الفصل العاشر

آلهة المقاطعات

تكلمنا في الفصل السابق عن أصل منشأ المقاطعات وكيفية تدرجها ورقيها من الوجهة الإدارية، وكذلك تكلمنا عن أصل العبادات فيها وتقلباتها في كل مقاطعة. والآن سنتحدث عن آلهة هذه المقاطعات وعن الأسباب التي أدت إلى تقديس هذه المعبودات على اختلاف أنواعها بقدر ما تسمح به الأحوال.

وسنبدأ بآلهة الوجه البحري متتبعين مواقع نفوذ كل إله أو إلهة حسب طبيعة الإقليم الذي نشأت فيه تلك العبادات، والحقيقة التي لا مراء فيها أن الفكرة الدينية الأساسية كانت واحدة في كل أنحاء القطر، ولكن الخلاف في كيفية عبادة كل إله في كل مقاطعة، ولذلك لا نكون مغالين إذا قلنا إنه يوجد في مصر على وجه عام ديانات بقدر عدد المقاطعات.

ويجب أن نقرر هنا في بادئ الأمر أنه يكاد يكون من ضروب المستحيل أن يكون اعترافنا بتقسيم الوجه القبلي إلى ٢٢ مقاطعة والوجه البحري إلى ٢٠ مقاطعة، كما وصل إلينا من القوائم القديمة المختلفة، دالًّا على أنه كان في مصر في تلك العصور ٤٢ حكومة مستقلة، بل الواقع أن كثيرًا من هذه المقاطعات قد نشأ لأسباب إدارية، هذا إلى أن حدود هذه المقاطعات كانت تتغير حسب العصور، ولا يمكننا الآن أن نبحث في أصل كل مقاطعة وكيفية نشأتها، والوثائق لا تعوزنا لهذه البحوث في الوجه القبلي، ولكنها قليلة هزيلة وغامضة أحيانًا بالنسبة للوجه البحري، ولذلك سنقتصر في بحثنا في ديانة مقاطعات الوجه البحري على ما تسمح به الوثائق التي بين أيدينا.

figure
الإلهة «نيت» سيدة «سايس».
وأهم المعبودات التي ذاعت عبادتها في غربي الدلتا الإلهة «نيت» إذ كانت تقدس في المقاطعتين الرابعة والخامسة، وكان مقر عبادتها بلدة «سايس» (صا الحجر الحالية)، وهي عاصمة المقاطعة الخامسة، وقد انتشرت عبادة «نيت» في كل البلاد المصرية منذ بداية الأسرة الأولى، وكانت الإلهات في ذلك الوقت لهن الحق في وراثة الملك كما كان للمرأة في الشرائع الدنيوية، وقد جاء في النصوص القديمة عن هذه الإلهة ما يأتي:

«نيت» الأم العظيمة للإله «رع» وقد ولدت في الأول، في الوقت الذي لم يكن قد ولد فيه أحد، وقد أصبحت فيما بعد على رأس الثالوث الذي كان يتألف من «أوزير» الزوج في «منديس» (تل الربع)، ومن ابنيهما «أرى-حس-نفر» الذي كان يمثل على شكل أسد وديع.

وقد قامت بأدوار أخرى سنتكلم عنها في حينها، وفي شمال هاتين المقاطعتين توجد مقاطعة الخطاف١ الغربية «المقاطعة السادسة»٢ وتشمل بحيرة البرلس، وسكانها يمتهنون صيد الأسماك وعاصمتها بوتو «بر-وزيت» (إبطو الحالية)، وموقعها الحالي تل الفراعين، حيث كانت تعبد إلهة تتقمص ثعبانًا سامًّا يطلق عليه اسم «وزيت»، وفي الجهة الغربية نجد المقاطعة السادسة عشرة وعاصمتها بلدة «منديس» (تل الربع)، وكانت تسمى بالمصرية «بر-با-نب-زد». أي بيت روح سيد «زد»، وهي مقر عبادة إله على شكل تيس يعبد باسم «خنوم» (غنم) ثم جاء في العصور المصرية فيما بعد أن الإله «أوزير» كان يتقمص هذا التيس، ومن ثم أصبح يطلق عليه روح سيد «زد»، وكذلك يقال إن مومياه كانت مدفونة في هذه البلدة، ومما يلاحظ أن هذا الإله لم يصور قط على شكل آدمي، بل بجسم بشري ورأس تيس، وربما كان ذلك دليلًا على أن عُبَّادَه لم يمكنهم أن يتخلصوا من الفكرة الأولى التي عبدوا بمقتضاها هذا الإله، ومما هو جدير بالملاحظة في هذه المقاطعة أنه كان يرمز لها باسم إلهة على شكل سمكة الدرفيل «حات-محيت»، وتقديس هذه السمكة في تلك الجهة دليل على أنها كانت تدرج في النيل إلى هذه النقطة؛ أي إن الماء الملح الذي تعيش فيه هذه السمكة كان يصل إلى هذه الجهة، وتوجد في دمياط إلى يومنا هذا، وجنوب هذه المقاطعة نجد بلدة «زدو» (أبو صير)، وهي عاصمة المقاطعة التاسعة، وهي مسقط رأس إله النباتات العظيم «أوزير» الذي حل محل إله قديم يدعى «عنزتى»، كما تنبئنا متون الأهرام، والإله «أوزير» هذا هو بكر إله الأرض «جب»، ويسكن في أعماق الخصب، فيخرج الزرع والأشجار وكل الثمرات المختلفة الألوان، وهذا هو المظهر الذي تتمثل به روحه على سطح الأرض. أما الرمز الذي تتقمصه روحه في هذه البلدة فهو جذع شجرة قد شذبت فروعه، فأصبح على هيئة وتد [انظر «ددو» رمز الإله «أوزير» بملابس الاحتفال الديني]، ويرى علماء اللاهوت في هذا الرمز أنه يمثل العمود الفقري لهذا الإله، ومن أجل ذلك كان رجال الدين يحتفلون سنويًّا بعيد عظيم لإقامة هذا الرمز وجعله منتصبًا في المعبد، إذ يرون في ذلك ضمانًا للثبات الأبدي للعالم.
figure
«ددو» رمز الإله «أوزير» بملابس الاحتفال الديني.
figure
دد رمز الثبات.

