بطريق الصدفة

ركب «تختخ» دراجته في صباح اليوم التالي متجهًا إلى صديقه «عاطف»، وبينما هو يسير في الطريق شاهد شخصًا أسمر اللون يعبر الطريق، وفي فمه «بايب» مشتعل، وسرعان ما تداعت في ذهنه الأفكار، وتذكَّر «البايب» القديم الذي عثر عليه رجال البحث الجنائي في غرفة السيدة «كريمان» … وتذكَّر أيضًا قطعة النقود النحاسية المكتوب عليها «نيجيريا» … وربط سريعًا بين الرجل و«البايب» وقطعة النقود … هناك علاقة ما بينهم جميعًا … فهل هيَّأت له الصدفة بداية الطريق إلى حل اللغز؟

دارت هذه الأفكار كلها في رأس «تختخ» في ثوانٍ قليلة، وهكذا أدار دراجته وسار خلف الرجل من بعيد، ولم يطُل سيرهما؛ فسرعان ما دخل الرجل الأسمر أحد المنازل … وكم كان مدهشًا أن المنزل قريب جدًّا من منزل السيدة «كريمان»! وخفق قلب «تختخ» سريعًا، ولم يكد الرجل يختفي في باب المنزل حتى أطلق «تختخ» لدراجته العِنان إلى حيث يجتمع الأصدقاء … ولمَّا وصل إلى صديقه «عاطف» وجدهم جميعًا يجلسون معًا وقد دارت بينهم المناقشة حول ورقة الكوتشينة.

بعد تبادل التحية قالت «لوزة»: اسمع يا «تختخ»، لقد نسينا شيئًا بسيطًا ولكنه هام جدًّا فيما يختص بورقة الكوتشينة!

قال «تختخ» وهو مشغول البال: ما هو الشيء البسيط الهام؟

لوزة: لقد نسينا — أو نسيت أنت — أن تسأل السيدة «كريمان» عن الورقة؛ فقد تكون ورقة من كوتشينة تملكها هي، وهكذا لا تُصبح الورقة دليلًا من أي نوع عن السارق.

كان هذا الاستنتاج صحيحًا كله، ودُهش «تختخ» لأنه لم يسأل السيدة «كريمان» … عن الورقة فعلًا … وقبل أن يُجيب قالت «نوسة»: على كل حال نستطيع أن نسألها الآن!

ردَّ «تختخ» بأسف: لا يمكن؛ فقد سافرت أمس إلى الإسكندرية، وستقضي هناك عشرة أيام … ولا أظن أنه من اللائق أن أتصل بها في الإسكندرية لأسألها عن ورقة الكوتشينة.

محب: وهكذا ستظل ورقة الكوتشينة مُعلَّقة، لا نستطيع أن نعرف إن كانت دليلًا أم هي مجرَّد ورقة وقعت من كوتشينة السيدة «كريمان».

قال «تختخ»: على كل حال دعونا نترك ورقة الكوتشينة جانبًا؛ فعندنا ما هو أهم. والتفت الأصدقاء جميعًا إلى «تختخ» الذي قال: لقد قابلت اليوم رجلًا أسمر اللون!

عاطف: وهل في هذا أية غرابة؟ إننا نلتقي كل يوم بأشخاص سُمر الوجوه، فهل هذا يدل على شيء؟

تختخ: وكان هذا الرجل يُدخِّن «بايب».

محب: لا أفهم شيئًا.

تختخ: وهو يسكن قريبًا من منزل السيدة «كريمان».

صاحت «نوسة»: فهمت … إنه يمكن أن يكون موضع اشتباه … خاصةً إذا تذكَّرنا أن ضمن الأدلة التي وجدها رجال الشرطة قطعة نقود من «نيجيريا» … فهل في ملامحه ما يدل على أنه أفريقي؟

تختخ: إنه أفريقي فعلًا.

لوزة: هل تقصد أنه يمكن أن يكون اللص؟

تختخ: أتصوَّر هذا.

عاطف: وهل جمع كل هذه الأدلة وألقى بها هناك ليدل الشرطة عليه؟!

تختخ: لا، ولعله كان يحمل هذه الأشياء في جيبه وسقطت منه!

محب: هذا جائز.

نوسة: معنى هذا أن عندنا مشتبهًا فيه جديدًا غير «عبده» البوَّاب … و«علية» … و«حسنية».

