُهِمَّة في حياتهم استحضروا ذكريات قوية عن أفلام بعينِها، خاصةً تلك التي شاهدوها في وقت مبكر من حياتهم. فأحد المشاركين تذكَّر أن أُولَى ذكرياته كانت مشاهدة فيلم «ساحر أوز» في التليفزيون. وتذكَّر آخرُ أفلامًا مثل «رحلة سندباد الذهبية» (ذا جولدن فويج أوف سنباد)، وأن الفيلم قد امتزج بذكرياته عن قيامه بمحاكاة الشخصيات، إلى درجة أنه لم يَعُدْ يستطيع التمييز بين هذه وتلك. إنَّ امتزاج الذكريات عن الأفلام مع غيرها من الذكريات يمكن رؤيته أيضًا في حالة أحد المشاركين وقد ربط بين فيلم «الكريسماس الأبيض» (وايت كريسماس) ووقائع عطلة الكريسماس مثل تغليف الهدايا وتزيين شجرة عيد الميلاد.

لم تكن جميع الذكريات بمثل تلك العذوبة. فأحد المشاركين تذكَّر أنه كان يتسلل إلى دُور العرض مع أصدقاء السوء لمشاهدة أفلام أدانتْها الكنيسة الكاثوليكية (مثل: «مدينة لا تعرف الشفقة» (تاون ويزاوت بيتي)). ولأن مشاهدة الأفلام كثيرًا ما تكون مع صحبة، فإن بعضًا من تلك الذكريات تكون مشتركة مع آخرين. فقد تحدَّث أحد المشاركين ممن أُجريت معهم مقابلة عن استعادة علاقته مع صديقته السابقة واستئجارهما شريط فيلم «روميو وجولييت»، وهو محاكاة ساخرة رديئة لروميو وجولييت تتسم بالعنف كانا قد شاهداه معًا في مراهقتهما. إن مشاهدة الفيلم مرة ثانية قادت الحبيبَيْن إلى ذكريات أخرى، وساعدتهما على رؤية علاقتهما بطريقة أكثر إيجابيَّةً.

ومثل كل ذكريات السيرة الذاتية، تتسم الذكريات السينمائية بعدم الدقة. فأحد المحلِّلين النفسيين يتذكَّر بوضوح فيلم «عودة الثلاثة» (ثري كيم هوم)، وهو فيلم إنتاج عام ١٩٥٠م، تدور أحداثه في معسكر اعتقال ياباني شاهده عندما كان صبيًّا صغيرًا. وعندما شاهد الفيلم مرة أخرى بعد ٤٠ عامًا، فوجئ بوجود عناصر مهمة كان قد نَسِيها، أهمها أن الفيلم كان به صبيٌّ صغير في نفس عمره تقريبًا عندما شاهد الفيلم أول مرة. وفي الحقيقة، كانت هناك مَشاهد كثيرة بَدَتْ وكأنها صدًى لحياته الشخصية (ولع الصبي بالقرود وحمل أمه). وبصفته محلِّلًا نفسيًّا، استنتج أن نسيانه شخصية هذا الصبي كان نوعًا من الدفاع ضد قلق حبكة الفيلم، لكن يمكن أيضًا أن يكون نتيجة لشعور أوديبي بالذنب ناتج عن استمتاعه بمَشاهد يقوم فيها الحراس اليابانيون بإبعاد المساجين الذكور، بمَن فيهم والد الصبي، تاركين النساء والأطفال وحدهم.52

«الفيلم الذي يرسم ملامح شخصيتي»: وظائف الهُوية

ذكريات السيرة الذاتية هي القصص التي تشكل هُويتنا، شعورنا الذاتي بما نحن عليه. فبالنسبة إلى متخصص في علم النفس التطوري، مثل دان ماك آدامز، فإن دراسة السرد هي في جوهرها دراسة للهوية. فمن المستحيل تقريبًا أن نفكِّر في ذواتنا أو نَصِفَها دون اللجوء إلى القصص. فعندما يَصِف أحد الأشخاص نفسَه بالشجاعة، فإن هذا الزعم قد يتلوه سؤال: «كيف ذلك؟» وللإجابة عليه، سيحكي عن تلك المرة التي تصدَّى فيها لمحاولة بعضهم التنمُّر عليه أو أنقذ عائلته من حريق شبَّ في منزلهم (مثل الشخصية التي لعبتها ميريل ستريب في فيلم ألبرت بروكس اللاذع «دفاعًا عن حياتك» (ديفيندنج يور لايف)).