ولهذا السبب يرمز هذا الرسم في المتون والتعاويذ التي تعمل على شكله إلى معنى الثبات، وعندما كان يفيض ماء النهر ويطفو على الأراضي ويغطيها، كان ذلك يسبب غرق الإله الذي يسكن الأعماق، ولكن زوجتيه الإلهة «إزيس» والإلهة «نفتيس» كانتا تخلصان جثته من الغرق كما تقول الأساطير، وبذلك ينتعش «أوزير» ويحيا حياة جديدة بمفعول السحر من جهة، ولأن والده إله الأرض «جب»، قد أمر بذلك من جهة أخرى، ومنذ ذلك العهد كان «أوزير» عاملًا فعالًا في نمو النباتات وجعلها مثمرة يانعة وهو مع ذلك في أعماق قبره، ولذلك يعتبر إله النيل كما جاء في متون الأهرام، وهذه الأطوار في حياة «أوزير» كانت تمثل في احتفال ديني عظيم يفرد لهذا الغرض، فيحتفل فيه بذكرى وفاته وعودته للحياة ثانية، وكان يقام في بلدة «العرابة» المدفونة حيث يقال إن رأسه كان مدفونًا هناك.

figure
الإلهة «نفتيس».

وقد جاء في الأساطير أن «أوزير» حكم في سالف الزمان على الأرض، ونشر في أرجائها أعماله الطيبة، ولكن أخاه «ست» الشرير اغتال حياته خلسة في مؤامرة دبرها له هو وأتباعه، ومنذ ذلك العهد أصبح مقره الأبدي القبر بعد أن جمعت أختاه «إزيس» و«نفتيس» أشلاءه من الأمكنة التي وجدت فيها، ورغم ذلك فإن هذا الإله الميت، أو كما يعبر عن ذلك المصريون «الذي لا يدق قلبه» يمكن أن يعود إلى الحياة ثانية ويمنح قوة التناسل بمفعول السحر، وقد نتج عن عودته للحياة ثانية أن ولدت له إلهة السماء «إزيس» ابنة «حور»، ولكن أمه قد هربت به خوفًا من اضطهاد عمه وشروره فذهبت إلى المناقع التي في غرب الدلتا بالقرب من «بوتو». ولما اكتملت رجولة «حور» انتقم لوالده وفتح ثانية مملكته.

figure
الثالوث حوريس وأوزير وإزيس.

وذلك بفضل مساعدة جده «جب» إله الأرض الذي نصبه وارثًا على ملك والده، ولقد كان من نتائج هذا أن أصبح «حور» يعبد في بلدة «بوتو» التي كانت تعد مسقط رأسه، وكذلك انتشرت عبادته في مواطن أخرى كثيرة في الدلتا، فكان يعبد في «بوتو» بصفته حور الطفل «حوربوخراد» وفي جنوبي تشعب النيل في بلدة «ليتوبوليس» المقاطعة الثانية «أوسيم» كان يعبد بصفته كهلًا «حور الكبير»، وكان يعد في هذه الجهة كأنه أخ للإله «أوزير» وللإله «ست»، وفي المقاطعة العشرين «الغرب» عند الحدود الشرقية في منطقة فاقوس (صفت الحنا) امتزج الإله «حور» في العصور المتأخرة بالإله المحلي «سبد» سيد الشعوب الأجنبية الشرقية وحاميها، وأصبح يعبد هناك على هيئة صقر جاثم على سرير، وهناك آلهة أخرى كثيرة غير من ذكرنا يرجع منشؤها إلى بلاد الدلتا، وقد لعبت دورًا هامًّا في تاريخ ديانة القوم فمنها الإله «تحوت» «هرمس»، وكان مقر عبادته بلدة «هرموبوليس» (بحدت) عاصمة المقاطعة الثالثة، وهي (دمنهور الحالية) ويرى الأستاذ «إدوردمير» أن هناك مقاطعتين باسم «هرموبوليس» واحدة منها في الشمال الغربي والثانية في الشمال الشرقي من الدلتا.

