تأملات

حَيَوَات كثيرة لا حياة واحدة

أرى الحيوات والأيام شتَّى
وأنت الدهرَ في كون جديد
أتحسب أنه شيء وحيد
إذا سميته باسم وحيد؟
فلا تخشَ التناقض في كلام
عن الدنيا ورأي في الوجود
فإن الصدق مفترقًا لأَوْلَى
من التلفيق في جمع الشهود

حكمة الجهل وجهل الحكمة

حين قال المعري:

وأعجب مني كيف أخطئ دائمًا
على أنني من أعرف الناس بالناس

كان من الحق ألا يعجب هذا العجب؛ لأن الكريم يُخْدَع كما قال العرب قديمًا، والإنسان إنما ينخدع بالناس؛ لأنه كثير العطف لا لأنه قليل المعرفة، وإن أقل الناس معرفة ليتقي الخداع إذا كان مع ذلك قليل العطف والشعور، فليس أسهل من أن يغلق المرء أبواب نفسه، ويحجب ما بينه وبين العالم إذا كانت نفسه مُغْلَقَة بطبعها أو كان لها منفذ محدود.

والحوار الآتي حوار بين رجلين: أحدهما حريص يزعم أنه آثر الشُّح والأنانية لِسَعَةِ عقله، والآخر يحسب هذا الحرص فقرًا ويحسب اللجوء إليه ضرورة:

ألم أقل لك مهلًا
فالناس لؤم وشرُّ
لا تُولِهم منك عطفًا
فهم من العطف صفرُ
لو كنت تعلم علمي
لما أصابك ضرُّ
نعم نعم قلت هذا
إني بذاك مُقرُّ
وأنت عندي طفل
وأنت عندي غِرُّ
وما لقولك وزن
ولا لنصحك شكرُ
أنفقتَ عطفك قبلي
وذاك يا صاحِ فقرُ
كم حكمة هي جهل
وغفلة هي فخرُ

حب الإنسانية

لا يكون حب الإنسان حبًّا عظيمًا إلا إذا فاض من طبع زَاخِر، وقلب رحب، ونفس واسعة الآفاق، أما الحب الذي منشؤه العجز عن النكاية وقلة الحيلة، فذلك حب ضرورة لا عظمة فيه:

قد جرب الناس فألفاهم
للبُغْضِ أهلًا كلهم أجمعين
فضاق عن بغضائهم ذرعه
ولم يجد عزمًا به يستعين
فارتد يهواهم ويحصي لهم
أعذارهم وهو كظيم حزين
فيا له حبًّا لمن رامه
أرخص من بغض العدو المبين
لو لم يكن في حبهم مكرهًا
لعاضهم منه بجزِّ الوتين

شكر اللؤماء

جزاكم الله خيرًا
يا معشر اللؤماءِ
عودتموني صبرًا
على ضروب المراءِ
وكنت أجفل منها
إجفال باغي النجاءِ
وكنت أحسبها من
عجائب الأشياءِ
فاليوم أعجب ممن
يقضي حقوق الوفاءِ
من يألف السم يُعصم
من لدغة الرقطاءِ

مسألة ذوق!

لا تُصلح الأرض يا صديقي
إن كنت من عاشقي الجمال
فكل ما كان من صلاح
فيها نشوز أو اختلال
دعها على حالها تدعها
في خير حال أو شر حال
مجموعة الشمل في طراز
منسوقة الشكل في مثال
وإن أردت الصواب فامسخ
ما كان فيها من اعتدال

بعض التفاؤل

من المتفائلين مَنْ يضحك للحياة كما يصفق المرء للرواية السخيفة؛ ليقنع نفسه أنه لم يضيع الليلة عبثًا، ولم يؤد أجرة الدخول في غير طائل:

والله ما هتفوا لك
ولا استطابوا دخولك
يا مسرح الكون رفقًا
بهم وعَجِّل أُفُولَك
لو لم يؤدوا رسوم الدُّ
خول ما صفقوا لك
تسلِّيًا لا سرورًا
يقرِّظون فصولك
لو يدفع الغيظ غرمًا
إذًا لشقوا طبولك

صيام الفكر

دع اليوم زاد الفكر في صفحاته
أنا اليوم عن زادي من الفكر صائم
وقد يهجر العقل الكتاب تدينًا
كما تهجر القوتَ الجسومُ الطواعم

العلم والحياة

إن أنت لم تفقهم الحياة فكن
حيًّا فتغنى بها عن الفهمِ
ما العلم مغنيك عن محاسنها
وهي غناء كافٍ عن العلمِ
وكل علم لم يَحْيَ صاحبه
أحب منه جهالة العجمِ

إن لم تكن متفائلًا فكن حجة للمتفائلين

قلبي إذا غالبه رَيْبُه
في آنة فهو بعذرٍ قمين
شكوت من بعض الحياة الأذى
وما لها عندي شكاة تشين
إن ألقَ منها الشر لقَّيتها
خيرًا وإن خانت فإني الأمين
حسبي غفرانًا لريبي بها
أني فيها من دواعي اليقين
أجني مرير الشك منها وبي
تؤكد الإيمان للآخرين
إن زارنا فحقٌّ وإن
زال بنا الريب فحق مبين

الشعر دار لا دير

الشعر باب الحياة عندي
لا مهربي من حياة جدي
لم أقصد الدير من حماه
وإنما الدار منه قصدي