تتخذ القصص — والهُويات — أشكالًا متعدِّدة. فبعض الناس يَرَوْن أنفسهم كأشخاص يحبُّون مساعدة غيرهم من الناس، وتدور قصصهم حول ما قدَّموه من مساعدات للآخرين. وثمة قصص أخرى حول أناس يَرَوْن أنفسَهم محاربين أو عشَّاقًا. ويعتقد ماك آدامز أن كل تلك الأنماط هي أشكال مختلفة للأبعاد الأساسية لمفهوم الذات؛ البُعد الفاعل (الطريقة التي نتصوَّر بها أنفسنا كأفراد لدينا القدرة على ترك بصمتنا على العالم) والبعد الاجتماعي (الطريقة التي نرى بها أنفسنا في علاقتنا مع مَن حولنا).53 فقصصنا كلها تعبِّر عن فرادتنا أو علاقتنا بغيرنا من الناس (وأحيانًا كلتاهما معًا).

عندما نشاهد فيلمًا، نتماهَى مؤقتًا مع العديد من شخصياته أو حتى مع جميعها. وقد نتماهى مع نبرة الفيلم أو أسلوبه، بيد أن معظم تلك الخبرات، شأنها شأن الذكريات، سريعة الزوال. ومن حين لآخر، نقع على فيلم نتماهى معه بقوة إلى درجة أننا نغدو واعين بذلك، ونستمر في التماهِي مع أحد جوانبه (أو على الأقل مع ذكرياتنا عنه) لفترة طويلة بعد انتهاء مشاهدته. عند هذه النقطة، تصير ذكرياتنا عن الفيلم جزءًا من هويتنا الشخصية. وهذا هو ما يعنيه البعض عندما يقولون إن فيلمًا ما يرسم بحق ملامح شخصيتهم أو ملامح مرحلة معينة من حياتهم.

وكما رأينا في الفصل الثاني، بإمكان المرء أن يطبِّق العديد من التفسيرات النفسية على فيلم مثل «ساحر أوز». ولكن، رغم أن التفسيرات تشير إلى أشياء عن المشاهد، فإنها تكون أفكارًا مجرَّدة. وعلى مستوًى أكثر شخصيَّةً، تؤكد الروائية تيري ماكميلان أن الفيلم لعب دورًا هامًّا في طفولتها. فرغم وعْيِها بالتبايُن بين حياتها كطفلة أمريكية سوداء تترعرع في مدينة صناعية بولاية ميشيجان من ناحية، وحياة طفلة بيضاء في مزرعة بكنساس، فإن تلك الاختلافات لم تكن بنفس أهمية الأشياء التي «استطاعت» أن تتماهَى معها: تسلُّط العمَّة إيم الذي ذكَّرها بأمِّها؛ إحساس دوروثي بأنْ لا أحد يهتمُّ بها؛ الرحلة إلى أوز التي عكست خيالات ماكميلان عن الهروب من ظروفها الكئيبة إلى عالم مبهِج ومُثِير. وفي النهاية، فإن هذا الجزء من ماكميلان الذي كان يَتُوق إلى المغامرات ويتلذَّذ بالخيال، هو ما شجَّعها على أن تُصبح روائية عندما نَضِجَتْ.54
وقد حكى أحد المشاركين في مقابلة شخصية كيف أنه يمكن لفيلم أن يرسم ملامح فترة بكاملها من حياة أحد الأشخاص؛55 ففي منتصف الثلاثينيات من عمره،56 وصف إيثان ما كان لفيلم «مزرعة الحيوانات» (أنيمال هاوس) من تأثير عليه. فكان يقوم هو وأصدقاؤه في الكلية بمحاكاة الحفلات الجامحة، والأفعال الهزلية المناهضة للسلطة التي يقوم بها بلوتو (جون بيلوشي) وبقية الحيوانات. وكثيرًا ما كانوا يقعون في المتاعب مع الإدارة، ويستحضرون في أذهانهم أوجُهَ شَبَهٍ مهينة بين العميد وُرمر (جون فيرنون) وعميد كُليَّتهم. ورغم أن إيثان وزملاءه كانوا واعين بتلك الصلات، فإنهم على الأرجح لم يتعمَّقوا في تأمُّلها آنذاك. لكن مع بلوغه سِنَّ النضْج، بدأ إيثان ينظر إلى ذاته السابقة بانتقاد شديد. واليوم، كلما شاهد هذا الفيلم، تذكَّر تماهِيَه السابق معه، حتى وإنْ أثار ذلك في نفسه شعورًا بالاستياء.