تختخ: والموسيقار وشقيقة السيدة «كريمان»؛ فقد قرَّرنا ألَّا نستبعد أحدًا من قائمة المشتبه فيهم.

لوزة: إذن علينا أن نبدأ العمل فورًا؛ فاللص أيًّا كان سوف يختفي قريبًا، فائزًا بغنيمته، وقد اتفقنا أمس على أن أقوم ببحث كل شيء يتعلق ﺑ «حسنية»، وعلى «نوسة» … أن تُتابع «علية»، و«محب» و«عاطف» يتابعان «عبده»، وما دام «عبده» مقبوضًا عليه فيُقابلان صديقه!

تختخ: نعم … لقد اتفقنا على هذا كله، وسأقوم أنا ببحث حالة هذا الشخص الجديد الأسمر … وعلينا أن ننطلق الآن للعمل؛ فلكل دقيقة قيمتها، خاصةً والمفتش «سامي» … في إجازة.

لوزة: ولكن كيف نحصل على عناوين هؤلاء جميعًا؟

تختخ: لقد نقلت هذه العناوين كلها في أثناء التحقيق معهم، وها هي.

وأملى تختخ عناوين «حسنية» و«علية» وصديق «عبده» الذي يتردَّد عليه ليلًا، وأسرع الأصدقاء كلٌّ في طريقه، بعد أن اتفقوا على أن يلتقوا في صباح اليوم التالي كما حدث أمس.

لم تكن مهمَّة الأصدقاء سهلة … فهم ليسوا من رجال الشرطة برغم أنهم يُساعدون الشرطة … لهذا كان من الصعب عليهم جمع المعلومات إلا بالتحايل والذكاء. وهذا ما كان يُفكِّر فيه كلٌّ منهم عندما انطلق إلى مهمَّته … وكانت «نوسة» أول من وصل إلى هدفه … وكان هدفها منزل «علية» الطبَّاخة … وكانت «علية» تسكن في مكان بعيد قرب «استاد» «المعادي» … وبعد أن صعدت «نوسة» مرتفعات، ودخلت في عدة حارات، استطاعت أن تصل إلى المنزل بمساعدة بعض الجيران … كانت تُفكِّر فيما ستقوله ﻟ «علية»، ولكن الظروف خدمتها؛ فلم تكد تقترب من الدار حتى وجدت فتاةً في مثل سنها تحمل طفلًا يبكي وتُحاول إسكاته … والطفل يصرخ ويتلوَّى على ذراعها … وتلفَّتت «نوسة» حولها فوجدت عربةً صغيرةً تُباع عليها بعض أنواع الحلوى والشوكولاتة، فأسرعت بشراء قطعة ملفوفة في ورق أحمر برَّاق … فهي تعلم أن الأطفال يُحبُّون الألوان الصارخة … وأسرعت إلى الطفل ومدَّت يدها بقطعة الشوكولاتة … ودون تردُّد من الطفل مدَّ يده وأخذها … على حين كانت الفتاة التي تحمله تنظر إلى «نوسة» في دهشة شديدة، فأسرعت «نوسة» تقول بلباقة: إنني أُحب الأطفال جدًّا … ولا أُطيق أن أراهم يبكون.

قالت الفتاة في خجل: ولكن هذه قطعة غالية!

غيَّرت «نوسة» مجرى الحديث قائلةً بسرعة: أرجو أن تُساعديني فإنني أبحث عن الست «علية» التي تعمل عند السيدة «كريمان»، فهل هذا منزلها؟

قالت الفتاة: … نعم … هذا هو منزلنا … فإنني ابنتها واسمي «صفية».

سعدت «نوسة» كثيرًا بهذه الصدفة الطيبة، وقالت: وهل هي هنا؟

ردت الفتاة: لا … لقد خرجت منذ الصباح الباكر كعادتها؛ لتقوم بخدمة أسرة جديدة بعد سفر السيدة «كريمان».

نوسة: وهل أنت وحدك في المنزل يا «صفية»؟

الفتاة: نعم.

