أفكار حول الأساطير

كلمة أسطورة بالإنجليزية مشتقَّة من كلمة «موتوس» باليونانية، وتَعني شيئًا قِيل مخالفًا لشيء حدث. إننا نعتبر أن الأساطير قصص، إلا أن هيذر أودونهو تقول في مقدمة كتابها الممتع عن الأساطير الاسكندنافية، إن هناك أساطير ليست قصصًا على الإطلاق. فنحن نفكر فيها بأسلوب غير دقيق على أنها حكايات تشرح بدايات عالَمنا أو تُجسِّدها. وتقول كارين أرمسترونج في كتابها «موجز عن تاريخ الأسطورة»: إن الأساطير وسيلة لجعل الأشياء مفهومة وذات معنى بمفاهيم البشر (تصوير الشمس كعربة تقودها سيدة في عنان السماء) وإن جميعها تقريبًا «ضارب بجذوره في الموت والخوف من الفناء.» يرى نيتشه في كتابه «مَوْلِد التراجيديا» أن الأساطير تُشبه أشكالًا نراها في الأحلام وقصصًا مَبنيَّة على أساس المبدأ «الأبولوني» للشكل والنظام لحماية البشر من استيعاب الحالات «الديونيزيوسية» من انعدام الشكل، والفَوضى، والتدمير المبهج. وتتحكَّم التراجيديا في القوة البدائية للموسيقى، عن طريق ما تقدِّمه لنا من أشكال جميلة وهمية للآلهة، والشياطين، والرجال، والنساء، يُصبح من خلالها الاستيعاب مُحتمَلًا ومُمكنًا. وقد كتبَ نيتشه يقول:

بدون الأسطورة تفقد كلُّ حضارة قدرتَها الإبداعية الطبيعية السليمة. فوحده الأفق الذي تحدُّه الأساطير يضمن توحيد الحضارة. فقوى التخيُّل والحُلم «الأبولوني» لا يحفظها من الثرثرة العشوائية سوى الأساطير. فحتمًا تكون الصور الموجودة في الأساطير هي الحراس الشيطانيون، المنتشرون ولكن دون أن يلاحظهم أحد، والتي تُهيمِن على نمو عقل الطفل، وتفسِّر للإنسان البالغ حياته وما يمرُّ به من صراعات.

كان بَطَلا نيتشه هما «أسخيلوس» و«سوفوكليس» اللذَيْن قُدِّمت شخصياتهما ككائناتٍ أسطورية. ولكنَّه لم يكن يتفق مع «يوربيديس»، الذي حاول إضفاء الطابع البشري على شخصيات تلك القصص، وإعطاءها شخصيات وَصِفات فردية.

لقد أدركتُ، حتى وأنا طفلة صغيرة، وجود اختلاف بين قراءة الأساطير وقراءة القصص الخيالية، أو القصص التي تدور حول أشخاص حقيقيِّين، أو القصص التي تدور حول أشخاص حقيقيِّين ولكنهم مُتخيَّلون. فالآلهة والشياطين والشخصيات الأخرى الموجودة في الأساطير لا تكون لها شخصيات أو صِفات بشرية مثل الشخصيات الموجودة في الروايات.

إنها لا تتَّسم بخصائص نفسية، وهذا على الرغم ممَّا انتهجه فرويد من اتخاذ حياة «أوديب» الأسطورية سبيلًا إلى تفسير آلية عملِ اللاوعي. فهذه الشخصيات لديها صفات مختلفة؛ مثلًا تتصف «هيرا» و«فريج» بالغيرة، ويتصف «ثور» بالعنف، و«مارس» بحبِّه للحرب، و«بالدر» بالرقة والجمال، و«ديانا» من «إفسوس» بالخصوبة والعُذرية. أذكر أنني، حين رأيتُ التمثيل الحَجري لتلك الإلهة لأول مرة، بأثدائها المتعددة الطبقات، أدركتُ شعورًا بأنها كانت حقيقية أكثر من وجودي الآن أو في أي وقت من الأوقات؛ فقد آمَنَ بها أناسٌ كُثُر، وفكَّرُوا فيها، ورأوا أن عالَمهم بطريقة ما يَعتمِد على وجودها.

