ماذا يحدث فيما يسمونه الشرق الأوسط؟١

سافرت إلى إيران ثلاث مرات قبل ثورة الخميني، كنت لا أزال مسئولة عن الثقافة الصحية في وزارة الصحة المصرية، وكانت العلاقات بين مصر وإيران جيدة، وتأتي دعوات لنا كأطباء وطبيبات للمشاركة في مؤتمرات طبية بإيران، أول مرة سافرت إلى طهران، تركت المؤتمر الرسمي كعادتي وحضرت مؤتمرًا آخَر غير رسمي، قابلت فيه بعض المعارضين لشاه إيران، ومنهم الكاتب جلال آل أحمد.

قال لي يومها: إسرائيل تحصل على بترولنا في إيران، وتضرب الشعب الفلسطيني بالنار، نحن مع فلسطين ضد إسرائيل وضد شاه إيران، هذا كلام خطير، أعرف أن بوليس الشاه (السافاك) يسجِّله.

في الزيارة الثانية لإيران (بعد عام واحد من الزيارة الأولى)؛ أي قبل ثورة الخميني بعامين، حاولت أن أقابل جلال آل أحمد، ذهبت إلى بيته سيرًا على الأقدام، قابلتني زوجته مرتدية الحداد، قالت إن جلال آل أحمد مات في ظروف غامضة، ثُمَّ أطبقتْ شفتيها، دعتني إلى فنجان شاي وحكتْ لي، كتبتُ مقالات في مجلة «المصور» بالقاهرة عن الإيراني جلال آل أحمد، وعرضتُ بعض كتاباته. في الزيارة التالية لإيران رفضت السفارة الإيرانية بالقاهرة إعطائي تأشيرة لدخول إيران، إلا أنني ركبت الطائرة مع زملائي الأطباء وسافرت إلى طهران، في المطار أخذت التأشيرة مع بعض الأطباء من بلاد أخرى لم يحصلوا على التأشيرة لضيق الوقت، وقلت للمسئول في المطار دون أن تطرِف لي عين: لم أحصل على تأشيرة في القاهرة لضيق الوقت وضرورة السفر لحضور المؤتمر الطبي، دون أن ينظر إليَّ، رفع مِطرقته إلى أعلى ثُمَّ هوى بها على جواز سفري بالتأشيرة للدخول، ولم يكن هناك كومبيوتر في ذلك الوقت لحسن الحظ.

في هذه الزيارة لإيران قابلت أعدادًا من المعارضين للشاه، من شباب وشابات الجامعة في طهران، كانوا يعقدون اجتماعات سرية بعيدة عن عيون السافاك، وكانت إيران حبلى بالثورة، والمظاهرة الشعبية لا تكفُّ، ومنها مظاهرات الشباب والشابات في كل أنحاء إيران.

كان ذلك قبل الثورة الخومينية بعام واحد، وكانت الطالبات يرتدين الملابس العادية، مثل طالبات جامعة القاهرة خلال الستينيات وأوائل السبعينيات، قبل ظهور التيارات الإسلامية الأصولية في مصر، التي نشأت بتشجيع من أنور السادات والحكومة الأمريكية لضرب التيارات الناصرية والاشتراكية، والتي سُمِّيَت بالشيوعية.

كانت الشيوعية (والاتحاد السوفياتي) هي العدو الأوَّل للحكومة الأمريكية، وقد حمل جمال عبد الناصر لقب «شيوعي» لمجرد أنه سعى لتأميم قناة السويس، كذلك حمل «مصدق» في إيران لقب «شيوعي»؛ لأنه سعى لتأميم البترول.

وتم التخلُّص من مصدق، وعُزل عن الحكم، وعاد شاه إيران إلى عرشه بالقوة الأمريكية.

وتم التخلُّص من عبد الناصر، وواجه الهزيمة الكبرى في حرب يونيو ١٩٦٧ والتي مات بعدها مسمومًا أو غير مسموم، وجاء أنور السادات، ودخلت مصر تحت السيطرة الأمريكية، وانفصلت عن محيطها العربي والأفريقي الآسيوي.

