العسكري الأسود

١

حين أتحدَّث عن السِّر الذي كان يُحيِّرني في «شوقي»، ولا أعرف له سببًا أو تفسيرًا، لا أقصد ابتسامتَه المشهورةَ عنه، التي كان لا يبتسم ليُعبِّر بها عن شيء بقدْر ما يستعملها كقناع داخلي يخرجه من فمه حين يُريد؛ ليغطِّيَ به ملامِحَه، ويخفِيَ وجهَه الحقيقي عن الناس، ولا أقصد أيضًا نظرتَه.

النظرة التي كان يَطْلِيها بزيتٍ تعبيريٍّ مُعيَّنٍ دون أن يَجعَل بصرَك ينزلِق عن عينيه ولا يستقر لحظة، وكأنما لو استقرَّ لأدْرَكتَ سرَّه وعرَفتَ ما به، ولا أقصد أيضًا الطريقة الغريبة التي كان يتصرَّف بها، انبثاقة الانفعال المفاجئة التي يُدهِش بها الحاضرين كلَّما ضمَّه مجلس، وأفلتتْ من أحدِ الموجودين كلمةٌ ما أثارتْ تعليقًا ما، وإذا بك بعد ثوانٍ قليلة من ضيقِه المباغِت تجده على قدَمَيْه، وقد افتعل عذرًا لا يهمُّه إدراكُ الحاضرين لوجاهته، وغادر المكان إلى الخارج الطلق إلى أي مكان، هذه أيضًا لا أقصدها، ما أقصده شيء بالضبط لا أستطيع التعبير عنه، بل ولا حتى نجحتُ في اكتشافه بعد الحادث الهائل الذي قُدِّر لي أن أكون شاهدَ عيانه، الحادث الذي كثيرًا ما جلستُ وحدي أستَعِيد دقائقَه لعلِّي ألْمَح هذا الشيء الواهيَ المروِّع الذي كان «شوقي» يضمُّ عليه جوانِحَه، وأشهَد أني في أحيانٍ قليلة جدًّا استطعتُ، بالكاد، محاصرَتَه، وإنْ فشلتُ في تحديده ومعرفته، بل لكي أكونَ صادقًا مع نفسي أعتَرِف أني في جلوسي لكتابةِ ما حدث، ليس لي من هدف سوى أملٍ واحد، أن أوفَّق عن طريق الكتابة فيما فشلتُ فيه عن طريق الخيال، بصراحة أكثر: أُقامِر؛ إذْ مَن يدري، لعلِّي إذا انتهيتُ أكونُ قد فسَّرتُ كلَّ شيء، ووصلتُ إلى الحقيقة التي دوَّختْني محاولةُ الوصول إليها.

٢

بدايتُنا متواضِعة جدًّا، لم أكن أتصوَّر أبدًا أنَّ باستطاعتي أنْ أصِلَ منها إلى سرٍّ ما، خطيرٍ أو غير خطير. البداية مكتب حكيمباشي المحافظة في بناية المحافظة القديمة التي تهدَّمتِ الآن، كنتُ كلَّما وجدتُ نفسي في ميدان باب الخلق، بساعته المعهودة، وواجهة دار الكتب ومئذنة الجامع القائم في وسَطِه كالنافورة العالية التي جفَّ ماؤها، تذكَّرتُ «شوقي»، وكلَّما تذكَّرتُه وجدتُ نفسي مدفوعًا بشكل تلقائي للذهاب إليه، خاصةً إذا كان الوقت بعد الظهر؛ إذْ إنَّ «شوقي» كان يعمل في المكتب الطِّبِّي للمحافظة، وكان لأسبابٍ ليس هناك مجالُ تقصِّيها قد اختارَ فترةَ بعد الظهر ليكونَ النوبتجي فيها، أسباب لعلَّ أحدَها وأهمَّها أنَّ الطبيب حين يعمل في تلك الفترة كان ينفرد بالعمل في المكتب، ويصبح هو رئيسه؛ فالحكيمباشي لا يعمل إلَّا في الصباح، ورئاسة المكتب الطبي والجلوس على كرسي الحكيمباشي وتلقِّي تحيات المراسلة والمستخدمين متعةٌ لا بُدَّ أن تُرضِي غرورَ أيِّ طبيبٍ شابٍّ، أمَّا حين يعمل في الصباح فلا يصبح أكثر من مجرَّد مرءوسٍ واحدٍ بين أربعة أو خمسة زملاء.

ونفس هذا المكتب هو الذي كان يضمُّنا حين ألْقَى عبد الله التومرجي بتلك الجملة التي قلبتْ جلستنا، بل علاقتنا كلَّها رأسًا على عقب، قال: ده خلاص يا بيه، الراجل بقى يهبهب زي الكلاب ويعوي زي الدِّيابة.

حسبْتُها أولَ الأمر إحدى مبالَغاته، ومبالَغات عبد الله التومرجي كانتْ شيئًا مشهورًا في المكتب، خاصَّةً في تقدير أثْمان القهوة والشاي وحساب السندوتشات، وعبد الله لم يكن تومرجيًّا أصلًا، كان عسكريًّا في القسم الطبي بالجيش، وحين دخل البوليس جعلوه مراسلة للمكتب الطبي، ولكنهم وجدوه أكثر لحلحةً وذكاءً من التومرجي الأصلي فأعطَوْه دَوْرَه وأصبح بجلبابه «الدَّمُّور» الميري، وطاقيته ذات الحائط العالي، وجبهته العريضة اللامعة المائلة في خجل خبيث دائم، وبالذات حين يُخْفِضها ويقول بلهجة خضوع عسكري ظاهر: أفندم! كلمة ذات وقعٍ على آذان الأطباء المدنيِّين تُتِيح لهم بعضَ مُتَع العسكرية ودفء سطوتها، أصبح عبد الله بهذا وبقبقابه الذي كان لا يتناسَب أبدًا مع حركته الكثيرة علامةً من علامات المكتب الرئيسية، كما أصبحتْ وقفته أمام باب الحكيمباشي نصفِ المغلَق، وشخطه في الرُّوَّاد القادِمين متأخِّرين والتحايُل لإبعادهم علامةً رئيسية من علامات جلستي مع «شوقي».

ولولا رنة دخيلة صادقة في جملته، ما الْتفتَ «شوقي» أو الْتفتُّ إليها؛ كنتُ قد تعودتُ إذا بدأ «شوقي» يتحدَّث في العمل مع عبد الله أو غيره، أو يُزاوِله أن أنصَرِف كليةً لأفكاري وتأملاتي. الجملة استخرجتْني منها وجعلتْني أسأل عن هذا الذي يَعْوِي كالذئاب ويهبهب كالكلاب! وأجد أنه «دوسيه»، أو على وجهٍ أصح صاحب الدُّوسيه الضخم الذي كان موضوعًا فوق مكتب «شوقي». كانتِ الساعة تقترب من الرابعة والنصف، وكنَّا في الصيف، والحجرة قد خلتْ من رُوَّادها، ورُوَّاد الحجرة معظمهم من مجتمع القاهرة السُّفلَى؛ متسوِّلون، ومتشرِّدون، ومجاذيب، وذوو عاهات، ومُدَّعون، ومتشاجِرون، فرادى وجماعات، في سلاسل وكلابشات، وأحيانًا مربَّطو الجلابيب حتى لا يغافل أحدهم العساكر وينسلَّ هاربًا، روَّاد بمحاضِر وخطابات من الأقسام لتوقيع الكشف الطبي عليهم لتقدير أعمارهم وعاهاتهم، تمهيدًا لسلسلة الإجراءات الطويلة التي تُتَّخَذ معهم، ولا يخلو الأمر من متشاجرٍ أنيق، أو تهمةٍ بهَتْك عَرْض، أو بنت ذوات، هذا عدا العساكر طالبي الإجازات، وأحيانًا شاويشية وضباط، عدد ضخم كان طابوره يبدأ من باب المحافظة ويملأ فناءها الواسع، وينتهي عند ذراع عبد الله الممتدَّة تسدُّ باب المكتب الطبي المفتوح، وعند صوته المبحوح المطالِب عبثًا باحترام الدور. العجيب أنَّ «شوقي» كان ينتهي من طابور بعد الظهر كلِّه فيما لا يزيد على الساعة، ولكن أيُّ ساعة! حتى حين تخلو الحجرة بعدهم، ويُوصِد عبد الله الباب يبقَى الجوُّ مشبعًا بأشباحٍ تكاد تتدخل في الحديث الدائر بيني وبينه، أشباح أشخاصهم ومآسيهم، وأشباح روائحهم أيضًا روائح خاصة ليستْ مقزِّزة كما يتبادر إلى الذهن، ولكنَّها مختلفة بالتأكيد عن رائحة الأفندية مثلًا، أو جموع الفلَّاحين، رائحة لا تُصبح مقزِّزة إلَّا حين تختلط برائحة الفنيك الذي تُرش به الأرض، واﻟ «د. د. ت»، وعرق المبنى العتيق، والأثاث الذي بُقِرتْ مسانده … وتتجمَّع هذه كلها، ويأتي عليها ظُهْر يوم صيف كيوم الصيف ذاك وما بعده، فيحوِّلها إلى بواخٍ يملأ الحجرة، وينعقد حتى سقفها العالي، بواخ يخنقنا ويكاد يدفَعُنا لمغادرة المكان، ولكنا لم نكن نفعل، بالعكس كان إحساسنا بالاختناق الخارجي ذاك يوفِّر علينا الكثير من إحساسنا بالاختناق الداخلي.

كنتُ و«شوقي» شابَّيْن من شباب الجيل الذي اصطلحوا على تسميته بالجيل الحائر، صديقين بلا سببٍ يدعونا للصداقة أو حتى الانتساب إلى جيل واحد، تفتَّقتْ عنَّا الحرب العالمية الثانية لنجد أنفسَنا هكذا زملاء في كلية أو جامعة واحدة، بنزعاتٍ سياسية وآراءٍ في الناس والحياة لا يمكن أن يربط بينها رابط، ومع هذا فكنَّا أصدقاء؛ لا لأننا كنا هازلين في خلافاتنا؛ إذِ الحقيقة أننا كنا فيها أكثر من جادَّيْن، وتمسُّك كلٍّ منا برأْيِه ووجهة نظره كان يصل أحيانًا إلى حدِّ ارتكاب الجريمة، ربما السبب في الصداقة المهيمِنة الكبيرة التي جمعتْنا أننا كنَّا جميعًا نؤمن — رغم اختلاف طُرُقنا ووسائلنا — أنَّ لنا رسالةً واحدةً نحن مبعوثو العناية لتحقيقها؛ إنقاذ بلادنا وتغيير مصير شعبنا تغييرًا جذريًّا وإلى الأبد، وهكذا بدأتْ واستمرتْ علاقتي بشوقي.

كان تعارفنا في مؤتمرٍ للطلبة عقدناه في الكلية، ونتيجة تشاتم في الرأي، ولا أقول خلافًا، تشاتم كاد يصل إلى حدِّ التشابُك، ولكنا حين خرجنا من المؤتمر كنا قد نسينا الخلاف، وكنا نتعازم على الشاي، وصرَّح لي ونحن جلوس على المقهى أنَّه — بينه وبيني — كان يوافِقُني في الرأي، لولا الموقف الذي كان عليه فيه أن يُناصِر زملاءَه أعضاءَ الجماعة التي كان ينتمي إليها، ولكنها نقطة واحدة هي التي كنا متفقين فيها، فقد كان استنكارُه لما أومن به لا يقِلُّ عن استنكاري لآرائه ومعتقداته، ولم تفعلِ الأيام التي تَلَتْ أكثرَ من أن تَزِيد كلًّا منَّا استنكارًا لآراء الآخَر، ولا أعرف مع هذا لماذا كانتْ في نفس الوقت تزيد من علاقة كلٍّ منَّا بالآخَر؟ الجيل واحد صحيح، ولكنَّه شِيَعٌ واهتمامات، أناس منَّا كانوا يمرحون ويقضون الليالي حول موائد البوكر الذي يُلعَب بقروش ويسمُّونه قِمارًا، وشِلَل أخرى «تزوِّغ» من المحاضرات، وتُدْمِن حفلات السينما الصباحية، وفِرَق همُّها الرياضة والجري بالفانلات حول الملاعب، وجماعات للاغتيال والإرهاب، ونحن المهتمون بالسياسة والمؤتمرات والخُطَب … نحن الذين نُبادِل الآخَرين الرياضيين وأصحاب النَّزَوات الاحتقار، ونردُّ على اتهامهم لنا بأننا مهاويس باتهامنا لهم بأنهم منحلُّون، وفيما بيننا أيضًا نتبادل التُّهَم، التعصُّب يُرَدُّ عليه بالإلحاد، والفاشية يُرَدُّ عليها بالشيوعية، ومع ذلك — وربما من أجل ذلك — يظلُّ يجمَعُنا ذلك القوس العريض الذي كنا نُطْلِق عليه برهبة وتقديس: السياسة. «شوقي» بالذات كنتُ شديد الضيق منه قبلَ أن أعرِفَه، يذكِّرني إذا ما قام ليخطب بباعة «الشرب» وخالعي الأسنان في الأسواق! بل حتى شكله لم أكن أستَلْطِفه، كان شاحبَ الوَجْه لسببٍ غير معلوم وبطريقةٍ يبدو معها شاربه الغزير أكثر سوادًا من حقيقته، شاربه الذي ما هضمتُ أبدًا أسباب وجوده، ولا استطعتُ أن أفسِّر هذا التناقُض الواقع بينه وبين ذقنه؛ فهو غزير، وذقنه ملساء ناعمة نادرة الشعر كذقون المراهقين، كان نحيفًا، متوسط القامة، جادَّ الملامح إلى درجةٍ لا تملك معها إلَّا الاستخفاف بجدِّه، كان أحد زعماء الكلية وأحد زعماء مذهبه، ولكنه أبدًا لم يكن ذلك المتهوس الأحمق الذي لا يفلح معه تفاهم أو نقاش، كان دائمًا على استعداد لمناقشة أكثر الآراء بُعدًا عن رأيه، يرحِّب بالجدل بابتسامة واثقة، ولا يثور، وكثيرًا ما كنتُ أتحسَّر وأعتَبِر أنَّ عَيْبَه الأكبر أنه في المعسكر الآخَر، وأحلم بأني يومًا استطعتُ إقناعَه، وبأننا يومًا ما اتفقنا على رأيٍ، ولكنها أحلام، مجرد أحلام! فقد كان «شوقي» يتمتَّع بطاقة إرادة هائلة، وكأنه وُلد وهو يعرف بالضبط ما يريد، ومتأكِّد أنه واصلٌ إليه لا محالة، وكان يبدو وكأنَّ إرادته تلك ترسِّب إيمانَه في قلبه طبقة فوقها طبقة، وكلَّ يوم تزيده عمقًا وتشبُّعًا بطريقةٍ محالٌ معها من أن يتزلزل إيمانه ذلك بإيمانٍ جديد.

إلى أنْ حدثَ ذلك الحادثُ السياسي الذي هزَّ البلاد كلَّها، وقُبِض على «شوقي»، وأُدخِل السجن تمهيدًا لمحاكمته، وربما لفَرْط إيماني به كزعيم من زعماء جيلنا وتقديري له، عجبتُ للأسف القليل الذي أعقَبَ اختفاءَه من الكلية، حتى بين البقية الباقية من أفراد جماعته، وكنتُ كلَّما سألتُ عنه ظفرتُ بإجاباتٍ غامِضةٍ عن مَصِيره — بل، ولكي أسجِّل الحقيقة؛ تنصُّلًا من الإجابات الحقيقية — عن مصيره ومصير المقبوض عليهم من زملائه وغير زملائه.

ولا أعرف إذا كنتم ما زلتم تذكرون تلك الفترة من تاريخنا القريب، ولكني متأكِّد أنَّ جيلنا أبدًا لن ينساها، جيلنا الحائر وعامي ٤٧ و٤٨ والأحكام العرفية، وعهود الإرهاب البشع المخيف.

تلك الفترة كانتْ أولَ ضربة جدية تلقَّاها جيلُنا، خرجنا من الحرب لنَجِد جيوش الاحتلال ترتع في أرضنا، ثُرْنا فحاوَلوا الضحكَ علينا والجلاءَ الصُّوري إلى القنال وفايد، ثُرنا مرة أخرى مطالبين بالجلاء الكامل والكفاح المسلَّح، وهذه المرة ضربونا، جاءوا بدولة الباشا وضربنا علقة كوبري عباس، وحاول أن يضرب أكثر فقُتِل، فجاءوا بدولة باشا آخَر ليكمل العلقة، وأكملها، فتح السجون على آخِرها، سلَّط الإرهاب بكلِّ أشكالِه، كمَّم الأفواه، أخمد الأصوات، أطلَقَ العُمَلاء، وبعد أن كانتْ كلِّيَّتنا تموج بالمؤتمرات والخُطَب والثُّوَّار، أصبحتْ تموج بالبوليس السياسي، والإشاعات، والخوف، وحرب الأعصاب، وتشتَّتَ شمل الجيل، دخل السجنَ بعضُه، والبعضُ اختفَى وهرب في الأرياف والمدن البعيدة، وأحيانًا داخلَ نفسِه، حفرَ حفرةً عميقة في صدْرِه دفن فيها ثورتَه ومعتقداتِه وردَمَ عليها، وأصبح همُّه الوحيد أن يردمَ عليها أكثر وأكثر، ويدَّعي عكس ما يعتقد، في تلك الأثناء شاعتْ قصصُ التعذيب، وطار صِيتُ العسكري الأسود، وما يفعله بالمساجين المعتَقَلِين، وأصبح رمزًا لكلِّ ما يَنالُه جيلُنا من ضرباتٍ، وأصبح هو مبعث رُعْب الجيل، ذلك العسكري الذي كان يَرْقُد «دوسيهه» بعد سنوات كثيرة وسنوات على مكتب «شوقي»، والذي كان مُقدَّرًا لنا أن نَراه بعدَ هذه المدة الطويلة، وبطريقةٍ لم نحلم بها أبدًا.

