الفصل الحادي عشر

نظرة إجمالية في أصول الديانة المصرية

تكلمنا فيما سبق عن أصل المقاطعات، وكذلك بحثنا في موضوع بعض الآلهة التي كانت تعبد فيها ببعض الاختصار، والآن نعود فنتكلم عن الديانة المصرية عامة وعلاقتها بعبادة آلهة المقاطعات؛ إذ في الواقع نجد أن ديانة القوم أساسها ديانات المقاطعات المختلفة، وذلك أمر بديهي لأن القطر كان يتألف من وحداتها، ولا جدال في أن كل إله كانت له منطقة نفوذ ثابتة محدودة في بادئ الأمر، وكان سلطانه فيها هو السائد، وكان كل إله مقاطعة يطلق عليه في معبده أو مدينته اسم رب المعبد أو رب المدينة حسب الأحوال، ومن ذلك يتضح لنا أنه لم تكن المنطقة التي يسيطر عليها الإله تتألف من قبيلة ذات عصبية واحدة، بل من أهل المنطقة التي كان يوجد فيها هذا الإله وممن يحتمون في سلطانه، وبجانب هذه الآلهة الرئيسية عدد عظيم في كل مكان من الآلهة الأخرى ذات الأهمية النسبية، غير أنها كانت تشاطر الإله الأعظم العبادة بصفتها إما زوجة له أو ابنًا، وأحيانًا كان لها عبادة مستقلة وسلطان، وسنذكر هنا بعض الأمثلة مؤثرين أكثرها أهمية وأرفعها مقامًا، ففي منطقة «العرابة» مثلًا نجد الإلهة «حكت» التي كانت تتقمص ضفدعة لها أهمية عظيمة بصفتها آلهة السحر وإلهة الولادة والبعث.

إذ كان يعتقد أنها تحضر ولادة الشمس كل يوم على رأي أحد المذاهب الدينية، وفي المقاطعة الثانية عشرة كان يعبد الطائر مالك الحزين الذي سماه اليونان «الفنكس» واسمه بالمصرية «بنو»، وكان مقر عبادته وتقديسه «عين شمس» وكهنة هذه الجهة كانوا يرون فيه إما الإله «أوزير» أو «روح» الإله «رع»، والفكرة الأخيرة كانت السائدة في عين شمس، وما معلمه عن هذا الإله على وجه التحقيق أنه يلد على شجرة في معبد عين شمس، ومن المحتمل أنها الشجرة القديمة المقدسة التي كان الآلهة يكتبون على أوراقها أسماء الملوك تخليدًا لذكراهم ويقال إن الشجرة التي تزار الآن بجهة «عين شمس» هي من نسل هذه الشجرة المقدسة، وكذلك نجد في طيبة الإلهة العظيمة «موت ورت» أي الأم العظيمة وتقدس بصفتها زوجة للإله آمون، وكذلك نجد «خنسو» (القمر وهو ابن موت وآمون)، ومنهم جميعًا تألف ثالوث طيبة يضاف إلى هذا إله الحرب «منتو»، وكان يعبد في هذه الجهة، وأصبح له شأن عظيم في التاريخ المصري، وكان في هذه الجهة كذلك إلهة على هيئة جاموس البحر «توريس». ويعتقد أنها الإلهة التي تساعد الحامل على الوضع، وربما كان هذا هو السبب في تصويرها بهيئة تشعر بذلك، وفي أماكن أخرى نجد الإلهة «سكلت» التي كان من وظائفها المحافظة على أحشاء المتوفى، وترسم على شكل امرأة برأس عقرب، وقد جاء ذكرها على مقابر أشراف الأسرة الرابعة في منطقة الأهرام.

على أن وجود هذه الآلهة وتأثيرها في الديانة كان ينحصر في معابدها وفي شكل عبادتها، ومن ذلك يمكننا أن نحدد ماهية كل إله، ولا نزاع في أن أهم عمل كان يقوم به الإله نحو أتباعه هو أن يمنحهم أو يحرمهم الأشياء الضرورية للحياة العامة، أما الملوك فكانوا يتطلبون منه الحياة والصحة والثبات والنصر والسعادة، والواقع أن كل الآلهة نشأت من طينة واحدة، ولا يختلف بعضها عن بعض إلا بمعابدها وبالرمز الذي كان يخصص لكلٍّ وبالرسميات التي كانت تعمل لكلٍّ عند إقامة الشعائر الدينية، وبالأعياد التي كان يحتفل بها، وفي النهاية بالأسماء والألقاب التي تميز كل إله عن غيره، على أنه يلاحظ أن أسماء الآلهة كانت في الواقع تعد شيئًا ثانويًّا؛ إذ كثيرًا ما يكون اسم الإله مشتقًا من صفات الإله أو منسوبًا للمدينة التي يعبد فيها، وقد وجدنا من بين آلهة المصريين آلهة لم يصل المصري إلى وضع أعلام لها قائمة بذاتها، ولذلك كان ينسبها كما ذكرنا إلى المكان الذي كانت تعبد فيه، فيقال مثلًا «التابع لتاتننت» وهذا اسم إله بالقرب من منف، ويعد مظهرًا من مظاهر الإله «فتاح» ويقال: تيس «زدد» وهو إله يعبد في بلدة منديس «تل الربع الحالية»، ويرسم على شكل تيس كما ذكرنا آنفا، وكذلك يقال للإله «حرشف»: (الذي على بحيرته) وللإله «أوزير»: الذي في «زيتونته». كما يقال لإله الموتى «خنتي أمنتي»؛ أي الأول بين الذين في الغرب (وهو إله من فصيلة الكلب بينه وبين الإله أنوبيس قرابة عظيمة)، وأخيرًا الإله العظيم «في الغرب»، وهذان الإلهان الأخيران قد وحدا فيما بعد مع الإله «أوزير».

وكذلك الإله «وبوات» (فاتح الطرق) فإنه اسمه ليس باسم علم حقيقي؛ لأن واحدًا من هذه الآلهة التي على شكل الذئب كان يطلق عليه اسم «ست» ولكنه اختفى منذ الأزمان الأولى من بين حيوانات القطر.

والآلهة عند قدماء المصريين كائنات معينة معروفة اتخذ كل منها شكلًا ثابتًا باقيًا لا يتغير، وقد انفصلت هذه الآلهة عن عالم الأشباح أو الأرواح التي يخطئها العد، وهذه الأرواح أو الأشباح (الجن) تلعب دورًا هامًّا عظيمًا في مظاهر الديانة المصرية، وتبرز بدورها الهام في السحر الذي كان له تأثير خطير جدًّا في العقائد الدينية في كل عصور التاريخ في البلاد، ومن بين المظاهر العدة المحسوسة التي تتجلى فيها هذه الأرواح أو الأشباح المقدسة الحيوانات، وهي إما منزلية أليفة تعيش مع الإنسان، وتقوم له بخدمات عظيمة لا تنقطع، أو متوحشة ضارية تفتك به فيخاف شرها وبأسها، وأهم حيوانات النوع الأول وأجدرها بالذكر الثور، والبقرة، والتيس، والكبش. والظاهر أن الإله كان في العادة ينتخب ذكر هذه الحيوانات ليتقمصه، وأحيانًا كان الإله يتقمص بعض الطيور كالإوزة، كما نشاهد في حالة «جب» إله الأرض، فإن روحه تقمصت إوزة، أما أهم حيوانات النوع الثاني فهو الأسد، والتمساح، وجاموس البحر، والثعبان السام، والأفعى، وكان الإنسان يسعى لاتقاء خطر هذه الحيوانات والحشرات التي كان يقع بصره عليها في البر والبحر، والظاهر أنه كان يرجع سبب قوتها وفتكها بجنسه إلى أن الإله قد حل فيها، وأنه إذا استعطفها وقدم خضوعه وقرب إليها القربان نجا من مخالبها وشرورها، فمثلًا نرى الذئب يعبد لأنه كان يسكن البقاع الجبلية القريبة من الجبانة، وكان يعيش على نبش القبور، فإذا قرب له الإنسان القرابين عدل عن أكل موتاه، وأكبر جبانة من هذا النوع جبانة أسيوط، كما كان يعبد ويقرب له القربان لسبب آخر هو ألا يسطو على غنم القوم، وهكذا كان الحال مع ابن آوى الذي كان يعبد باسم الإله «أنوبيس»، على حين أن الكلب يعد حارسًا للماشية، ولذلك كان يقدس، وكان هناك صنف آخر من الحيوان مثل القطط وغيرها، كان لا يضر، ولكنه كان يعبد؛ لأن فيه قوة سحرية خاصة وسرية. وأهم هذه الحيوانات القردة والأسماك والطيور، ونخص بالذكر منها الطائر «إبيس» «أبو منجل» ومالك الحزين «الفنكس»، والصقر والنسر والضفدعة والجعل … إلخ، وسيأتي الكلام عن كل في حينه.

