الفصل الثالث

مصر وأصل المصريين

مصر وطننا العزيز، تعد بلا نزاع أقدم أمم العالم، وهي تكوِّن الجزء السفلي لوادي النيل، وتحد بالشلال الأول جنوبًا، والبحر الأبيض المتوسط شمالًا، والصحراء العربية شرقًا، وصحراء لوبيا غربًا، وقد كان يطلق عليها قديمًا اسم «كمي» وقد بقي محفوظًا إلى أن جاء الإغريق فأسموها «أجبتيوس»، ولم يفسر أصل اشتقاق هذا الاسم تفسيرًا شافيًا إلى الآن، وأفضل هذه التفاسير «حا-كا-بتاح» أي مكان نفس الإله بتاح. الذي كان يعبد في بلدة منف عاصمة الديار المصرية في عهد الدولة القديمة، ولفظة «كمي» معناها الأرض السوداء، وكانت تطلق على الوادي الخصب المنزرع، أما الأرض التي كانت تحيط به من الشرق والغرب فكانت تسمى «تا-دشر»، وتعني بالمصرية البلاد الحمراء أي الصحراء، ولا شك أن مصر مدينة بحياتها لنهر النيل، وقد أصاب المؤرخ «هيرودوت» عندما قال — نقلًا عن المؤرخ «هيكاته» الذي عاش في عهد بطليموس الأول: «إن مصر١ منحة النيل.» والواقع أن هذا النهر العظيم يفيض على البلاد بخيره العميم طول العام؛ إذ إن الرشح الذي يتسبب من مائه يمد الطبقة المائية التي تحت الأرض وهي التي لا مندوحة عنها لنمو النبات وتغذيته أثناء التحاريق. أما فيضان النيل السنوي فإنه يكسب الأرض خصبًا ونماء بالغرين الذي يجلبه معه كل عام، ويتركه على سطح الأراضي المنزرعة لنمو الأشجار والنباتات والحيوان، ومن ذلك نرى أن البلاد المصرية بدون نهر النيل تصبح صحراء قاحلة، والحياة فيها مستحيلة، وبخاصة عندما نعلم أن الطبيعة قد حرمتها ماء الأمطار تقريبًا، وجعلتها ترزح تحت عبء شمس محرقة مدة طويلة من السنة.

ولذلك فإن القوم البائسين الذين يسكنون الجهات القاحلة (أي الأرض الحمراء) كانوا يعيشون في شطف من العيش فيتصيدون حياتهم مما تنتجه الأمطار الضئيلة التي كانت تجود بها السماء من وقت لآخر، ومن بعض الآبار القليلة المبعثرة في أنحاء تلك الصحاري المجدبة، وعلى ذلك كان المصريون الذين يعيشون في رغد من العيش في وادي النيل اليانع ينظرون إلى هؤلاء القوم نظرة ازدراء، ويعدونهم همجًا.

ولما كان المصريون القدماء يعتقدون أن النيل يستمد ماءه من صخور الشلال الأول عند أسوان و«الفنتين»، فإنهم كانوا يعدون كل البلاد الواقعة جنوبي هذه الصخور بلادًا أجنبية عن مصر تمامًا، وقد كانت مصر مسكونة منذ عصور ما قبل التاريخ بقوم من الجنس الحامي يقال إنه نشأ من البلاد نفسها أي أفريقي الأصل، وينسب إلى لوبيى أفريقيا الشمالية المسمين الآن بالبربر، وإلى السكان الحاميين من أفريقيا الشمالية الشرقية «الصوماليين» ولا مراء في أن الحاميين المصريين يمثلون أقدم مدنية معروفة في وادي النيل، وعلى ذلك تكون مصر جزءًا من مجموعة المدنيات الحامية الأفريقية الأخرى، غير أنه عند نهاية عصر ما قبل الأسرات نجد بعض التغير أخذ يدخل على هذا الشعب الحامي الجنس الناشئ من طبيعة البلاد نفسها، والظاهر أن هذا التغير جاء عن طريق الهجرة. وأهم العناصر الجديدة التي دخلت البلاد يظهر أنها من أصل آسيوي، وكانت لها مميزات خاصة تختلف اختلافًا بيِّنًا عن الشعب الأصلي، وهؤلاء الآسيويون قد اختلطوا شيئًا فشيئًا بالسكان الأصليين واندمجوا فيهم.

أما موضوع دخول هذه القبائل الآسيوية إلى مصر والجهة التي دخلوا منها البلاد واستولوا عليها والعصر الذي دخلوا فيه بالتحديد، فإنها أشياء لم يجمع فيها العلماء على رأي قاطع، فمن قائل إن المهاجرين أو الفاتحين جاءوا إلى مصر من شبه جزيرة بلاد العرب ودخلوها عن طريق البحر الأحمر من جهة «قفط»، أو عن طريق أعالي وادي النيل. ومن قائل إن الغزاة أتوا من سوريا، ودخلوا مصر عن طريق فلسطين فسينا فشرقي الدلتا، ومن ثم انتشروا في الدلتا الغربية ثم الوجه القبلي، ومن هنا تظهر أمامنا مشكلة عويصة لم يمكن حلها إلى الآن، وهي هل المدنية المصرية الفرعونية نبتت في الشمال أم في الجنوب؟ أي هل الحضارة المصرية بدأت في الدلتا أم في الصعيد؟

والواقع أن هناك حججًا تعزز كلًّا من النظريتين، فإن الذين يميلون إلى الرأي القائل بأن القوم النازحين أتوا من الجنوب، فذلك لأن كل معلوماتنا عن هذا العصر السحيق مستمدة فقط من بعض حفائر عملت في الوجه القبلي، مع أن هناك مناطق أثرية أقدم من تلك واقعة في الدلتا، ولم يكشف علميًّا إلا عن بعضها منذ زمن قريب جدًّا كمنطقة المرمدة، ولم تعطنا كل المعلومات التي يجب أن نستند عليها في تكوين رأي قاطع.