٣

وليستْ هذه محاولةً لسرد تاريخ، إنْ هي إلَّا لمحةٌ نعود بعدَها لشوقي؛ إذْ بعد شهور طويلة من انقطاع الصِّلة بينَنا لم أرَهُ إلَّا يوم الامتحان، فوجئتُ به يدخل علينا الخيمة ومعه جمعٌ من زملائه مكبَّلين بالحديد، ومعهم جيش من الحُرَّاس ببنادق وكونستبلات، يومها عبْرَ اللجنة وأوراق الأسئلة تبادَلْنا ابتساماتٍ راعَيْنا أن تكون خَفِيَّة، وكأنَّ عيونًا غير مرئية ستلحظها وتسجِّلها، ألم أقلْ إننا كنا في فترة إرهاب؟! وماذا يفعل الإرهاب أكثر من أن ينجح في جعل كلٍّ منَّا يتولَّى إرهاب نفسِه بنفسِه، فيقوم هو بإسكاتها وإخضاعها للأمر الواقع الرهيب؟!

المفاجأة التي لم أكن أتوقَّعها، كانتْ أني عرَفتُ حين ظهرتِ النتيجة أنَّ «شوقي» قد نجح، كيف ذاكَرَ وعلوم الطب تحتاج إلى الخبرة العملية والمران؟! وكيف أجاب وكيف نجح؟! لا أعرف، المهم أنه نجح، ومع هذا ظلَّ مسجونًا لا يُفرَج عنه، ولا يُقدَّم للمحاكمة، ولا يُواجَه بتهمة، أشياء لا تحدث إلَّا في عصورٍ مُظلِمة، أو في بلادٍ، رغم العالم المضيء، لا تزال تحيا في تلك العصور، لم يُفرَج عنه إلَّا بعد انقضاء فترة طويلة، ولم أعرف بالخبر إلَّا حين كنتُ مارًّا بالقسم الذي أعمل به في المستشفى الكبير بعد تخرُّجي، فلمَحْتُه جالسًا في غرفة الحكيمة وعليه سِيماءُ التردُّد والحرج، وكأنَّه قادم لزيارة مريض، والمفاجأة الكبرى التي كانتْ تنتظرني أني عرَفتُ أنه قد عُيِّن في نفس المستشفى، بل أكثر من هذا في نفسِ القسم الذي أعمل فيه، ورغم انشغالي بضجَّة الترحيب به لم يفُتْني أنْ أُلاحِظَ أنَّ أشياء كثيرةً جدًّا تغيَّرتْ فيه إلى درجةٍ حسبتُه للوَهْلة الأولى إنسانًا آخَر، خاصةً وجسدُه نفسُه كان قد تغيَّر وأصابَه ما يُصاب به المسجونون من ترهُّل، وحتى ذَقْنُه نبتَ وغزر وأكسبَ لونَه سُمْرة، ولكنِّي على أيةِ حالٍ قابلتُه كما يُقابَل البطل العائد من معركة، والمكافح الخارج من سجن بعد اتهام خطير، وكذلك ظللتُ أُعامِله، ولم أكنْ وَحْدي، زملاؤنا الأطباء وممرضات القسم، وبعض مرضاه ممن عرَفوا قصة الطبيب الجديد، كلنا ظللنا نعامله ونتوقَّع منه دور البطل، ونتقبَّل تصرُّفاته خلال الأيام الأولى لالْتِحاقه بالعمل على أنها نوعٌ من التواضُع وإنكار الذات. كان التخرُّج قد عمل عمله في نظرتي للناس والأشياء، وخفَّف من حِدَّة اعتدادي برأْيِي وإيماني، وأصبحتُ أومن بالحسن أنَّى وُجد الحسن، وبالبطولة أنَّى وُجدتِ البطولة، وأصبحتُ أحتَفِل بكلِّ عملٍ مخلِصٍ، حتى لو صدَرَ عن مخالِفٍ في الرأي وعدوٍّ في العقيدة، وكانَ أقصى آمالي أن أتحيَّن اللحظة المناسبة لأجلس جلستي التاريخية مع «شوقي» ويقصَّ عليَّ فيها كلَّ ما دار له في رحلته التاريخية المليئة، لا بُدَّ، بالمواقف والبطولات. والحقيقة حانتْ أكثرُ من لحظة، وأكثر من مناسبة وألْقَيْتُ على «شوقي» أكثرَ من سؤال، وكانتِ النتيجة أني لم أظفر منه فقط بأيِّ جواب، بل كان يحدث «لشوقي» حالةٌ أُحِسُّ معها أنَّه يبدو عليه وكأنَّه يُنكِر أصلًا أنه سمع السؤال، اعتقدتُ أوَّلَ الأمر أنها مُغالاةٌ من «شوقي» لتجنُّب الحديث أمامَ المرضى، أو على مسمع من الزملاء، أو الحكيمات، إنه على أسوأ الفروض يؤجِّل الحديث إلى زمنٍ قادم قريب، ولكنَّ الزمن كان يمضي، والأيام تنقضي فلا تزيده إلَّا استمساكًا بمَوْقِفه، مشكلة أخذتُها أوَّلَ الأمر ببساطة، ولم أعتقد أبدًا أنها يمكن أن تقودني إلى اكتشاف، بساطة لم تَمْنَعْني من أن أبدأ بطريقةٍ لا شعوريةٍ أنتَبِه لشوقي، وهدفي طول الوقت أن أستَخْلِصَه من تلك التي اعتقدتُ أنها «حالة» انتابتْه بعدَ خروجِه من السجن، والتي كان من الطبيعي جدًّا أن تنتابه، أستَخْلِصه ليعودَ مرة أخرى ذلك البطلَ الوطنيَّ الذي عرَفتُه، ولو حتى سار في طريقٍ تختلف كلية عن طريقي. كنتُ متأكِّدًا أنَّ «شوقي» ليس من النوع الذي تكفي بضعة شهور من السجن لكي تغيِّره وتدفعه للتنازل عن رأْيِه، مع أنَّ أيامها كثيرًا ما كنا نُقابِل زملاء ومعارف دخلوا متحمِّسين وخرجوا وقد طلَّقوا السياسة والوطنية وكلَّ ما يَمُتُّ إليهما بصلة، وكأنما كان السجن هو الحجة التي ينتظرونها لينفضوا يدَهم من المعركة.

أقول بدأتُ أنتبه لشوقي، وكان أولُ ما لاحظْتُه أنَّ نظرته اكتسبتْ طابعًا آخَر لم يكن لها، كان في عينَيْه دائمًا بريقٌ يُشِعُّ ويُكسِب ملامِحَه جاذبيةً خاصة، جاذبية المؤمن بحقيقة تضيء نفسه، وتفضح ملامِحُه الضوءَ الداخليَّ وتُشِعُّه، ويتركَّز النور في عينيه، وينقل للعالَمِ صورةَ نفسِه المؤمِنة، ذلك البريق كان قد اختفى، وكأنما اجتُثَّ من جذوره، ولم يَبْقَ لعينيه حتى اللمعة التي تميِّز عيني كلِّ كائن حيٍّ! كنتُ كلَّما نظرتُ في عينيه أحسُّ بإحساسٍ غريبٍ خاصٍّ يُضايقني أني لا أستطيع إدراك كنهه، وأنَّى لي أن أعرف أني أستطيع أن أدرك كنه ذلك الإحساس إلَّا هناك بعد أعوام طويلة، وفي زمان ومكان كان مستحيلًا أن يخطرا على البال.

ثم بدأتُ أعِي أن صوت «شوقي» نفسه قد تغيَّر فأصبح لا يتحدَّث إلَّا همسًا، همسَ مؤدَّبٍ خافِتٍ كمَن يتوقَّع دائمًا أن تَرفُض طلَبَه، ثم هاتان النظارتان — لا أقصد النظارات الطبية، أقصد تلك التي تُركَّب للخيل لكي لا ترى إلَّا في اتجاه واحد — هاتان النظارتان الخفِيَّتان اللتان لا تجعلانه يرى إلَّا ما أمامه، وما أمامه فقط، أين هذا من «شوقي» المتلفِّت دائمًا حوله، الباحث المنقِّب في كلِّ شيء من أمور الدنيا والناس، الغاضب الثائر إذا وقعتْ عينُه على الخطأ، المهدِّد بالويل والتغيير وإخضاعِها لِمَا يريد؟!

شيئًا فشيئًا طوالَ شهرين أو ثلاثة عمِلْنا فيها معًا، أيْقَنْتُ أنَّ محاولاتي لاستثارة «شوقي» البطل داخل هذا «الشوقي» الجديد محاولاتٌ لا فائدة منها، بل حتى أملي في أن يخرج عن صمته مرة ويحدِّثني عمَّا لاقاه خلْفَ القضبان تضاءَلَ وانعدَمَ تحت تأثير الموقف الواحد الغريب الذي كان يَلْتَزِمه، وكان لا بُدَّ أن يأتي اليوم الذي أبدأ أومن أنَّ «شوقي» لم يتغيَّر فقط، ولكنَّه أصبح بالتأكيد إنسانًا آخَر غير شوقي الذي عرَفتُه، كم من مرةٍ ضبطْتُه يتآمَر مؤامراتٍ صغيرةً في القسم ليُتاحَ له مثلًا أن يَحظَى بعملية «فتق» أكثرَ منِّي ومن زملائه! كثيرًا ما سمعْتُه يُنافِق «النائب» الذي لا يَكْبُرنا في العمر أو في الوظيفة إلَّا بعامٍ واحدٍ من أجل أن يُقْرِضَه كتابًا، أو يَدَعه يُلْقِي نظرةً في «المنظار»، ويَكْذِب، يَكْذِب باستمرارٍ وبلا سببٍ وبطريقةٍ ساذجة مكشوفة تدفع للاشمئزاز، ولم أصدِّق الإشاعةَ التي أطلَقَتْها الحكيمةُ عليه إلَّا بعد أن رأَيْتُ بعيني، رأيتُ كيف يُحضِر المرضى في «كشك» الغِيار ويُساوِمهم مساوَماتٍ رخيصةً على أن «يتوصَّى» بهم في العلاج، ويأخذ في مقابل هذا بضعةَ قروشٍ هي كلُّ ما يَمْتَلِكه المريضُ الرَّاقِد في عنبر المستشفى.

أكثر من هذا لاحظَ عليه زملاؤنا في «بيت الامتياز» الذي نُقِيم فيه، أنَّه ما من مرةٍ دخلَ فيها حجرةَ أحدِهم إلَّا واختفى بعدَ خُروجِه شيءٌ من محتوياتها — أي شيء — ولو كان فرشاة أسنان قديمة، حتى أُطْلِقَتْ في البيت حكمةٌ تقول: «إذا حيَّاك شوقي باليمين فتحسَّس محفظتَك باليسار.» وعلى عادة الأطباء حديثي التخرُّج كثيرًا ما عُقدتْ مؤتمرات لمُناقشة حالة شوقي، وكثيرًا ما أجْمَع الكلُّ على أنَّه مُصابٌ بالكليبتومانيا، أو جنون السرقة، وكان عسيرًا عليَّ أنْ أشهَدَ مؤتمراتٍ كتلك، وأنْ أرى شوقي الذي طالَمَا قدَّره هؤلاء الأطباء أنفسُهم وهم طلبةٌ باعتبارِه الزعيمَ والمكافح، يصبح ليس محطَّ سخريتهم فقط، وإنما محطَّ اشمِئْزازهم واحتقارِهم أيضًا، من بين مائة طبيب أو يزيد يصبح هو، الزعيم، أحقَرَهم وأصغَرَهم شأْنًا.

لا أريد أن أسْرُد كلَّ ما كان يفعله شوقي في سنة الامتياز أو بعدها، العيادات التي افتتحها، والنَّصْب والابتزاز، والنظرة الأفعوانية الغريبة التي كان ينظر بها إلى المرضى والناس، وكيف قاطَعَ عائلتَه بعد التخرُّج، وأبى أن يُساعِدَهم بمليم، وكيف، ومَن، والطريقة البالغة الشذوذ التي تزوَّج بها، والتي حصل بها على الدبلوم، و«سعى» حتى عُيِّن في هذه الوظيفة في مكتب حكيمباشي المحافظة، لا، ولا، بأي أسلوب وحشيٍّ كان يُعامِل رُوَّاد المكتب، وخاصةً رُوَّاده من العساكر طالبي الإجازات، شاهدتُ مرةً عسكريًّا يَبْكِي أمامَه بدموع حقيقية، يستحْلِفه ويرجوه ألَّا يكتب أنَّه مُتمارِض؛ حتى لا يُحاكَم ويُخصَم من مرتَّبه أيام، ولا يفعل الرجاءُ والإلحاحُ، ولا تفعل الذلةُ والدموع أكثرَ من أن تجعل شوقي يَبْتَسِم وتُومِض ملامِحُه في غِبْطةٍ، خطورتُها أنَّها كانتْ حقيقيةً أيضًا.

السؤال الذي لا بُدَّ أن يلحَّ على القارئ هنا: لماذا بعدَ كلِّ ما ذكرتُ ظللتُ مُبْقِيًا على علاقتي بشوقي؟

والإجابة صعبة؛ فصحيحٌ كان شوقي قد تحوَّل من زعيم طلبة إلى كائن مُزْعِج مُؤْذٍ أصابَنِي شخصيًّا بمثل ما أصاب غيري من إزعاج وإيذاء، ولكنِّي لم أكن أرَى المسألة هكذا، ولا أعتَبِرها حالة «كليبتومانيا»، ولا تغييرًا في شخصية شوقي تسبَّب عن فترة سجْنِه، كنتُ وكأنَّما أرفض أن أصدِّق أنَّ بضعة شهور من السجن تُحِيل إنسانًا — مهما كان — من النَّقِيض إلى النَّقِيض، وكأنَّما أرفض أنْ أعتَقِد أنَّ شوقي القديم قد مات وانتهى ولم يَبْقَ منه إلَّا ابتسامة واسعة تدرَّب على استعمالها، ابتسامة مهما بالَغ فيها تبدو دائمًا فاترةً صادرةً عن الشفتين فقط، يقول بها للمريض في عيادته الخاصة: أهلًا وسهلًا، ولزوجته: صباح الخير، ويردُّ بها على تحية عبد الله التومرجي، ويُخفِي بها ملامِحَه إذا أحرجتَه بسؤال، ابتسامة في جملتها تحمل ملخَّصًا وافيًا لحياةٍ ناجِحةٍ بالمعنى الفاتِر الواسِع السَّطْحي للنجاح. لم أكن أرى المسألة هكذا! كنتُ لا أزال أومن أنَّ شوقي لم يَضِعْ ضياعًا نهائيًّا، وأنَّ كلَّ ما يبدو من تصرُّفاته إنْ هو إلَّا انعكاسات قِشْرِية محضة صادرة عن قشرة صدأ ألمَّ بشخصيته، وأنَّها آجِلًا أم عاجِلًا ستزول، والمسألة تتوقَّف عليَّ وعلى مَجْهُودي معَه، باستطاعتي أنْ أترُكَه وشأنَه يَغرَق ويتلاشَى، وباستطاعتي أنْ أظلَّ محتفِظًا بعلاقتنا أحاوِلُ بلا يأْسٍ أنْ أعودَ به مرةً أخرى ذلك الكائنَ الثائرَ النافعَ لشَعْبِه وبلده، كان الواقِع يؤكِّد لي أنَّ شيئًا خطيرًا قد حدث، أنظر إلى شوقي وأدقِّق فيه شخصيته فأحسُّ وكأنَّه مجروحٌ، لا ليس جرحًا صغيرًا في الصدر أو الرأس، وإنما جُرِح جرحًا شاملًا من قمةِ رأسِه إلى أظافر قدَمَيْ شخصيته، وأنَّ ما أمامي ليس شوقي، ولكنه الندبة الضخمة التي تخلَّفتْ عن الجرح، أنظر إليه وأزداد عنادًا وإيمانًا بأنَّ كلَّ خطأ ممكن إصلاحُه، وكلَّ جرح ممكن أن يُشْفَى ويندمل، ولم يكن مبعثُ تفاؤلي هو أملي الخاص فقط، هناك في الغلاف الخامس أو السادس لنفس شوقي من الداخل كانتْ منطقة لا أستطيع أن أحدِّد أبعادَها أو كنهها بسهولة، كلُّ ما أستطيع قوله عنها إنها كانتْ منطقة استماع، ربما، أو رغبة عارمة مخنوقة للاستماع لا تَجِد لها متنفَّسًا إلَّا مِن خلالي، أو على وجْهٍ أصح، إلَّا من خلال تلك الزيارات المتباعِدة التي كنتُ ألْقاه فيها، في عيادته أحيانًا، وفي مكتبه بالمحافظة أحيانًا، هناك حيث نجلس طويلًا نتبادَل أتْفَه الأحاديث عن مصير الزملاء والكادر الجديد، ولكنْ كان يحدث دائمًا أن يلتفت شوقي مرةً إلى الناحية الأخرى وكأنما يُخفِي عليَّ بهذه الحركة انفعاله، ويسألني عن الحالة سؤالًا أحسُّ معه بتلك المنطقة جَوْعَى تكادُ تتشقَّق ظمأً ولهفةً، وما كنتُ في إجابتي آتي بالنادر أو الجديد، كنتُ أتحدَّث ذلك الحديث الذي نُجِيده جميعًا في السياسة بأنواعها وأشكالها، وأحلِّل ما يجري منها في الداخل والخارج، ومن الصعيد الشخصي المحض إلى صعيد القوى العالمية الرحبة المتصارِعة في عالَمِنا، ورغم أنَّ شوقي كان يرفض دائمًا أن يتحدَّث هو أو يعلن، بل ويتعمَّد أن يبدو حين أتحدَّث أنا وكأنْ لا صلة له بالموضوع أو الحديث، أو ليس له علاقة مباشرة أو غير مباشرة بكلِّ ما يَمُتُّ إلى كائن أو قوة خارجة عنه، رغم هذا إلَّا أني كنتُ ألْحَظُ دائمًا أنه رغم كلِّ تمْثِيلِه يستمع، ويستمع بلذَّةٍ ملهوفةٍ ينجح في إخفائها معظم الأحيان، حتى إذا سكتُّ استَثَار سكوتي بسؤالٍ جانبي، أو بجذبةِ نَفَسٍ من سيجارةٍ أخرى يُشعِلها ويبتلع دخانها بطريقةِ مَن يَوَدُّ أن يُطْفِئ بدخانها ظمأً بلغ درجة الحريق — هو الذي طالَما ألْقَى عليَّ، ونحن طلبةٌ، المحاضراتِ في مضارِّ التدخين ودلالته الخُلُقية المُشِينة، هو الذي أصبحتْ أظافِرُ يُمْناه ويُسْراه والعُقَد الأخيرة من أصابِعِه بُنِّيَّة محتَرِقة من لون التبغ، وتطول الجلسة وأنا أُفَضْفِض عن نفسي بالحديث، وشوقي يُفَضْفِض عن نفسه في حذَرٍ عظيم بالاستماع، وكثيرًا جدًّا ما كنتُ أتأمَّل المشهَدَ برُوحٍ منفصلة مُحايِدة فأرانا فردَين من أفراد جيلنا الحائر الذي حمل الرسالة فوقَ كتِفَيْه حتى كادَ أن يَسحَقَه الحمل، فردان جالسان في حجرة كشفٍ مغلقة، أو في مكتبٍ حافِلٍ بالروائح، ندخِّن بكثرة، وكأنما ننوي الانتحار مدخِّنين، ونشحن المكانَ بسحُبٍ متكاثِفة لا نعرف إنْ كانتْ من احتراق السجائر أم من احتراق الصدور، ولكنَّا مع هذا لا نكفُّ، بل نمضي نحرِقُ اللفائف وتَحْرِقنا، ونملأ الجوَّ بدُخانٍ يضغط على صدورنا لتُخرِج دخانًا أكثر، وأمَلُنا أن ينجَحَ الضغطُ المتكاثفُ المتزايدُ في إفراغها ممَّا تحفِل به، مِن كُتَل الحديد والرَّصاص والمآسِي المترسِّبة في أعماقِنا تَجْذِب أرواحَنا إلى أسفل وتَحْنِي ظهورَنا قبلَ الأوان، ونحن اثنان أبعَدَتْنا المقاديرُ عن جيلِنا، كما أبعدَتْ جيلَنا عن بعضِه، وقذفتْ بنا داخلَ هذِهِ القماقم المتداخِلة من الجدران والأدخِنة والمخاوِف، وبينَنا مُطارَدة لا تَنْتَهِي، أنا — الغريق — أحاول انتشالَ شوقي وجذْبَه، وشوقي يَرفُض مَذْعُورًا أنْ ينجو، وأنا أواصِلُ محاوَلاتي، وكأنَّما تبلورتْ أهدافي ومعتقداتي في محاولة إنقاذِه، وهو كأنَّما تبلورت رسالتُه في محاولة إغراقِ نفسِه أكثر، وإذا استطاع إغراقِي أيضًا، ويا للسخرية! لقد كنَّا بالأمس نعمل، وأملنا مؤكَّد أننا سنُنقِذ الشعبَ كلَّه، فإذا كلٌّ منَّا اليومَ غيرُ قادرٍ أن يُنقِذَ نفسَه، بالساعات كنا نجلس هكذا لا ننتبه إلى الوقت إلَّا بمؤثِّر من الخارج، بليلٍ يَهبِط أو تليفون مُلِحٍّ يدقُّ، أو حدث غير عاديٍّ يقع، كتلك الجملةِ التي نَطَقَ بها عبد الله التومرجي وهو يُشِير إلى الدُّوسيه، جملة لم أكن أعرف أنها ستقودني وستقود شوقي إلى هذا الذي كان ينتظرنا بعد ظهر يوم الصيف ذاك.