زادت الهيمنة الأمريكية الإسرائيلية في المنطقة التي أصبح اسمها الشرق الأوسط، وتم تجنيد الشباب من المنطقة تحت اسم الجهاد الإسلامي لمكافحة الشيوعية في أفغانستان.

ظهر إلى الوجود ظاهرة القوى الأصولية الإسلامية، وأسماء جديدة مثل أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة، والطالبان في أفغانستان، والجماعات الإسلامية في مصر والسودان والجزائر وتونس والأردن وسوريا وغيرها.

مع ظهور هذه التيارات بدأت ظاهرة الحجاب تنتشر في مصر والبلاد الأخرى، حين كنت طالبة بكلية الطب جامعة القاهرة في منتصف الخمسينيات لم تكن هناك طالبة واحدة محجبة، ولكن في منتصف السبعينيات حين كانت ابنتي طالبة بجامعة القاهرة كانت ظاهرة الحجاب قد انتشرت بين الطالبات بنسبة ٣٠٪ تقريبًا، وظلت تتزايد حتى الثمانينيات والتسعينيات، حين أصبح المحجبات في كلية الطب مثلًا هن الأغلبية.

أمَّا الآن، في هذا العام ٢٠٠٥، فقد تراجعت ظاهرة الحجاب في مصر، وإن تطورت إلى ظاهرة أخرى، هي الحجاب الحديث على شكل إيشارب يغطي الشعر، مع الكحل وأحمر الشفاه وأحمر الخدود، والبنطلون الجينز الأمريكي الضيق، والكعب العالي الرفيع المدبب.

أصبحت الفتيات المصريات يتمشين على كورنيش النيل بهذا الزي الإسلامي الأمريكي، يغازلن الشباب بجرأة جديدة طارئة على المجتمع المصري، مع هبوب رياح الديمقراطية والسوق الحرة والخصخصة، ودخول مصر في فلك العصر الحديث.

في إيران أيضًا تغيَّرت الأحوال كما حدث في مصر والجزائر وتونس والأردن وغيرها من البلاد في الشرق الأوسط في بداية القرن الحادي والعشرين.

رأيت صورة للشابات الإيرانيات وهن يتجمعن في مسيرة بشوارع طهران يوم المرأة العالمي ٨ مارس، اختفى الشادور، وظهر الإيشارب الملون الأنيق الذي ينحسر عن نصف الرأس كاشفًا عن مساحة من الشعر الأسود الناعم، وأصبحت الشفاه مصبوغة باللون الأحمر، والعيون مكحلة، والصدور نافرة تحت البلوزة الضيقة.

وفي دراسة طبية (هذا العام) عن العلاقات بين الجنسين في إيران تم الكشف عن تزايد العمليات الجراحية لإعادة العذرية لطالبات الجامعات والمعاهد، وظهور أنواع جديدة من الممارسات الجنسية قبل الزواج مع الاحتفاظ بالعذرية، ومنها الممارسات السطحية أو السحاقية وغيرها، وتقول الدراسة إن هؤلاء الشابات الإيرانيات يتمزَّقن نفسيًّا، يتخبَّطن بين التناقضات الأخلاقية والتجارية، تُفرَض عليهن العفة تحت اسم الأخلاق، ويُفرَض عليهن التفرُّج والاستهلاك والتهتُّك تحت اسم السوق الحرة والأمركة والحداثة.

وهناك أيضًا حالات العنف والاغتصاب، مع تزايد الفقر والبطالة، وتفاقم اليأس في نفوس الشباب مثل غيرهم في هذه المنطقة الساطعة بالتدريج تحت الهيمنة الرأسمالية وحرية السوق، مع الاحتفاظ بالتقاليد القديمة النابعة من الدين أو الثقافة.

رغم مرور أكثر من ثلاثة عشر قرنًا على مقتل الإمام الحسين، فإن التقليد في يوم عاشوراء لا يزال كما كان بين أهل الشيعة؛ إذ يمسك الرجال سيوفهم، يضربون صدورهم حتى تنزف الدماء، حزنًا على مقتل الإمام الحسين الشهيد، منذ ألف وثلاثمائة عام وأكثر.

