الفصل الأول

مقدمة عن تاريخ مصر وما قبل التاريخ

ظلت معلومات العالم أجمع عن تاريخ مصر القديم ضئيلة هزيلة حتى منتصف القرن التاسع عشر، وذلك يرجع إلى عدم معرفة قراءة نقوشها. حقًّا إن عددًا لا بأس به من قدماء كتَّاب الإغريق والرومان الذين وفدوا على أرض مصر طلبًا للوقوف على غرائبها وعجائبها، قد وصفوا البلاد وصفًا مسهبًا، وكتبوا بقدر ما وصلت إليه معلوماتهم عن تاريخها المجيد، ولكن لسوء الحظ كان كل ما وصل إلينا من كتاباتهم قد أخذوه إما عن طريق الرواية أو مجرد وصف جغرافي، وقد بقيت هذه الروايات مصدرنا الوحيد عن تاريخ مصر القديمة حتى باكورة القرن التاسع عشر، وأهم هؤلاء الكتَّاب المؤرخ «هيرودوت» و«ديدور الصقلي» و«استرابون» وغيرهم، ممن قاموا بسياحات في مصر في عهد ملوك البطالسة والعهد الروماني، وهكذا بقي تاريخ البلاد الحقيقي قبل عصر البطالسة سرًّا غامضًا، لا نعرف شيئًا عنه إلا ما وصل إلينا عن طريق المؤرخ المصري «مانيتون» الذي كتب تاريخ البلاد في عهد البطالسة نقلًا عن أصول مصرية قديمة كما يظهر، ولكن للأسف لم يصل إلينا منه إلا مختصر لا يشفي الغُلَّة.

على أن كثيرًا مما ذكره في كتابه لم تحققه المصادر الأصلية التي عثر عليها للآن بعد كشف أسرار اللغة المصرية، وقد بقي العالم يرتكز في معلوماته عن تاريخ مصر على ما تركه لنا كتَّاب اليونان، ومختصر مانيتون، ولم تكن لدينا طريقة إلى تصحيح أغلاطهم، وسد الفجوات التي كانت تعترض الباحث في تاريخ البلاد، ومن أجل ذلك قام بعض العلماء بمحاولات لحل رموز اللغة المصرية حتى يصلوا إلى معرفة تاريخ البلاد الحقيقي، مثل الأب «كرشر» إلا أن ذلك لم يسفر عن نتيجة مُرضية، ولكن منذ أن رست الحملة الفرنسية على شاطئ النيل بدأت صفحة جديدة في تاريخ البلاد؛ إذ في الوقت الذي كانت فيه الجنود الفرنسية تحارب المماليك، كانت هناك حملة أخرى فرنسية علمية يجول أعضاؤها في طول البلاد وعرضها، لدرسها درسًا علميًّا منظمًا من كل الوجوه، فبحثوا جغرافية البلاد وحيوانها ونباتها وزراعاتها المختلفة وحرفها، ثم درسوا أخلاق القوم وعاداتهم وآثارهم، ونقلوا النقوش القديمة التي كانت وقتئذ ظاهرة على معابد البلاد، وبعد ذلك قاموا بتدوين كل بحوثهم بدقة وعناية في مؤلف خاص، يشمل عدة مجلدات أطلق عليه Description de l’Egypte، ولكن بكل أسف لم يستفد التاريخ من كل هذه البحوث إلا أشياء ضئيلة؛ وذلك لأن النقوش التي نقلوها من المعابد وغيرها، بقيت صامتة إلى أن جاء «شمبليون» وحل رموزها — كما سنذكره بعد — ومنذ حل رموز اللغة المصرية أخذ تاريخ البلاد الحقيقي ينجلي شيئًا فشيئًا، مما قضى على الأساطير والخرافات التي نقلها كتاب اليونان الذين رادوا وادي النيل وكتبوا عنه، وقد بقيت هذه الأساطير تعتبر في أعين العالم إلى هذا الوقت أنها تاريخ البلاد الذي يُعتمد عليه، وفي الفترة التي كان في خلالها علماء الآثار المصرية يسيرون بخطى وئيدة ثابتة في كشف النقاب عن تاريخ البلاد الحقيقي، بفضل المجهودات الجبارة التي كانت تبذل في عمل الحفائر، وحل رموز النقوش التي كانت على جدران المعابد وفي أوراق البردي في وادي النيل، كانت هناك جهود أخرى عظيمة يبذلها جماعة من علماء أوروبا في وضع أساس لعلم آخر جديد في الجهة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط، وهذا العلم الجديد هو علم ما قبل التاريخ، وقد كان في بدايته غير مدعوم الأساس إذا قرناه بعلم الآثار المصرية، وكانت ماهيته تنحصر في بحث حل مسألة أصل الإنسان قبل التاريخ، أو بعبارة أخرى قبل ظهور الكتابة، وذلك بدرس بقايا العظام الإنسانية وغيرها، مما خلفه أصحابها من الآثار والصناعات التي تركت بعدهم على سطح الأرض مهملة، أو وجدت مدفونة في المغارات والكهوف، أو في مجاري الأنهار القديمة، وقد أسفرت النتيجة أخيرًا عن نجاح بعض العلماء بعد معارضات شديدة في وضع أُسُس لهذا العلم، والواقع أنه بعد مجهود نصف قرن تمكن العالمان «بوشيه» و«بيرن» من وضع مؤلف يبحث في عصر ما قبل التاريخ، وقد جاء بعدهما طائفة من العلماء، توصلوا إلى تثبيت أصول هذا العلم ببحوثهم حتى أصبح معترفًا به في كل الأوساط العلمية في أوروبا.
ومن المدهش أن بعض الكتاب الأقدمين قد تكلموا عن هذا العلم قبل معرفته ووضع أصوله، فقد أشار الشاعر اللاتيني لوكريه Lucerêe إلى ذلك بقوله: «إن الإنسان الأول كان يجهل استعمال المعادن، ولذلك كان يتخذ الأخشاب والعظام وخاصة الأحجار المهذبة بحذق ومهارة آلات وأسلحة للصيد والحرب، وبعد ذلك بزمن أصبح الإنسان زارعًا، ثم أخذ في تحسين آلاته وصقل حد «بلطته».»

والواقع أن ذلك يتفق مع الحقائق التاريخية؛ إذ وجدنا أن العصر الحجري قد استعمل فيه الظِّرَّان المهذب ثم المصقول، ثم خلف ذلك عصر يشعر بالرقي والتدرج، وهو عصر استعمال معادن. ويلاحظ أنه بظهور المعادن بدأ استعمال الظِّرَّان يقل شيئًا فشيئًا، ولا غرابة أن استعمال النحاس، ثم اختراع البرنز الذي حل محله الحديد فترة قصيرة، وكان من الأمور التي خطت بالإنسان خطوات جديدة نحو الرقي حتى العصر التاريخي — أي عصر استعمال الكتابة والقراءة — في تدوين كل حوادثه وأعماله، على أن أمم العالم لم تتساوَ كلها في الوصول إلى هذه الدرجة بسرعة واحدة أو في وقت واحد، فمثلًا البلاد المصرية والأقطار الكلدية تعرفان الكتابة والقراءة منذ آلاف السنين قبل التاريخ الميلادي في الوقت الذي بقيت فيه زمنًا طويلًا تجهل وجود الجديد، ومن جهة أخرى نشاهد أن سكان ممالك البحر الأبيض المتوسط قد مكثوا عدة قرون مدفونين في ظلمات عصر ما قبل التاريخ، ومع هذا فإنهم كانوا يعرفون استعمال الحديد منذ أزمان طويلة قبل الفتح الروماني.

ومن الطريف المدهش أن أبحاث علماء ما قبل التاريخ قد ظلت غير معترف بها عند علماء الآثار المصرية معظم القرن التاسع عشر، وسبب ذلك أن هؤلاء الأثريين كانوا يشكُّون في وجود عصر في تاريخ مصر قبل عهد الدولة القديمة؛ وذلك لأنهم كانوا يعتقدون أن سكان مصر لم يكن لهم عهد طفولة كباقي الأمم، بل إنهم وُجِدوا في التاريخ فجأة، وأن مدنيتهم كانت شبه كاملة، ولذلك رفض علماء الآثار أن يبحثوا عن منشأ هذه الثقافة الزاهرة، التي كان لا بُدَّ لها أن تصل إلى ما وصلت إليه تدريجًا بعد انقضاء عدة قرون، ولهذا السبب أبوا أن يفحصوا الآلات المصنوعة من الحجر، وهي التي وجدوها عفوًا أثناء القيام بأعمال الحفر، أو التي جمعت من فوق سطح الأرض، وقد فسروا وجودها بأنها من عمل الطبيعة، أو أنها صنعت في عهد الأسرة الفرعونية.

وهكذا بقي النضال بين علماء الآثار قائمًا إلى أن وفد على وادي النيل العالم الفرنسي أرسلان Arcelin، فكان أول من أثبت وجود علم ما قبل التاريخ في مصر، وقد دعم قوله بالبراهين.
حضر هذا العالِم إلى مصر في عام ١٨٦٨، وساح في النيل ذهابًا وإيابًا، وقام أثناء رحلته بأبحاث منتجة، فجمع من حافة الصحراء التي أقيم عليها الأهرام بعض آلات من الظِّرَّان المهذب التي تشبه ما عُثِر عليه في أوروبا، وقد أسعده الحظ بأكثر من ذلك؛ إذ عثر في الهضبة التي تشرف على وادي الملوك تجاه الأقصر على مصنع عظيم من الظِّرَّان، يرجع عهده إلى العصر الحجري القديم «الباليوليتي»، وقد ظهر أن ما وجد في هذه البقعة يشبه كثيرًا ما عثر عليه في سان آشل Saint Acheul، وفي الجنوب من البقعة السالفة الذكر، وفي أبي منقار عثر على بعض آلات من العصر الحجري الحديث.
وبعد انقضاء فترة وجيزة على هذا الكشف، عثر العالمان «لنرمان» و«هنري» Lanormont & henry على بعض آلات لها أهمية عظيمة بالقرب من جبانة طيبة، وقد كان نتيجة هذا الكشف أن اعترفت جمعية درس أصل الإنسان في عام ١٨٧٠ بإمكان وجود عصر ما قبل التاريخ في مصر، وقد جاء مؤيدًا لهذا الرأي ما عثر عليه الأب «رتشرد» في شبه جزيرة سينا، وفي جوار القاهرة وفي طيبة — غير أنه بالرغم من ذلك — كان علماء الآثار يعارضون في وجود علم ما قبل التاريخ في مصر، بحجة أنهم وجدوا مثل هذه الآلات التي عثر عليها هؤلاء الباحثون في المقابر المصرية القديمة، ولم يفهموا أن هذه الآلات ربما كانت من مخلفات أزمان ما قبل التاريخ، وأنها بقيت مستعملة بالتوارث والعادة حتى العهود التاريخية، وقد بقي علماء الآثار أمثال «مريت باشا» و«لبسيوس» و«شاباس» على رأيهم رغم محاولات علماء ما قبل التاريخ في إقناعهم بصحة وجود عصر في تاريخ مصر قبل الدولة القديمة، وقد استمر هذا أكثر من ثلاثين عامًا إلى أن وضع الأمور في نصابها عالم من علماء الآثار أنفسهم، وهو «جاك دمرجان» الذي كان مديرًا للآثار المصرية في ذلك العهد، فجمع في مجلدين ضخمين كل ما كتب في هذا الموضوع، وانتهى به البحث إلى أن أيَّد فكرة وجود عصر ما قبل التاريخ في مصر، وأضاف إلى ذلك ملاحظاته الشخصية، التي جمعها مدة إقامته الطويلة في وادي النيل. إذ في خلال تلك المدة درس الأحوال والأماكن التي وجدت فيها الآلات الحجرية، وأثبت بالبراهين الناطقة قدم الآلات التي يرجع عهدها إلى ما قبل التاريخ عن الآلات، التي بقي الإنسان يهذبها بطريق العادة على نمط سالفتها في العصور التاريخية ثم يستعملها، وبعد أن وصل إلى هذه النتيجة أخذ يبرهن للعلماء على أن آلات ما قبل التاريخ المصري تكاد تكون مماثلة لما هو محفوظ في متاحف أوروبا من نفس العصر.

وبعد ذلك أثبت بصفة نهائية أن عصر الحجر المهذب في مصر قد سبق عصر الحجر المصقول، وأن الأخير قد خلفه عصر استعمال المعادن، كما هو الحال في إنجلترا وفرنسا وغيرهما.

وفي عام ١٨٩٧ وضع العالم «دي مرجان» نتائج أبحاثه أمام العالم، ومنذ ذلك العهد اعترف فعلًا بوجود عصر ما قبل التاريخ في مصر، ومن ثم أخذت البحوث تَتْرَى مُعَزِّزَةً رأي هذا العالم العظيم أو مكملة لبحوثه، وفي بعض الأحيان كانت مصححة لبعض أخطائه في نقط مختلفة، وقد مهدت لنا أبحاث الأستاذ «فلندرز بتري»، «ودي مرجان» السبيل لإيجاد صلة بين عصر ما قبل التاريخ المصري وعصر الدولة القديمة، وقد أطلق على هذه الفترة عصر ما قبل الأسرات.

وعثر الأثري «لجران» بعد ذلك على محطات جديدة، وعثر كذلك العالمان «ستون» و«كار» وغيرهما في منطقة الصحراء على حافة النيل على مواقع من هذا العصر.

وقد أشار الأستاذ «شفينفورت» العالم الألماني إلى وجود عدة محطات فيها آلات يرجع عهدها إلى عصر ما قبل التاريخ.

(١) مصر والنيل

مما لا جدال فيه أن البلاد المصرية كانت تختلف اختلافًا بيِّنًا عمَّا هي عليه الآن، عندما بدأ يظهر فيها الإنسان الأول، ولأجل أن نكوِّن فكرة عن حالة البلاد الطبيعية في هذا العهد، يجب علينا أن نرجع إلى الوراء إلى عهود جيولوجية سحيقة في القدم؛ أي قبل أن يظهر أثر الإنسان بمدة قصيرة نسبيًّا، وهذا العصر يُعرف في التاريخ الجيولوجي للقشرة الأرضية بالزمن الجيولوجي الثالث، على أننا لن نبحث هنا عن المراحل الجيولوجية التي سبقت هذا العهد، ونعني بذلك المرحلتين الأوليين، وكذلك لن نتكلم عن النيل الأولى «القديم» الذي سبق النيل الحالي، بل سنكتفي هنا بأن نذكر بعض تفاصيل، لا بُدَّ منها للباحث في تاريخ مصر وطبيعة بلادها.

تتكوَّن القشرة الأرضية في البلاد المصرية من ثلاث طبقات متتابعة بعضها فوق بعض:
  • أوَّلًا: نجد في الزمن الجيولوجي الأول أن التربة كانت تتألف من صخور شيستية متبلورة منها حجر «البرفير» والجرانيت ثم الديوريت.
  • ثانيًا: في الزمن الجيولوجي الثاني نجد أن التربة كانت تتكون من صخور رملية.
  • ثالثًا: ظهرت في بداية الزمن الثالث طبقات جيرية تحتوى على فواقع نومولتية.

والواقع أن الصخور الشيستية المتبلورة السالفة الذكر ينحصر وجودها في الصحراء الغربية وحول الشلال الأول، أما الصخور الرملية فإنها توجد في بلاد النوبة وفي الوجه القبلي حتى إسنا، وكذلك توجد في الأقصر وبالقرب من القاهرة وفي الواحة الخارجة.

أما الطبقات الجيرية فقد تكوَّنت منها الصحراء اللوبية، وكذلك المرتفعات التي تحف نهر النيل من بداية مدينة الأقصر إلى القاهرة.

ولا جدال في أن الكتل الكثيفة الصخرية من الحجر النوبي الرملي التي تتألف منها تربة أرض مصر، قد مرَّت عليها تقلبات جيولوجية كثيرة؛ إذ كانت في الواقع تغطى جزئيًّا بالماء أحيانًا ثم تظهر ثانيًا، مما سهَّل للبحر الجيري ثم البحر النيوموليتي أن يتركا رواسبهما على السطح، ويكوِّنا طبقات جيرية كثيفة من الجير، وهي التي تغطي في كل مكان طبقات الحجر النوبي الرملي من إدفو إلى بداية الدلتا، وبعد ظهور هذا الإقليم من الماء نهائيًّا — وقد حدث ذلك بعد العهد الأيوسيني — نجد أن الإقليم الشاسع الذي أطلق عليه فيما بعد مصر قد ظهر، غير أنه شوهد في سطحه ميل مزدوج، خفيف من ناحية، ومنحدر من الناحية الأخرى، ويتجه الميل الأول من الجنوب إلى الشمال حسب اتجاه النيل، أما الميل الثاني فإنه أشد انحدارًا، ويبتدئ من الشرق إلى الغرب أي من شواطئ البحر الأحمر إلى إقليم الواحات. وهذان الميلان في طبيعة أرض الوادي يرجع سببهما بلا نزاع إلى الظواهر البركانية التي حدثت في الجهة الشرقية منه وفي إقليم السودان، ولا شك أن نتائج هذه الظواهر عظيمة جدًّا من الجهة الجغرافية، لأنها كبقية التغيرات التي كان لا بُدَّ لسطح الوادي أن يخضع لها بفعل تأثير مياه النهر.

والواقع أن نهر النيل قد شق مجراه في هذه الهضبة غير المتكافئة في ارتفاع جبالها، بخط يكاد يكون مستقيمًا، وكوَّن منها منطقتين منفصلتين تختلفان اختلافًا بيِّنا من حيث الارتفاع والشكل. إحداهما شرقية، وهي التي تسمى صحراء العرب، ويمتاز تكوينها الطبيعي بأن جبالها تصل إلى ارتفاع عظيم بالقرب من الشاطئ ثم تنحدر تدريجيًّا نحو الوادي. أما المنطقة الثانية فيطلق عليها اسم صحراء ليبيا، وتبتدئ بتلال قليلة الارتفاع تسير مع السهل الرملي وتنتهي بعدة منخفضات، يصل مستوى بعضها أحيانًا إلى أقل من مستوى البحر، ويطلق على هذه المنخفضات اسم الواحات.

وعلى هذا النحو تكوَّن هيكل بلاد الفراعنة في الزمن الجيولوجي الثالث، وفي نهاية هذا الزمن وبداية الزمن الجيولوجي الرابع أخذت العوامل الجوِّيَّة تؤثر بفعلها حتى نحتت في سطح هذه الهضبة وادي النيل الحالي. إذ كانت تتساقط في هذه الجهة سيول جارفة يمكن أن نعرف مقدار عظمها وشدتها من الأمطار الاستوائية الحالية، وقد كونت هذه الأمطار عدة مجارٍ من الماء، قامت مقام العمال في نحت وديان عدة في الصخور، وهذه الوديان قد جفَّ ماؤها منذ أزمان سحيقة، غير أن أماكنها لا تزال باقية إلى الآن دالةً على وجودها رغم نضوب الماء منها.

والظاهر أن النيل لم يستتبَّ في مجراه الحالي إلا منذ أزمان حديثة، ولا ريب أن سيره كان قد عُوِّق في الأزمان الغابرة عند مرتفعات أسوان بحاجز من الجرانيت، ومكث مدة طويلة لم يتمكن من تذليل هذه العقاب الجرانيتية، فكانت مياه النهر تضطر أن تدور حول هذه الكتل الضخمة، ولكن فعل المياه تغلب في النهاية وشق مجراه الحالي، ولا تزال أحجار الشلال الأول شاهدةَ عَدْلٍ على المقاومة التي كانت ولا تزال تعترض النهر في سيره.

يضاف إلى ذلك أنه كانت تعترض النهر الصخور النوبية الأقل صلابة من الجرانيت، وقد كانت هذه الصخور تؤلف عدة شلالات صغيرة من بداية مدينة السلسلة الحالية جنوبًا، فكانت تعرقل سير النهر وتضع في طريقه العقبة تلو العقبة، وكذلك كان يصادفه في سير مستويات أعلى من مستوى مجراه الحالي مما حتَّم تكوين عدة بحيرات خلفها في جهات مختلفة في الوادي.

ولا أدل على ذلك من بقايا السد الذي كان يعترض النهر عند جبل السلسلة، وكذلك سهل «كوم أمبو» فإنه عبارة عن حوض ماء كانت تخزن فيه المياه التي كان يعوقها سد طبيعي اعترض لها في طريقها.

ويمكننا حسب نظام القوانين الطبيعية وتكوين الأنهار أن نحكم بأن النيل مر عليه عصران متتابعان متميزان في تاريخ تكوينه.

أوَّلًا: كان النهر في بادئ الأمر ذا مياه سيَّالة تجري في منحدر سريع من الجنوب إلى الشمال مما جعله يقطع لنفسه أوَّلًا مجرى عظيمًا جدًّا قريب الغور، كان ينحته لنفسه على كر السنين، ثم أخذ بعد ذلك ينكمش هذا المجرى الواسع شيئًا فشيئًا، وكان قطاع الوادي في هذا الطور يشبه رقم ٧، ولكن الاختلافات التي كانت تحدث في مقدار حجم المياه المتدفقة سنويًّا، وفي قوة التيارات كانت أحيانًا تزيد في حدة التآكل في الصخور وأحيانًا تقلل منها، ويمكن ملاحظة شدة هذا التآكل أو ضعفه في اختلاف حجم المدرجات التي يشاهد بعضها فوق بعض على طول شاطئ النهر؛ إذ الواقع أننا نراها الآن ظاهرة واضحة في الصخور، فتارة يكون المدرج واسعًا وطورًا يكون ضيِّقًا مما يدل على عدم انتظام الظواهر الطبيعية.

أما العصر الثاني فإنَّا نشاهد فيه أنه بعد العهد الذي حفر النهر في خلاله مجراه قد خلفه عهد آخر ارتطم فيه المجرى ثانية، وتفسير ذلك أنه بعد عهد حفر النهر مجراه شوهد أن الجزء الأسفل من المجرى قد أصبح في عمقه يقارب عمق سطح البحر، ثم وقف بعد ذلك عند هذا الحد، غير أن فعل التآكل كان لا يزال سائرًا في منحدر النهر، ولكن مخلفات هذا التآكل لم تكن تكتسح كلها إلى البحر لقلة الانحدار، بل كانت تتراكم في قعر النهر، وكانت هذه الرواسب تزداد من عام إلى عام في القعر مما سبب ارتفاع منسوب مجرى النهر وقلل من حدة انحداره، ومن ثم أصبح سير مائه معتدلًا، وأخذت البلاد تستفيد منه، وهناك أدلة على هذه التغيرات واضحة ظاهرة في مجرى النهر من أسوان إلى البحر الأبيض المتوسط، فمثلًا في منطقة القاهرة كان النيل في الزمن الجيولوجي الثالث له مجرى يبلغ عرضه في هذه النقطة مقدارًا عظيمًا، وكان جبل المقطم وهضبة الأهرام هما الحدان اللذان يجري النهر في وسطهما في ذلك العهد، ولكن في الزمن الجيولوجي الرابع أخذت الرواسب تغمر هذا المجرى شيئًا فشيئًا، وكانت تتألف من الحصى الذي كان يندفع مع التيار، ثم بعد ذلك غطى في آخر الأمر بالغرين «الطمي الحديث»، ومن ثم أخذ المجرى الواسع ينكمش تدريجيًّا حتى أصبح ولم يبقَ من هذا المتسع العظيم في تلك النقطة إلا مجرى صغير لا يزيد في اتساعه عن بضع مئات الأمتار، وفي نهاية الأمر أخذ النيل يصب في البحر الأبيض المتوسط، غير أن ذلك لم يكن بوساطة مصبه الحالي، بل بخليج ثلاثي الشكل يبعد عن البحر بنحو ٢٠٠ كيلومتر تقريبًا، ولكن الرواسب التي كان يأتي بها النيل سنويًّا أخذت تغطي هذا المصب تدريجًا حتى كوَّنت منه الدلتا الحالية، ويشغل المصب القديم جزءًا من مدينة القاهرة الحاضرة.

ومن مدهشات الصدف أن «هيكاته» السائح اليوناني قد وصف مصر، أو بعبارة أخرى وصف الدلتا بأنها منحة النيل، وقد نقل ذلك عنه فيما بعد «هيرودوت» أبو التاريخ، وقد جاء هذا الوصف مطابقًا للواقع، بل هو الواقع نفسه، ولا جدال في أنه في هذا العصر السحيق لم تكن هناك أية صحارٍ في أفريقيا الشمالية؛ إذ كانت كل هذه الأقاليم من المحيط إلى المحيط تغمرها رطوبة حارة تزيد من اخضرار الأراضي، ولا بد أن منظر هذه البقاع كان يشبه أقاليم شمال البحر الأبيض المتوسط، حيث يتوقف نمو النباتات على التقلبات الجوية وأمطارها الغزيرة التي تجعل وظيفة الأنهار في ري الأراضي مسألة ثانوية محضة، فقد كانت هذه الأمطار تكوِّن البحيرات الشاسعة التي تسبح فيها التماسيح وجاموس البحر، وتنشأ فيها المستنقعات التي تحلق فوقها الطيور، وهذه المستنقعات كانت تشغل الأماكن المنخفضة، ولا تزال الواحات الحالية شاهدًا ناطقًا على ذلك، ولا أدل على حقيقة ما ذكرنا من وجود بركة قارون في الفيوم والبحيرات الملحة ووادي النطرون، وكانت في المناطق التي تحيط بهذه البحيرات حيوانات بعضها من آكلة الحشائش وبعضها من آكلة اللحوم، وقد انقرض بعض أجناسها واختفى نهائيًّا.