كما أنَّ الكائنات الأسطورية تكون أكثر وأقل واقعية من شخصيات الروايات. إذ يحاول «دون كيشوت» دخول عالم الأساطير، ويُصبح التفاوت بين واقعه والعالم الذي يتخيَّله أشبه بقوى أسطورية في حدِّ ذاته. فآنا كارنينا، والأمير ميشكن، وإيما بوفاري، وجوستاف فون أشنباخ جميعهم شخصياتٌ بشرية بصفاتٍ وخصائص فردية، إلا أنَّ قصصهم معقَّدة بسبب احتوائها على أساطير غير بشرية. فيُمثِّل أشنباخ ساحة معركة بين ما أورَدَه نيتشه عن «أبولو» و«ديونيسوس»؛ والأمير ميشكن إنسان يحاول التشبه بالمسيح. لقد عملت لعدة سنوات في تدريس فصول مسائية عن «الأسطورة والواقع في الرواية»، عملنا فيها على دراسة الأشكال الأسطورية التي ترسَّخت بشكل أو بآخر كخيط سردي واحد في الأدب الواقعي. وكذا يَحتوي ما أكتبُه من روايات على خيوط سردية من الأساطير في الحَكي، والتي تُمثِّل جزءًا لا يتجزَّأ من أفكار الكتب وشكلها العام، وكذا من طريقة استيعاب الشخصيات للعالم.

وقد اخترتُ أسطورة «راجناروك» الاسكندنافية لأنَّ خبرتي في قراءة كتاب «أسجارد والآلهة» وإعادة قراءته مرارًا وتكرارًا، كانت المُنطلَق الأول الذي أدركتُ فيه الفرق بين الأسطورة والقصة الخيالية. لم أكن «أُومِن» بالآلهة «الاسكندنافية»، وفي الحقيقة استخدمتُ شعوري تجاه عالَمِهم للوصول إلى استنتاج أن الرواية المسيحية للعالم ما هي إلا أسطورة أخرى، وهي القصة نفسها عن طبيعة الأشياء، ولكنَّها أقل تشويقًا وأقل إمتاعًا. لم تُعطِني الأساطير إشباعًا سرديًّا مثلَما تفعل القصص الخيالية، التي تبدو لي قصصًا عن قصص، تُعطي القارئ متعة التعرف اللانهائي على صور متباينة مُتكرِّرة للأنماط السردية ذاتها. ففي القصص الخيالية، إن تقبَّلتُ العنف الدموي والأشياء المريعة التي تحدث للشخصيات الشريرة، يكون المغزى حدوث نتيجة متوقَّعة مبهجة ومُرضية، يُكافأ فيها الأخيار ويزداد عددُهم، ويُعاقب فيها الأشرار. لقد ظنَّ الأخَوان جريم أن قصصهم الخيالية المجمَّعة تُمثل المعتقدات الشعبية الدينية لأسلافهم الألمان، ولكن يوجد اختلاف. فهانس كريستيان أندرسون لم يكتب قصصًا خيالية بسماتٍ غير بشرية من ذلك النوع، أو على الأقل ليس في أغلب الأحيان؛ بل كتب قصصًا متنوعة بشخصياتٍ ذات سمات ومشاعر، إنها قصص مُؤلَّفة، وأعمالٌ خيالية. شعرتُ بأنه كان يُحاول إخافتي أو إلحاق الأذى بي كقارئة. وما زلتُ أشعر بهذا.

عادةً ما تكون الأساطير غير مُرضية، أو حتى مُفجعة. فهي تُحيِّر العقل الذي يصادفها وتُؤرِّقه. إنها تُشكِّل أجزاءً مُختلِفة من العالم الموجود داخل عقولها، ليس في صورة محببة، بل في صورة مواجهات مع أشياء مُستعصية على الفهم. بعبارة أخرى، أشياء خارقة للطبيعة، وهي كلمة كانت دارجة للغاية حين كنتُ طالبة. كانت القصص الخيالية في عقلي أشبه بقلادات صغيرة وبراقة من أحجار وأخشاب ومينا ذات نقوش معقَّدة. أما الأساطير فقد كانت مساحات غائرة، مُضاءة بألوان براقة، أو مُظلمة، أو متوهِّجة، بها نوع من السحب الكثيفة ونوع من الشفافية الشديدة التوهُّج. صادفتُ تعريفًا لما تُحدثه الأساطير من استحواذ على الإنسان في قصيدة أعطتْها لي والدتي، لوالتر جيه تورنر بعنوان «الرومانسية».

