الفصل التاسع

مقاطعات القطر المصري منذ أقدم العهود

في عصور ما قبل التاريخ لم تدلنا الآثار دلالةً واضحةً على أن القطر المصري كان مقسمًا إلى قبائل متميز بعضها عن بعض، ولكنا نشاهد من ناحية أخرى عند انبثاق فجر التاريخ وظهور الكتابة ما يدل على أن القطر المصري كان مقسمًا إلى مقاطعات معلمة، وبقيت على حالتها الأولى، لم يدخل عليها تغيير جوهري منذ بدء نشأتها، اللهم إلا من العصور المتأخرة والعهد الإغريقي الروماني فقد حدثت تغييرات محسوسة.

وكان المصريون يسمون المقاطعة في لغتهم «سبات»، وهذه اللفظة مشتقة من فعل «سب» أي يقسم، وهذا الاسم المصري يقابله لفظة «نوم» التي أطلقها اليونان على المقاطعة، ومن ذلك يتضح أن كلمة مقاطعة معناها في الأصل «قسم»، وهو في الواقع إقليم من الأرض مستطيل الشكل، ويعبر عنه في اللغة المصرية بشكل مستطيل مقسم بخطوط متقاطعة تكون زوايا مستقيمة هكذا .

ومما يدهش في التاريخ المصري أننا نرى نظام القبائل غير موجود عند انبثاق فجر التاريخ في الوقت الذي يسود فيه نظام المقاطعات في البلاد، وهنا يجب أن نميز بين القبيلة والمقاطعة، فالقبيلة مجموعة من الناس تربطهم صلة القرابة وتمجيد الجد الأصلي، ثم السيد والرمز الديني، وأفراد القبيلة قد يكونون من البدو الرحل أو من أهل الحضر، وليس من الضروري أن يكون ساكن الإقليم منتسبًا إلى قبيلة ما في نفس هذا الإقليم. أما المقاطعة فعلى العكس من ذلك مساحة معينة محدودة من الأرض، وليست مجموعة من السكان، وكثيرًا ما يكون سكانها خليطًا من الناس، ومنذ ظهر تقسيم البلاد المصرية إلى مقاطعات لم نجد فيها أثرًا ظاهرًا لنظام القبائل الذي كان بطبيعة الحال سائدًا أنحاء القطر، ومنذ بداية التاريخ نجد أن كل طائفة من السكان كانت تجتمع على رقعة من البلاد لتستثمرها، فكان لزامًا أن يقسم الوادي إلى مناطق استغلال آلت فيما بعد إلى نظام المقاطعات، وقد أصبحت المقاطعة — أو بعبارة أخرى المكان المعين الذي يستغل — مقدمة عند السكان على أي اعتبار آخر من عصبية أو نسب أو غير ذلك، ولا شك أن السبب في تلاشي نظام القبائل في البلاد يرجع إلى النزاع الذي كان قائمًا بين الوجهين القبلي والبحري، وهو الذي نشأت من أجله حروب طاحنة اشتعلت نارها مئات السنين وانتهت أخيرًا بتوحيد القطرين تحت سلطان ملك واحد، وكان في ذلك القضاء المبرم على نظام القبائل وتلاشيها، وإن كان بعض آثارها الطفيفة لا يزال باقيًا على نحو ما في المقاطعات كما سنفسر ذلك في حينه، وتحتوى كل مقاطعة على إقليم من الأرض له حاضرته، ولم تكن الحواضر وقتئذ تمتاز عن البوادي، فلا تخرج عن كونها مكانًا مخصبًا يسكنه الفلاحون والرعاة والصيادون الذين يعيشون على ما تخرجه الأرض، ويقضون سحابة يومهم في الحقول، ثم يعودون كل مساء إلى منازلهم، كما يسكنها الصناع والتجار وأصحاب الحرف ورجال الإدارة والموظفون والحكام على اختلاف أنواعهم.

وكانت المدينة «نوت» في عرفهم في ذلك الوقت تتألف من مبان تقام عند ملتقى الطرق، كما تشير إلى ذلك العلامة التي يرمز بها للمدينة في لغة القوم، وتحوَّط بسياج مستدير وتتألف من عدة أكواخ من الطين واللَّبِن، يأوي إليها الحراثون والرعاة والمسافرون في المساء خوفًا من مباغتات أهل البادية الرحل الذين احترفوا هذا العمل واتخذوه مهنتهم طول حياتهم، وكانت تقام في المدينة مخازن عظيمة الحجم للغلال، وأخرى تحفظ فيها الآلات الزراعية وحظائر للماشية، ومصانع لأصحاب الحرف والصناعات، وكذلك كانت تبنى فيها حوانيت للتجارة حول ميدان عام لتكون بمثابة سوق يعرض فيه التجار ما لديهم من السلع والمحاصيل والمأكولات التي تنتجها الأرض.