وعلى هذه الحال كانت تظهر للعيان الأرض المصرية عند بداية الزمن الجيولوجي الرابع، وهو الوقت الذي ظهرت فيه أول قبيلة بشرية.

والآن نبدأ بالكلام عن هذه العصور التي أخذ الإنسان يظهر فيها، ثم أخذ يتقدم نحو الرقي شيئًا فشيئًا حتى وصل إلى تدوين أفكاره بالكتابة وهو بداية العصر التاريخي.

(٢) عصور ما قبل التاريخ

نشأ علم ما قبل التاريخ في أوروبا، ولذلك كان من البديهي أن تكون كل مصطلحاته وتعابيره العلمية أوروبية محضة، وقد بدأت دراسة هذا العلم في غربي أوروبا، ولذلك نجد بعض الاختلافات عندما نريد تطبيق ما وصل إليه من النتائج في هذه الجهة بالنتائج التي وصل إليها في شرقي أوروبا، وليس من المستغرب إذن إذا كانت هناك اختلافات في النتائج التي عرفت في أوروبا أن نجد مثلها عند تطبيقها على باقي بلاد المعمورة الأخرى، وذلك أمر طبيعي؛ إذ إن تربة كل بلد وأحوالها تطبعها بطابع خاص يميزها عن غيرها من وجوه عدة.

وقبل أن نخوض في بحث موضوعنا يجب أن نتساءل: إلى أي حد يتفق عهد ما قبل التاريخ في مصر مع عصر ما قبل التاريخ في أوروبا؟ وإلى أي مدى يختلف عنه؟ والجواب على هذا، هو أنهما يتفقان معًا في كثير من الأحوال إلى حد ما وصلت إليه معلوماتنا، اللهم إلا إذا ظهرت أشياء تنقض ذلك في المستقبل، ولذلك يجب علينا أن نقتفي في درس عصور ما قبل التاريخ المصري عصور ما قبل التاريخ الأوروبي، ونقرنهما ببعض ثم نقرِّب كلًّا منهما للآخر، وبهذه الطريقة يسهل علينا درس هذا العصر من تاريخ بلادنا.

وينحصر عصر ما قبل التاريخ المصري في المدة التي بدأ الإنسان يظهر فيها في وادي النيل إلى بداية الأسرة الأولى حوالي ٣٢٠٠ق.م.

وقد أسفرت البحوث التي قام بها العلماء في مدة الأربعين عامًا الأخيرة عن تقسيم هذا العصر الطويل إلى ثلاثة أقسام رئيسية، ولا يزال العصر الأول منها غير معترف به من كل رجال هذا العلم؛ إذ البعض يُقِرُّه وطائفة منهم تنكره:
  • العصر الأول: ويطلق عليه اسم عصر ما قبل الحجري القديم «الأيوليتي»، وقد استعملت فيه أحجار الظِّرَّان كما وجدت في الطبيعة مع بعض التهذيب.
  • العصر الثاني: ويطلق عليه اسم العصر الحجري القديم «الباليوليتي» هو عصر استعمال الحجر المهذب تهذيبًا بسيطًا بعد القطع، ومنه يتفرع العصر الحجري الحديث «النيوليتي»، وهو عصر الحجر المصقول بعد التهذيب.
  • العصر الثالث: الذي ظهر فيه استعمال المعادن، ويطلق عليه عصر بداية استعمال المعادن «الأنيوليتي»، وقد استعمل في هذا العصر الحجر والنحاس والحديد لعمل الآلات جنبًا إلى جنب، وقبل أن نتكلم عن هذه العصور ببعض التفصيل، يجب أن نلاحظ أنه يكاد يكون من ضروب المستحيل أن نحدد تاريخًا معينًا لعصور ما قبل التاريخ في مصر، اللهم إلا عندما ندخل في عصر بداية استعمال المعادن «الأنيوليتي»، وذلك عندما نقرن الآلات التي ظهرت في العصر نضع تواريخ نسبية وبخاصة بعد درس الفخار الذي ظهر في العصر الحجري الحديث.

وكان أول من قام بهذا الدرس الفريد في بابه الأستاذ «فلندرز بتري»، وذلك بوساطة ملاحظات استنتجها من درس مقابر سليمة عثر عليها في جبانات، يرجع تاريخها إلى عصر بداية استعمال المعادن، وأمكنه أن يرتب أنواع الفخار المختلفة التي عثر عليها في تلك المقابر إلى أصناف ظهرت في أزمان متتالية، ورقَّمها من واحد إلى ثمانين، وهذه الأرقام تعادل ما يطلق عليه تتابع التاريخ أو تاريخ التتابع، فرقم ٨٠ يعادل بداية العصر التاريخي الحقيقي أي العصر الذي ظهرت فيه الكتابة.

وأول عمل قام به السير «فلندرز بتري» في ترتيبه التاريخي المتتابع أن أخذ رقم ٣٠ وخصَّصه لأقدم ما عرف إلى عهده من أنواع الفخار، واحتفظ بالرقم من ١–٣٠ إلى ما عسى أن يكشف عنه من فخار أقدم عهدًا مما عرف، والواقع أنه كشف حديثًا في جهة بلدة البداري عن موقع قديم جدًّا يرجع عهده إلى ما قبل رقم ٣٠، وقد خصص له العلماء فعلًا رقم ٢٠–٢٩، ورغم أنه يكاد يكون من المستحيل أن نجزم بتاريخ قاطع لعصر ما قبل التاريخ المصري، إلا أنه يمكننا مؤقتًا أن نذكر على وجه التقريب أن العصر الحجري الحديث يحتمل أنه قد بدأ منذ ١٠٠٠٠ سنة، وأن بداية المعادن قد بدأ منذ حوالي ٦٠٠٠ أو ٥٠٠٠ سنة، وهذه التواريخ لا ترتكز على حقائق علمية، بل وضعت لتكون مجرد مرشد أو إشارة يُهتدى بها فحسب.

والآن نعود إلى التكلم عن كل عصر من عصور ما قبل التاريخ حسب ترتيبها الطبيعي في كلمة موجزة، ثم نتناول الكلام عن كل عصر بشيء من الإسهاب.

(٢-١) العصر الأيوليتي «عهد فجر العصر الحجري القديم»

لا جدال في أن الإنسان الأول عندما ظهر على سطح البسيطة، كان أول هم له أن يجد لنفسه سلاحًا يدافع به عن كيانه ضد الحيوانات التي كانت تحيط به ويعيش في وسطها، ولا بُدَّ أن أول ما فكر فيه من الأسلحة ما كان في متناوله، فمثلًا كان يقطع فرع شجرة ويهذِّبه ليدافع به عن نفسه، وكذلك كان يجمع ما حواليه من الأحجار الصلبة التي هيأتها له الطبيعة، ثم يهذِّبها بنفسه بعض الشيء ليجعل لها حدًّا قاطعًا ويستعملها في أغراضه، وهذه الآلات التي كانت تصنع بهذه الطريقة، قد أطلق عليها في علم الجيولوجية اسم «أيوليت».

ويعزو علماء الجيولوجية هذه الآلات إلى العصر الثالث الجيولوجي، غير أن وجود هذا العصر في حياة الإنسان على ظهر الأرض مشكوك فيه، ويرجع السبب في ذلك إلى عدم وجود بقايا الإنسان في هذا العصر مطلقًا.

وفي استطاعة الإنسان في مصر أن يجمع قطعًا عدة من آلات هذا العصر من هضبة الصحراء، ولكنها كذلك مشكوك في تاريخها، وسبب ذلك يرجع إلى أن فعل المؤثرات الجوية مثل الحر والبرد وتعاقب الليل والنهار، يحدث تفتت قطع من الظِّرَّان جديدة تشبه القطع الأيوليتية القديمة، وقد جمع الأستاذ «شفينفورت» قطعًا كثيرة من هذا النوع من محطات أبواب الملوك. على أن كثيرًا من هذه القطع يظهر فيها فعل يد الإنسان، ولكنا نجدها مختلطة بآلات من العصر التالي لهذا العصر، وهو ما يسمى العصر الباليوليتي (العصر الحجري القديم)، وليس لدينا ما يحملنا على الاعتقاد بأنها من عصر أقدم، والواقع أنه لا توجد محطة مصرية قديمة أو حديثة إلا وفيها آلات صنعتها يد الإنسان وقطع من صنع الطبيعة نفسها، ثم استعملها الإنسان بمهارة، ولا نزاع في أن المبدأ القائل بالاقتصاد في استعمال القوى الإنسانية في الإنتاج، قد لعب دورًا عظيمًا في حياة الإنسان الأولى في مصر، كما كان الحال في البلاد الأخرى، ولا غرابة إذن إذا وجدنا أن الإنسان كان يستعمل القطع الطبيعية في الاستعانة بها على قضاء أغراضه في أول نشأته وفي فترة عدم درايته بالصناعات.

(٢-٢) العصر الحجري القديم

هذا العصر يعرف بعصر استعمال الحجر المهذب، وينقسم ثلاثة أقسام: وهي الحجري القديم الأسفل، ويشمل ما يقابله في أوروبا من الصناعات الشيلية١ والآشيلية،٢ ثم العصر الحجري القديم المتوسط، وفيه تسود الصناعات، الموستيرية Mousterienne٣ وأخيرًا العصر الحجري القديم الأعلى، وقد سادت فيه الصناعة الأوريجناسية Aurignacienne٤ ثم الصناعة السولوترنية Solutereenne٥ ثم الصناعات المجدلية Magdalenienne.٦

(٢-٣) العصر الحجري الحديث

ويتلو العصر السالف عصر بداية المعادن، وهو عصر استعمال الحجر المصقول بعد التهذيب، وهذا العصر أقسامه مرتبكة ولا ضرورة للخوض فيها الآن.

(٢-٤) عصر بداية استعمال المعادن

وهو عصر الانتقال؛ إذ في خلاله بدأ الإنسان يستعمل المعادن، وقد توالى فيه استعمال النحاس والذهب ثم البرنز فالحديد، على أن عهد استعمال الحديد في مصر كان شاذًّا بالنسبة للبلاد الأخرى، وذلك أن مصر في عهد أوج مجدها وسؤددها التاريخي بدأ يُستعمل هذا المعدن فيها، ولم يكن معروفًا من قبل.

(٢-٥) مدينة العصر الحجري القديم

يعد هذا العصرُ العهدَ الذي وُجد فيه أول أثر لبقايا الإنسان؛ إذ عثر فيه فعلًا على بعض عظام بشرية وعلى الآلات التي كان يستعملها الإنسان، غير أنه من المستحيل علينا أن نحدد في أي عهد وقبل أي عدد من آلاف السنين قبل الميلاد ظهر الإنسان في العالم، وكل ما يمكن الجزم به في هذا الموضوع هو أن وجود الإنسان على ظهر البسيطة يرجع إلى أزمان سحيقة جدًّا، والتقديرات المعتدلة ترجع بظهور الإنسان إلى آلاف عدة من السنين، وفي خلال هذا العصر الطويل جدًّا قد حدثت تغيرات وتقلبات عظيمة ظاهرة جلية لا تقتصر على شكل الآلات وصناعتها ولا شكل الإنسان الذي كان يستعملها فحسب، بل تتناول كذلك التقلبات الجوية التي كانت تحيط به والتي كان من أثرها أن حدث تغير كلي في الحيوان والنباتات التي كانت تعيش وتنبت فيه، وهذا العصر الذي نحن بصدده يقع في أوائل الزمن الجيولوجي الرابع، وفيه حدثت في الجو تقلبات من بارد إلى حار كما أثبت ذلك علماء الجيولوجية.

ويتميز هذا الزمن بزحف الجليد الذي غمر الجبال الشامخة ثم تقهقر ثانية مما كان يسبب انخفاض درجة الحرارة، وكل ما يهمنا في ذلك هو أن العصر الحجري السفلي قد بدأ في نهاية عصر حدث فيه تقهقر جليدي، على حين أن العصرين الحجري المتوسط والأعلى يتفقان مع الزمن الجليدي المتتابع، وبظهور العصر الحجري الحديث تبتدئ فترة تقهقر جليدي جديدة لا تزال مستمرة إلى يومنا هذا.

العصر الحجري القديم السفلي

يمتاز هذا العصر بجو حار رطب يشبه جو المناطق الاستوائية الآن، غير أنه كان يميل إلى البرودة التدريجية، وهذه الحالة في أوروبا تنطبق على أفريقيا الشمالية أيضًا، على أن الوصف الذي أوجزناه عن القطر المصري في فجر عصر ما قبل التاريخ يمكن تطبيقه على الأقاليم الواقعة شمال حوض البحر الأبيض المتوسط، ولدينا براهين عدة من حفريات العظام التي استخرجت من رواسب الزمن البلستوسيني (الزمن الرابع)، وقد عرفنا أنه كان ينمو في أوروبا في ذلك العهد حيوانات من ذوات الثدي، في وسط غابات كثيفة وعلى شواطئ مجاري مياه، وكانت عظيمة الحجم مثل جاموس البحر ووحيد القرن، والفيل الضخم والدب والضبع والغزال والحصان وغزال الأركس. وقد اختفى كثير من هذه الحيوانات الآن، على حين أن بعضها قد هاجر فيما بعد نحو الأقطار الاستوائية هاربًا من شدة البرد الذي اكتسحه في الزمن الذي تلى هذا العهد.

وعثر على بعض بقايا بشرية مختلطة ببقايا حيوانات معاصرة، غير أن ما عثر عليه لم يكن إلا أجزاء من جماجم مثل فك «مور»٧ المشهور أو بعض عظام بسيطة، وقد سهَّل جو هذا الزمن المعتدل للإنسان أن يعيش في الهواء الطلق على شواطئ الأنهار والبحيرات أو في الغابات، وكان هذا الإنسان يتخذ أكواخًا من فروع الأشجار مسكنًا له. أما مقابرهم فيظهر أنها قلبت رأسًا على عقب بفعل الفيضانات التي كانت تخرِّب هذه الجهات تخريبًا ذريعًا، ولذلك لم يعثر منها على آثار تُذكر، مع أن هذه البقايا الضئيلة التي عثر عليها في الرواسب — وهي بلا شك — ذات قيمة عظيمة، قد عرفنا منها أن الجنس البشري في ذلك الوقت كان منحطًّا جدًّا، غير أن عدم العثور على هيكل تام لم يمكننا من إعطاء رأي قاطع في تركيبه الطبعي.

أما عن صناعة هذا العصر فإن معلوماتنا قد زادت؛ لأن بعض المواد التي استعملها إنسان ذلك العصر تكاد تكون غير قابلة للتلف رغم مر العصور. حقًّا إن الدبابيس ذات القبضة المصنوعة من الخشب، لم تحفظ لنا كغيرها من الأشياء المصنوعة من المواد القابلة للعطب مثل جلد الحيوان ولحاء الأشجار، التي كان يستعملها ذلك الإنسان غطاء له، ولكن أسلحة الصيد والحرب وكذلك الآلات التي كان يستعملها في سلخ فريسته كانت مصنوعة من حجر صلب وأرهف حدها، وقد قاومت هذه الآلات تأثير الزمن وبقيت إلى عصرنا هذا، وقد عثر عليها مهملة على شواطئ الأنهار مدفونة تحت طبقات سميكة من الحصا الذي دحرجته تيارات الماء السريعة معها، وكان إنسان ذلك العصر عندما يعوزه الظِّرَّان وهو أهم مادة لصنع آلاته، يستعمل بدلًا منه الكورتسيت أو الأحجار البركانية أو الحجر الجيري الأبيض الصلب، وأهم آلة كانت مستعملة في هذا العصر هي «البلطة» الغليظة البيضية الشكل، وقد تكون مثلثة ذات شفرات حادة تتصل بحد مرهف قاطع، وتصنع هذه الآلة من قطعة من الظِّرَّان طبيعية على شكل الكلى، وذلك بإزالة شظايا متعادلة من حروف قطعة الظِّرَّان هذه بوساطة أزميل، وهذه الآلة كانت عظيمة الخطر في يد المحارب، على أنها كانت كذلك تستعمل لأغراض أخرى، ويوجد نوع منها لم يهذب إلا من أحد وجهيه ويستعمل كمقطع لتخليص العظام من اللحم ولسلخ الجلود.

وخلافًا لهذه الآلات التي يطلق عليها ذات الوجهين Bifaces، والتي قد تصل أحيانًا إلى حجم عظيم، فإن إنسان هذا العصر استعمل شظايا بسيطة كان يحصل عليها بقطع كلية من الظِّرَّان تهمل نواتها في النهاية، ويلاحظ دائمًا أن كل شظية تقطع بهذه الكيفية فيها بروز مستدير عند النقطة التي وقع عليها الكسر، الذي يترك أثرًا على هيئة تجويف في النواة نفسها، وهذه العلامة تعد بمثابة خاصية مميزة للمصنع الذي صنعت فيه، مما يثبت لنا أن هذه الشظية قد قطعت وهذبت قصدًا وذلك مما لا يوجد في الشظايا الطبيعية.

وهذه الشظايا مرهفة الحد كالموسى القاطع، ولذلك كانت تستعمل بدلًا من السكاكين، وأحيانًا تستعمل كمشط، وذلك بعد إجراء بعض إصلاح في أحد وجهيها أو في نهاية الشظية، وهذه الإصلاحات أو «الرتوش» لا تتناول الوجه العلوي من الشظية، ولذلك يطلق عليها اسم الآلات ذات الوجه الواحد، وكذلك يدخل تحت هذا النوع من الآلات ذات الوجه الواحد الشظايا التي كانت تصنع بهذه الكيفية، لتحضير الجلود والعظام التي كان يستعملها إنسان هذا العصر.

أما عن أخلاق هذا الإنسان وعاداته، فإنا لا نكاد نعرف عنها شيئًا قط، اللهم إلا أنه كان لا يختلف كثيرًا عن قبائل الأقزام الذين يتجولون في الغابات الاستوائية، ويعيشون على صيد البر والبحر.

وإذا كنا لا نعرف شيئًا عن هذا الإنسان من الوجهة الاجتماعية أو الخلقية والدينية، لأنها لا تزال موضع تخمين، إلا أننا من جهة أخرى يمكننا أن نحكم عليه من الآلات التي صنعها، والتي هي الآن في متناولنا؛ إذ تبرزه لنا كإنسان راقٍ يسيطر بذكائه على الحيوان الذي يشن عليه الحرب يوميًّا، يضاف إلى ذلك أنه كان في قدرته أن يخترع ويحسن كل ما هو في متناوله، فقد عرف كيف يوقد النار ويطهو طعامه، هذا رغم أنه كان لا يعرف إلى هذا الوقت صناعة الفخار، واستعداد هذا الإنسان وقدرته على أسباب الرقي يظهر جليًّا عندما ننتقل من طبقة إلى أخرى في القطاعات التي بحثت في الأماكن التي يرجع عهدها إلى العصر الحجري القديم، فمثلًا نلاحظ أن البلطة الثقيلة الخشنة الصنع التي توجد في أسفل طبقة من العصر الحجري تخفُّ تدريجيًّا في الطبقات العلوية، ويحل محلها آلات أحسن صنعًا، وبذلك تختفي الصناعة الشيلية الخشنة أمام الصناعة الآشلية التي أنتجت آلات تعد من فرائد الفن.

figure
ظران من العصر الحجري القديم السفلي (صناعة شيلية عثر عليها في «إسنا»).

على أن كل ما كشف إلى الآن في أوروبا من العصر الحجري القديم السفلي ينطبق في مجموعه على كل ما عثر عليه في مصر.

figure
ظران من العهد الشيلي عثر عليه على طريق القوافل بين الواحة الخارجة و«العرابة».
figure
قبضة يد من الظِّرَّان من العصر الشيلي الأوربي.
figure
بلط من الظِّرَّان عثر عليها في طيبة من العهد الآشيلي.
figure
قبضة يد من الظِّرَّان من العصر الآشيلي «تستعمل كبلطة».

وكذلك الأبحاث العدة التي عملت في أفريقيا الشمالية تتفق مع ما كشف في أوروبا، وقد صرَّح علماء ما قبل التاريخ بأن حالة الحياة كانت على ساحل البحر الأبيض المتوسط كله واحدة، ولا ريب أن في هذا الزمن كان مضيق جبل طارق مفتوحًا في بداية الزمن البلستوسيني، وبذلك انمحى الاتصال القديم الذي كان بين إسبانيا ومراكش، ولكن يظن في الوقت نفسه أنه كانت هناك قنطرة عظيمة طبيعية تربط تونس بصقلية وإيطاليا الشمالية ولو أن ذلك مشكوك فيه إلا أنه — على كل حال — لم يكن الاتصال عسيرًا بين شاطئ بحر داخلي أقل اتساعًا من البحر الأبيض المتوسط الحالي.

ويمكننا أن نشبِّه هذا القطر — الذي انكمش الجزء المسكون منه إلى شريط ساحلي — بجَنَّة تجري من تحتها الأنهار، حيث كانت الأمطار الغزيرة تكسوه خضرة يانعة وغابات تحف جبال الأطلس الشاهقة، وأشجار تغطي السهول، وكانت عيون الماء والأنهار تتدفق فيها مجتذبة إليها حيوان أفريقيا المختلف الأنواع كالجمل وحمار الحبشة والقردة ومختلف أنواع الغزال والثيران التي تشبه حيوانات أوروبا في هذا العهد، وفي هذا الإقليم الذي يكثر فيه حيوان الصيد نجد آثار الإنسان في كل مكان إلى مسافات آلاف الكيلومترات من وسط المساكن الحالية.

وكان وادي النيل الذي لم يكن يفصله إلا فاصل صحراوي عن الممالك المجاورة له في ذلك الوقت يتمتع بمناخ يشبهها، وفيه من الحيوانات مثل ما فيها، وقد عثر على بعض بقايا منها ولكنها لا تعطينا فكرة واضحة، ولا شك أن الأسنان والعظام التي استخرجت من مصب النيل عند سهل العباسية الحالي، قد سدَّت نقصًا كان في سلسلة الملاحظات التي قام بها علماء الحيوان والنبات لذلك العهد، من مراكش إلى تونس. ورغم أن دراستها لم تتم إلى الآن إلا أننا نعلم أنها لتماسيح وحيوانات ثديية عظيمة الحجم مثل الفيل وجاموس البحر والثيران، وهذه العظام والأسنان تشبه عظام الحيوانات المنسوبة للعصر الحجري القديم السفلي التي عثر عليها في أفريقيا الشمالية، وإذا كانت الرواسب النيلية لم تكشف لنا للآن عن بقايا بشرية، فإننا من جهة أخرى قد عثرنا على آلات شيلية وآشلية تشبه ما عثر عليه في أوروبا في ذلك العهد، وبذلك ظهر لنا أن وحدة الحيوان والجو في كِلَا الجهتين كانت متشابهة، وقد عثر فعلًا على «بلط» مبعثرة أو مجتمعة على سطح الأرض في كل مكان تقريبًا، فنجدها على الهضاب التي كانت تحتضن النهر في ذلك الوقت، وعلى المرتفعات التي انحسرت عنها المياه، وفي قعر الوديان، وفي منحدراتها.

وقد سبق أن ذكرنا المصانع التي عثر عليها «أرسلان» في تلال أبواب الملوك، وقد استغلها من بعده عدد من الباحثين، وقد عثروا على بعض آلات جميلة لوزية الشكل لونها لون الشيكولاتة وذلك مميز خاص لها، ويوجد منها عدد عظيم يزيِّن متاحف أوروبا الآن، وقد كشف عن أماكن أخرى العالم «دي مرجان» في الوجه القبلي مثل طوخ و«العرابة» وإسنا، وكذلك عثر على مصانع في الفيوم وفي منطقة الأهرام بمنف، ومنذ ذلك العهد أخذت الكشوف تترى في كل جهات الوادي، وسنكتفي بذكر أهمها ونخص بالكلام المحطة التي عثر عليها بالقرب من نجع حمادي المعروفة بأبي النور ومصنعًا في الجبل الأحمر الواقع في الشمال الشرقي من القاهرة، وقد وجدت فيه مجموعة آلات مصنوعة من حجر الكوارتسيت، وبالقرب من قنا عثر على مصنع يرجع عهده إلى الصناعة الآشيلية.

وقد كشفت الأبحاث أن العصر الحجري القديم السفلي لا يقتصر على شاطئ النيل، بل يمتد إلى الصحاري التي تحتضن هذا النهر العظيم بين جنبيها، ولا أدل على ذلك من الآلات التي وجدها الأب «ريشار» في الغابات المتحجرة الواقعة شرقي القاهرة الحالية، وقد كان وجودها في هذا المكان الباعث له على هذه الفكرة، ثم جاءت أبحاث العالم «شفينفورت» أيضًا تؤيد هذه الفكرة، ولما كان العالم «دي مرجان» كلف بمعرفة مقدار امتداد الصناعات الأولية الفطرية لذلك العصر، أرسل العالم «لجران» لارتياد الصحراء اللوبية، وفعلًا صادف في طريقه من الأقصر إلى الواحة الخارجة ثم من الخارجة للعرابة المدفونة عدة مصانع سطحية، وكذلك عثر على طرق قديمة كانت تبتدئ من النيل إلى الواحات، وقد لاحظ قاعدة عامة هي أنه عند كل عقبة — أي عند كل نقطة يجتاز فيها طريق القوافل هضبة حادة — كانت توجد محطة من العصر الحجري القديم السفلي، وكذلك قام «هنري دي مرجان» شقيق «دي مرجان» مدير مصلحة الآثار برحلة، وقد لاحظ نفس الملاحظات في الوديان التي تربط إسنا بواحة كركور.