figure
الإله «حور» بن «إزيس».
ويعتبر الأستاذ «زيته» أن الأولى هي المقاطعة الخامسة عشرة، أما الثانية فهي المقاطعة الثالثة ومقرها «بحدت» (دمنهور الحالية). على أن هناك بعض العلماء يظن أن مقاطعة العجل «أبيس» هي المقاطعة الثالثة ويجعل عاصمتها «أمو» أو «بر-نب-أمو» (بيت سيد الأمو) وهذه المقاطعة على الحدود اللوبية٣ وهي أقدم من «هرموبوليس» التي في الصعيد (الأشمونين)، وكذلك الإله «سبك» (التمساح) الذي كان يعبد في مناقع غربي الدلتا في بلدة «سايس»، وكان يطلق عليه ابن الإلهة «نيت» كما ورد في متون أهرام الملك «وناس» آخر ملوك الأسرة الخامسة، وقد بقي اسم هذا الإله محفوظًا إلى الآن في أسماء بعض القرى المصرية في الدلتا إلى يومنا هذا، مثال ذلك: «سبك الأحد» و«سبك الثلاث»، وكان الاعتقاد السائد في هذه الجهات أن هذا الإله يساعد على نمو النبات على كلتا ضفتي النيل، ولا يفوتنا أن نذكر هنا أن التمساح يُرى ملقى على شاطئ النهر وينسب إليه خصب الشاطئين. يضاف إلى ذلك أنه باعتباره ابن الإلهة «نيت» التي كانت تعد إلهة مائية أيضًا، كان يضحك عندما يحل ماء الفيضان، ومن أجل ذلك كان لا حرج في أن تمثل هذه الإلهة وهي تعطي ثدييها إلى تمساحين دفعة واحدة.
ومن الحيوانات التي شاعت عبادتها في الدلتا البقرات والثيران، وهذا أمر طبيعي؛ لأن طبيعة أرض هذا الإقليم وخصبه تستدعي وجود هذه الحيوانات لحاجة الفلاح لها، فكان الثور يعبد في المقاطعة الحادية عشرة وعاصمتها «شدنو» (هربيط الحالية) وكان يطلق عليه اسم «ثور شدنو العظيم»، وقد كشف حديثًا له عن مدافن في جبانة عظيمة موقعها «تل أبو يسن الحالي» وتدل الآثار التي كشفت على أن هذا المكان كان مدفنًا للعجول والطيور التي كانت تقدس في هذه الجهة، وبخاصة الصقر الذي وجد منه عدد عظيم محنط ومدفون في مكان خاص بعناية زائدة وكثرة عظيمة، وربما كان من آثار عبادة الصقر في هذه الجهة بقاء ذكراه في بلدة «كفر صقر» القريبة من قرية أبو يسن هذه، وتدل مدافن هذا النوع من العجول على أنه كان معتنى به كثيرًا في العصور المتأخرة حوالي الأسرة الثلاثين، والنقوش التي وجدت على توابيت هذه العجول ليس لها مثيل في تاريخ الديانة المصرية وخاصة أنها تكشف لنا عن صفحة جديدة في منازل القمر وأوجهه وعبادته في هذا العصر، أما في المقاطعة العاشرة فكان الثور يعبد فيها قديمًا على ما يظهر باسم الثور الأسود. وقد بقي الثور رمزًا على اسم المقاطعة وعاصمتها «أتريب» (تل أتريب) وهو بنها الحالية.٤ أما في منطقة منف، فكان يعبد بصفته العجل «حابي» أي «أبيس»، والظاهر أن تقديسه كان قديمًا ولكن عبادته لم تتم إلا فيما بعد.

أما البقرات فكانت تعبد في منطقة «منف» (البدرشين)، وتقمصت روحها شجرة الجميز.

figure
المتوفى وزوجه أمام شجرة الجميز ووسطها الإلهة «نوت» يتقبلان الخبز والماء للحياة الأخرى.

وكانت الجميزة في هذه الجهة تسمى شجرة جميزة الجنوب، وكان يعتقد أنها جسم الإلهة «حتحور» (البقرة) الحي على الأرض، وكانت الإلهة نفسها تسمى سيدة شجرة الجميز الجنوبية، وكثيرًا ما يشاهد على الآثار المصرية رسم شجرة الجميز والإلهة مطلة من بين أغصانها على شكل امرأة، وبيدها أبريق تصب منه الماء للسابلة والأموات في وسط الجبانة، وقد بقي احترام الجميزة باقيًا للآن؛ إذ تزرع بجوار المقابر يستظل بفيئها وتروى ظمأ الأموات كما هو الاعتقاد السائد الآن بين عامة الشعب، ويعد قطعها من الأمور المحرمة، أما في المقاطعة الثانية عشرة وعاصمتها «زبات-نثر» (سمنود الحالية)، ومعناها معبد الإله فكان يعبد فيها الإله «أونوريس» (أنحور) فكان يمثل إله الشمس في شكل إنساني «أوزير» محنطًا، ويقال في الأساطير إنه هو الذي أحضر عين الشمس من بلاد النوبة، وقد حل محل الإله «شو» إله الهواء في أماكن مختلفة، والظاهر أن عبادته كانت حديثة في هذه الجهة.

figure
مزارع يقدم القربان إلى شجرة الجميز.