٤

لم يقُلْ عبد الله أول الأمر إنه العسكري الأسود، كلُّ ما قاله ردًّا على استفسار شوقي: ده يا بيه مشكلته معقدة، وحالته حال، ما لنا احنا بيه؟! ما تسيبه للحكيمباشي لَمَّا ييجي الصبح يعرف شغله معاه.

كان شوقي في ذلك الوقت مشغولًا بإحدى عملياته الصغيرة، كان يبحث في دفتر الإشارات التليفونية التي تُرسَل للمكتب لتطلُبَ توقيعَ الكشف على العساكر أو الضُّبَّاط المرضى، وكان يفعل هذا لحكمة ومصلحة؛ فقد جرتْ عادتُه أن يجرد الإشارات ليَخْتار منها واحدةً يكون العنوان المذكور فيها قريبًا من عيادته إذا كان يريد الذهاب للعيادة، أو من بيته، ويختارها هكذا لكي يوفِّر على نفسِه ركوبَ الترام أو الأتوبيس أو استعمال عربته الخاصة؛ إذْ في هذه الحالة تقوم عربة المكتب الحكومية «الاستيشن واجن» بتوصيله خلسة بعد الانتهاء من المهمة، في محاولة بَحْثِه عن الإشارات عثر على الدوسيه، وبسؤال عبد الله عنه تطوَّع الرجل بذِكْر حكاية العُوَاء والهَبْهَبة، وما لبِثَ أنْ أعْقَبَها بتلك النصيحة، ونصائح عبد الله لم تكن مجرد نصائح، كانتْ في معظم الأحيان أوامر واجبة النَّفاذ؛ إذ رغم أنَّه تومرجي المكتب الذي بالكاد يُجِيد القراءة والكتابة إلَّا أنَّه لطول عهده بالعمل كان هو الحافظ الوحيد تقريبًا لكلِّ لوائح وقوانين القسم الطبي؛ وبالتالي المرجع الأساسي لحلِّ المعضِلات إذا نشبتْ معضِلات، وفتواه هي النافِذة؛ إذْ كان يثبت في النهاية ومهما ثار الحكيمباشي والأطباء عليه أنَّ رأيَه هو الصحيح، وهو الذي ينطبق تمامًا مع كلِّ ما جرتْ به اللوائح والقوانين، وشوقي بالذات كان لا يُناقِشه؛ إذْ كان أخوفَ ما يخافه أن تحلَّ الكارثة مرةً فيُخْطِئ في حقِّ لائحة من اللوائح أو قانون من القوانين، هو الذي بدا عدوًّا لكل قانون، أصبحتِ المسئولية هي عدوَّه الوحيد اللَّدود يفعل المستحيل ليتجنَّبها، ومستعدٌّ أن يَسِير أميالًا إذا كان في السَّيْر ما يُجنِّبه فقرة واحدة يتحمَّل فيها درهم مسئولية، إلى درجةٍ كان يُخيَّل إليَّ فيها أحيانًا أنه يودُّ لو يشِفُّ جسدُه ويشفُّ حتى يُصبِح كائنًا أثيريًّا لا يتحمَّل مسئولية إيجاد مكان له فوق سطح الأرض، أو نظرة يُلْقِيها عليه إنسان، ومع هذا تعجب لتمسُّكه بالحياة ونهمه إلى الدنيا بطريقةٍ يكادُ معها أن يَبْتَلِعها — لو استطاع — داخل جوفه.

أي كائن بالِغ التعقيد كان قد أصبحه شوقي!

المُهِمُّ، انتهزتُ فرصة النقاش الدائر بين عبد الله وشوقي ومددتُ يدي وتناولتُ الدوسيه؛ ملف خدمة ذلك العسكري، تناولتُه وقد انبثَقَ في نفسي حبُّ الاستطلاع الكامن تجاه هذا النوع من الدوسيهات، كثيرًا ما رأيتُها في أقسام المستخدمين، وقد دُمِغَتْ بكلمة: «سري جدًّا»، وكثيرًا ما أردتُ تقْلِيبَها، ووقف النظام الذي يقضي بألَّا يَطَّلِع عليها إلَّا الرُّؤساء — وفي حالات الضرورة القصوى — حائلًا بيني وبين ما أُرِيد، رحتُ أقلِّب صفحات الدوسيه الكثيرة أكثر من مائتي صفحة، في أوَّلِها شهادة ميلاد، وتوافُقٌ مُضْحِك أنْ أجِدَ أنَّ عباس محمود الزنفلي صاحبها وصاحب الدوسيه قد وُلِد في نفس العام الذي وُلدتُ فيه، والذي يسبق مولد شوقي بأشهر، كنتُ أتصوَّر صاحب الملف عجوزًا، أو على الأقلِّ في الأربعين، فإذا به، لدَهْشَتي، مِن نفس جيلِنا الحائر التعس، مضيتُ أقلِّب الصفحات، ما كان أشْبَهَ الملفَّ بكتاب ضخم، عن حياة إنسان! كان واضِحًا أنَّها من أولها مضطربة غير مستقرة لم تمشِ أبدًا على الصراط المستقيم، خدمتُه نصفُها الأول كلُّه جزاءات، تتراوَح بين الخصم والتكدير، وتقارير تمسُّ السلوك (رغم الشهادة المرفقة بالمسوِّغات، والتي يُقِرُّ فيها اثنان من الموظفين أنه حَسَن السير والسلوك)، ثم فصول أخرى تتعدَّد فيها حركته وتكثر التنقلات والانتدابات، وينتهي بذلك الخطاب المتوَّج بشعار مجلس الوزراء الذي يَطْلُب نقْلَه إلى حَرَس الوُزراء، ومن تلك الصفحة لا خصوم ولا إنذار، وإنما تُفاجَأ بقرارات بعلاوات، ثم أمر بتَرْقِيته إلى رُتْبة أومباشي، بعدَها قرار آخَر بتَرْقِيته استثنائيًّا إلى شاويش، ثم صورة من خطاب شُكْر وتقدير من وزير الداخلية، ثم صورة قرار آخَر بمنْحِه نَوْطَ الواجب من الدرجة الثانية «تقديرًا للجهد المشكور الذي بذَلَه في أداء واجِبِه والتفاني في خدمة مصالح الدولة العُليا.»

ولكن هذا كلَّه لم يستغرقْ من الدوسيه إلَّا أقلَّه؛ إذْ أغلب الصفحات كانتْ ما تلَتْ، وكلُّها طلبات بإجازات مَرَضية، وخطابات متبادَلة بين الحكمدارية ووزارة الداخلية، وقومسيون طبي المحافظة مؤرَّخ أوَّلها في نوفمبر ٤٩ وآخِرها بعد سنوات، وبالتحديد في اليوم السابق لذلك اليوم الذي كنتُ فيه مع شوقي في مكتبه، وَرَدَ خطابٌ أرسلتْه المحافظة إلى الحكيمباشي تطلُبُ فيه توقيعَ الكشف الطبي على نفس عباس محمود الزنفلي لإثبات عجْزِه الكاملِ تمْهِيدًا لفَصْله من الخدمة.

وما كدتُ أنتهي من إغلاق الصفحة الأخيرة حتى كانتْ أذني تلْتَقِط أُخْرَيات الحوار الدائر بين شوقي والتومرجي، والأخير يقول وكأنَّه يُهِمُّ بإطْلاعِه على سِرٍّ: عارفشي حضرتك عباس محمود الزنفلي يبقى مين؟

وقبل أنْ ينطق شوقي أو يسأل، وجدتُ عبد الله يقول: ما هو ده اللي كانوا بيسمُّوه العسكري الأسود يا بيه، حضرتك ما سمعتش عليه ولا إيه؟!

ولم يُجِبْ شوقي، كلُّ ما حدث أنَّه ثبتَ على وضْعِه وثبتَتْ ملامِحُه على تعبيرها السابق، لم يقُلْ شيئًا، ولم يُدهَش أو يستَنْكِر، ظلَّ هكذا وقتًا، ثم دون أن يُغيِّر من وضْعه أو يتحرَّك شيء في ملامِحِه مدَّ يده وتناوَل مني الدوسيه، ومضى يقلِّب صفحاته صفحةً صفحةً، وبإمعانٍ تقرأ عيناه كلَّ سطر، وأيضًا دون أن يَخْتَلِج وجهُه أو لسانُه أو وضْعُه بانفعال، كم من الوقت مضى على شوقي وهو يقرأ؟ الله وحده يعلم! إذْ كنتُ في الحقيقة مَشْغُولًا عن الوقت بما هو أعظم، بالاهتمام البالِغ الذي لفرط خطورته غيرُ بادٍ على شوقي، ولكنَّك تُحِسُّ وجودَه، تكاد تلمسه، تعتَقِد لا بُدَّ أنَّ شوقي تحوَّل إلى كتلة اهتمامٍ رابِضةٍ تقرأ وتقلِّب الصفحات، أوَّلَ مرةٍ في علاقتنا طوالَ سنين أراه يُكرِّس نفسه كليةً لشيء، فنفسه دائمًا كانتْ كالأشعة المارَّة من خلال عدسة مقعَّرة لا تسقط على شيء بذاته أو لذاته، ولا تتركَّز في نقطة، وكلَّما حاولتْ تبدَّدتْ وتفرَّقتْ، وكأنما هناك تنافُر مشحون بين أجزائها يمنعها أن تلْتَقِي أو تتوحَّد، كان دائمًا معك ومع نفسه ومع أشياء أخرى لا تَمُتُّ بصلةٍ إلى الزمان أو المكان.

٥

الحقيقة كنتُ أشعر بسرورٍ صِبْياني الطَّعْم وأنا جالسٌ بجوار شوقي في المقعد الخلفي للعربة الحكومية، وسائقها يستغلُّ سُتْرَتَه الرسمية في ارتكاب ما شاء من مُخالَفات، وفي المضي بسرعة مجنونة غير حافلٍ بشتائم المارَّة والسائقين، أو مُجِيبًا عليها في سِرِّه — تأدُّبًا — بأقبح منها، وبجواره عبد الله التومرجي لا يكفُّ عن الحديث، ولا يكفُّ عن إلْحاحِه المَقِيت بأنْ نتْرُك الموضوع للغَدِ وللحكيمباشي، والضيق بالمهمة بادٍ عليه، وكأنَّ الكشْفَ على زميلٍ له «لتَشْريكه» وفصْله مسألة تُزْعِجه، ويأبَى أن يَشهَدها أو يكونَ طَرَفًا فيها، والصامت الوحيد تمامًا فينا كان شوقي، كان قد نحَّى الابتسامة التي كان يُعقِّم بها ملامِحَه كي لا تنمَّ عن انفعالٍ أو حماسٍ، ومضى — ربما للمرة الأولى وأنا معه — يفكِّر، ولا أظنُّ أنَّه كان يفكِّر، ولكنَّ عقْله بالتأكيد كان يقوم بعملٍ ما في تلك الدقائق التي استغرقَتْها الرِّحلة إلى «قلعة الكبش» حيث كنا ذاهبين، عمل جادٌّ خطير، ما في ذلك شك، تُحِسُّ إذا نظرتَ إليه أنَّه يُحرِّك أعماقَه ويَرُجُّها بطريقةٍ تئِنُّ معها أنينًا صامتًا وتتلوَّى، تلك التي قد ظننتُ أنها مثل قلب الشجرة أو النخلة حين يجفُّ قد يبستْ من زمن وماتتْ.

ولم يكن سروري بغير مبرِّر، كنتُ رغم كلِّ ما كتبَتْه الجرائد عن العسكري الأسود لا أكادُ أصدِّق احتمالَ وجودِه الحقيقي، بل حتى لم أكن قد صدَّقتُ عبد الله وهو يؤكِّد لنا أنَّ «عباس» هذا هو العسكري الأسود، لأمرٍ ما كنتُ أوقف إيماني بوجودِه وحقيقته إلى أنْ أراه رأْيَ العين وأُحادِثَه؛ ولهذا ارتضيتُ، بل طلبتُ من شوقي أنْ أصحَبَه، ولم تكن المرة الأولى التي أصحبه، ولكنها المرة الأولى التي أطلب فيها أنْ أصحَبَه، ولم يكن الأمرُ مجرَّدَ حبِّ استطلاع، كان أكثره أن العسكري الأسود، مثله مثل السجون والإرهاب والأمجاد والكفاح المسلَّح، علامة رئيسية من علامات جيلنا، كيف تفوتُني رؤْيتُها؟!

أردتُ أن أسأل شوقي عن حقيقة دَوْر العسكري الأسود؛ هو الذي سُجن، ولا بدَّ أنَّ لدَيْه الحقيقة. أردتُ رغم كلِّ تجاربي السابِقة الفاشِلة معَه؛ إذْ في كلِّ مرة كان يَرَى السؤالَ يتراقَص على لساني، أو يتخذ شكل الكلمات، كنتُ أُفاجأ بنظارة الخيل التي تهبط في الحال، ومن مكان خفي وتجعله يشغل نفسَه مشغوليةً عُظْمى بما في يَدِه أو بالمريض الذي يَسْحَب له السائل من بطْنِه، وبتلك الطريقة يبدو وكأنَّه يُنكِر، ليس عليَّ وإنَّما على نفسِه، أنَّه سمع مجرد السؤال، هذه المرة ورغم الظرف الحادِّ تنكَّر أيضًا للسؤال ولاذَ بالعملية الغريبة الدائرة في عقله، ولكنِّي لم أيْأَس أعدتُ السؤال وألحَحْتُ، وظللتُ أبسِّط ما أُرِيد وأسهِّله إلى الحدِّ الذي أصبح مجرَّد أن أعرف إنْ كان قد قُدِّر لشوقي في أثناء سجْنه أن يَرَى العسكري أو يمرَّ به، وراحة عميقة ممزوجة بالدهشة والوَجَل والاستنكار، وأوَّله استنكار نجاحي، هو ما أحسسْتُه وشوقي أخيرًا ينطق ويُجِيب: أيوة، حصل.

راحة كراحة وكيل النيابة حين يظفر، لا بعد ليلة، وإنما بعد مئات الليالي، بعد سنين، ببارِقةِ كلمة يَنْطِقها شاهدٌ، أو يَلْمَح شبحَ اعتراف. وفي الحال سألتُه: يعني كلام الجرائد كان صحيح؟

قال شوقي بعد وقْفة تردُّد: جايز، إنما العسكري الأسود كان بالنسبة لنا شيء تاني، شيء غير الحاجات الجنسية والكلام الفارغ اللي سمعت عليه، شيء تاني خالص.

وهذا الشيء الثاني هو ما رحتُ مستعمِلًا كلَّ مقْدِرَتي على الاستدراج أسأَلُ شوقي عنه، وأزْدادُ إلحاحًا، ساعَتَها لم أظفر منه إلَّا بكلمات قليلة ومعظم الأحيان أصوات مدغومة صادرة عن إنسان مشغول بما هو أخطر مما تنقله له أذناه، أو كلُّ حواسِّه، ولم يُقدَّر لي أن أعرِفَ إلَّا فيما تلا ذلك من أيام، وإلَّا من النُّتَف المتفرِّقة التي استطعتُ أن أختَلِس النظرَ إليها في البحث السِّرِّي الذي انشغَل شوقي بكتابته وتعمَّد أن يُخْفِيَه عنِّي، ولا أُريد أن أصوِّر الأمرَ على أنَّ ما عرَفتُه كان التفسيرَ الكاملَ لسلوك شوقي الغريب بعدَ خُروجِه من السجن، فالحكاية حينئذٍ تبدو ساذجة كحكايات الأفلام وتمثيليات الإذاعة، إنسان يدخل سجنًا بشخصية ويخرج بشخصية أخرى مختلفة، ويظلُّ سِرُّ هذا التغيُّر يؤرِّق صديقًا له إلى أن يَبْدَأ شيءٌ يحدُثُ وتنفكُّ العُقْدة، ويتكلَّم البطلُ ويفسِّر اللغزَ، وتنتهي المشكلة.

