الفصل السابع

أين يمكن إحياء الابتكار؟

فحص مواقع الإنقاذ المحتملة

في حين أن التطبيق الشخصي الذي يُحَدِّدُ البؤر الإجرامية الساخنة (الذي سبقت الإشارة إليه في مقدمة الفصل الثالث) هو اختراع حديث نسبيًّا، فإن فكرة رسم خرائط للمواقع التي ترتكب فيها الجرائم بصورة متكررة ليست جديدة. فقد ظهر أثر التحليل الإحصائي في علم الجريمة لأول مرة مع ملاحظات كيتليه عام ١٨٤٢، متمثِّلًا في أن بعض المناطق في فرنسا ترتفع بها معدلات الجرائم أكثر من غيرها. ومؤخرًا في مينيابوليس، أظهر تحليل شامل لعدد ٣٢٣ ألف مكالمة أُجريت للشرطة أن عددًا قليلًا من البؤر الساخنة (ما يعادل ٣٪ من المدينة) أطلق ما يعادل ٥٠٪ من إجمالي الاستنجادات بالشرطة.1

من المفترض أن تتراجع معدلات جرائم الإبداع كثيرًا إذا أمكن إرسال المنقذين لكافة مناطق المؤسسة، وتحديدًا إلى ما تُعْرَف بأنها «بؤر ساخنة»، وإذا ما كانت وسائل الإنعاش في متناوَل اليد في كل وقت. وفي المقابل، ينبغي الارتقاء بالمواطن المحتملة للتنمية الإبداعية وتقديرها على نطاق واسع داخل المؤسسة. وعلى الإبداع أن يكون حرًّا ليتحرك في جميع أرجاء المؤسسة خلال التعاون بلا «صوامع».

إنَّ الصلة المشتركة بين الإبداع والابتكار الفائق تؤدي في كثير من الأحيان إلى وقوع التباس حول المكان المناسب للإبداع في المؤسسة. فيفترض أغلب الناس أنه رغم أن قتلة الإبداع يُمْضُون أوقاتَهم في مناطق ذات بِنًى محكمة بالمؤسسة مثل قسم الحسابات، فإنه يجب ألا يُطبق الإبداع هناك. في الحقيقة، يقول ما يقارب اﻟ ٨٠٪ من المديرين إنهم لا يرغبون في تطبيق الإبداع في قسم الحسابات بمؤسساتهم.2 وعندما أخبرْنا صديقًا مقربًا لنا، يعمل مُراقبًا جويًّا، أننا بصدد تأليف كتاب عن التفكير الإبداعي، أجابنا على الفور قائلًا: «من عساه أن يشتري كتابًا حول هذا الموضوع؟!» فبالنسبة له، ليس هناك مكان للإبداع في عملٍ يُعْنَى بالدقة المبنية على حقائق. ربما لم يدرك ما يَعْجِز الكثير من الناس عن رؤيته، وهو أن الإبداع يمكنه أن يُحْدِث فروقًا جوهرية في أي مؤسسة، وفي أي مجال من مجالات المؤسسة. وحتى بالنسبة للمراقبين الجويين، يمكن تحسين إجراءات جداول الخدمة، وتعزيز أساليب العمل، وتغيير العمليات الإدارية. وهذا الصديق نفسه أعرب عن ضيقه قبلها بفترة قصيرة من عدم تغيير نهج الإدارة قط، ومن مدى تعصب هذا النهج وقِدَمه. فتلك هي الأماكن التي يمكن للتفكير الإبداعي أن يُحدث فيها فارقًا جوهريًّا.

(١) بناء مستنبتات للابتكار – عودة إلى مكتب المدير والكافيتريا

إذا كانت هناك بؤر ساخنة يَقْضِي فيها المجرمون أوقاتهم، فهناك أيضًا مُسْتَنْبَتَات يعيش فيها الإبداع غالبًا. ومن قبيل السخرية — كما يعلم كثير من الناس — أن يزدهر الإبداع عادةً حول مُبَرِّد المياه في الممرات أو في الكافيتريا، لا في أماكن «العمل» القائمة رسميًّا بالمؤسسة. وربما يفسر هذا الأمر لماذا هي مستنبتات للإبداع؛ لأنه هناك يتقابل الناس ويتحدثون بلا رسميات، حيث يكونون في حالة من الاسترخاء وبعيدًا عن مسامع العناصر المتسلطة، مثل التحكم والضغط والخوف، الذين ربما يعتقدون أن هذه الأماكن ليست محلًّا للقيام بدوريات فيها.

يتعيَّن على مصممي أماكن العمل المهرة أن يُولُوا اهتمامهم لإنشاء بيئات تعزز الإبداع. والعوامل التي يجب أخذها بعين الاعتبار عند تصميم أماكن العمل تتضمن:3
  • إنشاء مساحات للمناقشات غير الرسمية (على سبيل المثال، أماكن واسعة وغير رسمية لعقد الاجتماعات ولاحتساء القهوة).

  • التخطيط لإحداث تقارب مكاني بين الإدارات لتعزيز التواصل فيما بينهم.

  • تجنب إنشاء المكاتب الكبيرة التي تفتقد إلى الدفء وروح الوُدِّ والألفة ولذا ربما تثبِّط المناقشات غير الرسمية.

يمكن كذلك توفير بيئات اجتماعية إيجابية من شأنها تشجيع الابتكار من خلال:
  • استراحة مشتركة لتناول الغداء توفر فرصًا جيدة للتواصل بين الموظفين في الأقسام المؤسسية المختلفة.

  • وضع جداول أعمال تسمح بالتفاعل وتحث عليه.