أما أعظم الآلهة المحلية التي كانت تعبد في الدلتا فهو الإله «آتوم» الإله المحلي للمقاطعة الثالثة عشرة ومقرها عين شمس، والواقع أننا لا نعرف شيئًا عن أصل نشأة هذا الإله؛ لأن الكهنة وحدوه مع الإله «رع» ملك الكون، وكان يمثل «آتوم» أو «تم» في شكل حيوان يشبه «فار فرعون» الحالي، لأنه كما جاء في الأساطير كان يبتلع الثعبان الذي يريد أن ينقض على «آتوم» (الشمس عند الغروب) ويبتلعه عند غروب الشمس، والحقيقة أن هذا الحيوان لا يظهر إلا عند الغروب ويسطو على الثعابين، وكذلك كان يمثل على شكل رجل متوج يحمل شارات الملك؛ وذلك لأنهم كانوا يعتقدون أنه ملك الآلهة — أما عندما كانوا يمثلون «رع» إله الشمس، فكانوا يرون فيه قرص الشمس الأحمر الذي يسبح في السماء في سفينته، وقد كان الخيال المصري أحيانًا يصوره في صورة غريبة، فكان في إحدى الجهات يمثل إله الشمس على هيئة «جعل» تلك الحشرة التي تدحرج أمامها قرص الشمس في أنحاء السماء، كما يدحرج الجعل الأرضي «كور الروث» التي تشتمل على بويضاته، وتلد نفسها بنفسها دون أن تحتاج إلى أنثى، وفي جهة أخرى تمثل الشمس على هيئة عجل من الذهب ولدته إلهة السماء، وفي خلال النهار يكبر ويصبح ثورًا ويسمى «كاموتف»؛ أي ثور أمه، لأنه يلقح البقرة لأجل أن تضع شمسًا جديدة لليوم التالي.

figure
مركب الشمس في طريقها إلى الغرب.

أما إذا مثل الإنسان السماء على هيئة امرأة، فإنها تلد الشمس على هيئة طفل يكبر كذلك خلال النهار ليغيب في السماء، كرجل مسن في عالم الآخرة، وتمثيل الشمس على هيئة رجل مسن كان يعبد بصفته «آتوم» في عين شمس. أما الجعل «خبرى» فكان يعتبر شمس الضحى، وهكذا كان يفرق القوم بين مظاهر الشمس الثلاثة: «خبرى» في الصباح و«رع» وقت الظهيرة و«آتوم» عند الغروب، على أن هذا الترتيب لم يكن متبعًا بصفة قاطعة في كل الجهات.

وعندما نترك الدلتا صاعدين في النيل فأول ما يواجهنا منطقة «منف».

أي في المقاطعة الأولى للوجه البحري، ونجد فيها عدة آلهة تعبد جنبًا لجنب ونخص بالذكر منها: أوَّلًا الإله «سقر» ومنه اشتق اسم بلدة «سقارة»، وهو إله كان يمثل على شكل إنسان يحمل رأس صقر، ويعد إلهًا للموتى؛ وذلك لأن اسم المنطقة أو الجبانة التي كان يسيطر عليها، كانت تعتبر في نظر المصريين الباب الذي يؤدي إلى الآخرة «روستاو». ثانيًا: الإله «تاتننت» ومعناه (الأرض التي ترفع) ويعد مظهرًا من صور الإله «فتاح»، الذي كان يعتبر من أهم معبودات هذه الجهة أيضًا، وكان يمثل على هيئة رجل مزمل في اللفائف، كأنه مومياء برأس صلعاء عارية عن كل لباس، وليس في حالته وشكله ما يشير إلى وظيفته أو هو في الحقيقة يمثل إله الفن والنحت، وإليه ينسب خلق العالم، وكان ينعت «فتاح» بصاحب الوجه الجميل. ثالثًا: العجل «أبيس» كما ذكرنا كان يعبد في هذه الجهة، ولكن أهميته لم تصبح ذات شأن إلا عندما صارت «منف» عاصمة الدولة، ومن المدهش أن هذا العجل كان يحفظ في معبد الإله فتاح مع أنه ليس هناك أية علاقة تربطهما، اللهم إلا في عهد الدولة الحديثة إذ كان القوم وقتئذ يعتقدون أن روح الإله فتاح قد تقمصته.

figure
الإلهة «نوت» تمثل السماء برفعها الإله «شو».

وأول ما يواجهنا في طريقنا من مقاطعات الوجه القبلي المقاطعة الثانية والعشرون وعاصمتها «بر-حمت» (بيت البقرة) وموقعها إطفيح الحالية، وقد أطلق عليها اليونان «أفروديتو بوليس» الشمال، وكانت البقرة تعبد في هذه الجهة بصفتها إلهة السماء، وعلى الضفة اليسرى توجد مقاطعة النخيل العليا، وهي المقاطعة العشرون وعاصمتها «هراكليو بوليس» (إهناس المدينة الحالية)، وفيها معبد للإله «حرشف» (الذي على بحيرته) وتتقمص روحه كبشا، وكان عباده يعتقدون فيه أنه إله عالمي، وأن عينيه هما الشمس والقمر، ومن أنفه يخرج الهواء، أما اسمه الذي على بحيرته فتفسيره أن معبده يوجد عند مدخل الفيوم حيث توجد بحيرة. أما المقاطعة الحادية والعشرون، وتسمى مقاطعة «النخيل السفلي» فهي واحة الفيوم نفسها التي سكنها المصريون منذ فجر التاريخ، وعاصمتها «شدت» (الفيوم الحالية)، وكان يعبد فيها الإله «سبك» الذي يمثل على شكل تمساح، وقد أقيم له معبد آخر عظيم في بلدة «أمبوس» (كوم أمبو الحالية)، وفي هذه الجهة كان يحتفل كل عام بفيضان النيل وهو في الواقع إله الماء، وهذا هو السبب الذي من أجله قد مثل في لوحة نائمًا على قضيب من الرمل في مقصورة صغيرة شأن كل الآلهة المقدسة التي يجب أن تحترم في كل مكان على النيل، ولقد بلغ من احترام هذا الإله عند أتباعه أن وصفوه ﺑ «جميل الوجه»، على أن الدافع الحقيقي لعبادة هذا الإله في الأصل هو الخوف أو الفزع مما عساه أن يحدثه هذا الحيوان الجبار من الضرر بالإنسان، وبعد إقليم الفيوم جنوبًا يواجه الإنسان إقليما عظيمًا يمتد من الوادي إلى سفح الجبل الشرقي المتاخم للنهر، ويشمل ثلاث مقاطعات: الأولى: مقاطعة «سبا» وهي الثامنة عشرة. والثانية: مقاطعة «كينوبوليس» وهي المقاطعة السابعة عشرة. أما المقاطعة الثالثة: فيطلق عليها جبل الثعبان وهي المقاطعة الثانية عشرة، وعاصمتها «هيراكنبوليس» (بلدة الإله حور)، ثم «أنتيوبوليس»، وموقعها «قاو الكبيرة» الحالية، وفي هذه المنطقة تسود عبادة الإله «أنوبيس» وبخاصة في المقاطعة السابعة عشرة، وفي مقاطعة جبل الثعبان ١٢ كان يعبد الإله «حور» وإلهة على هيئة لبؤة تسمى «ميتيت»، وهي أم الإله «حور»؛ أي إنها هنا تمثل الإلهة «إزيس».