مشاركة أخرى، جودي، زوجة وأمٌّ لطفلين في بداية الأربعينيات من عمرها، تحدَّثَت عن كيف أن فيلم «أنْ تقتل عصفورًا محاكيًا» (تو كيل أ موكينج بيرد) — خاصةً شخصية أتيكوس فينش (جريجوري بيك) — حدَّد ملامحَ علاقتها المعقَّدة بوالدها. لقد بدأ الفيلم يلعب دورًا مُهِمًّا في حياتها عندما شاهدتْه مع والِدِها وهي في الثامنة من عمرها. وازدادتْ تلك الصلة متانةً عندما بدأ والدُها يُنادِيها باسم سكوت، على اسم الابنة في الفيلم. وعندما بلغتْ جودي سنَّ المراهقة، لَقِيَ والدُها حتفَه في حادث صيد. وبدأتْ جودي تَرَى أوجُهَ الشَّبَه بين أتيكوس ووالدها، الذي كان طبيبًا محترمًا، كثيرًا ما كان يعالِج الفقراء دون مقابل. لكنْ على عكس أتيكوس، أدركتْ جودي أن والدها كان به «عيب خطير»؛ فلم يكن «مستعِدًّا للإقلاع عن إدمانه الخمور حبًّا في أطفاله ومن أجْل سلامتهم.» ولدَى رحيلِه، كانتْ علاقتُهما القوية قد اعتراها الفتور بسبب إدمانه للخمور. وبعد رحيله، عاشتْ جودي فترةَ مراهقة عصيبة، أعقبتْها في شبابها المبكر «سلسلة من المحاولات الفاشلة لإنقاذ فتيان ارتبطتْ بهم باعتبارهم بدائل لوالدها». ورغم أن الفيلم كان مُهِمًّا لها على الدوام بسبب الدَّوْر الذي لعبه في علاقتها المبكرة مع والدها، فإنها لم تعِ مشاعرَها المعقَّدة تجاه أتيكوس (أو والدها) إلى أن تزوَّجتْ وبدأتْ تخضع للعلاج النفسي.

تتضح عملية تشكيل الهوية بوجه خاص في الظاهرة المعروفة ﺑ «رابطة المعجبين»؛57 حيث يتعلَّق المعجبون تعلُّقًا شديدًا بأحد جوانب الثقافة الجماهيرية؛ قد يكون فيلمًا (مثل: «ذهب مع الريح»)، أو نوعية أفلام (رعب، أو خيال علمي) أو مُخرجًا (كوينتن تارانتينو). ويتشارك المعجبون اهتماماتِهم بوجهٍ عامٍّ من خلال الأندية والمؤتمرات وغُرَف الدردشة وهكذا. تلك الروح الجماعية يمكن أن يكون لها تأثير عميق على الهُوية؛ حيث تنتقل ساحة الحركة من دائرة التأمل الذاتي إلى الحوار الجماعي والحوارات الاجتماعية المستفيضة.
تقدِّم الشعبية الجارفة لفيلم «فيلم الرعب روكي» (ذا روكي هورُر بيكتشر شو) في السبعينيات والثمانينيات حالة نموذجية لهذا الجانب الاجتماعي لتطوُّر الهوية. من الصعب تخيُّل شخصٍ تعثَّر دون دراية منه بهذا الفيلم المفكَّك ووجده محمَّلًا بمعانٍ عميقة. ومع ذلك، في حفل منتصف الليل، وسط رفاق معجبين بالفيلم يرتدون أزياءً منتقاة بعناية ومنهمكين في طقوس مفعمة بالحيوية، يصبح الفيلم تمرينًا مبهرًا على بناء المجتمع.58 تلك التجربة الاجتماعية تؤثِّر في مجملها على جوانب من الهُوية لها تأثير على الصلة بين الأقران، والتعبير عن النفس، والصراع مع الهوية الجنسية، فضلًا عن استكشاف قِيَم مغايرة لنسق القِيَم السائد.