على أن عبادة الأشجار لم تكن نادرة في مصر، فمثلًا نجد شجرة الجميز كانت مأوى للإلهتين «نوت» و«حتحور»، وكذلك شجرة السروكان يحل فيها روح الإله «مين»،١ وقد كان وجود أي شجرة من هذه الأشجار في مكان ما يجعلها موضع تقديس، لأن روح الإله الذي هي رمز له كانت تسكن فيها.

وهكذا كان الحال مع كل أنواع الحيوانات أو الحشرات التي كانت تملؤها الروح المقدسة، وكان على الإنسان أن ينتخب واحدًا من نوع خاص مميز ويضعه في المعبد حيث يُعنى به ويُخدم بصفته الحيوان الحقيقي الذي تقمصه الإله، وهذا ما نشاهده بين بني الإنسان. إذ عندنا يتوفى الملك كان القوم يقدسون إنسانًا آخر معينًا مكانه، وبذلك يصبح مهبط تلك القوة المقدسة التي تعيش في البلاد وتحكمها مهما كانت صفاته، ولا غرابة إذا كانت هذه الطريقة بعينها متبعة في الحيوانات المقدسة، فكان عندما يفنى واحد منها تنتقل الروح الإلهية إلى حيوان آخر يتعرفه الإنسان من بين حيوانات هذه الفصيلة بعلامات وإشارات خاصة ويقاد إلى المعبد، أما موضوع تقديس فصيلة الحيوان الذي كان ينتخب منه الإله أو تقديس البعض منه فإن هذا يتوقف على أحوال الحياة وضروراتها التي كان لا مناص منها. غير أن علماء اللاهوت المصري قد وصلوا إلى حل هذا المشكل بطرق مختلفة، ففي كثير من الأحوال، وبخاصة في العصر المتأخر من التاريخ المصري، كان يعتبر مثلًا قتل أي حيوان من النوع المقدس ضربًا من الفسوق والعصيان والكفر بالإله، ويعاقب المجرم بالقتل، وكذلك كان ينطبق هذا الحكم على أكلة لحوم هذه الحيوانات، فمثلا كان مُحرَّمًا أكل لحم القطط أو الكلاب، ولكنا من جهة أخرى نجد أن القوم كانوا يذبحون الخراف والماعز والثيران. أما البقرة التي كانت تدر اللبن فكان محرمًا ذبحها، وهذه الطريقة متبعة في الهند. يضاف إلى ذلك أننا لم نسمع عن تمساح قتل في الأماكن التي كان يقدس فيها هذا الحيوان، وبخاصة في العصور المتأخرة. على حين أننا من جهة أخرى نعرف أن التمساح كان صيده محببًا للأهلين، فكانوا يطاردونه بكل شغف وحماس في المقاطعات التي كان لا يقدس فيها، ومن المدهش أن الأسد رغم تقديسه في بعض جهات القطر كان يصاد من غير تحرج في طول البلاد وعرضها.

ولكن الآلهة كانت لا تتقيد قط بهيئة واحدة من أشكال الطبيعة، بل كانت في الحقيقة كالإنسان لكل منها روح مثله على هيئة طائر «با»، وهو عنصر حي يسكن الجسم مدى الحياة، وكذلك كان له قرين «كا» يمثله المصريون على هيئة ذراعين مرفوعين ، وكانت وظيفة هذا «القرين» أن يمد الجسم المادي بالحياة والقوة، ويقف خلفه ليحميه بعد الموت، وكان من الضروري وجوده مع الإنسان في قبره وإلا مات أبديًّا، ويمكننا هنا أن نميز بين القرين «كا» وبين الروح «با»، فالأول يسكن مع الجسم في القبر، ويمنحه الحياة بالقرابين التي يقدمها أهل المتوفى له على مائدة قربانه بوساطة كهنة تسمى خدام القرين، وقد كانت تحبس عليهم الأوقاف الشاسعة من أجل ذلك. أما «البا» فهو الروح الذي يصعد إلى السماء بعد وفاة الإنسان، ومن ذلك يمكننا أن نستخلص أن الإنسان كان له روح مادية «كا» تسكن معه في القبر وروح نورانية تصعد إلى السماء وهي «با»، غير أن الآلهة كانت تختلف في ذلك عن بني الإنسان، وذلك أن الإله يمكنه في كل لحظة أن يترك الجسم الذي يسكن فيه، وينتقل إلى جسم آخر كما يريد، لأنه لم يكن عرضة للموت (يستثنى من ذلك الإله أوزير) وفي إمكان الإله أن يوجد في كل مكان يريد أن يشعر فيه بقربه أو بقوته، ولذلك يمكنه أن يتقمص أشياء مختلفة جدًّا في وقت واحد، فيسكن الحيوانات والأحجار والأوتاد من الخشب، والأمثلة لدينا كثيرة، ونكتفي منها بذكر الإله «مين» والإله «أوزير»، ويرجع السبب في ذلك أن الإله حسب قول المصريين له عدد عظيم من القرائن «كاو» وعدد عظيم من الأرواح «باو» تروح وتغدو حرة طليقة حتى عندما يكون الإله متقمصًا صنمه أو تمثاله الأعظم، ورغم هذا كان من المستطاع أن يسحر الإله ويقتنص في شيء محسوس بوساطة التعاويذ، وبذلك يصبح ولا قوة له ولا حول، وذلك هو السر في أننا نجد في كل معبد مصري غير الحيوانات المقدسة شيئًا سِرِّيًّا يحفظ في صندوق يكون في معظم الأحيان تمثالًا صغيرًا من الحجر أو الفخار، ويعتبر هذا الصندوق المكان الحقيقي للإله، وبعبارة أفصح المسكن الذي حبس فيه الإله بقوة السحر في الزمن القديم أيام تكريس المعبد.
figure
الروح ممثلة بطائر «با» تنزل إلى غرفة دفن المتوفى لتزور جسمه ثم تصعد ثانية إلى السماء.

ومن جهة أخرى نجد صورًا عدة لشكل الإله الذي يتقمص الحيوان، وكذلك للشكل الذي تظهر به روحه، فكان يمثل أحيانا بجسم إنسان يعلوه رأس حيوان وأحيانًا بالعكس، وهذه الصور والتماثيل الإلهية كانت تعتبر كأنها ملوك مرتدون ملابسهم ومعطرون ومُحَلَّوْنَ بعدد عظيم من التعاويذ، وكانت تطلع في الأعياد العظيمة على الشعب — وبخاصة صندوق الإله السري — وتوضع في سفينة تبنى خصيصًا لسياحتها، ويحملها خدامها من طائفة الكهنة على أعناقهم، وكانت هذه الأعياد والاحتفالات تنمو وترتقي في الطقوس والعدد كلما تقدمت المراسيم الدينية في البلاد وتنوعت شعائرها، وذلك حسب ثراء البلاد وعظم فتوحها في عصور التاريخ المصري.