وفي المدينة يشيد مبنى عظيم شامخ الجدران يشرف على ما حوله، ذلك هو قصر الإله «حت نتر» وهو ما يسمى بالمعبد، وكان يقام خاصة لآلهة المقاطعة، ويشمل داخله الرحب المخازن المقدسة ومساكن رجال الدين، وهناك قصر آخر فسيح الأرجاء شامخ البناء بالنسبة لما حوله من بيوت عامة الشعب، أقيم خاصة للفرعون أو لحاكم المقاطعة وذلك حسب العصور التاريخية. يضاف إلى هذا دور حكومة الفرعون، أو حاكم المقاطعة الذي نصب للفصل في أمور الناس ولمراقبة الضرائب وشئون الزراعة، ومخازن الحكومة وخزانتها، والسجون وغير ذلك، فكانت تقام في جهات مختلفة في المدينة حسبما تقضي به الحال.

وكان الفرعون أو الحاكم عندما يريد تأسيس مدينة جديدة يفصلها عن جارتها، ويضع لكلٍّ حدودها بإقامة لوحة ثابتة كالسماء، كما يعبر عن ذلك المصري نفسه، وكذلك يحدد مياه كل حسبما جاء في كلامهم، ويقسم المياه والحقول والغابات والرمال حتى حدود الصحراء، وكلما ازداد عدد السكان في هذا الإقليم وامتدت فيه الأراضي الزراعية كلما فكر العمال في إقامة مدن صغيرة ثانوية أو قرى تقام فيها قصور وتنصب عليها حكام يدينون بالطاعة لحاكم المقاطعة، ومن مجموع هذه الأراضي والقرى والبلدان والعاصمة كانت تتألف المقاطعة.

ولم تكن مساحة المقاطعة في الواقع كبيرة؛ إذ كانت تتراوح بين ٣٠ و٤٠ ميلًا في الطول، أما عرضها فكان يتوقف على البقعة التي تقع فيها بالنسبة للوادي وخصبه، فإذا كان ضيقًا فإن المقاطعة تمتد على كل شاطئ النيل من صحراء العرب إلى صحراء لوبيا، أما إذا كان الوادي متسعًا فإن المقاطعة تنحصر في شاطئ واحد ويكون آخر حدودها مجرى النهر نفسه، وكانت لذلك تحد بخط وهمي يمر وسط مجرى النيل.

أما معلوماتنا عن أسماء المقاطعات، فمستقاة من قوائم أسماء المقاطعات التي عثرنا عليها في معابد البطالسة والرمان في مصر، وهذه بلا شك قد نقلت عن أصول قديمة، ومنها نعلم أن البلاد كانت مقسمة إلى مقاطعات محدودة لا تختلف كثيرًا عن القوائم التي عثرنا عليها، ومن هذه القوائم والتفسيرات الملحقة بها يمكننا أن نستخلص معلومات طريفة في بابها عن النظم الإدارية في المقاطعة، وعن الإقليم نفسه، فمن الوجهة الإدارية نعرف أوَّلًا: الاسم الرسمي للمقاطعة، ثانيًا: اسم العاصمة، ثالثًا: اسم الإله الذي يسكن معبد المقاطعة. ثم نقف بعد ذلك على معلومات عن معبدها الرئيسي ولقب الكاهن الأعظم، والكهنة الآخرين، واسم سفينة الإله، واسم الشجرة المقدسة التي كانت تقدس في المدينة، وقائمة بأسماء الأعياد المحلية، واسم كل ما حرم عمله، ثم اسم الثعبان المقدس الخاص بكل مقاطعة.

أما عن طبيعة المقاطعة نفسها، فتذكر لنا القوائم؛ أوَّلًا: اسم القناة أو الترعة التي تروى المقاطعة، ثانيًا: الإقليم الذي يشتمل على: (أ) المنطقة الزراعية «وو»، وتتألف من حقول وكروم تزرع، وهي أراض تروى، بعضها مرتفع وبعضها منخفض، حسب موقعها من النيل. (ب) الأراضي الواقعة على حدود المقاطعة عند حافة الصحراء، وتشتمل على مناطق للرعي ولصيد البر ولصيد الأسماك، لأنها غالبًا تكون مستنقعات، وهذه التقاسيم الرسمية تمكننا من فهم ما يعني به المصري من لفظة مقاطعة؛ إذ هي في الواقع منطقة تستغل زراعيًّا من جهة، ومن جهة أخرى تصرف منها الأمور الإدارية حيث كانت السلطة التقليدية في يد إله العاصمة، ويحمل لقب «رب» (نب) المدينة، ويدير شئون حكومة هذا الإله الفرعون أو حاكم المقاطعة حسب الأحوال السياسية في البلاد، والواقع أن السلطة كانت في جوهرها دينية، وكان الإنسان في هذه الحالة يمثل سلطة الإله، وقد يخيل للإنسان أن هذه الفكرة الخاصة بالإدارة كانت وقفًا على العصر المتأخر، ولكن الحقيقة أنها ترجع إلى عهد الفراعنة الأقدمين؛ إذ دلتنا النقوش منذ عهد الأسرة المنفية على أن استثمار الأراضي الزراعية كان بنفس الطريقة التي وجدناها في العصور المتأخرة. وكذلك الآلهة كان يطلق عليها «أرباب» المدن في النقوش العريقة في القدم، وعلى هذا يمكننا أن نقرر أن النظام الزراعي والديني في المقاطعات يرجع عهده إلى الأزمان الموغلة في القدم، وظل ثابتًا في مصر إلى نهاية العصر الروماني.