figure
الإله «أنوبيس» يشرف على تحنيط جثة «أوزير».
وكانت عبادة الإله «أنوبيس» الذي يمثل على شكل ابن آوى عظيمة في هذه المنطقة، وذلك لأنه في بادئ الأمر كان يعبد رهبة وخوفًا منه؛ إذ إن هذا الحيوان كان بطبعه يحوم ليلًا على حافة الصحراء بالقرب من الجبانات، فكان القوم يخافون منه على أجسام موتاهم، ولكن الكهنة فيما بعد ألبسوا عبادته ثوبًا آخر، وأصبح يعبد بصفته حامي الموتى والمشرف على تحنيطهم وإعداد جنازهم، ومن المحتمل أنه أخذ هذا المركز في العبادة بسبب الدور الذي لعبه في أسطورة الإله «أوزير» إذ هو الذي قام بتحنيطه وإقامة شعائره الدينية وبخاصة عند تمثيل عيد إحيائه، وبين المقاطعتين السابعة عشرة والثانية عشرة على الضفة اليسرى للنيل المقاطعة السادسة عشرة «مقاطعة المهى» وعاصمتها «حبنو» (زاوية الميتين الحالية)، والمقاطعة الخامسة عشرة ويطلق عليها اسم «هرموبوليس» وعاصمتها «الأشمونين الحالية»، وكان يعبد في المقاطعة الأولى الإله «حور» قاهر «ست» ولذلك كان يمثل «حور» ممتطيًا ظهر غزال وهو الحيوان الذي كان يتقمصه الإله «ست»، وكذلك كانت تعبد آلهة أخرى في هذه المقاطعة منها الإله «خنوم» وكان يمثل على هيئة كبش، والإلهة «حكت» (الضفدعة) والإلهة «حتحور» والإلهة «باخت»، وكانت تمثل على شكل لبؤة مفترسة. أما المقاطعة الخامسة عشرة فكان يعبد الإله «تحوت» الذي كان يمثل على شكل الطائر «إبيس»، وهو إله العلم والمواقيت … إلخ، وقبالة المقاطعة الثانية عشرة مقاطعتا «شجرة البطم»٥ وهما الثالثة عشرة «ليكوبوليس» وعاصمتها «أسيوط الحالية»، والرابعة عشرة وعاصمتها «جسا» وهي «قوص الحالية»، وكانت عاصمة المقاطعة الثالثة عشرة موطن عبادة الإله المحارب «وبوات» ويتقمص حيوانًا أصبح من المحقق أنه الذئب. ومعنى «وبوات» فاتح الطريق، وهذا الإله يعبد كذلك في «العرابة» المدفونة في مقاطعة «طينة» الثامنة وقد لعب هذا الإله دورًا في أسطورة «أوزير» في الحرب التي شنها على خصمه «ست»، ويلاحظ عند تصوير هذا الإله على الآثار أنه يرسم مزدوجًا؛ أي إن صورته كانت ترسم مرتين كل منهما مواجهة للأخرى، وكان يمثل كل منهما ومعه دبوس حرب وقوس، وكانا ينعتان بأنهما مسلحان بسهام … وأعظم انتصارًا وأشد قوة من الآلهة، وقد أطلق على هذا الإله فاتح مصر المنتصر، ولهذا السبب كان يُحمل أمام الملك علم عليه صورة الإله «وبوات» ليفتح له الطريق في وسط الأعداء، ولا نزاع في أن قرب الإله «أنوبيس» والإله «وبوات» من بعضهما في المكان والعصبية لدليل ظاهر على وحدة هذه المقاطعات في الأزمان السالفة، ولا غرابة في ذلك، فإن كلًّا منهما كان لا حمي في الحقيقة الأحياء من أهل المقاطعة التي يعيش فيها معهم فحسب، بل كان يحمي الأموات أيضًا، فنجد أن «وبوات» يفتح الطريق في دنيا الأرواح كما أن «أنوبيس» يمنحهم جنازًا فخمًا وحياة سعيدة في عالم الغرب «الأموات»، ومما سبق يمكننا أن نلاحظ بكل وضوح الفكرة الأولى عن عالم الآخرة عند المصريين، وهي أنه بعد أن يموت الإنسان تذهب روحه لتنضم إلى الآلهة الذين كانوا حماته على الأرض، وأن هذه الأرواح كانت متقمصة شكلًا حيوانيًّا يظهر الآلهة في هيئته للناس ويعيشون متقمصيها في وسطهم.
figure
الإله «تحوت» يعد سني حياة الملك رعمسيس الثاني.