ولا يفوتنا أن نذكر هنا المصانع العدة التي عثر عليها «شفينفورت» قبل بداية الحرب العظمى في أبي العجاج الذي ينفذ على النيل شمال أسوان، وهذه المصانع كانت تصنع فيها آلات من الحجر النوبي، وقد قام عدد من العلماء في السنين الأخيرة بفحص الواحات فحصًا منظمًا فعثرت الحملة التي قام بها الأمير كمال الدين حسين على آلات من الصناعة الشيلية والآشيلية على الهضاب التي تمتد غرب الواحات، ويمكن رؤيتها حتى على مرتفعات «العوينات» في قلب الصحراء.

على أن هذه المحطات السطحية مهما كانت فائدتها، فإنها في الواقع لم تشف غلة الباحث المدقق إلا قليلًا. إذ إنها وإن كانت قد كشفت لنا عن وجود إنسان العصر الحجري القديم ومواطن سكناه في مصر إلا أنها لم تبرز لنا شيئًا عن صناعته وتدرجها نحو الرقي، ويلاحظ أن هذه الأماكن التي كان يختارها الإنسان الأولي قريبة من المياه ومن مناطق خصبة عامرة بالنبات زاخرة بحيوان الصيد، كانت تسكن القبائل الفطرية أحيانًا قرونًا عدة حتى يأتي وقت يضطرون فيه إلى الهجرة منها. ومن أجل ذلك نجد على سطح الأرض آلات مختلطًا بعضها ببعض وأسلحة من الحجر تركها السكان الذين كانوا غالبًا من شعوب مختلفي الثقافة، وليس من السهل وجود أماكن لم يحدث فيها اختلاط، وقد كان من حسن حظ الباحث «سند فورد» أنه عثر على محطة من هذا النوع الأخير في إقليم قنا.

ومنذ زمن بعيد أخذ العلماء يبحثون عن الرواسب التي تخبئ في باطنها أقدم الآلات التي صنعها الإنسان الفطري، وقد جادت الصدف السعيدة بوجود آلات مرتبة حسب قدمها في طبقات جيولوجية بعضها فوق بعض، وقد حاول بعض العلماء من قبل الوصول إلى ذلك، ولكنهم لم يفلحوا حتى أسعد الحظ العالم «دي مرجان» قبل موته ببضعة أشهر، فعثر على رواسب في طبقات بعضها فوق بعض حلَّت المشكل نهائيًّا، وهذه الرواسب كانت موجودة غير أنه كان من الضروري البحث عنها في مظانها، وكان ذلك لا يتأتى إلا في جوف الأرض على بعد عميق؛ أي عند مصب النهر القديم؛ إذ هناك تقف المياه في طريق مجراها، وتترك رواسبها التي لا يمكن حملها أبعد من ذلك، وقد كان من الطبيعي أن تتجمع هذه الرواسب طوال مدة العصر الحجري القديم السفلي حافظة في طبقاتها التي تكوِّن بعضها فوق بعض بقايا الصناعات المعاصرة لكل طبقة.

وهذه الأراضي قد أصبحت في مستوى واحد عند بداية الدلتا وعلى حافتها، حيث لم يتمكن الغرين الحالي من تغطيتها بعد أن زالت عنها المياه، وجفَّت في أول العصر الحجري القديم، وبهذه الكيفية بقي سهل العباسية الصغير لم يمس بعيدًا عن فعل الفيضان، وهذا السهل يمتد من سفح هضبة النيل القديمة الواقعة في الشمال الشرقي من القاهرة، وقد سهَّل أخذ الرمل والزلط لمباني مدينة القاهرة الحالية منه حفر هذا الشريط الصحراوي إلى عمق عظيم يبلغ نحو ٣٠ مترًا أو يزيد، كما سهَّل ذلك أيضًا درس المنطقة ومحتويات طبقاتها، وفعلًا وجدت الرواسب النيلية فيها بسمك عشرة أمتار في المتوسط، وعثر في وسط الزلط على الآلات التي تبرهن على توالي صناعات العصر الحجري القديم تواليًا تاريخيًّا، فوجدت الآلات الشيلية ثم الآشيلية بعضها فوق بعض، وقد اختلط بها بعض بقايا الحيوانات المعاصرة، وهذه الآلات وجدت منفصلة بوضوح عن الآلات الموستيرية التي لا توجد إلا على سطح السهل، وقد حقَّق هذه النتيجة البحث الذي قام به كل من الأثري «سند فورد» و«أركل»، وكانت جامعة شيكاجو قد كلفتهما ببحث عام في وادي النيل، وتوابعه فقاما ببحوث منظمة في رواسب مرتفعات جهات «قاو» و«أرمنت» ومنخفض الفيوم، وقد كانت البحوث منتجة وبخاصة في «وادي قنا» حيث أصاب الباحث «مري» نجاحًا من قبل؛ إذ جمع مجموعة من الآلات الجميلة، فهناك وجدت آلات العصر الحجري القديم السفلي في مكانها الأصلي في الرواسب البلستوسينية كما وجدت صناعات مما يرى على السطح، فوجد منها من أول الشيلية إلى الموستيرية، وكان بعضها منفصلًا عن بعض بوضوح على المرتفعات التي يتراوح عمقها بين ٣٥ مترًا وخمسة أمتار تقريبًا على كِلَا شِقَّيِ الوادي.

العصر الحجري القديم المتوسط

ترجع معرفتنا للإنسان الموستيري في أوروبا أكثر من معرفتنا لإنسان العصر الذي سبقه إلى عوامل طبيعية غيَّرت معيشته تغيرًا عظيمًا، وذلك أن درجة الحرارة التي كانت مرتفعة في العصر الشيلي قد أخذت في الانخفاض في العصر الذي أعقبه، كما تبرهن على ذلك كثرة الرواسب الآشيلية من بقايا فيل عظيم ذي شعر كثيف، وهو المعروف بالماموث الذي لا يعيش الآن في الجو البارد، وبانتهاء العصر الحجري القديم السفلي ينتهي كذلك عصر تقهقر الجليد، ويتفق العصر الحجري القديم المتوسط مع عصر جليد طويل امتد حتى العصر الحجري القديم الأعلى، وفي ذلك العصر أخذت الحيوانات ذوات الجلد السميك تتقهقر نحو الجنوب متخلية عن أماكنها تدريجًا إلى الحيوانات الأخرى ذوات الثدي التي هاجرت من البلاد الشمالية، ولم يبقَ في مكانه إلا الماموث ووحيد القرن صاحب الخرطوم المقسم بنتوء، وفي خلال هذا العصر أخذ الإنسان يتخلى عن عيشة الهواء الطلق، واتخذ مأواه إما تحت الصخور أو في الكهوف العميقة التي كان يشاطره فيها الضبع ودب الكهوف التي كانت أول من سكنها، أما موقده فكان يقيمه على الفضاء الذي يتقدم مدخل كهفه أو عند باب الكهف نفسه.

وهناك وجدت مخلفاته وجبانته مختلطة مع بقايا آلاته، وقد تكوَّن من هذه البقايا فيما بعد أكوام من الرواسب متماسكة بفعل الترشيح المختلط بالمواد الجيرية، وفي هذه الأكوام تجمعت عظام الحيوانات التي كان يصطادها الإنسان مع آلات الظِّرَّان. وهذه الأكوام كانت في الواقع بمثابة سجلات غير مكتوبة وبها يمكن المؤرخ أن يعرف مقدار الرقي أو الانحطاط في الصناعة من مستوى لآخر من الطبقات التي كان بعضها موضوعًا فوق بعض وضعًا تاريخيًّا، وكذلك يمكنه أن يُرتِّب حيوانات هذا العصر حسب قدمها التاريخي، وأعظم من ذلك كله أن الإنسان الموستيري كان يدفن في هذه المغارات نفسها ومعه حليه وسلاحه، وقد كان مجهزًا بما يحتاج إليه في آخرته، وقد عثر على هياكل آدمية تامة درست درسًا علميًّا، ولا شك أن الحفائر المنظمة التي عملت في هذه المقابر التي سكنها الإنسان مددًا طويلة مكَّنت العلماء من وضع أساس لتاريخ الصناعات التي أتت متتابعة منذ العصر الموستيري إلى العصر الحجري الحديث، وقد بدت تغيرات واضحة في فن تهذيب الظِّرَّان؛ إذ نجد أن الدبوس الذي حذق في إتقانه الإنسان الآشيلي إلى درجة عظيمة قد أخذ ينحط انحطاطًا عظيمًا في عهد الإنسان الموستيري؛ إذ صغر حجمه حتى أصبح ضئيلًا جدًّا، وكان ذلك بمثابة إعلان لإهمال استعماله، أما الآلة الخاصة بهذا العصر فهي شظية من الظِّرَّان مثلثة الشكل مرهفة الحد قد اقتطعها الصانع من نواة حجرية جهزت بعناية لهذا الغرض بطريقة تحتاج إلى مهارة فائقة، وقد أطلق المؤرخون على هذه الآلة اسم ظهر السلحفاة لقربها من هذا الشكل، وهذه الآلات الحادة كانت بمثابة سهام يثبتها المحارب في نهاية حربته، وكذلك كان يصنع شظايا أخرى يستعملها محشة أو مقراضًا أو منشارًا لحاجياته اليومية. على أن كل هذه الآلات كانت لا تهذب إلا من وجه واحد وهو العلوي عادة أما تهذيب الوجهين فقد استمر على العكس يستعمل في بعض «أقراص» ذات حد قاطع، وهي التي كانت تستعمل أحجارًا للمقلاع.

وقد انتشرت المدنية الموستيرية كسابقتها في كل أفريقيا الشمالية وعثر عليها في آسيا، وقد وجدت براهين عدة تثبت ذلك، وبينما نجد وحدة ظاهرة في الجو والصناعة في العصر الشيلي الآشيلي على كِلَا شاطئي البحر الداخلي؛ إذ نجد في الوقت نفسه أنه قد ظهر خلاف بين الموستيري الأوروبي وما يماثله في أفريقيا. حقًّا قد عثر في جبال الأطلس وبلاد الحبشة على آثار امتداد الجليد، والرواسب التي عثر عليها في كهوف بلاد الجزائر مما يدل على أنها كانت مستعملة، ولكن من جهة أخرى تدل الملاحظات العامة التي قام بها العلماء على أن برودة الجو التي كانت محسوسة تمامًا في أوروبا في العهد الحجري القديم المتوسط، كانت أقل بكثير في المنطقة الأفريقية؛ وذلك لأن انخفاض الجبال الأفريقية لم يساعد على تكوين جليد بدرجة عظيمة مثل الجليد الذي كان في أوروبا الوسطى.

أما الحيوانات وإن كان قد حدث فيها بعض التغيير إلا أنها بقيت على حالتها الاستوائية أو السودانية، فلم نجد من بينها الماموث أو الحيوانات الأخرى التي تميز العصر الموستيري، وفي الجملة، فإن الحالة العامة للحياة قد بقيت تقريبًا كما كانت عليها في العصر المتقدم الذكر، وقد كان إنسان العصر الموستيري أكثر سعادة في أفريقيا منه في أوروبا؛ إذ كان الأخير مضطرًّا لأن يعيش في الكهوف، أما الإنسان الأفريقي فقد استمر يعيش في الهواء الطلق ويتمتع بالصيد، والظاهر أن الكهوف لم تكن تستعمل إلا عندما تكون بالقرب من الجبال حيث يشعر الإنسان ببرودة الثلج، أما في مصر حيث كان ارتفاع الجبال ضئيلًا، فإنه لم يعثر على كهف سكن فيه الإنسان يرجع تاريخه إلى هذا العصر، والواقع أن المحطات الموستيرية توجد عادة على سطح الأرض وهي في تبعثرها تتفق في مجموعها مع المحطات التي عثر عليها في العصر السابق، والآلات المدببة التي يمتاز بها هذا العصر، وهي التي وجدت معها النواة التي صنعت منها، فقد عثر عليها في أماكن عدة في وادي النيل وفي المناطق الصحراوية التي كانت لا تزال وقتئذ آهلة بالسكان، وقد وجدت هذه الشظايا المدببة في حالات كثيرة مختلطة مع البلط التي خلفها السكان الأُول، وهذا الاختلاط العادي لتلك الآلات الذي يمكن ملاحظته على حدود الصحراء، كما يلاحظ في مصانع تلال طيبة قد حدا بالعالم «دي مرجان» أن يعتقد أن هذين الصنفين من الصناعة قد أخرجتهما يد واحدة في عصر واحد، أما الرأي القائل بأن الصناعات الموستيرية قد وجدت في أماكن مختلفة منفصلة بوضوح عن الصناعة الشيلية الآشيلية، فأصبح لا يؤخذ به، وقد اعترف العالم «دي مرجان» نفسه في كتابه الذي طبع بعد وفاته بذلك الرأي، وتفسيرًا لذلك يمكن الإنسان أن يقارن محطات الجبل الأحمر بمحطات العباسية التي لا تبعد عن بعضها إلا بضع مئات من الأمتار، فيلاحظ الإنسان في الأولى آلات من الشظايا المدببة يرجع عهدها إلى العصر الموستيري وبلطًا من العصر الآشيلي، وكلا النوعين قد اختلط بصاحبه. كل هذه وجدت مطمورة في سفح الهضبة على طول مجرى ماء مختفٍ، أما في المحطة الثانية «العباسية» فإن الأمر على عكس ذلك فالآلات التي توجد على عمق بعيد يرجع عهدها إلى العصر الحجري القديم السفلي، أما الآلات الموستيرية فإنها تظهر على سطح الأرض، وذلك أنه لما كان تقهقر الماء محسوسًا في ذلك العصر فقد تسبب عنه ظهور رواسب متراكمة في خلال القرون التي سلفت في قعر مصب النهر الذي أصبح فيما بعد بداية الدلتا.

figure
أسلحة مدببة من الظِّرَّان (صناعة موستيرية).

وهذه الأراضي المتخلفة سمحت لبعض القبائل الموستيرية أن تعيش عليها، وقد جاءت الأبحاث العلمية المنظمة التي قام بها علماء ما قبل التاريخ وعلماء الجيولوجية منذ عدة أعوام مثبتة لهذه النتيجة الأولى، ومن أهم هذه الأبحاث ما قامت به كل من «مس كيتون» و«مس جردنر» في الفيوم. إذ عثر على بحيرة قديمة موستيرية، وهي التي عرفت بقاياها فيما بعد ببحيرة موريس، وقد بقي جزء منها إلى الآن يطلق عليه اسم بركة قارون، وكذلك عثر العالم «سند فورد» وزميله «أركل» في الوجه القبلي وفي الفيوم على محطات موستيرية على تلال قليلة الارتفاع بين أغوار الوديان الحالية، وبين السطح الأعلى الذي توجد فيه الصناعات الشيلية والآشيلية، وتدل الملاحظات العدة التي استنتجها العلماء واتفقوا عليها جميعًا أن البلاد كانت — ولا تزال — في ذلك العهد في معظمها تروى، غير أن النيل وروافده كانت قد أخذت في النقصان رغم شدة انحدارها، وكان النهر إذ ذاك آخذًا في حفر مجراه إلى عمق بعيد، وفي الوقت نفسه بدأ مجراه ينكمش كما يبدو ذلك من تدرج انكماش شاطئيه، ولا نزاع في أن الإنسان كان يتبع المياه التي لا مندوحة لحياته عنها في تقهقرها، وقد بقي هكذا يتبع سير تقهقر المياه في خلال العصور التي تلت بدون انقطاع حتى أصبح النيل على ما هو عليه الآن.

العصر الحجري القديم الأعلى

أخذت الاختلافات التي كانت بين أوروبا وأفريقيا في العصر الحجري القديم المتوسط تزداد في خلال العصر الحجري القديم الأعلى؛ إذ بدأ البرد يزداد شدة في أوروبا وكان في البداية رطبًا ثم ازداد حدة حتى صار قارسًا في النهاية، وقد شاهد الإنسان الموستيري كثرة وجود الماموث، كما وجد جاموس البحر بكثرة في العصر الشيلي، ومنذ ذلك العهد أخذ الماموث يندر وجوده في آن واحد وأخذ الحيوان المسمى بالوعل — نوع من الغزال له قرون متفرعة — يظهر، وكذلك أخذ الحصان يظهر بكثرة، أما الإنسان فقد بقي يسكن كهفه حيث عثر على طبقات جديدة البقايا عرفنا منها تدريجيًّا مستوى الأرض. أما المقابر فكانت تحفر بجوار الموقد، وقد عرفنا منها الجنس البشري الجميل الذي أطلق عليه العلماء اسم Cro-Magnon٨ الذي لا يكاد يختلف عن الإنسان الحالي في شيء ومن المدهش أنه عثر في تلك الكهوف على مظاهر فن حقيقي غاية في الإتقان، ولم نجد علامات تدل على قرب ظهوره في الفن الموستيري الخشن الذي سبقه، والواقع أنه لم يكن رائده في إخراج صناعته المنفعة المحضة، فقد لوحظ أنه لم يكن مجرد صانع بسيط، بل كان يميل بطبعه لتنميق الأسلحة والأدوات المنزلية التي كانت تحذقها يده، ولقد كان عدد القطع الفنية المصنوعة من العظم والعاج وقرون الوعول كثيرة، لدرجة أن العصر الحجري القديم الأعلى يستحق أن يطلق عليه اسم عصر فن الحفر الدقيق وعصر صناعة العاج وحفره، ولم يكتف إنسان هذا العصر بتزيين خطافه والآلات التي كان يستعملها، بأشكال هندسية أو نباتية، بل تخطى ذلك إلى رسم الأشياء الصعبة المستعصية من الأشكال الحية حتى جسم الإنسان نفسه، فنشاهد أنه كانت تحفر صور حيوان الماموث وبقر الوحش والوعل على ألواح الشيست، وعلى العظام بمهارة يظهر فيها صدق التعبير والحركات التي تكاد تكون هي الطبيعة بعينها، وكذلك كان يصور بأحجام كبيرة حيوانات أخرى تظهر فيها الحقيقة الخلابة، وقد كان يحلي بها جدران كهفه ملونة باللون الأحمر أو الأسود، وقد كانت أحيانًا تصور تصويرًا بارزًا أو تصنع من الصلصال.

وكثيرًا ما كانت هذه الرسوم والأشكال تخفى في نهاية غرف لا يكاد يصل إليها الإنسان إذا كانت ثمة محاريب سرية لديانة فطرية، كانت تقام فيها شعائر وطقوس سحرية ربما كان الغرض منها أن تجعل تحت تصرف الصياد الحيوانات التي يريد صيدها، وكذلك تمتاز صناعة هذا العصر باستعمال شظايا الظِّرَّان بطريقة حازمة، وذلك أن صانع هذا العصر ترك الصناعة الموستيرية، ورجع إلى استعمال النواة القديمة التي كان يستخرج منها أسلحته الجميلة وهي التي كانت تمتاز بطولها ورقتها. والواقع أنه كان يستطيع بوساطة تحسينات حاذقة أن يصنع من تلك الشظايا البسيطة آلات متعددة الأنواع يصعب علينا غالبًا أن نعرف كيف كان إنسان هذا العصر يستعملها، فمنها المنقش، والمبرد ذو الأسنان، والنصال ذات الحزات والنصال ذات الظهر.

figure
صناعات عظمية من العصر الحجري القديم الأعلى.
figure
آلات من الظِّرَّان ترجع للعهد الأوريجناسي.
figure
ظران من الصناعة السلوترنية.
والعصور الثلاثة التي ينقسم إليها العصر الحجري القديم الأعلى لا تهم المؤرخ المصري إلا من بعيد، وسنكتفي هنا بأن نشير إلى أنه بين العهد الأوريجانسي Aurignacien الذي يظهر فيه فن الزخرفة، والعهد المجدلي الذي يبلغ فيه هذا الفن قمته تظهر في بعض الأقاليم الصناعية الغربية التي يطلق عليها اسم السلوترنية Solutreenne، فتقدمت صناعة آلات الظِّرَّان المهذبة من الوجهين، وهي التي ظهرت في شكل سنان مدهشة على «ورقة الغار»، ويجب هنا أن نشير إلى أن صناعة الظِّرَّان كانت آخذة في الانحطاط في نهاية العهد المجدلي وأخذ يظهر في أشكال هندسية، وقد عثر على هذه الأشكال في أوائل العصر الحجري القديم الأعلى، وقد استمر إنسان أفريقيا الشمالية يتمتع في خلال هذا العصر بما كان يتمتع به إنسان العصر السابق من نعم الجو الجميل، وقد كان سكان الجبال فقط هم الذين يحتمون من غائلة البرد في الكهوف التي يستعملها أهل العصر السالف، أما سكان الهواء الطلق فكانوا يعيشون في الأقاليم ذات الارتفاعات القليلة في العادة. على أن توزيع هذه الأمطار جغرافيًّا يكشف لنا عن جو أشد حرارة من جو أوروبا في هذا العصر، ولكن أكثر جفافًا في الوقت نفسه من الجو الذي كان يسود أفريقيا في العهد الموستيري، فقد كانت الأمطار أقل غزارة؛ إذ لم تكن كافية لتغذية الأنهار التي كانت آخذة في التناقص، وكذلك البحيرات التي كان سطحها آخذًا في الانخفاض، ولذلك بدأت النباتات التي كانت تنمو على الهضاب تقل، وفعلًا أخذت الأقطار تنقلب إلى صحارٍ وبعد أن كانت جنات خضراء صارت قفارًا قاحلة يسود فيها العطش والموت الأسود. يضاف إلى ذلك أن الحيوانات التي كانت لا تختلف كثيرًا عن حيوانات عصرنا هذا لم تهاجر نحو الجنوب، فكان منها ما هو منتشر مثل النعامة والغزلان والوعل، وكذلك وحيد القرن والزرافة وحمار الوحش. أما الإنسان فكان يتبع تقهقر المياه وأخذت مساكنه تنكمش وتنحصر في أماكن خاصة ولاسيما بعد أن أخذ يهجر الأقاليم الشاسعة التي غزاها القحط ولم يعد إليها ثانية.
figure
صور عثر عليها في كهوف من العصر المجدلي.
ولا نعرف إنسان هذا العصر إلا بآثار ضئيلة حفظت لنا في الكهوف التي كان يسكنها، وجنس هذا الإنسان لا ينسب لإنسان Neanderthal٩ ولا إلى إنسان Cro-Magnon، وعلى الرغم من أنه كان ذا ثقافة إلا أنه للأسف لم يترك لنا آثارًا تمكننا من مقارنتها بما تركه لنا معاصره في أوروبا.
ولم نعثر كذلك في الأرض الأفريقية على التقسيم الواضح الذي تركه لنا العصر الحجري القديم الأعلى في الشمال، ولم نلاحظ في الواقع إلا ناحية واحدة خاصة بالصناعة الأوريجناسية وهي التي أخذت آلاتها ترتقي نحو الأشكال المصنوعة من الأحجار المكروليتية والأشكال الهندسية التي كانت على شكل أهلَّة أو شكل منحرف الأضلاع، وهذه ما يطلق عليها الصناعة الكبسية Capsien نسبة إلى بلدة جفسة في تونس.
figure
آلات ميكروليتية من الظِّرَّان.

والواقع أن الصناعة الجفسية منتشرة جدًّا في مختلف أصقاع الجزائر وتونس. على أن وجود رواسب في كهوف هذه الجهات على شكل طبقات بعضها فوق بعض يسهِّل لنا تمييز العصور حسب ترتيبها التاريخي، ومن بين هذه المحطات السطحية عدد عظيم يظهر على شكل الأمكنة التي يوجد فيها قواقع «الأسكرجو» وهي عبارة عن تلال ذات أبعاد صغيرة تتكون فيها بقايا المطاهي حول موقد القبيلة، ويشتمل على عدد لا حد له من محار «الأسكرجو» القابل للالتهاب ومعه شظايا مدببة من الظِّرَّان، كانت تستعمل — بلا شك — لاستخراج محتويات المحار، وأحيانًا كان يوجد في هذه التلال من المحار، وفي محطات أخرى جفسية بيض نعام مهشم استعمله الإنسان آنية له، فكانت تحل محل الفخار الذي لم يكن قد عرف بعد.

على أن هذه الصناعات الخاصة بالعصر الحجري القديم الأعلى لم يوجد ما يشبهها في مصر في هذا العصر، وتلك خاصية امتازت بها صناعات مصر في ذلك العهد، وقد كان العالم «دي مرجان» يظن أن الصناعة الموستيرية التي على شاطئ النيل قد امتدت حتى ظهور العصر الحجري الحديث، ولكن اتضح أن ذلك غير صحيح، وقد كان أول من برهن على ذلك العالم «فينار» إذ وجد أن المحطات التي درسها بالقرب من قرية «السبيل» في حوض «كوم أمبو» يرجع تاريخها بلا شك إلى العصر الحجري القديم الأعلى.

ووقوع المحطة على ارتفاع أعلى من مستوى غرين النيل الحديث شاهد على انخفاض المياه، الذي نعلم أنه كان عامًّا في هذا العصر، وقد سمى «فينار» هذه الصناعة باسم الصناعة السبيلية.

والواقع أن الصناعة الجفسية الحقيقية قد ظهرت في مصر أيضًا؛ إذ إنه من الصعب أن يتصور الإنسان الاختفاء التام في وادي النيل لصناعة عظيمة الانتشار في غربه، ظاهرة في شرقه في فلسطين وسوريا، والحقيقة أنه إذا كانت هذه الصناعة نادرة في وادي النيل نفسه، فإنما يرجع ذلك إلى أن السكان كانوا في ذلك الوقت يقتربون من شاطئ النهر وأن الغرين الحديث قد أخفى في معظم الأحيان صناعتهم في هذه الفترة.