(١) تقسيم البلاد إلى أربعة أقاليم

والآن بعد أن استعرضنا هذه التعاريف يمكننا الحكم بأن البلاد كانت في بادئ الأمر مؤلفة من قبائل ثم مقاطعات، وانمحت الأولى وبقيت الثانية في العصور التاريخية، وقبل أن نتكلم عن رمز المقاطعات وآلهتها، رأينا أن نستعرض رأي الأستاذ «لوريه» في أصل تقسيم البلاد المصرية إلى أربعة أقاليم معينة، يعتقد أنها هي الأساس الذي تألفت منه البلاد منذ أقدم العهود، والواقع أن نظريته في ظاهرها خلابة، ويظهر في عرضها أنها قد تكون صحيحة في جملتها؛ إذ يرى أنه أتت قبائل وشعوب من بلاد لوبيا، ومن آسيا الصغرى، ومن جنوب مصر، واختلط بعضهم ببعض، وتحاربوا وأخذت الواحدة منهم تحل مكان الأخرى، ثم تحالفوا فيما بينهم، وانتهى الأمر بأن تألفت منهم أربع طوائف عظيمة: «النحلة» و«البوصة» و«الثعبان» و«النسر»، ثم تألفت من النحلة والبوصة مملكة، ومن الثعبان والنسر مملكة أخرى. وفيما بعد وفد على البلاد قوم من آسيا من طريق بلاد العرب والصومال، ونزلوا نحو الشمال وتوغلوا في البلاد حتى الوجه القبلي، وهذا الجنس الجديد ذو المواهب العظيمة، تأصل في البلاد، وكوَّن مملكة ثالثة، مملكة «الصقر»، بعد قرون عدة انقضت في حروب ومحالفات متتالية بين تلك الممالك الثلاثة، تغلبت في النهاية مملكة «الصقر»، ومن ذلك العهد أصبحت تلك الممالك الثلاثة موحدة تحت سلطان صولجان واحد، وقد أصبحت المملكة الفرعونية منظمة تحت سلطان ملك واحد وهو «بر إبسن» آخر ملوك الأسرة الثانية.

وهذه الحقائق مستقاة من دراسات دقيقة للآثار العتيقة، ومن العناصر المختلفة التي تتألف منها ألقاب الفراعنة، التي منها لقب «حور»، و«نبتي» (نسوت بيتي)، ويعتقد الأستاذ «لوريه» أنها شارات رمزية يقصد منها أوَّلًا طوائف القبائل الأولية، وفيما بعد رؤساء هذه الطوائف.