أما الرموز الإلهية المقدسة التي كنا نجدها بجانب رموز المقاطعات فلا يمكننا أن نعتبرها عريقة في القدم؛ وذلك لأنها تحمل صورة الحيوان المقدس أو إشارة مقدسة أخرى، وتتقدم القوم في المواكب في ساحات القتال.

وكان الإله يظهر عظمته وبطشه وجبروته في كل أمور الحياة الظاهرة التي لم يكن في مقدور الإنسان أن يتغلب عليها، ولذلك كانت الآلهة تعمل كأنها رؤساء أو ملوك في آن واحد، وذلك حسب أهوائهم ومزاجهم، ولكن ذلك كان لا يمكنهم من الخروج عن اتباع قوانين الطبيعة وسننها، ولذلك نجد أنه كان للآلهة المصريين طبيعتان، فكانوا من جهة يظهرون بأنهم إرادة حرة خالدة، ومن جهة أخرى كانوا قوى طبيعية خاضعة لدورة الفلك وظواهره، وعلى ذلك كانوا في الوقت عينه قوة إيجابية وسلبية، فكانت الحياة تسير في دائرتها حسب قوانينها الطبيعية، مثال ذلك: تلقيح الخصب بماء النهر وطلوع النباتات ونضوجها وموتها ثم البذر والحياة التناسلية، وتلقيح الحيوان والإنسان، أو كما في حالة الإلهين «حور» و«ست» وهما اللذان يتعاقب منهما النور والظلام وكذلك تقلبات النجوم المنيرة، وأخيرًا بوجه خاص الحرب بين القوة المعمرة والقوى الشريرة المخربة، ومن كل هذا نجد أن حياة الآلهة تمر في سلسلة متصلة الحلقات من الصراع والتغيرات التي تحدث بنظام عام بعد عام، ومن أجل ذلك نشاهد أن القوم كانوا يهتمون بحظ هؤلاء الآلهة المتقلب؛ إذ عليه مدار حياتهم وسعادتهم، فكانوا يسعون لمساعدتهم بقدر ما في وسعهم، وذلك هو السر في الاحتفال بالأعياد التي كان يحتفل بها القوم في كل مقاطعة في مواقيت ثابتة بحكم التقاليد الموروثة، فكان يعتقد أن هذا الإله أو تلك الآلهة قد ولدت في يوم خاص من السنة، ولذلك كان يحتفل به، فمثلًا نجد أن أعياد الآلهة «أنوبيس» و«وبوات» و«تحوت» و«مين» وغيرهم قد لعبت دورًا هامًّا بإثباتها على آثار الأسرة الأولى. يضاف إلى ذلك أنه كان هناك أعياد أخرى تقام احتفالًا بانتصار الإله على أعدائه أو قهرهم، وأنه وصل بعد ذلك إلى الملك ليطلع مشعًّا بكل بهائه أمام الشعب محمولًا على أعناق الكهنة في سفينته المقدسة، وقد مقل الإله «سوكر» في عهد الأسر الأولى بهذه الكيفية، وكذلك الآلهة الأخرى نجد لها صورًا تدل على نفس الفكرة.

أما الإله «أوزير» الذي كان يسكن في جوف الأرض منذ وفاته، والذي كان يعيش ويحيا هناك رغم موته بقوة سحر قرينته «كا» التي تتقمص أجسام الموتى، فإن حادث وفاته كان له أكبر أهمية، لأنه منه نشأت قوته وسلطانه، ولذلك كانت تقام له محافل عظيمة تمثل كل أطواره في بلدة «العرابة» المدفونة.

وعند الاحتفال بأعياد الآلهة المحلية يسير سكان المقاطعة صفًّا صفًّا خُشَّعًا في موكب يرأسه حاكم المقاطعة أو الملك حسب الأحوال، وبصحبته الذين يعرفون الطقوس وخدام الإله، الذين يحيون طلعته ويقدمون له الخشوع والخضوع، وعند نشوب صراع بين الآلهة كان أتباعه يحاربون من أجل إلههم بالأسلحة والعصي، وينتحبون عند هزيمته وموته، ويمثلون عين «حور» بالقرابين، ويحيون ظهور الإله ثانية أو ميلاده، ويجلسون تمثاله على العرش أو ينصبون عمود «أوزير»، أو يقودون الإله عندما يتزوج بإلهة مجاورة أو يحضرون له امرأة إلى المعبد.

ورغم هذه التغييرات الخطيرة والحوادث المتعاقبة بنظام فإن الآلهة مع ذلك كانت تمثل في نظرهم قوى أبدية باقية دائمًا وعاملة سواء أخضعت هذه القوى أو ماتت، أو دبت فيها الحياة من جديد وولدت ثانية، على أنه لا توجد لحظة يمكن الإنسان أن يستغني فيها عن حماية الآلهة؛ إذ إنهم كانوا يقفون على الدوام بالقرب من أتباعهم متمتعين بكل سلطانهم وقوتهم، ولذلك كان في مقدور الإنسان أن يدعوهم لمساعدته، ويلتمس عطفهم ورضاهم. على أن الاعتقاد الديني لم يؤثر على التناقض بين هاتين الفكرتين؛ لأن العقيدة دائمًا مرتبطة بوقت الحاجة الملحة التي تخلقها الظروف دون البحث في أي تناقض أو تضارب، على أن هذا الاختلاف يؤدي رغم ذلك إلى النتيجة الآتية:

وهي أن الحوادث التي لها ارتباط بالأعياد سببها في الواقع الظواهر الطبيعية التي تضعها أمامنا الطبيعة، ولكن خيال المصري كان يرجع بها إلى أزمان سحيقة ويعزوها إلى ظهور الإله لأول مرة وأخذه الشكل الذي ظل باقيًا عليه فيما بعد، ومن ثم تحولت هذه الحوادث التي وقعت في أزمان معينة إلى أعياد تشيد بذكرى الأعمال العظيمة أو الآلام الشديدة التي تحملها الإله لصلاح المجتمع الإنساني ورفاهيته، والتي يتوقف عليها نظام الكون وشعائر هذه الأعياد التي يصحبها كثير من الآلات والطقوس المقدسة، والرموز المختلفة تحتاج كذلك إلى تفسير، فهذه الحوادث تكون وليدة اللحظة التي وقعت فيها تحدث غالبًا عند ظهور أمور خارقة للعادة، فتبقى عليها الطقوس الدينية من غير ما تبصر ولا روية، حتى بعد أن يتضح أنها غامضة لا تفهم، ومن ثم تأخذ صبغة سرية غامضة لها مفعول عظيم وتحاط بشيء من الرهبة والتقديس، ومن مثل هذه الأمور جاءت الضرورة لخلق الأساطير الدينية التي يدعي رجال الدين أنها تفسر هذه الأشياء الخارقة للعادة، وكذلك تفسر لنا صور الآلهة وأخلاقهم بحوادث وقعت في الأزمان السحيقة في القدم، ثم تناقلها عباد الإله كأنها أسرار مقدسة، ومن ثم أخذ الإنسان يشترك فيها بإقامة الشعائر واتباع الطقوس الدينية اللازمة لذلك، وبخاصة مراعاة قواعد النظافة وطهور الجسم والأطعمة المنصوص عنها كما فرضتها الشريعة عندهم، وكذلك يراعى اجتناب كل رجس مثل النجاسة التي تحدث من اختلاط الجنسين، وأن يكون الشخص مختونًا، وذلك كله كان من أقدس شعائر الدين عند المصريين.