حين لم أتعدَّ عامي الثالث عشر تقريبًا،
ذهبتُ إلى أرض ذهبية،
«شيمبورازو»، «كوتوباكسي»،
جذبتْني من يدي.

•••

تُوفِّي والدي، وكذلك أخي،
ذهبا مثل حلمٍ عابر.
وقفتُ عند بركان «بوبوكاتابيتل»،
تحت أشعة الشمس المتوهجة.

•••

سمعتُ صوت السيد خافتًا،
وأصوات أطفال يلعبون من بعيد،
«شيمبورازو»، «كوتوباكسي»،
خلبت لُبي.

•••

مشيتُ داخل حُلم ذهبي رائع،
ذهابًا وإيابًا من المدرسة؛
ففي «بوبوكاتابيتل» المشرقة
تسود الطرقات المتربة.

•••

سرتُ إلى المنزل مع فتًى ذهبيٍّ داكن البشرة،
لم أنطق بكلمة واحدة،
«شيمبورازو»، «كوتوباكسي»،
أفقدتني قدرتي على الكلام.

•••

حدَّقتُ مفتونًا في وجهه،
الذي كان أجمل من كل الزهور!
آه يا «بوبوكاتابيتل» المشرقة
لقد كانت ساعتك السحرية.

•••

بدت المنازل، والسكان، والطرقات،
أحلامًا مُتلاشية في ضوء النهار؛
«شيمبورازو»، «كوتوباكسي»،
لقد سرقوا مني روحي!

أدركتُ جيدًا تلك الحالة الذهنية؛ ذلك العالم الآخر. إلا أنَّ الكلمات التي كانت موجودة في ذهني لم تكن «شيمبورازو»، «كوتوباكسي»، بل كانت «جينونجاجاب» و«إجدراسيل» و«راجناروك». ووردت مثل تلك اللحظات وتواترت لاحقًا في الحياة. مثل رؤية «إينياس» ﻟ «عَرَّافة كوماي» وهي تتلوَّى داخل الكهف. «تلوَّتِ العرَّافةُ في الكهف بعنف شديد.» أو «الثعبان» البراق ﻟ «ميلتون» وهو يَعبُر «الفردوس»، ويقف مُنتصبًا على ثنايا جسمه الملفوف.

عندما طلبت مني دارُ النشر «كانونجيت» تأليف أسطورة، علمتُ على الفور الأسطورة التي أريد كتابتها. لا بد أن تكون «راجناروك»؛ فهي الأسطورة التي تمثل نهاية كل الأساطير؛ فهي الأسطورة التي تفنى فيها كلُّ الآلهة أنفسهم. كانت هناك نسخٌ من هذه القصة يتعرَّض فيها العالم، الذي انتهى في سهلٍ مُسطَّح من الماء الأسود، إلى التطهير ويُبعَث من جديد، مثلما يحدث للعالم في المسيحية بعد يوم الحساب الأخير. إلا أني قد استنبطتُ من الكتب التي قرأتُها أن هذا ربما يكون تحريفًا مسيحيًّا، ووجدتُه أمرًا ضعيفًا وواهيًا مقارنةً بالدمار الكامل المبهر. كلا؛ فقد التهمَ الذئبُ ملك الآلهة، وسمَّمت الأفعى «ثور»، واحترق كلُّ شيء في ضوء أحمر وغرق في سواد حالك. لقد كان هذا، إنْ صَحَّ القول، مُرضيًا.