نوسة: ووالدك؟

اصفرَّ وجه الفتاة، وبدت مذعورة، ثم أسرعت تجري وتدخل المنزل وتُغلق الباب. دُهشت «نوسة» لهذا التطوُّر المفاجئ … ووقفت حائرةً لحظات لا تدري ماذا تفعل، وهي تسأل نفسها ماذا حدث؟ … ولماذا فرَّت الفتاة عند ذِكر أبيها؟! هل هناك ما ضايق الفتاة عندما ذكرته أمامها؟

عادت نوسة إلى بائع الحلوى مرةً أخرى، واشترت منه قطعةً ثانيةً من الشوكولاتة وسألته ببراءة: لقد كنتُ أسأل عن زوج الست «علية»؛ فإنني أُريده في موضوع هام … فأين ذهب؟

نظر إليها الرجل في ضيق، ثم قال: لا أعرف … ولا تسأليني عنه مرةً أخرى.

ثم أدار وجهه عنها، وبدأ يُنادي على بضاعته وكأنه لا يراها.

ذُهلت «نوسة» تمامًا … ما هي الحكاية بالضبط؟ ما هو سر هذا الرجل الذي لا يُريد أحد أن يتحدَّث عنه؟ … وماذا تفعل بعد ذلك؟

ظلَّت «نوسة» واقفةً لحظات، ثم بدأت رحلةَ العودة وفي رأسها من الأسئلة أكثر ممَّا جاءت به.

وفي تلك الأثناء كانت «لوزة» تلقى موقفًا مماثلًا؛ فلم تكد تصل إلى منزل «حسنية» حتى وجدت مشاجرةً كبيرةً تدور داخل المنزل … وكان رجال الشرطة قد طلبوا من «حسنية» ألَّا تُغادر «المعادي» لحين انتهاء التحقيق في السرقة؛ لهذا بقيت في منزلها. وقفت «لوزة» حائرةً أمام المنزل وهي تسمع الأصوات العالية ترتفع … وكانت هناك كلمات تصل إلى مسمعها من صوت رجل غاضب يصيح: أين كنت في تلك الليلة؟ … أين قضيت الليلة؟ لا بد أن أعرف … إنني لن أسكت أبدًا حتى أعرف.

وسمعت «لوزة» صوت فتاة تبكي، ثم رأت الفتاة الباكية تندفع خارجةً من المنزل تحمل حقيبةً صغيرة، وخلفها سيدة تصيح: إلى أين تذهبين يا «حسنية»؟ تعالَي هنا يا ابنتي!

ولكن الفتاة التي أدركت «لوزة» أنها «حسنية» التي جاءت من أجلها … اندفعت تجري في الشارع وهي تحمل حقيبتها … وبلا وعي وجدت «لوزة» نفسها تجري خلفها دون أن تدري لماذا تجري.

وظلت الفتاة تجري وتجري حتى نهاية الشارع … ثم وجدت تاكسيًا، ففتحت الباب وألقت نفسها فيه … وقبل أن تُفيق «لوزة» من دهشتها كان التاكسي قد انطلق ﺑ «حسنية» مبتعدًا.

ومن ناحية ثالثة كان «محب» و«عاطف» قد لقيا موقفًا مدهشًا هو الآخر … فعندما وصلا إلى العنوان الذي يسكن به صديق «عبده» البوَّاب، كان الباب مغلقًا … وظلَّا يدقانه دون جدوى … وأخيرًا ذهبا إلى الجيران وسألا عنه، فقال الجار: إنك تسأل عن «حسنين»، نعم إنني أعرفه … وأعرف صديقه «عبده» الذي يتردَّد عليه في بعض الليالي … ولكن «حسنين» لم يظهر منذ ليلتَين … نعم … إنني لم أرَه منذ ليلتَين … ولا أدري أين ذهب، وسوف أُبلِّغ رجال الشرطة؛ فقد يكون قد حدث له مكروه.

قال «محب» متسائلًا: بالمناسبة … هل رأيت «عبده» … عندما جاء لزيارته أمس الأول ليلًا؟

قال الجار: لا لم أرَ «عبده» في تلك الليلة … فإنني لم أكن في المنزل تلك الساعة.

عاطف: و«حسنين» … هذا، ما هو سلوكه؟ وماذا يعمل؟

الرجل: لا أدري بالضبط؛ فليس له عمل منتظم، ولا أعرف من أين يعيش!

نظر «محب» إلى «عاطف»، وهزَّ كلٌّ منهما رأسه، ثم شكرا الرجل وانطلقا دون أن يحصلا على المعلومات التي جاءا من أجلها.

وقضى المغامرون الخمسة ليلتهم وكلٌّ منهم يُفكِّر فيما فعل وما شاهد وسمع، في انتظار لقاء اليوم التالي في الموعد الذي حدَّدوه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