وكان من يعرف هذه الأساطير والمعلومات التي لها مساس بالآلهة وطبائعهم يصبح وفي يده قوة سحرية تمكنه من أن يجعل الآلهة تحت سلطانه، ويجبرهم على خدمته لقضاء أغراضه السحرية، ولا شك أن الأساطير تمدنا بمعلومات أبعد عمقًا عن الآلهة أكثر مما نعلمه عن شكلها الظاهري، وكذلك عن الحيوانات المقدسة التي تتقمصها وعن الأعياد الخاصة بها، وكان كل إله يتمتع بين طائفة عبادة بنفوذ عام، ولكنه مع ذلك كانت له مناطق نفوذ محدودة حيث كانت تظهر فيها آثار أعماله بكل قوة وسلطان، وهذه المناطق كانت وقفًا عليه وحده، وذلك هو السبب الذي من أجله نجد أن ديانة كل مقاطعة بقيت مختلفة عن ديانة المقاطعة المجاورة لها، فمثلًا نجد الإله «مين» (أو آمون) هو الإله الخاص بالتناسل، والخصب، والإلهتان «حتحور» و«باستت» إلهتا حياة «الحب والغزل»، والإلهان «وبوات» و«نيت» إلهَا الحرب، والإله «أنوبيس» إله الجناز والتحنيط وحارس الجبانة، والإله «تحوت» الذي يمثل القمر كان إله العلم والمواقيت «العلم نور»، والإله «حور» مظهر إله الشمس، وهكذا. على أن هناك صنفًا آخر من الآلهة له عمل محدود معين في نطاق خاص، مثال ذلك: الإلهة «رننوت» وهي إلهة الحصاد خاصة، والإله «خنتي أمنتي» الذي يحكم في عالم الأموات «صورة من الإله أوزير».

figure
الإلهة «باستت» برأس قطة.

ومن كل ما تقدم ترسم أمامنا صورة تخطيطية لعلم اللاهوت المصري؛ إذ نجد بجانب الآلهة المحلية أرباب المقاطعات آلهة أخرى يمكن أن تقوم بأعمال خاصة في أزمان وأحوال معينة. وهذه الآلهة قد تكون أحيانًا خاضعة للآلهة المحلية، ومن هنا نشأ تأليف مجاميع كاملة من الآلهة تتكون في أغلب الأحيان من تسعة آلهة (يستثنى من ذلك مجموعة آلهة الأشمونين التي تتألف من ثمانية) وعلى رأسهم إله المقاطعة الأعظم، وفي بعض الأحيان نشاهد أن هذه الآلهة تعمل مستقلة عن آلهة المقاطعات، وهذا هو السبب الذي جعل السبيل سهلًا لآلهة المقاطعات لتمد سلطانها إلى جهات بعيدة جدًّا خارجة عن منطقة نفوذها الأصلي، ويرجع الفضل في ذلك أحيانًا إلى حوادث سياسية أو إلى قيام فروع عبادة لهذه الآلهة في مناطق غريبة عن دائرة نفوذها، وهناك عامل قوى ساعد على نشاط هذا التقدم والرقي الديني، وهو أن المصريين قد اعترفوا إلى جانب آلهتهم المحلية بسلطان القوى الطبيعية العظيمة التي تعمل بطرق منظمة في كل الكون، وتشمل كل الكواكب وعلى رأسها إله الشمس «رع» ثم إله القمر «أعح»، ويعرف في مدينة طيبة باسم «خنسو» (أي السائح) ثم النجوم، ونخص بالذكر منها «نجم الأبرق» من مجموعة الشعرى اليمانية «سبد» ثم نجم الصبح «ساحو»، وعندما كان يظهر نجم الأبرق في الفجر في نهاية شهر يوليو، كان ذلك بشيرًا بوصول ماء الفيضان، وكذلك كان ظهور نفس النجم يعد بشيرًا بالسنة الجديدة، ويحمل معه النباتات الجديدة.

أما مجموعة نجوم الجوزاء التي كان أظهر نجم فيها نجم الصباح «ساحو» فكان يلعب دورًا مماثلًا لسابقه؛ إذ يبشر بفصل جمع الكروم الذي يحل في شهر يوليو أيضًا، وبقدومه تحل السنة الجديدة، ولهذا السبب يعد كل منها كائنًا مقدسًا، وقد أصبحا فيما بعد إلهين عظيمين، وذلك عندما تخيل المصري وجود مملكة للموتى في السموات العلى، فكان المتوفى ترتفع روحه إلى السماء، وتعيش بين جيش النجوم، وهم الأموات السعداء الذين يسهرون خلال الليل بالقرب من مصابيحهم، على أن نجم «ساحو» الجوزاء قد أصبح إله الموتى «أوزير». أما الشعرى اليمانية «سبد» التي كانت بجانب أوزير فقد أصبحت زوجه «إزيس» وابنها هو «حور» وقد اتخذا مكانًا في السماء بالقرب من الرب الأكبر، وتتألف مجموعة أخرى إلهية من الأجرام الكونية من السماء والأرض، فكان إله الأرض «جب» في عرف المصريين يعد مذكرًا، أما إله السماء فيعتبر مؤنثًا ويسمى الإلهة «نوت»، وعلى العكس من ذلك نجد أن الماء الأزلي «نون» الذي خرجت منه آلهة القبة الزرقاء مذكرًا، وقد وضع إله الأرض «جب» بذرته في أخته «نوت» ويعد «جب» أمير الآلهة، ولكن منذ ذلك العهد اضطجع «جب»؛ أي الأرض تحت قدمي «نوت»؛ وذلك لأن الإله «شو» إله الهواء فتقهما عن بعضهما بعد أن كانا رتقا، ووضع نفسه بينهما ورفع السماء بلا عمد، وصارت ترتكز على ذراعيه (كانتا رتقا ففتقناهما)، وهذه الفكرة بعينها نجدها مفصلة في أسطورة إله النبات «أوزير» وزوجته آلهة السماء «إزيس» وهما ابنا الإله «جب» والإلهة «نوت»، وقد أعقبا بدورهما الإله «حور» الذي يطلق عليه غالبا اسم «حور أختي» أي «حور» الأفق، وهناك أساطير تفسر لنا كيف اتحدت السماء مع إله الشمس، فيقال إن السماء ولدت الشمس من بطن «نوت» كما جاء ذكر ذلك في متون الأهرام، فيخرج «رع» ماشيًا، ثم تلد «رع» كل يوم، ولكن بعد ذلك يرتفع إلى الشمس في جلاله وعظمته، ويلقح إلهة السماء فينتج نفسه في فرج أمه، وكثيرًا ما تخيله المصري كذلك على هيئة «جُعْل» (خبرر)، وكانت هذه الحشرة كما يعتقد المصري تفقس صغارها دون أن تحتاج إلى أنثى، ويحدث هذا بوساطة كرة الروث التي نشاهدها تدحرجها أمامها كما يدحرج الإله بيضته؛ أي الشمس أمامه في السماء، وقد ظهرت نفس الفكرة كذلك في الأسماء التي تعبر عن إلهات السماء ﮐ «حتحور» (بيت الإله حور)، و«إزيس» ومعناها مقعد إله الشمس. وهناك ما يحكى عن الإله «رع»، كان الإله «رع» بن «نون» المحيط السماوي، قد ظهر أوَّلًا في «هيراكليوبوليس» (إهناس المدينة)، وفي رواية أخرى في «هرموبوليس» (الأشمونين) على ربوة من الغرين ارتفعت من الماء الأولى، وقام بحرب ضد أعدائه، وبخاصة ضد ثعبان مارد يطلق عليه اسم «أبوبي»، وأهلك في إهناس القوم العصاة بمساعدة الإلهة «سخمت» (على هيئة امرأة برأس لبؤة).

