باب برزويه الطبيب١

من كلام بزرجمهر بن البختكان

قال بُزُرجِمِهر: إنَّ برزويه رأس أطباء فارس، وهو الذي وَلِيَ انتساخ هذا الكتاب وترجمه من كتب الهند، قال: إنَّ أبي كان من المقاتِلة، وكانت أمي من بنات عظماء الزمازِمة، وفقهائهم في دينهم.

وكان مما ابتدأني به ربِّي من نِعَمِه أني كنتُ من أكرم وَلَد أبويِّ عليهما، وأنهما أسلماني في تعليم الطب لمَّا صار لي من عمري سبعُ سنين،٢ فلمَّا بلغتُ وعرفتُ أمر الطب وفضلَه، شكرت رأيَهما في ذلك، ورغبتُ في تعلمه، حتى إذا شدوت منه عِلمًا، وبلغت فيه ما أمنتُ له نفسي على مداواة المرضى وهممت بذلك، آمرتُ نفسي وذكَّرتها وخيَّرتها بين الأمور الأربعة التي إياها يطلب الناس، ولها يَسْعَوْنَ، وإليها يَجِدُّون، فقلتُ: أيُّ هذه الخلال ينبغي لمثلي أن يلتمس؟ وأيها أحرَى — إن هو بغاه — أن يُدرِك منه حاجته؟ آلمالُ أم اللذاتُ أم الصوت أم أجرُ الآخرة؟ واستدللتُ على المختار من ذلك، فوجدت الطبَّ محمودًا عند العُقلاء، ولم أجده مذمومًا عند أحد من أهل الأديان والملل، وأصبت في كتبهم أنَّ أفضل الأطباء من واظب على طبِّه لا يُريد بذلك إلَّا الآخرة، فرأيتُ أن أواظبَ عليه أبتغي ذلك، ولا ألتمس له ثمنًا، ولا أكونَ كالتاجر الخاسر الذي باع ياقوتة كان مُصيبًا من ثمنها غِنَى الدهر بخرزة لا تساوي شيئًا، ووجدت في كتبهم أيضًا أنَّ الطبيب المبتغي بطبِّه أجر الآخرة لا ينقصه ذلك من حظِّه في الدنيا، فإنما مثله في ذلك مثل الحرَّاث الذي يُثير أرضه ويَعمُرها ابتغاء الزَّرع لا العشب، ثم هي لا محالة نابتٌ فيها ألوانٌ منه، فأقبلتُ على مداواة المرضى رجاء ذلك، فلم أَدَعْ مريضًا أرجو له البُرء وأطمع له في خفة الوجَع إلَّا بلغتُ في معالجته جُهدي، ومن قَدَرتُ على القيام عليه قمتُ عليه وفعلتُ به ذلك وإلَّا وصفت له، ولم أُرِدْ لشيء من ذلك جزاءً ولا مكافأةً ممن فعلته به، ولم أغبط من نُظَرائي ومن هو مثلي في العلم وفوقي في المال أحدًا إلَّا بعين صلاح أو حسن سيرة في الناس قولًا وعملًا،٣ وكنت أقرِّع نفسي إذا هي نازعتني إلى أن تغبِط أولئك، وتتمنى منازلهم، وآبَى لها إلَّا الخصومة، وأقولُ: يا نفس، أما تعرفين نفعك من ضُرِّك؟ ألَّا تنتهين عن الرَّغبة فيما لم يَنَلْه أحد إلَّا قلَّ انتفاعه به وكثُر عناؤه فيه، واشتدت مئونته عليه عند فراقه، وعظمت التبعة عليه بعده؟ يا نفس أما تذكُرين ما أمامَك فَتَنْسَيْ ما تَشرَهين إليه فيما بين يديك؟ ألا تستحين من مُشاركة الفجرة الجُهَّال في حب هذه الفانية البائدة التي من كان في يده منها شيءٌ فليس له ولا بباقٍ عليه، والتي لا يألفها إلَّا المغترُّون الغافلون؟
يا نفس، أقصري عن هذا السفه، وما أنت عليه من خطل الرأي فيه، وأقبِلي — بقوَّتك وسعيك وما تملكين — على تقديم الخير والأجر ما استطعت، وإياك والتسويفَ والتواني، واعلمي أنَّ هذا الجسد ذو آفاتٍ، وأنه مملوء أخلاطًا فاسدة قذِرة تجمعُها أربعةُ أشياء مُتعاديةٍ مُتغالبةٍ تعمِدُهنَّ الحياة، وهي إلى نفاد، كالصنم المفصَّل أعضاؤه إذا رُكِّبت جَمَعها مِسمارٌ واحدٌ وأمسك بعضها على بعض، فإذا أُخذ المسمار تساقطت الأوصال. يا نفس، لا تغتري بصحبة أحبائك وأخلائك، ولا تحرصي على ذلك، فإنها على ما فيها من السرور والبهجة كثيرةُ الأذى والمئونات والأحزان، ثم تختتم ذلك بقطع الفراق، كالمِغْرَفَة تُستعمل في صحتها وجِدَّتها في حرارة المرق وسخونته، فإذا هي انكسرت صار عاقبة أمرها إلى النار. يا نفس، لا يحملنَّك ما تريدين من صلة أهلك وأقاربك والتماس رضاهم على جمع ما تهلكين فيه، فإذا أنت كالدُّخنة الطيِّبة التي تحترق ويذهبُ بِعَرْفِها آخرون، وكالذُّبالة تضيء لغيرها باحتراقها.