ليتَ الإنسانَ كان كذلك، ليتَه كان كمسائل الحساب أو تمارين الهندسة يخضع لقانون واحدٍ أو تفسِّره بضع نظريات، ليته لم يكن ذلك الكائن الذي لا تزيدنا معرفتُنا به إلَّا تصْعيبًا لمهمة فهْمِه، وأيُّ حقيقة نكتَشِفها عنه ويُخيَّل إلينا أننا بها وصَلْنا إلى سِرِّه لا تفعلُ أكثرَ من أن تُضِيء الطريقَ إلى مناطق كنا نجْهَلُها، مناطق في حاجة إلى اكتشافات أخرى لا يفعل اكتشافُها إلَّا أن يَزِيد من حاجتِنا لكشْف حقائقَ أكثر، التغيُّر الذي حدث لشوقي لم يكن من ذلك النوع الذي يرجع لسببٍ معيَّن أو وراءَه سِرٌّ، ولم يكن سكوت شوقي وعزوفه عن الحديث في السياسة أو مزاولتها مثلًا بسبب عُقْدة نفسية تكوَّنتْ له أو خوف، كان ما حدث لشوقي شيئًا آخَر، شيئًا يشبه خروج الفراشة من دودة الشرنقة، أو تحوُّل الخشب بفعل النار إلى رماد، وليس معنى هذا أيضًا أنه كان قد تحلَّل وفسد، بالاختصار كنتُ قد بدأتُ — خاصةً في الفترات الأخيرة — أتبيَّن أني كنتُ على خطأ، وأن محاولاتي «لإنقاذ» شوقي كان لا يمكن أن تأتي بنتيجة؛ إذْ كنتُ أقوم بها باعتبار أنَّ ما حدث لشوقي كان مجرد تغيير أصابه، من الممكن جدًّا أن يُشفَى منه. الحقيقة بدأتُ أُدْرِك أنها غير ما كنتُ أتصوَّر تمامًا؛ فشوقي الذي دخل السجن لم يخرج منه، وإنما الذي خرج شخص آخَر له مزايا ومضار أخرى، وأقول «شخص» كنوع من التبسيط لا أكثر؛ فالذي خرج علينا كان كائنًا غريبًا أخطر ما فيه أنه لا يختلف كثيرًا عن شوقي الذي دخل، ولا عن ملايين البشر الذين كان يحفل بهم سطح الأرض حين انضمَّ إليهم شوقي بعد خروجه؛ فهو يتكلَّم مثلَهم، ويغضب، ويدبِّر أمور المستقبل، ويحب، وحتى حين يتحاشى الخوض في مواضيعَ بعينِها لا يختلف عنهم، الفرق لا يتَّضِح إلَّا هناك، وبعد طول دراسة ومعاشرة واهتمام غير عادي بالموضوع، هناك حيث تدرك، مثلما أدركتُ، أنَّ الخلاف بين شوقي الجديد وبقية الناس يكمن عميقًا، أعمق من طبقات التصوُّف، في الدافع ربما، هناك تدرك أنَّ شوقي وإنْ ظلَّ في ظواهره بشرًا، فهو في حقيقته لم يَعُدْ يَمُتُّ إلى البشر ولا إلى أنواع الآدميين المتعارَف عليها من عقلاء أو مجانين أو مرضى أو شواذ، باستطاعتك أن تقول إنه خرج ليكون نوعًا جديدًا قائمًا بذاته؛ إذ قد خرج ليَحْيَا بدافعٍ جديد تمامًا على الجنس البشري؛ فهو لا يحيا ليتكاثَر أو يتطوَّر، وإنما دافعه للحياة كان أن يهرب ويفر، وكأنه لم يَعُدْ يرى في الجنس البشري كله سوى جنٍّ وعفاريت، همُّها أن تنقَضَّ عليه وتعقره وتفتك به، هم جميعًا شياطين، وهو وحدَه الإنسان، أو هم جميعًا بشر وهو وحده الشيطان الذي يُعادونه ويتربَّصون به، ولن يهدءوا حتى يقضوا عليه، ومأساته كانتْ أنَّ عليه أن يظلَّ يَحْيَا على ظهر الأرض مع هؤلاء الذين يخاف منهم ويرهبهم، عليه أن يعاملهم ويتصرَّفوا في أمره ويتصرَّف في أمورهم ويُصادِقهم ويُزامِلهم، هو الذي ينتفض رعبًا منهم، لم يَعُد لحياته خطة أو إرادة أو هدف بعيد يسعى لتحقيقه ويدفعه للبقاء حيًّا، دافعه للبقاء أصبح أن يهرب، ليس مجرد هرب بسيط يمكنه معه أن يتنصَّل من تَبِعات الإنسان العادي فيطرحها جميعًا ويَسِير كالمجاذيب بلاد الله لخلق الله، أبدًا! عليه أن يهرب وهو موجود بينهم، الفرار حينئذٍ يصبح عمليةً معقَّدة بالِغة التعقيد، قد تستغرق العمرَ بأكْمَلِه، ما أغربه من كائن فقَدَ أمْنَه البشري! وكأنَّما عقَرَه كلبٌ من نفس الجنس، وخُيِّل إليه أنه نفَذَ بجِلْدِه من العَقْرة الأولى، فجنَّد نفسَه وحياتَه ليتحاشَى العَقْرة الثانية، وأصبح لا يرى في البشر غير قطيع من ذئاب أو كلاب أو شياطين لا يستطيع أن يهرب من أرضها إلى كوكب آخَر، أو يعتزلها في جزيرة نائية، قطيع يتربَّص به في كلِّ مكان، عليه أن يَلْقَى أفرادَه في كل وقت، ويحادِثَهم ويربط مصيره بمصيرهم، وعليه أن يفعل هذا دون أن يبدو عليه الذُّعْر، عليه أن يَسِير بينهم كما تمرُّ بالمكان الذي يعجُّ بالوحوش الخطرة ترتَجِف من الذُّعْر، آذانُك منتصبةٌ تتلقَّى أوْهَى الأصوات، وكيانك كلُّه مُهَيَّأ للجَرْي في أيةِ لحظة، ومع هذا فعلَيْك أن تُخْفِيَ كلَّ ما بك، عليك أن تَسِير وتَحْيا دونَ أن يبدو منك أقلُّ الخوف، تسير طبيعيًّا جدًّا، مطمئِنًّا جدًّا، تؤكِّد بنظراتِك وتعبيراتِك أنَّك غيرُ خائف أو مهتمٍّ، وأنَّك مبتسمٌ، وأنك فرحان أحيانًا، وغاضب أحيانًا أخرى، وأنك مثلهم بشر، أو مثل الكلاب كلب، بل حبَّذا لو بدوتَ أقوى وأقدرَ وأكثرَ ثقةً بنفسك وقواك، حياتُه لا هدفَ لها ولا خطةَ، ولا إرادة له فيها، ولا يريد من خلالها أن يصِلَ إلى أيِّ مأربٍ بعيدٍ أو قريب؛ إذْ مأربُه الوحيد أنْ يتجنَّبَ الخطرَ المتربِّص به كلَّ لحظة، فيَحْيَا اللحظةَ بلَحَظَاتها، ويبني حياته لا عن طريق أعمال يَضَعها فوقَ بعضِها ليكوِّن هرمًا شخصيًّا، ولكنَّه يَبْنِيها إلى أسفل، يحفرها تحت الأرض كجُحور متشعِّبة ملتوية معقَّدة كلَّما أحسَّ في جُحْر منها بالخطر فرَّ وانطلق يكوِّن جُحرًا آخَر، وغايةٌ وقتيةٌ سفليةٌ هروبيةٌ أخرى، إنه يعرفك ويُقِيم معك الصداقة أو الزمالة إمْعانًا في الهرب منك، ويُجاذِبك أطراف الحديث ليُلْهِيَك عن نفسِه، وينافِقك أو يصنع معك المعروف؛ لكي يَرْشُوَك، ويتزوَّج كي يهرب من مسئولية عدم الزواج، ويعمل في قومسيون طبي المحافظة لكي يفرَّ من البوليس والمباحث، حتى ولو كان الفرار إلى قلب البوليس، وهو لإدراكه أنه مُحاصَر بالجنس الخطر في كلِّ زمان ومكان يواجهه وحيدًا، إذا صرخ أو استغاث فلن يخفَّ أحدٌ لنَجْدتِه، بالعكس سيدركون جميعًا أنه وقع ويلتهمونه حيًّا؛ لهذا فاعتماده الكامل على نفسه هو أصدق أصدقائه، وصدره أنسب مكان لأسراره، وعليه أن يعمل جاهدًا لكي يبقى أكبرَ جزء من نفسه، بل كلُّ نفسه ورغباته وحَذَره وخوفه بعيدًا جدًّا عن الأنظار، داخل نفسه، وعليه أيضًا ألَّا يبدو وكأنَّه يُخْفِي شيئًا، حبَّذا لو بدا كثيفًا لا يَظهَر منه شيء على الإطلاق! حبَّذا لو احتوى كلَّ دنياه داخلَه، واختفى بكل ما يحتويه عن الدنيا! كائن غريب ليس له نفسية المجرم مثلًا، فهو لا يكره الناس أو يحقد عليهم، ولا يريد أن يؤذِيَ أحدًا، أو حتى كالمعقور المصاب بداء الكلب البشري همُّه أن يعقر الآخَرين، أبدًا، همُّه فقط أن ينجو، وإذا اضطُرَّ لإيذاء أحدٍ فهو يفْعَلُها بخبثٍ شديدٍ ويختار بعنايةٍ تامةٍ ضحيَّتَه، ولا يَفْعَلها انتقامًا أو ليُخِيف بها أحدًا ممن يُحِيطونه من المردة والجن، ولا حتى يقوم بالإيذاء دفاعًا عن نفسه كما يفعل أي مجرم، إنه يؤذي فقط لكي يموِّه على مَن حولَه من جانٍّ وكلابٍ، ويُثبت لهم أنه جِنِّيٌّ هو الآخَر، ليتنكَّر في زي الشياطين عسى أن ينجح في إخفاء حقيقة نفسِه عن الأنظار، تلك الحقيقة التي لا يَعْرِفها سواه، آهٍ لو عرفوها! آهٍ لو أدركوا رغبتَه العارِمة في البقاء حيًّا! رغبة أكبر من رغباتهم مجتمعين، رغبة عارمة في الحياة يؤرِّقها دائمًا الخوف الهائل المجنون من الأحياء.

ذلك هو الكائن الذي خرج من السجن وله نفس الاسم «شوقي»، الكائن الذي له كلُّ مظاهر البشر، وفي قرارةِ نفْسِه لا يَمُتُّ بصِلةٍ إلى البشر، بل يستعْمِل عقْلَه البشريَّ وكل ما منحَتْه الحياة للإنسان من مزايا ليفرَّ من البشر، ليبعد، ليختلف جذريًّا عنهم، ليبذل طاقات خارقةً كي يعمِّق هذا الاختلاف بمثل ما يبذل من طاقات خارقةٍ أخرى كي يُخفِيَه، وكي يبدوَ في الظاهر أكثر شبهًا بغيره من الناس، وأقرب إلى البشر من البشر نفسهم.

من حقِّكم أن تسألوني كيف عرَفتُ، وكيف وصَلتُ إلى حقيقة شوقي واكتشفتْها هكذا؟ ولن أبالِغَ وأدَّعي أني أدركتُ كلَّ هذا بنفسي ومجهودي؛ فصحيح أنني بذلتُ جهدًا خلال معرفتي الطويلة به كي أخمِّن أشياء وأبحث وراء المعاني المختفية لكلماته، وأدقِّق في تصرُّفاته التي كانت — مهما أجاد في إضفاء الأقنعة الطبيعية عليها — تتناقَضُ أحيانًا وتتضارب وينتج عن تضاربها شرارات تضيء وتدفع المهتمَّ إلى الاستقطاب والتنقيب وجمع الدلالات والخروج بنتائج.

صحيح كان شيء كثير من هذا قد حدث، ولكنَّ الصورةَ لم تكتَمِل في خاطري، ولم أبدأ أُدْرك وأعِي أني كنتُ في ظنوني وتخميناتي على حقٍّ، إلَّا عن طريق لم يحدث أنْ خطر ببالي أبدًا، من مصدر لم يكن بينه وبين شوقي أدنى صلة، فهل يمكن أن يتصوَّر أحدٌ أن تُوجَد صلةٌ بين الدكتور شوقي وبين «نور» زوجة عباس محمود الزنفلي، أو على وجْهٍ أصحَّ ما رَوَتْه نور عن عباس؟ أيمكن أن يتصوَّر أحد أنه خلال قصةٍ تحكيها عن زوجها تبدأ الخيوط المهملة في ذهني والناقِصة والمنسية تتكامل وتنتظم وتتضح، بحيث ما إنْ تنتهي حتى أكونَ قد وصلتُ إلى التصوُّر الكامل لذلك الكائن غير البشري الذي أصبحه شوقي؟!

ولكنها الحقيقة، ولنَعُدْ إلى ما حدث.

٦

وإن يكن شوقي قد لاذَ ساعةَ أنْ سألتُه، بالعملية الغريبة الدائرة في عقله، إلَّا أني في مرات أخرى بعد حادثة اللقاءِ ظفرتُ من بعض زملائه القدامى الذين الْتَقَيْتُ بهم صدفة عنده، ظفرتُ بأشياءَ، فيها الغموض أيضًا، ولكنها، رغم غموضها، استطاعتْ أن تحدِّد الملامح الرئيسية لدَوْر العسكري الأسود في حياة شوقي وزملائه، دَوْره الخطير الثاني الذي لا يَمُتُّ بصلةٍ إلى الإشاعات الجنسية التي أطلقَتْها بعضُ الصحف عليه حين انكشَفَ أمرُه، وبعد زوال حكم الإرهاب وبداية مُراجَعة الجرائم التي ارتُكبتْ في ظِلِّه، كان عملُ عباس محمود الزنفلي هذا أنْ يَضْرِبهم، يضرب بعضَهم لكي يعترف، وآخَرِين لمجرَّد الضرب وهدِّ الكيان، الضرب بمختلف أشكال الضرب، بالعِصِيِّ، بالكرابيج، بالحذاء، بالنَّبُّوت، باليد العارية المجرَّدة، ولم يكن أسودَ كما وصفَتْه الصحف وأفاضتْ، كان فقط غامِقَ السُّمْرة ومن الصعيد، وكان مجرد مَرْآه بالهالةِ المحيطة به من أبْشَع القِصص يُثِير الذُّعْر في القلوب، كان طويلًا أطولَ من قامة الكثيرين، ولكنَّه ليس فارع الطول، وكان يبدو دائمًا مزهوًّا بنفسِه وبقوَّته، حتى على زملائه، إذا سلَّم على الواحد منهم ظلَّ يضغط على يده — لمجرد الضغط — حتى يتأوَّه صارخًا ويجثو، وحين يضرب كان مَن يراه لا يظن أبدًا أنه يَمُتُّ إلى الإنسان أو الحيوان بصلةٍ، بل ولا حتى للآلة؛ فالآلة لا تبدو على وجهها المتعةُ المتوحِّشة وهي تضرب، ويا للحظات قدومه ودخوله العنبر ودوران مفتاحه في القفل! كانوا يعرفونها تمامًا وباستطاعتهم أن يُميِّزوها عن غيرها حتى في الحلم، ويستيقظون — رغم خفوتها — على وقْعها، ومع كلِّ دورة من دوراتها تدور دوَّامات سريعة في صدر كلٍّ منهم يسقط فيها قلبُه ويَهْوِي، تُرى مَن عليه الدَّوْر؟ صوت خطواته وهو يجتاز الفناء الأسفل! التسمُّع الرهيب لوقْعها! آذانُهم وكيف تعلَّمتْ، علمها الذعر الأعظم، أن تتركَّز فيها الحياة كلُّها ويتضخَّم دَوْرها ليصبح كل العقل، ولتستطيع أن تميِّز بين الخطوات الذاهبة إلى زنزانة ٧ في الدَّوْر الأول والأخرى المتجِهة عبر الفناء إلى السُّلَّم حيث الدَّوْر الثاني، ومِن أول وقْع لأول خطوة على أول سلمة عليها أن تعرف إلى أيِّ دَوْر في نيَّتِه أن يصعد، فإذا اختار الدَّوْر عليها أن تُدْرك في وَمْضةٍ خاطِفة أي الزنازن يَقْصِد، كي تُعِدَّ نفسَها إمَّا إلى الرعب الهائل الْمُقيم، أقصى درجات الرعب، وإمَّا إلى استرخاءةٍ مرعوبة هي الأخرى وتنهيدةٍ حمدًا لله.