وجدتُ أنه من الصعب أكثر مما توقَّعتُ العثور على نبرة غير تنبُّئيَّة، أو ترنيمية، أو وعظية بطريقة خاطئة، لسرد تلك الأسطورة. إنَّ الثقافة التي أعيش فيها يقلُّ تقديرها كثيرًا للأسطورة الصريحة، على حدِّ ظني، كما انتهج الكثير من الكُتَّاب في سلسلة «كانونجيت» للأساطير فكرة صياغة الأساطير في صورة روايات، أو قصص حديثة، وإعادة سرد الحكايات الأسطورية كما لو أنَّ أفرادها يتمتَّعون بشخصياتٍ وأبعاد نفسية. وهناك أسلوبٌ مميَّز ومُمتِع آخر لإعادة سرد الحكايات اتَّبعه الروائي الدنماركي فيللي سورينسن، نُشر باللغة الدنماركية بعنوان «راجناروك، قصة الإله» وباللغة الإنجليزية بعنوان «سقوط الآلهة». نشأ سورينسن، على حدِّ قوله، في عالم مُتأثِّر بتعاليم القَس نيكولا فريدريك سيفيرين جورندتفيج الذي زعم في كتابه «الأساطير الشمالية» (١٨٠٨ ميلاديًّا) أنَّ الحرب بين الآلهة الاسكندنافية والعمالقة كانت «حربًا للرُّوح ضد الجانب الأحقر من الطبيعة البشرية، تمامًا مثل الحرب الدائمة للحضارة ضد الهمجية.» لقد آمَنَ أتباع جورندتفيج بأن «العالم الجديد» الذي صُوِّر في إحدى قصائد «أشعار إيدا» ينشأ بعد كارثة «راجناروك» — والذي سُمِّي «جيملي» — ما هو إلا إشارة إلى المجيء الثاني للمسيح؛ إنه الجنة الجديدة والأرض الجديدة التي تنبَّأ بها سِفْر الرؤيا. فيقول سورينسن، تمامًا مثلما أشار الباحثون الألمان الذين ألَّفوا كتاب «أسجارد والآلهة»، إنه نظرًا لأن الأيسلنديين، الذين كتبوا تلك القصص، كانوا مسيحيِّين بالأساس، فلا بد أن تأويلاتهم وشكل كتابتهم قد تأثَّرا بالديانة المسيحية. استحوذت على الدنماركيين فكرةُ راجناروك التي أعقبتْها جيملي، بعد هزيمتهم على يد البروسيين في عام ١٨٦٤ ميلاديًّا، ونسخة سورينسن ما هي إلا جزء من محاولة الاسكندنافيِّين إنقاذ تلك الأسطورة من الإيحاءات الألمانية (والنازية في النهاية) المتضمَّنة في أحداث أوبرا فاجنر «فَنَاء الآلهة».

إنَّ طريقة سورينسن في إنقاذ الأسطورة الاسكندنافية وإعادة سردها تتمثَّل في إضفاء الطابع الإنساني عليها بوصفها ساحة معركة بين القوة والحب، وجَعْل «لوكي» — الذي كان إلهًا وعملاقًا في الوقت نفسه — شخصية محورية ومتناقضة. و«فالهالا» عند سورينسن آدمية ومحلية. فيصوِّر أن الآلهة لديهم مشاعر وشكوك ومشكلات نفسية.

لا تنتهي رواية سورينسن ﺑ «جيملي»، بل بنهاية العالم؛ فقد اختار، على حد قوله، بين «راجناروك» و«جيملي»، وأثار بذلك حنقًا شديدًا بين الدنماركيين المتدينين. فما فعله سورينسن، بطريقة مشوقة، هو بالضبط ما شعرتُ بأنه محظور عليَّ فعله.

لقد حاولتُ مرةً أو مرتَين العثور على طريقة لسرد الأسطورة تحافظ على بُعدها واختلافها، وأخيرًا أدركتُ أنني كنت أكتُب للطفلة الموجودة بداخلي، ومن أجل طريقة فهمي للأساطير وتفكيري في العالم حين قرأتُ «أسجارد والآلهة» لأول مرة. ولهذا قدَّمتُ شخصية «الطفلة النحيلة في زمن الحرب». هذه القصة لا تدور حول الطفلة النحيلة؛ وقد يُعزى السبب في جزء منه وراء وصفها بالنحيلة إلى أنها «كانت» هزيلة الجسم، وأيضًا لأن ما يرد وصفه من عالمها هزيل ومُشرِق، وهو ما يعتمل داخل رأسها من قراءة وأفكار، وطرق ربطها لعوالم «أسجارد» ورواية «رحلة الحاج» بالعالم والحياة التي عاشتها.