٤ يا نفس، لا تغتري بالغنى والمنزلة التي تبطر أهلها، فإنها إلى انقلاب، وإنَّ صاحب ذلك لا يُبصر صِغر ما يستعظم حتى يُفارقه، فيكونُ كشعَر الرأس الذي يُكرمه صاحبه، ويخدُمه ما دام على رأسه، فإذا فارق رأسه قذَره وقزَّ منه. يا نفس، دومي على مداواة المرضى، ولا يعوِّقْكِ عن ذلك أن تقولي: إنَّ الطبَّ مئونة شديدة، والناسُ بمنافعها ومنافع الطب جُهَّال، ولكن اعتبري بمن يُفَرِّجُ عن رَجُلٍ كُربةً تحُلُّ به، ويستنقذه منها حتى يعودَ بها إلى ما كان يكون فيه من السَّعة والرَّوح، فإنه أهلٌ لعظيم الأجر وحُسن الجزاء، فكيف بالمتطبب الذي يفعل ذلك بالعدَّة التي الله أعلم بها، فيعودون — بعد الأسقام المُمِضَّة والأوجاعِ الحائلة بينهم وبين لذات الدنيا من طعامها وشرابها وأزواجها وأولادها — إلى أحسنِ ما كانوا يكونون عليه من حالاتهم؛ فإنَّ هذا خليقٌ بجزيلِ الثواب وعظيم الرَّجاء. يا نفس، لا يبعُدنَّ عليك أمرُ الآخرة الدائمة فتميلي إلى الدُّنيا الزائلة، فتكوني في استعجال القليل وبيع الكثير باليسير كالتاجر الذي زعموا أنَّه كان له ملء بيت صندلًا، فقال: إن أنا بعته موزونًا طال علي، فباعه مجازفةً بأخسِّ الثمن.
فلمَّا٥ خاصمتُ نفسي بهذا، وأخذتها به، وبصَّرتها إياه؛ لم تجد له نقضًا، ولا عنه مذهبًا ولا منصرفًا، فاعترفتْ وأقرَّت، ولَهَت عما كانت تنزع إليه وترغب فيه، وأقمتُ على مداواة المرضى ابتغاء أجر الآخرة، فلم يمنعني ذلك من أن أصبتُ من الدنيا حظًّا جسيمًا ونصيبًا عظيمًا من الملوك والأولياء والإخوان قبل أن آتي الهند، وبعد رجوعي منها، وفوق الذي كان طمعي يجنح إليه، وفوق ما كنتُ له أهلًا.

ثم نظرت في الطب فوجدتُ الطبيب لا يستطيع أن يُداوي المريض بدواءٍ يُذهب عنه داءه، فلا يعود إليه أبدًا ذلك الداء ولا غيرُه من الأدواء التي هي مثلُه أو أشدُّ منه، فلم أدرِ كيف أَعُدُّ البُرءَ بُرءًا، والداءُ لا تُؤمن عودته أو اعتراء ما هو أشدَّ منه، ووجدتُ عمل الآخرة هو الذي يُسَلِّم من الأذى حتى يبرأ صاحبها بُرءًا يأمن معه من الأدواء كلها، فاستخففتُ بالطب وأردت الدين، فلما وقع ذلك في نفسي اشتبه عليَّ أمرُ الدين، أمَّا كُتُب الطب فلم أجد فيها لشيءٍ من الأديان ذكرًا يدُلُّني على أهداها وأصوبها، وأمَّا الملل فكثيرة مُختلفة ليس منها شيءٌ إلَّا وهو على ثلاثة أصناف: قومٌ ورثوا دينهم عن آبائهم، وآخرون أُكرهوا عليه حتى ولجوا فيه، وآخرون يبتغون به الدنيا، وكلُّهم يَزْعُم أنَّه على صواب وهُدًى، وأنَّ من خالفه على خطأ وضلالةٍ، والاختلاف بينهم كثيرٌ في أمر الخالق والخلق، ومبتدأ الأمر ومنتهاه، وما سوى ذلك، وكلٌّ على كلٍّ زارٍ، وله عدوٌّ، وعليه عائبٌ، فرأيتُ أن أُراجِعَ علماءَ أهل كل مِلَّة، وأُناظرهم فأنظر فيما يصفون، لعلِّي أعرفُ بذلك الحقَّ من الباطل فأختاره وألزمه على ثقة ويقين، غيرَ مُصدِّقٍ بما لا أعرف، ولا تابع ما لا يبلغه عقلي، ففعلتُ ذلك وسألتُ ونظرتُ فلم أجد أحدًا من الأوائل يزيدُ على مدح دينه، وذمِّ ما يخالفه من الأديان، فاستبان لي أنهم بالهوى يجيبون ويتكلمون لا بالعدل، ولم أجد عند أحدٍ منهم صفةً تكون عدلًا يعرفها ذو العقل ويرضى بها.