قصد الطبيعة

سنة بين قرها ولظاها
والغواشي من ليلها وضحاها
سنة! والعناصر الهوج يَقْظَى
في سمواتها وتحت ثراها
تنسج الماء والهواء وشيئًا
من سناها ونفحة من شذاها
لنرى في صباح يوم بهيج
زهرةً يشهد المساء مداها
أيها المؤمنون بالقصد هاكم
من أصول الحياة قصد هداها
أيها الواثقون بالعمر مهلًا
إنما العمر زهرة في نداها

على البعد! إن كان لا بد من البعد

يا حكيمي وعليمي والذي
يعرف الأسرار عرفانًا شديدا
لا تقل لي إنما حسن الدنى
خدعة تفتن من كان بعيدا
إن يكن ذاك صحيحًا فابتعد
وانظر العالم تنظره رشيدا
وتكن في الحق أدرى بكلا
جانبيه وتعش فيه سعيدا
أنت مخدوع عن «الأحسن» إن
عشتَ «بالأسوأ» ترعاه وحيدا
والذي تزعمه ذا غرة
هو أستاذك إن كنت مفيدا
جهل الأسرار وانقاد لها
فوعاها كلها وعيًا شديدا

الجنس

أيما لفظة جرت
من فم المرأة امرأة
تشتهي الزوج من فئة
والأخلاء من فئة
ليس بالجسم وحده
يعرف «الجنس» منشأه

ميزان الرجال

سنجات١ ميزان الرجا
ل نقصت وزنًا بعد وزن
حتى رأيت الكِفَّة الـ
ـكبرى خلتْ ظهرًا لبطن
فإذا وزنت فلا رجا
ل سوى التشبه والتظني
ما كان يغنينا التما
م فبات عُشْر العُشْر يغني

ذكرى الموتى تُحْيِي الأحياء

لا تظلموا الموتى أمانتهم
إن الحقوق لمستحقيها
أَنَضِنُّ بالذكرى على مهج
تركت لنا الدنيا وما فيها
برًّا بنا إن لم نبرّ بها
فالذكر يُحيينا ويُحييها

الاستعمار

حجة المستعمرين أنهم يفتحون البلاد لضيق أوطانهم عن أبنائها، وهؤلاء المستعمرون هم أنفسهم الذين يجزلون المكافآت ويخلقون المزايا الاجتماعية لتشجيع النسل، وزيادة الذرية، كأن أوطانهم مقفرة من السكان!

ضقتم بأولادكم ذرعًا فما لكمو
ترعون كل أب في الحي ولادِ!
لو صح مذهبكم قامت شرائعكم
لمَنْ نما ولدًا فيكم بمرصادِ
ولاغتدى كل ميت بينكم بطلًا
مُشيَّعًا بحفاوات وأعيادِ
وقيل مَنْ عاث شرًّا فهو محتسب
ومَنْ حمى الناس فهو الآثم العادي
لعل ذلك يُغنيكم ويمنعكم
غزو الديار وسلب الجائع الصادي

تفاؤل وتشاؤم

ليس بالزاهد في دنـ
ـياه مَنْ يقسو عليها
من قسى يومًا كمن با
ت على شوق إليها
هكذا من يشتهي معـ
ـشوقة في حالتيها

العشق المهتدي

اعشقْ جمال البرايا
نماذجًا لا فُرَادَى
تبلغ مدى الحب معنًى
ولا تضل مرادا

اشتراكي يعلل الربيع

لكل شيء علة مادية أو اقتصادية عريقة الأصول عند الاشتراكيين، وكل مخالف لهم فهو متهم مأجور، وإن لم يدر أنه متهم مأجور! ومن ورائه مكيدة للمستغلين وأصحاب رءوس الأموال، وهم عدد قليل يستأثر بأعمال العدد الكثير من الناس!

وما القول في جمال الطبيعة وفتنة الربيع؟

هما أيضًا مكيدة «رأسمالية» إن صحت الرواية الآتية!

رفيق أول :
إن الربيع جميل
صه! ذاك قول دخيل
رفيق ثان :
ألست تعلم أن الرَّ
بيع شيء ثقيل
وأنه من صنيع
للغش فيه أصول
رفيق أول :
مَنْ غشه يا صديقي؟
رفيق ثان :
حقًّا لأنت جهول
قد غشه الأغنياء الـ
ـمستأثرون القليل
أليس فيه متاع
لهم وظل ظليل؟
رفيق أول :
لكن بعيشك قل لي
وذاك مني فضول
بأي برهان صدق
وأي شرح يطول
قد أقنعوا الأرض حتى
باتت إليهم تميل؟
رفيق ثان :
حقًّا لأنت عجيب
فيما أراك تقول!
رفيق أول :
برشوة دفنتها
في جوفها يا زميل
ألا ترى التبر فيها
منها إليها يئول؟
فافهم إذن يا صديقي
فقد أتاك الدليل
وأيَّدتْه شهود
وأكدته عقول
الأرض والشمس والنا
س والدُّعاة العدول
لهم ضمائر سوء
مرضى وطبع وبيل
بذاك «ماركس» أفتى
ونقضه مستحيل!

درجات الفضائل

لا تقل فاجر وبَرٌّ ولكن
قل هو الصدق والمِرَاء صنوف
رب حق فيه نفيس ومرذو
ل ومَينٌ يرجى ومَينٌ يخيف
إنما الفاضل الذي فضله في الـ
ـخير والشر فاضل وشريف

الإباحية الحديثة

تعرى الناس لا حبًّا لعرى
ولكن أنكروا الطمر القديما
فمن عاف التكشف فليجئهم
بجلباب يزينهم سليما
١  سنجات: جمع سنجة، وهو ما يوضع في كف الميزان ليوزن به.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