ويا لخسة ضربه! في الحياة العادية حين يتشابَك الناس ويتضارَبون ليس هذا بضرب، فإحساس المضروب أنَّ باستطاعته أن يردَّ الضربة يُخفِّف كثيرًا من وقِع ما يتلقَّاه، والألم الذي ينتج عنها يتبخَّر في الحال ويستحيل إلى حافِزٍ يدفع صاحبَه للهُجوم والانقضاض، بالاختصار أنت لا تشعر بالضرب حين تكون حرًّا أن تردَّه، أنت تشعر به هناك حين يكون عليك فقط أن تتلقَّاه ولا حرية لك ولا حق ولا قدرة لديك على ردِّه، هناك تجرِّب الإحساس الحقيقيَّ بالضرب، بألَم الضرب، لا مجرد الألم الموضِعي للضربة أو الألَم العام الناتج عنها، إنما بألَم آخَر مصاحِب أبشَع، أقوى، ألَم الإهانة، حين تحسُّ أنَّ كلَّ ضربةٍ تُوجَّه إلى جزء من جسدك تُوجَّه معها ضربةٌ أخرى إلى كيانك كلِّه، إلى إحساسك وكرامتك كإنسان، ضربة ألَمُها مُبَرِّح؛ لأنَّها تُصِيب نفسَك من الداخل إصابةً مباشِرة لا يحجبها أو يخفِّف منها جلدٌ أو لحمٌ أو عظامٌ أو حريةٌ أو حقُّ الإنسان أن يتصرَّف كالإنسان ويردَّ، وهذه كلُّها دُروعٌ، لو تعلمون، عظيمة. إنَّ حرية الإنسان، حقُّه أن يرفض أو يقبل أو يردَّ الاعتداء، جزءٌ لا يتجزَّأ من جسده وكيانه ولحمه وجلده وأنسجته الواقية الحية، هي وليستْ ملابسه أو جدران بيته التي تحفظ عليه ماءَ حياته كإنسان، وتحمِيه، وهي التي إذا انتُزعتْ منه لا يموت، كما يحدث للسُّلَحْفاة إذا انتُزع غطاؤها، ليتَه كان يموت، ولكنَّه يبقَى إنسانًا منزوعَ الحق في حماية نفسه والدفاع عنها، فما بالُك إذا كان يُرغَم على أن يَنتَزِع هو بنفسِه هذا الغطاءَ، وتُجْبِره القوة الغاشِمة على السكوت، على تلقِّي الألَم والسكوت، على التنازل عن إنسانيته وحتى عن خصائص الحيوان فيه والسكوت؟ حين يستحيل إلى كومة عاريةٍ من لحمٍ خائفٍ مَذْعُورٍ لا تستطيع أن تعضَّ أو ترفس، عليها أن تتلقَّى الألَم وتسكت عليه، والسكوت على الألَم أشدُّ إيلامًا وإيذاءً من الألَم نفسِه، خاصةً إذا كنتَ أنت مَن تتولَّى إسكاتَ نفسِك، الضرب هذا النوع من الضرب، حين لا يَبْقَى أمامَك لكي تمنَعَ ألَمَه وعارَه إلَّا أن تحتَمِل وتصْبِرَ، أو تَقتُل نفسَك وتنتَحِر، عملٌ لا يستطيعه ويَقْدِر عليه معظمُ الناس، وحتى إذا قدروا فقانون الحياة نفسُه يرفُضه ويمنَعُهم من إتْيانه؛ إذْ كيف يُعقَل وأنت في موقف تُدافِع فيه عن نفسِك ووجودِك أنت تشرع في قتْل نفسِك ومحْوِ وجودِك؟ بالعكس، إنَّ أبشع ما في الأمر أنَّك لا تحتمل فقط وتصبر، ولكنَّك تزداد استمساكًا بالحياة، وتصِلُ بك حلاوةُ الرُّوح إلى درجةٍ مُخجِلةٍ في شدَّتِها وقوَّتِها، وهكذا في مقابل كلِّ ضربةٍ هائلةِ الألم عارمةِ القسوة مُهينةٍ تتلقَّاها من الخارج، تنهال عليك من داخِلِك وذاتِ نفْسِك ألفُ لعنةٍ، ألفُ طعنةٍ، ألفُ إحساسٍ مُخْجِل مُهِين تمزِّق أحشاءَك وتُذِيب كماء النار رُوحَك؛ لأنَّك لا تموت ولا تُريد الموت ولا تزال حيًّا تتمسَّك ذليلًا الحياة.

والأبشع هو مرْآه، مرأى الزنفلي عباس، العسكري الصعيدي الأسود وهو يضرب، ومنظره وهو يستمتع بتخريب كائن حيٍّ وإنسانٍ، والمضروب يتحوَّل أمامَه إلى كتلةِ اللحم المذعورة التي تصرخ في فزعٍ أعمَى فلا يفعَل مشهَدُها أكثرَ من أن يُغْرِيَه بالضرب أكثر، والتمتُّع بلذَّة الهَدْم أكثر، فيَمْضِي يضرب ويضرب سعيًا وراء الفرحة الكبرى، كمَن هدم جزءًا من بناء ويسعى بمتعةٍ وحشيةٍ كي يأتي عليه تمامًا، الضرب ذلك النوع من الضرب، حين يتحوَّل المضروبُ إلى أنقاضِ إنسان مذعورة، أنقاضٍ تتألَّم، وبوَعْيٍ تُحِسُّ بنفسِها وهي تتقوَّض إلى أسفل، وبإرادتها الخائفة تمنَعُ نفسَها من أن تردَّ، ويتحوَّل فيها الضارب إلى أنقاضِ إنسانٍ من نوعٍ آخَر، وكأنَّه إنسانٌ يتهدَّم إلى أعلى، يُسْعِده الألم الذي يُحدِثُه في ابن جنسه، ويستمتع بإرادة، وبإرادةٍ أيضًا يقتل الاستجابة البشرية للألَم في نفسِه فلا يكفُّ إلَّا ببلوغِ ضحيَّتِه أبشعَ درجات التهدُّم والتقوُّض، وبلوغه هو أخسَّ مراحل النَّشْوة المجرِمة التي لا يستَطِيعها مِن المخلوقات جميعِها ولا يستمتع بها غيرُ الإنسان المنحطِّ في الإنسان.

٧

كنا قد وصلنا في رحلتنا إلى حارةٍ لا تسمح بمرور العربة، رغم كل محاولات السائق لاستعراض براعته وإرغامها على المرور، فهبَطْنا، وبينما وقف السائق يذبُّ عن الاستيشن واجن جيوش الأطفال التي تجمَّعتْ عليها، سِرْنا نحن الثلاثة، عبد الله بنفس قبقابه يحمل الدوسيه وحقيبة الكشف ويُرِينا الطريق، وشوقي بجواري، ومع كلِّ خطوة يتضاعف شغفي وحبُّ استطلاعي لرؤية هذا المارد الأسود الذي أَرْعَب صفوةً بأكملها من أبناء جيلنا الموعود، تُراه كيف يبدو وقد دالتْ دولتُه من زمن وضاق عليه المصير؟ شغفٌ جعلني أسْهُو عن شوقي وأصمُتُ مثلَما صمَتَ، وأرحب بمحاولات عبد الله للتكاسل حتى يوازينا ويلقي في أسماعنا بجملة أو بذكرى يحملها لعباس محمود الزنفلي، كان واضحًا أنَّ تأفُّفَه من مهمة تشريك زميل له قد انتهى أو كاد، وكان واضحًا أيضًا أنه وقد ذهب الجرح عاد ليأخذ دَوْرَه المفضَّل، دَوْر العارف بكلِّ شيء، الحريص على أنْ يُرِيَنا أنه حتى في العسكري الأسود يعرف ما لا نعرف، ويتطوَّع أيضًا بالنصيحة وبتقديم المعلومات.

– دا شاف عز يا بيه! ولا العز اللي شافه فاروق! دا كان يدخل المحافظة ناقص يضربوا له نوبة سلام، كان يقدر ضابط من الضباط يكلمه وهو قاعد؟! كان ينقله على طول، حد منا كان يستجري يبص له ولا يهوِّب ناحيته؟! دا مرة، والله العظيم وشرفك انت يا سعادة البيه، وقع منه قدام عيني دي نص ريال ما رضي أبدًا يوطي ويجيبه! والله، لما كنت تشوفه راكب جنب سواق رئيس الوزراء، ولا دولة الباشا، وكان جبَّار، أعوذ بالله! والله بعيني دي مرة شفتُه قفلوا عليه الأوضة اللي في الدور الثاني بتاع المحافظة اللي قصاد المكتب الطبي على طول هو وواحد من السياسيين، وقعد يضرب فيه من صباحة ربنا، والجدع يقول: آي! ولا هو سائل فيه، ولغاية ما روَّحنا احنا الساعة خمسة، وشرفك سبناه بيضرب فيه.

– بطَّل كلام يا عبد الله، البيت فين؟

كان القائل شوقي، فوجئتُ وفوجئ عبد الله أيضًا بصوته يرتفع بالكلمات أعلى مما يجب بكثير، صوت لا أذكر أنَّ شوقي تحدَّث به أمامي أبدًا، كان كلامُه دائمًا يخرج وكأنَّه لا يُريدك أن تحسب أنَّه قائله، صوت جعل عبد الله يسكت في الحال وترتدُّ إلى وجهه تلك الصرامة النظامية التي كان كثيرًا ما يرفعها أمام الدكاترة الشبان، ونظرتُ إلى شوقي، لم يكن عابس الوجه أو مقطب الملامح، كان يبتسم بطريقة غريبة، وكأنَّه يبتسم بنصف وجهه الأسفل فقط، ابتسامةَ مَن يستمع إلى هاتف بعيد، قلت له هامسًا: إيه، افتكرت حاجة؟

بنفس الابتسامة قال: أبدًا، ح افتكر إيه؟

وهممتُ بالعودة لتأمُّل الدكاكين التي نمرُّ بها، والأطفال وهم يتجمَّعون حول موكبنا، لكنِّي بُهِتُّ حين وجدتُ شوقي يتخلَّى فجأة عن وقاره التقليدي ويُمْسِك بذراعِي ويَجْذِبني بعصبيةٍ قويةٍ ناحيتَه، ويهمس في أذني كطفلٍ قرَّر لأمرٍ ما أنْ يُفْضِيَ إليَّ بسرٍّ: إنت عارف مين اللي كان بيضربه العسكري الأسود في المحافظة ده م الصبح للمغرب؟ عارف مين؟

والْتَقَتْ أبصارُنا لومضةٍ كنتُ خمَّنتُ فيها الإجابة، وبينما أشعة ضاحكة سعيدة تخرج من عينيه خرجتْ كلمة لتؤكِّد: كنت أنا.

وآخِر ما كنتُ أتوقَّعه حدث؛ إذْ مرة أخرى وجدتُه يترك يدي وجانبي ويَمِيل ناحية عبد الله ويقول: هيه، وإيه كمان يا عبد الله سمعته عن عباس الزنفلي؟

ونظر عبد الله إلى رئيسِه نظرة تساؤل انقلب إلى قلقٍ وعدم ارتياح وسكت كأنَّما خوفًا.

وقال شوقي بلهفةٍ، وكأنما يستحثُّه: إيه سمعته كمان؟ قول.

وكأنما أيقن عبد الله أخيرًا أنها فرصة، فاندفع يتحدَّث ويُدلِّل على صِدْق أحاديثه بأنه أحيانًا رأى بنفسِه، وأحيانًا أخرى جاءتْه الأنباء من صاحب أو زميل، كيف رآه رئيس وزراء ذلك الحين في المحافَظة مرة وأعجبه فضمَّه لحرسه، وكيف أدْرَك مِن رؤيته له واحتكاكه به أنَّه ضالَّتُه المنشودة، وأنَّ له في القسوة وتحجُّر القلب باعًا، فأعطاه هديةً للبوليس السياسي، وكان عبَّاس نِعم الهدية، فمِن بين جميع الذين كان يُعهَد إليهم بضرب السياسيين كان هو أكثرهم توحُّشًا وتفانِيًا لا في تنفيذ الأوامر فقط، وإنما في اختراع وسائل أقسى وأنجَع للتنفيذ، وكانوا يقولون إنه حين يضرب يَفقِد وَعْيَه وصوابَه، ويصبح كالسكران أو المجنون، إلى درجة لم يكونوا يجرءون على تركه وحده مع الضحايا، فيلازمه في عملية الضرب رقيبان عملهما التدخُّل في الوقت المناسب لانتزاع المتهم حتى لا يفتك به عباس، وكانوا لا يستطيعون استخلاصَه إلَّا بصُعوبة وإلَّا رغمًا عن أنف عباس، وأحيانًا بالتكاثُر عليه وشلِّ حركته وتكتيفه؛ ولهذا كان الرقيبان يُختاران دائمًا من عساكر أقوياء أشداء، ورغم هذا ففي مرات كان يحدث أن يثور عباس عليهما ويأبى تسليم الضحية، وينهال عليهما ضربًا إنْ حاولا منْعَه، وكان يأتي في الصباح مع الباشا في عربته، وبعد انتهاء مهامه في سجن الاستئناف والمحافظة، وأحيانًا نادرة في نفس غرفة رئيس البوليس السياسي، كان يعود ليركب بجوار سائق عربة رئيس الوزراء في أثناء موكب العودة، وقد تمنطق بالمسدس الضخم ذي الكردون الأحمر، ويقولون إنه كان في بيت رئيس الوزراء كأحد أهْلِه، يأكل هناك، ويأخذ البقشيش من الهانم الكبيرة، ويجود عليه الباشا بالمِنَح السخية وعلب السجاير الفاخِرة، والعُهْدة على الرُّواة، ولكنهم كانوا يقولون إن الباشا بالذات كان معجبًا أشدَّ الإعجاب بقوامه الفارع المستقيم، وكان يعتبره نموذجًا للرجل الكامل، وكثيرًا ما كان يأمر بإحضاره أمامَ ضيوفه في الصالون، والأجانب منهم بصفة خاصة، ليُفرِّجَهم عليه، ويجعله يقف يستعرض قوامه وبناءه وعضلاته أمامَهم، فخورًا به باعتباره اكتشافَه الخاص، وكم من تأوُّهات كانتْ تصدُر عن السيدات الزائرات لمرْآه!

وإلى هنا لا أدري لماذا سكت عبد الله عن حديثه، ربما لإدْراكِه أنَّه تكلم أكثر مما يجب، أو فيما لا يجب، ربما لفراغ ما في جعبته، ربما للنظرة المختلسة التي ألْقاها على الدكتور شوقي ورأى منها أنَّ شغَفَه بالاستماع كان قد هبَطَ إلى درجة الانصراف عنه، وعنَّا كليةً، وعاد مرة أخرى يبتسم بنصف وجهه الأسفل ابتسامةَ مَن يحاول الإنصات إلى هاتف بعيد.

٨

كان الباب الذي أوقفنا عنده عبد الله التومرجي لا يمكن أبدًا أن يَمُتُّ لبيت، فهو لا يُشبِه بيوت المدينة الفقيرة، وكذلك لم يكن كوخًا أو دارًا من دُور القرى المبنية بالطين، لكأنَّه الحلقة المفقودة بين الكوخ والبيت ومنازل القرية والمدينة، ولم نكن قد وصلْنا إليه إلَّا بقَطْع عددٍ لا يُحصى من الأزِقَّة والحواري، بعضها تهبط إليه بسلالم، وبعضُها تصِلُه بعد أن تجتاز أكوامًا عالية من تراب، هي في الحقيقة أطلال بيوت تهدَّمتْ وسقطت ولم تَجِدْ أحدًا يُزيل أنقاضها وبقاياها، فتحوَّلتْ إلى تلالٍ تسدُّ حارةً أو تصنع هضبة بين شارعين.

دقَّ عبد الله الباب، وطال دقُّه دون أن نظفَر بجواب، حتى خُيِّل إلَيْنا أنْ لا أحد هناك، وبدأْنا نشكُّ أنْ يكون هو البيت المقصود، ولكنَّ عبد الله راح يؤكِّد لنا أنَّه لا يمكن أن يكون قد أخطأ، وزيادةً في التأكيد مضى يدقُّ بجماع يده، وخُيِّل إلينا أخيرًا أننا نسمع أصواتًا مختلطة في الداخِل، وارتفع دقُّ عبد الله حتى وجَدْنا الباب تحت تأثير الدقِّ ينهارُ وينفتح من تِلْقاء نفسه، ومن الباب المفتوح رأينا صالةً واسعةً كفِناء دوار عمدة أُقِيم في قلب القاهرة، صالة خالية من كلِّ شيءٍ إلَّا من كنبة بلدي «شلتة» أو مساند تحتل أحد الأركان، وفي وسط الصالة تقريبًا «طشت» غسيل مقلوب تقف عليه دجاجة تنقب بمنقارها في التراب والطين القليل اللاصق بقاعه علَّها تظفر بغذاء، فلا يفعل تنقيبها إلَّا أن يجعل منقارَها يرتَطِم بالطشت الرَّنَّان في دقاتٍ منتظمةٍ مُمِلَّة، تصاعد رفيعة مُلِحَّة رنَّانة، لا تفعل أكثر من أن تزيد الكآبة في الصالة الواسعة الخالية.

لم يَبْقَ الحال هكذا ولا بقِينا واقِفِين متردِّدين بين العودة والبقاء طويلًا؛ فقد فُتح بابٌ جانبي وخرجتْ منه امرأةٌ نحيفةٌ قصيرةٌ بيضاءُ ذات عيونٍ سُود غائرةٍ كعيونِ نساء شمال الدِّلتا ومنطقة البُحَيْرات، وإنْ كان الوَشْم المثلَّث تحت شفَتِها السُّفلى على ذَقْنها علامة صعيدية أكيدة، عيون فيها بريقٌ يَفْهَمُه الذَّكَر وحدَه، ولكنها هزيلةٌ شاحبةٌ، بالتأكيد لا تزيد نسبة الهيموجلوبين في دمها على الربع، وفي وجهها «قوبة» في حجم الريال، وكانتْ حافية، قدماها صغيرتان كأقدام الأطفال أو الصينيات، ترتدي في عزِّ الصيف جلبابًا كزيِّ الفلَّاحات من الكستور، جلبابًا مهرَّأً يُظهِر قميصَ نوم أصفر نظيفًا، خرجتْ من الحجرة مندفِعةً، وكأنما هاربة من شرٍّ، وحين لمحتِ الباب الخارجي مفتوحًا ورأتْنا، ثلاثة رجال طوال يسدُّون فتحتَه شَهِقَتْ، وفي الحال اختفتْ داخلَ حجرة أخرى، وتركتْنا واقِفِين نعجب ونقلِّب الأنظار في الصالة، بينما الدجاجة التي كان قد أفْزَعَها خروجُ المرأة ما لبثتْ أن عادتْ بعد اختفائها تعتلي الطشت، وعاد منقارها يصدر ذلك الدقَّ المنتظم الرنان الكئيب.

وبزهق رفع عبد الله كفَّه وأهوى بها على الباب المفتوح في ضربة قاصِمة، انزعجَتْ لها الدجاجة، وشتَّتَتْ شملَ السكون، وارتفع صوتُه فارغ الصبر مزعجًا هو الآخَر يقول: ياللي هنا.

وفُتِح الباب وخرجتِ المرأة الصغيرة، وقد ارتدتْ ثوبًا مُهَلْهَلًا أسودَ، بينما لفَّتْ رأسها بثوبها الكستور الذي كانتْ ترتديه، ومضَتْ ناحِيَتَنا تتعثَّر في مشيتها وتقول: اتفضلوا.

وباختصار، وقبلَ أن تصِلَنا أو تشرع في الدخول كان عبد الله قد شرح لها السبب في حضورنا، ولدهشتي وجدتُه قد ضمَّني إلى البعثة وأخذ يتحدَّث عنَّا باعتبارنا «قومسيون طبي المحافظة» وقد جاء «بكامل هيئته».

واستغربتُ أن تفهَم المرأةُ كلَّ شيء لأول وهلة، لا بُدَّ أننا لم نكن أول «قومسيون» ندخل البيت، وإن بدا واضحًا أننا آخِرُهم.

