الفصل التاسع عشر

الأسرتان السابعة والثامنة

(١) مقدمة

يعد العصر الذي تلا الأسرة السادسة إلى ظهور الأسرة الحادية عشرة من أظلم العصور في تاريخ مصر، وقد اختلف المؤرخون في تقدير طول هذا العصر؛ فقدره الأستاذ «فلندرز بتري» بنحو ٣٤٤ سنة، وذلك من بداية الأسرة السابعة إلى الأسرة الحادية عشرة، وقدره الأستاذ «برستد» بنحو ٣١٥ سنة من الأسرة السابعة إلى الأسرة العاشرة.

والواقع أن هذا العصر مجدب في الحقائق التاريخية، وما ذلك إلا لعدم وجود آثار معاصرة، وبخاصة في عهد الأسرتين السابعة والثامنة، وكل ما يمكن الإشارة إليه من الآثار في عهد هاتين الأسرتين بعض جعارين للفرعون «نفر كا رع» الذي يظن أنه من فراعنة الأسرة السابعة، وكذلك أسطوانة من حجر اليشم الأخضر تعزى إلى الفرعون «خندو»، ويقال إنها من صناعة سورية، وهذا الفرعون «خندو» ينتسب إلى ملوك الأسرة الثامنة، وكذلك عثر على خاتم للفرعون «نفر كا رع تلولو» رب الشمال، وعلى مراسيم للفرعون «نفر كاوحور» وسنتكلم عن محتوياتها فيما بعد.

عثر على جعران لفرعون اسمه «رع إن كا»، وهذا الجعران رغم ما عليه من الإشارات المصرية فإنه وجد عليه رسم يدل على أنه من أصل سامي محض، وهو يشبه الرسم الذي على أسطوانة الفرعون «خندو»، وهذه الدلائل التي ذكرناها رغم قلتها مضافة إلى الفوضى التي سادت البلاد في هذا العصر تزكي الفكرة القائلة بأن البلاد في هذه الفترة قد غزاها قوم من أهالي سوريا، وهي نظرية يميل إليها الكثيرون من المؤرخين المحدثين.

والظاهر أن هؤلاء الفراعنة الذين حكموا البلاد في خلال هاتين الأسرتين لم يشيدوا مباني عظيمة كأسلافهم في طول البلاد وعرضها؛ إذ الواقع أننا لم نعثر لهم في محاجر سينا والحمامات على أي أثر من النقوش؛ إذ كان المتبع في عهد أسلافهم أن كل ملك من الذين أقاموا المعابد العظيمة ينقش اسمه على صخور هذه الجهات تذكارًا للحملات التي كان يرسلها لقطع الأحجار النادرة لعماراته ومقابره الخالدة، ويظن الأستاذ بتري أن الوجه البحري وجزءًا ومن الوجه القبلي قد غزيا في نهاية الأسرة السادسة، بل يقال إن قومًا من الشمال الشرقي من سوريا فتحوا مصر ولا يبعد أن يكون ذلك مقدمة للغزوة العظيمة التي قام بها الهكسوس للبلاد فيما بعد، وأهم ما لدينا من الدلائل على حدوث هذه الغزوة ظهور الأزرار التي كانت تتخذ شارات منذ نهاية الأسرة السادسة، ثم اختفت في الأسرتين التاسعة والعاشرة، وهذا النوع من الأزرار التي عثر عليها في مصر رغم وجود بعض الأشكال المصرية البحتة عليها أحيانًا مثل علامة « الحياة» وعلامة الصقر كان الطابع الأجنبي ظاهرًا في صناعتها واضحًا. هذا إلى أن الأسطوانات الخضراء التي عثر عليها من عصر الملك «خندو» هي صناعة أجنبية بغير شك، وإن كانت بعض التفاصيل التي عليها مصرية، ولا يفوتنا كذلك ذكر بعض أسماء وجدت في هذا العصر مثل «شماي» و«ني» و«تلولو» و«عانوا» يستدل من تركيبها أنها سامية الاشتقاق، وكذلك كان نفوذ الفرعون قد تدهور تدهورًا عظيمًا في نهاية حكم الملك «بيبي الثاني» كما أسلفنا، وسادت الفوضى البلاد، حتى إننا لا نعرف من الآثار التي بقيت لنا من عهد الأسرة السابعة شيئًا محدودًا، وكل ما وصل إلينا كان عن طريق رواية «مانيتون»، فقد روى لنا أن هذه الأسرة كانت تضم سبعين فرعونًا حكموا سبعين يومًا، ولا نظن أن مثل هذه الأسرة كان لها وجود بهذه الصفة، بل ربما ضرب لنا «مانتيون» ذلك مثلًا للفوضى التي كانت ضاربة أطنابها في البلاد بعد سقوط الأسرة السادسة.

