زنجر في المعركة

ساد الغُرفةَ صمتٌ عميق، وأخذ «تختخ» يُنصِت مع الثلاثة مُحاولًا سماع الصوت الذي تحدَّث عنه الرجل الثاني … ولكن لم يكُن هناك أي صوت …

قال الأول: إنني لا أسمع شيئًا!

الثالث: لعله توقَّف الآن … ولكنِّي متأكِّدٌ أنه صوت أحجار تتساقط داخل المنزل ربما لأن شخصًا دخَله!

الأول: سأذهب للبحث … وهناك أسلاك الإنذار إذا اقترب منا … وخُذا حِذركما من هذا الولد.

ارتفع مسدَّسان في وجه «تختخ» الذي أخذ يتأمَّل ما حوله جيدًا … كان يفكِّر أنه لو استطاع أن يجد وسيلة للهرب … فإنه يقدِّم صيدًا ثمينًا لرجال الأمن …

وخرج الرجل الأول … ومضت الدقائق بطيئةً … وفجأةً تحرَّك «تختخ»، فوقف الرَّجلان واستعدَّا لإطلاق النار … ولكن «تختخ» اختار ببساطة كرسيًّا قريبًا، ثم جلس علي ووضع ساقًا على ساق.

سمع الثلاثة صوت صِراع ونُباح … وأدرك «تختخ» أن «زنجر» قد هاجَم الرجل، ونظر بطرف عينه إلى الرجلَين … كان أحدهما قد تقدَّم من الباب وفتحه … والثاني قد تقدَّم خطوات في الغُرفة وقد بدا عليه الانزعاج … وكانت فرصة «تختخ»؛ فقد مدَّ ساقه وضرب الرجل ضربةً مُوجِعة، وقفز على الفور والْتَحم معه في صراعٍ عنيف … وسقط المسدَّس من يد الرجل، وبدأ الاثنان يُحاولان الوصول إليه … ولكن عندما امتدَّت يد «تختخ» لتأخذ المسدَّس، صاح الرجل الثاني: لا تمدَّ يدك أكثر، وإلا ألهبت رأسك بالرصاص.

انكمشت يد «تختخ»، وفكَّ الاشتباك مع الرجل ووقف. كان الرجل الثالث الذي هاجَمه «زنجر» قد دخل الغُرفة يلهث، وأغلق الباب خلفه … وبدت ثيابه ممزَّقة، وقد أمسك بذراعه وبدا عليه الألم الشديد.

وقال الأول: إن وجود هذا الكلب خطير جدًّا … إن في إمكانه أن يعرف المكان مرةً أخرى؛ فبالرغم من أنني أصبته فقد استطاع الهرب، ولم يمكِّنِّي من القضاء عليه.

الثاني: لنَنسِف المكان كله! وذلك الولد معه!

الثالث: لو نسفناه الآن لوقعنا في أيدي المصريين … سنضع فيه قنبلةً زمنيةً تنفجر مع الفجر ليبدوَ موته طبيعيًّا؛ فهو مَوعِد … وصمت دون أن يُكمِل حديثه.

وفهِم «تختخ» على الفور أن هجومًا مدبَّرًا سيتمُّ في المنطقة، وتمنَّى لو استطاع نقل هذه المعلومات إلى من يهمُّهم الأمر … وقال الرجل الأول: اربط هذا الولد جيدًا … وسأقوم أنا بوضع جهاز اللاسلكي في الحقيبة.

ثم التفت إلى الرجل الثالث وقال: وعليك أن تُعدَّ القنبلة الزمنية … واضبِطها على الخامسة والرُّبع صباحًا.

وتقدَّم الرجل من «تختخ» فربطه في الكرسي الذي كان يجلس عليه … وكمَّمه جيدًا، وكان كلٌّ من الرجلَين الآخرين يقوم بمهمته.

بعد دقائق قليلة انتهى الثلاثة من عملهم، وقال أولهم: والكلب؟!

الثاني: لقد استطعت أن تُصيبه، وأظنُّ أنه لن يذهب بعيدًا. وإذا التقينا به في طريقنا فسوف أقضي عليه.

الثالث: ألا نبحث عنه؟

الثاني: أين نبحث في هذا الظلام؟ … ثم إن الوقت ضيِّق … فقد يكون لهذا الولد أصدقاء يتبعونه … أو يكون له علاقة برجال الأمن … هيَّا بنا سريعًا!

وانطلق الثلاثة، وأغلقوا الباب على «تختخ» الذي سمِع وَقْع أقدامهم وهم يبتعدون، ثم ساد الصمت … وأخذ يفكِّر في الموقف … لم يكُن في إمكانه أن ينظر إلى ساعته، ولكنه قدَّر أن الساعة لا تتجاوز العاشرة … فهناك وقتٌ طويل قبل أن تنفجر القنبلة … ولكن ماذا سيحدُث في هذا الوقت؟ الأمل الوحيد معلَّق ﺑ «زنجر» … ولكن «زنجر» — كما سمِع من الرجال — قد أُصيب … وقد تكون إصابته مُميتة.