وحين انتهى مِن إخبارِها لم تفعل أكثر من أنَّها أطرَقَتْ مستسْلِمةً، ومرة أخرى قالت: اتفضلوا.

– إنتي مراته؟

– أيوه يا سيدي.

– وهوه فين؟

– نايم جوه.

وللمرة الثالثة قالت: اتفضلوا.

وبلهجة آمرة قال عبد الله: قدام البهوات، ورِّيهم السكة.

ولكنها بدلًا من هذا وقفتْ لا تعرف ماذا تقول، وأخيرًا قالتْ مُشِيرة إلى الكنبة في ركن الصالة: بس والنبي، تستريحوا هنا دقيقة، دقيقة واحدة.

ولم نعرف لطلبها هذا سببًا، ومع ذلك وجدنا أنفسَنا نأخذ طريقًا إلى ركن الكنبة، وبينما قررتُ أن أخضَعَ للأمر الواقع وأجلس آثَرَ شوقي أن يظلَّ واقفًا، وبالتالي أجبر عبد الله أن يظلَّ كذلك.

وكانتِ المرأة قد تركتْنا ودخلتِ الباب الأول، وسمِعْناها تتحدَّث دون أن يُجِيبها صوت، ثم رأَيْناها تخرج وتختَفِي في الحجرة الثانية وتحضر شيئًا تُوارِيه في ثوبها عنَّا وتدخل به نفس الباب الأول، وتظلُّ خارجةً داخلةً، ونحن صامتون نتابعها بأنظارنا، والسكون مخيِّم لا يقطَعُه سوى دقات الدجاجة المنتظمة على صفيح «الطشت» وقد أصبح لا يزعجها أو يوقفها عن الدق دخول أو خروج.

وأخيرًا بدا أنَّ المرأةَ قدِ انتهتْ من رحلاتها؛ إذْ جاءتْ ووقفتْ قريبًا منَّا، وقال عبد الله بتأنيب شديد: مش خلاص؟ الدكاترة مستعجلين، إحنا ورانا قومسيونات تانية كتير.

وأخفَتْ فمَها في جلبابها الطرحة وهي تقول: أيوه، حاضر، دقيقة واحدة بس.

وانفجر عبد الله: هي دقيقتكم إيه، ساعة؟ ولا باينها يوم!

وظلَّتِ المرأة واقفةً لا تتحرَّك ولا تجيب، ثم بدا وكأنَّ هذه الوقفة القصيرة قد أرهقَتْها؛ إذْ ما لبثتْ أنْ سحبتْ جسدَها إلى أسفل وجلستِ القرفصاء مُسنِدة ظهرَها إلى الحائط.

٩

لم نكن نعرف لهذا الانتظار كلِّه سببًا واضحًا، ولكنْ لا بُدَّ كان له سبب، والْمُحْرِج في الأمر كان هو الصمت الذي شَمِلَنا وامتدَّ حتى ابتَلَع دقاتِ الدجاجة وأنسانا إياها، ولأمر ما أحسستُ وكأني مسئولٌ عمَّا نحن فيه من حرج، وعن إزالة هذا الصمت الكئيب، وهكذا بدأتُ أتحدَّث إلى الزوجة وأسألها، حديثًا لم أكُنْ أُقَدِّر له أكثر من دقائق قليلة إذْ كانتْ لهفتي الأساسية أن أرى «العسكري الأسود»، ورغم أنَّها بردِّها على أسئلتي بدأتْ تُجِيبني إجاباتٍ مقتضَبَة، لا تنطقها إلَّا بعد تفرُّس خَجِل سريعٍ في ملامحي ونواياي، إلَّا أنَّ إجابتها تلك بدأتْ تَسْتَرْعِي انتباهي، وليس انتباهي وحدي، شوقي الذي كنتُ أُدْرِك رغمَ انعدام الكلمات بيننا أنَّ لهفتَه لرؤية عباس لا تقلُّ عن لهفتي، والذي وضَّح ضيقَه من أول لحظةٍ بأسئلتي وإضاعة الوقت بفتْح مجال للحديث بدأ هو الآخَر ينْتَبِه، ويكاد لفَرْط متابعتِه يهمُّ بإلْقاء أسئلة أخرى، لولا أنه كان يتراجع قبل نطقِها ويُحجِم، وهكذا امتدَّتِ الدقائق إلى ربع ساعة، وإلى مرحلة بدأتِ الأسئلةُ فيها تقلِّب المواجعَ على «نور» الزوجة فتبكي وتَدمَع وهي تُجِيب، ولكنِّي ظللتُ أُتابِع حتى تعدَّى الحديث مرحلةَ البكاء إلى مرحلةٍ بدأتْ تُجيب فيها الزوجة بصراحةٍ وصدقٍ، وقلبٍ كأنَّما تريد فتْحَه وإفراغَه وقد ناءَ بما يحتويه، أو ربما اعتقدتْ أنها بالصراحة قد تخفِّف الحكمَ الذي نُوشِك أن نُصْدِرَه على زَوْجِها.

وأصبح شغَفي باستخلاص كلِّ ما يمكن استخلاصه من «نور» يكاد يطغى على شغَفي لرؤية زوجها، بل طغَى، وأيضًا لم أكن وحْدي، وجدْنا أنفسنا نحن الثلاثة ننسى اللهفة، والوقت، والرجل الراقد في الحجرة ونستمع إليها، وكأنَّما عَدَاها هي الأخرى اهتمامُنا ونسِيَتِ الحاضر والراقد، وراحتْ تعيش بكيانها كلِّه فيما كان.

والقصة كما استخلصْتُها من «نور» الزوجة تختلف بطبيعة الحال كثيرًا عن قصة «العسكري الأسود» كما تطوَّع بها عبد الله، وعن صورته كما رآها شوقي، وكلُّ مَن كان في السجن وقُدِّر له أن يقَعَ تحت طائلته، قصة الفلَّاح حين يشبُّ قويًّا أقوى وأصلب عودًا من كلِّ أقرانه، فتصبح له في البلدة شُهْرة، ويصبح لقوَّته سلطان ومستلزمات ليس أقلُّها جلبابًا من حرير، و«لاثة» من السكروتة، وطقمًا يخطر به ساعة العصر، ويقتحم به السوق، ويتربَّع به في مجالس الرجال، ويزغلل به وبنفسه أنظار البنات والمُطلَّقات، وأنظارها هي بالذات، بنت عمِّه وأحلى البنات، قصة الفتونة والمراهنات على حمل أكياس القطن وأجولة الكيماوي، والمعارك والنبابيت والخناقات، ومع هذا فما كان أسعدها — كما تقول — بالزَّواج به! واستعدادها لا لكي تنتظره أعوام «الجهادية» الخمسة، وإنما العمر كله! ولكنَّه جاء بعد مُدَّة الجيش وأخذها وسكن بها في مصر، في نفس هذا البيت الذي لم يغيِّره الزمن، واشتغل في البوليس، ولم تُرزَق منه «صحيح» بأطفال، مشكلة كانتْ تُلِحُّ عليه وتُضايِقه، ولكنَّ فرحتها به كانتْ على الدوام أكبرَ من أيِّ ضَنْك أو قسوة أو انعدام خَلَف، أخذها للدكتور مرة ولم يجد الطبيب فيها عيبًا، وقال له ابحث عن نفسك أنت، ولكنَّه كان دائمًا مشغولًا بالبحث عن السلطة والتسلُّط، دائم المشاحنات مع رؤسائه، دائم الثورة على وضْعِه وزملائه، حتى قُدِّر له في النهاية أن يختاره الباشا، ويمسك بهذه الوظيفة التي بدا وكأنَّها باب السَّعْد والهنا، فما من يوم يعودُ فيه إلى البيت إلَّا ومعه سبت خضار ولحمة، وضحك يجلجل في الصالة إلى ساعة النوم، والبيت يزدحم عليهم بالناس والزُّوَّار والسَّهَرات التي تمتدُّ إلى ما بعد منتصف الليل، و«الحتة» كلها قد عرفت سرَّ الوظيفة الخطيرة، وكثيرون رأَوْه في جلسته الفاخِرة أمام الباشا، بل لم تلبث عربة الباشا نفسه أنْ بدأتْ توصِّله إلى الحيِّ، ويراها الجيران رأى العين مجعوصًا فيها، حتى أم علي «الحسَّادة» تراه وتأتي لتَصِف لها ما رأَتْه والشَّهَقات التي كانتْ تتبعه أينما سارتْ به العربة، وأينما وضع قدمَه، وتطلب منها أن تَرْقِيَه من عيون نساء الحي ورجاله، فتَرْقِيه «نور» أول ما تَرْقِيه من «أم علي»، وتقوم من الفجر لتدعو وتطلب من الله أنْ يَقِيَهم شرَّ الناس، ويُديم عليهم السترَ، والناس في بيتهم الداخل لا يعرف الخارج، ومع الخارج والداخل والزائر والقريب والغريب عرائض وشكاوى وطلبات وظائف وترقيات، بل ويا للسخرية شفاعات ورجوات لعباس كي يتوسَّط لدى الباشا للإفراج عن معتقلين ومتهمين، كان يقبل ويخدم الكل، ما عدا طلبات الإفراج التي كان يَضِيق بها أشدَّ الضِّيق، ويزجر أصحابها، وأحيانًا يبلغ عنهم البوليس السياسي، حالة واحدة فقط هي التي قَبِل أن يتوسَّط فيها حين فُوجِئوا بعمدة بلدهم بنفسه، البيه الرسمي، أحمد بك مروان ومعه والدُه الْمُسِنُّ ووفد ضخم من عائلة مروان يطرق باب بيتهم، نفس هذا البيت، ويشرب قهوتهم، ويخاطب «عباس» بقوله: يا فندم! وأحيانًا يقول: البركة فيك يا عباس افندي. وأحيانًا أخرى: يا حضرة الضابط، بل ويصل الأمر إلى درجة يُقبِّل فيها يدَه، بعينها رأَتْه «نور» من خلال الباب الموارب يتشبَّث بيَدِ عباس وينحني عليها ويُقسِم يمين الحرام أن يُقبِّلها، فلا يملك عباس إلَّا أن يُوافِق، وإلَّا بأن يَعِدَ أنَّه سيبذل كلَّ ما في استطاعته لرجاء دولة الباشا والإفراج عن بسيوني شقيق العمدة؛ الطالب المعتقل، وينجح في الإفراج عنه ويهديه البيه خمسين جنيهًا وخروفًا، نقود، وما أكثر ما دخل جيبه من النقود! مع كلِّ عريضة تندسُّ اليد في جيبه وتترك ما فيه القسمة، ويصرف عباس ويبعزق، ولا يتحرك إلَّا في جمع من الحي والبلديات، على القهوة يحيطونه ويؤنسونه، وفي البيت، وفي نفس تلك الصالة الواسعة ينعقد مجلسهم كلَّ ليلة، أيام حافلة عارمة، وإنْ كان كل ما يأتيهم فيها كان يذهب ويتبخَّر ولا يبقى منه، ولم يَبْقَ من أيام العز كلِّها سوى مائتي جنيه في صندوق التوفير بالبريد، أيام عامرة ولكنها قليلة، ولا تستطيع «نور» رغم الأسئلة المُلِحَّة ومحاولات التذكير أن تحدِّد بالضبط ماذا حدث، أو متى، كلُّ ما لاحَظَتْه أول الأمر أنَّ «عباس» كان حين يذهب عنه الأصدقاء والزُّوَّار ويصبح البيت خاليًا إلَّا منه ومنها يذهب عنه المرح والضحك الذي كان غارقًا فيه، ويستمر على جلسته المتربِّعة منكَّس الرأس إلى أسفل، سادرًا في حزن مفاجئ لا تعرف سببه، يبقى هكذا بالساعة والساعتين، لا يتحرَّك ولا يحدِّثها، ولا يغيِّر من وضْعه، إنما كان يَحدُث بين كلِّ حين طويل وحينٍ أن يرفع رأسَه فجأة مستلًّا من صدره تنهيدةً عميقة قائلًا: إيه، حِكَم! ثم يعود رأسه يسقط ويعود إلى الحزن الشارد الذي كان فيه، حتى إذا طال الأمر وواتَتْها الجرأة على سؤاله عمَّا به لم تظفر منه بجواب، أو إذا رفع رأسه وأجاب لا يقول أكثر من: معلهش! كله منه، بكرة تتعدل، كانت واثقة أن ليس في الأمر زوجة أخرى، أو شاغل من شواغل المعيشة؛ ولهذا كانتْ لا تُلِحُّ وتسكت، خاصةً والحالة لا تحدث إلَّا نادرًا، وكل بضع ليالٍ مرة، ولكنَّها ما لبثتْ أن تكاثرتْ، حتى أصبحتْ تتكرَّر كلَّ ليلة تقريبًا وتطول، ويطول غياب عباس في «الشغل» ويعود إذا غاب مُضَعْضَعًا مَطْحونًا كالمضروب علقة، ينام بغير عَشاء، وإذا تعشَّى استيقظتْ على صوته المخنوق يصرخ من كابوس، ثم بدأتْ محنةُ الأفيون، كانتْ تعلم أنه يأخذه، ولكنَّه كان يفعل هذا للمزاج ليس إلَّا، بتوالي النوبات والاستغراق في «الشغل» تعلَّق به وأدْمَن فيه، وأصبح يأخذه في كل وقت، قبل النوم، وفي منتصف الليل، وحتى في الصباح على الرِّيق، وإذا فتحتْ فمَها أو اعترضتْ رماها بنظرة تخلخل مفاصِلَها، وتدفعها إلى ابتلاع الريق والكلمات، وتغلي وهي صامتة، وتتمزَّق نفسُها من الخوف منه وعليه، تضع أمامَه الطعام وتعود لتحمِلَه كما وضعَتْه، وينام، أصبح لا يأتي إلى البيت إلَّا لكي ينام، ولا يحتمل أن يبقى فيه وحدَه مستيقظًا، ينام ويطلب منها أن تصحيه في ساعة مبكِّرة، فإذا جاء الصباح ونادتْه ليستيقظ زجرَها، فإذا مضتْ في محاولتها يكاد يقتُلُها ليُسكِتَها وليستمرَّ نائمًا، وجاء عليه اليوم الذي لم يذهب فيه إلى القهوة، وإذا حضر أصحابُه وسألوا عنه أمَرَها أن توزِّعهم وتدَّعِي لهم أنه غير موجود، كانتْ تقول لنفسها كلَّما وُوجهتْ بجديد: إنْ هي إلَّا عوارض لن تستمر، وإنَّه لن يلبث أن يعود إلى نفسه، وإلى عباس الذي كان زمان. ولكن كلَّ يوم يُقبِل كان يجيء معه بتغيير إلى أسوأ، حتى ليصبح منتهى أملها أن يعود مثل الأمس فقط، بل حين يَئِسَتْ من هذا أيضًا أصبح كل ما تطلبه من الله أن يَبْقَى على ما انتهى إليه، هو ذلك الشخص المكشر الملامح، الغاضب دائمًا، الضيِّق الخُلُق، الذي يثور لأتْفه سبب، وبلا سبب، والذي لم يَعُدْ يُنفِق على البيت أو عليها، ورغم كلِّ ما يكسبه فمحفظتُه تحت المخدة دائمًا خاوية، وكأنه يُلْقي بما يكسب في بلاعة لا تنسد، شخص سائر في طريق لا تدري إلى أين، ولكنَّه يبعد عنها، وعن الناس حتى أصبح لا يُلقي السلام على أحد، وكأنَّ السلام مشقَّة، ويتحاشَى الناس وكأنهم أعداء، له كل يوم واقعة شتْم أو سبٍّ أو تماسُكٍ وضرب، مع الجار، وصبي البقال، وراكب البسكليت إذا دقَّ الجرس، حتى كاد يخاصِم الناس كلهم، وأجمع الكل على أنَّ البُعْد عنه غنيمة، فإذا ضاق بنفسِه ووحدَتِه مرة، وأرسل في طلب أصدقاء زمان وجاءوا، يأتون مكرهين، ويجلسون مكرهين، ويستمعون إلى حديثه الذي يفرضه عليهم فرضًا، حديث مملوء بمواقف هو دائمًا فيها البطل، وبقصص لا بُدَّ كسر فيها ذراع واحد من الساسة بضربة، أو هشم أسنان آخَر ببونية، وماذا قال له دولة الباشا، وماذا أعاد، حتى إذا لمح أيَّ عطف في ملامح سامع، أو بدتْ كلمةُ نقْدٍ لِمَا تفعَلُه الحكومة، اندفع يتحدَّث بفظاظة عن الحكومة ودولة الباشا والعهد، وكأنه أحد أصحابه والقائمين به، وكثيرًا ما يقول: إحنا عملنا، وإحنا كان لازم نسوِّي. أو يصف السياسيين والمعارضين بقوله: دول أعداءنا، لا تستمر الجلسة طويلًا؛ إذْ لا يلبث أفرادها أن يتسلَّلوا واحدًا وراءَ الآخَر متذرِّعين بحجج، واهية في معظمها، ويظلُّ بعد ذهابهم يلعنهم ويلعن الحي والناس، يلعنهم لنفسه وهو يحدِّث نفسه، وحديثه لنفسه كان طارئًا أول الأمر، ولكنه لم يلبث أن أصبح عادة، تكون في الصالة أو الحجرة الأخرى فتسمعه يتحدَّث، أو يزعق، أو يشتم، أو يزفر زفرة حارة ويتنهَّد قائلًا بأعلى صوته: إيه، آه، أيوه، كله منه، حِكم، ملعون أبو الدنيا، ملعون أبوهم كلك واحد واحد.