«الفيلم الذي غيَّر مَجرَى حياتي»: الوظائف التحويلية

كثيرًا ما استُخدمتِ القصص من جانب الآباء والأمهات ورجال الدين ومؤلِّفي الدراما باعتبارها شكلًا غير رسمي من أشكال العلاج، بيد أن المعالِجين النفسيين طوَّروا أشكالًا من العلاج النفسي السردي يستطيع الاستشاريون من خلالها مساعدة المرضى في تنقيح القصص التي يَروُونها عن حياتهم.59 والأفلام الروائية تساعد في تسهيل عملية التنقيح تلك، ليس من خلال العلاج بالسينما فحسب، لكن من خلال الاستبصارات الشخصية التي نكتسبها من مشاهداتنا اليومية أيضًا. إن فكرة التحول (تغيير مجرى الحياة)، أكثر من كونها مداواةً (ما يعني ضمنًا وجود جرح بحاجة إلى علاج)، تقترح أن الأفلام يمكن أن تُستخدَم في تسهيل عملية تطورنا المستمرة بلا انقطاع كبشر.60
بإمكاننا أن نَجِد مثالًا للاستخدام التحويلي للأفلام في علاقة الأُلْفة الشديدة بين جودي وفيلم «أن تقتل عصفورًا محاكيًا». فهي لم تستخدم الفيلم في فهم ماضيها فحسب، بل تراه الآن أيضًا انعكاسًا لحياتها الراهنة مع أبنائها. فهي ترى في أتيكوس، على وجه التحديد، نموذجًا لتربية الأبناء:

من المؤكد أن طريقة تربيتي لأبنائي شديدة الاختلاف عن الطريقة التي ربَّاني بها والداي؛ حيث أركِّز على تعليمهم قِيَم التسامُح والاحترام واحترام الذات وكل الأشياء التي أستشعر وجودها في هذه الشخصية، فضلًا عن الدفاع عمَّا يعتقده المرء صوابًا في هذا العالم؛ أن تكون إنسانًا عادلًا.

ورغم أنها نادرًا ما تستحضر الفيلم بطريقة واعية في خضم حياتها اليومية، فإنها تَعِي تلك الروابط بوضوح في لحظات التأمل. فالفيلم يؤكِّد على حقائق حياتها، لكنه يوفِّر لها أيضًا إمكانيات لما يمكن أن تصبح عليه حياتها وحياة أولادها.