(٢) الأسرة الثامنة القفطية (٢٢٨٠–٢٢٤٠ق.م)

أما الأسرة الثامنة فرغم ورود أسماء ملوك لها في قوائم الفراعنة، فإن تاريخها غامض غموضًا تامًّا، اللهم إلا بعض حقائق عن بعضهم ضئيلة سنذكرها فيما بعد؛ ففي قائمة «العرابة» نجد أسماء ١٧ فرعونًا حكموا زمنًا في عهد هذه الأسرة، وفي قائمة تورين نجد مذكورًا ثمانية فراعنة فقط، أما المؤرخ «مانيتون» فإنه ذكر لنا أن عدد ملوكها ثمانية عشر دون أن يذكر أسماءهم، على حين أن قائمة سقارة لم يرد فيها ذكر فرعون بعد «بيبي الثاني» إلى أوائل الأسرة الحادية عشرة؛ أي إنها أهملت الأسرات السابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة، هذا ما ورد في القوائم، أما الآثار فإنها لم تذكر لنا ما يشفي غلة. حقًّا أنه يوجد في سقارة بعض أهرام لا بُدَّ أنهم أقيمت بعد عهد «بيبي الثاني»، غير أننا لم نتحقق من بينها اسم ملك، ولكن إذا حكمنا حسب الأسماء التي ذكرتها لنا قائمة «العرابة» في عهد الأسرة الثامنة وجدنا أن فراعنة هذه الأسرة قد بقوا محافظين على تسمية أنفسهم بأسماء أسلافهم في معظم الأحيان، فمثلًا نجد من بين ملوك الأسرة الثامنة خمسة فراعنة تسموا باسم «نفر كا رع» وواحد تسمى باسم «ددف رع» وآخر أطلق على نفسه اسم «نفر إر كا رع» وهكذا، والظاهر أنه كان من جراء الحركة التي قام بها حكام المقاطعات للمحافظة على استقلالهم في مقاطعاتهم منذ الأسرة السادسة، أن حاكم مقاطعة قفط آنس من نفسه القوة فضم إلى مقاطعته المقاطعات السبع العليا من الوجه القبلي، وأسس منها مملكة مستقلة تحت سلطانه عن أسرة منف، ومما يؤسف له أن «مانيتون» لم يذكر لنا شيئًا مطلقًا عن هذه الأسرة القفطية، ويرجح أنها قد مكثت نحو أربعين عامًا، وقد حفظت لنا الآثار أسماء بعض فراعنتها؛ إذ عثر في قفط نفسها على بعض آثار تدل على أن فراعنتها كانوا يحملون كل الألقاب الفرعونية، وقد كانت نقطة ضعف ملوكها أنهم كانوا يغمرون وزراءهم الذين كانوا ينتخبون من أسرة خاصة بسلطة واسعة، حتى إنهم كانوا في الواقع هم المسيطرون الحقيقيون على شئون هذه المملكة، وقد عثر على مراسيم عدة للفرعون «نفر كاو حور» أحد ملوك هذه الأسرة في قفط نفسها، منها مرسوم خاص بوقف تمثال الفرعون.