ثم أعاد الخلق من جديد، وتقص الأسطورة علينا بعد ذلك أن عينه أصبحت بعد ذلك الحادث إلهة مستقلة موهوبة بقوة سحرية، وقد وحدها الكهنة فيما بعد بالإلهة «حتحور» والإلهة «تفنوت» إلخ، وقد ذهبت إلى بلاد النوبة وتوجه الإله «رع» إلى هذه البلاد ليبحث عنها ويحضرها، وأخيرًا حكم «رع» الأرض سنين طويلة حتى أصبح طاعنًا في السن وعندئذ طلب إلى ابنه «شو» أن يرفعه في الهواء على ظهر البقرة السماوية العظيمة، وبذلك أصبح يسبح في الفضاء كل يوم في سفينته، وسنعود إلى هذه الأسطورة مرة ثانية في مناسبتها، وقد ألف كهنة «هرموبوليس» خرافة أخرى لم نفهم كنهها للآن، وذلك أنهم تصوروا أن العالم قد خلقته ثماني قوى إلهية على شكل قردة، وقد عدهم الكهنة زوجًا زوجًا وكل زوج من أنثى وذكر، واعتبروها كأنها قوى طبيعية معنوية لا تحس، وهي الماء الأولى، والأبدية، والظلام، والقوى، ومن مجموع هذه الأزواج الإلهية الأربعة اشتق اسم مدينة «خنمو» (الأشمونين الحالية، ومعناها مدينة الثمانية)، وعلى رأس هذه المجموعة الإلهية وضع إله المقاطعة «تحوت» وهو إله القمر الذي أنشأ مقاييس الزمن وإليه ينسب كل المقاييس والأنظمة، وكذلك اخترع اللغة والكتابة والرسم، والتلوين، ووضع القوانين وطبقها، وكذلك كان يعرف بأنه وزير الإله «رع» وزوج الإلهة «معات» (العدل)، ومن آلهة الطبيعة كذلك «حعبي»؛ أي إله النيل، ويمثل على هيئة رجل ممتلئ الجسم ذي لحية وثديين عظيمين ومتوج بالأزهار وحول وسطه حزام يشبه ما كان يلبس في عصور ما قبل التاريخ، وربما كان تمثيل النيل برجل عامل دليلًا على اعتقادهم في أن النيل خطط طرقه وجسوره كأنه مهندس ماهر رسم لنفسه ما يكفل لمصر وأهلها وأراضيها الخير الكثير في العهد الفرعوني فقط، ولا يبعد أن يكون السبب في عدم قيام عبادة منظمة له وحبس الأوقاف عليها يرجع إلى أن القوم كانوا لا يعبدونه أوَّلًا؛ إذ كانوا لا يستفيدون منه، ولكنه عندما نظمت مياهه أخذ القوم في عبادته، غير أن الآلهة الأخرى قد أخذت المحل الأولى في المقاطعات، ولذلك لم تؤسس له المعابد من أول الأمر، ومع كل ذلك فإن المصريين فيما بعد قدسوه وتمدحوا بخيراته في قصيدة عظمية ربما يرجع تاريخ إنشائها إلى عهد الهكسوس.

figure
الإله «شو» يفصل بين إلهة السماء «نوت» وإله الأرض «جب».

وهناك عقيدة دينية نبتت من طائفة لاهوتية أخرى تقول بأن الآلهة وبخاصة «رع» و«إزيس»، قد جعلوا ماء النيل ينبع من منبعه السري عند دوامات الشلال الأول، ويأتون بماء الفيضان في ميقاته.

وإذا كانت الآلهة في اعتقاد المصريين لم يخلقوا العالم؛ لأن المادة كانت دائمًا موجودة وليست من صنع قدرة إلهية فإنهم من جهة أخرى على الأقل هيئوا فصول السنة ونظموها، وكذلك رتبوا سير الفلك وحياة النبات وبني الإنسان، واتخذوا مصر مركزًا عامًّا للعالم، لأنها كانت المسرح الذي يمثلون عليه أدوارهم العظيمة الأثر، وحوطوها بالصحراء التي يسكنها أقوام من الهمج، وبالبحر الذي يحدق بكل العالم، وكان يرتبط بهؤلاء الآلهة القائمين على نظام الدنيا — وهم الآلهة العظام أجداد الأسرة الإلهية — الجم العفير من الآلهة الذين يُعبدون في طول البلاد وعرضها، وكذلك الأساطير التي أوجدوها، ولما كان النور يأتي من الجهة الشرقية فقد أعتقد القوم أنها موطن الآلهة ومسكنهم، على حين أنهم اعتبروا الغرب وهو مملكة الظلام موطن «أوزير» ومقر أرواح الموتى، على أن هذه العقائد تتناقض دائمًا مع العقائد الأخرى القائلة بأن وادي النيل نفسه كان دائمًا المسرح الذي تمثل عليه حياة الآلهة وهو موطن نفوذهم.

على أن آلهة الطبيعة العظام مهما كان تأثيرهم على حياة الإنسان، لم يكونوا في يوم من الأيام موضع عبادة نامية لا في مصر ولا في غيرها، ويرجع ذلك إلى أن أعمالهم لها صبغة عملية منظمة لا فردية محدودة، ولا يستثنى من ذلك إلا الظواهر الطبيعية التي تعترض سير نظام الكون من وقت لآخر وتظهر بأنها تعرضه للخطر.

ومن ذلك خسوف القمر، أو تلك الظواهر التي تكون عودتها قياسية، ولكن يحدث من جرائها تغير الإله أو تألمه، ويكون من نتائج ذلك أن يحتاج الإله إلى أن يمد له الإنسان يد المساعدة بإقامة الأعياد وتقديم القربان، وهذا ما يحدث بالضبط في أعياد أوجه القمر، إذ يقام عيد لأول الشهر وآخر في ربع الشهر وثالث في منتصف الشهر، ولهذا السبب يلتجئ القوم إلى الأعمال السحرية. على أنه لا يفوتنا ملاحظة أن هناك آلهة محلية منذ القدم قد صبغوا بصبغة القوى العالمية مثل الإله «أوزير» رب النبات، والنيل وهو يسكن في معبده المقدس في بلدة أبو صير، أو الإله «مين» في الوجه القبلي وهو رب التناسل، وهذه الآلهة كان لا يمكن أن تقوم لها عبادة خاصة إلا إذا أصبحوا آلهة مقاطعات، ومثل هذه العبادة كانت ممكنة عند اليونان وغيرهم من الشعوب، وبخاصة عبادة الشمس (إله السماء)؛ وذلك لأنهم كانوا يعتقدون أن هذا الإله والد «قبائل» أو طوائف من دم واحد وقد بقي على صلة مباشرة مع نسلهم. وكانوا في الوقت نفسه يعتقدون أن مقره بعض أماكن معينة وبخاصة قلل الجبال العالية. أما عند المصريين فكان الأمر على العكس من ذلك؛ إذ كان الإله المحلي هو الذي يرفع إلى مرتبة القوى العالمية ويمتزج بها ويصير موحدًا معها، ولقد لاحظنا منذ القدم أن الآلهة المحلية كانت فيها نزعة باطنية للتحول إلى قوى عالمية لأنها كانت ترى أن دائرة نفوذها في نظر أتباعها غير محدودة، وأن مواقيت أعيادها والأساطير التي تتصل بها مرتبطة بمواقيت الفصول الطبيعية، ولذلك أصبح الإله «تحوت» رب «هرموبوليس» المحلي منذ القدم، إله القمر، وبذلك يمثل بقوة عالمية، وكذلك الحال مع الإلهة «نبت» ربة «سايس» والإلهة «حتحور» إلهة دندرة فهما إلهتان تتقمصان الأشجار «شجرة الجميز» ثم أصبحتا فيما بعد إلهتين للسماء.