فلمَّا رأيتُ ذلك لم أجد إلى مُتابعة أحد منهم سبيلًا، وعرفت أني إنْ أُوافقه على ما لا أعلم أكُن كالمصدِّق المخدوع الذي٦ زَعَمُوا أنَّ جماعة من اللصوص ذهبوا إلى بيت رجل من الأغنياء ليسرقوا متاعه، فعلَوا ظهر بيته ليلًا، فانتبه صاحب البيت لوطئهم وأحسَّ بهم، فعرف أنه لم يعلُ ظهر بيته في تلك الساعة إلا مُريب، فأيقظ امرأته وقال لها: رويدًا! إني لأحسَبُ اللصوص قد علَوْا ظهر بيتنا، وأنا مُتناومٌ لك، فأيقظيني بصوتٍ رفيع يسمعه مَنْ فوق البيت من اللصوص، ثم قولي لي: ألا تُخبِرُني عن أموالك الكثيرة هذه وكنوزك من أين جمعتها؟ فإذا أبيتُ عليكِ فألحِّي في السؤال، ففعلت المرأة ذلك، وسمع اللصوص كلامها، فقال الرجل: أيتها المرأة، قد ساقك القدر إلى رزقٍ واسعٍ، فكُلي واشربي واسكتي ولا تسألي عمَّا لو أخبرتك به لم آمن أن يسمعه سامع، فيكون في ذلك ما أكره وتكرهين، فقالت المرأة: لَعَمري ما بقُربِنا أحد يفهم كلامنا، قال الرجل: فإني مُخبرك أني لم أجمع هذه الأموال والكنوز إلا من السرقة، قالت: وكيف كان ذلك وأنت في أعين الناس عدلٌ مرضيٌّ لم يتَّهِمْك ولم يَسْتَرِبْ بك أحد؟ قال: ذلك لعلمٍ أصبته في السرقة كان ألطف وأرفق من أن يتهمني أحد أو يرتاب فيَّ، قالت: وكيف كان ذلك؟ قال: كنتُ أذهب في الليلة المُقمِرة ومعي أصحابي حتى أعلو ظهر البيت الذي أريد أن أسرقه، فأنتهي إلى الكُوة التي يدخل منها الضوء إلى البيت، فأرقي بهذه الرُّقية، وهي: «شَولَم، شَولَم» سبع مرات، ثم أعتنق الضوء فأهبط إلى البيت، ولا يحسُّ بوقوعي أحدٌ، ثم أقومُ في أسفل الضوء فأعيد الرُّقية سبع مرات، فلا يبقى في البيت مالٌ ولا متاعٌ إلا ظهر لي، وأمكنني أن أتناوله، وقويتُ على حمله، ثم أعيدُها وأعتنق الضوء وأصعدُ إلى أصحابي فأحمِّلهم ما معي، ثم نَنْسَلُّ ولا يشعر بنا أحد.

فلمَّا سمع اللصوص ذلك فرِحوا وقالوا: لقد ظِفرنا من هذا البيت بأمرٍ هو خيرٌ لنا من المال، وأمِنَّا به من السلطان، وأطالوا المُكث حتى ظنُّوا أنَّ الرجل قد نام، ودنا رئيسهم إلى مدخل الضوء من الكُوَّة، فقال: «شَولَم، شَولَم» سبع مرات، ثم اعتنق الضوء لينزل إلى البيت، فوقع مُنَكَّسًا، فوثب إليه صاحب البيت بهِراوة فأوجعه ضربًا، وقال له: من أنت؟ قال: أنا المصدِّق المخدوع، وهذه ثمرة تصديقي.