على أننا نجد مثالًا مشابهًا لما ذكرنا في الإقليم الذي يضم المقاطعة التاسعة وعاصمتها «أبو» (إخميم الحالية) والمقاطعة الخامسة الملاصقة لها وعاصمتها «قفط»، ففي هاتين المقاطعتين كان يعبد الإله «مين» رب القوة التناسلية والخصب في مصر، ويرمز له برسم الصاعقة، وقد عثر منذ أزمان سحيقة على صور لهذا الإله من الحجر في «قفط»، وهو ممثل على شكل صنم ضخم له رأس ملتحية وقناة تناسلية قد استقامت كأنها تلقح، ثم مثل فيما بعد على شكل إنسان يلوح في يده اليمنى زخمة ويلبس على رأسه ريشتين عظيمتين، وبجوار هذا الإله كان يعبد الإله «آمون» في بلدة طيبة في المقاطعة الرابعة، وقد عثر له على أشكال عدة ممثلًا بعضو التذكير المستقيم، وكان كذلك يعبد على شكل كبش في كثير من معابد القطر، كما كان يمثل على شكل إنسان يحمل ريشتين عظيمتين، ولا شك في أنه كانت توجد عصبية بين هذين الإلهين لما بينهما من أوجه الشبه العدة.

figure
الإلهة «باخت».
figure
الإله «ست».
figure
الإله «آمون رع» ممثل على شكل الإله «مين» معبود «قفط».

أما على الشاطئ الأيسر للنيل في المنطقة الواقعة بين قفط و«العرابة» فكانت تقع المقاطعتان السادسة والسابعة، وكانت العبادة السائدة فيهما لإلهة عظيمة تتقمص بقرة يطلق عليها اسم «حتحور» (دندرة) وتعتبر إلهة السماء، والواقع أن إلهة السماء كانت «نوت» ولم تكن عبادتها منتشرة تمامًا. أما عبادة «حتحور» (بيت حور) فكانت على العكس ذات أهمية عظمى، ولا نزاع في أن اسمها يشير إلى الفكرة القديمة، وهي أنها مسكن «حور» صقر السماء، على حين أن صورتها تحمل من البقرة قرنيها وأذنيها، وأحيانًا ترسم رأسها على هيئة رأس بقرة حقيقية، وتنتسب للبقرة السماوية، والواقع أن «حتحور» قد فقدت صفتها الأصلية تدريجًا. إذ لم نفهم على وجه التحقيق الشيء الذي تحمله البقرة بين قرنيها. هل هو الشمس أو كما يعبر عنه المصريون أنفسهم عين الشمس؟ على أن المصريين كانوا يسمونها عين الشمس، وهو الوصف المعتاد الذي كانت توصف به، وكذلك نجد أنها قد تخلت دائمًا عن مرتبتها الأولى بين الإلهات، وقد أصبحت فيما بعد تسمى إلهة الغرب؛ وذلك لأنه كان يعتقد أنها تقف بجانب الجبل الغربي وتسمح للشمس وللأموات عند الغروب بأن يدخلوا في الأقاليم السفلية «عالم الأموات»، وكذلك أصبحت تدعى إلهة الحب والآلهة المرحة الطروب بين النساء، ومن أجل ذلك كن يسمينها «الذهبية»، ولم يخطئ اليونان عندما سموها باسم إلهتهم «أفروديت»، ومن أجل ذلك نجد أن النسوة كن يخدمنها ويحتفلن بها بإقامة حفلات الرقص والغناء واللعب على الصاجات والشخشخة بقلائدهن، وبالعزف على الدفوف، ولها أدوار أخرى سيأتي ذكرها عند المناسبات، وفي المقاطعة الثالثة «هيراكنبوليس» وعاصمتها «نخب» (الكاب) الحالية، ثم إسنا فيما بعد، كانت تعبد إلهة على هيئة أنثى نسر ضخم تسمى «نخبت»، والحقيقة أن اسم هذه الإلهة ليس «نخبت»، بل اسمها نسبة من البلد الذي عبدت فيه «نخب»، وهي العاصمة القديمة للوجه القبلي، وكانت الحامية لرب هذه الجهة وتحلق فوق رأسه، ولذلك كان يوضع رسمها على تاج الملوك والملكات.