ومع ذلك فإن هذه الآثار تُرى في الجهات التي بقيت بعيدة عن الفيضانات، وأخيرًا عرف أن محطة حلوان المكروليتية وهي التي وجدت فيها آلات على شكل أهلَّة وشظايا صغيرة وسكاكين ضئيلة الحجم تشبه التي عثر عليها في المحطات الأسكرجونية، ليست من العصر الحجري الحديث، بل من العهد الجفسي الحديث، وعثر كذلك العالم «بوفييه لابيير» منذ بضع سنوات على محطة مماثلة على بعد عدة كيلومترات من شمالي حلوان. وقد وجدت كذلك حديثًا بعض أسلحة صغيرة في وادي «المدمود» بالقرب من الأقصر يظهر أنها من صناعة هذا العصر، ولا نزاع في أن قلة الرواسب من الغرين في الأقاليم القاحلة التي تكتنف وادي النيل تضمن لنا العثور على مثل هذه الصناعات، ولذلك تفتح أمامنا مجاهل الصحراء اللوبية مجالًا للبحث لا حد له، وفعلًا قامت أبحاث كان من نتائجها العثور على مناقش في الفيوم وفي واحة سيوة، وكذلك قام الأمير «كمال الدين حسين» في الأقاليم المجاورة للعيينات برحلة عثر في خلالها على آثار يرجع عهدها إلى الصناعة الجفسية الحقيقية منها آلات على شكل الأهلَّة وسكاكين صغيرة تماثل ما وجد في حلوان، وقد عثر عليها في غرب مروج نخيل «مرجا» البعيدة، وكذلك عثر «شويبس» و«منشكوف» وغيرهما في خلال بعثة حديثة العهد على مواقد جفسية تحتوى على قطع من قشر بيض النعام مختلطة بآلات من الظِّرَّان، وهذه المواقد عظيمة الانتشار على الهضبة المترامية الأطراف التي تمتد غرب الواحة البحرية وواحة «الفرافرة»، وكثيرًا ما يعثر على مصانع صغيرة مجتمعة حول نقطة ماء راكدة أو جارية كما هو الحال في منخفض عين «دلا» التي تشرف على الأراضي الصخرية التي كان يعيش فيها الإنسان الموستيري منذ عدة قرون.

ويجب هنا أن نذكر صناعة غريبة في بابها ظهرت في إقليم «كوم أمبو» وذلك أنه قد لوحظ على مدرجات — ذات ارتفاعات مختلفة تنبئ عن مستويات متتابعة لبحيرة قديمة قد جف ماؤها — تطور الآلات الموستيرية نحو الانحطاط مثل الصناعة الجفسية نفسها، فأصبحت أشكالها مكروليتية وهندسية، وقد عثر في الصحراء على صخور منقوش عليها بعض صور بشرية وحيوانات ملونة، وهذه الصخور المكتوبة كما يعبر عنها بين العمال في مصر لا تعرف إذا استطعنا أن نقرِّب بينها وبين تحف الفن المجدلي الجميل التي وجدت على جدران الكهوف، ولنا أن نعدها مظهرًا لفن أقل اتقانًا ينسب للعصر نفسه، والواقع أن عدم وجود آلات من عصر هذه الرسوم الساذجة يجعل تحديد زمنها من الأمور الصعبة جدًّا، ولا شك أن الحيوانات الممثلة على هذه الصخور تشعر بأن هذه الجهات كانت معمورة، ومع كل فإننا نعرف أنها كانت مسكونة في العصر التاريخي. ويلاحظ أن الحيوانات التي وجدت مرسومة على هذه الصخور ينسب بعضها إلى أنواع حيوانات لا تزال تعيش إلى الآن في هذه الجهات مثل الغزال، على حين أن البعض الآخر مثل الفيل والخرتيت والزرافة والظباء والنعام قد تقهقر نحو خط الاستواء. أما الجاموس فقد اختفى كله. على أن وجود الكبش بين الحيوانات المستأنسة في العصر الحجري الحديث يجعلنا نعتقد أن هذه الرسوم عملت في زمن حديث، وعلى أية حال فإن هذه الرسوم لو درست درسًا علميًّا مستفيضًا لوصلنا إلى ترتيبها حسب نوعها على وجه التقريب.

figure
صور عثر عليها في بعض كهوف من العصر المجدلي.

ولا شك أن بعض هذه الرسوم يرجع إلى العهد الجفسي والبعض الآخر صناعته خشنة ويرجع تاريخه إلى ما بين العصر الحجري القديم وبداية التاريخ، وهناك رسوم أخرى عند محطات عيون الماء يرجع تاريخها إلى العهود الحديثة فمنها ما هو من العصر الفرعوني والعصر الروماني والعصر العربي والوقت الحالي.

(٢-٦) العصر المزيوليتي: الحجري المتوسط

اعتاد بعض علماء علم أصل الشعوب القديمة أن يروا بين الانتقال من العصر الحجري القديم إلى العصر الحجري الحديث فترة انتقال مميزة أطلقوا عليها اسم العصر الحجري المتوسط، والواقع أن واضع هذه التسمية هو العالم «دي مرجان»، على أن هناك جمًّا غفيرًا من علماء ما قبل التاريخ لا يعترفون بوجود هذا العصر، بل يعدون العصر الذي يلي العصر الحجري القديم، أو عصر الحجر المهذب هو العصر الحجري الحديث وعصر الحجر المصقول، والذين يعترفون بوجود هذا العصر ينسبون إليه محطة جديدة كشفت حديثًا على ساحل الدلتا الغربي في بلدة مرمدة أبو غالب، والظاهر من شكل صناعتها المكروليتية أنها تتفق مع العهد الجفسي الحديث غير أن أشكال الآلات فيها ليست واحدة، فلا توجد بينها الآلات التي على شكل أهلة أو سكاكين صغيرة الحجم، بل عثر فيها على أسلحة صغيرة جدًّا مدببة على شكل منحت مرهف.

أما في أوروبا فأهم صناعة تنتسب إلى هذا العصر هي الصناعة الآزيلية نسبة إلى كهف «مادازيل» في مقاطعة «أريج».

وذلك أن العالم «بيت» Piette وجد في هذا الكهف طبقتين إحداهما فوق الأخرى فيهما كل مميزات الصناعة المجدلية، وفوق هاتين الطبقتين بقايا ثقافة سماها هذا العالم العصر الآزيلي، وقد وجد فيها أفرانًا وأكوامًا من بقايا أكسيد الحديد وعددًا عظيمًا من عظام الغزال — وليس من بينها عظام الوعل — كما وجد ظرانًا مهذبًا من العهد المجدلي بكميات وافرة وسكاكين وخطاطيف ومصاقل وعظامًا مهشمة تدل على أنه كان يوجد في هذا الإقليم الوعل، والدب، والخنزير، وكلب البحر، والقط البري … إلخ، وقد عثر كذلك «بيت» Piette على قطع عدة من حجر الشيست عليها علامات باللون الأحمر، وعثر فوق الطبقة الآزيلية على طبقة أثرية أخيرة وفيها آلات مصقولة، ومن ذلك استخلص أن العصر الآزيلي هو الحلقة التي تربط بين العصر الحجري القديم والعصر الحجري الحديث.

(٢-٧) العصر الحجري الحديث

على أن العصر الحجري الحديث نفسه مرتبط تمام الارتباط بالعصر الذي يليه، وهو عصر بداية استعمال المعادن، ولا يتميز العصر الحجري الحديث عن عصر بداية المعادن بوجود معادن مختلفة في كل، فالواقع أن النحاس والذهب كانا موجودين في كليهما غير أنهما كانا يستعملان في العصر الأول أدوات للزينة وبدرجة محدودة. أما في العصر الثاني فكانا يستعملان في أغراض شتى وبدرجة عظيمة وبخاصة النحاس، فإنه كان يستعمل في صنع الآلات بدلًا من الظِّرَّان، ويعد علماء الجيولوجية أن العصر الحجري الحديث يبتدئ في نهاية العهد البلوستسيني وبداية العصر الهيلوسيني؛ أي العصر الرابع في تكوين القشرة الأرضية، وهذا العهد هو في الحقيقة فجر الأزمان الحديثة؛ إذ فيه أخذت أحوال الحياة العامة للإنسان تتغير تدريجًا عن أحوال الحياة التي يخضع لها بنو البشر في أيامنا هذه.

وتتفق بداية العصر الحجري الحديث مع عصر تقهقر الجليد الذي ظل إلى يومنا هذا، ففي أفريقيا الشمالية أخذ الجو يصير أكثر جفافًا وأشد حرارة من العصر السابق، وقد أخذ ذلك يظهر في الهضاب الصحراوية التي بدأت تتكون منذ العصر الحجري القديم الأعلى. والواقع أن قلة الأمطار وشدة التبخر سبَّبَا نقصًا محسوسًا في نظام المياه، ولكن على الرغم من ذلك بقيت بعض جهات الصحاري معمورة، وبخاصة الأماكن التي حول عيون الماء والبحيرات التي تكونت من مجاري مياه ضئيلة. أما باقي الجهات فقد انقلبت فيها الغابات اليانعة التي كانت تسبغ عليها بهجة ورونقًا إلى أرض عشبية لا يستطيع الإنسان أو الحيوان البقاء فيها، وفي خلال هذه المدة أخذ وادي النيل يكوِّن ببطء شكله الحالي، وكذلك بدأ النهر يسير في النظام الذي هو عليه الآن، وقد كان هذا النهر في خلال تكوينه يترك رواسبه في الوادي الذي يغطيه بالمياه، ثم ينكمش تدريجيًّا حتى أصبح على ما هو عليه الآن؛ إذ كان في كل عام يفيض على جانبيه في تاريخ معين لمدة ثلاثة أشهر، ويترك الغرين الذي يجلبه معه من منابعه مما يكسب الوادي خصبًا، وعند انتهاء هذا الفصل ينكمش مجرى النيل، ثم يترك مجموعة من المستنقعات على حافة الصحراء حيث قد خلفت مياهه الجزء الأعظم من الغرين على السهل، وفي هذه المستنقعات كانت تنبت بكثرة النباتات المائية وبخاصة السَّقي «البردي» الذي كانت تأوي إليه الحيوانات الخطرة كجاموس البحر والتمساح، أما باقي السهل فكان يغطى كل عام بنباتات يانعة تنعدم وتزول بسرعة في خلال تسعة الأشهر التي كان الحرُّ فيها مهلكًا، وكانت مخلفات هذه النباتات تئوي الحيوانات والحشرات المؤذية، وقد تكونت في مصب النهر القديم المعروف بالدلتا طبقات غرين وكانت لانخفاضها مؤلفة من مستنقعات عدة مزدحمة بالبردي ولم تكن حدودها معينة، وذلك بسبب البرك التي تغمر معظمها.

أما مساكن الإنسان منذ بداية هذا العصر فإنها تتمشى مع التغيرات الجوية التي سنبينها، فقد هاجر إلى وادي النيل بجوار مجاري المياه الغزيرة التي لا تزال موجودة، كل سكان وديان البيداء وصحراء العرب، وهؤلاء كانوا البقية الباقية من قبائل أخذت تجوب في خلال الأزمان السالفة الجبال والهضاب التي كانت تغطيها الغابات البِكْر. والواقع أن العصر الحجري الحديث هو العصر الحقيقي الذي أهلت فيه مصر بالسكان.

أما القرى فكانت واقعة على المرتفعات البسيطة التي على حافة الوادي، وكان الجزء الخصب منه في هذا الوقت أقل انخفاضًا واتساعًا مما هو عليه الآن بعد أن غمره الغرين مدة اثني عشر ألفًا من السنين تقريبًا، ولا شك في أن هذه القرى قد غطيت الآن بالطبقات السميكة من الغرين، الذي لا ينفك يزداد من قرن لقرن ويمكن العثور عليها لولا أن ارتفاع منسوب المياه في الطبقات الأرضية، الذي نلاحظه الآن، يحول بيننا وبين الوصول إلى ذلك، وهي موجودة غائرة في سفح التلال أو المرتفعات الصناعية في كل المدن المصرية التي ظهرت في فجر التاريخ، وتقع عادة بعيدة عن النيل وقريبة من الصحراء، ويظهر لنا فيها أسس يرجع عهدها إلى العصر الحجري الحديث، ولحسن الحظ عثر على بعض قرى نيوليتية واقعة في الصحراء أخطأها غرين النيل، ونخص بالذكر قرية العمري، وهي «رأس حوف» القريبة من القاهرة، وقد سميت العمري نسبة إلى الأستاذ العمري الذي عثر عليها حديثًا، وقد مات وهو في ريعان شبابه، وكذلك مرمدة بني سلامة الواقعة على حافة الدلتا الغربية، ثم ديمة، وكوم أوشيم، وقصر الصاغة، والمواقع الأربعة الأخيرة في مديرية الفيوم. أما في الوجه القبلي فقد عثر على مدينة جديدة في بلدة «دير طاسا» وفي طوخ والقطارة والجبلين.

وأهم من هذه البلاد من الوجهة الأثرية المقابر التي من العصر الحجري الحديث فإنها محفوظة وواقعة على حافتي الصحراء على كِلَا جانبي النيل؛ إذ هي بطبيعة الحال بعيدة عن الفيضان، يضاف إلى ذلك ما يعثر عليه مهملًا على سطح الصحراء من بقايا الصناعات بالقرب من القرى والمقابر، مما يدل على الأماكن التي كان لا يزال الإنسان يصنع فيها الظِّرَّان.

ويمتاز العصر الحجري الحديث بأنه عصر نهضة الصناعة، وقد كان ذلك نتيجة تحول الإنسان في ذلك العهد من عيشة الصيد إلى عيشة الرعي وفلاحة الأرض، ولذلك قامت نهضة حقيقية في صناعة الظِّرَّان؛ إذ خلفت الأشكال المكروليتية التي كانت في العصر الجفسي الأسلحة الكبيرة من الظِّرَّان، ويجب أن نشير هنا إلى أطراف الحراب والنصال المهذبة تهذيبًا جميلًا من كِلَا الوجهين، وكذلك سنان السهام المصنوعة برشاقة ودقة.

أما الآلة التي يتميز بها هذا العصر أكثر من غيرها، حتى إن اسمها أصبح أحيانًا يطلق على هذا العصر فهي الفأس المصقولة، وهي قطعة من الظِّرَّان على شكل الكلى المستطيلة وهي منحنية من أحد طرفيها لتصير قاطعة، وقد كان يركب فيها مقبض، ولذلك كانت تستعمل كفأس أو قَدُوم.

figure
رءوس سهام من جبانة «العرابة».

وبجانب الظِّرَّان كان يستعمل كذلك العظم في عمل أسنة الخطاطيف، ولعمل آلات كالمنحت أو المنقش والإبر لشغل الجلود، ومن صناعة هذا العصر كذلك النسيج وعمل الحصر والفخار الذي لم يعثر على أي نوع منه قبل هذا العهد، ومن المدهش أنه انتشر في هذا العصر بسرعة، وأصبح استعماله منتشرًا انتشارًا عامًّا، ففي مصر السفلى عثر في مرمدة بني سلامة على أقدم فخار عمله الإنسان دون استعمال أية آلة في صنعه، وأول نوع ظهر لنا كان خشن الصنع وليس عليه أي نوع من الزخرفة، اللهم إلا في القليل النادر، فإنه كان يشاهد على حافة الإناء أو مقبضه شريط محفور بالأصبع، وبجانب هذا الفخار ظهر نوع آخر دقيق الصنع لونه أحيانًا أحمر وأحيانًا أسود، وكان يصقل بكل اعتناء قبل حرقه، وأشكال هذا الفخار متعددة وتشمل كل أنواع الأطباق والأكواب والجرار والأباريق، ويلاحظ أن بعض هذه الأواني لها أزرار بارزة أو ثقوب في جوانبها، وذلك ليعلق فيها خيط تحمل به.

أما في الوجه القبلي فقط ظهر في بلدة «دير طاسا» نوع من الفخار أسود لم يحرق حرقًا محكمًا، غير أنه يمتاز بأنه أول نوع من الفخار ظهرت عليه زخرفة مرسومة بالمعنى الحقيقي، وهذه الرسوم كانت هندسية في شكلها، وقد صنعت بآلات وملئت تجاويفها بمادة بيضاء بمثابة ترصيع، وأظهر هذه الأنواع التي وجدت في «دير طاسا» إناء قعره مستوٍ ومفرطح على شكل السوسنة.

figure
فخار عثر عليه في الفيوم يمثل العصر الحجري الحديث.
figure
مجموعة فخار من العصر الحجري الحديث.

بدأ الإنسان في هذا العصر يعيش عيشة الرعاة والفلاحين، وأخذ يسكن القرى بعد أن كان جائلًا من مكان لآخر، وذلك يرجع لتغير حالة الجو في أفريقيا الشمالية، وقد نشأ عن هذا الجفاف المتوالي في هذه الجهات، بسبب قلة الأمطار أن اختفت النباتات والأشجار التي كانت تنبت على الهضاب المترامية الأطراف تدريجًا، وكذلك أصبحت مناطق الصيد قليلة، ومن أجل ذلك أخذت القبائل في الأقاليم التي كانت تسكن فيها أو تجول في أنحائها تتنبه إلى خطر الجوع من قلة حيوان الصيد، فبدأت تربي الحيوانات القليلة الخطر كالثور والخروف والماعز والخنزير، لتكون ذخيرة لهم من اللحوم الحية، وكذلك أخذت القبائل تزرع الحبوب المغذية وبخاصة الشعير.

ولما ازداد جفاف تلك الهضبة الشاسعة، ولم تبقَ منابع ماء في صحراء العرب أو في صحراء لوبيا، أخذ أفراد القبائل النيوليتية يجتمعون في قرى في وسط أراضيهم التي يتعيشون منها برعي الماشية أو بالزراعة في وادي النيل، وكانوا لا يزالون يحترفون صيد البر والبحر وذلك اقتصادًا لمواشيهم الأليفة من جهة، وليقضوا على الحيوان البري المفترس، وعلى الحيوانات المائية الضارة مثل جاموس البحر الذي كان يعد خطرًا يهدد حياتهم على الدوام من جهة أخرى، غير أن الصيد لم يكن عندهم من الأمور الحيوية بل كان شيئًا ثانويًّا، والواقع أن هذه القبائل أصبحت أهل فلاحة بالمعنى الحقيقي، وكانت قرى العصر النيوليتي مؤلفة من عدد من العشش المنفصل بعضها عن بعض، ويحتمل أنها كانت مسورة بسياج مؤلف من الأوتاد حماية لها، وقد عثر على قرى من هذا العصر في مرمدة بني سلامة، وهي على نوعين مختلفين تمام الاختلاف، فبعضها يشبه عشش الفلاحين الحاليين التي تقام في وسط المزارع وقت الحصاد، وكانت العشة تتركب من جدران مصنوعة من الغاب يحفظها من التداعي أوتاد مثبتة في الأرض، وإذا كانت العشة مبنية من جهاتها الأربع كانت تأخذ في الغالب شكلًا بيضيًّا منظمًا بعض الشيء، وأحيانًا تكون هذه العشش على شكل ستارة مقوسة المنظر محكمة القفل من الجهة التي يهب منها الريح، وبخاصة الجهة الجنوبية الغربية أو الجهة الشمالية، ولا شك في أن وجود مواقد في هذه العشش وكذلك وجود أوان مصنوعة من الفخار يدل دلالة واضحة على أنها كانت تستعمل سكنًا للإنسان. وقد عثر بالقرب من هذه العشش على أسوار بيضية الشكل لا تزيد مساحتها عن متر في نصف متر تقريبًا، ويحيط بها جدار لا يزيد ارتفاعه عن نصف متر، ويستدل منه على أنه لم يكن فوقه مبنى آخر، ولا يبعد أنه كان يُستعمل مخازن لحفظ الحبوب، وكانت جدران هذه المخازن تقام من طين معجون كتل منه الواحدة فوق الأخرى على غير نظام، أما رقعة العشة فإنها كانت تغطى بطبقة من الطين المعجون، وكانت تحفر بعض الشيء على شكل صحن، وتجهز في الجزء المنخفض منها بإناء مثقب مثبت في الأرض لجمع المياه وتصريفها. أما أساس العشة فكان يثبت في الأرض على عمق لا يزيد عن خمسة وعشرين سنتيمترًا، وكان يوجد في العشش الممتازة قصبة ساق جاموس البحر مثبتة عموديًّا في الجدار الداخلي، لتكون بمثابة سلم لتسهيل الدخول فيها، وقد وجدت بقايا حصر كانت على أرض سطح العشة، ولا ريب في أن هذه الأكواخ أو العشش كانت تستعمل مأوى لأهالي مرمدة القدماء يحتمون فيها من العواصف والمطر، ويبيتون فيها ليلًا عند اشتداد البرد، ومن المدهش أنه لا يوجد في هذه العشش أي أثر من آثار الإنسان ولا آية آلة من الآلات التي كانت تستعمل في الحياة المنزلية. أما سقف هذه العشش القليلة الارتفاع، فكان يصنع من حصير سميك من الغاب يوضع أفقيًّا، وفي حالة واحدة عثر على مكان عمودين متقابلين في إحدى هذه العشش، ومن المحتمل جدًّا أنهما كانا قد وُضِعَا لأجل أن ينصب عليهما جلد حيوان لتغطية السقف، وربما كان ذلك أول محاولة لعمل خيمة يحمي إنسان هذا العصر فيها نفسه من زمهرير البرد وقيظ الحر.

أما في قرية العمري — السالفة الذكر — فإن عششها وجدت على شكل مستدير وفي وسطها موقد، وعلى مقربة من هذه العشش كانت تقام سلات عظيمة من الحصير المجدول لها غطاء، ومدهوكة بغرين النيل كانت تستعمل مخازن لحفظ الحبوب.

أما المدافن النيوليتية فكانت كالتي في مرمدة تحفر في القرية نفسها على مقربة من الأكواخ، وكانت تحفر كلها في مكان خاص — كما هو الحال في العمري وفي كل الوجه القبلي — بالقرب من القرية على حافة الصحراء بعيدة عن فيضان النيل، وكان كل قبر على شكل حفرة بيضية المنظر كالكوخ نسه، وكانت الجثة توضع راقدة على الجانب الأيمن غالبًا في قرى الوجه القبلي، أما في الوجه البحري فكانت توضع على الجانب الأيمن مثبتة بحيث تضم الركبتان نحو الصدر في معظم الأحيان، أما وجه المتوفى فكان يتجه نحو المساكن، وقد عثر أحيانًا على جثث موضوعة على حصير أو ملفوفة في جلد أو حصير، وقد لوحظ في مرمدة بني سلامة أن يد المتوفى كانت توضع بالقرب من فمه، وأحيانًا شوهد أن إحدى أصابعه كانت في أسنانه، وكذلك لوحظ أن حبوبًا من القمح كانت مبعثرة في يده أو حول رأسه، وفي بعض المقابر عثر ضمن محتوياتها على أوان عادية ولوحة لطحن مادة الزينة وعلى آلات من الظِّرَّان، وهذه المقابر لم تكن فوقها مبان أخرى. هذا خلاف قرية العمري التي كان يعلَّم فيها القبر بعدة أحجار مكومة بعضها فوق بعض، وقد استعمل كثير من هذه المقابر لدفن أكثر من واحد من أفراد الأسرة، وفي هذه الحالة كان يجهز مكان في القبر للقادم الجديد، وذلك بجمع عظام الموتى القدماء ووضعها بعناية في جانب من القبر، وهذه العادات المأتمية التي تدل على أن القوم كانوا يعتقدون بحياة أخرى هي المصدر الوحيد لدينا عن معتقدات العصر النيوليتي، ولا يبعد قط أن تكون هذه العادات النيوليتية التي عثر عليها في هذه القبور، هي التي نهج على منوالها قدماء المصريين وبقوا يسيرون عليها في كل عصور التاريخ الفرعوني مع إدخال تحسينات عليها. أما من جهة ديانتهم الحقيقية وآلهتهم وعباداتهم فإننا لا نعرف عنها شيئًا قط، وذلك أمر طبيعي؛ لأن الكتابة لم تكن معروفة بعد.

ومن المدهش أن روح الفن في هذا العصر كاد يكون منعدمًا، وربما كان السر في ذلك أن إنسان هذا العصر كان موجهًا كل همه إلى تحقيق الأشياء العملية، فكانوا يصنعون الفخار ليستفيدوا منه لا للزينة، وكذلك كانت حليهم كالقلائد والأساور التي تصنع من العظام أو الطين المحروق نادرة وساذجة، ولا يظهر فيها أي ذوق فني، ولكن رغم انعدام الروح الفني في هؤلاء القوم بالمعنى الحقيقي فإنا نجد الرشاقة الفنية في بعض الأواني وبعض سنان الحراب، مما كان يبشر باستعدادهم للذوق الفني الذي نما فيهم فيما بعد، ومنذ ذلك العصر نشاهد بعض علامات منها نستخلص أن مدنية وادي النيل، كانت تنقسم قسمين متميزين عن بعضهما، وينحصر القسم الأول في الفيوم والدلتا والثاني في الوجه القبلي، وتمتاز مجموعة المدنية الشمالية بأنها أقدم من مدنية الوجه القبلي وأكثر تقدمًا، وهي التي ظهرت فيها سنان الحراب الفاخرة المهذبة على شكل «ورق الغار» الذي ورد ذكره — فيما سبق — وتعد هذه السنان والبلط المصقولة التي توجد في كل مكان الآلات التي يمتاز بها هذا العصر، وقد وجدت أدلة كثيرة في بحوث أخرى تثبت هذه الحقيقة.

figure
مجموعة آلات من الظِّرَّان تمثل العصر الحجري الحديث.
figure
آلات للطحن وبلط من العصر الحجري الحديث.