فلما تحرَّزت من التصديق بما لم آمن أن يوقِعني في مَهَلَكة عُدتُ إلى البحث عن الأديان والتماس العدل منها، فلم أجد عِنْدَ أحد مِمَّن كلَّمتُه — في جواب ما سألتُه عنه، ولا فيما ابتدأني به — شيئًا يحقُّ عليَّ في عقلي أن أوقن به وأتبعه، فقلتُ: أما إذا لم أُصِب ثقةً آخُذ منه فإنَّ الرأي أن ألزم دين آبائي، وهممتُ بذلك فلم أرَ لي فيه مخرجًا، ولا وجدتُ الثبوت على دين الآباء سبيلًا، ولا لي فيه حُجَةً ولا عُذرًا، فأردت التفرغ للعَود إلى البحث عن الأديان والمسألة عنها، فعرض لي تخوُّفُ قُرْبِ الأجل وسرعتِه، وانقطاع الدنيا وفناؤها، وفكَّرت في ذلك الوقت وقلتُ: أمَّا أنا فلعل موتي يكون أوشك من تقليب كفِّي ورجْع جَفني على عينيَّ، وقد كنتُ أعمل أمورًا أرجو أن تكون من صالح الأعمال، لعلَّ تردُّدي وتنقلي وبحثي عن الأديان يشغلني عن خيرٍ كنت أفعله، فيكون أجلي دون ما يطمح إليه أملي، أو يُصيبني في ترددي وتحولي ما أصاب الرجل الذي زعموا أنه عَلِق امرأةً ذات بعل وعلِقَته، فحفرت له من بيتها سَرَبًا إلى الطريق، وجعلت مخرجه عند حُبِّ الماء، تخوُّفًا أن يفاجئها زوجها أو أحدٍ وهو عندها، فبينما هي ذات يوم وهو عندها إذ بلغها أنَّ زوجها بالباب، فقالت للرَّجل: اعجل واخرُج من السَّرَب الذي عند الحُبِّ، فانطلق الرجل إلى ذلك المكان، فوافق الحُبَّ قد رُفع من ذلك المكان، فرجع إلى المرأة فقال: قد انتهيتُ إلى حيث أمرتِ فلم أجد الحب، فقالت المرأة: أيها المائق، وما تصنع بالحُبِّ؟ وهل سميته لك إلا لتستدل به على السَّرَب؟ قال: لم تكوني حقيقةً أن تذكريه لي فتغلِّطيني به، فقالت المرأة: ويحك! انجُ بنفسك، ودع التردد والحمق، فقال: كيف أذهب وقد خلطت عليَّ؟ فلم تزل تلك حالته حتى دخل زوجها فأوجعه ضربًا ثم رفعه إلى السلطان.

فلما خفتُ التردد والتحول رأيت ألا أتعرض لهما، وأن أقتصر على كلِّ شيءٍ تشهد العقول أنه بِرٌّ، ويتفق عليه كل أهل الأديان، فكففتُ يدي عن الضرب والقتل والسَّرقة والخيانة، ونفسي عن الغضب، ولساني عن الكذب وعن كل كلام فيه ضررٌ لأحد، وكففتُ عن أذى الناس والغيبة والبُهتان، وحصَّنت فرجي عنِ النِّساء، والتمست من قلبي ألَّا أتمنى ما لغيري، ولا أُحِبَّ له سوءًا، ولا أكذِّب بالبعث والحساب والقيامة والثواب والعقاب، وزايلتُ الأشرار بقلبي، وأحببتُ الصُّلَحاء جُهدي، ورأيتُ الصلاح ليس مثلَه قرينٌ ولا صاحبٌ، ومُكتَسَبه — إذا وفَّق الله له — يسيرٌ، وأصبتُه خيرًا على أهله، وأبرَّ من الآباء والأمهات، ووجدته يدلُّ على الخير، ويُشير بالنصح، فِعل الصديق بالصديق، ووجدته لا ينقص إذا أُنفق منه، بل يزداد على الإنفاق ويكثُر، ولا يَخْلَق على الابتذال والاستعمال، بل يجدُّ ويحسُن، ولا خوف عليه من السلطان أن يسلُبه، ولا من الآفات أن تُفسِده، ولا من النار أن تُحرِقه، ولا من اللصوص سَرَقًا، ولا من السباع افتراسًا، ولا من ذي حُمَةٍ لدغًا، ولا من الغارة، ولا من الجوائح. ووجدت الرجل الذي يزهد في الصلاح وعاقبته، ويُلهيه عن ذلك قليل ما هو فيه من الحلاوة العاجلة النفاد، إنما مَثَلُه فيما ذهبت فيه أيامُه مَثَلُ التاجر الذي زعموا أنَّه كان له جوهر كثير، فاستأجر لثقبه وعملِه رجلًا بمائة دينار يومه إلى الليل، فانطلق به إلى بيته، فلما جلسا إذا بصنجٍ موضوع، فنظر إليه، فقال له التاجر: أتحسِنُ أن تَضرب به؟ قال: نعم، قال: فدونك، فتناوله وكان به ماهرًا، فلم يزل يُسمِعه صوتًا حسنًا مصيبًا، وترك سَفَط جوهره مفتوحًا وأقبل عليه.