وأيضًا لا تعرف «نور» كيف أو متى جاء اليوم الذي فطنتْ إلى الحقيقة التي دوَّخها اكتشافُها، أنَّ عباس لم يعد عباس، لقد أصبح رجلًا آخَر، لم تَرَه أبدًا، ولم تعرفه، رجلًا آخَر بطبائع أخرى ومزاج آخَر، غريبًا، لا تحسُّ أبدًا أنه زوجها الذي تزوَّجتْه، ومِن الواضح أنه هو أيضًا، وقد عادى كلَّ مَن كان يعرفهم وتغيَّر ولم يكن قد بقي سواها بجانبه، كان واضِحًا أنه هو الآخَر يستغربها، ويُنكِرها، ولا يَرْعى شُعورًا، ولا يُهِمُّه من أين تُنفِق، أو كيف تُدبِّر الأمور، «أم علي الحسَّادة» تقول لها: إنَّ الأفيون قد غيَّره، ولكنها هي العليمة الخبيرة به تعرف أن الأفيون، كضيق خلقه، كشروده ونفوره من الناس، عَرَض وليس سببًا، السبب أكبر أو أبعد من أن تستطيع وحدها إدراكه؛ لقد كانا يَحْيَوْن ككلِّ خلق الله، فماذا حدث؟ قالتْ لنفسها إنَّها العين، وعين أم علي بالذات، وأخذتْ من «سملها» ورَقَتْ وبَخَّرَتْ وقالتْ إنه عَمَل، وذهبتْ لشيخ العمولات، ودفعتِ الأجرَ، وذبحتِ الدِّيك الأسود، وجرَّبتْ كلَّ علاج ودواء، وحالُه لا تَسِير إلَّا إلى أسوأ، خاصةً هجره لها في الفراش، ذلك الذي طال وطال حتى اعتقدَتْ أنه ممنوعٌ عليها بسِحْرٍ، الْتَمَسَتْ فكَّه وفكَّتْه، وظلَّ مع هذا ذلك الشخص الغريب الذي لولا الشَّبَه الذي لم يتغيَّر لَمَا عرَفتْه، وظلَّ هو يبعد عنها ويبعد، ولا يكاد يحسُّ بوجودها أو يأبه له.

وما كان أسوَدَها من ليلة! قرَّرتْ فيها أن تعتَمِدَ على نفسِها وتنفضَ أقنعةَ الخجل وتواجْهَه، ليتها ما فعلتْ! فلقد ظلَّ يسمع صامِتًا حتى أفرغتْ كلَّ ما عندَها، ولم يَبْقَ سوى الدموع فبكتْ، وبدلًا من عباس رجُلِها وابنِ عمِّها الذي تعرفه، أطبقَ عليها وحشٌ غرسَ أظافِرَه في لحمها، ممسكًا إيَّاها بكلتا يديه مُجِيبًا على ما قالتْ بأخسِّ وأقبحِ ألفاظٍ سمعَتْها في حياتها، ألفاظ ما خرجتْ من فمِه قبلَ ليلتها قطُّ، وما كانتْ تعتقد أنَّ باستطاعته أن يعرِفَها أو ينطِقَها، ولا تَدْري ماذا منَعَه من ضَرْبها أو سحْقِها أو قتْلِها، فلأسبابٍ أَوْهَى وأقلَّ لم يكن قد تَرَك إنسانًا يعرِفُه دون أن يمدَّ عليه يده، ماذا أبقَى تلك اليدَ مغروسة الأظافر في لحم ذراعِها لا ترتفع وتصفعها، ولا تهوي بقبضتها الحديدية عليها وتحطمها؟ إنها لا تعرف، ولكنها تؤمن عن يقينٍ أنها قد كُتب لها عُمر جديد.

وكأنما كان ينتظر ليلةً كتلك لينفَلِتَ عِيارُه إلى آخِر مدًى، وليصل إلى درجة تدفعها للتفكير في الهرب والهيام على وجهها في الطرقات؛ إذْ ما كان هناك حلٌّ آخَر، فلو غضِبَتْ وسافرتْ إلى القرية فلن يكون عقابها أقلَّ من القتْلِ، فكَّرتْ ودبَّرتْ وأخذتْ تُراقِبه لكي تحدِّد الساعة وتنطلق، كان عباس يبدو كمَن جُنَّ، يصحو صارخًا مرعوبًا إذا نام، وإذا انفرد بنفسه تجده فجأة قد انهال عليها — على نفسه — شتائم وسبابًا، نفس شتائِمه ذات الألفاظ الدَّاعرة، بل رأتْه مرةً يُنهِي شتائمَه لنفسه بصفعةٍ من يده يهوي بها على وجهه، وقرَّرتْ يومَها أن لا بُدَّ من التعجيل بالفرار.

غير أنَّ الأيام كانتْ تُدبِّر شيئًا آخَر، كان عباس قد عاد مِن العمل مبكِّرًا على غير العادة في الضُّحى، ونام وظلَّ نائمًا إلى اليوم التالي، وقبل أن يَرْقُد سمعتْه يقول لها شيئًا لم تفهَمْه، وخافتْ أن تستَعِيدَه ما قال، وفي أثناء نومِه جاءتْها أم ثابت والحاجة كريمة وأم علي وأخبرْنَها أنَّ الباشا الذي يعمل معه عباس ترك الكرسي، وأنهم سيعملون انتخابات ليجيئوا بباشا آخَر، وحين استيقظ عباس حاولتْ أن تفتح باب الحديث لكي تستطيع إخبارَه، ولكنَّه كان عازِفًا عن الحديث، ذوَّب قطعة الْمُرِّ وتجرَّعها، وأعطاها ورقةً ووصَفَ لها كيف تذهب بها، وعاد للنوم.

كانتْ ورقة طلب إجازة مرضية، الورقة الأولى من عشرات ومئات، لم تكن تدري أنها ستتوالى بعدها ولا تكفُّ عن التوالي.

كانتْ «نور» لا تزال جالسة القرفصاء قريبًا من الكنبة، وصوتها الصعيدي الناعم المحشرج يخرج على دفعات متقطِّعة يحكي، ويكاد يهزُّ المكان بحُرْقته وصِدْق نبراته، وشوقي قد أرغَمَه تتبُّعُه المحموم على الجلوس على طرف الكنبة، والهبوط برأسه قريبًا من رأس «نور»؛ حتى لا تَفوتَه الكلمة، وإحجامه قد ذهب وأصبح يسمع، ويشمل المرأة بنظرة نافِذة كإبرِ بذلِ النخاع تحاول استخراج كل ما لا تستطيع المرأةُ قولَه أو تملك القدرةَ على التعبير عنه، وبين الحين والحين ينطلق منه السؤال كالقذيفة التي لا يُريدها أن تُخطِئ، والحديث استبدَّ حتى بعبد الله التومرجي نفسه، إلى درجة جعلتْه يترك الرسميات جانبًا، ويجلس القرفصاء أيضًا بجوار المرأة يسمع، وبين الحين والحين يهش بيده دون أن يتلفت أو ينظر، يزجر الدجاجة ويُخِيفها في محاولات كثيرة فاشلة لإقصائها عن المكان تمامًا.

وقبل أن تكتمل القصة ونعرف منها كيف مرض مرضَه الأخير، وماذا بالضبط حدث له، فُوجِئْنا بشيء روَّعنا حقًّا، وأنا لا أذكر أني من وقت أن غادَرْتُ مرحلةَ الطفولة وكفرتُ بالجنِّ والعفاريت والأماكن المسكونة، لا أذكر أني خِفتُ حقيقيًّا، كثيرًا ما اضطربتُ مثلًا، أو دقَّ قلبي بانفعال خائفٍ، ولكنْ لم يحدُث أبدًا أنْ جَزِعتُ وذُعِرتُ، ولكنِّي لحظَتَها خِفتُ، بل بلغ رُعْبي حدًّا كاد يدفعني لتَرْك المكانِ والجريِ بكلِّ قواي، ما فُوجِئنا به كان صرخة، أو هكذا ظننَّاها أولَ الأمر، ولكنَّها لم تلبثْ أن طالتْ وتغيَّر نوعُها، وتحوَّلتْ إلى ما يُشْبِه العِواء، ولو كنَّا في غابةٍ أو حقلٍ لَمَا رُوِّعنا، ولحسبنا العِواءَ لذئبٍ، ولكنَّا كنَّا في قلب القاهرة، وداخل بيت، والعِواء عِواء ذئبٍ، ولكنَّك تُدْرِك أنَّه صادرٌ عن رجل، وعن رجل لا يَمْزَح أو يحاوِل إخافَتَك، ولكنَّه يعوي حقيقةً، ويعبِّر بعوائه عن أشياءَ مكتومةٍ داخلَه، تتقطَّع نفسُه وهو ينتَزِعها على هيئة عواءٍ متصلٍ مستمرٍّ لا يمكن أن تفرِّق بينه وبين العواء الحقيقي لذئب.

ولم أكن وَحْدي الذي خِفتُ! حين عُدتُ ألْتَقِط أنفاسي وجدتُ أني كنتُ دون وعْيٍ قد وقفتُ، ووجدتُ أنَّ الآخَرين جميعًا قد وقفوا، أعيُنُهم مفتَّحة وفي حدَقاتهم رعبٌ، وكانتِ المرأةُ أولَ مَن تحرَّك، تركتْنا واقفين مشلولين، واندفعتْ إلى باب الحجرة التي تَصاعَد منها العواء بلا خوف أو وَجَل، وكأنَّ العواءَ صرخةُ طفلٍ رضيعٍ هي أمُّه، وما إنْ دخلتْ حتى تصاعَدَ الصوت مرةً أخرى، ولكنَّه لم يستمرَّ، وما لبث أنِ انقطع، وكأنَّه فُطِم، وارتفع على أثره نحيب، لولا خشونتُه القليلة لحسبتَه نحيبَ طفل.

وقال عبد الله في رجاء يكاد يتحوَّل إلى بكاء: ما نخليها يا دكتور للحكيمباشي، اعمل معروف.

ولمحتُ شوقي أصفَرَ زائغَ العينين يتطلَّع إلى الباب، ثم إلى عبد الله وإليَّ متردِّدًا.

في تلك اللحظة بالذات كنتُ أمرُّ بحالةِ الخجل الذي يعقب خوفَنا من شيء، خجل لأنَّنا ونحن رجال قد خِفْنا، ذلك الخجل الذي يدفع الإنسان في الحال لتحدِّي ما يُخِيفه والاستهانة به واقتحامه، ويبدو أنَّ شوقي كان قرَأَ في عيني ما جعله يحاول باستماتةٍ أن يؤكِّد لي أنه هو الآخَر غير خائف، وأننا لا بُدَّ أن نمضي في المهمة إلى نهايتها.

وهكذا دخلنا الحجرة.

كان الوقتُ قد تأخَّر! لا نعرف إنْ كانتِ الشمس قد غابتْ أم لا تزال على وشك المغيب، والحجرة لم يكن يُضيئُها غيرُ نافذةٍ صغيرة جدًّا قريبة من السقف كنوافذ الزنازين والسجون، وكدنا لا نرى شيئًا لحظة دخولنا، بدتْ لنا الحجرة كمخزن مملوء بظلام قديم مهمل، آذاننا فقط هي التي استطاعتْ أن تميِّز وتسمع وتُدْرك أنَّ شهقاتٍ مكتومةً تتردَّد في الجوِّ المشبع بزفرات مبلَّلة بالدموع.

لحظات قليلة هي التي استغرقتْها المفاجأة، بعدها وجدْنا أنَّ باستطاعتنا أن نرى، ونرى بسهولة، وكأنَّ عيوننا قد بالَغَتْ في التقدير، أو أعماها مجرد الدخول، كانتِ الحجرة واسعة، أشبه بالصالة الثانية، وأثاثها قليل، «حصيرة» كبيرة تغطي الأرض، ودولاب عرس قديم طال استعماله، في الركن، وإلى اليمين سرير بأربعة عمدان، فوقه مرتبة ممزَّقة الكيس، وقطنها أسود ظاهر، وكذلك المخدات والرائحة مقبضة، تخاف معها أن تتنفس فتلهث.

كان عباس الزنفلي يرقد نصف رقدة على الفراش، والزوجة تسنده، وكان يبدو كمَن كفَّ لتوِّه عن البكاء، ومِن الصعب أن أحاول وصْفَ الحالة التي كان عليها، فمفروض أن تبدو على المريض آياتُ الضعف والهُزَال، وأن تتغيَّر سحنتُه وتنقلب، ذلك التغيُّر الذي يجعلنا نُدْرك أنَّ الشخص مريض، من هذه الوجهة كانتْ تبدو على عباس آياتُ المرض، لكن لم تكن هذه الآيات أخطر ما به، أخطرُ ما به كان في عينيه، أو بتحديد أكثر في نظرته، فمفروض أنَّ الجسد حين يضعف أو يمرض ويشحب جلده ولونه تبرق عينا صاحبه وتتوهَّجان وكان شحوب العينين يبدو على هيئة بريق، والمجانين مثلًا لهم نظراتهم، وكأنَّ الشخص حين يُجَنُّ تُجَنُّ عيناه أيضًا، كما يخرف بتفكيره يخرف بنظراته، فتصبح كأن لا معنى لها، ولا إرادة وراءها، نظرات عباس لم تكن مريضة، أو متوهِّجة، أو مجنونة، كانت ساكنة سكونًا مستمرًّا مستتبًّا كسكون الموت، وشاملة أيضًا، فيها ذلك الشمول الذي تحسه للمحيط حين تقف على شاطئ له ولا تستطيع لفرط اتساعه وامتداده أن تتصوَّر أنَّ له شاطئًا آخَر، في الحقيقة كان سكوتها المستمر وشمولها وامتدادها يجعل النظرات كسطح بحر لا يتحرَّك، وكأنَّما هو موجود في عالَم مفرَّغ من الهواء، وبلا شروق أو غروب، وبلا بداية أو نهاية أو زمن.

دخلْنا وفُوجِئْنا بعبد الله يقول بلا مناسبة وبصوت متهدِّج: سلام عليكم! موجِّهًا تحيته إلى عباس، ولا أعرف إنْ كان الأخير قد شعَر بنا وبدخولنا أو لم يشعر؛ إذْ حتى السلام الذي ألقاه عبد الله لم يكلِّف نفسَه مشقَّة الرد عليه.

ومن لحظة أنْ دخلنا وبدأتُ أعتاد المكان وجدتُ أنَّ اهتمامي لم يَعُدْ مركَّزًا على عباس وحالته فقط، أصبح اهتمامي موزَّعًا بينَه وبين شوقي، كان شوقي في أثناء سماعه لنور وسؤالها، وبعدما سمع ما سمع وقبل أن يدخل الحجرة، وحين دخل وأصبح يضمُّه مكانٌ واحد مع عباس باستطاعته أن يراه فيه رأْيَ العين ويتثبَّت من وجوده، كان قد انتابتْه حالةٌ لم أرَهُ عليها من قبل، حالة ما كدتُ ألحظها حتى خُيِّل إليَّ، وكأنَّما أضاء النورُ فجأة في عقلي، وكأنَّما بدأتُ أعِي بشيء كنتُ أراه، ولفَرْط تعوُّدي رؤيته لم أعُدْ أراه، تمامًا مثلما لا تستطيع أن تُدْرك أنَّ شخصًا ما كان تعسًا طول الوقت إلَّا حين تراه فجأةً يبتسم، أو أنه كان راضيًا إلَّا حين تراه فجأة يغضب، هكذا انتابتْ شوقي تلك الحالة، حين بدأتْ أشياءُ في نفسِه تصْطَرِع وتعبِّر ملامحُه وعضلاتُ وجهه عن صراعها، حين بدأتِ انفعالاتُه تتلوَّن وتتشكَّل، ويخاف، ويدهش، ويرغب، ويستطلع، ويتردَّد، حين أسقَطَ فجأةً بسمتَه الخالدة، فبدا كما لو كان قد أسقَطَ قِناعًا كان يحجب به نفسَه عنِّي، وحتى عن نفسه، حين لمحتُ وكأنَّ الحياة قد بدأتْ تتدفَّق بسرعةٍ وقوةٍ واندفاعٍ إلى كيانه، وأدركتُ لحظتَها فقط — مذهولًا — أني كنتُ خلال السنين الطويلة التي صاحبتُه فيها بعدَ خُروجِه من السجن كنتُ أصاحب شوقي آخَر دون أنْ أدْري، وأنَّ ظنوني كانتْ على حقٍّ، وتخميناتي عنه كانتْ صحيحة؛ إذْ في تلك اللحظة بدا وكأنَّ شوقي القديم، شوقي الذي كنتُ أبحث عنه بلا جدوى في شوقي، شوقي الثائر الحي قد دبَّتْ فيه الحياة من جديد، وصحا وكأنَّه كان ميتًا محنَّطًا في مكانٍ ما من جسده، في ابتسامته المرسومة ربما تلك الابتسامة التي أدركتُ لحظتَها أيضًا أنَّها كانتِ ابتسامةَ ميتٍ على وجْهِ حي، ابتسامة تحسُّ إذا دقَّقتَ فيها التأمُّل أنَّها البقية الباقية من شخصٍ مات وشبع موتًا، ابتسامة ذكَّرتْني نظرةُ عباس الزنفلي بها وعرفتُ منها سرَّ الإحساس الذي كان ينتابني كلَّما رأيتُها؛ إذْ أدركتُ أني كنتُ وكأنِّي أتطلَّع إلى سطح بحرٍ هامدٍ شاملٍ لا تتحرَّك فيه موجةٌ، ولا تصدر عنه نأمة، وكأنه البحر إذا وُجد في عالم مفرغ من الهواء، حالة انتابتْ شوقي وأحدثتْ في عقلي دوَّامات أفكار وتأمُّلات وأحاسيس، ولكنِّي رغم كلِّ ما كان يَدُور في عقْلي وجدتُ نفسي على وشك أن أُحِسَّ بفرحةٍ طاغية؛ إذْ تصوَّرتُ أنَّه قد آنَ الأوانُ لينفضَ شوقي عن نفسِه شخصيةَ الكائن المذعور المعقور، وأنَّه لا بُدَّ في طريقِه إلى العودة، لا بُدَّ أنه عائد، ولا بدَّ أني لن أُغادِر الحجرة إلَّا وفي صحبتي شوقي الذي فشلَتْ جهودي لإعادة الرُّوح إليه، ويئستُ ولم يَعُدْ في جعبتي أيُّ أمل.

وبشغفٍ متزايِدٍ مضاعَف رحتُ أتابع ما يحدث، والآن أنا أحاول تسجيل ما دار واستعادة الصورة وإبقاءها بطيئة أتفحَّصها على مهل وكما أُريد، الآن باستطاعتي التحكُّم في الزمن وتتابع الصُّوَر، ساعتَها لم أكُنْ في وضْعٍ أنا فيه المسيطر، كانتِ الأشياء تحدث في لمحات سريعة بالكاد أستطيع متابعتها أو تبيُّنها، بالكاد أملك القدرةَ على استرجاع ما سبق اللحظةَ أو الحركةَ من تاريخ، فالْمُهم في مواقف كتلك ليس فقط أن تتابع ما يدور فيها، ولكنْ أن تتابعه وأنت فاهم مُدْرك لكلِّ ما سبقَه، وأنت حافظ لتاريخ حياةِ الموقف؛ إذْ هو الذي من خلاله تستطيع أن تفرِّق بين المهم وغير المهم، بين الكلمة الواحدة حين يصبح لها قوة الحدث الهائل وبين الحدث الظاهر الهائل حين لا يستحقُّ الذِّكْر.