النحلة ، وهي حسب رأي لوريه رمز النسب للوجه البحري، وهي الرمز الهام للقبائل الذين يسكنون الدلتا، وهذا هو السبب الذي من أجله قد انتخبت هذه الحشرة لتدل على كل إقليم الوجه البحري.
وبيت النحلة هو المعبد الرئيسي لمدينة «سايس»، ويذكرنا اسمه بالدور الذي لعبته شارة النحلة في عاصمة مملكة الدلتا.
البوصة وهي حسب رأي «لوريه» الشارة التي تدل على طائفة من القبائل تسكن مصر الوسطى، ويقصد بذلك الوادي من بداية بحر يوسف إلى بداية فرعي الدلتا، وعاصمة هذا الإقليم «هراكليوبوليس» (إهناس المدينة)، ويكتب اسمها على حجر «بلرم»، ومعناه أطفال البوصة، يضاف إلى ذلك أن الإله المحلي «حرشف» لقبه الرئيسي ومعناه بوصة الأرضين، وكاهنه الأكبر يسمى البوصة ، أما الثعبان الرمزي فهو ليس «وزيت» بلدة «بوتو»، ولا يدل كما هو المشاع على الوجه البحري، بل هو «وزيت» ثعبان المقاطعة العاشرة من الوجه القبلي وعاصمتها «أفروديتو بوليس» وهي اليوم «كوم إشقاو» وأخيرًا النسر «نخبيت»، ويدل على الرمز أولًا، ثم على الإلهة لبلدة «الكاب» الحالية، وعلى ذلك يظهر حسب رأي «لوريه»، أن النسر والثعبان لعبا دورًا بالنسبة لملوك «الكاب» و«أفردويتو بوليس»، كما لعب الصقر «حور» بالنسبة للملوك الحوريين، أو بعبارة أخرى أن شكل رمز القبيلة قد استعمل في الحالات الثلاث ليدل على رئيس القبيلة نفسها، فكما يقرن لقب «نسوت بيتي» (ملك الوجه القبلي والبحري) بلقب «نوبتي» فإنه يستعمل، كما يدل الأخير للدلالة على السيطرة على طائفتين، وهما في الواقع «هبتا نوميا» أي (مصر الوسطى) والدلتا، ويجب أن نلاحظ هنا كذلك في ترتيب الألقاب الملكية. أن الممالك القديمة، كانت مؤلفة من مجموعتين، النسر والثعبان من جهة، والبوصة والنحلة من جهة أخرى؛ أي إنها كانت مرتبة ترتيبًا جغرافيًّا، مبتدئة من الجنوب إلى الشمال، ومن المحتمل جدًّا أن فتح البلاد قد تم على هذا الترتيب؛ أي إن النسر انتصر على الثعبان، والبوصة انتصرت على النحلة. أما اللقب «حور» الذي يأتي على رأس كل هذه الألقاب، فيدل على أن حور أو بعبارة أدق القبيلة الحورية، قد انتصرت على أعدائها، بأن بدأت من الجنوب حتى الشمال، وهذه هي النظرية التي اتبعت في العهد المتأخر في أسطورة «حور»، على معبد إدفو. على أننا نجد آثار تقسيم البلاد إلى ثلاثة أقسام: النسر، والثعبان، والبوصة، في تقسيم الوجه القبلي إلى ثلاثة أقاليم وهي الإقليم الطيبي الأعلى، ثم الإقليم الطيبي الأسفل، ثم إقليم «هبتا نوميا». وفي الواقع نرى أن الوزير «رخمارع» في عهد «تحتمس الثالث» كان يمتد نفوذه على الوجه القبلي الأعلى. مبتدئًا من الشلال إلى نهاية أسيوط، ولكن ذلك كان مقسمًا إلى قسمين: واحد منها جنوبي قفط، والثاني شمالها.
وفي العهد العربي كانت مصر العليا مقسمة إلى ثلاثة أقاليم، كان الجنوب منها يمتد من أسوان إلى قفط، وبالاختصار كانت مصر العليا منذ الأسر الأولى تنقسم إلى ثلاثة أقاليم طبيعية:
  • (١)

    إقليم النسر: ويبتدي من الحدود إلى قفط، وعاصمته «أليتيا» (الكاب الحالية).

  • (٢)

    إقليم الثعبان: من قفط إلى أسيوط، وعاصمته «أفروديتو بوليس» (كوم إشقاو).

  • (٣)

    إقليم البوصة: من أسيوط إلى بداية تفرع الدلتا، وعاصمته «هراكليو بوليس».

ومن ذلك يتضح أن تسع المقاطعات التي ذكرت في نقوش «ني عنخ بيبي» مدير الرسائل في عهد أحد ملوك الأسرة السادسة، تنطبق تمام الانطباق على قسم البوصة «مصر الوسطى»، وإنه لمن المدهش أن نجد مذكورًا في الأسرة السادسة١ أحد الأقسام الأربعة، التي كانت تنقسم إليها البلاد منذ القدم، والظاهر أن هذا التقسيم لم ينسه المصريون طوال تاريخهم حتى في عصرنا هذا.

(٢) رموز المقاطعات وآلهتها

وأول قائمة وصلت إلينا بأسماء مقاطعات من العصور القديمة يرجع عهدها إلى الأسرة الثامنة حوالي ٢٤٠٠ق.م وذلك نقلا عن مرسوم ملكي أصدره أحد فراعنة الأسرة الثامنة إلى وزيره، وقد قرر فيه أن يتولى إدارة الاثنتين والعشرين مقاطعة التي كان يتألف منها الوجه القبلي وقد ذكر أسماء هذه المقاطعات حسب ترتيبها الجغرافي الذي نعرفه فيما بعد. يضاف إلى ذلك أننا وجدنا على جدران أهرام الأسرة السادسة، وعلى جدران بعض مقابر العهد المنفي أسماء بعض مقاطعات متفرقة. أما مقاطعات الوجه البحري فليست لدينا قوائم رسمية بأسمائها ولكنا نجد بعض الأسماء مذكورة على الجدران الداخلية لأهرام سقارة أو على جدران مقابر العصر نفسه.