وكذلك نجد أن عبادة الإله «حور» الذي كان يعد من أقدم المعبودات المصرية، قد دخلت مصر من الجنوب عن طريق بلاد النوبة، أو أعالي وادي النيل أو بطريق وادي حمامات عقب غزو القوم المسمين على الآثار «أتباع حور» كما يزعم بعض المؤرخين، على أننا من جهة أخرى نجد أن بعض المميزات البارزة في تكوين الديانة المصرية ونموها قد ظهرت في الوجه البحري، فمثلًا نرى أن أشهر العبادات التي انتشرت في طول البلاد وعرضها تدريجًا هي عبادة الإله «أوزير»، ويرجع أصلها إلى بلدة «أبو صير» القريبة من سمنود وعبادة إله الشمس «رع» ويرجع أصلها إلى بلدة عين شمس القريبة من القاهرة. يضاف إلى ذلك أن كثيرًا من بلاد الوجه القبلي كانت تسمى بأسماء مدن مأخوذة من الدلتا أقدم منها، وعلى ذلك يكون من المحتمل جدًّا أن الجنس الجديد قد زحف على البلاد من شمالي سوريا عن طريق فلسطين وسينا، وأحضر معه مدنية أرقى من مدنية الجنس الأصلي الحامي الذي لم يعرف إلا الآلات والأواني الحجرية. أما الغزاة أو النازحون، فيقال إنهم أدخلوا في البلاد معرفة المعادن وبخاصة النحاس، وأدخلوا كذلك عبادتهم للأموات وديانتهم وكتابتهم وفنونهم ونظمهم الاجتماعية والسياسية، ولا شك في أن دخول هذا الجنس إلى البلاد قد أتى تدريجًا من غير عنف، ومهما تكن الحقيقة في أمر هذا الجنس الجديد فإن هناك أمرًا ثابتًا، ذلك أن النزلاء قد توصلوا إلى الاستيلاء بنجاح على البلاد شيئًا فشيئًا، وأهم الوثائق التاريخية التي وصلت إلينا من هذا العهد هي الألواح الإردوازية المنقوشة، وقد وصلت إلينا هذه النقوش على أشكال مختلفة، ومن الصعب الاهتداء إلى حلها، على أنها هي الذكرى الوحيدة لدينا لهذا الفتح الطويل، الذي كانت نهايته على ما يظهر اتحاد كل البلاد من أسوان إلى البحر الأبيض المتوسط تحت صولجان ملك واحد، وقد اتفقت كل المصادر التاريخية على أنه هو الملك مينا.

ومما لا جدال فيه أن العلاقة بين مصر في أقدم عهودها وبين آسيا كانت موجودة، غير أنه لا يلزمنا أن نبالغ في أهمية انتشار الجنسية الآسيوية في مصر؛ إذ الواقع أن حضارة البلاد من أساسها أفريقيا، ولذلك نرى أن الجنس المهاجر اندمج على مضي الزمن في أهالي البلاد، وبذلك نجد اللغة والزراعة والديانة التي نمت وترعرعت في البلاد مصبوغة بصبغة أهلها الأصليين منذ أقدم عهودهم، ولم يؤثر النازحون في تغيير شيء كبير منها، بل كان كل تأثيرهم سطحيًّا، ومع ذلك فإن ما لدينا من المعلومات عن هذا العصر لا يسمح لنا بأن نجزم بشيء، هذا ويجب أن نتخيل أن النازحين لم يكونوا إلا عددًا ضئيلًا بالنسبة إلى السكان الأصليين؛ إذ الواقع أن الفئات النازحة المسيطرة كانت تلبس المدنية التي وجدتها زاهرة في البلاد مع إدخال بعض إصلاحات وتحسينات عليها بقدر الإمكان.

على أنه ليس لدينا من المعلومات ما يثبت لنا إذا كانت المدنية المصرية مدينة للآسيويين الفاتحين بإحضار الحيوانات المنزلية كالثور والخنزير والحمار والماعز، وكذلك باستحضار أقدم الحبوب مثل الشعير والقمح، أو أنه بالعكس كانت هذه الحيوانات والحبوب قد وجدت في وادي النيل منذ وجد الجنس الأفريقي الأصلي، وكذلك لا نعرف إذا كانت لغة القبائل النازحة قد أثرت في اللغة المصرية القديمة ومسحتها بمسحة آسيوية، وهي التي نجد ظواهرها في عدة ألفاظ في لغة القوم، ومنذ بداية العصر التاريخي نجد الاندماج بين الجنسين المكون منهما السكان عظيمًا جدًّا، حتى إنه أصبح من الصعوبة بمكان أن نعرف بشيء من الدقة الفوارق بينهما.

١  في النص الإغريقي أريد بمصر «الدلتا» فقط.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