أما في حالة الآلهة الأخرى وبخاصة الإلهين «حور» و«ست» فإنه لا يمكن أن نحدد بالضبط مدى أصل مركزهما في العبادات المختلفة سواء أكانوا آلهة تقمصوا حيوانات أو آلهة يمثلون قوى عالمية، ولا نعرف كذلك إذا كانت أسماؤهم المستعارة من علم الأساطير الدينية العالمية لم تكن منسوبة إلى آلهة محلية أوَّلًا قبل أن يسموا بها أو أنها أطلقت عليهم من بادئ الأمر.

وهناك مذهب حاسم اعتنقه كهنة عين شمس فيما بعد لترقية الفكرة الدينية في مصر، وذلك أنهم أعلنوا أن إلههم المحلي «آتوم» لم يكن إلا مظهرًا من مظاهر إله الشمس «رع»، ولذلك عبدوه باسم «آتوم-رع»، ونسبوا إليه كل الأساطير التي تعزى إلى «رع»، ولا غرابة في ذلك، فإن الاعتقاد بأن «رع» هو المسيطر على العالم يرجع إلى أقدم عصور التاريخ، والبراهين على ذلك توجد في متون الأهرام، هذا إلى أن اسمه يوجد في تركيب أسماء الفراعنة منذ الأسرة الثانية، مثال ذلك: «نب رع» أحد ملوك الأسرة الثانية، ولكن لم توجد ﻟ «رع» عبادة خاصة، اللهم إلا عبادته المحلية باسم «آتوم-رع» قبل أن يصير إله الدولة في الأسرة الخامسة كما سنفصله بعد، وكذلك لم تكن في مصر عبادة خاصة للإله «نون» المحيط الأزلي أو للإلهة «نوت» أو لإله النيل «حعبي» أو لإله القمر، اللهم إلا في الأعياد التي كانت تنسب للأخير كعيد أول الشهر، إلخ، أو عندما كان يعبد باسم «تحوت» أو «خنسو»، وهذه كانت عبادة محلية، يضاف إلى ذلك إله الأرض «جب» إذ لا نعرف لها عبادة خاصة، وأغرب من كل هذا الإلهة «إزيس» فإنها رغم ما لها من القوة والبطش والأدوار العظيمة في تاريخ الديانة المصرية وما ذكر عنها في الأساطير، لم تعبد حتى جاء العصر المتأخر وأخذت عبادتها تنتشر. أما أختها «نفتيس» فلا تعرف لها أية عبادة خاصة في كل عصور الديانة المصرية مطلقًا حتى الآن.

وقد خلقت إقامة الشعائر والطقوس الدينية صلة لا يمكن فصم عراها بين الإله المعبود، والإنسان العابد، وذلك بأن فرضت على كل منهما واجبات متساوية عليها يتوقف كيان كل منهما، فالإله يتطلب من أتباعه المخلصين كل ما هو ضروري له من خبز ولحم ولبن ونبيذ وملابس وأدوات زينة وحلي وأزهار وبخور، أو كما يقال في الصيغ الدينية للقربان كل الأشياء الطيبة الطاهرة التي توضع على مائدة القربان والتي يعيش منها الإله، يضاف إلى ذلك الأعياد التي كانت تقام له والعناية بمعبده، وكذلك تقديم شطر عظيم من الغنائم التي يغنمها أتباعه بمساعدة الإله، كل هذا كان يعمل للإله في مقابل ما يمنحه عباده من حمايتهم والمحافظة عليهم، وكان من البديهي أن تراعى الدقة في الاحتفالات والأعياد التي كانت تقام للآلهة، كما كانت تراعى في الاحتفالات الفرعونية؛ إذ هناك أمور كثيرة تشمئز منها الآلهة وبخاصة أكل لحم بعض الحيوانات، وكذلك كان لزامًا على المتعبد أن يكون طاهرًا عندما يقترب من الإله، ولذلك كان من الواجب عليه أن يكون بعيدًا عن كل ما هو نجس وبخاصة ملامسة النساء وغشيانهن قبل دخول بيت الإله، وأن يكون قد ختن. على أن كل ما يتطلبه الإله يفهمه الرجل الذي يعرف إقامة الشعائر والطقوس بالإشارات التي يوحي بها إلهه، ومعرفة هذه الطقوس التي كانت تزداد كل يوم على مر الأزمان، يحفظها خدام الإله (الكهنة) عن ظهر قلب. وقد نصبهم القوم لينهضوا بخدمات بيت الإله، ولإطعام تمثاله وإلباسه، وللعناية بالحيوانات المقدسة، ولإقامة الأعياد والمواكب. هذا إلى أنهم كانوا يعرفون فن تخمين ما يريده الإله، وينتزعون منه بوساطة الوحي نبوءات عن المستقبل، وأحكامًا فاصلة في قضايا، وحقائق تتعلق بالمخاصمات.

وبجانب هؤلاء الكهنة ومساعديهم كانت توجد طائفة أخرى عظيمة من «المطهرين» في معزل عن عامة الشعب، وأفراد هذه الطائفة كانوا ينادون بهذا الاسم نسبة إلى التطهير بالماء الذي كان يصب عليهم كما يدل على ذلك تصوير اسمهم باللغة المصرية.

وتنقسم هذه الطائفة أربع فرق، كل فرقة تقوم بخدمة الإله بالتناوب طوال أشهر العام. فكانوا بذلك يشاركون الكهنة في أعمالهم، كما كانوا يشاطرونهم دخل المعبد وخيراته التي توقف عليه، وقد كان هذا النظام قائمًا منذ الدولة القديمة، ومن المحتمل، بل من المرجح أنه يرجع إلى عصور أقدم من ذلك، ولا يبعد أنه كان في الأصل لكل فرد من سكان المقاطعة الحق في التقرب من الإله، وأن يكون له نصيب من القربان الذي يقرب له، وكذلك من الممتلكات الأخرى الخاصة بالإله، ولكن على كر الأيام أصبح هذا الحق وقفًا على سكان المكان الذي يقطن فيه الإله، ثم تدرج الأمر بعد ذلك فأصبحت هذه الحقوق وقفًا على طائفة مميزة، ومن ثم أصبح وراثيًّا فيها، وبذلك أصبح من واجب عامة الشعب الذي يريدون أن يتقربوا من إلههم أن يلجئوا إلى طائفة الكهنة ليصلوا إلى ربهم في بيته المقدس، ومن المحتمل كذلك أنه كان في استطاعة الأفراد الذين ليسوا من طائفة الكهنة، ويرغبون في الانخراط في سلك هذه الطائفة أن يصلوا إلى بغيتهم هذه، إذا توفرت فيهم شرائط خاصة، وقد يجوز أن يصدر الملك مراسيم ملكية بذلك، ولا شك أن هذا هو السبب الذي من أجله لم تصبح وظيفة الكهنة طائفية؛ أي إنها لم تصبح وقفًا على أسرهم دون سواها كما كان الحال في الهند وفي بلاد فارس وعند بني إسرائيل.