أخذ «تختخ» يحرِّك يدَيه مُحاولًا التخلُّص من الوثاق، ولكنه كان مربوطًا بإحكام، كذلك كانت قدماه … وكان فمه مكمَّمًا لا يُمكِنه من الصِّياح … ومضت ساعة تقريبًا … وظلَّ ذِهن «تختخ» يقظًا، وأعصابه هادئة، برغم صوت القنبلة التي كانت تدقُّ كالساعة … وكل دقة تقرِّبه من موتٍ محتوم.

وفجأةً سمِع صوت هَمهَمة يصدُر قريبًا منه … وشاهَد لمبةً حمراء في جانب الغُرفة تُضيء، فعرف أن أشخاصًا داسوا على سلك الإنذار … ثم سمِع صوت أظافر تعمل في الباب … إنه «زنجر»، ولكن هل هو وحده؟ …

ثم سمِع صوتًا يقول: «تختخ» … «تختخ»؟! …

وعرف على الفور أنه صوت «عاطف» … ولم يتردَّد … انكفأ إلى الأمام وسقط على ركبتَيه مُرسِلًا صوتًا داويًا … وسمِع النداء بِاسمه يرتفع، ثم صوت أدوات تعمل في الباب، وبعد لحظات ظهر «عاطف» واندفع من تحت قدمَيه «زنجر» … جاريًا … أسرع «عاطف» يفكُّ وثاق «تختخ» الذي لم يكُن يصدِّق أن الإنقاذ تم بهذه السرعة.

وانحنى «تختخ» يربِّت على «زنجر» … الذي بدا عليه الإجهاد … فقد كان جسده يرتعد من التعب، وقد تورَّمت عينه من ضربةٍ قاسية.

قال «عاطف»: لقد أيقظني «زنجر» من النوم، وأخذ يجذبني حتى أحضرني إلى هنا. ماذا حدث؟!

تختخ: لقد وقعت بالصُّدفة على بعض الجواسيس … إنهم يحملون جهازًا لاسلكيًّا ويتَّصلون بالعدو … ويبدو أنهم يحدِّدون له الأهداف التي ينبغي ضربها حتى تستسلم «السويس»، بعد أن أخفَق في غزوها بالدبَّابات.

عاطف: يجب أن نتَّصل فورًا بجهات الأمن!

تختخ: إنني أعرف المقدم «أحمد» … فهيَّا نذهب إليه فورًا!

أسرع الاثنان في الظلام … كانت المسافة بعيدة، والطُّرق تملؤها الحُفَر والمطبَّات، ولكنهما نسِيا كل شيء، ووصلا يلهثان إلى مَقرِّ المقدم «أحمد» الذي استمع إلى «تختخ» باهتمامٍ بالغ … وسُرعان ما كانت سيارة «جيب» تحملهم ومعهم خبير المُفرقَعات إلى مَقرِّ الجواسيس السِّري … وبينما أخذ خبير المُفرقَعات يفكُّ القنبلة الزمنية … قام الباقون بتفتيش المنزل …

وقال المقدم «أحمد» وهم يدخلون إحدى الغُرَف: لقد كانوا يعيشون هنا أيضًا … ومعنى ذلك أنهم الآن بلا مأوًى … إلا إذا كان لهم مأوًى آخَر.

تختخ: هل وضعتم كمائن في الأماكن الهامَّة كما قلت؟

أحمد: طبعًا، إنهم لن يستطيعوا الاقتراب من أي مكان له أهميةٌ عسكرية.

وانتهت مهمَّتهم في المنزل المهجور، وحمل خبير المُفرقَعات القنبلة، وحمَلتهم السيارة مرةً أخرى إلى وسط المدينة، فعاد المقدم ورجاله إلى مَقرِّهم، وذهب «تختخ» و«عاطف» و«زنجر» إلى الغُرفة الوحيدة، التي بقيت من منزل السيدة «سميحة»، وقال «عاطف»: لقد نِمت كثيرًا، وفي إمكاني أن أسهر وأن تنام مكاني؛ فليس هناك أماكن كافية بعد أن عادت السيدة «سميحة» و«سعدية» من المستشفى.

تختخ: سأنتظر حتى مَوعد السحور.

وجلس أمام الغُرفة في الظلام … كانت رأس «تختخ» مَسرحًا لأفكارٍ مُتعددة … إن المقدم «أحمد» ورجاله الآن يقومون بعمليةِ بحثٍ دقيقة في المدينة كلها عن الجواسيس الثلاثة وغيرهم … ولكن في مدينةٍ مهدَّمة … وأنقاض … وفي أثناء الحرب يصبح من الصعب جدًّا العثور عليهم … ففي إمكانهم اختيار منزل مهدَّم كمَقرٍّ لا يمكن لأحدٍ أن يتعرَّف عليه.