يدرك القادة الأذكياء أن بيئة العمل يمكن أن تُخْمِد الإبداع، ولذا يحرصون على استمرار الأفراد في التركيز على التنمية الإبداعية. إذ يقضي الخبير الإداري جيم كولينز عن عمد ٥٠٪ من وقته فحسب في المهام الإدارية. ولضمان الحفاظ على تركيزه وقدرته على الإبداع، يرفض العديد من فرص إلقاء المحاضرات، والوظائف الاستشارية، وحتى إغراء توسيع شركته. فهو يُصِرُّ على هذا المبدأ الأساسي، فيدوِّن كلَّ شيء يفعله حتى نومه. فهو يعلم أنه في تلك الأوقات التي يشتغل فيها بمهام إدارية فوق طاقته، يتأثر تفكيره الإبداعي وقدرته على التركيز على تطوير أفكار جديدة والبحث عنها.4
ستحتاج مؤسسات المستقبل أن تعمل بجد أكبر من أجل إدخال البُعدية المتزايدة محل العمل، وتعزيز المزيد من التفكير الإبداعي. فتجسد شركة استشارات التصميم والابتكار بشيكاجو، آيديو، الطريقة التي تحتاج بها بيئات العمل إلى أن تتطور من أجل دعم التطوير الابتكاري. وهناك في هذا المكتب استوديو مفتوح يحاط بغرف المشروع، موضحًا المبدأ وهو أن التفكير المتفتح جنبًا إلى جنب مع إجراء التجارب قد يُؤَدِّيان إلى نتائج عملية إيجابية. يُشجع التصميم المفتوح التعاون بين الأفراد، إذ يُنظر إلى الاستوديو على أنه المساحة التي يمكن للموظفين من مختلف التخصصات — مثل المهندسين والمصممين وواضعي استراتيجيات الأعمال والمبرمجين — أن يتعاونوا معًا بشكل فعَّال. ويتضمَّن مبنى شركة آيديو أيضًا كافيتريا مركزية، جنبًا إلى جنب مع منطقة منتديات، وورشة عمل للنماذج الأولية المخصصة، فضلًا عن حديقة مفتوحة على سطح المبنى توفِّر التركيز المشترك وتُحفز الخيال.5
في الماضي، كانت الشركات تُقَدِّرُ الضوابط المحكمة التي تصدر من أعلى إلى أسفل. بينما الآن، أكثر الأمور أهمية هو حشد الموارد من أجل الابتكار وريادة الأعمال. ونتيجة لذلك، يزعم بروفيسور الإدارة بجامعة هارفرد كريستوفر بارتليت أنه يجب إحداث تحول في السلطة لتمكين الأشخاص في المستويات الدنيا في المؤسسة؛ لأن أحدث الأفكار تأتي دائمًا من العقول الشابة الأكثر ذكاءً. فيقول: «هناك اتجاه نحو إقامة مؤسسة ذات تمكين أكثر بكثير6 حيث يكون عليك أن تنقل السلطة إلى الأشخاص الذين لديهم معرفة بالتكنولوجيا ويفهمونها، وإلى من هم أقرب للعملاء والقادرين على تطوير الأفكار.»7
ذُكر عن ستيف بالمر — الرئيس التنفيذي لموقع إم إس إن — في مقال في صحيفة «سيدني مورنينج هيرالد»، أنه قال لقادة أعمال استراتيجية الشركة أن «يُمَنْهِجُوا الابتكار»،8 ولكن آلان نوبل — وهو مهندس أسترالي خبير يعمل لدى جوجل — تحدى هذا المنهج للابتكار وقال: «ما قدمه بالمر كان إلى حد بعيد استجابة لموقفه الإداري حيث تسري السلطة من أعلى إلى أسفل؛ فالأمر أشبه بردة فعل لقوله: «نحن بحاجة إلى الوقوف على كيفية الابتكار بشكل أفضل». فلو كان الابتكار محوريًّا للغاية في ثقافتك، فليس هناك ما يمكن منهجته. إنه هناك، كالهواء الذي تستنشقه؛ فأنت تبتكر لتبقى … ذاك هو ما تقوم به.»

وتَمْضِي المقالة لتوضح بعض الاستراتيجيات غير العادية التي استخدمتها جوجل لضمان أن يصير الابتكار جزءًا من النظام. ويتضمَّن هذا تخصيص ٢٠٪ من وقت مهندسيها للتصميم (جاءت خدمة جوجل للبريد الإلكتروني القائمة على شبكة الويب من أفكار اكتشفوها خلال ذلك الوقت)، وإلغاء مركزية مرافقهم البحثية (حوالي ٤٠ من تلك المرافق تم تأسيسها في دول أخرى؛ الأمر الذي يجنِّب الروتين، ويعزز توليد الأفكار بسرعة أكبر). فتوفر تلك الاستراتيجيات المزيد من الاستقلالية والمرونة، وتَضْمَن توارد الأفكار الجديدة من كافة المستويات.

هناك إعلان آخر مدهش من شِل يكشف لنا كيف يمكن تطبيق ذلك فعليًّا، نصه فيما يلي:
هل تبصر عيناك حلولًا في أماكن مستبعدة؟ شاهد مهندسًا يعمل في شِل، اسمه ياب فان بوليجويجين، ابنه الصغير وهو يشرب الحليب المخفوق، ويستخدم ماصة مرنة مقلوبة لكي يصل إلى كافة قطرات الشراب في الكوب الزجاجي. وبعدها، اختُرع مثقاب استخراج النفط من الأماكن التي يصعب الوصول إليها. فالتفكير الملهم والابتكار وحتى شطحات الخيال كلها أجزاء من حياتنا اليومية في شِل.9

ليس الأمر أننا نفقد إبداعنا عندما نصبح بالغين، وإنما نفقد — فيما يبدو — ثقتنا الإبداعية، ونتيجة لذلك فإننا نلجأ للعمل بجدٍّ أكبر لاستردادها. وفي عالم البالغين، لا تُشيد البيئات والفرص المناسبة لكي يزدهر الإبداع، إذ علينا أن نعكس هذا الترتيب لكي نضمن أننا بإمكاننا جميعًا مجاراة متطلبات المستقبل.

(١-١) موقع الإنقاذ المحتمل الأول: مكتب المدير

يحدد استطلاع للرأي أجرته شركة آي بي إم10 الصفات التي تميِّز القادة المبدعين (تلك الصفات التي ترتبط بشكل وثيق مع استراتيجياتنا السبع). وتشير نتائج الاستطلاع إلى أن القادة المبدعين:
  • يتوقعون إجراء المزيد من التغييرات لنموذج الأعمال بغية تحقيق استراتيجياتهم (الاستراتيجية الأولى: غرس الفضول).

  • يشعرون بالراحة في التعامل مع الغموض (الاستراتيجية الثانية: تقبل الغموض).

  • يبتكرون نماذج أعمال جديدة تقوم على افتراضات مختلفة كليةً (الاستراتيجية الثالثة: إطلاق العِنان للخيال).

  • يزيد مستوى ابتكارهم عن نظرائهم (الاستراتيجية الرابعة: استخدام شِقَّي المخ).

  • يُرَحِّبون بالابتكار الهدام (الاستراتيجية الخامسة: إعادة صياغة المفاهيم الشائعة).

  • يتأمَّلون السبل التي لم يَسْمَعْ بها أحد من قبلُ سعيًا وراء تغيير المؤسسة (الاستراتيجية السادسة: استكشاف مسارات مختلفة).

  • يَتَحَلَّوْنَ بالإبداع ولديهم ما يكفي من البصيرة لاتخاذ قرارات من شأنها تبديل الوضع الراهن (الاستراتيجية السابعة: تبني التفاؤل).