وقد أرسل الأمر الخاص بهذا الوقف إلى رئيس كتبة الحقول للمقاطعات الخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتاسعة من مقاطعات الوجه القبلي لتنفيذه، ولا نزاع في أن جميع الحقول الفرعونية في المقاطعات الخمس السالفة الذكر هي المقصودة لتحبس على هذا التمثال مما يدل دلالة واضحة على أن هذه الممتلكات كانت ضئيلة، وأن أملاك الفرعون في المقاطعات أخذت تتناقص وتتضاءل بسبب ما كان يهبه الفرعون لحكام الأقاليم من أملاكه الخاصة في هذه الجهات مما زاد في سلطانهم وقلل من نفوذه وأضعف سلطانه، كذلك لدينا مرسوم آخر يعد من أهم المراسيم الإدارية التي عثرنا عليها في هذا العصر؛ إذ فيه نصب الفرعون وزيره «شماي» مديرًا على الوجه القبلي ووضع تحت سلطانه الاثنتين والعشرين مقاطعة التي كان يشتمل عليها صعيد مصر مع ذكر اسم كل منها من البداية إلى النهاية حسب ترتيبها الجغرافي، وبعد فترة عين الفرعون وزيرًا آخر لا نعرف اسمه، ويحتمل أنه ابن «شماي»، ليكون مديرًا للوجه القبلي، غير أنه قد حدد اختصاصه بالمقاطعات السبع الجنوبية فقط، ومن ذلك نرى أن الوزير قد اشترك معه ابنه في حكم المقاطعات التي تحت سلطانه «من المقاطعة الأولى إلى السابعة» من الوجه القبلي، ويمكننا أن نستنتج من ذلك أن وظيفة الوزير التي أنشأها الفرعون لكبح جماح حكام الأقاليم أصبحت وراثية يتولاها الابن عن الأب مما جعل نفوذ الملك صفرًا، وقد كان كذلك من حسن الصدف أن عثرنا في هذا العهد على مرسوم آخر في قفط لفرعون يدعى «دمزاب تاوي» وهذا الفرعون لم يذكر في قوائم الفراعنة المعروفة لدينا لهذا العهد، غير أنه من المحقق أنه من هذه الأسرة، وقد تأكدنا من ذلك من اسم الوزير الذي ذكر معه، وقد جاء في هذا المرسوم أن الفرعون كان يهدد بالعقاب الصارم كل أهل هذه الأرض الذين يعتدون على الأوقاف أو يتلفون أو يهشمون النقوش أو المعابد أو موائد القربان أو تماثيل الوزير «إدي» التي توجد في كل المعابد والأماكن الدينية. أليس من المدهش أن نرى للوزير «إدي» تماثيل وقربانًا في كل المعابد التي في الوجه القبلي وأن يحافظ عليها ويعتنى بها بهذه الكيفية؟