التفت «تختخ» إلى «عاطف» قائلًا: اسمع يا «عاطف»، إذا تصوَّرت — مجرَّد تصوُّر — أنك جاسوس في مدينةٍ مُحاربة، فماذا تفعل؟!

فكَّر «عاطف» لحظات ثم قال: لا بد أن تكون معي أوراقٌ مزوَّرة بأنني من أهل المدينة … ومن الأفضل أن تكون معرفتي بالمدينة كاملةً!

تختخ: كأن تكون قد أقمت فيها قبلًا.

عاطف: بالضبط!

تختخ: هذا ما فكَّرت فيه!

عاطف: ثانيًا لا بد أن أختلط بالناس؛ حتى لا أبدوَ مُنفردًا فأُثير الانتباه!

تختخ: عظيم!

عاطف: ثالثًا أكون قد درست طريقة الفِرار … بحيث إذا ما انكشف أمري أتمكَّن من الهرب.

تختخ: هذا ما فكَّرت فيه بالضبط … والآن إذا كانت هذه المدينة هي مدينة «السويس»، فكيف تتصرَّف؟!

عاطف: أكون في أقرب نقطة إلى الحدود لأهرب في الوقت المُناسب.

تختخ: هذا ما فكَّرت فيه تمامًا … إنني لا أتصوَّر أن مصريًّا يُمكِن أن يخون وطنه. وقد وضعت نفسي مكان العدو، وتصوَّرت ما يُمكِن أن يفعله إذا أراد القيام بعمليات تجسُّس وتخريب داخل «السويس». لقد اختار بعض اليهود الذين كانوا يُقيمون في «السويس» وتركوها إلى إسرائيل؛ لأنهم يعرفون «السويس» جيدًا … ويتحدثون اللغة العربية، ومن النادر أن يتذكَّرهم أحد؛ لأنهم خرجوا حوالَي سنة ١٩٥٦م بعد العُدوان الثلاثي … أي منذ ١٨ سنة تقريبًا … هؤلاء يمكن أن يكونوا أفضل الجواسيس لهذه العملية!

عاطف: أُوافقك على كل هذه الاستنتاجات … ولكن إلى أين تصِل بنا؟!

تختخ: أعتقد أن هؤلاء الجواسيس في الأغلب سيسكُنون أو يعيشون قريبًا من أماكن سكنهم القديمة، بل إن بعضهم إذا وجد منزله القديم وقد هجره سُكانه، ففي الأغلب يفضِّل أن يسكُن فيه … تجديدًا لذكرياته … أليس هذا معقولًا؟ …

عاطف: معقول جدًّا …

تختخ: وعندنا ذلك الرجل تاجر الساعات … لقد كان معنا في المَخبأ عندما وصلنا أول يوم، ومعنى ذلك أنه يسكُن قريبًا من هنا.

عاطف: هذا جائز!

تختخ: ومعنى ذلك أيضًا أن السيدة «سميحة» … ربما تعرفه!

عاطف: جائز أيضًا.

تختخ: تعالَ نتحدث معها.

عاطف: إنها نائمةٌ الآن.

تختخ: لنُوقِظها. إن رجال الأمن في «السويس» يقومون بحملةٍ ضخمةٍ الآن للقبض على هؤلاء الجواسيس … وستكون مهمَّتهم صعبة، ولكن في إمكاننا نحن أن نضع أيديَهم على أول خيط إذا عثرنا على تاجر الساعات.

ودخل «عاطف» إلى الغُرفة الواسعة … كانت السيدة «سميحة» و«نوسة» و«لوزة» ينَمنَ معًا … وتقدَّم من السيدة «سميحة» وناداها … واستيقظت السيدة على الفور، وقال «عاطف»: عمَّتي، إن زميلي «تختخ» يريد أن يتحدث إليكِ في أمرٍ هام … فهل يُمكِنك؟!

سميحة: طبعًا يا «عاطف»، إنني ما زِلت قوية برغم ما حدَث!

واستدعى «عاطف» «تختخ» الذي اتَّجه إلى السيدة «سميحة»، وسلَّم عليها، ثم قال: إنني أريدك أن تُجهدي ذاكرتك وتعودي إلى الوراء عشرين عامًا.

ردَّت السيدة: إن ذاكِرتي دائمًا قوية … فاسأل ما تشاء!

تختخ: هل تذكُرين تاجر ساعات كان يسكُن هنا في هذا الشارع … وربما قريب جدًّا من مَسكنك … منذ ثمانية عشر أو سبعة عشر عامًا؟!

أخذت السيدة العجوز تنظر إلى الولدَين وقد بدت في عينَيها نظرةٌ ساهمة، على حين تعلَّقت أنظار «تختخ» و«عاطف» بشفتَيها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