وليس من بين الأماكن الشاسعة التي يحتلها سكان مرمدة بني سلامة ما يمكن مقارنته بمحطات الوجه القبلي حتى في عصر نقادة، وذلك مما يحمل على الظن بأن المدنية في الوجه البحري كانت أكثر تقدمًا ونموًّا منها في الوجه القبلي ففي الوجه البحري بدأ الإنسان في تربية الخنزير وجعله أليفًا ولم يكن وقتئذ معروفًا في الوجه القبلي. وكان إنسان الوجه البحري يستعمل كثيرًا من الأواني ذات الحامل المستدير، وهذا النوع من الفخار كان نادر الوجود في الوجه القبلي، وفي حين أن فخار الدلتا كان ذا لون أحمر أو أسود كله وكثيرًا ما يكون مصقولًا، فإن الأواني المصنوعة من الطين الأسود والمزخرفة بمادة بيضاء وكذلك الأواني الحمراء ذات الحافة السوداء كانت خاصة بالوجه القبلي.

وقد أطلق علماء ما قبل التاريخ على مدنية العصر النيوليتي في الوجه البحري اسم المدنية المرمدية نسبة إلى أهم موقع عثر فيه على صناعات من هذا العصر. أما مدنية الوجه القبلي فيطلق عليها اسم المدنية الطاسية نسبة إلى بلدة «دير طاسا» القريبة من البداري، وهي التي وجدت فيها أقدم آثار مصرية إلى الآن من هذا العصر، وهذه البلدة تمتاز بحفائرها، ففي مصانعها وجدت البلطة والقدوم منتشرتين، أما أدوات الزينة فنادرة فيها وينحصر ما وجد في بعض محار وخرز مصنوع من العظام أو من الحجر الجيري الأبيض، ويلاحظ أن بين هاتين المدنيتين مدنية أخرى، وهي التي عثر عليها في الفيوم. وهي في جوهرها تميل إلى مدنية الوجه البحري، غير أن لها بعض مميزات خاصة بها. فمثلًا نجد أن مخازن الغلال تقام على مرتفع بعيدة عن المساكن ومجموعة في مكان واحد، هذا إلى أن مدافن الفيوم لم توجد بالقرية، لأنها كانت مفصولة عنها كما هو الحال في الوجه القبلي.

(٢-٨) عصر بداية المعادن

يمتاز عصر بداية استعمال المعادن بظهور صناعة جديدة، غطت على صناعة الظِّرَّان، وأعنى بذلك صناعة المعادن؛ إذ وجدت في هذا العصر آلات وحلي من النحاس والذهب في بادئ الأمر، ثم عرف فيما بعد استعمال الشبه «البرنز»، وباستعمال المعادن أخذ الإنسان الأنيوليتي يستغني تدريجًا عن صنع آلاته من الظِّرَّان والأحجار الصلبة الأخرى التي كان يستعملها في العصور السابقة. على أن صناعة الظِّرَّان لم تدرس جملة، بل بقيت بعض الشيء حتى في العصور المصرية التاريخية؛ وذلك لأن المصري كان بطبعه عبدًا للتقاليد والعادات، فكان يستعمل الظِّرَّان في أوج مدنيته سنانًا للسهام وغير ذلك. هذا العصر قد أطلق على العهد الذي سبق بداية التاريخ أي عهد ظهور الكتابة في مصر.

والواقع أننا إلى الآن في كل بحثنا عن مدنية ما قبل التاريخ في العصور القديمة، لم نجد مميزات بارزة يمتاز بها وادي النيل عن باقي ممالك العالم، اللهم إلا بعض خصائص قليلة، ولكن من جهة أخرى لاحظنا على وجه عام أن مدنية الوادي تتفق في مجموعها مع المدنيات الأوروبية في تلك العهود السحيقة في القدم، وكذلك تتمشى بوجه خاص مع عصور ما قبل التاريخ العام في أفريقيا الشمالية.

ومع أن عصر بداية المعادن في أوروبا يتفق مع عصر ظهور المعادن في وادي النيل، إلا أننا نشاهد من جهة أخرى أنه قد ظهرت فيه مميزات خاصة معلمة، أخذت تزداد وضوحًا، حتى إنها صبغت ثقافة هذا العصر بصيغة أصلية، وأعطته لونًا خاصًّا ميزه عن الممالك المجاورة، ويمكن تشبيه هذه المدنية الخاصة بانبثاق غصن ناشئ أينع في أصل شجرة في شيخوختها، فأزهر وأثمر ثمارًا مختلفة أنواعها، وهذه الحياة الجديدة التي انبعثت في البلاد دب دبيبها في كل نواحي الفن والصناعات، كصناعة الفخار، وفي حفر العاج والخشب، وتهذيب الظِّرَّان، وصنعه آلات بلغت الدرجة القصوى في الإتقان.

ويرجع الفضل في إبراز هذه الثقافة المصرية من مكمنها في بدايتها إلى جهود العلماء الذين وقفوا حياتهم عدة أجيال على القيام بالحفائر، التي أنتجت العناصر التي منها تتألف تلك الثقافة، لذلك كان لزامًا علينا قبل أن نبدأ في درس هذه المدنية الأنيوليتية أن نمر سريعًا بكلمة موجزة على أعمال هؤلاء الباحثين في الحفر والتنقيب.

وأول من فتح الطريق في هذا المضمار هو الأستاذ «فلندرز بتري»، وذلك في عام ١٨٨٩ عندما قام بحفائر في اللاهون «كاهون»١٠ وغيرها عند مدخل الفيوم، ثم تابع أعماله في ميدوم، فطوخ، فالبلاص. وكذلك قام العالم «دي مرجان»، «وأملينو» الفرنسي، ثم «ماك إيفر»، «وجارستانج»، بحفائر في نقادة، و«العرابة»، والكاب، وغيرها من المواقع الأثرية.

أما في بلاد النوبة فقد قام الأستاذ «ريزنر» بحفائر في المواقع التي كان يهددها تعلية خزان أسوان، وقد وصف لنا البحاثة «ستون كار» مصنعًا عظيمًا عثر فيه على سكاكين ذات وجهين فخمة الصنع وذات أحجام خارقة للحد المألوف، ويقع هذا المصنع في «وادي الشيخ» بالقرب من بلدة مغاغة بجوار الآبار القديمة التي كانت تحفر لاستخراج الظِّرَّان.

وفي عام ١٩٢٤-١٩٢٥ بدأ المستر «برنطون» بعمل حفائر في جبانات بالقرب من بلدة البداري الحالية، وقد أماطت بحوثه اللثام عن صفحة جديدة في تاريخ ما قبل الأسرات في مصر. أما في الدلتا فقد قام «برشيا» العالم الأثري الإيطالي بحفائر في كوم القناطر، وهي أول محطة كشفت من هذا العصر، وقفَا أثره الأستاذ «ينكر» ببحوث في تل اليهودية بالدلتا أيضًا، وحديثًا كشف كل من الأستاذ مصطفى عامر والأستاذ «منجين» عن محطة هامة في العصر الأنيوليتي في المعادي بين القاهرة وحلوان.

أما الصحراء فإن الأبحاث لم تقم فيها على قدم وساق، كما كانت في الوادي نفسه، ومع ذلك فإن البعثات القليلة التي بحثت فيها قد أسفرت عن بعض نتائج، فالبعثة التي قام بها الأمير كمال الدين في الصحراء حتى «جبل عوينات» عثر فيها على محطات مما قبل الأسرات، وجدت فيها أسلحة وسكاكين عظيمة الحجم من الحجر النوبي، وبالقرب منها عثر على أرحاء وأجران مصنوعة من حجارة ضخمة، وذلك برهان جديد على أنه كان يوجد في هذه الجهات واحات، ولكنها طبعًا قد اختفت بجفاف العيون التي كانت تغذيها، ولا مراء في أنها كانت يانعة في هذا العصر، ومن المحتمل جدًّا أنها كانت لا تزال آهلة بالسكان في العهد الفرعوني.

وقد عثر حديثًا العالم «بوفييه لايبير» على جبانة من نوع خاص في صحراء العرب على مسافة قريبة من القاهرة تشبه في أوروبا ما يطلق عليه اسم دلمن Dolmens، وكل واحد من قبورها يتألف من حجر عظيم مستوي السطح موضوع على حجرين عموديين، وهو أول شيء من هذا النوع عثر عليه في مصر، وهذه المقابر قد أقيمت على حافة وادي التيه، ولما كان وجه الشبه بين هذه المقابر ومثيلاتها في أوروبا عظيمًا فقد نسبها الأب «بوفييه» إلى العصر الأنيوليتي، غير أنه يظن كذلك أنها قد تكون صنعت في عصر متأخر عن ذلك.
ولما كانت الكتابة منعدمة في العصر الأنيوليتي حتى ظهور الأسرة الأولى، كان من الصعب على المؤرخ أن يضع تواريخ مؤكدة للمدنيات المتتالية التي مرت فيها مصر في أقدم عهودها، لذلك يجب أن نكتفي الآن بأقل الفروض. إذ الواقع أن بداية هذه المدنية ترجع بنا إلى عهود يكاد مقدار ألف سنة فيها، لا يعد بالشيء الخارق للعادة من حيث الزمن، ومما يؤسف له أن نهاية هذا العصر الذي هو في الواقع بداية العصر التاريخي لم يتفق عليه بصفة قاطعة للآن بين علماء الآثار، بل الأمر تخطى ذلك في النزاع، حتى إن كل تأريخ قبل عام ١٥٨٠ق.م في التواريخ المصرية موضع شك، ولا أدل على ذلك من أن السير «فلندرز بتري» قدَّر عُمْر المدنية البدارية بنحو ١٠٠٠٠ إلى ١٣٠٠٠ سنة قبل الميلاد، على حين أن أثريين آخرين قدروا عمرها بنحو ٥٠٠٠ سنة. على أن مثل هذه التواريخ لا تخرج عن أنها محض تخمين، ولا ترتكز على أساس علمي ومع أنه كان من المتعذر وضع تاريخ مؤكد لبداية عصر ما قبل الأسرات أو نهايته، فإنه من الممكن أن يقتفي الإنسان تتابع الخطوات المختلفة التي حدثت في خلال هذا العصر، وهذا الإمكان قد نشأ نتيجة للبحوث التي قام بها المستر «فلندرز بتري» في «ديو سبوليس برفا»١١ لتتابع تاريخي خاص في أنواع الفخار كشفت عنه حفائره، وذلك أنه لاحظ أن نوعًا خاصًّا من أواني الفخار كان يحدث فيه انحطاط منظم، وذلك أن البروز الذي كان في الأصل بمثابة يد الإناء، أخذ في التلاشي تدريجًا حتى أصبح لا يزيد عن خط متموج لا معنى له حول رقبة الإناء، وهذا الانحطاط في يد الإناء صحبه تدهور مشابه له في شكل الإناء العام، ولذلك كان من الممكن أن يضع الإنسان تتابع تاريخيًّا لكل الأواني التي من هذا النوع، وبالوصول لهذا الترتيب كان من السهل أن يجد الإنسان أدوات أخرى من نوع هذه الأواني قد تدرجت في التغير.

وقد اتخذ أساسًا للتغير في هذا النوع من الفخار فترات معينة تبتدئ برقم واحد وتنتهي برقم مائة، وقد ترك الفترة من رقم ١–٢٩ خالية لما عساه أن يكشف من فخار أقدم من الأنواع التي عثر عليها في قبور قديمة. أما الفترة بين ٣٠–١٠٠ فإنها تمثل ما قبل الأسرات وأوائل عصر الأسرات، وقد صار من الممكن إذن أن يضع الإنسان في الفترات المتتابعة مجموعة هذا النوع من الفخار حسب طبقته المختلفة في القدم، فإذا كشف قبر مما قبل الأسرات، ولم يكن من الممكن وضع تأريخ محدد له، فإن مكانته في التأريخ التتابعي يمكن الوصول إليها في الحال، وذلك بمقارنة الفخار الذي عثر عليه فيه بالطبقة المقابلة للفخار الذي اتخذ نوعه أساسًا.

وهذا النظام للتأريخ التابعي، كما يطلق عليه، برهن على أنه أداة قيمة إلى أبعد حد لتحديد الآثار التي وجدت في عصر ما قبل الأسرات، ولا نزاع في أن هذا النوع من التأريخ لا يمكن أن يعطينا فترات متساوية من الزمن في كل طبقة؛ إذ من الجائز أن تكوِّن طبقة أطول أو أقصر جدًّا عن التي تليها مباشرة، ولكن على أية حال يمكننا بوساطة هذا التأريخ أن نحدد ما سبق وما لحق بالنسبة لترتيب الحوادث الحقيقي.

وعلى هذا الأساس ينقسم عصر ما قبل الأسرات إلى ثلاثة عهود:
  • (١)

    عهد ما قبل الأسرات القديم وتأريخه التتابعي من ٣٠–٤٠.

  • (٢)

    عهد ما قبل الأسرات المتوسط من ٤٠–٦٠.

  • (٣)

    عهد ما قبل الأسرات الحديث من ٦٠–٧٨ وعند هذا الرقم يبتدئ العهد الأول للأسرات، وذلك بظهور الأسرة الأولى التي بدأ التأريخ فيها بالكتابة.

وقد عثر حديثًا على مقابر أقدم من التي وجدها «فلندرز بتري»، ونعني بذلك المقابر التي كشفها المستر «برنطون» في البداري، وقد عثر فيها على أنواع جديدة من الفخار، وقد خصص لها «بتري» التأريخ التتابعي من ٢٠–٢٩ وسنشرح ذلك في حينه.

  • مدنية الوجه البحري: لقد ظلت البحوث العلمية عن عصر ما قبل التاريخ في مصر موقوفة على الوجه القبلي إلى زمن غير بعيد ظنًّا من العلماء أن كل المدنية القديمة أصلها من الوجه القبلي إلى أن أقام الأستاذ «ينكر» ببحوثه المشهورة عن عصر ما قبل التاريخ في جهة مرمدة بني سلامة، وأسفرت بحوثه عن مدنية يرجع عهدها إلى العصر النيوليتي، وقد تكلمنا عن هذه المدنية في حينها، وقد قام بعده الباحثون في هذا الميدان في الوجه البحري، فوفق أخيرًا العالمان مصطفى بك عامر والأستاذ «منجين» إلى كشف محطة جديدة في المعادي يرجع عهدها إلى عصر ما قبل الأسرات الحديث، ومن ذلك يتضح لنا أنه توجد فجوة عميقة بين عصر مرمدة بني سلامة الذي بدأ في أوائل العصر الحجري الحديث وبين عصر المعادي الذي يشرف على حافة التاريخ أو بعبارة أخرى يختم به عصر بداية المعادن، ولا يبعد أن تملأ هذه الفجوة العميقة بكشف جديد في هذا المضمار في السنين المقبلة، وقد كشفت آثار من هذا العصر في الوجه البحري في طرخان، وطرة.
  • مدنية الوجه القبلي: ومن جهة أخرى نجد أن المدنية الأنيوليتية في الوجه القبلي معروفة بدرجة كبيرة، وتبتدئ بعصر البداري الذي جاء مباشرة بعد عهد «دير طاسا».

    والبداري — كما ذكرنا — بلدة تقع بالقرب من «قاو الكبير» في إقليم أسيوط، وقد كشف فيها عن موقع أثري موضعه في التأريخ التتابعي الذي اخترعه «فلندرز بتري» بين ٢٠–٢٩، وهو أقدم تاريخ عرف إلى الآن في عهد ما قبل الأسرات، وقد عثر على الصناعات البدارية في بلاد النوبة.

    أما العصر الذي يلي عصر البداري، فيطلق عليه العهد النقادي نسبةً إلى بلدة «نقادة» القريبة من «قوص»، وقد قام بحفائر فيها الأستاذ «بتري» والمستر «كويبل» عام ١٨٩٥، وأهم مواقع ما قبل الأسرات في الوجه القبلي طوخ، وبلاص شمالي الأقصر، ثم «ديوسبوليس برفا» بالقرب من نجع حمادي والعامرة، ونجع الدير والمحاسنة وبيت خلاف، وجرزة، وأبو صير الملق وحرجة عند مدخل الفيوم.

  • البداري: كان أهل عصر البداري بحكم طبيعة البلاد زراعًا للأرض، وذلك بعد أن انكمش الوادي وأصبح محاطًا بالصحراء على كِلَا حافتيه، وكان إنسان البداري قصير القامة ضئيل الجسم طويل الجمجمة، ويمكن مشاهدة هذه الخواص في المصري الحالي الذي يظن أنه من نسلهم، والظاهر أنه كان يختلط بدمه بعض دم الزنوج.

وقرى هذا العصر كانت مجموعة من الأكواخ البيضية الشكل أو المستديرة، وكانت مصنوعة من مواد خفيفة مثل البوص والأخشاب، ولم نجد بينها المساكن التي تشبه بيوت أهل مرمدة بني سلامة، وهي التي كانت تحتوى على حجرات مقببة مصنوعة من الطين المعجون، وقد استعملها السكان غرفًا للنوم. على أن هذا النقص في البداري قد يكون لمجرد الصدفة، ولكن من المحتمل جدًّا أنه يدل على أن هذا التقدم في بناء المساكن في الدلتا لم يكن قد أدخل على مباني الصعيد إلى هذا الوقت، وكان يوجد في وسط الكوخ حفرة تقوم مقام الموقد. أما المواد الغذائية فكانت تحفظ في سلة. وتدل الآثار التي عثر عليها في هذه الأكواخ على تقدم عظيم في أسباب الراحة، إذ كان أثاث المنزل يحتوي على حصير، بل وعلى أسرَّة من الخشب كانت توضع عليها وسائد من القماش أو من الجلد محشوة بالقش.

وقد أخذت أسباب الراحة في المساكن تزداد في خلال عصر ما قبل الأسرات، فمثلًا في عصر ما قبل الأسرات القديم في بلدة «الحمامية»، كانت الأكواخ المستديرة الشكل لا تزال مستعملة بجانب المساكن البيضية الشكل المقامة من الطين المعجون، وتشبه ما عثر عليه في «مرمدة بني سلامة» وليس بينهما خلاف إلا أن كتل الطين التي بنيت بها مساكن الحمامية، كان لا يوضع بعضها فوق بعض مباشرة، بل كان بين كل صفين من كتل الطين رباطان من البوص، والظاهر أن حوالي التأريخ التتابعي ٤٠ حدث تغيير في شكل الكوخ. إذ نشاهد أن البيت المستدير الشكل قد أهمل وحل محله الشكل المستطيل. وحوالي التأريخ التتابعي ٤٥ لوحظ أن العشش التي كانت تقام من مواد خفيفة، أخذت مكانها العشش التي كانت تصنع من الطين المعجون، ويدل وجود الموقد في أحد الأكواخ في «حمامية» على أن هذا النوع من المساكن قد خلف النوع السابق.

وفي خلال عصر ما قبل الأسرات الحديث ظهر تقدم محسوس في فن البناء عثر عليه في الوجه البحري في محطة المعادي التي كشفها الأستاذ مصطفى عامر بك؛ إذ إن القرية التي أميط اللثام عنها في هذه الجهة تتألف من منازل ذات شكل مستطيل، وقد استعمل في بنائها الطوب المجفف أي اللَّبِن، الذي خلف كتل الطين غير المنتظمة في الشكل، وقد كانت تستعمل دون أن تجفف، وهذا التقدم العظيم في فن المعمار لا بد أنه قد حدث في الدلتا في خلال العصر الطويل الذي يفصل عصر مرمدة عن عصر ما قبل الأسرات الحديث، وهذه الفترة مجهولة لنا تمامًا في تاريخ الدلتا. أما مخازن القوم التي كانت تصنع أوَّلًا من سلات مجدولة تدهك بالطين بعد ذلك، فكان يستعمل بدلًا منها في عهد المعادي أوان عظيمة الحجم مصنوعة من الفخار المحروق.

أما مقابر عصر بداية استعمال المعادن في الوجه القبلي، فأنها كانت تقام على مسافة من القرى كما كان الحال في العصر الحجري الحديث، ففي عهد البداري كان القبر لا يزال حفرة بيضية أو مستديرة الشكل، محفورة في الأرض نفسها على بعد بسيط دون أي كساء أو طلاء من الداخل. أما المتوفى فكان يكفن في حصير أو في جلد ماعز، وعادةً كان يوضع في تابوت ويغطى بالأعشاب، وقد عثر بجانب بعض المتوفين على ملابسهم اليومية وحليهم، وكانت رأس الميت تستند على مخدة كأنما يريد النوم، وقد لوحظ أن وجهه كان متجهًا نحو القرية، وفي أغلب الأحيان كانت يده ترفع نحو فمه. وقد كان يوجد بجانبه إناء وبعض آلات من النحاس ومن الظِّرَّان والعظم، وأحيانًا وجدت لوحة من الأردواز لطحن التوتية مما يدل على أن تجميل العين والوجه كان شائعًا، ووجدت في بعض قبور هذا العصر دمى تمثل سيدات صنعت من العاج أو من الطين، والظاهر أنها كانت تقدم هدية للمتوفى، وقد فسر بعض علماء الآثار وجودها بأنها تمثل إلاهات أو أنها تحل محل زوجة المتوفى في قبره.

والظاهر أن التابوت المصنوع من الخشب أو من الفخار لم يكن معروفًا في مقابر البداري، ولكن من ناحية أخرى عثر على صندوق من القش المجدول مما يدل على أن الإنسان كان قد بدأ يفكر في هذا العصر في محاولة صنع تابوت ما، وتدل بقايا البوص التي عثر عليها في هذه المقابر أنه كان يقام فوق الجثة مبنى من المواد الخفيفة ليحميها من التراب الذي كان يهال على المتوفى بعد الدفن، وليكون له بمثابة غرفة تحت الأرض، وقد لوحظ أن كل قبر كان مستقلًّا عن الذي بجواره، ومن الأشياء الهامة التي عثر عليها في هذه المقابر الأمشاط المصنوعة من العاج، وكانت تزين بزخرفة، وكذلك عثر على دبابيس من نفس المادة كانت تستعمل لشبك الملابس، وعثر على خرز أنبوبي الشكل مصنوع من النحاس وعلى خرز مطلي بالمينا من حجر الكورتس ومن أحجار أخرى كلها كانت تلبس للزينة، أما أصداف البحر الأحمر فإنها كانت تستعمل في عمل الأحزمة والأسوار والقلائد.

وفي خلال عهد نقادة تقدمت طريقة الدفن بسرعة، فأصبح شكل اللحد سواء أكان بيضيًّا أم مستديرًا يشبه شكل العشة، ولما تغير شكل الكوخ وأصبح مستطيلًا تغير كذلك شكل القبر وأصبح شبه مستطيل، وكان هذا النوع الأخير صغير الحجم في أول الأمر، ولكنه كان يكبر حسب ثراء المتوفى، وقد عثر على مقبرة نموذجية لهذا النوع من الدفن في «العمرة» ومحتوياتها لا تقل عن ٢١ إناءً عظيمًا مصفوفةً على مقاعد على جوانب ثلاثة من حفرة الدفن، وكذلك عثر على قبر لفرد من علية القوم يحتوي على ١٢ إناءً كبيرًا مصفوفةً صفين على أحد جوانب القبر وذلك عدا اثني عشر إناء أخرى أحدها فخار مصقول من طرفيه، وهذا الثري لم توضع جثته في تابوت، بل في شبه التابوت؛ إذ حاول أن يصنع لنفسه صندوقًا مركبًا من ألواح مربوط بعضها ببعض بحبل، وهذا الصندوق يرتفع عن سطح رقعة القبر بنحو ٢٥ بوصة، وكان القبر من جهة أخرى مسقوفًا بعصي دهكت بالطين، وهذا مثل من الأمثلة التي يظهر فيه الفرق بين طبقات الشعب.

أما الخطوة الثانية في شكل إقامة المقابر فنتيجة للرقي الطبيعي الذي ينشأ من الشكل السابق، وذلك أنه لما كثر عدد القربان فإن البروز الذي كانت توضع عليه أواني القربان في القبرين السالفين قد صار رفًّا، أخذ يكبر تدريجًا حتى أصبح صاحب المقبرة يشعر بأنه سيضايقه في مضجعه الأخير، ومن أجل ذلك بدأت المقابر تأخذ شكلًا جديدًا في عهد ما قبل الأسرات الحديث، فصار شكل كل المقابر مستطيلًا، وفي الوقت نفسه أخذ استعمال بناء القبر ينتشر، وذلك لتدعيمه وجعله صلبًا، وبتقدم فن المعمار الأول أدخل بناء الجدران باللَّبِن، وكذلك استعملت القباب في المقابر، وأصبح من السهل عمل التحسينات اللازمة، فأضيفت حجرات مجاورة لحجرة الدفن الأصلية خصصت للمئونة والقربان، هذا إلى أنه صنع في القبر سلم للنزول والصعود بوساطته، وسواء أكان القبر في هذا العهد مسقوفًا أم غير مسقوف، فإنه لم يظهر منه أي جزء على سطح الأرض يعرف بوساطته أين يرقد المتوفى، وربما كان ذلك خشية أن يسطو اللصوص على محتوياته، ومن العادات الغريبة التي ظهرت في أواخر هذا العصر دفن المتوفى تحت إناء عظيم منكس، وقد أخذت عادة لف الجثة في حصير أو جلود تختفي تدريجًا، وأخذ يحل محلها وضع الجثة أوَّلًا في سلة من البوص المجدول، ثم توضع بعد ذلك في تابوت حقيقي مصنوع من الفخار أحيانًا، وغالبًا يكون مصنوعًا من ألواح كما سبق، وكانت عادة دفن عدد عظيم من الأجسام في حفرة واحدة محصورة في عهد ما قبل الأسرات القديم، وقد لوحظ أحيانًا أن الصياد كان يدفن بجانبه كلاب صيده.