وكان جُلُّ هَمِّ المصري في الحقيقة أن يعمل جهد الطاقة ليصل إلى السبيل التي تنتهي به إلى إرضاء الإله، وكسب عطفه مهما كلفه ذلك، ولو ضحى بأخيه الإنسان، وأعنى بذلك تقديم ضحايا بشرية، ولقد تضاربت الأقوال والآراء في هذه المسألة، ولكن يظهر أن التضحية البشرية أمرًا واقعًا في الأزمان السحيقة من عصور ما قبل التاريخ، فيقال إن المصري كان يقرب أخاه الإنسان قربانًا لإلهه عند اشتداد حنقه، أو عندما كان القوم يبغون مساعدته في مُدْلَهِمِّ الأمور العويصة، ولكن كل ذلك كان يحدث في أزمان بعيدة جدًّا، وكانت هذه الضحايا تقدم عند قيام حروب بين الآلهة أو في مواقيت الأعياد الجنازية، وسنرى فيما بعد أن الذين كانوا يناصبون الآلهة العداء كانوا يقتلون بضربه عصا، أما شركاؤهم في ذلك سواء أكانوا رجالًا أم نساءً فكانوا يضربون حتى تدمى أجسامهم، وربما كان هذا يحدث في الأصل للبشر في العبادات المأتمية الخاصة، ولا شك في أن ختم حيوانات الضحية بختم مثِّل عليه رجل موثوق في وتد التعذيب، وعلى رقبته سكين لذكرى تشعر بأن الإنسان كان يقدم يومًا ما ضحية في الأزمان الغابرة. يضاف إلى ذلك أننا نجد على جدران المعابد المصرية حتى نهاية العصور المتأخرة جدًّا صورًا لم يتغير شكلها، تمثل الملك وهو يقتل الأسرى الذين جيء بهم أمامه مكبلين في السلاسل والأغلال أمام إلهه، هذا إلى أننا نشاهد صور أبي الهول التي تمثل الملوك، وصور الحيوانات الخرافية، تلقي بالأعداء على الأرض وتمزقهم كل ممزق، ثم نشاهد كذلك صورًا رمزية ممثلًا فيها الفرعون قابضًا على نواصي طائفة من الأعداء، يضربهم برأس دبوسه أو بخنجره المعقوف.

figure
صور بعض الحيوانات الخرافية.

كل هذه المناظر والصور والذكريات تشعرنا بأن القوم كانوا متعودين ذبح الأسرى من الأعداء تكريمًا لإلههم، والواقع أننا نجد على أقدم الآثار مناظر عدة ممثلة عليها هذه الذبائح، ويشاهد عليها كذلك جثث الأسرى مكدسة، وقد ذكرنا في الفصل السابق أن الدمى كانت توضع في المقابر مع الموتى لتحل محل زوجاتهم أو خدمهم الذي كان يظن أنهم يذبحون ويوضعون بجانب جثث سادتهم في الأزمان السحيقة. هذا وتدل الوثائق التي في متناولنا على أنه عندما كان الإله يغض الطرف عن رهطه عند حلول أية كارثة أو نزول أي وباء، فإن القوم كانوا يلتجئون خوفًا من استمرار شرور هذه المصائب إلى الحيوان الذي تتقمصه روح هذا الإله، ويقودونه في صمت إلى الظلام الدامس بطريقة سرية، ويعملون على تخويفه وإرهابه بالتهديد أولًا، فإذا فشلوا في قضاء بغيهم عمدوا إلى عقابه بالإنذار ثم بالذبح.

على أن السحر لم يعدم القيام بدور هام في تاريخ الديانة؛ إذ كان القوم يستعينون به على قضاء حاجاتهم، سواء أكان ذلك تجيزه الشرائع أم تحرمه، وكان السحر في نظر عامة الشعب لا يتصل بالأشباح العدة التي تسكن في دنيا الأرواح فحسب، بل كان كذلك متصلًا بالمعبودات المحلية وبخاصة الآلهة العظام؛ لأن الفضل في وصولهم إلى السلطان والنصر على الأعداء يرجع إلى فنونهم السحرية، وكان في ركاب هؤلاء الآلهة عدد عظيم من الخدم لا يختلفون في شيء عن الأشباح المخيفة لا في طبيعتهم ولا في أسمائهم ولا في شكلهم الظاهري؛ إذ هم في الواقع كانوا مجموعة من الحيوانات المختلفة الأنواع والأشكال إلى حد بعيد، وكانت معرفة صفاتها الخاصة وأسمائها وأساطيرها السلاح الرئيسي في علم السحر؛ إذ به يمكن الإنسان أن يجبرها ويقهرها على خدمته، وتأتي بنتائج لحسابه الخاص لها نفس التأثير الذي كان يصل إليه الإله بنفس الطرق، وقد بقي تراث هذه الاعتقادات في مصر إلى يومنا هذا في استخدام الجن وخدامها.

ويرى المطلع على تاريخ الديانة المصرية أنها كانت في بدايتها مصطبغة بصبغة مظلمة قاتمة؛ إذ نجد معظم الآلهة تتألف من كائنات خبيثة مؤذية تبعث دائمًا على الخوف والقلق، فنشاهد بجانب الحيوانات الأليفة مثل الثور والكبش حيوانات أخرى متوحشة مؤذية، وهي التي كانت تعبد بكل إخلاص وتفانٍ، كالثعبان والذئب وغيره، ولا غرابة إذا كنا نجد في صلوات الأموات ودعائهم، وكذلك في التعاويذ السحرية التي تستعمل في الحياة العامة أن دنيا بني الإنسان وكذلك عالم الأرواح كانت آهلة بالقوى الشريرة، وهذا الاعتقاد نجده نافذًا إلى كل أساطير الآلهة. إذ الحقيقة أن تلك القوى مشبعة بحب الدم وأعمال العنف والشدة، وقد لعب الإله «رع» نفسه دورًا عظيمًا في أعمال القسوة؛ إذ أهلك بني الإنسان في سالف الأزمان بوساطة الإلهة «سخمت» التي هي على شكل امرأة برأس لبؤة، والأسطورة التي حفظت لنا يقال إنها تمثل عين «رع» وإنها نفس الإلهة «حتحور»، وهذه الأسطورة هي أحدث الأساطير التي كتبت عن الإله «رع»، وتظهر فيها الناحية الإنسانية بشكل جلي، ولذلك نقشت على كثير من مقابر الملوك، وتتلخص فيما يأتي:

«كان «رع» في سالف الزمان يحكم الآلهة والناس على السواء، ولكن على مر الأيام طعن في السن، وكانت عظامه من فضة وأعضاؤه من ذهب وشعره من اللازورد الحقيقي، ولكن الناس لاحظوا ذلك وتآمروا عليه، غير أن الإله عرف نواياهم وقال لأحد أتباعه: ناد عيني، وشو، وتفنت، وجب، ونوت، وكذلك الآباء والأمهات الذين كانوا معي وقت أن كنت في ماء المحيط «نون»، وكذلك ناد الإله «نون» … واجعلهم يأتون خفية حتى لا يراهم الناس، وحتى لا يستولي على قلبهم الفزع، وعليك أن تحضر مع هؤلاء الآلهة إلى القصر ليعرضوا وجهة نظرهم، فحضر هؤلاء الآلهة وسجدوا على بطونهم أمام جلالته، وقالوا: تكلم إلينا حتى نسمع ما ستقوله لنا، وعندئذ قال «رع» إلى «نون» أنت أيها الإله أقدم الكل والذي منه ولدت، وأنتم أيها الأجداد المقدسون انظروا إلى بني البشر الذين خلقوا من عيني لقد تآمروا ضدي، قولوا لي ما الذي تصنعونه ضد هذا العمل، ولن أقتلهم قبل أن أسمع ما تريدون أن تقولوه، فقال جلالة الإله «نون»: يا بني «رع» أنت الإله الذي يفوق والده وكل مخلوقاته في العظم، ابقَ على عرشك فإن الخوف الذي تنشره عظيم إذا صوبت عينك ضد المتآمرين.