وأقدم المصادر التي استقينا منها أسماء مقاطعات ينسب إلى العهد الطيني، ومن المحتمل أن الوجه القبلي والوجه البحري كانا قد قسما إلى مقاطعات منذ أكثر من ٣٢٠٠ق.م وكان عدد المقاطعات في كل منهما متقاربًا، فكان الوجه القبلي يتألف من اثنتين وعشرين مقاطعة والوجه البحري من عشرين مقاطعة، وفي كل هذه المتون كانت تعرف المقاطعة وتكتب بإشارتها أو رمزها الخاص، وكان هذا الرمز حيوانًا أو شجرة أو شيئًا موضوعًا على حامل مثبت على الإشارة التي تدل على معنى كلمة مقاطعة.

وكان كل من هذه الأشكال الرمزية يطلق اسمه على المقاطعة التي يسيطر عليها. وهذه الرموز كانت في الواقع تدل على آلهة المقاطعات، وقد استمرت حتى انقراض المدنية الفرعونية، وبعض هذه الأشكال استعملت رموزًا مرفوعة فوق القبائل التي كانت قبل التاريخ كأنها أعلام خفاقة. على أن كل هذه الرموز لم تبقَ بعد في أماكنها الأصلية، فمثلًا نجد أن قرص الشمس، والوجه الإنساني، والعقرب، والفيل، وبعض نباتات قد اختفت من المقاطعات التي كانت رمزًا لها، ونجد من جهة أخرى في الوجه القبلي صقرًا يظهر رمزًا لمقاطعة غير مقاطعته ورأس الثور، وهي أصل الصاجات المصنوعة على شكل رأس بقرة موجودة في المقاطعة السابعة، والصاعقة ترمز للمقاطعة التاسعة، والصقر المحلق يرمز للمقاطعة الثامنة عشرة، وقد عثر على بعض فخار العصر «النيوليتي»، قد رسم عليه بعض أشجار ترمز لبعض القبائل فيحتمل مثلًا أن شجرة «البطم» التي على هذا الفخار ترمز للمقاطعة الثالثة عشرة وشجرة النخيل قد تكون رمزًا للمقاطعة العشرين.

أما في الوجه البحري فنجد الصقر يظهر كشارة للمقاطعة الثالثة، والسهمين المثبتين على جلد حيوان في هيئة صليب يرمزان للمقاطعة الرابعة، وقد حفظ الخطاف في المقاطعة السابعة رمزًا لها، والجبال ذات القمم الثلاثة رمزًا للمقاطعة السادسة، ولا يمكننا تفسير هذه الرموز إلا بأنها شارات ترمز لقبائل جائلة ثم أصبحت فيما بعد رموز المقاطعات عندما استقر بها المقام.

ولا يبعد أن يكون ملوك الأسرة الأولى الطينية قد أحضروا معهم عند غزوهم للقطر بعض قبائل جديدة كل منها تحمل رمزها الخاص بها، فمثلًا الحيوان الدال على الإله «ست» والذئب، والطائر «إبيس»، صقر الشرق، وسبيكة (وهي رمز الشرق)، وقطعة لحم، كل هذه قد أصبحت رموزًا أو آلهة لمقاطعات، ومن ذلك نعلم أن عددًا محددًا من هذه الرموز التي يرجع عهدها إلى ما قبل التاريخ، أو إلى عصر المملكة الطينية قد بقي إلى ما بعد هذه العهود، حينما استقر المقام بالقبائل وأصبحت متوطنة في الحدود الإقليمية والإدارية، ورغم أن الوثائق التاريخية لا تزال تعوزنا من هذه الناحية، فإنه في استطاعتنا أن نصرح بأن نصف مجموع مقاطعات القطر عامة قد اشتقت أشكال رموزها وآلهتها من القبائل القديمة التي كانت تسكن وادي النيل الخصيب، ومن المحتمل أن رموزًا أخرى يرجع أصلها إلى قبائل عاشت في عصر ما قبل التاريخ وبخاصة في الأحوال التي لا يمكن إرجاعها إلى اشتقاق تاريخي.

ومن جهة أخرى توجد آلهة في كل عاصمة من المقاطعات، يرجع عهدها إلى العصور التاريخية، ولكن بعضها لا يظهر إلا في عاصمة مقاطعة واحدة، وبعضها مثل الإله «حور» والإلهة «حتحور» والإله «خنوم» والإله «أوزير» والإله «تحوت» يظهر في عدة عواصم يعبد فيها، والآن نتساءل: ما العلاقة التي تربط آلهة العواصم برموز المقاطعات؟ والإجابة على ذلك تنحصر في أمرين.