وكان المتوفى سواء أكان غنيًّا أم فقيرًا يوضع في القبر مقرفصًا على جانبه الأيسر، اللهم إلا بعض شواذ — كما شوهد في العمرة — حيث وجدت بعض الأجسام موضوعه على الجانب الأيمن لسبب مجهول، وفي العادة كانت توضع الأجسام متجهة من الشمال إلى الجنوب؛ أي في الجهة الموازية لسير ماء النيل، وفي أغلب الأحيان كانت الرأس توضع في الجهة الجنوبية، وهناك بعض شواذ كثيرة لهذه القاعدة، وقد فسر بعض علماء الآثار سبب وضع الجثة مطوية في القبر بأنها الحالة الطبيعية التي ينام بها الإنسان عادةً، وقد فسرها آخرون بطريقة علمية مقبولة أكثر من السابقة، هي أن الجنين يكون بهذا الوضع في بطن أمه، ولكن الظاهر أن المصري لم يفكر لا في هذا التفسير ولا في ذاك، بل الواقع أن المصري ربما كان قد تعود دفن الجثة من بادئ الأمر في مكان ضيق اقتصادًا، ثم أصبحت عنده عادة دفن الجثة بهذا الشكل، فلم يتخلَّ عنها حتى بعد أن أصبح المكان متسعًا، والمصري في كل أطوار حياته عبدًا لعاداته، وقد لوحظت بعض ظواهر غريبة في بعض المقابر يجدر بنا الإشارة إليها. ومن ذلك عثر على عدد من الأجسام منفصلة عظامها، وليست موضوعة في ترتيبها الطبيعي، مع أن كل الدلائل تدل على أن القبر لم يمس منذ الدفن، وقد فسَّر بعض العلماء ذلك بأن هذه الأجسام مزقت بعد الموت أو قبل الدفن، وقد أنكر بعضهم تلك العادة على المصريين، ولكن من جهة أخرى عثر في «دشاشة» التي يرجع عهدها إلى ما قبل الأسرات الحديث على مقابر سليمة لم تمسها يد إنسان، ووجدت فيها الأجسام منفصلة عظامها عن بعضها ثم لُفَّتْ في الكتان الذي وجد أنه لم يمس بعد في العصور التي تلت، وذلك مما يدل على أن فصل العظام كان شائعًا في عصر ما قبل الأسرات، ومن المستبعد جدًّا أن لحمها كان يأكله الإنسان كما ادعى بعض العلماء.

وربما كان أغرب ما أظهرته لنا مقابر ما قبل الأسرات وجود عدد لا يستهان به من الأجسام، فيها الجزء الأمامي من عظم الساعد مكسور، وقد ذهبت العلماء في تفسير ذلك مذاهب شيء، ولم تقتصر هذه الظاهرة على الرجال، بل وجدت في النساء أيضًا، والتفسير الذي يقبله العقل بعض الشيء أنه ربما كان هناك سبب جنازي يدعو لهذا الكسر الذي كان يحدث بعد الموت بلا شك، أما السبب الذي دعا للكسر فسيبقى بدون تفسير على الأقل الآن.

وتدل نتائج الحفائر التي عملت في عصر بداية المعادن أو عصر ما قبل الأسرات على أن المصري كان قد بلغ شاءوا بعيدًا في المدنية، وأنه قد وصل إلى درجة جعلت بينه وبين عصر الوحشية هوة سحيقة، ومهما نظرنا إلى صناعته في أي عهد من عصر بداية المعادن فإنا نجده قد وصل إلى مستوى يجعله في مصاف المتمدينين، فقد كان في هذا العهد كما كان أجداده في العصور السالفة من أمهر الصناع والفنانين في عمل الظِّرَّان، وقد كان عصر بداية المعادن يمتاز باستعمال الظِّرَّان والنحاس لصنع آلاته وحليه جنبًا إلى جنب، وتدل البحوث على أن صناعة الظِّرَّان كانت سائدة الاستعمال في عصر البداري وفي عهد ما قبل الأسرات القديم أي إلى عهد التتابع التأريخي ٤٠ وأحياء هذه الصناعة التي بدأت في العصر السالف استمر راسخ القدم بظهور السكاكين ذات الوجهين والسكاكين القصيرة ذات الطرف المستدير، هذا إلى ظهور رءوس الحراب ذات اللسانين، وكانت تصنع من شظايا غير منتظمة الشكل ولكن بعناية، وكان النحاس في هذا العهد لا يزال مادة نادرة الوجود، ولا يستعمل إلا في صنع الآلات ذات الحجم الصغير كالدبابيس التي كانت تستعمل لشبك الجلود بعضها ببعض، والإبر والكلاليب، والخطاطيف والمقاشط والمقصات، ولم يكن هذا المعدن يستعمل في حالته النقية بعد، أما الآلات التي كانت تصنع منه فكان يحصل عليها بالطرق.

ومنذ التأريخ التتابعي ٤٠ أخذت صناعة الظِّرَّان تتقهقر أمام صناعة النحاس، التي بدأت تزداد تدريجًا حتى أصبحت معظم الآلات التي يستعملها الإنسان في حياته اليومية تصنع من هذه المادة.

والواقع أن أهم ظاهرة بارزة في مدنية ما قبل الأسرات هي اكتشاف معدن النحاس واستعماله في معدات الإنسان في معظم مرافق الحياة، وذلك على الرغم من وجود الذهب والفضة وإن كانت الأخيرة نادرة، هذا إلى أن الحديد المطروق قد ظهر كذلك في هذا العصر واستعمل في صنع خرز أنبوبي الشكل، ولكنه كان نادرًا أيضًا، ولذلك كانت قيمته عظيمة لدرجة أنه كان ينظم في القلائد الغالية مع حبات الذهب، ولكن النحاس كان في هذا العصر «ملك المعادن»، ولذلك نتساءل من أين أتى هذا المعدن؟ وكيف كشفت مادته أولًا؟ والظاهر أننا مدينون بكشف النحاس واستعماله لأول مرة إلى إنسان مصر في عهد ما قبل الأسرات. على طريق أن طريقة كشفه ليست واضحةً لدينا، ولا ترتكز على أساس تاريخي، والمحتمل جدًّا أنها جاءت بطريق الصدفة المحضة إذا قبلنا إحدى النظريتين اللتين فرضهما كل من الأستاذ «أليت سمث» والأستاذ «برستد»، وقد عزا كل منهما السبب في كشف معدن النحاس إلى استعمال المصري مادة التوتية «نترات النحاس» — التي سبق أن تكلمنا عنها — وهي مادة كانت توجد في معظم القبور المصرية في هذا العصر، ومعها لوحة من الأردواز لتطحن عليها قطع التوتية، وكان يستعمل لطحنها حصاة كبيرة من الحجر الصلب، وكان الغرض من وجودها مع المتوفى أن تكون مادة للزينة ودواء للعينيين لحفظهما من تأثير أشعة الشمس في الصحراء، وقد استعملها الرجل والمرأة على السواء لهذا الغرض.

أما نظرية الأستاذ «برستد» في اكتشاف النحاس فإنه تصور المُعَدِّن المصري في شبه جزيرة سينا قد وضع رحله في مكان، واتفق أنه أوقد ناره على قطعة من النحاس الغفل «التوتية» الذي كان مبعثرًا بكثرة هناك، وفي الصباح عندما كان يريد كنس بقايا موقده وقع نظره على قطع صغيرة من مادة لها بريق ولمعان، وبالطبع كانت هذه القطع الصغيرة ما أنتجه اختلاط النار بالمعدن الغفل، ومن هذه اللحظة علم المصري أنه يمكنه الحصول على هذا المعدن بصهر حجر التوتية في النار، وبهذه الكيفية يقول الأستاذ «برستد» إن الإنسان المصري تعلم لأول مرة في حياته كيف يمكنه أن يحصل على معدن أصبح بوساطته يضرب بسهم صائب في الصناعات وفي الهندسة.

أما الأستاذ «أليت سمث» فإنه يعزو هذا الكشف إلى زوج المُعَدِّن فيقول: إن المُعَدِّن قد جلب معه حجر التوتية من شبه جزيرة سينا إلى بيته، واتفق صدفة أن زوجته كانت تستعمل عجينة من هذا الحجر لتجميل وجهها، ولكن حدث أن سقطت هذه العجينة من يدها وهي أمام الموقد في النار، والظاهر أن ناره كانت متأججة فلم يمكنها إنقاذ عجينتها، وفي اليوم التالي عندما كانت تنظف بقايا نار أمس في الموقد لتجهز الإفطار، وجدت لدهشتها أن قطعة عجينة التوتية التي سقطت منها بالأمس قد اختفت، ولكنها في الوقت نفسه وجدت بعض قطع صغيرة من معدن لونه أحمر جميل، مما جعلها تنسى خسارة أمس، لأنها وجدت بدلًا منها مادة أخرى جديدة تخلفت من حرق التوتية، يمكنها أن تستعملها في صنع أدوات زينة جديدة.

وقد كان من نتائج هذا الكشف العظيم، أن أخذت صناعة الظِّرَّان منذ تأريخ التتابع ٤٠ تتقهقر أمام صناعة النحاس التي أخذت في الانتشار والتحسن السريع، فأصبح يصنع منها معظم الآلات التي كان يستعملها إنسان هذا العصر، ومن المدهش أنه كلما كان يقل استعمال الظِّرَّان في مهام الحياة كلما أخذ الصانع في تحسين الآلات التي كان يستخرجها منه، وربما كان السبب في ذلك أنها كانت تعد في هذا الوقت أدوات زينة وكماليات، وبجانب هذا الظِّرَّان الفاخر المتقن الصنع، كانت تستعمل حصوات معينة الشكل «الزلط» يهذب أحد طرفي الواحدة منها ويرهف، ولكن في العصر نفسه أخذ النحاس يحل محل الظِّرَّان بكثرة مضطردة في عمل آلات الحرب، ورغم النهب المنظم الذي حدث في مقابر هذا العصر للحصول على المعادن والأشياء الثمينة، فإنه عثر فيها على مقصات، وقُدُم، وأزاميل، وخناجر، وخطاطيف من النحاس، وقد عثر كذلك على فأس ذات وجهين يرجع عهدها إلى الرقم ٨٠ من تأريخ التتابع مما يثبت استعمال المعادن بدرجة عظيمة في هذا الحين.

أما صناعة النسيج التي ظهرت بوادرها في العصر النيوليتي، فإنها أخذت تنمو وتتقدم منذ بداية عصر استعمال المعادن، وبقايا الأقمشة التي عثر عليها في مقابر البداري لا تزال خشنة الصنع ساذجة، ولكنها في الوقت نفسه كانت صلبة منظمة النسج، وهذه الأقمشة كانت تصنع ملابس، هذا إلى أن صناعة الجلود أخذت في التقدم. أما صناعة النجارة الدقيقة في هذا العصر، فلم يبقَ منها إلا بقايا لا تكاد تذكر، ولكن رغم ذلك فإن آثار أخشاب الأسرة التي عثر عليها في البداري، وبقايا توابيت عصر ما قبل الأسرات المتوسط والآلات النحاسية التي ظهرت خلال رقم ٥٥ من التأريخ التتابعي، كل هذه الأشياء تدل على انتشار هذه الصناعة لتزيين مساكن عصر بداية المعادن.

ومن أهم مميزات عصر بداية المعادن صناعة الفخار؛ إذ بلغت قمتها في مصر، ولم يكن هناك منافس للفخار في هذا العهد إلا الأواني التي كانت تصنع من الأحجار الصلبة، غير أنها لم تكن منتشرة، بل في الواقع كانت نادرة؛ وذلك لأنها ثمينة. وفي الحق كان إنسان هذا العصر يصنع أواني من الفخار غاية في الدقة تدل على سلامة الذوق والمهارة الفائقة، وقد كان نمو أشكال هذا الفخار وتعدد زخرفته المتنوعة الأساس دعامة بنى عليها «فلندرز بتري» نظريته التي أطلق عليها التتابع التأريخي — كما أسلفنا — وقد جاء اكتشاف جبانة البداري منذ عهد قريب مكملًا للحلقة الناقصة في هذا التتابع.

ويمتاز فخار البداري الذي حدد «فلندرز بتري» رقم ٢٠–٢٩ بوجود خطيطات متوازية تكون أحيانًا دقيقة الصنع وأحيانًا تكون خشنة، وهذه الخطيطات تغطي سطح الإناء. ومعظم الأواني التي وجدت في هذه الجهة حافتها سوداء، وكان يصنع الإناء باليد من غرين النيل المخلوط بالرمل ثم يوضع منكفئًا على موقد فحم متأجج، فكان الجزء الخارجي من الغطاء المدفون في الفحم المتقد، وكذلك الجزء الداخلي من الإناء يتغير لونهما من فعل غاز الأكسيد إلى أسود لامع جميل، ولم يوجد من فخار البداري أنواع متعددة متنوعة كما وجد في «مرمدة»؛ إذ إن الأنواع التي عثر عليها إلى الآن تنحصر أشكالها في بعض أقداح طويلة أو قصيرة ذات حافة مستقيمة أو مستديرة أو بيضية، أو ذات قعر مسطح، ويشاهد في بعض الأواني النادرة حزٌ في الحافة يشعر بأن إنسان هذا العصر أخذ يفكر في صنع إناء ذي عروة، وقد استمر استعمال الفخار ذي الحافة السوداء في جهات أخرى غير البداري إلا أنه أخذ في التلاشي، كما أخذت أشكاله تستطيل حتى رقم ٤٠ من التأريخ التتابعي. أما الفخار الجميل ذو اللون الأحمر المصقول الذي أخذ يحل محله، فقد أضاف شكلًا جديدًا إلى سلسلة الأواني، وهو الإناء ذو الرقبة الضيقة والقعر المستوي وهو في شكله يشبه الزجاجة الحالية. وحوالي الرقم ٣٥ من تأريخ التتابع ظهرت الجرة ذات الوسط المفرطح والعروة المتموجة والرقبة ذات الحافة، وهذا النوع من الفخار كان ظهوره بين ٣١–٣٥ من التأريخ التتابعي، ويمتاز بأنه كان يزخرف برسوم ملونة بالأبيض تدل على حلية هندسية الشكل تشبه الفخار الأسود الذي ظهر في عصر «دير طاسا»، ولكن ظهرت عليه بعض أشكال آدمية ساذجة الصنع، وأشكال حيوانات ونباتات، وحوالي الرقم ٤٠ من تأريخ التتابع، ظهر نوع جديد من الفخار يطلق عليه اسم الفخار المزخرف، وكان يصنع من عجينة نقية ذات لون صاف، ويمتاز بفرطحة وسطه وقصر رقبته، وفي معظم الأحيان تكون له حافة. أما قعره فمستوٍ وكانت رقبته مزخرفة بخطوط بنفسجية شديدة السمرة، وكذلك كانت ترسم عليه أشكال حلزونية، ربما كانت تقليدًا للأشكال الطبيعية التي تساعد على الأواني الحجرية الصلبة، وكان يرسم عليها كذلك أشكال شجر، وجماعات من الناس، وحيوانات من ذوات الأربع، وطيور طويلة السيقان، وخطوط متموجة تمثل المياه، وقوارب مجهزة بمجاديف، في وسطها حجرتان عليهما شارة، وهذا النوع من الفخار استمر حتى الرقم ٦٥ من تأريخ التتابع، وباختفائه انتهى عصر الفخار الذي كان يتخذ للزينة وكماليات الحياة في مصر. أما نوع الفخار الذي أعقبه فكان من النوع العادي، ولكنه في الوقت نفسه أخذ في التدهور شيئًا فشيئًا حتى أصبح لا يختلف عن فخار العصر التاريخي العادي الصنع.

figure
فخار ملون من طوخ «الوجه القبلي».
figure
فخار ملون من عصر ما قبل الأسرات.
figure
منظر ملون عثر عليه في الكاب بالوجه القبلي يرجع إلى ما قبل الأسرات.
figure
رسم على فخار ملون يمثل جنودًا بسلاحهم وزردهم من عصر ما قبل الأسرات.
figure
صورة على فخارة ملونة من مقابر ما قبل الأسرات.
figure
إناء من الفخار على شكل حيوان «طير» من عصر ما قبل الأسرات.
figure
فخارة ملونة رسم عليها مركب وطيور من نقادة بمصر العليا.

أما صناعة المينا الزرقاء والخضراء فترجع إلى أول عصر بداية المعادن.

وكانت تصنع بخليط من البلور الصخري المطحون والجير والبوتاس، وكربونات النحاس، وكانت كل هذه المواد تخلط ببعضها حامية ثم تسحق في الماء وبعد ذلك تصب على القطعة التي يراد طلاؤها، ثم توضع في الفرن، وهذه الطريقة لم تكن مستعملة في عهد البداري إلا لطلاء قطع صغيرة من الخرز المصنوع من البلور الطبعي أو من حجر ستايتيت، وفي عهد ما قبل الأسرات القديم، اخترع للمينا مسند خاص به يمكن الحصول على ما يطلق عليه خطأ القيشاني المصري «فييانس»، وذلك بأن يؤتى بكمية فن الصوان والرمل أو الكورتس المطحون طحنًا ناعمًا، ثم تغطى هذه العجينة بطبقة سميكة من المينا، وأقدم قطعة من المينا طليت على طبقة من الرمل عثر عليها في نقادة، ويرجع تاريخها إلى الرقم ٣١–٣٩ من تأريخ التتابع، وهذه القطع عبارة عن خرز وتعاويذ صغيرة الحجم على هيئة طيور، وقد استعملت الطريقتان جنبًا إلى جنب. غير أنهما لم تستعملا في إخراج قطع هامة إلا في العهد الطيني، ولم تستعمل في عصر بداية المعادن إلا في صناعة القطع الصغيرة، أو تزيينها بلصق المينا عليها، وذلك منذ عهد ما قبل الأسرات المتوسط، ولم يكن ذلك قاصرًا على حجر الكورتس، وحجر ستايتيت، ولكن تخطى ذلك إلى العاج، والعظم، وحجر الشيست، والحجر الجيري، وعلى العموم كان يستعمل مع كل المواد التي كانت تستخدم في فن النحت.

figure
أوان من الحجر عثر عليها في العمرة «الوجه القبلي».

ولما كانت المينا من الأشياء الكمالية، لم يستعملها المصري قط في الفخار الذي كان يعد في نظره مادة حقيرة، وقد بقي الحال كذلك حتى عهد الرومان؛ إذ ظهر وقتئذ استعمال المينا مع الفخار.

وكان كشف صناعة المينا الزجاجية أول خطوة نحو صنع الزجاج الذي لم تختلف صناعته عن صناعة المينا إلا بعدم استعمال مسند تصب عليه المينا، والواقع أن المصريين عرفوا الزجاج في العهد الفرعوني، ولكنهم لم يعرفوا قط صناعته إلا في حالة عجينة مطحونة، ولم يعثر على قطع من الزجاج إلا بعض خرزات، وقطعة واحدة مطحونة يرجع عهدها إلى ما قبل الأسرات، وهذه القطعة عبارة عن دلَّاية «بندنتيف» زرقاء اللون تشبه اللازورد ويرجع عهدها إلى الرقم ٤١ من تأريخ التتابع.

figure
بلط نحاس من عصر ما قبل الأسرات عثر عليها في مصر.

وفي هذا العصر أخذت صناعة الأواني الحجرية تتقدم تقدمًا محسوسًا، وقد عثر في الوجه البحري على أوان من الحجر يرجع عهدها إلى عصر مرمدة بني سلامة بعضها مصنوع من حجر البازلت على هيئة هاون، ولم يعثر على مثلها قط في عصر البداري، ولكنها ظهرت في عهد ما قبل الأسرات القديم، فكشف عن أوان أسطوانية الشكل ذات قعر مستدير، وأوان أنبوبية ذات قعر مستو، وعلى أقداح عظيمة ذات جدران منخفضة مصنوعة من الحجر الجيري اللين ومن المرمر والبازلت والجرانيت الوردي، وهذه الأواني كانت نادرة في عهد ما قبل الأسرات القديم، ولكنها أخذت تزداد في العدد على مر الأيام، وربما كان السبب في ذلك كشف النحاس الذي كانت تعمل منه الآلات اللازمة لتفريغ هذه الأواني.

figure
رءوس دبابيس من الحجر الصلب عثر عليها في العمرة «الوجه القبلي».

ولقد كان الصانع المصري يصنع أوانيه من حجر الديوريت وحجر البرفير، وحجر البريشية التي تعد من أصلب الأحجار وأعصاها بقلبٍ فرح متذوقًا عمله، حتى إنه كان لا يعد للزمن الذي يصرفه في إنجاز عمله حسابًا، ويُظهر من الصبر درجة تضعه في مصاف مهرة العمال، ولقد كانت النتائج التي وصل إليها تضارع المشاق التي تحملها، وكانت أشكال الأواني الحجرية التي أخرجتها يده مقلدة أشكال أواني الفخار المعاصر، ولم تكن الأخيرة بلغت من حسن الشكل والذوق أكثر مما كانت عليه في هذه الفترة، ولم تكن عجلة صانع الفخار معروفة بعد، ولكن مع ذلك كانت الأواني التي تعمل باليد على درجة عظيمة من حسن الشكل والدقة، ولذلك كانت الأواني الحجرية التي نحتت على هيئتها آية في الجمال. هذا إلى أن جمال الحجر الطبعي ولونه، كان يظهر في بهجة خلابة عندما كان الفنان ينجح في صقل سطح الإناء، وعندما كان يرقق جدران الإناء حتى يصبح شفافًا، وعلى العموم فإن هذه الأواني الحجرية ربما تعد أجمل الأشياء التي بقيت لنا من عصر ما قبل الأسرات، وتعد شاهدًا فصيحًا على المهارة الفنية للجنس الذي أنتجه وعلى ذوقه السليم.

figure
رءوس دبابيس من المرمر، عثر عليها في العمرة «الوجه القبلي».

وفي التأريخ التتابعي ٤٠ ظهرت أشكال جديدة من الأواني الحجرية تقابل أشكال الفخار كالأواني المنبعجة الوسط، والبيضية، والمستديرة، والأقداح العميقة ذات الحافة المنحنية انحناء خفيفًا من أعلى، وهذه الأشكال الجديدة ليس لها حوامل «أرجل»، بل قعرها إما مستدير أو مستو، وقد أخذت صناعة الأواني من الحجر الصلب تزدهر وتتقدم — كما سبق ذكره — حتى وصلت القمة في عهده الأسرة الأولى، ولم نعثر في القبور التي من قبل الأسرات المزودة بأوان من الحجر على أوان من الفخار، إذ كانت تعد في نظر القوم من الأثاث الرخيص، ومنذ ذلك العهد يمكننا أن نفهم أن تقدم صناعة أواني الحجر، قد قضت على صناعة الفخار المزخرف حوالي نهاية عصر ما قبل الأسرات.

ويتبع صناعة أواني الحجر الصلب رءوس الدبابيس التي كانت تستعمل في الحرب، وكانت كذلك من الحجر الصلب، وهذه الرءوس كانت تثبت في مقابض مصنوعة من قرون الحيوان أو من العاج، وأقدم نوع من هذه الرءوس عثر عليه في الوجه القبلي، وكانت على شكل أقراص، واختفت في عهد الرقم ٤٠ من تأريخ التتابع، ليحل مكانها النوع الجديد الذي جاء على هيئة كمثرى، ولا شك أنه جلب من الوجه البحري؛ إذ كان معروفًا في عصر مرمدة، وبعض هذه الرءوس قد أحكم صنعها فوصلت إلى درجة عظيمة من الإتقان الفني، حتى إنها لم تقم مقام سلاح مفيد فحسب، بل كانت في ذاتها قطعة فنية آية في جمال الصنع.

ديانة عصر بداية المعادن

من العبث أن يحاول المؤرخ رسم صورة صادقة للديانة المصرية في عصر بداية المعادن، والسبب في ذلك يرجع إلى أن المصادر التاريخية الصادقة كانت لا تزال تعوزنا في هذا الوقت، هذا إلى أن ما دُوِّن كتابةً في فجر التاريخ المصري، لم يُشِرْ إلا إشارات خفيفة لتلك الأزمان السحيقة، وأهم مصدر وصل إلينا في هذه الناحية هي متون الأهرام، التي دُوِّنت على جدران أهرام سقارة في خلال الأسرتين الخامسة والسادسة، وذلك في داخل حجرات الدفن للملوك فحسب، ورغم أن هذه المتون تشير إلى ديانة ما قبل الأسرات، غير أنها تنحصر في ديانة الوجه البحري التي ألفت فيها المتون المذكورة، هذا إلى أنها كانت خاصة بالملوك لا بعامة الشعب، وسنتكلم عن ذلك بإسهاب في حينه.