فلما أمسى قال: مُرْ لي بأجرتي، قال: وهل عملت شيئًا؟ قال: نعم، عملتُ ما أمرتني به، فوفَّاه أجرته، وبقي ما استأجره عليه غير معمول. فلم أزدد في أمور الدنيا نظرًا إلَّا أحدَثَ لي ذلك فيها زُهدًا، ورأيتُ أن أعتصم بالتأله والنُّسك، ووجدتهما اللذين يمهِّدان للعباد، كما يفعل بالمرء أبوه،٧ وشبَّهتهما الجُنَّة الحريزة في دفع الشر الباقي الدائم، ورأيتُهما الباب المفتوح إلى الجنَّة، ووجدتُ الناسك قد فكَّر فَعَلَتْهُ السكينة، وشكر فتواضع، وقنِع فاستغنى، ورضيَ فلم يهتم، وخلع الدنيا فنجا من الشرور، ورفض الشهوات فصار طاهرًا، وانفرد فكُفيَ الأحزان، وطرد الحسد فظهرت منه المحبة، وسَخت نفسُه عن كل شيءٍ فانٍ فاستكمل العقل، وأبصر العاقبة فأمِن من الندامة، ولم يُخِفِ الناس فأَمِنَ منهم، ولم يُذنب إليهم فسلم. فلم أزدد في أمر النُّسك تفكُّرًا إلا أحدث لي عليه حرصًا، فهممتُ أن أكون من أهله، ثم تخوَّفتُ ألَّا أصبِر على عيشهم، وأن ترُدَّني العادة التي جريتُ عليها وغُذِيتُ بها، ولم آمَن إن أنا خلعتُ الدنيا وأخذتُ في النُّسك أن أضعف عنه، وأكون قد رفضتُ أمورًا كنت أعملها قبله أرجو عائدتها، فأكون كالكلب الذي مرَّ بنهر وفي فيه ضِلَع، فرأى ظله في الماء فأهوى إليه ليأخذه، وترك ما كان معه فذهب، ولم يَنَلِ الذي طمِع فيه. فهِبْتُ النُّسك هيبة شديدة، فأحجمت عن الإقدام عليه، وخفت على نفسي من الضجر فيه وقلة الصبر عليه، ودعاني الهوى إلى الرضا بما كنتُ عليه من حالي في الدنيا والثبوت عليها، ثم بدا لي أن أقيسَ بين ما أُشفق ألَّا أقوَى عليه من الأذى والضيق في النُّسك وبين الذي يصيب صاحبَ الدنيا من البلاء فيها، فكان يتحقَّق عندي أنه ليس من شهواتها ولذَّاتها شيءٌ إلا وهو متحوِّلٌ مكروهًا وحُزنًا، وأنَّه كالماء المِلح الذي لا يزداد الظمآن منه شُربًا إلا ازداد به عطشًا، وكالعَظم المتعرِّق الذي يُصيبه الكلب فيجدُ فيه ريح لحم فلا يزال يلوكه، وكُلما ازداد له نهشًا زاد كدوحًا حتى يُدمِيَ فاه، وهو لا يُكثر التماسَه إلَّا جَرَحَه وأدماه، وكالحِدَأة التي تظفر بالبَضْعَة من اللحم، فتجتمع عليها الطير، فلا تزال في تعب حتى تلفظها وقد أعيت وتعبت، وكالكوزة من العسل في أسفلها سمٌّ، والذائق لها مُصيب منها حلاوة عاجلة وفي أسفلها موت زُعاف، وكأحلام النائم التي تُفرحه، فإذا استيقظ انقطع عنه ذلك، وكالبَرق الذي يُضيء قليلًا ويذهب وشيكًا، ويبقى راجيه في الظلام، وكَدُودة الأبريسَم التي لا تزداد على نفسها لفًّا إلا ازدادت تشبُّكًا، ومن الخروج بُعدًا.