ربما تكون الحرب قد دمَّرت عالَم الطفلة النحيلة. ولكنها خلقت أسطورتها المضادة في رأسها. حتى لو وصلت — أو في الواقع عندما تصل — هي نفسها إلى النهاية، فإنَّ الأرض ستُواصل تجديد نفسها. فقد امتلأ الحقل الواسع بالأزهار، وامتلأت السماء بالطيور، وأخفَت الضفة المُتشابكة عالمًا من الصراع، وكانت المياه تعج بالحياة بكائناتٍ تسبح وتتلوَّى فيها. إنَّ موت الآلهة ما هو إلا قصة خَطيَّة متسلسلة؛ لها بداية ووسط ونهاية. وحياة البشر قصة خَطيَّة متسلسلة أيضًا. وتنزع الأساطيرُ إلى وقوع الكوارث، وربما إلى البَعْث. لقد آمنَتِ الطفلة النحيلة بالتكرار الأبدي للأشياء النامية، وبتقلب المناخ والأجواء.

ومع ذلك، فإنك حين تَكتُب نسخة من «راجناروك» في القرن الحادي والعشرين، سيُطاردك حتمًا تصوُّرٌ لنهاية مختلفة للأشياء. فنحن فصيلة من الحيوانات التي تجلب الدمار للعالم الذي وُلِدنا فيه. ليس بدافع الشر أو الخُبث، أو على الأقل ليس بالأساس، بل بدافع من مزيج غير مُتكافئ من الذكاء الاستثنائي، والطمع الاستثنائي، والتكاثُر الاستثنائي لنوعنا البشري، بالإضافة إلى قِصَر نظر بيولوجي فطري متأصِّل فينا. أقرأُ كلَّ يوم عن حالة انقراضٍ جديد، وعن تبييض للشعاب المرجانية، وعن اختفاء سمك القُدِّ الذي أمسكته الطفلة النحيلة في بحر الشمال بخُطَّاف وخيط، حين كانت توجد الكثير من الأماكن التي يتوافر فيها هذا النوع من الأسماك. أقرأ كذلك عن مشروعات بشرية تُدمِّر العالم الذي تنشأ فيه ببراعة، مثل بناء آبار نفط طموحة في المياه العميقة، ومَد طريق عبر ممرات هجرة الحيوانات في حديقة «سيرينجتي» في تنزانيا، وزراعة الهليون في بيرو، واستخدام بالونات الهيليوم في نقل المحاصيل بتَكلفة أقل، وتقليل انبعاث الكربون في الوقت الذي تَستنزِف فيه المزارعُ بمستوياتٍ خطيرة الماءَ الذي تَعتمِد عليه الخضراوات والبشر والكائنات الأخرى. أردتُ الكتابة عن نهاية «ميدجارد» التي نعيش فيها، ولكن ليس بغرض كتابة قصة رمزية أو وَعْظِيَّة. يَعتقِد الغالبية العُظمى من العلماء الذين أعرفهم أننا نتسبَّب في انقراض نوعنا بسرعة مُتزايدة. فالأعشاب التي تراها الطفلة النحيلة في الحقول وتَعتقِد أنها ستَظلُّ موجودة إلى الأبد، قد انقرَضَ بالفعل الكثير منها بسبب أساليب الزراعة الحديثة. كذلك لم تَعُد توجد سحُبٌ من طيور الزقزاق. ولم تعد طيور السُّمنة تُهشِّم الحلزون على الصخور لتأكله، واختفى عصفور الدوري من حدائقنا. إنَّ أفعى «ميدجارد» هي الشخصية المحورية، بطريقة ما، في قصتي. فهي تحب رؤية الأسماك التي تقتلها وتأكلها، أو على وجه الدقة التي تَقتُلُها للمتعة، والشعاب المرجانية التي تسحقُها وتُبيِّضها. إنها تُسمِّم الأرض لأن هذه هي فطرتها التي فُطِرت عليها. حين بدأتُ العمل على هذه القصة، كان عندي صورة مجازية في ذهني؛ فقد رأيتُ سفينة الموت «نجلفار»، المصنوعة من أظافر الموتى، كصورة تعبِّر عما يُعرف حاليًّا باسم «دوامة نفايات شمال المحيط الهادي»، وهي دوامة تتجمَّع فيها المخلَّفات البلاستيكية غير القابلة للتحلُّل في المحيط الهادي، والتي تفوق في حجمها ولاية تكساس. فكَّرتُ في كيف نمَت تلك الدوامة من الأكواب البلاستيكية التي شعرَ ثور هايردال بالأسى حين وجَدَها تطفو في المحيط الفارغ في رحلة «كونتيكي» الاستكشافية التي انطلقت في عام ١٩٤٧ ميلاديًّا. ومع ذلك، فقد أردتُ رواية الأسطورة بمفرداتها الخاصة، تمامًا كما اكتشفَتْها الطفلةُ النحيلة.