وفضلًا عن ذلك، تَزِيد احتمالية تجاوب المؤسسات ذات الأداء العالي بسرعة مع الأفكار الجديدة بنسبة ٥٤٪ بُغْيَةَ تناول التغييرات العميقة التي تؤثر على المؤسسة. فيجب على الرؤساء التنفيذيين أن يتعلموا كيفية اتخاذ القرارات الذكية بسرعة، وهذا الأمر ينطوي على التفكير الإبداعي المنضبط.

(١-٢) موقع الإنقاذ المحتمل الثاني: غرفة اجتماعات مجلس الإدارة

إن الديناميكيات الصحية لغرفة اجتماعات مجلس الإدارة في غاية الأهمية للحوار المفتوح ومن ثَمَّ لنجاح غرفة الاجتماعات. ومن أكثر النقاط أهمية، والتي اتفق عليها خبراء الحَوْكَمة، الحاجةُ إلى خطاب يَتَّسِم بالشفافية والاعتراض مع الرئيس التنفيذي. فالحوار النقدي البنَّاء هو المؤشِّر المثالي الأوحد على كفاءة مجلس الإدارة. وتعتمد الثقة والطمأنينة على العلاقات الصريحة التي فيها يستطيع الناس طرح الأسئلة وتقديم وجهات نظر مختلفة وربما متعارضة. وكذلك فإن ضمان التنوع ووجود مزيج متجانس من العناصر من الأشياء الهامة أيضًا. فلا يكفي مجرد تمثيل خلفيات مختلفة، إذ يجب أن يُشجع التباين في التصورات.11 وعلى غرفة اجتماعات مجلس الإدارة أن تتقبل الغموض. وهذا يعني تضمين الأزواج المتناقضة؛ مثل: الإبداع والانتقاد، والاتساق والصراع الإدراكي، والثقة والريبة، والاستقلالية والمشاركة، والبعد والقرب إضافة إلى البُعد غير التنفيذي. وإدارة هذه العناصر الغامضة تتضمن نهجًا يقبل التوتر والتفكير الابتكاري.

(١-٣) موقع الإنقاذ المحتمل الثالث: قسم الحسابات/المالية

قد لا تفاجأ عندما تعرف أن قسم المحاسبة يحتلُّ مرتبة عالية جدًّا (سواء في الحلقات الدراسية التي نُجريها أو في رأي المشاركين في الاستطلاع على شبكة الإنترنت) باعتباره موقعًا محتملًا لقتل الإبداع. وأشارت نسبة ٦٪ فقط من المشاركين في استطلاع الرأي إلى القسم على أنه مكان لإحياء الإبداع. ومؤخرًا، وقفنا قُبَالة ستين مراقبًا ماليًّا من مجموعة فنادق إنتركونتيننتال لتَحَدِّيهم بخصوص هذا الموضوع. طلبنا منهم أن يُجيبوا على هذه الاتهامات، وقد أثارت إجاباتهم الصريحة إعجابنا. وشرح المراقب المالي الذي كنا نعمل معه بشكل وثيق ما يلي:

في مجموعة فنادق إنتركونتيننتال، ننظر إلى فريق المالية على أنهم «شركاء العمل الموثوق بهم الذين ينالون تقدير المجموعة». ولقد عزفنا عن التفكير بهم منذ سنوات على أنهم مجرد أجهزة كمبيوتر تُنْجِز المهامَّ الحسابية. فاليوم نحاول أن ندعم استراتيجية مجموعة فنادق إنتركونتيننتال والتأكد من أنها تتلقى الدعم من المصادر الملائمة. كما تُقدر الأقسام الأخرى مساهمات قسم المالية في صناعة القرار والتخطيط، ولذا لا أظن أن قسم المالية من قتلة الإبداع الرئيسيين. فهل لا بد أن يتأكَّد من أن القرارات تجارية؟ نعم. هل لا بد أن يضمن وجود توازن مناسب فيما بين مختلف الأطراف المعنية (الملاك والموظفين والعملاء) عند اتخاذ القرار؟ نعم. هل لا بد أن يضمن وجود قدر معيَّن من الامتثال والسيطرة في محل العمل؟ بالتأكيد. فما دام القسم يستطيع أن يدعم منطقيًّا آراءه، فإنني لا أعتقد أنه يقتل الإبداع. وفي اجتماعنا الأخير تحت عنوان «أسترالاسيا لدعم المال والأعمال»، تعرفنا على الأشخاص الذين كان لهم أداء استثنائي على مدار العام: وللمرة الأولى كانت لدينا جائزة ﻟ «أفضل ابتكار». ليس بوُسعنا أن نضع قالبًا للطريقة التي تُنجَز بها الأشياء دائمًا. ومما يثير الاهتمام اعتقادي بأننا كنا مبتكرين في مضمارنا لأننا كان ينبغي علينا أن نكون مبتكرين لكي نَظَلَّ قادرين على المنافسة. وبسبب الدلالات التي يطرحها مصطلح «المحاسبة الإبداعية»، فإننا نتحدث — على الأرجح — عن «الابتكار» في مجموعة فنادق إنتركونتيننتال في مقابل «الإبداع». إن الإبداع في مجال المال أكثرُ ارتباطًا بارتكاب الأخطاء وإنجاز الأعمال بأسرع الطرق الممكنة وأقلها تكلفة وكفاءة، وممارسة السلوك اللاأخلاقي … إلخ، ولكنَّ الابتكار — على الجانب الآخر — يُنظر إليه بطريقة مختلفة. فهو يهدف إلى تغيير العمليات أو وضعها قيد التنفيذ لتحسين الكفاءة أو الفاعلية. إن الابتكار هو التفكير خارج الصندوق واستغلال ذكائك للتوصل إلى حلول جديدة للقضايا التي نواجهها.

إن قسم الحسابات نفسه ليس هو موقع جريمة القتل الوحيد المشتَبَه به هنا بالطبع. ولكن هناك اتهامات تُشِير إلى أن بؤرة تركيز المالية يمكنها قتل الإبداع في مكان آخر. ويَعتقد عالم النفس الاجتماعي سام كين أن هذه البؤرة تضيق الخناق على مجالات أخرى كثيرة في الشركة، ويطرح مقترحًا تخيليًّا بل وربما يكون ملهِمًا في قوله:
إنه لمن الشائق أن نرى ما سوف يحدث داخل الشركات إذا لم يُسمح بالتحدث عن الأرباح والخسائر وأصحاب الأسهم والمنافسة وحصة السوق لمدة مائة يوم. فقد يتساءل بعض العاملين بصوت مرتفع عمَّا إذا كان عملهم الذي أنجزوه إبَّان الساعات الخمسين أو الستين على مدار الأسبوع يعكس كيف كانوا يتمنون بحق قضاء سنواتهم الزائلة. وقد يتساءل البعض الآخر عمَّا إذا كان المنتج المطروح صديقًا للبيئة، أو ما إذا كان إسهامهم في الاقتصاد العالمي سيُفيد أشد سكان العالم حاجةً إليه، أو ما إذا كنا سنختار قياس نجاح مجتمعنا وفقًا لمقدار السعادة القومية الإجمالية [كما يفعلون في بوتان] بدلًا من الناتج القومي الإجمالي.12