بخطوات يعرف صاحبُها لماذا يخطوها، لا يبدو اضطراب أو وَجَلٌ فيها، تقدَّم شوقي من فراش عباس، وبعيونٍ كأنَّما انقطع عنها النظر من سنين ثم استعادت القدرة عليه فجأة شَمِلَه بنظرةٍ قويةٍ فاحصة لا ذُعْرَ فيها، كلُّ ما فيها من اهتزاز مرجِعُه ربما لوجودي ووجود عبد الله، نظرة لا كُرْهَ فيها ولا حقدَ ولا شماتةَ، كلُّ ما يُبْهِرك فيها هي الإرادة، إرادة أن تنظر ولا تَخفَى عليها خافية، وبمقام من مقامات صوته لم أسمع شوقي ينطق به قال: أنت عباس؟

ودون أن يرفع الرجلُ الهيكلُ رأسَه سكبَ على شوقي كميةً من نظَراته الميتة الوقْع والطعم والإدراك.

– عيان بإيه؟

أطلقها شوقي حامية، وكأنما من صدرٍ حوَّلتْه حرارةُ ما يدور فيه من انفعالات إلى تَنُّور، وأيضًا لم يتحرَّك الرجل الجالس نصف جلسة، ولا بدا عليه أنه سمع.

– عباس محمود الزنفلي؟

خرجتْ من فم شوقي كالصرخة، كالنداء الهادِر، أعقَبَها بصرخة أخرى: انطق.

لم أكن قد سمعتُ شوقي يرفع صوتَه أبدًا إلى درجة الصراخ، ولم يحدث أبدًا أن فقَدَ اتِّزانَه.

وبدأتِ الفرحةُ في نفسي تزداد والأملُ يكادُ ينقَلِب إلى حقيقة، أفرَحَني ذلك الصوتُ الذي افتقدتُه سنين وأزْعَجَنِي، فقد كان يتوهَّج نفسَ التوهُّج الصادر من عيني شوقي حتى بدأتْ فرحتي تمتزج بخوفِ أن يحدثَ شيءٌ أكثر، مثل أن نُفاجأ بشوقي ينهال على الرجل الهيكل ضربًا وركلًا وخنقًا، وتدخَّلتُ طالبًا من شوقي أن يتذكَّر مهمَّتَه، ويُعامِل الرجلَ بمثل ما يعاملُ الطبيبُ مريضَه.

ولكنَّ شوقي لم يأْبَهْ لتدخُّلي، بل بدا وكأنَّه لم يحسَّ به أصلًا أو يسمعه، كان وكأنَّه يُعاني من جنون الفرحة المغلولة التي تنتابنا حين تحين فرصة العمر.

وقالتْ نور الزوجة: بالراحة عليه يا دكتور، دا عيان.

– إنت عباس الزنفلي؟

ورفع الرجل رأسَه وأبْقَى نظرتَه الميتة معلَّقة على ملامح شوقي تتلقَّى الرذاذ الخارج من فمه، ويصفعها زفيرُه المحموم الذي كان واضحًا أنَّه ينتزعه من أعماقٍ سحيقة، من جروح بالغة القِدَم، بالغة الألم، أعمارها سنين، وقروحها حية لا تزال رغم كل العمق والزمن …

– ما تستعبطش! ما تعملش إنك ناسي! مش فاكر العنبر؟! مش فاكر علق الساعة خمسة؟! مش فاكر دور تسعة؟! مش فاكر النبابيت؟! مش فاكر الكرباج؟! مش فاكر الدم؟! فين كرباجك وديته فين؟! فين صراخك يا وحش فين؟! فين نعل جزمتك الحديد؟! فين كفك؟! فين صوابعك؟! فين النار فين؟ بص لي وانطق واتكلم وصرَّخ، صرَّخ زي زمان، سمَّعْني صوتك، صرَّخ يا عسكري يا اسود، بص لي وانطق واتكلم وصرَّخ، ما تعملش ناسي! وإن عملت أفكرك، حالًا أفكرك …

ولا أعرف كيف استطاع شوقي في تلك الومضة المتناهية الصغر من الزمن أن يخلع جاكتته وقميصه، ويرفع فانلته ويكشف ظهرَه، ويا لهول ما وقعتْ عليه أبصارنا! لم يكن في ظهره مكان واحد له شكل الجلد أو مظهره، كل جلده كان ندوبًا بشعة، تمتدُّ بالطول والعرض، وتتجمَّع في هضاب مندملة، وتكشف عن مناطق غائرة، في قاعها تكاد تبدو عظام الضلوع، مشهد بشع يجعل القُشَعْرِيرة تسري في جسدك، لا لمجرد مَرْآه وإنَّما لتساؤلك عن القسوة المتوحِّشة التي أحدَثَتْ كلَّ ما تراه، لكأنَّ ذئبًا مجنونًا أو غولًا قد أعمل أنيابه وأظافره في ظهر شوقي نهشًا وتقطيعًا وفتكًا.

في جزء من الثانية كان قد فعل هذا، فعَلَه وهو يستدير ليواجه «عباس» بنظره وصراخه لا يكف: إذا كنت نسيتني فمش ممكن حتنسى ده، مش رح تنسى اللي عملته، دلوقتي افتكرت؟

وكما بدأ فجأة كفَّ فجأة عن عرض ظهره، واستدار وهو يصرخ: لازم تفتكر كويس ما تنساس، أنا مش ناسي، ولا حد ناسي، ولا حد حينسى، انطق واتكلم وصرخ وقول إنك فاكر، انطق.

ورُوِّعتُ لِمَا حدث، للطريقة التي كان شوقي يصرخ بها، للصوت العالي المزعج، للهدير، للصراخ وكيف ظلَّ يعلو، وللكلمات المفهومة وقد بدأتْ تصبح غير مفهومة أو متبيَّنة، ثم كيف، لعلوها بدأتْ تفقد شكل الكلمات، ويصبح كلُّ ما يصدر عنه آخِرَ الأمر مجرد خيط متصل طويل مكوَّن من أشياء لا نَدْري إنْ كانتْ حقدًا أو أنينًا أو تألُّمًا وبكاءً، وكيف بدأ خيطها يلتوي ويستحيل إلى شيء يشبه العِواء، بل إلى عواء حقيقي، عواء مرتَجِف مستَغِيث، لا يستطيع الكائن الحي أن يُطْلِقَه إلَّا وهو يُعاني أقصى وأحدَّ درجات الألَم، الألم الذي لا يحتمله بشر، الألَم الذي لا تصرخ معه الحنجرة، وإنما الصارخ هو الجسد نفسه، لحم الجسد، وعظامه، وأعصابه، وكأنما يُجْبِرها الألم أن تُطلِق صرختَها المستميتة الأخيرة.

والشيء المُخيف أنَّ كلَّ هذا كان يصدر عن شوقي، وأنَّنا كنَّا أنا وعبد الله والزوجة قد أصابنا الشَّلَل، لا نعرف ماذا نفعل، ومنظر شوقي يجعلنا نُؤْمِن أنْ لا قوةَ في الوجود تستطيع إيقافَه، لا عن الصُّراخ والعِواء، ولا عن قتْل عباس الزنفلي، ولا عن قتْل أيٍّ منَّا، لو أراد.

أما عباس فقد ظلَّ يسكب على شوقي نظراته الميتة، ولا يتحرَّك له جفن، ولكنْ ما كاد صراخ شوقي يستحيل إلى عواء حتى رأَيْنا كأنَّ بارقةَ إدْراك قد تحرَّكتْ فوق سطح العيون الميتة، أعقبتْها في الحال اهتزازاتٌ عاصِفةٌ، لم تلبث أنْ تكشَّفتْ عن نظرةِ ذُعْرٍ راحتْ تتعمَّق وتتعمَّق، وتصبح رعبًا هائلًا مُقِيمًا، رعبًا جعلَ الحياة تدبُّ أيضًا في الجالِس المكوَّم نصفَ جالس، وتدبُّ على هيئة خوف، فبدأ ينكمش على نفسِه وينكمش، ويزحف بزوجته بعيدًا إلى آخِر الفراش، ويصغر حجمُه ويتكوَّر، ولم أكن أتصوَّر أنَّ الإنسان في انكماشه يستطيع أن يَصِل إلى هذه الدرجة التي تكاد تعتقد معها أنه لو استمرَّ ينكمش بنفس السرعة لتلاشَى حالًا، واختفتِ الكرةُ الإنسانُ عن الوجود، وربما رعبُه هذا وانكماشُه هو الذي جعل شوقي يطارِدُه ويتقدَّم في اتجاهه ويتضخَّم كلَّما رآه ينكمش، ويقترب كلَّما ابتعد، مطاردة لم يُوقِفْها الفراش؛ فقدِ ارتقاه شوقي واستمرَّ يتعقَّبه ويصرخ فيه ويعوي ولا يكف، ربما رعبُه الهائل ذاك هو الذي حال من ناحية أخرى بين شوقي وبين الانقضاض عليه وإزهاق روحه.

لم يكفَّ شوقي عن تقدُّمه وعوائه إلَّا حينَ فجأةً فُتِحتِ الكرةُ البشرية الملتَصِقة بالحائط، والتي لم يَعُدْ لها مجالٌ للتَّراجُع، فَتَحتْ فمَها وأطلَقَتْ ذلك العواءَ المزعِج الذي أخافَنا ونحن في الصالة، عواء اختلطَ بعواءِ شوقي وعلا حتى أسكَتَه، وحتى أوْقَفَه في مكانِه لا يتكلَّم أو يصرخ أو يصدر عنه صوت، عواءٌ مرعوبٌ أولَ الأمر يستغيث، ثم باكٍ، ثم عالٍ مجنونٌ مرتفعٌ، ثم … ثم فُوجِئْنا بما لم نكن نتوقَّع أبدًا بالعواء ينقلب إلى هبهبة كهبهبة الكلب، وبالكرة البشرية تنفرد ويمتدُّ منها فمٌ طويل، وينفتح وينغلق في كلِّ اتجاه، ويهبهب: هاو هاو هاو … وامتدَّ الفمُ مرةً وكاد يقضم كتفَ شوقي، وجزِعَ الأخيرُ، وبدا وكأنَّما قد عاد إليه وَعْيُه، وفي قفزةٍ كان قد غادَرَ مكانَه فوق الفراش ليصبح بعيدًا عن متناول الفم الطويل المفتوح على آخِره، ولم تنقطع الهبهبة، بل حدث ما هو أكثر، أطبقَ الفم المفتوح على يد الزوجة القريبة منه وبدأ يَلُوكها بين أسنانه، ويضغط كمَن يهمُّ بالْتِهامها، واحتملتِ الزوجة قليلًا، وهي ترجوه أن يتْرُكَها، ولكنَّنا وجدْناها فجأة — وكأنما أدركتْ أنَّ يدَها على وشكِ أن تتمزَّق — تُطلِق صرخةً أعلى من كلِّ عواءٍ وهبهبة، تعقبها بصرخاتٍ سمِعْنا على أثَرِها دقَّ الجيران على الباب، بل فُوجِئنا ببعضهم وقد اقتحم الحجرة ودخل، أكثر من رجل وامرأة وفي أذيالهم أطفال، ورغم وجودهم ووجودنا لم يَجْرُؤْ أحدٌ على الاقتراب من عباس وانتزاع يد نور من الفم المُطبق عليها، ولم يُنقِذْها إلَّا عودةُ الفم للهبهبة وزوال إطباقتِه، ووقَفْنا جميعًا وقد انضمَّتِ الزوجة الدامعة إلينا، وبيننا وبين الفراش مسافة، ترقب ما يحدث، ترقب «عباس»، وقد بدأ يضرب الفراش ويهبهب ويعوي ويغرس أظافره وأنيابه في قماش المرتبة ويمزِّقه، ويمضغ القطن، ويزداد هياجُه، ويبدأ بضرب وجهه بكفه كمَن يلطم، ويُعمِل أظافره في جلده تجريحًا وتمزيقًا، ونحن ننظر إليه ونعتقد أنَّه في الدقيقة التالية سيَهْدأ فلا يَهْدأ، وكل ثانية تمرُّ تَزيدُه هياجًا إلى درجةٍ أرعبَتْنا وجعلتْ كلًّا منا يفكِّر في مغادرة الحجرة، لولا أنَّ «عباس» أهوى بفمِه على لحم ذِراعِه النحيلة التي كانتْ تبدو من كم الجلباب الممزَّق، وظلَّ يضغط وينظر إلينا بعيون ملتهبة تحترق، ويضغط، ولعابه قد غطَّى الذِّراع العارية، ومن كثرته بدأ يتساقط ويسيل، وهو لا يكفُّ عن النهش والضغط، وكأنما هو لا يحسُّ أو يتألَّم، أو كأنَّما يدفعه إلى مزيد من الهياج وغرس أسنانه في اللحم، وكان لا بُدَّ أن يحدث ما حدث، وأن تُدِير النساءُ وُجوهَهن، وأنْ نُدِير وجوهَنا معَهن، ما عدا شوقي فقد لَمَحْتُه لا يستدير، وإنما يظلُّ يتفرَّس في وقفةٍ مستمتِعة مريضة بما يراه، وحين عُدْنا مرة أخرى نُواجِه «عباس» تبيَّن أنَّنا لم نكن قد تحاشَيْنا الكثير باستدارتنا، فقد وجدْنا وجهه قد ارتفع عن الذراع حقيقة، ولكن الدم كان يتساقَط من فمِه ويختلط بلعابه! إذْ بين أسنانِ الفم التي كانتْ قد انفرجتْ عنها الشِّفاه كانتْ هناك قطعة لحم مُدماة، القطعة التي كان قد نجح في نهشها من ذراعه، ذراعه التي كانتْ لا تزال في مكانها فوق ركبته، ومكان العضة فيها قد أصبح جرحًا متهتِّكًا بَشِعًا، وكان عباس الزنفلي لا يزال رغم وجود قطعة اللحم بين أسنانه يعوي ويهبهب بصوت مكتوم، وكأنه ينزف من صوته والدم قد بلَّل عواءَه وخنَقَه.

الغريب أني كنتُ في تلك اللحظة بالذات قد اكتشفتُ أنَّ على الحائط المجاور للفِراش بروازًا فيه شهادة معلَّقة، حروفها تلمع تحت الزجاج المتَّسِخ، والأغرب أني وجدتُ نفسي أترك كلَّ ما يَدُور في الغرفة وأنهَمِك في قراءة ما في الشهادة، ولم تكن شهادة، كانتْ براءة نيشان الواجب من الدرجة الثانية، فيها نفس الكلمات التي قرأتُها في نفس الملف، والتي كان بصري قد ألْغَى كلَّ شيء حوله وتوقَّف عندَها، وبالذات عند كلماتها: «تقديرًا لتفانيه في خدمة مصالح الوطن العليا»!

كان هذا آخِر عهدي أو عهد شوقي بالعسكري الأسود؛ إذْ يَوْمَها غادَرْنا المكان حتى دُونَ أن يكتب شوقي قرارَه؛ إذْ ترك المهمة للحكيمباشي، ولم أستَطِع فيما تلا هذا من أيام أن أخمِّن ما حدث لشوقي، ووقْع اللقاء وما حدث فيه عليه، كنتُ قد وضعتُ خططًا كثيرة لمعاودة المجهود مع شوقي، وقد أجَّج أمَلِي تلك الدقائق القليلة التي رأيتُه فيها على حالته الأولى، خاصةً وقد بدا خلال الأيام القليلة التي تلَتْ ذلك شَغُوفًا بإثارةِ الموضوع بمناسبة وبلا مناسبة، دائب التفكير فيه، يُفاجِئُني مرة بقوله: أتعرف أنك حين تؤذي غيرك تؤذي نفسك دون أن تدري؟ ومرة يسرح ويضحك فجأة ويقول: دع الضارب يضرب فيَدُه التي تضرب تمتدُّ أيضًا إلى ذات نفسه، ولم يقتصر الأمر على التفكير، دخلتُ عليه يومًا فوجدتُه منهَمِكًا في الكتابة، وما أنْ رآني حتى جمع الأوراق محاولًا أنْ يُخْفِيَها، ولكني من بين أصابعه استطعتُ أن أقرأ عناوين فقرات: فلسفة العلقة، الإيلام سلاح ذو حدين؛ وعناوين أخرى كثيرة، وسألتُه فقال إنه بحثٌ قد يُطْلِعني عليه يومًا ما.

وفيما عدا هذا كفَتْني بضْعُ جلسات مع شوقي أنْ أومن أنَّ الحالة التي رأَيْتُه عليها وملأَتْني بالأمل كانتْ كصحوةِ ما قبل الموت، وأنَّ ما حدث له من تغيير، والكائن الجديد الغريب الذي أصبحه طريق لا يمكن الرجوع منه، لا يمكن أنْ يعودَ الجلد الطبيعيُّ مكان الندبات التي يحفل بها ظهره، أجل! أدركتُ ما فاتَنِي إدراكُه طوال سنين، أدركتُ أنَّ شوقي وقد فقَدَ أمْنَه البشري مرةً لن يعود أبدًا مثلَنا بشرًا مرة أخرى.

ولا أعرف لماذا كلَّما راجعتُ ما حدث لا أستطيع أن أنسى رغم كلِّ ما رأيتُه وشاهدتُه، كلمةً خُيِّل إليَّ أنها عادية جدًّا وطبيعية ساعةَ أن سمعْتُها تُقال، ولكنِّي لا أعرف لماذا ظلَّتْ تُلِحُّ عليَّ ولا تتركني، الكلمة قالتْها امرأةٌ من اللاتي حضَرْنَ على صراخ نور، امرأةٌ لعلَّها «أم علي الحسَّادة»، وقالتْ ونحن نتأهَّب لمغادرة الحجرة، وقد أصبح البقاء فيها أمرًا لا يتحمَّله العقل، وقطعة لحم عباس بين أسنانه، ودماؤه تكادُ تصبغ كلَّ ما تقع عليه العين، سمعتُ المرأةَ تُمَصْمِص بشفتَيْها وتهمس للواقِفة بجوارِها: لحم الناس يا بنتي، اللي يدوقه ما يسلاه، يفضل يعض إن شا الله ما يلقاش إلا لحمه، الْطُف يا رب بعَبِيدك!

سمعتُها ورنَّتْ في أذني رنين الكلام الفارغ الذي نسمعه من خالاتِنا العجائز لنسخر منه، ولكنْ لا أعرف لماذا لا تزال تُلِحُّ عليَّ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