في بعض الأحيان، تستغرق عملية التحول أعوامًا كثيرة، وتستلزم رؤية العديد من الأفلام. تلك العملية المعقَّدة يمكن رؤيتها في مذكرات نورمان هولاند «لقاء مع الأفلام»، التي يتأمَّل من خلالها تلك الأفلام التي لعبت دورًا هامًّا في حياته (٢٠٠٦). ومن التيمات التي تتكرَّر على امتداد صفحات الكتاب عشقه للأدب والقصص. وقد تحوَّل هذا الشغف إلى مصدر للصراعات عندما خاض هولاند صراعًا حول ما إن كان يريد أن يصبح كاتبًا أم ناقدًا. وقد كشف هذا التناقض عن نفسه عند مشاهدته فيلم السيرة الذاتية «فرويد» من إخراج جون هيوستن. فعندما تناول هولاند الفيلم كناقد، وجد أن باستطاعته استعراض قدراته التحليلية، كما أن التدريب الذي تلقَّاه في التحليل النفسي منحه القدرة على فهم موضوع الفيلم فهمًا عميقًا. لكن عندما حاول هولاند التوافق مع مبدع الفيلم، فإنه شعر بالتهديد من الشخصية المظهرية المهيبة لهيوستن وقدرته على إبداع روائع مثل «الصقر المالطي» (ذا مالتيز فالكون). وبمقارنة طاقات هيوستن التي تبدو بلا حدود بشعوره بالعجز وجهوده اليائسة لكي يصبح كاتبًا، وجد هولاند نفسه مرغمًا على إدراك أنه أيًّا كانت العيوب والمزايا التي قد يجدها في «فرويد»، فإن عمله باحثًا يحجبه تألُّق هيوستن مُخرجًا.

ويؤكِّد هولاند على تلك التيمة مجددًا في تناوله لفيلم «أبناء الفردوس» (تشيلدرن أوف بارادايز). فهو يرى في افتتان باتيست (جون لوي بارو) المبكِّر بجارونس (آرليتي) نموذجًا للكيفية التي تنطفئ بها الطموحات الرومانسية لمرحلة الشباب بفعل حقائق مرحلة النضج. فرغم نجاحه في تمرُّده ضد رغبة والده في أن يصبح محاميًا، فإنه لم يصبح قطُّ ذلك الفنان العظيم الذي تخيَّل أنه سيكونه. وبالمقابل، فإن استجابته لفيلم «شكسبير عاشقًا» (شكسبير إن لاف) تعكس نجاحه في التوصل إلى تسوية لهذا الصراع. ففي حين أنه طالما كان يعشق أعمال شكسبير، اعترف هولاند بأنه كان يشعر بالحسد تجاه موهبة شكسبير التي تبدو بلا حدود. لكن في الوقت الذي عُرض فيه الفيلم، كان قد قطع شوطًا كبيرًا في حياته المهنية؛ ومن ثَمَّ فإنه رأى في الفيلم فانتازيا مبهجة تحتفي بالانتصارات الفنية والجنسية للشاب ويل، ووجد أنه بوسعه الاستمتاع بالفيلم دون شعور بالذنب أو التَّوْق. وقد ساعدتْه تلك التجربة على أن يتقبَّل أخيرًا مكانه في هذا العالم.

(٤) لقطات ختامية: النظر إلى الأفلام من زاوية مختلفة

رغم أن مقارَبة الأفلام باعتبارها وسيلة للعيش منبثقة من المقاربات العديدة التي ناقشناها في هذا الكتاب، فإنها تتضمَّن النظر إلى الأفلام من زاوية مختلفة. إن عملية التفسير، بصورها العديدة، ليست غاية في ذاتها، بل هي آلية رمزية شديدة الأهمية يمكن أن تصبح للأفلام وظائف بواسطتها. فقبْلَ أن يستطيع المرء التعامل مع رسالة ما بطريقة واعية، عليه أن يفهمها أولًا. وكلما أمعن المشاهدون التفكير، بدءوا في إدراك الكيفية التي يرتبط بها معنى الفيلم بمعنى حياتهم الخاصة.

وكلما ارتقت قدرات التفسير لدى المرء، ازدادت الأهمية التي يمكن أن يكتسبها الفيلم والأشكال الفنية الأخرى. ففي دراسة أَجريتُها منذ بعض الوقت، طلبتُ إلى بعض المشاركين أن يُفسِّروا فيلمًا كانوا قد شاهدوه للتَّوِّ، وطلبتُ إلى فريق آخر أن يَصِفوا حبكتَه، ثم طلبتُ إلى فريق ثالث أن يتأمَّلوا في حدث من حياتهم الشخصية لا علاقة له بالفيلم.61 وعقب هذا التأمل، طلبتُ إلى جميع المشاركين أن يتخيَّلوا التطبيقات الممكنة للفيلم في المستقبل. وقد جاءتْ أكثر الأفكار شخصيَّةً من هؤلاء الذين شُجِّعوا على تفسير معنى الفيلم.