فلمَّا فكَّرتُ في ذلك راجعتُ نفسي في اختيار النُّسُك وخاصمتها، فقلتُ: ما يجوز هذا، أن٨ أفرَّ من النُّسك إلى الدنيا، إذا فكَّرتُ في شرورها وأحزانها، ثم أهربَ منه إليها إذا تذكرتُ ما فيها من الضيق والمشقة، فلا أزال في تصرف وفي تقلب لا أُبْرِمُ رأيًا ولا أعزِمُ عليه، فصرتُ كحديرون قاضي مرو٩ الذي سمع من أوَّل الخصمين فقضى على الآخر، ثم سمع من الآخر فقضى له على الأول، فنظرتُ إلى الذي يتكاءدُني من أذى النُّسك وضيقه، فقلتُ: ما أصغر هذا في جنب رَوح الأبد وراحته! وفكَّرتُ فيما تَشْرَهُ إليه النفس من اللهو واللذة، فقلتُ: ما أوخَمَه مع ما يُتخوَّف من العذاب والهوان! فكيف لا يستحلي الإنسانُ مرارةً فانيةً قليلةً تورثه حلاوةً كثيرةً باقيةً.

ولو أنَّ الرجل عُرِض عليه أن يعيش ألف سنة، لا يأتي عليه يومٌ إلا بُضِع لحمُه، غيرَ أنه شُرِط له أنه إذا استوفاها نجا من الألم والمشقة، وصار إلى الأمن والسرور، كان حقيقًا ألا يراها شيئًا، فكيف لا يصبر على أيام يسيرة وأذًى حقير يُصيبه في الدنيا؟ أوَ ليس إنما الدنيا كلها عذابٌ وبلاءٌ؟ فإن الإنسان يتقلَّب في ذلك من حينِ يكونُ جنينًا إلى أن يستوفي أيامه، فإنَّا نجد في كتب الطب أن الماء الذي يُقدَّر منه الولد السوي إذا وقع في رحم المرأة اختلط بمائها ودمها، فخثَر وغلُظ، فمخضته الريح حتى يصير كماء الجُبن، ثم يصيرُ كاللبن الرائب، ثم تنقسِمُ أعضاؤه لإبَّان أجله، فإن كان ذكرًا فوجهه قِبَل ظهر أمه، وإن كانت أُنثى فوجهها قِبل بطنها، ويداه على وجهه، وذقنه على ركبتيه، مقبَّض في المشيمة كأنه مصرور في صُرَّة، وهو يتنفس من متنفَّس شاقٍّ عليه، وليس منه عضو إلا كأنه في وثاق، فوقه حرُّ البطن وثِقَله، وتحته ما تحتَه، منوطٌ قِمع سُرَّته إلى مريءٍ بأمعائها، يمصُّ به من طعامها وشرابها، وبذلك يعيش ويحيا، فهو بهذه المنزلة وعلى هذا الحال إلى يوم ولادته. فإذا كان إبَّان ذلك سُلِّطت الريح على الرحِم، وقويَ على التحريك، فيتصوَّب رأسه قِبَل المخرج، فيجد من ضيقه مِثلَ ما يجد صاحب الوهق من عصره، فإذا وقع على الأرض فأصابته ريح أو مسَّته يد، وجد لذلك من الألم ما يجد الإنسان الذي قد سُلِخ جلده، ثم هو في ألوان العذاب إذا جاع وليس به استطعام، أو عطش وليس به استسقاء، أو اشتكى وليس به استغاثة، مع ما يلقى من الوضع والرفع واللف والحل والدهن والمسح. وإذا أُنيم على ظهره أو بطنه لم يستطع تقلبًا ولا تحوُّلًا، مع أصناف من العذاب ما دام رضيعًا؛ فإذا هو أفلَت من ذلك أُخِذَ بالأدب، وأُذيق منه فنونًا وألوانًا، ثم الدواء والحِمية، والأوجاع والأسقام، وغير ذلك؛ فإذا هو أدرك فهمُّه المالُ والأهلُ والولدُ، وتَعَبُ الشرَه والحرص والمخاطرة والسعي، ومجاهدةِ العدو، وفي كل ما وصفتُ يتقلب معه أعداؤه الأربعة، من المِرَّة والبلغمِ والدمِ والريح، والسم المميت والهوام والسباع والناس، والحر والبرد والأمطار والرياح، وألوان مكاره الهرَم لمن بلغه، فلو لم يخَف من هذه الأمور شيئًا، ووُثِق له بالسلامة منها، وكان حقيقًا ألا يُفَكِّر إلا في الساعة التي يحضره فيها الموت، ويفكِّر فيما هو نازلٌ به عندها من فراق الأهل والأحبة والأقارب، وكل مضنون به ومرغوب فيه، والإشراف على الهول العظيم الفظيع المهول بعد الموت؛ لكان حقيقًا أن يُعدَّ عاجزًا مفرِّطًا واهنًا، إن لم يُعِدَّ لذلك، ويتأهب لفجأته قبل حلوله ونزوله بعَقْوته، ويرفض ما يشغله ويُلهيه من شهوات الدنيا وشرورها، لا سيما في هذا الزَّمان الهرم البالي الشبيه بالصبُابة والكَدَر، فإنه وإن كان الله تعالى قد جعل الملك سعيد الأمر، ميمونَ النقيبة، حازمَ الرأي، بعيد المقدرة، رفيع الهمة، بليغَ الفحص، عدلًا برًّا جَوادًا صادقًا شكورًا رحْب الذراع، متفقِّدًا للحقوق، مواظبًا فَهِمًا حليمًا رءوفًا رحيمًا، عالمًا بالناس، محبًّا للخير وأهله، شديدًا على الظَّلَمَة، مُوَسِّعًا على رعيته، فإنَّا نرى الزمان مُدبِرًا بكل مكان، حتى كأنَّ الفضل قد وُدِّع، وأصبح مفقودًا ما كان عزيزًا فقده، موجودًا ما هو ضارٌّ لمن ظفر به، وكأَنَّ الخيرَ أصبح ذابلًا والشر نضيرًا، وكأنَّ الغيَّ أقبل ضاحكًا، وأدبر الرشد باكيًا، وكأنَّ العدل أصبح غابرًا، وأصبحَ الجور غالبًا، وكأنَّ العلم أصبح مستورًا، وأصبح الجهل منشورًا، وكأنَّ اللؤم أصبح آمرًا، وأصبح الكرم موطوءًا، وكأنَّ الوُدَّ أصبح مقطوعًا، وأصبح الحِقدُ موصولًا، وكأن الكرامةَ قد سُلِبت من الصالحين وتوخِّي بها الأشرار، وكأنَّ الغدر أصبح مستيقظًا وأصبح الوفاء نائمًا، وكأنَّ الكذب أصبح غضًّا والصدق قاحلًا، وكأن الحق ولَّى عاثرًا وأصبح العُدوان قد جرى سبيله، والإنصاف بائسًا والباطل مُستعليًا، والهوى بالحكَّام مُوَكَّلًا، والمظلومُ بالخسف مُقِرًّا، والظالمُ لنفسه فيه مُستطيلًا، والحرصُ فاغرًا فاه يتلقف من كل جهة ما قرُب منه وما بعُد عنه، والرِّضا مجهودًا مفقودًا، والأشرارُ يُسامُون السماء، والأبرار يريدون بطن الأرض، وأصبحت المروءةُ مقذوفًا بها من أعلى شرف إلى أسفل مهواة، والدناءة مكرَّمةً والرفعة مَجْفُوَّة والسلطانُ مُتنقلًا من أهل الفضل إلى أهل النقص، والدنيا جذِلة مسرورة تقول: قد غُيِّبت الحسنات وأُظهرت السيئات.

figure

فلمَّا فكرت في أمر الدنيا، وعلمتُ أنَّ هذا الإنسان هو أشرفُ الخلق وأفضله فيها، ثم هو على منزلته لا يتقلَّب إلَّا في شرٍّ ولا يوصف إلا به؛ علمتُ أنه ليس من أحدٍ له أدنى عقل يفهمُ هذا ثم لا يحتاطُ لنفسه ولا يعمل لنجاتها، ويلتمسُ الخلاص لها إلا وهو ضعيفُ الرأي قليلُ المعرفة بما عليه وله، ونظرتُ فإذا هو لا يمنعه من ذلك إلا لذةٌ حقيرةٌ يسيرةٌ من المشرب والمطعم والشم والنظر والسمع واللمس، لعلَّه يُصيب منه طفيفًا لا يوصف، سريعٌ انقطاعُه وامتحاقُه وزواله. فالتمستُ له مثلًا فإذا مثله مثل رجل ألجأه الخوف إلى بئر تدلَّى فيها وتعلَّق بغصنين نابتين على شُفرها، فوقع رجلاه على شيء عَمَدَهما، فنظر فإذا هو بأربع أفاعٍ قد أطلعن رءوسهن من أجحِرتهن، ونظر إلى أسفلها فإذا هو بتنينٍ فاغرٍ فاه نحوه، ورفع بصره إلى الغصنين فإذا في أصولهما جُرذان أبيضُ وأسودُ يقرضانهما دائبَيْن لا يفتُران، فبينما هو على ذلك يهتمُّ بالحيلة لنفسه إذ نظر فإذا قريبٌ منه كُوارةُ نحل فيها شيء من عسل، فتطعَّم منه واشتغل بحلاوته عن التفكر في أمره، ونسي الحيَات الأربع التي رجلاه عليها ولا يدري متى يثُرن به أو إحداهن، ولم يذكر أنَّ الجُرذين دائبان في قطع الغصنين، وأنهما إذا قطعاهما وقع في فم التنين فهلك، فلم يزل لاهيًا ساهيًا حتى هلك.