قلتُ من قبلُ إني لم أُرِد إضفاءَ طابع بشري على الآلهة. ولكني وضعتُ في اعتباري طوال الوقت الرؤية الحكيمة للمُفكِّر المتَّقِد الذكاء، لودفيج فيورباخ عن الآلهة والبشر والأخلاق. كتبَ فيورباخ يقول: «الإله ما هو إلا إنسان.» واصفًا كيف أنَّ آلهة الحب والغضب والشجاعة والإحسان، كانت جميعها إسقاطاتٍ لصفاتٍ بشرية صنعناها من شعورنا بأنفسنا. لقد تحدَّث فيورباخ عن التجسيد البشري لإله المسيحية، وقال عنه إنه إلهٌ في صورة بشرية، وهو في الحقيقة إنسان نُسبَت إليه صفاتٌ إلهية كما يَراه فيورباخ. ترجمت جورج إليوت كتابه «جوهر المسيحية» بطلاقة وسلاسة، ويظهر تأثيره واضحًا بشدة في كتابات هذه الرِّوائية. ومع ذلك، هناك مَنطقٌ فيما تتصف به الآلهة الاسكندنافية من صفاتٍ بشرية بطريقة مُختلفة. إنهم كالبشر لأنَّ تفكيرهم قاصر وأحمق. فهم يتصفون بالجشع ويستمتعون بالقتال وممارسة الألاعيب. كذلك يتصفون بالقسوة ويتلذَّذون بالصيد وإلقاء النكات. لقد علموا أن «راجناروك» قادمة، لكن لم تكن لديهم القدرة على تخيُّل أي طريقة لتفاديها، أو لتغيير مسار القصة. لقد كانوا يعلمون كيف يَموتون ببسالة، ولكنهم لم يعلموا كيف يصنعون عالَمًا أفضل. كتبَ هوبز في وصفه لصفات الذئاب الموجودة داخل البشر: «الذئب ما هو إلا إنسان.» وهذا لأنه كانت لهوبز رؤية قاتمة لحياة البشر؛ إذ يراها تتسم بالعزلة، والفقر، وهي حياة كريهة وهمجية وقصيرة. «لوكي» هو الوحيد الذي يتسم بالذكاء، كما يتَّصف بعدم تحمُّل المسئولية والتمرد والسخرية.

يظهر ديريك كوك في دراسته الرائعة «رأيتُ نهاية العالم» لأوبرا فاجنر «سلسلة الخاتم»، كيف صنعَ فاجنر شخصيته «لوجي» بذكاء، من المصادر المتاحة من الأساطير. ويقول كوك إنَّ شخصية «لوجي» لفاجنر هي إله النار وإله الفكر. أما «لوكي» في الأساطير القديمة فهو نِصف إله، وعلى الأرجح تربطه صلة قرابة بالعمالقة والشياطين. ومن المحتمَل وجود اشتقاق خاطئ يربط روح النار الجرمانية «لوجي»، ﺑ «لوكي» من «الإيدا»، ولكن شخصية فاجنر «لوجي» تعمل على حل المشكلات وجلب ألسنة اللهب التي دمَّرت شجرة المُران. اعتدتُ في طفولتي على التعاطف مع «لوكي»؛ وهذا لأنه كان شخصية مَنبوذة ذكية. إلا أنَّني حين بدأتُ في كتابة هذه القصة أدركتُ أنَّ «لوكي» كان يَستمتِع بالفَوضى؛ فقصصه تحتوي على ألسنة لهب وشلالات مياه، وهي الأشياء العديمة المعالم التي يرى فيها مُنظِّرو الفوضى نظامًا في انعدام النظام. ﻓ «لوكي» يهتم بالنظام الكائن في التدمير، وبالتدمير الكائن في النظام. لو كنتُ أكتب قصة رمزية، لكان «لوكي» هو الذكاء العلمي المنفصل، الذي إما يُنقِذ الأرض، وإما يُسهم في سرعة دمارها. في واقع الأمر، لقد انتهى العالَم بسبب جهل الآلهة الشديد الشبه بالبشر، بجيوشهم وتناحُرهم، وكذلك جهل المفكِّر الناري المتَّقد الذكاء، بطريقةٍ تنقذ العالَم من الدمار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