(١-٤) موقع الإنقاذ المحتمل الرابع: مكاتب التنفيذيين

أشارت إحصاءات مراكز السيطرة على المرض والوقاية منه أن العدوى التي يُصاب بها المرضى بسبب المستشفيات في الولايات المتحدة الأمريكية تُقَدَّرُ بنحو ١٫٧ مليون حالة وتتسبَّب في ٩٩ ألف حالة وفاة كل عام. وأظهرت دراسة أجرتها هذه المراكز عام ٢٠٠٣ أن ٥٢ في المائة من أطباء الولايات المتحدة لا يَغْسِلُون أيديهم أثناء تَنَقُّلِهم بين المرضى.13

لقد أدركت كوني جاستريمسكي — وهي كبيرة الممرضات في شبكة باسيت للرعاية الصحية — حجمَ التحدي الذي سيقع على عاتقها عندما دُعِيَتْ للمشاركة في حل المشكلة الصحية، وذلك لعلمها بأن الأطباء لا يتقبَّلون التوجيهات من الآخرين. غير أنها قدمت فكرة إبداعية، وهي أن يعلِّق كل طبيب سريري شارةً مكتوبًا عليها «اسألني عمَّا إذا كنتُ قد غسلتُ يديَّ.» ولكن سرعان ما قوبلت الفكرة بالرفض، وتذكُر لنا جاستريمسكي كيف كانت تُرمى الشارات في وجهها في بادئ الأمر، لكنها استطاعت أن تُغَيِّرَ الثقافة بنجاح ملحوظ في نهاية الأمر.

يتعرَّض التنفيذيون في مجال الصحة عادةً للضغط عليهم من جانب المتطلبات التنظيمية الحكومية؛ لذا عادةً ما يَصْعُب توليد الإبداع والابتكار في هذا السياق. ولذا قدمت شبكة باسيت للرعاية الصحية نظام «أيام إجازات مدفوعة الأجر» والذي يركز اهتمامه على ضمان حصول القادة على الوقت والمساحة اللازمين لاستكشاف أفكار إبداعية.14

وفي كل المؤسسات، على التنفيذيين الاعتراف بالتنمية الإبداعية وتبنِّيها ودعمها بإيجابية. وفي المقابل، يجب أن يَتَلَقَّوا الدعم لضمان حصولهم على الوقت والمساحة للابتكار بأنفسهم.

(١-٥) موقع الإنقاذ المحتمل الخامس: قسم الأبحاث والتطوير

لبناء بيئة إبداعية حقًّة في قسم الأبحاث والتطوير، سيحتاج فريق الأبحاث والتطوير إلى أن تُتَاح له الفرصة لمتابعة الأفكار المبتكرة ومراقبتها حتى إتمامها. فالابتكار الحقيقي هو أكثر من مجرد إنجازات بارعة أو منتجات وأفكار «متشابهة لكن بها اختلاف ضئيل»، فهو جديد ومفيد. فالابتكار لا يمكن أن يكون عرَضيًّا أو غير منتظم؛ بل يجب أن يكون منهجيًّا وهادفًا.15
كي يزدهر الإبداع في قسم الأبحاث والتطوير على المدى البعيد، يجب خلق ثقافة الابتكار. ويمكن أن تتمثل هذه الثقافة في نظام من أربعة أجزاء يشكِّله المحوران: «الانطواء (الرعاية الداخلية) — الانبساط (الوعي المؤسسي الخارجي)» و«المرونة (القدرة على التكيف) — التحكم (توجه الإدارة من أعلى إلى أسفل والبيروقراطية)».16 وهذا النظام لافت للنظر؛ فبالرغم من أن المفاهيم على أقصى المحورين تبدو غير متوافقة، فإن كلا النقيضين يوفِّران تفتح الذهن اللازم للتغيير الانتقالي والاستعداد للمجازفة. ويمكن أن يساعد كلاهما في خلق ثقافة الأدهقراطية (على عكس البيروقراطية) في قسم الأبحاث والتطوير، إذا ترسَّخت قيم مماثلة وإذا دُعم التفكير الإبداعي بصورة فعالة؛ إذ إنهما يعكسان الحاجة إلى التحويل. والتمسك بالقواعد الصارمة والأنظمة الهرمية يضر بإنشاء ثقافة الأدهقراطية بصورة كبيرة؛ لذا فمن المهم أن نؤكِّد على ألا يتقيَّد قسم الأبحاث والتطوير بهذين العنصرين.17

من أجل إشراك الأشخاص على جميع مستويات المؤسسة في عمليات قسم الأبحاث والتطوير، تحلَّت تويوتا بقدر كبير من المهارة؛ إذ أعطت كل فرد في المؤسسة دورًا في «مراقبة الجودة». وهذا على الفور مكَّن الأشخاص من تقديم اقتراحات إلى أعلى المكاتب الإدارية حول ما يمكن تحسينه، مع توليد المزيد من الأفكار من خلال إشراك الجميع في العملية الإبداعية. وعن طريق تحريك هذا العنصر من قسم الأبحاث والتطوير إلى المصانع، رفعت الشركة من مستوى الموظفين العاديين بفاعلية وحوَّلتهم إلى مساهمين نُشطاء على مستوًى أعلى.

على قسم الأبحاث والتطوير أن يتعلَّم كيفية إقناع المالية والرؤساء التنفيذيين ومجالس الإدارة والإداريين للمساهمة بأفكار جديدة، لمساعدة الجميع على فهم أن قسم الأبحاث والتطوير هو مكان قيم مركزي (وليس حصريًّا) لرعاية الإبداع. قد يكون هناك عزوف عن الاستثمار في قسم الأبحاث والتطوير، بدعوى أنه ليس من الممكن أن «نخطط» لنتائج إبداعية. والعديد من الشركات — ولا سيما في قطاع الصناعات الدوائية — قد لَحِقَ بها الدمار بسبب النتائج السيئة في الأبحاث والتطوير. ولكن التمويل المستقرَّ يوفِّر المزيد من الحرية للابتكار؛ مما يؤدي إلى نتائج أفضل في نهاية المطاف.18 ويجب ألا يُسمح للضغوط من عائلة الخوف بالقضاء على الأفكار في هذا القسم ويجب التعامل معها بسرعة.