وأدهش من ذلك أنه بجانب العقاب الدنيوي الذي يلقاه كل من تعدى على حقوق هذا الوزير أن نرى الفرعون يعلق أهمية كبرى على العقاب في الآخرة. إذ يقول: إن المعتدين لن يجمعهم الإله مع الملائكة المطهرين، بل سيوثقون ويكبلون ويساقون أسرى للإله أوزير ولآلهة مدنهم، وهنا نشاهد أن الإله «أوزير» والآلهة المحلية كانت تعد قضاة، وقد كانت هذه المكانة محفوظة للإله «رع» حتى هذه الفترة، وذلك مما يدل على الانقلاب الديني ضد عبادة هليوبوليس «عين شمس» ومملكة منف، وأخيرًا نرى أن الفرعون «دمز إب تاوي» يهدد بسخطه وغضبه كل الموظفين بما فيهم الفرعون والوزير والأمراء الذين يعارضون في تنفيذ هذا المرسوم. على أننا سنشاهد مثل هذا التهديد للفرعون في مرسوم في عهد أواخر الدولة الوسطى، وهو عصر يشبه الذي نحن بصدده الآن من حيث الاضطراب والفوضى والغزو، ولا شك أن مثل هذه الحالة من العلامات المميزة لعصور الفوضي والاضطراب. ومنذ بضع سنين عثر على مقبرة لأحد حكام مقاطعة إدفو في بلدة المعلَّة، وتقع في منتصف الطريق بين إسنا وأرمنت على الشاطئ الأيمن للنيل، ونقوش هذه المقبرة لم تنشر بعد رغم أنها في غاية الأهمية من الوجهة التاريخية، وربما كانت النقوش الفريدة التي نفهم منها أن الثورة التي قام بها فراعنة قفط لم تقبلها حكام المقاطعات الجنوبية الثلاثة — الفنتين وإدفو وهيراكنبلوليس — عن طيب خاطر، بل حارب أهلها من أجل استقلالهم بكل عنف وبسالة؛ إذ الواقع أن النقوش تدلنا على أن أهلها حاربوا ضد طيبة وقفط في جانب ملك لم نعرف اسمه بكل أسف على وجه التحقيق، وقد ختمت هذه الحروب بانتصار طيبة وقفط طبعًا غير أن نقوش هذا الحاكم لم تذكر لنا هذا الانتصار.

ومن المحتمل جدًّا أن الأسرة الثامنة المنافية قد اختفت حوالي عام ٢٢٤ق.م والظاهر أن قبل هذا التاريخ بعامين كانت المملكة الشمالية الصغيرة التي كانت قد حرمت ريفها الخصيب، قد اقتطع منها إقليم آخر يحتوي عدة مقاطعات، وذلك أن حاكم مقاطعة إهناس «هراكليوبوليس» واسمه «حيتي» أعلن نفسه فرعونًا على مصر السفلى ومصر العليا، واتخذ لنفسه لقب «أمر إيب»، ولا نعلم كيف انتهت تلك المملكة المنفية، على أن شواهد الأحوال كلها كانت تنذر باختفائها؛ إذ كانت فريسة بين الآسيويين الذين كانوا يحتلون الدلتا وبين ملوك إهناس الجدد، ولذلك لم يعد في مقدور ملوكها البقاء وقضي عليها من عالم الوجود، ومن ذلك الحين نرى أن مصر في هذا العهد كانت مقسمة ثلاثة أقسام، ففي الشمال كانت الدلتا في يد الآسيويين وفي مصر الوسطى كان حكام إهناس هم المسيطرون، وفي الوجه القبلي نجد أن البلاد كانت ملتفة حول حكام طيبة، ولا نعرف شيئًا عن اختفاء أمراء قفط الذين كانوا أصحاب السلطان في المقاطعات الجنوبية، وربما يعزى ذلك إلى ضعفهم وتغلب حكام طيبة عليهم، ويظن الأستاذ «بتري» أن الوجه القبلي في هذا العهد قد غزاه قوم من الجنوب، وكان من جراء ذلك أن الغزاة استوطنوا طيبة، وكان منهم فيما بعد سلالة ملوك الأسرتين الحادية والثانية عشرة. وقد اعترف الدكتور هول بهذه الفكرة في كتاباته عن مصر في هذا العهد، ومما يدعم هذا الرأي وجود الدم النوبي في عروق هؤلاء الملوك الذين كان يطلق عليهم اسم «منتوحتب» أو «سنوسرت» أو «أمنمحيت»، ومن كل ذلك نستخلص أن البلاد في هذا العهد قد اجتيحت بالغزوات الأجنبية من كل الجهات، فانقض عليها الآسيويون من الشمال والنوبيون من الجنوب واللوبيون من وسطها، وعادت البلاد إلى سيرتها الأولى من الفوضى والانقسام، ولم يبقَ فيها تحت سلطان الجنس المصري الحقيقي إقليم واحد. هذا إذا سلمنا بأن ملوك إهناس يرجع أصلهم إلى الجنس اللوبي (؟).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