فشبَّهت البئر بالدنيا المملوءة آفاتٍ وشرورًا ومخاوفَ ومتالفَ، وشبَّهتُ الحيَّات الأربع بالأخلاط الأربعة التي تعمَّدت الإنسان، ومتى يَهِجْ منها شيء فهو كالحُمَة من الأفعى والسمُّ المميت، وشبَّهت الغصنين بالحياة، وشبَّهت الجرذين بالليل والنهار، وقرضهما دأبهما في إنفاذ الآجال التي هي حصون الحياة، وشبَّهت التنين بالموت الذي لا بدَّ منه، والعسلُ هذه الحلاوة القليلة التي يصيبها الإنسان فتشغله عن نفسه، وتُلهيه عن التحيُّل لخلاصه، وتصُدُّه عن سبيل نجاته.

فصار أمري إلى الرضا بحالي، وإصلاح ما استطعت من عملي لمعادي؛ لَعلِّي أصادف فيما أمامي زمانًا فيه دليلٌ على هداي، وسلطانٌ على نفسي، وأعوانٌ على أمري، فأقمتُ على ما وصفتُ من حالي، وانصرفتُ من أرض الهند إلى بلادي،١٠ وانتسخت من كتبهم كتبًا كثيرة، ومنها هذا الكتاب.
١  تتفق النسخ على أنَّ هذا الباب من وضع بزرجمهر، وتتفق في سياقه وعباراته أكثر مما تتفق في البابين السابقين، ونسخة شيخو تضعه بعد «باب بعثة برزويه»، وقبل «عرض الكتاب لابن المقفع»، والنسخ الأخرى تضعه بعد «عرض الكتاب»، وتضع هذا بعد «باب بعثة برزويه» (انظر المقدمة).
٢  في النسخ الأخرى أنَّ أبويه أسلماه إلى المؤدب وعمره سبع سنين، فلمَّا حذق الكتابة نظر فاختار الطب.
٣  في النسخ الأخرى: «وفوقي في المال والجاه وغيرهما مما لا يعود بصلاح ولا حسن سيرة قولًا ولا عملًا.»
٤  مَثَل الذُّبالة ليس في النسخ الأخرى.
٥  من قوله: «فلمَّا خاصمت نفسي» إلى قوله: «فلما رأيت ذلك لم أجد إلى متابعة أحدٍ منهم سبيلًا» ناقص في النسخ الأخرى إلَّا نسخة شيخو، وكأنه حُذِف لما فيه من الكلام عن الأديان وغيرها، ولهذا يرى بعض الناس أنَّ هذا الباب كله من وضع ابن المقفع أراد أن يشكك به الناس في الدين (انظر المقدمة).
٦  كلمة «الذي» هنا تُشبه أن تكون ترجمة الكلمة «كه» الفارسية، وهي تكون بمعنى الذي، وتأتي للتعليل والتفريع، وينبغي أن يكون موضعها هنا: «فقد زعموا»، وفي النسخ الأخرى: «زعموا فيه» أو «في شأنه» وهذا تصحيح للجملة بذكر الضمير العائد على الموصول لتوافق النحو العربي.
٧  في النسخ الأخرى: «كما يمهِّد الوالد لولده»، وكأنها توضيح للجملة التي في نسختنا.
٨  هذه العبارة تشبه العبارة الفارسية التي يؤتى فيها باسم الإشارة ثم الموصول مفسِّرًا له: «آن كه.»
٩  ليس في النسخ الأخرى تسمية القاضي ولا المدينة، ولم نجد اسم هذا القاضي في كتب الأدب العربية والفارسية.
١٠  في نسخة اليازجي: «فأقمت على هذه الحال، واتجهت إلى بلاد الهند في طلب العقاقير والأدوية، ثم عدت إليها في انتساخ هذا الكتاب وانصرفت منها إلى بلادي»، وهو كلامٌ له خطره في الدلالة على معرفة برزويه ببلاد الهند وذهابه إليها من قبل (انظر المقدمة، باب بعثة برزويه).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