figure
البقرة «حتحور» سيدة السماء.
figure
الإلهة «عنقت».
أما في المقاطعة الأولى «الفنتين» (أسوان الحالية) الواقعة عند الحدود الجنوبية للقطر المصري، فكان يعبد فيها غير الإله «سبك» سيد «أمبوس» إله آخر يدعى «خنوم» كان يتقمص كبشًا في معابد الفنتين، وكان يعبد بجانبه كذلك الإلهتان «ساتيت»٦ و«عنقت» في جزر الشلال، وكان يتكون من الثلاث ثالوث هذه الجهة غير أنه في هذه الحالة كان الإله خنوم متزوجًا من اثنتين بدلًا من الأب والأم والابن.
figure
الإلهة «ساتت» تقدم الفرعون أمينوفيس الثالث إلى الإله «خنوم».
وكان الإله «خنوم» يعد أنه الإله الذي يخلق الإنسان ويصوره كالإله فتاح في منف، وكان يسوي المخلوقات على عجلة كصانع الفخار، فكان كل طفل يولد من صنع يده وإليه ينسب حسن تركيب أجسام المواليد، وكان يعرف كذلك بأنه رب الماء العذب٧ الذي ينبع من هذه البقعة، وكان يعتقد المصريون أن حدود بلادهم جنوبًا تنتهي عند هذه النقطة، بل والعالم كله كذلك، ولذلك ظنوا أن النيل ينبع من هذه البقعة.

ومما يسترعي النظر من بين معابد هذه الآلهة المنتشرة في الوجه القبلي معابد الإلهين «حور» و«ست»؛ إذ كانت لها أهمية عظيمة في طول البلاد وعرضها، وهنا يجب أن ننبه الأذهان إلى أن هذين الإلهين لم تكن لهما علاقة في الأصل بالإله أوزير أو الإله «ست» بل في الحقيقة كانا أخوين متخاصمين، فكان «ست» يمثل الظلمة الدامسة والهلاك، على حين أن الإله «حور» كان يمثل النور الذي يسطع بين نجوم السماء، ويحلق في الفضاء على هيئة صقر عيناه الشمس والقمر، وهو يقوم بحرب أبدية على الإله «ست» دون أن تسفر انتصاراته المتوالية عن القضاء على خصمه، وعندما يحدث خسوف القمر يرى المصريون في ذلك أن الإله «ست» قد اقتلع عين «حور»، غير أن الأخير ينتقم لنفسه بانتزاع خصيتي عدوه، ثم ينزل الإله «حور» بعدوه «ست» هزائم دموية، ثم تطالعنا الأساطير بعد ذلك بأن الإله «تحوت» إله الأشمونين (هرمس) يظهر في هذه الآونة على المسرح ممثلًا إله القمر ويشفي جروح المتخاصمين، ومن ثم يذهب كل منهما ليحكم في ملكه فيقسم وادي النيل بينهما، فيكون الوادي الخصيب من نصيب الإله «حور»، أما الصحراء القاحلة (الأرض الحمراء) فتقع من نصيب الإله «ست»، ويتصل بهذه الأساطير التي نجدها مذكورة بصور مختلفة في تاريخ الديانة حسب المذاهب، بعض نقط ترجع بها إلى العبادات المحلية كما سبق وأشرنا إليه في أساطير الدلتا وبخاصة ما يشير منها إلى الإله «حور» الذي نشأ في مناقع الوجه البحري، وتدل الأحوال على أنه كان في الأصل صقرًا، ولا نزاع في أن مثل هذه الأمور العرضية التي تظهر في ديانة المقاطعات، نلاحظ أن صبغة الأسطورة العالمية تنمحي تمامًا أمام ما ينسب إلى الآلهة المحلية في هذه المقاطعة أو تلك؛ لأن القوم كانوا فيها يعتبرون إلههم المحلي أعظم الآلهة.

على أن هناك حقيقة يمكن استخلاصها بكل جلاء ووضوح، وهي أن الإله «ست» منذ فجر التاريخ كان يعد بين الآلهة الرئيسية التي كانت تقدس في الصعيد، وكانت عاصمته بوجه خاص هي بلدة «أمبوس» الواقعة قبالة قفط، بين جبانة نقادة القديمة وقرية البلاص الحالية؛ أي إنها كانت واقعة في قلب أقدم مدنية مصرية، وكان يلقب في هذه الجهة رب البلاد الجنوبية ويعبد على هيئة حيوان خرافي لا وجود له في مصر، ويحتمل أنه هو العقاب الذي عثر عليه في أعالي نهر الكنغو، ولا يبعد أنه كان من حيوانات مصر في ذلك العهد ثم تقهقر، وكذلك كانت عبادته منتشرة في المقاطعتين الحادية عشرة والتاسعة عشرة، وعاصمة الأولى «سشحتب» (شطب الحالية) والثانية مقاطعة «أكسرنكس» (البهنسة) جنوبي مقاطعة «إهناس»، وكان الحيوان المقدس في هذه الجهة سمكة ذات فم مدبب «القنومة».