(١-٦) موقع الإنقاذ المحتمل السادس: قسم المبيعات والتسويق

بعد مدينة نيويورك الصاخبة، تُقَدِّم مدينة كينجفيلد في ولاية ماين تناقضًا صارخًا. بها شارع واحد رئيسي ومحطة وقود واحدة ومكتب بريد واحد، وعلى الأرجح تمتلك شيئًا واحدًا فقط من كل ما يمكن اعتباره أساسيًّا لمجتمع صغير. الجميع يعرف بعضهم بعضًا هناك، وقد استمرَّ ذلك لأجيال سابقة، وهو ما يفسِّر السبب في انخفاض معدل الجريمة. عندما كنا نسافر إليها من المدينة، نلاحظ أن كل شيء نَضِرٌ ونظيف، من الهواء المنعش إلى الثلج النقي، وليس هناك أي دليل على التلوث. لقد كنا دائمًا مفتونين بجرأة الشركات التي يمكن أن تُسَوِّق وتبيع بنجاح شيئًا موجودًا بالفعل بوفرة، إذ توضح مدينة كينجفيلد حقًّا ما يعنيه «بيع الثلج لأهل الإسكيمو».

العديد من العلامات التجارية للمياه المعبأة في زجاجات في الولايات المتحدة تتباهى بأن مياهها تقدم المذاق النقي ﻟ «مياه ينابيع ماين» في زجاجات. فماء ماين رائع للغاية لدرجة أن الناس يسعدون بشرائه في جميع أنحاء البلاد. لكن المفارقة التي أشار لها صديقنا — وهو شخص متحمس محب للمغامرات انتقل إلى ماين للتمتع بحياة ريفية نقية والحصول على هذا الماء الرائع من الصنبور — أن السيدة التي تقف أمامنا في طابور تسجيل المشتريات في السوبر ماركت تشتري زجاجة كبيرة من المياه المعبأة في زجاجات. نعم، تخمينك صائب؛ اشترت السيدة «مياه ينابيع ماين!» لقد نشر مجلس الدفاع عن الموارد الوطنية دراسة علمية استغرقت أربع سنوات مفادها أنه ليس بالضرورة أن يكون الماء المعبأ في زجاجات — الذي يباع في الولايات المتحدة — أنظف أو أكثر أمانًا من معظم مياه الصنبور، ولنا أن نتصوَّر أنه لا يوجد مكان يصدق فيه ذلك القول أكثر من كينجفيلد بولاية ماين. إلا أن بعض مسئولي المبيعات والتسويق المهرة تمكنوا من بيع مياه ينابيع ماين لأهل ماين نفسها.

عندما تفكِّر في الأمر، تجد أن بيع المياه في زجاجات إنما هو انقلاب صارخ في المبيعات والتسويق؛ إذ كانت تعبئة المياه موجودة بالكاد قبل ثلاثين عامًا كضرب من الأعمال التجارية في الولايات المتحدة. وبحلول عام ٢٠٠٦، أنفق الأمريكيون ما يصل إلى ١٥ مليار دولار سنويًّا على مياه الينابيع، وهو أكثر مما ينفقونه على أجهزة الآي بود أو تذاكر السينما.19 ومثل الماء العادي، ربما لم يتمتع الإبداع بتسويق تجاري قوي لسنوات عديدة. وربما يَعْنِي ارتباط الإبداع لدى تسويقه بمجموعة من الفنانين — الذين يتعاطون المخدرات ولا يفعلون شيئًا أكثر من مجرد مشاهدة السحاب والتأمل دون فعل — أن الإبداع لم ينل الانتباه الجاد الذي يستحقه. وحتى وقت قريب، كان من الصعب إقناع الشركات باستثمار الأموال في مهارات التفكير الإبداعي بسبب الاعتقاد بأن ذلك لن ينطوي على أكثر من مجرد ورشة عمل ممتعة لا علاقة لها بالعمل، أو قضاء يوم مرح بالخارج. أما الآن، على العكس، هناك إقرار بأن التفكير الإبداعي استثمار في المستقبل. وربما ينبغي أن تُستغل المبيعات والتسويق داخليًّا للمساعدة في خلق ثقافة أكثر إيجابية وابتكارًا.

إنَّ المياه المعبأة في زجاجات ليست أكثر أمانًا أو أكثر صحة من مياه الصنبور، بل في الواقع وُجد في بعض الحالات أن المياه المعبأة في زجاجات تشتمل على بكتيريا أكثر. لكن أي شخص يختار شراء الماء بدلًا من المشروبات الغازية من آلة البيع الآلية يتخذ خيارًا أكثر حفاظًا على صحته بلا شك، ولكنه يبقى خيارًا غير ضروريٍّ. وفي معظم البلدان المتقدمة، بمقدورك إحضار زجاجة مياه من المنزل. وفي البلدان النامية، يُعد أي مصدر للمياه النظيفة موضع تقدير شديد، لكننا ننسى أن لدينا هذا الخيار متاح بسهولة ومجانًا. فهناك العديد من الذين يضطرون إلى السفر أميالًا كل يوم لجمع المياه النظيفة في دَلْو والعودة بها للمنزل. ولا تكون هذه المياه بالضرورة آمنة أو نظيفة. فإذا كان فريق المبيعات والتسويق المبتكِر استطاع بيع المياه المعبأة في ماين، فربما يمكنهم أن يفكروا في حل المشكلة العالمية للحصول على المياه.

إنَّ الإبداع لديه الفرصة ليزدهر في قسم المبيعات والتسويق. وكيفما كانت بداياته، فإنه قسم يمكن — بل ويجب عليه — أن يَبُثَّ الأمل في الجميع. ويمكنه أن يبدأ بالتأكيد باستخدام المهارات والعملية الإقناعية والمتكاملة لبيع الحاجة إلى الإبداع داخل المؤسسة.

(١-٧) موقع الإنقاذ المحتمل السابع: الكافيتريا

لماذا كان ستاربكس بهذا النجاح الكبير عندما بدأ؟ وما السبب في أن العديد من سلاسل المقاهي الأخرى المستقلة حاكت نموذج ستاربكس؟ لأنهم جاءوا بفكرة ثورية في إنشاء المقاهي وكأنها غرف معيشة مفتوحة. فلقد أعادوا إنشاء بيئة المنزل بتصميم مكان يمكنك فيه الجلوس والاسترخاء والقراءة وتصفح الإنترنت والاسترخاء أثناء محادثات طويلة مع الأصدقاء في مكان مريح وغير رسمي.