وعندما صوب الإله «رع» عينه عليهم هربوا إلى الصحراء؛ لأن قلوبهم استولى عليها الهلع مما قاله، ومع ذلك فإن الآلهة نصحوا إليه أيضًا أن يرسل عينه لتقتفي أثر المتآمرين لتضربهم، فأرسل «رع» عينه التي نزلت إلى الأرض بصفتها الإلهة «حتحور»، ولكن هذه الإلهة عادت بعد أن قتلت الناس في الصحراء، وعندئذ قال جلالة الإله: أهلًا بقدومك يا «حتحور» … فأجابته هذه الإلهة: بحياتك، لقد كنت شديدة البأس بين الناس، وقد سر ذلك قلبي.

ولكن «رع» خاف أن تهلك «حتحور» الناس عن بكرة أبيهم في الغد، وقال: ائْتِ إليّ على وجه السرعة برسل سريعين يعدون مثل الظل، فأحضر إليه رسل من هذا النوع على وجه السرعة، وقال لهم جلالته: اعْدُوا إلى الفنتين، وأحضروا إليَّ مقدارًا عظيمًا من مادة «ديدى»، وأعطيت هذه المادة لحامل الخصلة في عين شمس، فطحنها هذا الملاك في حين كان الخدم يحضرون الجعة بالشعير، وبعد ذلك صبت هذه المادة «ديدى» في الجعة، فأصبح لونها كلون الدم … وشربت منها «حتحور» حتى ثملت وبذلك كفت عن فناء العالم، ولكن الإله «رع» المسن بعد أن خلَّص البشر من الفناء التام، لم يعد يرغب في الاستمرار في حكم هؤلاء المخلوقات الذين لا وفاء لهم، وقال: بحياتي، إن قلبي قد مل البقاء معهم، وعندئذ يدخل الإله «نون» ونادى بقربه بنته «نوت» التي على شكل بقرة، فاعتلى ظهرها الإله «رع» ورفعته إلى السموات العلى، وصارت منذ ذلك الوقت هي السماء، ولكن عندما طلَّت «نوت» من أعلى ارتجفت أعضاؤها بسبب ارتفاعها، ولكن «رع» نادى الإله «شو» وقال له: يا بني «شو» ضع نفسك تحت بنتي «نوت» واحملها على رأسك ففعل «شو» ما أمر به، ومنذ ذلك العهد كان يحمل البقرة السماوية التي على بطنها تسطع النجوم وتسبح الشمس في سفينة [انظر الفصل العاشر: آلهة المقاطعات].

ومنذ ذلك العهد كان يحمل «رع» على جبهته الثعبان السام، وهو الصل المخيف الذي ينفث النار في وجه الأعداء. كل هذه المظاهر تشعرنا بأن الديانة في بدايتها كانت قاتمة مظلمة، ولذلك يدهش الإنسان للخطوات الواسعة التي خطتها المدنية المصرية نحو الرقي الفكري عندما نقرأ تاريخهم في عهد الدولة القديمة، ولكن الواقع أن هذه الحقائق تحبذ الرأي القائل، بأنه قد مر على مصر عصر طويل من الثقافة، كان لا بد أن تمر به البلاد أوَّلًا لتصل إلى ما وصلت إليه في نواحي الحياة الأخرى التي ضربت فيها بسهم صائب، وكان لها أحسن تأثير في رقيها الفكري والأدبي والمادي، فمن ذلك أن تربية الماشية وزراعة الحقول وتنمية التجارة التي نتجت عن هذا الرقي والتقدم، أثَّر تأثيرًا حسنًا في أنظمة الحكومة وفي إقامة العدل وهذَّب أخلاق القوم، ومما جعلهم يتركون ظهريًّا كل الشعائر والطقوس الوحشية في كل مكان، حتى إنه لم يبقَ منها إلا رموزها، ولا أدل على ذلك من أنه منذ عصر ما قبل التاريخ قد اختفت الضحايا البشرية التي كانت تقرب في الطقوس الدينية، ولم يبقَ دليل على وجودها في سالف الأزمان إلا الدمى التي كانت توضع مع المتوفى في قبره، أو عادة دفن المقربين من الفرعون معه في القبر، أو ما نشاهد في عهد الدولة المنفية من بناء العظماء مقابرهم حول هرم مليكهم.»

ويدل تقريب الضحايا في مصر القديمة من بعيد على أن الآلهة كانوا في الأزمان السحيقة يحبون دماء الضحايا، وهذا يلاحظ من وضع طعام الضحية بعد ذبح الحيوان أمام المعبد على مائدة القربان أمام الإله، وهذه الأطعمة كانت تشتمل على لحوم ومشروبات، وفطائر وأزهار وغيرها، ولكن أهم شيء كان يقدم هو البخور، وكان يتمتع بكل هذه الأشياء الكهنة المطهرون والكهنة خدام القرين «الروح المادية».

ورغم ما وصل إليه المصري من المدنية والرقي فإنه استمر محافظًا على قص الأساطير العتيقة المهوشة، ويرجع السبب في ذلك إلى أن المصري بطبعه كان محافظًا لا ينسى، فكان يحافظ على التقاليد القديمة مهما كانت سخيفة غير معقولة، وكان يستعملها في أغلب الأحيان في أمور السحر الذي كان من أهم ضروريات الحياة للمصري، ولا يهمه ما دام يصل إلى أغراضه أن يتبع كل الطرق السحرية سواء أكانت مشروعة أم غير مشروعة، ولكن رغم هذه الأساطير كانت عند المصري فكرة نقية صافية عن الإله مما جعل العلاقة بين الناس يسودها وازع خلقي، سُدَاه العدل ولُحْمَتُه النظام المستتب، وهذه كانت منحة من الآلهة أيضًا، لأنهم وإن لم يكونوا أنفسهم مثلًا عليا للأخلاق، فإنهم رغم ذلك حماة النظام الخلقي، فيعاقبون من يهتك حرمة هذا النظام، كما يعاقبون من يتعدى حدود تعاليم الطهارة الجسمانية.

وقد مثل المصري العدالة التي تقوم على مبادئها كل المدنية المصرية وحسن سير الجماعة، منذ فجر التاريخ في هيئة إلهة (امرأة) حسناء تحمل فوق رأسها ريشة أو في صورة ريشة فحسب، وأطلق عليها اسم «معات» ونسبتها بنت الإله «رع» إله الكون وزوجها الإله «تحوت» المنشئ لكل مدنية العالم.

والواقع أن نشأة المدنية المصرية التي قوامها العلم والعدل والإدارة الحسنة في نظام الحكم، يرجع إلى أصل ديني، أو اجتهد المصري أن يعزوه إلى أصل ديني؛ وذلك لأن الدين كان متغلغلًا في كل مرافق حياته، ولذلك رمز لكل منها بصورة ملموسة أمام المجتمع يهتدي بهديها، فمثل إله العلم «تحوت» مثل بالطائر «إبيس» أو القمر وفي يده قلم وقرطاس،٢ ومثل إلهة العدل بامرأة تحمل ريشة فوق رأسها رمز الدقة والعدالة، أما الإدارة ونظام الحكم فكان ممثلًا في الإلهة «سشات»، ومعناها «التي تكتب»، وتمثل على شكل امرأة جالسة على كرسيها وبيدها قلم وقرطاس تكتب فيه، وكانت تعد سيدة بيت الكتب، وتعتبر أول إلهة نقشت (أي كتبت)، وكانت وظيفتها أن تدون كل الأعمال الجليلة التي يقوم بها الملوك، وكانت تنقش أسماءهم على شجرة في معبد عين شمس، وهي والإلهة «معات» من رفاق الإله تحوت.
١  الشجرة التي توجد مرسومة مع الإله مين هي الخس، وتعتبر رمزًا لنماء القوة الحيوية التناسلية عند هذا الإله.
٢  شبه منقار الطائر «إيبيس» (أبو منجل) بالقلم؛ إذ ينقر به (أي يكتب)، ولذلك سمى إله الكتابة والنقش.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