أما الإله «حور» فكان مقره إدفو عاصمة المقاطعة الثانية، وكان الصقر يمثل إله الشمس وصار يرمز له بقرص الشمس ذات الجناحيين القويين، ويتدلى من كِلَا جانبيه «صل» (ثعبان) وكان القوم يعتقدون أنه يولد كل يوم في الأفق، ثم يتوالد بنفسه من جديد في رحم أخته وزوجته «بقرة دندرة» التي تحولت إلى إلهة السماء، ومن أجل ذلك أطلق عليها اسم «حتحور» ومعناه بيت الإله «حور» أي الشمس، ولذلك كان يرسم قرص الشمس ناشرًا جناحين عظيمين تذكرة لأصل الفكرة. على أن انتشار عبادة «حور» لم تقف عند هذا الحد، بل كانت أعظم شأنًا من ذلك. إذ نجدها سائدة في المدينة التي ستصير فيما بعد العاصمة الملكية «نخن» (الكوم الأحمر)، وتقع على الضفة الغربية من النيل قبالة مدينة الكاب (نخب)، بل وفي المقاطعة الخامسة التي عاصمتها «قفط» وقد رمز لها بصقرين، وكذلك في مقاطعة المهى «السادسة عشرة» وفي مقاطعة جبل «الثعبان» ١٢، ولا جدال في أن نفوذ هذا الإله قد امتد إلى هذه الدرجة لأسباب سياسية؛ إذ الحقيقة أن الإله «حور» مدين بانتشار عبادته في الوجه القبلي لغزو هذه البلاد وفتحها على يد أتباع «حور»، وتدل الأحوال على أن مقر هذا الإله الأصلي بلدة «بوتو» إبطو «تل الفراعين الحالية» وأطلالها بالوجه البحري بالقرب من دسوق، ومن المحتمل أن عبادته قد نقلت في هذه الفترة إلى الوجه القبلي، وذلك لأن «حور» كان إله الدولة، ثم توحد فيما بعد مع الإله المحلي لإدفو واسمه «حور» أيضًا، وقد تكلمنا عنه من قبل، وقد حدثت تغيرات وحوادث مثل هذه في أمر انتشار عبادة الإله «ست» في الوجه القبلي، غير أن المصادر تعوزنا للوقوف على حقيقتها. ولا شك في أن كيفية عبادة هذين الإلهين قد حدث فيها تغيير وتحوير، وذلك يرجع إلى أن عباد «حور» قد انقسموا في الوجهين القبلي والبحري، ومنذ ذلك العهد أخذت الأساطير الشكل الذي عرفناه فيما بعد، ومن المحتمل كذلك أن يكون قد حدث مثل هذه الحال في أمر الإله «ست»، فتكون عبادته قد نقلت إلى الدلتا، ولم يكن معروفًا من قبل فيها إلا بالدور الذي لعبه في قصة «أوزير»، ولم تكن له في الدلتا أية عبادة خاصة قائمة بذاتها، وقد دلت الأبحاث الحديثة على أن الإله «ست» كان يعبد في الدلتا منذ الأسرة الرابعة، ولا يبعد أنه كان يعبد فيها من قبل في نفس الإقليم الذي يحمل في ثناياه اسمه «سوتريت» وموقعه الآن بالقرب من بلدة «تانيس» (صان الحالية).

١  وهناك «بوتو» أخرى «في الجهة الشرقية» من الدلتا موقعها الحالي «تل نبيشة» القريبة من القنطرة وجنوبي تانيس «وهي عاصمة مقاطعة الخطاف الشرقية التاسعة عشرة»، حسب رأي الأستاذ «زيته»، على أن هناك بعض المؤرخين يجعل مقاطعة الخطاف الشرقية هي هرونبوليس وعاصمتها بتوم «تل المسخوطة الحالي» ومقاطعة الخطاف الغربية هي ميتليس، ولكن يرجح رأي الأستاذ «زيته»، وقد دلت الكشوف الحديثة على أن مقاطعة هرونبوليس لا بُدَّ أن يكون موقعها بجوار منطقة أبو الهول الحالية؛ إذ كان يعبد فيها الإله «حورون» الذي كان يمثل أبا الهول في عهد الدولة الحديثة وهو إله فلسطيني على شكل صقر، وقد اختلط بأبي الهول لأنه كان يمثل في عهد الأسرة الثامنة عشرة وما بعدها بالإله «حور أختي» أو «حر مخيس» وهو الاسم الذي عرف به أبو الهول وتوارثه القوم حتى العصر الإغريقي في مصر، وقد عثر على اسم مدينة «حورن» في منطقة أبي الهول.
٢  ويغلب على الظن أن مقاطعتي الخطاب الشرقية والغربية قد سميتا بهذا الاسم، لأنهما في مواقع يكثر فيها صيد الأسماك، الأولى بجوار بحيرة المنزلة والثانية بجوار بحيرة البرلس.
٣  انظر Pirenne, p. 40.
٤  وكان يعبد فيها الإله «حور» وينعت «حور خنتي-خت»؛ أي حور الذي يشرف على الجسم «الإلهي»، والظاهر أنه كان يعبد في هذه الجهة «ثالوث» يتكون من الثور الأسود بصفته الأب والبقرة السوداء الأم والابن هو «حور خنتي خاتي».
٥  الشجر الذي يستخرج منه زيت النفض.
٦  وهذه الإلهة «ساتيت» كانت تعرف باسم «حكات»، وهي الضفدعة التي يعتقد المصريون أنها تخلق من طين النيل الذي تركه الفيضان، ولذلك كانت رمزًا للبعث، وقد نقلت هذه الفكرة إلى معتقدات مسيحيي مصر، ولهذا السبب نجدها كثيرًا ممثلة على مصابيحهم.
٧  والعلاقة بين جهتي «خنوم» التي تمثله إحداهما صانعًا الخلق من طين مثل صانع الفخار، وتمثله الأخرى ربًّا للماء. إن صانع الفخار لا يستطيع أن يقوم بمهمته إلا في الأماكن التي يفيض فيها الماء على الأرض، ويترك الطينة لينة قابلة للتشكل والتصوير وبذلك يمكن أن تثمر صناعته، وتكثر — وبخاصة — في إقليم فيه طين النيل والطفل كثير لصنع كل أنواع الفخار الجميل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