  • الأمر الأول: أننا نجد إله العاصمة يمتزج برمز المقاطعة، أو تكون له علاقة ما به لا تقبل الجدل، فمثلًا في المقاطعة الثانية من الوجه القبلي نلاحظ أن الصقر يحكم الإقليم بصفته الإله «حور»، وفي الوقت نفسه نجد معنى رمز المقاطعة «عرش حور» والإلهة «حتحور» تسيطر على المقاطعة السابعة، ورمزها رأس البقرة، والإله «مين» يقطن المقاطعة التاسعة، وبينما تدل الصاعقة على هذا الإله فإنه يرمز بها في نفس الوقت للمقاطعة.

    وفي المقاطعة السابعة عشرة نجد «ابن آوى» يرمز به في آن واحد للإله «أنوب» وللعاصمة أيضًا، وفي الوجه البحري نشاهد أن السهمين المتقاطعين يرمزان للإلهة «نيت» في «سايس» بلدتها، ويستعملان كذلك رمز للمقاطعتين الرابعة والخامسة، والطائر «إبيس» الإله «تحوت» إله المقاطعة الخامسة عشرة ورمزها في نفس الوقت، ففي كل هذه الأحوال نشاهد أن رمز المقاطعة قد بقي لنا منذ الأزمان التي قبل التاريخ أو العصر الطيني.

    وقد حفظ لنا نظام مدن المقاطعات في الأماكن التي سردناها الإله الذي انتخبته الجماعة الأكثر قدمًا، أما رمز القبيلة فبقي رمز إله المدينة، وقد أخذ الرمز في وظيفته الجديدة يظهر في هيئة آدمية، فكان المعبود في العادة يأخذ شكلًا آدميًّا، وهذا المظهر الجديد يمكن رؤيته بشكل مادي على بعض الآثار الطينية، فنشاهد الحيوان الذي يمثل الإله «ست» والذي منح اسم «عش» وقد تحول إلى رجل برأس حيوان يشبه الكلب السلوقي (؟) ونرى الحية «وزيت» قد صارت صلا برأس إنسان، وفي ذلك ما يشير إلى أصل هذه الأشكال غير الطبيعية التي تمثل لنا الإله في شكل إنساني مستخلص من الحيوان القديم الذي كان يعد رمزًا للمقاطعة. ولكن هذا الحيوان يكوِّن جزءًا من الإله؛ أي إن هذا الإله يُمَثَّل: إما بجسم إنسان ورأس حيوان أو بالعكس، وقد بقيت أشكال هذه الآلهة تمثل بهذا الوضع حتى انقرضت الديانة المصرية القديمة من البلاد جملة.٢ فمثلا نجد «الصقر» مع أنه يمثل وحده الإله «حور» للمقاطعة الثانية، فإنه غالبًا يمثل على شكل إنسان برأس صقر.

    ولكنه في رمز المقاطعة بقي صقرًا فحسب، وكذلك الطائر «إبيس» تحوت إله المقاطعة الخامسة عشرة فإنه يرسم على شكل إنسان برأس الطائر «إبيس»، وعندما يراد به رمز المقاطعة لا يرسم إلا «إبيس» فقط، ونجد في المقاطعة الخامسة الإلهة «نيت»، وترسم على شكل امرأة إلهية قابضة في يدها على سهمين في هيئة الصليب، وهما الرمز القديم للمقاطعة، والأولى أن نفرض أن هذه الحيوانات وهذه الأشياء قد فقدت مدلولاتها الأصلية في أعين عامة الشعب، ولذلك نرى من الصعب جدًّا أن يتصور دهماء الناس أن الصقر أو الطائر «إبيس»، الذي يرمز به لهذه المقاطعة أو تلك هو جد القبيلة، أو سيدها، أو رمزها، ولكنهم في الوقت عينه لا يمكنهم أن يعتبروه رمزًا معنويًّا، بل يعدونه الصورة الحية على الأرض للإله أي الحيوان الذي تقمص فيه الإله كذا، وكذلك السهمان المتقاطعان فإنهما يمثلان معبودًا، أو صورة ظاهرة تتقمص فيها الإلهة أو شكل آخر مادي، ومنذ عهد الأسرة الثانية الطينية حوالي (٣٢٠٠–٣٠٠٠ق.م) نرى الأشكال الإلهية المركبة «رأس حيوان وجسم إنسان أو بالعكس» تفسر لنا بجلاء ووضوح انتقال الرمز إلى إله يعبد، ولا يبعد أن يكون هذا التحول نتيجة تغير القبيلة إلى مقاطعة، وكذلك للسبب الذي ذكرناه آنفًا.

  • الأمر الثاني: نشاهد إله العاصمة متميزًا عن رمز المقاطعة.