لقد رأى العديد من الناس أن مشاهدة أفلام الفيديو في المنزل بدلًا من الذهاب إلى السينما كانت نهاية حقبة، والآن يجري إحياء الاهتمام بالذهاب إلى السينما. وبنفس الطريقة، كان هناك انبعاث لثقافة المقهى المجتمعي؛ إذ سُميت شركة لويدز لندن في الأصل تيمنًا باسم مقهًى في حينه. وكذلك حل العالمان رفيعا الشأن روبرت هوك وإدموند هيلي مشكلات علمية عصيبة معًا على إبريق من القهوة الطازجة.20 وبالمثل يجري الآن إعادة هذه الثقافة مرة أخرى للمؤسسات. ففي المبنى الإداري الجديد وان رافلز كواي بسنغافورة، حيث تقع مكاتب بنك باركليز، تَمَّ تصميم ساحة كافيتريا فاخرة للموظفين وضيوفهم للتواصل. وتقدمت شركة إلكترونيك آرتس في سنغافورة بخطوة من خلال إضافة غرفة ألعاب تشجِّع الناس على اللعب معًا، بما فيها شبكة كرة السلة وألعاب فيديو.

بطبيعة الحال، سوف تفشل الكافيتريا في توفير بيئة للتفكير المتفتِّح إذا نُظر إليها على أنها مجرد موقع آخر لمواصلة العمل. لقد قمنا بترسيخ الاعتقاد الخاطئ الذي يُفِيد بأننا كلما عملنا أكثر، أصبحنا أكثر إنتاجية. ولكن في بعض الأحيان، لا تتحرر عقولنا لتُتاح لها الفرصة للإبداع إلا عندما تتوقف أذهاننا عن العمل. نعم، قد تكون الكافيتريات مكانًا لطيفًا لمواصلة العمل، في ظل الاستمتاع بتغيير المشهد، ولكن ينبغي أيضًا أن تكون أماكن تتيح التواصل مع الآخرين وأخذ استراحة كاملة عن العمل في منتصف يوم حافل. ولذا علينا أن نصنع «فرصًا هادفة» كل يوم (في رأي دي بونو) لإعطاء عقولنا الفرصة للتجول بحرية، والكافيتريا قد تكون هي المكان المثالي لهذا الغرض.

(١-٨) موقع الإنقاذ المحتمل الثامن: قاعة المحاضرات

حين تقضي أربع ساعات يوميًّا في المشي في منطقة حرب عصابات خطيرة وتضاريس وعرة للذهاب إلى المدرسة، لا بدَّ إذن أنك جادٌّ بشأن التعلُّم. لقد قضينا بعض الوقت نُدرِّس التعلم والتنمية على جزيرة كبيرة في وسط الفلبين. وخلال فترة وجودنا هناك أجرينا مقابلات مع أطفال المدارس الفقراء الذين كانوا يفعلون ذلك من أجل التعلم. ولم نرَ قَطُّ طلابًا أكثر يقظة وحماسة أو أكثر تعطشًا للتعلم منهم. وعلى الرغم من التحديات، أو ربما — للدقة — بسببها، كان لديهم امتنان نادرًا ما تراه في الأطفال من المناطق الأكثر ترفًا. فهؤلاء الأطفال قَدَّرُوا فرصة التعلم وفرصة تحسين حياتهم خلال التعليم، على النقيض تمامًا من الموقف اللامبالي اللاحماسي أو حتى العدائي للعديد من الأطفال الذين عملنا معهم سابقًا.

بعد قرابة أربعة عشر عامًا من الدراسة، يحصل أطفالنا على المكانة والدرجات المناسبة التي من المفترض أن تعكس مستوى ذكائهم وقدراتهم. وفي الوقت الذي يلتحقون فيه بمجال العمل، سيرى الكثير منهم أن التعلم والتنمية عملية روتينية سوف يطلبها منهم قسم الموارد البشرية و/أو التدريب. فقد يُقَدِّرُ البعض هذا بصفته جزءًا من النمو والتنمية الشخصية؛ والبعض الآخر قد يَتَهَكَّمُ من جدواه والغرض منه. وبحلول الوقت الذي نَعْقِدُ فيه ورش عمل للمؤسسات، نجد أحيانًا أن ٨٠٪ من جهودنا يجب أن تُوَجَّهَ نحو تطوير الامتنان للعملية التعليمية. إننا نكافح باستمرار في مواجهة المشكلة التي يشعر الكثير من الناس أنها ببساطة لا تستحق أن تأخذ وقتًا من أجل التنمية الشخصية أو الجماعية. فالمشاركون يجلسون في ورشة عمل قلقين من العمل الذي سيتراكم في صندوق الوارد. والأسوأ أن البعض يستمر في فحص بريدهم الإلكتروني ومكالماتهم الميدانية خلال اليوم باستخدام الأجهزة الإلكترونية الصغيرة المحمولة.

متى غيَّرت المؤسسات من نفسها باستمرار من خلال تيسير فرص التعلُّم بذكاء، استفاد الأفراد وازدهرت المؤسسات. فالمؤسسات التي تتعلم وتتغير أسرع من مثيلاتها سيظل نشاطها قائمًا على نحو أفضل في أوقات التغيير. ومن ناحية أخرى، فالمؤسسات التي تحاصرها أنماط عقلية راسخة تَعْجِزُ عن تعلُّم المرونة سوف تتعثر لا محالة.21
إنَّ المخترع هو شخص لم يتخذ تعليمه بجدية مبالَغ فيها.22 فبينما يُعَدُّ الرسوب في الامتحانات دلالة على أنك دون المستوى في النظام التعليمي وقد يَعْنِي أنه نهاية الطريق بالنسبة لك، فإنه يجب أن يتعلم المخترعون أن يفشلوا مرارًا وتكرارًا، ويؤمنوا بأن ما يفعلونه لا يزال ذا قيمة وجديرًا بالاهتمام. وفي نظام التعليم، قد يتطلَّب الأمر رسوبًا واحدًا فقط بعد سلسلة من النجاحات لتُنبذ خارج النظام، لكن يتطلب الأمر من المخترع نجاحًا واحدًا بعد سلسلة من الإخفاقات لتحقيق نتيجة إيجابية. فالفشل بذكاء — أي التعلُّم من النكسات والنمو بسببها — هو أهم مهارات البقاء؛ إذ يحفز الناس على التعلم ونشر التفكير الإبداعي للحياة.