أما المصدر الثاني الهام الذي نرتكز عليه في استنباط ديانة هذا العصر، فهو الكشف الأثري في الوجه القبلي وفي الدلتا، وما كشف من الآثار إلى الآن يدل على أن مدنية الوجه البحري أعرق في القدم من مدنية الوجه القبلي.

وإذا كانت الأمور تقاس بأشباهها، فإن محتويات المقابر التي كشفت في هذا العصر بمقارنتها بما كشف في العصور التاريخية، تدل على أن القوم كانت لهم معتقدات دينية ترتكز على أساس متين، ولا أدلَّ على ذلك مما عثر عليه في جبانة عصر البداري من الحيوانات التي عُني بدفنها بعد تكفينها، كما كان يحدث في العصر التاريخي، فمثلًا وجدت أولاد آوى، وثيران، وكباش، وغزلان، ملفوفة في حصير أو في نسيج من التيل، مما لا يترك مجالًا للشك في أنها كانت تقدس، وتعبد، وأن أهل هذا العصر قد نقلوا عبادتها إلى العهد التاريخي، وكذلك وجدت في مقابر البداري تعويذات مصنوعة من العظم تمثل رءوس غزلان، وجاموس بحر، كما وجد في عهد نقادة بعض أعلام مرسومة على أواني فخار، ويحمل كل منها صورة حيوان أو شعارًا، كان لا بُدَّ يستعمل بمثابة صورة أو رمز لأله خاص، ومن المحتمل جدًّا أن هذه الرموز الدينية تدل على أقسام سياسية للبلاد في هذا العصر.

ومن أهم الأدلة على اعتقاد القوم في هذه الأزمان السحيقة، بأن الإنسان سيعيش كرَّة أخرى في قبره ما يلاحظ في ترتيب الأدوات التي كانت توضع معه، ويمكننا أن نستنتج أن المواد الغذائية التي كانت توضع بالقرب من الجثة، وكذلك بعض أدوات الزينة وبعض الآلات كان لا بد للمتوفى أن يستعملها في حياته الثانية في القبر، كما كان يستعملها في حياته الدنيا بكل مظاهرها ولوازمها.

وقد ذكرنا فيما سلف أن جثة المتوفى كانت توضع في لحدها ورأسها متجهة نحو كوخ أسرته التي غادرها، وربما كان الباعث على ذلك رغبته حسب اعتقادهم في أن يرى باستمرار أملاكه الدنيوية وأخلافه من بعده، ويعزز هذا الرأي ما نشاهده في قبور العصر التاريخي؛ إذ نجد أن المتوفى في خلال الأسرة السادسة، كان يرسم خارج تابوته الخشبي عينين تدلان على مكان وجود رأسه، وكان في مقدوره أن يرى كل ما يحيط به في العالم الدنيوي بهما.

في خلال هذا العصر عثر كذلك على بعض دمى لنساء وخدم وحراس نصبت خلف جدار القبر، هذا إلى مراكب صغيرة معها شبكها ومعداتها، وحيوانات متوحشة وأليفة. كل هذه الأشياء قد أهديت للمتوفى ووضعت معه في القبر ليستعملها في حياته الآخرة بوساطة رقى سحرية، ولا نزاع في أن إنسان هذا العصر كان يستعين بالسحر لاستخدام هذه التماثيل الصغيرة فيقلبها إلى حقيقتها، وهذا بالضبط ما وجد في العصر التاريخي في معتقدات القوم الجنازية.

على أن هناك عادات في الدفن عثر عليها في عصر ما قبل الأسرات، ولكننا لم نعثر عليها في عادات العصر التاريخي إلى الآن، ولذلك ستظل سرًّا غامضًا إلى أن نعثر على نظائرها، فمنها أنه عثر على هياكل عظمية في مقابر لم تمس بعد، لم تكن مدفونة بحالتها الطبيعية، وقد ظن بعض العلماء أن الأجسام التي وجدت بهذا الشكل، قد فصل عظام كل منها عن بعضها بعد الموت أو قبل الدفن، حتى إن بعضهم ظن أن لحمها كان يؤكل، ولكن ذلك الرأي لا يخرج عن مرتبة الخرافة المحضة.

وقد عثر في دشاشة في مقابر لم تمس بعد من الأسرات الأولى على بعض أجسام مفصولة عظامها عن بعضها، ثم لفت فيما بعد في نسيج من الكتان، ومن المحتمل جدًّا أن هذه العادة قد ورثها أهل الأسرات من قوم ما قبل الأسرات، ولم يعرف تفسيرها حتى الآن.

على أن أغرب عادة وصلت إلينا من عصر ما قبل الأسرات هي كسر ساعد المتوفى، وقد وجدت هذه الظاهرة في النساء والرجال على السواء، ولا شك أن ذلك يرجع إلى اعتقاد ديني لا نعرفه، ولا ندري ماذا تخبئ لنا أرض مصر في جوفها من مثل هذه العادات والمعتقدات، التي لا يمكن أن نصل إلى حلها إلا بنظائرها في العصر التاريخي.

الفن

من الأمور البديهية في حياة الأمم، أن الفرد يهتم أوَّلًا بالحصول على حاجاته الضرورية، ثم بعد ذلك يتطلع للكماليات واقتنائها، فلا غرابة إذن إذا كنا نجد إنسان العصر الحجري الحديث منصرفًا بكل قواه لإنشاء الصناعات اللازمة لحياته المنزلية، ولم يفكر في التفنن في صنعها، لذلك نجد أن حلي أهل هذا العصر الساذج كانت خالية من كل ذوق فني، ولما دخل في عصر بداية استعمال المعادن، وارتقى في معيشته بعض الشيء، بدأ يتفنن في صنع متاعه وحليه، ولا غرابة في ذلك ما دامت قراه ومدنه التي كانت تزخر بالمعدات، قد أخذت الكماليات تجد محلًّا بين سكانها، ومن هنا نشأ الفن.

ومن المحتمل جدًّا أن تكون أول فكرة فنية قد نبتت في الوجه البحري، وظواهر الأمور تشجع على احتمال هذه النظرية، ولكن للأسف تعوزنا هنا المستندات كلية حتى الآن. أما في الوجه القبلي فالأمر على عكس ذلك؛ إذ أظهرت لنا حفائر البداري حليًّا تدل على بداية ذوق فني أخذ يتحقق على مر الأيام تدريجًا؛ إذ عثر هناك على قلائد منظومة في خيوطها حبات من الفيروز، يتخللها على مسافات متساوية قطع كبيرة من العقيق، وحجر اليشب وحجر الحية، وعثر كذلك على أحزمة مؤلفة من عدة خيوط منظومة فيها حبات زرقاء وأخرى خضراء، ووجدت أسورة ذات حجم عظيم من العاج، وأمشاط للشعر محفورة في رقعة كل منها رءوس طيور. أما أدوات الزينة التي وجدت بجوار جثث سراة القوم في مقابرهم، فإنها محفورة في العاج ومعظمها نماذج أوان للعطور وملاعق مستديرة أو مستطيلة الشكل ذات أيد أسطوانية، وتنتهي كل يد برأس حيوان أو ما يشبهه، ورغم سذاجة هذه الأدوات وبساطتها فإنها تدل على ذوق حقيقي.

ولم يفكر المصري في عمل التماثيل إلا لضرورة ملحة، وذلك أنه كان يعتقد في حياة ثانية بعد الموت، فكان يحتاج إلى وضع دمى سحرية معه في القبر، وأولى ما عثرنا عليه منها كان في مقابر البداري، وكانت على شكل تماثيل صغيرة لنساء عاريات، فوُجد هناك تمثال صغير من العاج، ودميتان من الطين في قبور فقراء القوم، وهذه الدمى بلا شك خشنة الصنع، وبخاصة أننا وجدنا تمثيل الوجه فيها مختصرًا، فالعين ممثلة مستديرة، أما اليدان والرجلان فإنها صورت ممسوخة مشوهة ليس فيها من الفن شيء، ولكن لوحظ رغم ذلك أن جسم دميتين تدلان على صدق التعبير الفني وعلى المرونة في التصوير، مما لم يفقه أي جسم آخر في خلال عصر بداية استعمال المعادن.

وإذا قارنَّا الدمى المصنوعة من العاج بالدمى المصنوعة من الطين الصلصال، فإنا نجد أن الثانية تقليد للأولى، وكان يستعملها عامة الشعب، ولا نزاع في أن أول من فكر في صنع هذه الأشياء في ذلك العصر هم سراة القوم وعظماؤهم، ومن ذلك نعلم أن الفن بدأ في الطبقة الراقية، ثم قلدهم عامة الشعب، والواقع أن هذا كان طابع الفن المصري في كل عهوده، حتى اندثر، ولذلك نشاهد أن منتجات الفن لم تكن على وتيرة واحدة متساوية في الصنع والقيمة. على أن ذلك لا يعني أن الدمى التي أنتجها الفن المصري في هذا العهد لم تكن في أصلها مشبعة بالروح الشعبية، بل الأمر على عكس ذلك في بعض الدمى المصنوعة من الطين التي يرجع عهدها إلى زمن سحيق، وقد وجدت أمثلة من هذا النوع في العصر التاريخي، ومع ذلك فإن هذه الدمى التي لا تشف عن روح فنية معينة لا تشغل حيزًا في مضمار الفن المصري، اللهم إلا مجرد فكرة، ومن أجل ذلك لا يمكننا أن نعدها من القطع الفنية التي يجدر بنا أن نعيرها اهتمامًا.

وفي الحق يجب على الذي يريد أن يتناول البحث في الفن المصري، أن يبدأ أوَّلًا بفحص الأدوات الكمالية والتحف التي عثر عليها في هذا الوقت؛ إذ هي المظهر الحقيقي الأول للفن المصري، وفي خلال عصر بداية استعمال المعادن كانت المواد التي تصنع منها الأدوات الكمالية وأدوات الزينة منحصرة في العاج والأحجار الصلبة على أن صناعة الأحجار لم تكن بعد منتشرة لصعوبة نحتها، ولذلك كان يقتصر صنعها على الأواني الثمينة جدًّا، ومنذ ظهرت أخذت تؤثر في صناعة الأواني الفخارية التي كانت شائعة الاستعمال في ذلك العهد، وهذا ينطبق كذلك على الأواني المعدنية، فإنها أثرت على صناعة الأواني الحجرية، بل وعلى الفخار أيضًا.

ومما لا شك فيه أن العاج كان في هذا العصر المادة التي تصنع منها القطع الفنية، ثم تدرج بعد ذلك إلى استعمال العظم في صنع الدمى، وقد عُثر على دمى نساء عاريات، وأذرعهن ملصوقات على طول الجسم أو موضوعة على الصدر تحت الثديين المتدليين، وقد وجدت دمى للرجال عارية إلا من الكيس الذي كان يستر عضو التذكير، وكذلك عثر على أقزام ممسوخة الشكل وعلى ذكور ملفوفين في عباءاتهم ولهم لحى، ومن المحتمل أن الدمى الأخيرة كانت تمثل آلهة أو ملائكة، والظاهر أنها كانت تستعمل غالبًا لزخرفة التعاويذ الكبيرة الحجم التي كانت على شكل قرن.

وقد كشف عن دمى تدل على تقدم فني محسوس وبخاصة صنع العين؛ إذ نجد في النزر اليسير الذي أخطأه التدمير والتلف أن العين بدأت تمثل على شكل اللوزة مما يقرب من الحقيقة، غير أن الجسم الذي كانت توضع فيه كان لا يزال ينقصه مظاهر الذوق الفني؛ إذ كان يصنع على طريقة ثابتة معينة متفق عليها من قبل، لكل الأجسام تقريبًا، وذلك مما يظهر لنا الفارق العظيم بينها وبين دمى العاج التي عثر عليها في البداري، وهي التي يلاحظ فيها الإنسان الروح الفنية، وفي هذا العصر أخرجت صناعة العاج أمشاطًا عظيمة الحجم للزينة لها أسنان طويلة ومحلاة برسوم بارزة تدل على أشباح غزلان وطيور، أو رأس آدمي له لحية، هذا إلى مشابك للشعر رءوسها مزخرفة بصور كالتي سبق ذكرها، وهذه الأمشاط كانت تستعمل خاصة في عهد ما قبل الأسرات القديم، والظاهر أن صنعها انقطع حوالي تأريخ التتابع ٤٤.

وفي هذا العصر كثرت صور الحيوانات، فكانت تمثل بقطيعها في الأرواح الأردوازية الخضراء، وقد ذكرنا أن هذه الألواح كانت تستعمل لطحن الكحل «التوتية» لتجميل العين، وقد حلت مكان الألواح المستطيلة الشكل التي كانت مستعملة في عهد البداري بدون أية زينة.

أما الحيوانات التي كانت تمثل بارزة على هذه الألواح فكانت عديدة مختلفة الأنواع، أهمها الإبل، وجاموس البحر،١٢ والطيور والسلحفاة والسمك، وكانت الألواح في الغالب يخرم فيها ثقب ليمكن أن تعلق منه، وتدل البحوث الأثرية على أن استعمالها قد بطل في نهاية عصر ما قبل الأسرات القديم، ومن ثم أخذت أشكالها تتغير تدريجًا حتى أصبحت ولا يمكن تعرفها.

ولقد بلغ من غرام فناني هذا العصر بالأشكال الحيوانية أنهم أدخلوها في زخرفة الفخار، وبوساطتها أمكن تحديد عمر سلسلة من الأواني التي على أشكال حيوانات مثل جاموس البحر، والطيور، والأسماك، وقد كان تصوير كل نوع من هذه الحيوانات يمثله وهو في حالته الطبيعية مما أعطى لها رونقًا خاصًّا، غير أنه لا يمكن مقارنتها بالدمى المصنوعة من غرين النيل، التي عثر عليها في المقابر التي كان الغرض منها أن تقوم مقام حظية المتوفى أو خادمته، وهذه كانت توجد بكثرة في هذا العصر غير أنها كانت خشنة الصنع في أحوال كثيرة؛ إذ نجد في معظم الأحيان رأس الدمى تمثل بكتلة من الطين لا شكل لها. على حين أن الأعضاء الأخرى كانت لا تخرج عن كونها إشارات بسيطة تدل على مكانتها في الجسم، ولم نجد الفخذين متصلين ببعضهما، ودمى النساء ذات الأوراك الغليظة والثُّدِيِّ الضخمة كانت تمثل على وتيرة واحدة بطابع واحد في كل الأجسام، ويجب ألا ننظر هنا إلى هذه التماثيل نظرة فنية؛ إذ هي في الواقع تماثيل مأتمية عملت لتسد فراغًا خاصًّا، ولكنها في الوقت نفسه مقدمة لطلائع التماثيل الجنازية التي ستوضع في العصر التاريخي مع المتوفى، وقد وجد من بينها قطع من آيات الفن تزين الآن متاحف العالم، مثل حاملات القرابين، والراقصات وصانعات الجعة في الأواني: وبحارة السفن، وحيوانات القرابين، وأنواع الطيور … إلخ.

وقد عثر في نفس مجموعات هذه القبور على تماثيل حيوانات أرجلها ليست منفصلة عن بعضها، أما جسمها فيرتكز على عمودين من الطين.

وحوالي تأريخ التتابع ٤٠ نلاحظ أن التغير الذي ظهر أثره في كل مرافق الحياة قد أثر على فن النحت في العاج، فنجد مثلًا أن الأمشاط المزخرفة ذات الأسنان الطويلة أخذت تختفي حتى انعدمت جملة، وحل محلها أمشاط للزينة ذات أسنان قصيرة، كان بعضها يثبت في مشبك طويل أسطواني الشكل ليمسك به الشعر، وما ذلك إلا محافظة على التقاليد القديمة في استعمال المشط.

وظهر كذلك نوع جديد من الملاعق، تتكون الواحدة منها من جسم الملعقة نفسها، وكان إما بيضي الشكل أو مستديره، وينتهي بيد بسيطة على شكل عصا، وقصارى القول أن الزخرفة الفنية التي كانت شائعة في العصر السابق أخذت تختفي، ومن الغريب أن هذا العصر الذي قضي فيه على زي الزخرفة، قد اتفق مع الاختفاء الذي يكاد يكون كليًّا لصناعة دمى العاج ودمى الطين، فلم يبقَ لنا من مخلفات هذا العصر الآدمي إلا الرجل الملتحي أو الملفوف في عباءته، ومع ذلك فإنه كان مصنوعًا صنعًا هندسيًّا مختصرًا، ليس فيه ما يشعر بالذوق الفني، وتدل ظواهر الأمور على أن ما كان شائعًا من المظاهر الأولى في فن عمل التماثيل أصبح لا فائدة منه، وأن تلوين الأواني المزخرفة التي كانت توضع بجوار جثة المتوفى قد ضمن لأصحاب القبور بوساطة السحر الخدم والنساء وحيوان الصيد والقوارب التي كان يصنعها الإنسان إلى هذا العهد على شكل تماثيل بأثمان غالية.

وقد ظهر كذلك إهمال فن الزخرفة بالنحت في ألواح الأردواز التي من عصر ما قبل الأسرات المتوسط، لذلك نجد أن أشكال الحيوانات المرسوم عليها، أخذت في التدهور حتى لم يبقَ منها إلا ظل لا يكاد يميز الإنسان منه حيوانًا معينًا. غير أن نوع الألواح التي كانت على شكل طائر قد أخذت شكلًا جديدًا، فاللوح البيضي الشكل أو الذي يمثل جسم الفأس أصبح يزخرف في الجزء العلوي منه برأس طائرين بشكل جانبي مقطوع في الأردواز، وفي هذا العصر أخذت الرقى التي كادت تكون معدومة في العصر السابق تظهر وتنتشر، وكانت تصنع من الأردواز أو العاج أو العظم، غير أنه كان يظهر في شكلها الطابع المختصر الخاص بكل نحت هذا العصر، أما الأواني التي على شكل حيواني فإنها استمرت في هذا العصر أيضًا، ولكنها كانت خالية من الذوق الفني، ويصعب تمييز بعضها عن بعض.

وبحلول عصر ما قبل الأسرات الحديث قامت نهضة فنية حوالي تأريخ التتابع ٦٠، فنلاحظ تجديدًا في التقاليد الفنية التي كانت مزدهرة في عصر ما قبل الأسرات القديم، وذلك بطرق فنية تتدرج نحو الكمال، حتى إنها أصبحت فيما بعد المنبع الذي نشأ منه الفن الفرعوني. من ذلك أن فن نحت العاج نحتًا بارزًا بقي صاحب المكانة الأولى في التقدم، ففي مصانع العاج ظهرت أشكال الحفر البارز بطريقة متقنة، وعنه أخذت النماذج التي استعملت في مواد أخرى، وفي هذا العصر نجد استعمال نوع دمي لمرأة واقفة عارية الجسم ذراعاها ملصوقان بجسمها، ولكن بجانب هذا النوع الذي كان شائع الاستعمال، ظهر نوع آخر من الدمى للمرأة رشيق ذو ثديين ناهدين، وكذلك ظهر نوع الدمى الذي كان يمثل أمًّا تحمل ولدها على ذراعيها أو في حجرها، وظهرت دمى لشخصيات كانت تمثل متشحة بعباءة، ولكنها كانت تستعمل في تمثيل المرأة.

وفي هذا العصر ظهر كذلك تمثيل الحيوانات العاج وغيره، وبخاصة الأسود التي كانت تستعمل أحجارًا للعب، وتزخرف بها مقابض ملاعق الزينة، وقد ظهر من بين هذه القطع ما يدل في صناعته على مرونة فنية، ومع أنها ليست عنوانًا للفن المصري الناضج إلا أنها كانت بعيدة عن الخشونة والسذاجة.

ولم يقتصر نحت الأجسام في هذا العصر على العاج كما كان المتبع، بل تخطاه إلى مواد أخرى، ولكن لم تظهر فيها المهارة التي كانت تظهر في العاج؛ وذلك لأن الفنان لم يكن قد تعود استعمالها بعد، أو لصلابة مادتها، فكان يستعمل الأحجار الجيرية أو قطع المينا ذات اللون الأخضر أو الأزرق، وحجر الأردواز والبازلت، وحتى الجرانيت الأسود والأحمر، وقد توغل الفنان في هذا الطريق إلى أن أخذ يجرب عمل التماثيل الكبيرة الحجم، ولكن يظهر أنه لم ينتج إلا قطعًا قليلة العدد حسبما كشف عنه حتى الآن، ومع ذلك فإن الإنتاج في هذه الناحية يدل على الجهل الفني والخشونة في الذوق، ولا أدل على ذلك من تمثال الرجل ذي اللحية الموجود الآن بمتحف أكسفورد، فقد نحت في حجر الأردواز ومثل عاريًا، إلا من الكيس الذي يستر عضو التذكر، وظاهر في شكله الجمود، فلحيته مفرطحة، وذراعاه ملصوقان في جسمه، وكان طوله نحو نصف متر قبل كسر ساقيه.

وفي متحف برلين كذلك يوجد السبع الرابض المصنوع من الجرانيت الأسود، وهو ساذج الصنع جامد الملامح ويزيد طوله على أكثر من ٣٠ سنتيمترًا، وهذه أول محاولات حقيقية عرفها الفن في إبراز التماثيل الكبيرة.

ومن أهم مجددات الفن في هذا العصر النحت الغائر على العاج ثم الأحجار فيما بعد، وقد كان لهذا النوع من الحفر شأن عظيم في تاريخ الفن في مصر القديمة، والظاهر أن فكرة نقش الأشكال غائرة في العاج قد أخذت من رسوم الأشكال التي كانت على الفخار المزخرف الشائع الاستعمال في هذه الفترة؛ أي في عهد ما قبل الأسرات المتوسط، وأكبر دليل على صواب هذه الفكرة أن كل الرسوم التي كانت على الفخار قد نقلت بفصها ونصها، ثمينها وغثها، صوابها وخطئها، وهذه الرسوم قد استعملت في زخرفة الأمشاط أو مقابض السكاكين الفاخرة، وهي التي كان سلاحها لا يزال يصنع من الظِّرَّان الأشقر اللون، وقد جرب الفنان أولا حفر صنف من الحيوانات التي تشاهد على الفخار الملون، والواقع أن أقدم قطعة عثر عليها من هذا النوع زخرفت بهذه الطريقة، أما المثل الأعلى لهذا النوع من الحفر فجاء في الواقع بعد أن قام الفنان بعدة تجارب، هي سكينة جبل العرق المحفوظة الآن بمتحف اللوفر ويرجع عهدها في التأريخ التتابعي إلى رقم ٦٠ على أن نبوغ الفنان في إبراز صور هذه السكينة لا يمكن تقديره إلا عند مقارنته بما أخرجه على حجر الأردواز في نفس العصر. إذ نرى فرقًا شاسعًا في الحفر الغائر في كل منهما، ففي مقبض السكينة نرى روح الفن ودقة الصنع، وفي الأردواز يلاحظ لأول وهلة السذاجة وعدم المقدرة الفنية.

وربما يرجع السبب في اختيار الفنان حجر الأردواز الأخضر مادة للحفر الغائر، أن هذا النوع من الأحجار يجمع بين الليونة وبين تماسك حباته الدقيقة، لذلك كان يعد من بين الأحجار التي تقارب العاج في سهولة النقش الغائر عليها. على أن الأردواز كان منذ زمن بعيد يستعمل في إخراج ألواح الكحل التي كانت تمثل عليها أشكال حيوانات بالتفريغ، وقد عثر على بعض ألواح من هذا النوع عليها بعض حفر غائر، مما يدل على أن الفنان بدأ في هذه النهضة الجديدة يفكر في اتخاذ هذه المادة أداته في إبراز صناعته الحديثة، ولا يبعد أن يكون هذا هو السر الذي دعا الفنان إلى إخراج نوع جديد من هذه الألواح خاص بالزينة، ولكن بحجم عظيم، ولأجل ألا ينسى استعمالها الأصلي حفر في وسط اللوح حفرة صغيرة تشعر بأصل استعمالها وهو المكان المخصص لوضع الكحل.

figure
سلاح من الظِّرَّان على شكل قرن عثر عليه في جبل طريف.
figure
سكينة جبل العرق.

وهذا النوع الجديد من الألواح كان في الواقع يستعمل لحفر مناظر جنازية على سطحها لحفظ ذكري الصيد والحروب، وكانت تودع المعابد العتيقة لهذا الغرض، وقد عثر على معظم ما كشف في خرائب هذه المعابد من أول عصر ما قبل الأسرات الحديث حتى فجر التاريخ الفرعوني، ويرجع الفضل إلى هذه الألواح في إمكان تتبع تاريخ النقش الغائر من بدايته حتى الوقت الذي أخذ فيه فن المعمار يرتقي وأصبح يستعمل هذا النقش على جدران المعابد.