    وقد ذكرنا فيما سلف أن بعض الرموز سواء أكانت من عصر ما قبل التاريخ أم من العهد الطيني، لا توجد في المقاطعات، ومن جهة أخرى نرى هنا متناقضات صارخة، فمثلًا في الوجه القبلي نشاهد أن الصقرين (رمز المقاطعة الخامسة) هما للإله «مين» الذي لا يمثل بطائر، بل يمثل بإنسان ويرمز له برسم صاعقة، وكذلك المقاطعة السادسة ويرمز لها بالتمساح فإنها مقاطعة الإلهة «حتحور» (البقرة) ثم المقاطعة الخامسة عشرة ويرمز لها بالأرنب البري مع أنها مقاطعة «إبيس» الإله «تحوت»، وكذلك نلاحظ أن المقاطعتين الثالثة عشرة والرابعة عشرة يرمز لها بشجرة «البطم» على أن إله أولاهما هو الذئب «وبوات» وإلهة الثانية البقرة «حتحور»، أما المقاطعتان العشرون والحادية والعشرون، فيرمز لكل منهما بالنخلة مع أن إله الأولى الكبش «حرشف» وإله الثانية الإله «حور» والكبش «خنوم»، وظاهر جدًّا من كل هذه الأمثلة أنه ليس هناك ارتباط بين رمز المقاطعة وإلهها وبمعنى أوضح (الرمز لا يدل على الشكل الظاهر للمعبود)، يضاف إلى ذلك أن كلًّا من الرمز والإله يكتب بشكل مخالف للآخر، وهذا التضارب الصارخ نجده بين رموز المقاطعات وبين الإلهة في الوجه البحري أيضًا، وعلى هذه الحال نشاهد فيما يقرب من نصف مقاطعات القطر إلهين في مقاطعة واحدة أقدمهما يحتمل أن يكون الرمز القديم المحلي وقد فقد مكانته، ولكنه رغم ذلك بقي رمزًا للمقاطعة تقديرًا له واحترامًا لمكانته، وأصبح يقدس كأنه حيوان إلهي أو صنم، وقد استمر تقديسه من قبيل التقليد والتمسك بأهداب القديم. أما الإله الجديد الذي كان رب العاصمة وسيدها، فإنه يظهر على شكل حيوان أو صنم على شكله البشري، وهذان الصنفان من الآلهة يعيشان على وئام جنبًا لجنب رغم أن كلًّا منهما بقي منعزلًا عن صاحبه ومميزًا عنه تمام التمييز، ومتون الأهرام تفصل بجلاء بين كل آلهة المقاطعات وكل آلهة المدن.

    والواقع أنه عندما يختلف إله المقاطعة عن إله العاصمة فإن ذلك في غالب الأحيان يكون نتيجة تخلي جد أو إله مهزوم عن سيادة الإقليم الفعلية لخلف له، أو أن الإله الجديد جاء إثر حدوث انقلاب اجتماعي أو سياسي، فحل محل إله العاصمة، ولكن ذلك في الوقت نفسه لم يقض على عبادة الأخير جملة.

    وهذه السيادة التي يتمتع بها إله العاصمة على المقاطعة قد توطدت باسم العاصمة، وتفسير ذلك أن كل مدينة عظيمة كان لها اسم متداول لم يكن مدلوله محدودًا بشكل قاطع على الأقل لنا، والأمثلة على ذلك لا تعوزنا، مثال ذلك: «طينة»، و«زبتي»، وساشحتب (شطب الحالية) وأسيوط … إلخ، وإن كان بعض العلماء قد وضع لها تفسيرًا على وجه التقريب، وهذه الأسماء قد حلت محلها سلسلة أسماء مقدسة، وذلك بعد أن استقر في كل مدينة آلهة تاريخية. فكانت العاصمة تُسمى: البيت «بر» أو القصر «حت» أو المدينة «نوت» أو الهيكل «زبات» أو المحراب «سخم» أو العمود «إيون» أو الصولجان «واست» للإله كذا، وبخاصة نجد أن اسم المعبد الكبير للمدينة يتغلب ويطلق على المدينة كلها فيصبح علمًا عليها. على أن العواصم في القطر تنعت ﺑ «بيت» الإله كذا، مثال ذلك: «بوزريس» معناها «بيت أوزير» (أبو صير الحالية) وبوباسطة (تل بسطة الحالي) معناها بيت الإلهة «باست» القطة … إلخ، وهذه الأسماء المقدسة أخذت تطغى شيئًا فشيئًا على الأسماء الأخرى، وكذلك أسماء المقاطعات، ولذلك نرى في عصور مختلفة أن القوم يسمون المقاطعة كلها باسم عاصمتها؛ أي باسم المعبد، وهذه الطريقة أصبحت شائعة الاستعمال بعد احتلال الإغريق لمصر، ولا يبعد أن يكون القوم الفاتحون من الإغريق قد اتخذوا هذه الطريقة نقلًا عمن قبلهم من المصريين؛ أي إن هذه الطريقة كانت قد أدخلت في التقاليد الإدارية فتطلق على الأقاليم أسماء الحواضر بصفتها ممتلكات للآلهة المصرية، وقد بحث الإغريق عما يقابل لهذه الأسماء في علم الخرافات الإغريقية، وأطلقوها على أسماء المقاطعات، فمثلًا المقاطعة الثانية للإله «حور» أطلق عليها صاحبة مدينة «أبولون» (الأبولونيتي)، وكذلك سميت المقاطعات «ديوسبوليت»، و«أفرديتوبوليت»، و«هرموبوليت» نسبة إلى مدينة الإله «زيوس» (آمون طيبة) والإلهة «أفرديتي» (حتحور دندرة) و«هرمس» (تحوت في الأشمونين)، وهكذا كان آخر حد في الطغيان الدنيوي لآلهة المدن على معبودات المقاطعات.