(١-٩) موقع الإنقاذ المحتمل التاسع: الملعب

مما لا شكَّ فيه أن شركة جوجل تأتي على رأس قائمة «أفضل أماكن العمل». وبالإضافة إلى الساعات المخصصة للموظفين التي يستطيعون تكريسها لمساعي التفكير الإبداعي، تقدم شركة جوجل أيضًا مميزات عظيمة مثل الوجبات المجانية والكشف المجاني. فمكتب جوجل في سيليكون فالي ليس مجرد مكان رائع للعمل به، لكنه أيضًا مكان رائع للعب!23 ففي ظل وجود حمام سباحة، وملاعب الكرة الطائرة الشاطئية، وطاولات الفوسبول، وألعاب الفيديو، وطاولات البلياردو، وتنس الطاولة، وهوكي الانزلاق مرتين في الأسبوع في موقف للسيارات، يتساءل المرء متى يجد الموظفون الوقت للقيام بعملهم «الجاد». لا عجب إذن أن تتلقى شركة جوجل قرابة ١٣٠٠ سيرة ذاتية كل يوم.24

إنَّ اللعب الحر يخلق حالة ذهنية من الممكن خلالها أن تشعر بالاطمئنان لأن تكتشف الأفكار دون قيود. والآباء الذين يحاولون زيادة فرص تعليم أبنائهم لأقصى حد، عن طريق تنقُّلِهم بين عدد لا يُحْصَى من أنشطة ما بعد المدرسة وتخطيط جداول دراسة صارمة، قد يكونون فعلًا عرضة لخطر إخماد الشِّقِّ الإبداعي والابتكاري في عقولهم، بينما يناضل الأطفال المُنْهَكُون لإنهاء يومهم. ولذا فاللعب الحر — كما ذكرنا — هو أحد القنوات اللازمة لتحويل موارد المخ من التعامل مع وظائف البقاء الأولية حتى يتمكَّن من تحقيق التفكير الإبداعي. وإذا لم يتحقق التفكير الإبداعي بانتظام، فلا يمكن أن تنشأ مسارات قوية في المخ، وتضمر القدرة على التفكير بإبداع.

ربما يشكو البعض من عدم وجود مساحة في محل عملهم للعب، لكن اللعب يمكن أن يكون حالة ذهنية أو توجهًا. فالعقل المبدع لا يُمَيِّزُ بين الواقع والخيال، لذلك فإن التمرين الذهني هو وسيلة قوية لِلَّعِبِ بِغَضِّ النظر عن المكان الذي تكون فيه، وهو بلا شك يرفع من الْحَالَة الْمَعْنَوِيَّة.

قضى العالم السلوكي جاك ستوستر وقتًا في القارة القطبية الجنوبية للبحث عن كيفية استمرارية تحفيز الفرق المعزولة. وكانت نتائج أبحاثه ستُطبق على الفرق المعزولة في مجموعة متنوعة من البيئات، بما في ذلك المحطات الفضائية. فاكتشف ستوستر أن البيئة المادية تحدث فرقًا كبيرًا في معنويات الفريق في هذه الحالات، وصولًا إلى تفاصيل محددة مثل لون الجدران. وكما يقول: «إن الباحثين اكتشفوا أنه كلما كان العمل أقل مَغْزًى، ينبغي أن تزيد العناصر الجمالية ذات القيمة. وللمفارقة، يمكن أن يتحمل الناس ويعملوا في ظل ظروف مذهلة، ولكن البيئة الجيِّدة تُعَزِّزُ بلا شك فرص النجاح.»25

ربما لا تمتلك القدرة على تغيير العديد من خصائص بيئة العمل الخاصة بك، ولكن يمكنك على الأقل التأكُّد من أن مساحة العمل وهؤلاء الذين قد تكون ذا تأثير عليهم يساعدون على التفكير الإبداعي ولهم تأثير إيجابي على الروح المعنوية. قد لا يكون مشروعًا يهدف لإنقاذ العالم، ولا يستطيع كل شخص بناء ملعب لجعل العمل أكثر متعة، ولكن يمكننا جميعًا أن نكون مسئولين بطريقة ما للمساعدة في بناء بيئة مرحة تتسم بالإبداع. ويمكننا أن نبدأ بتقدير كيف يمكن لحالة العقل المرحة أن تُسْهِم بجدية في التنمية الحقيقية.

(٢) نقل غرفة النوم لقاعة اجتماعات مجلس الإدارة

هناك خوف شائع من أن الجرائم تقع في الليل أكثر مما تقع في النهار؛ لأن المجرم يُتاح له ستار أكبر في الليل، على الرغم من أن إحصاءات وزارة الداخلية البريطانية تظهر أن معظم المجرمين يحتاجون إلى الضوء ليروا ما يقومون به! وقد يكون من المزعج أن نعلم أن ٦٠ في المائة من عمليات السطو في المملكة المتحدة تحدث عندما يكون المنزل مأهولًا، غالبًا والناس نيام.26

إنَّ قتلة الإبداع في كل مكان حولنا، ويمكنهم أن يفعلوا فعلتهم في أي مكان وفي أي وقت، ولكن أجهزة الإنعاش في مُتَنَاوَلِ اليد أيضًا. ودائمًا ما يكون طاقم الإنقاذ في حالات الطوارئ على أُهْبَة الاستعداد للحضور إلى المكان الذي تشتد الحاجة إليه فيه. وفي الواقع، يُعد الليل هو أحد أكثر الأوقات نشاطًا للإحياء الإبداعي بينما يكون الناس نيامًا. فالنوم فرصة هامة للعقل للتجديد والتعافي من الأنشطة اليومية، وربما ليس من المثير للدهشة أن تحدث خلاله أيضًا التنمية الإبداعية الأكثر عمقًا.