يَفترض استخدامُ الأفلام كوسيلة للعيش القدرةَ على الفصْل بمسافة نفسية بين الذات والفيلم. ومن هنا، فإن تلك العملية ليستْ رديفًا «للاندماج» في الفيلم؛ حيث يعتقد المشاهدون أنهم يعيشون داخل الفيلم (أو أن الفيلم يعيش بداخلهم). وفي حين أن هذا الاندماج قد يحدث أحيانًا في التجربة المباشرة لمشاهدة الأفلام، فإنه بوجه عام يتلاشى بمجرد مغادرة دار العرض. وهؤلاء الذين يستمرون في الخلط بين الواقعي والسينمائي إنما يُعانون من نقص في النضوج المعرفي أو حتى من الذُّهان (وقد يتسبَّب ذلك في بعض سلوكيات المحاكاة التي ناقشناها في الفصل السابق). وبدلًا من ذلك، فإن مقاربة الأفلام باعتبارها وسيلة للعيش تشير إلى أن المشاهدين يدركون مَن يكونون وماذا يحدث على الشاشة، ولديهم ما يكفي من الفطنة للتفرقة بين هذا وذاك.

أضِفْ إلى ذلك أن استخدام الأفلام كوسيلة للعيش يتطلَّب قدرًا من التأمل الذاتي. وهو مطلب من الصعب الوفاء به في الأجواء المعملية التي تخضع لتحكُّم صارم. أما الطرق الصحافية، والكيفية، والسردية؛ مثل دراسات الحالة، والمقابلات، والشهادات الشخصية، وحتى التحليلات النصية، فبإمكانها جميعًا توفير سبل لدراسة هذه الظاهرة، لكن قد يكون من الصعب إثبات أن فيلمًا ما غيَّر حياة أحد الأشخاص. تلك المقاربة تعطي الأولوية للتجربة الإنسانية؛ كيف يدرك ويشعر ويفهم الناس ما يقع لهم من أحداث. ورغم ما تتسم به من تغيُّر مسارها، فإن تلك العمليات هي المادة الخام للوعي الذاتي. إن الباحثين والمعلِّمين والمعالِجين النفسيين الذين يستكشفون إمكانية استخدام الفيلم استخدامًا واعيًا في الحياة المهنية واليومية يميلون إلى التحمُّس للأفلام، ويعقدون عليها الآمال في أن تكون ذات نفع في مساعدة البشر على بلوغ الهدف الذي لا نهاية له المتمثِّل في توصُّلهم إلى فهم أنفسهم.

(٥) قراءات إضافية

  • Burke, K. (1973) The Philosophy of Literary Form: Studies in Symbolic Action. University of California Press, Berkeley, CA.
  • Dine Young, S. (2000) Movies as equipment for living: A developmental analysis of the importance of film in everyday life. Critical Studies in Media Communication, 17 (4), 447–468.
  • Hesley, J. W. and Hesley, J.G. (2001) Rent Two Films and Let’s Talk About It in the Morning: Using Popular Movies in Psychotherapy, 2nd edn. John Wiley & Sons, Inc., Sommerset, NJ.
  • Mar, R. A. and Oatley, K. (2008) The function of fiction is the abstraction and simulation of social experience. Perspectives on Psychological Science, 3 (3), 173–192.
  • McAdams, D. P. (1993) The Stories We Live By: Personal Myths and the Making of the Self. Guilford Press, New York, NY.
  • Niemiec, R. M. and Wedding, D. (2008) Positive Psychology at the Movies: Using Films to Build Virtues and Character Strengths. Hogrefe & Huber, Cambridge, MA.
  • Rubin, A. M. (2009) Uses-and-gratifications perspective on media effects, in Media Effects: Advances in Theory and Research, 3rd edn. (eds J. Bryant and M. B. Oliver), Routledge, Taylor & Francis, New York, NY, pp. 165–184.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