وتوجد مدن قد نشأت على أرض بكر، خلفها تقهقر النيل، ولم تكن قد استعمرت بقبيلة قديمة، أو لم يقطنها «أتباع» الإله، فمثلًا نجد عند بداية الدلتا أرضًا كانت مغمورة في الأزمان السالفة بمياه النيل، ولكن استردت من النهر بإقامة سد ضخم، فعلى هذه البقعة يقال إن «مينا» أسس المدينة المسماة «الجدار الأبيض» (أنب-حز)، وهي التي أصبحت فيما بعد «منف» أو «من-نفر» قد أطلق على الإقليم المجاور اسم المدينة ودوِّن مثل «الجدار الأبيض» على رأس مقاطعات الوجه البحري.

على أن الإله «فتاح» الذي كان يسيطر على مقربة من هذه المدينة لم يطلق اسمه لا على المدينة ولا على المقاطعة، بل على العكس عندما انضم هذا الإله إلى منف، وصار يعبد فيها أصبح يوصف هكذا «فتاح في جنوب جداره»؛ أي الإله «فتاح» الذي يوجد معبده خارج جدران المدينة «منف».

والظاهر أن الحال كانت كذلك بالنسبة للمقاطعة الرابعة في الوجه القبلي، وذلك أن مدينة «الصولجان»، «واست»، (وهي طيبة فيما بعد) قد أطلقت اسمها على مقاطعتها ثم إلهها «منتو» (إله الحرب) على مدينة مجاورة وهي «هرمنتس» (بيت الإله منتو) أرمنت الحالية.

وفي أحوال أخرى تكون المقاطعة قد وجدت لأسباب إدارية، ولكن كان من الواجب على الإنسان في هذه الحالة أن يحسب حساب التقاليد الدينية التي كانت مرعية في البلاد منذ الأجيال المتعاقبة: فمثلًا تدل الظواهر على أن المقاطعة الأولى من مقاطعات الوجه القبلي لم تكن في حيز الوجود قبل الأسرات المنفية، فلما أنشئت هذه المقاطعة لأسباب إدارية محضة أطلق عليها اسم «تاستت» أي أرض الإلهة «ستت»، وذلك على الرغم من أن مركز هذه الإلهة الأصلي كان في جزيرة «سهيل» الواقعة في جنوب المقاطعة، والخلاصة أنه كان لا بُدَّ من نسبة المقاطعة الجديدة إلى معبود ما بأي شكل كان محافظة على التقاليد. أما عاصمة هذه المقاطعة فكانت في «آبو» أي مدينة الفيل (الفنتين الإغريق)، وربما قد حفظ في ثنايا هذا الاسم ذكري قبيلة يرجع عهدها إلى ما قبل التاريخ، وهي التي نعرف رمزها الحيوان «الفيل»، أما الإله الذي أدخل في «آبو» فكان الكبش «خنوم» الذي اتخذ «ساتيت» في جزيرة سهيل إلهة خليلة، وهذا الترتيب الذي نشاهده في المقاطعة الأولى نفهم من تغييراته ثلاثة عناصر مميزة، ويحتمل أن تكون ثلاث مراحل في تكوين المقاطعة وتاريخها كما ذكرنا.

١  Alexandre Varille, Memoire De L’instit. Fraçais Tome LXX (La Tombe de “Ni-Ankh-Pepi” á Zaouyet El Mayetin P. 35–38).
٢  لا نزاع في أن تمثيل الإله بهذا الشكل من اختراع الكهنة حتى يسهل على الإله أن يتسلم من الملك القرابين أو يسلم عليه؛ أي إن هذا الشكل للإله قد اخترع للتقريب بين الإنسان ومعبوده بطريقة عملية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