وقد اختفت الرسوم التي كانت تزين الفخار حوالي الرقم ٦٠ من التأريخ التتابعي، وأصبحت الأواني خالية من أية زخرفة، ومن المحتمل جدًّا أن تلوين المقابر وزخرفتها في هذا العصر يدل على أن المتوفى أخذ يحل هذه الزخارف والرسوم محل رسوم الفخار الذي كان يوضع معه في قبره، ومما هو جدير بالملاحظة أنه لم يوجد أي تحسين في زخرفة القبر أكثر مما كان على الفخار. على أن القبر الوحيد الذي عثر عليه من هذا النوع في هذا العصر هو قبر هيراكنبوليس «الكاب» ويرجع تاريخه إلى الرقم التتابعي ٦٣ تقريبًا. وتبلغ مساحته ٤٫٥ في ٢ في ١٫٥ مترٍ، وقد صنع من اللَّبِن ثم كسيت جدرانه بطبقة من غرين النيل ثم غطيت هذه بطبقة ثانية من الطفل الأصفر القاتم يرسم عليها المناظر المراد تمثيلها، ويلاحظ أنه قد حدث بعض تقدم في استعمال الألوان في رسم الأشكال، فبدلًا من لون واحد استعملت ثلاثة وهي الأحمر القاتم، والأسود ثم الأبيض، يضاف إلى ذلك أن عدد الأشكال ازداد وتنوعت موضوعاتها، فمثلا نجد حول القوارب التي نصبت عليها أعلام مناظر صيد، أو حرب بين البحارة، وبعض راقصات، ولكن رغم ذلك نجد عدم الانسجام وقلة الوحدة في تأليف الرسوم لا يزال كما كان على أواني الفخار في عصر ما قبل الأسرات المتوسط، ومع ذلك كله فإن هذا الرسم له أهمية عظيمة في تاريخ فن النقش إذ هو في الواقع المنبع الذي استقى منه فن الفرسكو في العصر التاريخي والحلقة الموصلة بينه وبين الأواني الفخارية التي أسلفنا الكلام عنها.

figure
سكينة من الظِّرَّان الفاتح اللون مزينة يدها بورقة من الذهب مطروفة عثر عليها في جبانة ساحل البقلية.

وقد ظهرت ثانية في هذا العصر كذلك الأواني التي على شكل حيوانات، ولكن في ثوب جديد ويمكن تمييزها تمامًا، وهذه الأواني في الواقع كانت بمثابة قطع للزينة نحتت في الحجر الجيري، والأردواز، وحجر البرشية المختلف الألوان، وكذلك أعيد استعمال الدمى من الطين بشكل جديد، ومع أنها كانت نادرة الوجود بالنسبة لما كانت عليه في عهد ما قبل الأسرات القديم، إلا أنها من ناحية أخرى كانت متقنة الصنع، هذا إلى أنها كانت تصنع من مواد أخرى ثمينة غير الطين، وأهم الأشكال التي كانت تصنع هي القردة، والضفادع مع صغارها.

أما صناعة الظِّرَّان التي كانت آخذة في الاختفاء تدريجًا، فقد كان لها رغم ذلك نصيب من هذا التجديد الذي قام في هذا العصر، فقد صنعت منه أشكال حيوانية وفاقًا للزي الشائع، ونخص بالذكر منها: الغزلان والطيور والتماسيح، وكانت تمثل على شكل دمى مستوية الجسم، ولا يعلم كنه استعمالها إلى الآن، ولكن يدل صنعها على عناية فائقة.

ولا بُدَّ من أن نشير هنا إلى ازدهار صناعة الصباغة وتقدمها، كما يدل على ذلك العدد القليل من القطع التي أخطأها النهب والسلب مما أودى بكل الكنوز التي كانت مودعة مقابر هذا العصر.

ومن أهم القطع التي بقيت لنا دالة على فن هذه الفترة مقبضان لسكينين من الظِّرَّان: واحدة منهما في متحف القاهرة وهي ورقة رقيقة من الذهب منقوش عليها منظر صيد يذكرنا بالمنظر الذي على سكينة جبل العرق، أما الثانية فقد نقش عليها سفينة ومجموعة شخصيات على نمط ما كان يرسم على أواني الفخار من عصر ما قبل الأسرات المتوسط وهاتان السكينتان يرجع عهدهما إلى العهد الطيني الفرعوني أي عصر التاريخ الحقيقي.

المدينة في عهد بداية استعمال المعادن

تدل الكشوف التي تمت إلى يومنا هذا على أن المدنية في مصر قد بدأت في الوجه البحري في خلال العهد الحجري الحديث، وأنها كانت تفوق المدنية التي ظهرت في الوجه القبلي ثم استمر الحال كذلك بشكل جلي واضح في عصر بداية استعمال المعادن، وأن الحضارة في الوجه البحري كانت تدرج في مراقي التقدم بخطى واسعة، على حين أن المدنية في الوجه القبلي كانت خطاها وئيدة وفي حالة متأخرة.

ولأجل أن نصل إلى سر تفوق الوجه البحري على الصعيد يجب أن نبحث طبيعة أرض كل منهما وموقعه الجغرافي.

الدلتا: تتألف أرض الدلتا من سهل مترامي الأطراف لا يتخلله جبال، وهو منفصل عن الصحراء تمامًا، ولذلك كانت الفرصة سانحة لسكانه الأول ليكونوا أهل حضر، ويمكنهم أن ينموا ويتقدموا وينعموا بحياة العمل في عقر دارهم، دون أن ينتجعوا مكانًا وآخر طلبًا للرزق، وقد ساعدهم على ذلك أن أرض الدلتا، التي تمتاز بخصب تربتها وطيب جوها، هذا إلى أنها تقع على مفترق طرق أفريقيا وآسيا، مما سهل لها الاتصال بالممالك القريبة منها، فتجلب إليها خيراتها الزراعية، وتحف صناعاتها وفنونها، وبذلك تضيف إلى مدنيتها الأصلية مدنية جديدة، ولا غرابة إذن في أن نرى أرض الوجه البحري في كل عصور التاريخ أعرق مدنية من الوجه القبلي وأكثر تقدمًا.

أما الوجه القبلي فهو قطر طويل محصور بين سلسلتين من الجبال القاحلة، وهذا القطر متصل بالصحراء من كل مكان، وفي هذا العهد لم تكن أرض الصحراء غنية بالزراعة، إذا قرناها بأرض الوادي الضيق نفسه، وكل ما نعلمه أن أرض الصحراء الحالية كانت شبه مجدبة، فكانت تعيش فيها الحيوانات الوحشية، وحيوانات الصيد مما جعلها ميدان صيد وقنص لأهل الوادي الذين كانوا يعيشون في مدن وقرى، ولما كان سكان هذه المدن قبل تكوين هذا الوادي يعيشون على الصيد فحسب، فقد بقوا يحترفون الصيد لأن ذلك في طبيعتهم منذ نشأتهم، والواقع أن أهل الصعيد كانوا منفصلين عن باقي العالم بهذه الصحاري المترامية الأطراف، فلم يكن أهله يختلطون إلا بالبقية الباقية من بدو الصحراء الجوالين، وهم قوم لا ثقافة ولا مدنية لهم، يضاف إلى ذلك أن المسافة بينهم وبين أهل الدلتا كانت بعيدة، فلم يكن في مقدورهم الاختلاط التام بهم، حتى يستفيدوا من مدنيتهم، وكذلك كانت الأراضي الزراعية التي في متناولهم قليلة المساحة بالنسبة إلى الدلتا، فلم يكونوا زراعًا بالمعنى الحقيقي، ولا غرابة إذن، إذا عددناهم جبليين بالنسبة لأهل الدلتا المتحضرين.

وأعظم عمل قام به المصري في بداية استعمال المعادن، سواء أكان في الوجه البحري أم في الوجه القبلي، ينحصر في إعداد أرض وادي النيل الخصبة للزراعة، وقد حدث ذلك في الوقت الذي أخذت فيه أحوال البلاد تتغير من جهة الجو تدريجًا، وقد حدث هذا عندما أخذت القبائل الجوالة التي كانت ترتكن في معظم معيشتها على الصيد والقنص وتربية المواشي تحط رحالها وتسكن القرى والمدن، وإذا كانت الأراضي الخصبة المجاورة للصحراء بما فيها من مراع طبيعية ضئيلة قد كفت لمدة ما في عصر بداية المعادن حاجة الرعاة الذين كانوا يعيشون بجوار مياه الوادي، فإنها بعد فترة أصبحت غير كافية لسد حاجات سيل السكان الذين كانوا يتدفقون من الصحراء القاحلة إلى شواطئ النيل، وقد كان ذلك سببًا في أن حتم على هؤلاء النازحين أن يستغلوا أرض وادي النيل الخصبة الدسمة، ولكن العوائق الطبيعية قامت في وجههم وجعلتهم يفكرون في التغلب عليها لحاجتهم الملحة إلى طلب العيش، وتفسير ذلك أن النيل كان يغمر أرض الوادي الخصبة كل عام بفيضانه المنتظم، ويترك مياهًا راكدة في الأراضي المنخفضة تتألف منها برك ومستنقعات، على حين أن الأراضي المرتفعة كانت تجف مياهها بعد انقضاء بضعة أسابيع من اختفاء الفيضان، فحتمت الحاجة الملحة على إنسان هذا العصر أن يسوى بين عالي هذه الأراضي وسافلها، حتى تصبح في مستوى واحد صالح للزراعة، ثم رأى أنه كان لزامًا عليه بعد ذلك أن ينظم ماء الفيضان نفسه، حتى يمكنه أن ينتفع به وقت التحاريق، فقام بإنشاء الترع والسدود التي كانت بمثابة الخزانات الآن ليصرف منها الماء عند الحاجة حتى لا يحدث قحط، وهذا العمل العظيم يعد أكبر فتح قام به الإنسان الأنيوليتي في وادي النيل أمام الطبيعة العاتية، والواقع أنه ما كاد ينبثق فجر التاريخ حتى كان الإنسان الذي سبق هذا العصر قد تغلب على كل الصعاب التي مهدت السبيل لنمو المدنية المصرية، ولا شك في أن هذا العمل العظيم يعد من أكبر مفاخر الإنسان الأنيوليتي، وستبقى أسماء هؤلاء الذين نفذوا هذه الأعمال العظيمة سرًّا غامضًا أبد الآبدين، والواقع أن مثلهم في هذا الميدان مثل الجندي المجهول في ساحة الوغى، ومن المرجح جدًّا أن أول من فكر في تنظيم مياه النيل وتوزيعها هم أهل الدلتا لأنهم كانوا بطبيعتهم أهل حضر وزراعة. أما أهل الصعيد فإنهم كانوا أقرب إلى البداوة، ولا يبعد أن تكشف لنا مدنيات جديدة في أرض الدلتا — كما حدث منذ زمن قريب — تثبيت هذه الفكرة، هذا رغم أن معظم مدنيات الوجه البحري قد طغى عليها الماء بارتفاع منسوباته في كل بقاعها، اللهم إلا أجزاء بسيطة لا تكاد تذكر بالنسبة إلى أرض الصعيد التي لم يمسسها في أماكن كثيرة ماء الفيضان وبخاصة على حافة الصحراء التي كانت تتخذ مدافن في كل عصور التاريخ المصري ومنها نستقي معظم ما نعرفه عن المدنية المصرية.

(٣) مراجع فصل ما قبل التاريخ

تنقسم المصادر التي اعتمدنا عليها في تأليف فصل ما قبل التاريخ المصري وما قبل الأسرات، إلى مصادر عامة ومصادر خاصة، أما المصادر العامة فتشمل الكتب التي تبحث عن تاريخ هذا العصر بوجه عام في مصر وغيرها، وهذه الكتب قد تتناول أقسام كل عصر ما قبل التاريخ، أو تتناول فترة طويلة منه، وتبحثها بحثًا مستفيضًا سواء أكان في مصر أم في العالم أجمع. أما المصادر الخاصة فهي التي تبحث في مصر قبل التاريخ فقط أو في عصر معين من تاريخها في هذا الوقت، وبخاصة في عهد ما قبل الأسرات.

وسنذكر هنا أوَّلًا المؤلفات العامة التي تبحث عما قبل التاريخ في كل العالم أو في جزء منه حتى يتسنى للقارئ أو الباحث أن يرجع إليها عندما يريد المزيد في أي موضوع خاص من المواضيع المغلقة الفهم أو عندما يرغب في دراستها وبحثها لغرض معين، وبعد ذلك نذكر المصادر الخاصة بمصر مع شرح بسيط لتعريف كل مصدر، وقد فضلت ذلك عن ذكر كل مصدر في أسفل الصحيفة.

(٣-١) المصادر العامة

  • (1)
    J. De Morgan. Prehistoric Man. London. 1925.

هذا المؤلف هو مختصر عصور ما قبل التاريخ الثلاثة في العالم، وقد أشار إلى مصر في نقط عدة، وقد وضع باللغة الإنجليزية رغم أن مؤلفه فرنسي وكتب كل مؤلفاته الأخرى بلغته الأصلية.

  • (2)
    La Préhistoire Orientale, 3 Vol, Paris. 1925–1927.

هذا المؤلف كتبه العالم «دي مرجان» كذلك، وقد بحث فيه بحثًا مستفيضًا عن عصر ما قبل التاريخ في أفريقيا الشمالية ومصر وآسيا، وذلك نتيجة أبحاثه وحفائره الخاصة. وقد طبع هذا الكتاب بعد وفاة مؤلفه.

  • (3)
    Burkett., The Stone Age. London 1933.

وقد بحث فيه مؤلفه تاريخ العصور الحجرية المختلفة بحثًا مختصرًا سهل التناول، ويعتبر من الكتب المدرسية السهلة.

  • (4)
    Minghin. Welt Geschechte Der Steinzeit, Wien. 1931.

هذا الكتاب يعد العمدة في بحث عصور ما قبل التاريخ الثلاثة، وقد حلاه بالرسوم والصور المتقنة.

نذكر بعد ذلك الكتب العامة التي بحثت فيما قبل التاريخ المصري خاصة. وأهمها ما يأتي:

  • (1)
    J. De Morgan. Recherches sur les Origines de l’Egypte, 2 vol. Paris 1896-7.
وضع العالم «دي مرجان» في هذا الكتاب كل نتائج بحوثه، وبحوث من سبقه في دراسة ما قبل التاريخ في مصر، ولكنه غير كثيرًا من آرائه في كتبه التي ظهرت فيما بعد:
  • (2)
    A. Scharff Grundzuge des Agyptischen, Vorgeschichte Leipzig 1926.

هذا المؤلف يعد من أمتن الكتب وأعمقها بحثا في عصور ما قبل التاريخ، وبخاصة عصر ما قبل الأسرات في مصر، وقد شرح الموضوع بطريقة سهلة ظاهرة.

  • (3)
    Bovier Lapierre. L’Egypte Préhistorique dans (précis de l’histoire d’Egypte) page 1–56.

يعد هذا العالم «بوفييه لابيير» من أكبر علماء ما قبل التاريخ في مصر، وقد كتب هذا الفصل الممتع، وبحث بحثًا فياضًا كل مسائل ما قبل التاريخ في مصر، وبخاصة في العهدين الحجريين القديم والحديث.

  • (4)
    Hermann Junker, Vorlaufigen Bericht Uber die Grabung des Akademie der Wisserschaften in Wien, auf der Neoletiechen Siedlung Von Merimde Benisalama. Anzeigen der Akademie der Wissenschaften in wien, Hist. Klasse, 1929, 1930, 1932, 1933, 1934.

قام الأستاذ «ينكر» العالم الألماني لأول مرة بحفائر منظمة في الوجه البحري في منطقة مرمدة بني سلامة القريبة من وردان للبحث عن عصر ما قبل التاريخ، فعثر على مدنية العصر الحجري الحديث في هذه الجهة، وليس لدينا مصادر أخرى في الدلتا من هذا العصر، وقد كتب عدة تقارير هامة عن نتائج الحفر في أعوام متتابعة.

  • (5)
    Flinders Petrie, Prehistoric Egypt, London 1920.

بحث الأستاذ «فلندرز بتري» عن مدنية ما قبل الأسرات في مصر، وقد جمع فيه كل آرائه وبحوثه المبعثرة في تآليفه الأخرى.

  • (6)
    Jequier, Histoire de la Civilisation Egyptienne.

كتب المؤلف في كتابه هذا فصلًا عن مصر في عهد العصريين الحجري القديم والحديث وعصر ما قبل الأسرات باختصار، من صفحة ٥٣–٩٤.

  • (7)
    Capart. Les débuts de l’Art en Egyte, Buxelles 1904.

وقد بحث المؤلف في كتابه كل الفنون والصناعات، التي كانت متداولة في مصر في عصور ما قبل الأسرات، وزيَّنه بالرسوم الجميلة والصور الواضحة.

كتب بعض علماء ما قبل التاريخ المصري بعض مقالات هامة لبحث نقط غامضة في بعض المجلات نذكر هنا أهمها فيما يأتي:

  • (1)
    Stations Humaines. Bovier Lapierre, Les Paléolithique Stratific des environs du Caire. L’Anthropologie. Vol. XXXV 1925.

في هذا المقال بحث هذا العالم عن بقايا الحيوان والصناعة في ضواحي القاهرة في العباسية، وحدد عصور العهد الحجري القديم بوساطة بقايا وجدت في طبقات بعضها فوق بعض، تحدد عمر كل أثر وجد تحديدًا تاريخيًّا.

  • (2)
    M. Edmond Vignard. Une Nouvelle Industrie Lithique le Sebilien Bultin l. F. A. O. Vol. XXII. 1923. (P. 1–76).

بحث هذا العالم في مقاله الحضارة التي أطلق عليها السبيلية نسبة إلى بلدة السبيل القريبة من نجع حمادي، وقد درس كل الآلات، وبقايا الحيوان التي ظهرت في المنطقة، وقارنها بمثيلاتها في أوروبا وأفريقيا الشمالية، وترجع إلى العصر الحجري.

  • (3)
    Revue Scientifique 1928. Les Gravures rupestres du Djebel Ouenat. Prince Kamal-el-Din.

وهذا المقال ملخص رحلة قام بها الأمير كمال الدين في الصحراء، وقد أحضر معه بعض رسوم من التي على الصخور في وادي عوينات، وكذلك جمع بعض آلات من العصر الحجري القديم.

  • (4)
    Bovier Lapierre. Une Nouvelle Station Neolithique (El Omari au Nord de Helouan) Congrés Inter. De Geographie. Le Caire 1925 Tom. IV

يبحث هذا المقال في الظِّرَّان الذي عثر عليه المرحوم الأستاذ العمري في محطة من العصر الحجري الحديث، وقد سماها العلماء باسمه بعد أن مات قبل أن ينشر أبحاثه.

منذ حل رموز اللغة المصرية قام علماء الآثار بحفائر هامة في مختلف عصور التاريخ المصري، وقد قامت حفائر عن عصر ما قبل الأسرات في جهات مختلفة من القطر، ووضعت المؤلفات الخاصة بها، وسنذكر هنا أهم هذه المؤلفات:

  • (1)
    Brunton and Caton Thompson, The Badarian Civilisation and Predynastic remains near Badari. London 1928.

وقد شرح المؤلفان في هذا الكتاب نتيجة البحث والحفر في منطقة البداري. وتعتبر أقدم مدنية مصرية عثر عليها للآن في الوجه القبلي بعد المدنية الطاسية، التي عثر عليها في دير طاسة القريبة من البداري.

  • (2)
    Chronologie. Petrie Diospolis Parva, The Cem-tries of Abadiyah and Hu 1898-1899, London.

بحث «فلندرز بتري» في هذا الكتاب نظريته عن تاريخ التتابع مستندًا على محتويات المقابر التي وجدها من عصر ما قبل الأسرات وبخاصة الفخار.

  • (3)
    Petrie & Quibell. Nagada and Ballas. 1895, London 1896.

وفي هذا الكتاب بحث نتائج الحفائر التي قام بها في هاتين الجهتين من عصر ما قبل التاريخ، وقد ظن أنه عثر على جنس جديد من الناس فيها، والمدنية التي وجدت في هذه الجهة تأتي بعد مدنية البداري في القدم.

  • (4)
    Quibell Hierakonpolis Part 1 and II London 1900.

وقد ناقش «كويبل» في مؤلفه هذا كل الآثار التي عثر عليها في هذه المنطقة «الكاب الحديثة والكوم الأحمر»، ومعظمها يرجع إلى عصر ما قبل الأسرات الحديث.

  • (5)
    Minghin and Mustapha Bey Amer The Excavations of the Egyptian University in the Neolethic site at Maadi Vol. I.
  • (6)
    Mostapha Bey Amer Vol II.

وقد بحث في هذين المؤلفين مدنية هذا الموقع، التي يرجع عهدها من العصر الحجري الحديث إلى عصر ما قبل الأسرات الحديث، وقد عثر في هذا الموقع القريب من المعادي على بعض آلات وأدوات من الفخار والظِّرَّان غريبة في بابها، وهنا عثر على أول مباني باللَّبِن كما شرحنا ذلك في مكانه.

  • (7)
    Randal-Macliver and Mace El Amrah and Abydos 1899–1901, London 1902.

وقد بحث في هذا المؤلف النتائج التي وصل إليها هؤلاء الأثريون في هذه المنطقة، التي يرجع عهدها إلى ما قبل الأسرات، كما أشرنا إلى ذلك في حينه.

  • (8)
    Hermann Junker Bericht Uber die Grabungen der Kaiserlichen Akademie der Wissenschaften in Wien Auf Dem Friedhof in Turah 1913.

بحث الأستاذ «ينكر» في هذا التقرير نتائج حفائره التي عملها في الموقع الذي حفر فيه بالقرب من طرة، ويرجع إلى عصر ما قبل الأسرات وغيره.

  • (9)
    Scharff. Die Archeologischen Ergebinesse des Vorgeschichtlichen Graberfelds Von Abusir-el-Meleq Leipzig 1929.

نتائج أعمال الحفر في منطقة أبو صير الملق، ويرجع عهدها إلى عصر ما قبل الأسرات، وقد عثر فيها على بعض أدوات وأشكال حيوانات غريبة منها تمثال للجمل (؟).

  • (10)
    Caton Thompson & Miss Gardner the Desert Fayum 2 Vol. 1926.

وقد بحث في هذا المؤلف مدنية الفيوم من أقدم عصورها، التي ترجع إلى العصر الحجري القديم وعلاقتها بالمدنيات الأخرى التي ظهرت في مصر، وكذلك بحث في هذا الكتاب مسألة بحيرة موريس وأصلها.

ويوجد نوع آخر من المصادر، اعتمدنا عليه في بعض النقط نخص بالذكر منه ما يأتي:

  • (1)
    A Study of the Badarian Crania recently excavated by the British school of Archeology in Egypt, Biometrika Vol XIX, (1927 p. 110–150).

بحث في هذا المقال الجماجم التي عثر عليها في حفائر البداري، وقد عزا أصل القوم الذين كانوا في مصر في هذا الوقت إلى الجنس الحامي.

  • (2)
    Morant. A Study of the Egyptian Craniology from prehistoric to Roman Times, Biometrika Vol XVII (1925 P, 1–52).

وقد تكلم المؤلف في هذا المقال عن الجماجم التي عثر عليها في الحفائر المختلفة من أول ما قبل التاريخ إلى العصر الروماني.

  • (3)
    Geology of Egypt. Hume, Cairo, Vol I 1925 Vol II 1934 Vol III 1937.

تبحث هذه الكتب في جيولوجية مصر، وتركيب قشرتها الأرضية وتكوين نهر النيل، ثم صخورها ومعادنها وأحجارها شبه الكريمة، وغيرها من أنواع أحجار مصر الكثيرة العدد والمختلفة الأنواع، وهذا الكتاب يعد أكبر المصادر التي يعتمد عليها الأثري في بحث تركيب البلاد الطبيعي وصخورها ومعادنها.

وقد اقتصرنا هنا على أهم المصادر الأصلية التي اعتمدنا عليها في تأليف هذا الفصل، تاركين المصادر الثانوية التي أخذت عن المصادر الأصلية التي ذكرناها.

١  نسبة لبلدة Chelles-Sur Marne وقد وجد فيها أقدم صناعة من عصر الحجر القديم السفلي.
٢  نسبة إلى Saint Acheul إحدى ضواحي بلدة Amiens في فرنسا حيث وجدت صناعات من ثقافة هذا العصر في المرتفعات التي تحف نهر Somme.
٣  نسبة إلى مأوى صخري في قرية Le Moustier وهي على بعد عشرة أميال من Eyzies.
٤  نسبة إلى بلدة Aurignac وقد وجد فيها مأوى صخري وهو بالقرب من St. Gaudens في صقع البرانيز، غير أن هذا المأوى قد أزيل الآن جملة بسبب قطع الأحجار منه.
٥  نسبة إلى مأوى صخري وجدت فيه ثقافة هذا العصر، وهو بالقرب من قرية بهذا الاسم في مقاطعة Saone-et Loire.
٦  نسبة إلى الكهوف التي يطلق عليها اسم Madeleine Tursac على نهر دردوني Dordogne بفرنسا.
٧  نسبة إلى مكان بهذا الاسم Mauer بالقرب من مدينة «اليهدلبرج» في ألمانيا، والظاهر أن عهده يرجع إلى زمن تقهقر جليدي، وهذا المكان يحتوي على بقايا حيوانات تؤكد الاستنتاج إذ يحتوي على بقايا عظم لوحيد القرن، وهذا الفك لا دقن له وهو عظيم الحجم، ولكن الأسنان تدل على أنه للإنسان، ويعتبرها المؤرخون أنها من حجر الموستيري.
٨  وهو مخبأ صخري بالقرب من سكة حديد بلدة Les Eyzies، وقد عثر فيه على عدة مدافن آدمية، وكان بعض الهياكل مزينًا بقلائد من أصداف البحر ولو أن البحر بعيد عن هذه المنطقة.
٩  في عام ١٨٥٦ عثر بالقرب من بلدة «دسلدرف» على قطعة من جمجمة في كهف صغير Neanderthal ولم يعثر معه على بقايا حيوان ولكن في كهف بالقرب منه عثر على عظام ماموت، والظاهر أنها من العصر الجيولوجي الرابع.
١٠  تسمية خطأ عند الإفرنج.
١١  موقعها الحالي بلدة «هو».
١٢  أو فرس البحر، ويسمى كذلك العسنت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