وفي تاريخ إيران مثل غيرها من البلاد حوادث عنف منذ نشوء ما عُرف باسم الحكم أو الدولة؛ الشاه عباس الأوَّل الذي أنشأ مدينة أصفهان في القرن السابع عشر، تآمر وقتل ابنه الأكبر بسبب الطمع في الحكم، وفقأ عيني ابنه الثاني للسبب ذاته، أمَّا ابنه هذا الأعمى فقد تآمر لقتل ابنته، وتدور حلقة القتل في دائرة الأسرة الواحدة كأنما العنف موروث في الدم منذ نشوء الحكومات في التاريخ البشري، حتى حكومة جورج بوش الابن في عصرنا هذا.

وعاشت إيران ثمانية أعوام من العنف وسفك الدماء، في الحرب التي وقعت بينها وبين العراق، قُتل فيها آلاف الشباب من البلدين، انتهت الحرب عام ١٩٨٨ بهزيمة البلدين معًا، ونزفهما الدماء مع الموارد المادية والمعنوية، انتصر في هذه الحرب الحكومة الأمريكية والإسرائيلية وحلفاؤها في أوروبا، كان الهدف من الحرب إضعاف العراق وإيران تمهيدًا لغزوهما والاستيلاء على بترولهما؛ ولهذا تم تسليحهما على قدم المساواة بمثل ما تم تسليح الطالبان والقاعدة وبن لادن.

وقد دخلت إيران «محور الشر» في نظر جورج بوش مع غريمتها العراق، وتم غزو العراق واحتلالها عام ٢٠٠٣، وتصوَّر جورج بوش أنه انتصر على العراق بعد أن دخل جيشه بغداد، وتصوَّر أن الشعب العراقي سوف يقابله بالورود فرحًا بالتخلُّص من صدام حسين، وليس بالرصاص والضرب بالنار.

ورأينا فوق شاشة التلفزيون تمثال صدام حسين وهو يميل إلى الأرض ساقطًا، وبعض رجال يصفِّقون على نحو مسرحي، وامرأة أنيقة عراقية تعيش في لندن أو نيويورك تعلن أن جورج بوش حرَّرَ نساء العراق من الدكتاتور الطاغي، وسوف يتمتع الشعب بالديمقراطية!

إلا أن الديمقراطية لم تأتِ للشعب العراقي، بل الاحتلال الأجنبي والفتن الطائفية وشركات أمريكية إسرائيلية تستولي على البترول، وتنهب موارد العراق تحت اسم الإعمار وإعادة البناء، وأصبحت النساء العراقيات ضحايا الصراع بين المذاهب والطوائف، وتغيَّر قانون الزواج ليزيد من قهرهن وخضوعهن لسيطرة الزوج ورجال الأسرة.

أفرزت الانتخابات المفروضة تحت بنادق الاحتلال الأمريكي عن حكومة شيعية في العراق، تُعلن منذ البداية أنها سوف توقف عمليات المقاومة، أو ما يُطلَق عليه الإرهاب، ولا زال المستقبل غامضًا ينبئ بمزيد من الدماء.

يقول التاريخ إنَّ الشُّعوب التي تقاوم الظلم والعبودية لا يمكن أن تنهزم؛ فهل يستمر الشعب العراقي في المقاومة؟

وهل يبدأ الشعب الإيراني في مقاومة الإمبراطور الأمريكي؟ وهل يستيقظ ضمير الأمم المتحدة فتعلن الانضمام إلى الشعوب المقهورة وليس إلى الحكومات؟

لا أحد قادر على اكتشاف ما يحدث في المستقبل إلا القوى الشعبية المنظمة القادرة على الأمل والتفاؤل؛ فهل تتوحَّد القوى الشعبية في بلادنا العربية ضد القهر الخارجي والداخلي معًا؟! لا بد!

١  فبراير ٢٠٠٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