من المتعارف عليه بجلاء أن الحرمان من النوم يمكن أن يضر بالأداء والقدرة على الحكم على الأمور. على سبيل المثال، حينما تظل فئران المختبر مستيقظة لساعات من خلال تزويدها بالأنشطة التحفيزية والألعاب، يَتَبَيَّن أن مجموعات الأعصاب الصغيرة تبدأ في الدخول في حالة شبيهة بحالتها أثناء النوم؛ ما يؤدي في نهاية المطاف إلى إضعاف أدائها وقدرتها على التمييز.27 كما تم ربط قلة النوم بالعدوانية والسلوك الجنسي الشاذ وكذلك الاكتئاب.28 وغالبًا ما يُنْصَح الرياضيون المحترفون بأخذ غفوة قصيرة قبل المنافسة للتأكد من أنهم في أفضل حالاتهم. كما تؤدي قلة النوم المزمنة إلى انخفاض نسبة التمثيل الغذائي للجلوكوز من ٣٠ إلى ٤٠ في المائة، وتقليل الوقت المستغرق في الوصول لحالة الإنهاك بنسبة ١١٪، بالإضافة إلى وقوع هفوات في الانتباه والتفاعل. بينما يُحسِّن النوم الإضافي التوقيتات الدقيقة وزمن الاستجابة والانتباه.29 ومن الفوائد الأخرى لِنَيْلِ قسط جَيِّدٍ من النوم أثناء الليل فقدان الوزن وتحسين صحة القلب.
إننا نعلم بالبديهة أن «وقت الراحة والاسترخاء» يحفز الإبداع، وعندما نقترح على الأشخاص أن يناموا في هذا الوقت لمساعدتهم على التوصل إلى حل، فإننا نسمح لتفكيرهم التباعدي بالعمل وإفساح المجال لخيالهم للتنفس. فهو يزيد من المساحة الإجمالية التي تتقبل الأفكار الجديدة في المخ. ويُفْسِح «التفكير الحر» للعقل بأن يَهِيم في مناطق جديدة وأن يعثر على أفكار جديدة؛ ويمكن أن ينزلق العقل في نشاط موجة ألفا في المخ، وفي تللك الأثناء لا يركز بصورة دقيقة. وكما أوضح شيكسنتميهاي: «يأخذ اللاوعي محتوى خط الفكر الواعي، وهناك — بعيدًا عن رقابة الوعي — تُتاح الفرصة للمشكلة العلمية المجردة لتكشف عن نفسها على ما هي عليه.»30 ولسوء الحظ هذه الأيام، ليس هناك إلا القليل جدًّا من الوقت للتفكير الحر، حيث إن وقت معظم الناس مُجَدْوَل ومنظم بدقة.
تقول ديردريه باريت، عالمة النفس بجامعة هارفرد إن العقل يستخدم النوم كفرصة لإعادة التشغيل وحل المشكلات. وفي إحدى التجارب، طلبت باريت من تلاميذها التركيز على إحدى مشكلات الواجبات المنزلية كل ليلة قبل أن يخلدوا إلى النوم. وفي نهاية الأسبوع، قال قرابة نصف الطلاب إنهم كان يحلمون بالمشكلة، بينما ذكر نحو ربعهم أنهم «رأوا حلمًا يحتوي على الإجابة». ووفقًا لباريت، فإن العقل يعمل على حل المشكلات عندما نحلم بنفس الطريقة التي يعمل بها على حل المشكلات عندما نكون مستيقظين.31
عندما يُطلب من الناس ذكر أكثر مكان يرغبون في زيارته، لا يقولون «وسط مدينة مزدحمة صاخبة» أو «مكتب في بناية شاهقة»، بل إنهم في معظم الأحيان يذكرون مكانًا هادئًا وسلميًّا يمتاز بالجمال الطبيعي، مثل شاطئ لا يزال محتفظًا ببساطته أو منتجع جبلي. وبالهروب إلى مثل هذا المكان، سواء في الواقع أو ببساطة في مخيلتنا، يمكن أن نستحثَّ حالة الهدوء التي سوف تُعَزِّزُ التفكير الإبداعي. وعن طريق التحول ذهنيًّا إلى حالة «مبتعدة نفسيًّا»، فإننا نَفْصِل أنفسنا عن الضغوط والإجهاد المرتبط بالمكان والزمان الحالي وننفتح على الإبداع. ووفقًا لنظرية «مستوى البناء» المتعلقة بالمسافة النفسية،32 من الممكن خلق نفس الشعور بالابتعاد النفسي ببساطة عن طريق التفكير بطريقة مختلفة حول مشكلة معينة أو أخذ وجهة نظر شخص آخر أو تخيل المسألة غير واقعية أو غير محتملة. وقد وجد فريق في جامعة إنديانا علاقة واضحة بين القدرة على زيادة المسافة النفسية والإبداع، فأثبتوا أن هناك عددًا من الأشياء العملية البسيطة التي يمكننا القيام بها لزيادة الإبداع، بما في ذلك السفر إلى أماكن بعيدة (إما جسديًّا أو ذهنيًّا)، والتفكير في المستقبل البعيد، والتواصل مع الناس الذين لا يشبهوننا، والتفكير في بدائل غير مرجحة للواقع. وقد وُجد أن السفر والعيش في الخارج يرتبطان بالإبداع،33 كما أُشير أيضًا إلى أن مجتمعاتنا العالمية الحديثة — التي تُتِيح التواصل مع طائفة واسعة من العناصر الثقافية (مثل الناس والموسيقى والطعام) — تُقَدِّم لنا فرصًا للتفكير المجرد على نحو أكبر.34

إذا كُنْتَ في هذه المرحلة من حياتك لا تستطيع سوى الحلم برحلة سفر غير معتادة، فقم بإلقاء نظرة حولك. وفي المرة القادمة التي تذهب فيها إلى مطعمك الصيني أو التايلاندي المحلي، خذ بعض الوقت للتحدث مع الموظفين لمعرفة كيف يطهون الطعام وما الذي يجعل حياتهم مختلفة. فجميع المدن بها مناطقها الغنية ثقافيًّا؛ ففي أجزاء معينة من لوس أنجلوس من الممكن أن تتخيَّل أنك في المكسيك أو لندن أو الهند، وفي معظم المدن الكبرى في العالم يمكن أن تذهب إلى الحي الصيني، حيث يمكنك أن تشعر أنك دخلت للتو وسط مدينة شنغهاي. فجميع المدن لديها مناطق التنوع الخاصة بها، وبدلًا من أن نشعر بالخطر من ذلك، تعلمنا تبني التجربة، وخاصة البلدان التي تتفاخر بتنوع الثقافات لديها. وبدلًا من التركيز على الآثار السلبية للمدينة (الضغوط والإجهاد)، يمكنك استخدام الفُرَص التي تخلقها المدينة لتعثر على المسافة النفسية التي تحتاجها لتكون مبدعًا.

وبطبيعة الحال، لا يضمن لك السفر إلى بلد آخر بمفردك أن تكون أكثر انفتاحًا على الأفكار الجديدة. فقد تجد العديد من السياح الأستراليين يسافرون إلى بالي على الخطوط الجوية الخاصة ببلادهم (كانتاس)، ويتناولون الطعام الأسترالي (شرائح اللحم والبازلاء والبطاطس المهروسة)، ويحتسون البيرة الأسترالية في حانات شبيهة بالحانات الأسترالية، بينما يشاهدون مباريات كرة القدم الأسترالية على شاشة التليفزيون، ويُقِيمون في فنادق منعزلة تمامًا عن الخارج وقد أُضفيت عليها الصبغة الغربية. إنَّ هؤلاء السياح ينجحون إلى حد ما في تجاهل الثقافة المحلية تمامًا.

الدرس المستفاد هنا هو أن سعة الأفق حالة ذهنية وليست تابعة للموقع، وسواء أكنت تعيش في منطقة فقيرة في إحدى المدن أم في ضاحية مترفة بجوار شاطئ البحر في «شبه جزيرة منعزلة» في نورث سيدني أو في جزيرة استوائية مذهلة، فإنه يمكنك تعلم تقبل الأفكار وطرق التفكير الجديدة. وبذلك يكون لديك عذرٌ مُبَرِّرٌ لأخذ قيلولة أو الاندماج مع أحلام اليقظة خلال ساعات العمل. ولكن إذا كنت لا تتحمل أن يراك أحد نائمًا أثناء أداء وظيفتك — ولن يقتنع المدير بأنك بذلك تصبح مبدعًا — فحاول على الأقل تغيير البيئة المحيطة بك بطريقة تجعلها تدعم التفكير الإبداعي. اجلب غرفة النوم إلى محل عملك، ثم نَمْ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