الفصل الثالث

الحقيقة والموضوعية

منذ أوائل القرن العشرين، كان المدخنون يشيرون هزلًا إلى السجائر باسم «مسامير النعش» و«أعواد السرطان». بَيْد أن المزحة أصبحت لا تبعث على الارتياح في عام ١٩٥٢م عندما نشرت مجلة «ريدرز دايجست» موضوعًا صحفيًّا بعنوان «السرطان بالرسوم الكرتونية». أكد الموضوع الصحفي أن المخاطر الصحية الناجمة عن التدخين حقيقية. في السنوات القليلة التالية، استشهدت مجلاتٌ وصحفٌ أخرى بعلماء وأطباء أشارت أبحاثهم إلى وجود صلة بين التبغ والمرض، وحتى البحوث الداخلية التي أجرتها شركات السجائر كانت تؤكد الارتباط بالسرطان.

علم المسئولون التنفيذيون في مجال صناعة التبغ أنهم في ورطة، ووجدوا حلًّا بارعًا؛ أنشئوا مجلس أبحاث التبغ. على الرغم من الاسم، لم يُجرِ المجلس إلا قدرًا قليلًا من الأبحاث الفعلية، وعوضًا عن ذلك، خاض المجلس معركة علاقات عامة محاولًا إلقاء ظلال من الشك على الدراسات الحقيقية؛ فإذا ما أورد عالم في تقريره أن فئران التجارب كانت أكثر عرضةً لأن تُصاب بالسرطان عندما كانت معرضة للدخان، كان مجلس أبحاث التبغ يعقد مؤتمرات صحفية مبرزًا مآخذ مقارنة الفئران بالبشر، ومؤكدًا للمدخنين أنه ليس ثمة صلة موثقة بين التدخين والمرض.

عندما كتب المراسلون الصحفيون موضوعاتهم، حاول معظمهم أن يكون عادلًا وأن يعرض رأي كلا الجانبين. ما فهمه القراء والمستمعون كان من هذا القبيل: باحثون مؤهلون بجامعة ما قالوا إن التدخين سيئ، وعلماء يبدو أنهم يتمتعون بالقدر نفسه من المؤهلات في معهد أبحاث ما قالوا إنه ليس ثمة شيء يستدعي القلق. سلَّم الكثير من المدخنين في حيرة بالأمر، واستمروا في التدخين. وحتى بعد أن اشترط الكونجرس عام ١٩٦٥م وضع ملصقات تتضمن تحذيرًا «احذر؛ تدخين السجائر قد يكون خطِرًا على صحتك.» استمرت الصناعة في إنكار الصلة. ومنذ عام ١٩٨٩م — أي بعد نحو ٢٠ عامًا من حظر إعلانات السجائر على شاشة التليفزيون — كان المتحدثون باسم الصناعة ما زالوا يظهرون في برامج الشبكات الإخبارية الصباحية ليقللوا من مخاطر السرطان على أنها «مجرد إحصاءات» وكانوا مصرين على أنه لم يثبت أن التدخين يسبب السرطان.1

هل كان المراسلون الصحفيون على صواب عندما منحوا اهتمامًا متساويًا لكل من باحثي مجلس أبحاث التبغ والباحثين من جامعات كبرى وجمعيات رئيسية لأبحاث السرطان؟ هل كانوا مصيبين في الاستمرار في الموازنة بين الرسائل المضادة للتدخين وإنكار الضرر من جانب العاملين في صناعة التبغ؟ هذه الأسئلة تؤكد على التفاعل المعقد بين التزامين يتوقعهما الأمريكيون من وسائل إعلامهم الإخبارية: أحد الالتزامين هو قول الحقيقة، والآخر هو الالتزام بنقل عادل ومتوازن وموضوعي للأخبار.

أول هذين الالتزامين يبدو بديهيًّا؛ فمدونة قواعد السلوك لجمعية الصحفيين المحترفين تُدرِج مبدأ «السعي إلى الحقيقة ونقلها» باعتباره أول مطالبها الأخلاقية الرئيسية من الصحفيين. اعتاد مذيع شبكة «سي بي إس» الإخبارية والتر كرونكايت أن يختتم كل نشرة أخبار ليلية بقوله «هكذا هي الحال.» موحيًا للمشاهدين أنهم قد اطلعوا من فورهم على الحقائق المهمة لذلك اليوم. تتمثل المشكلة بالنسبة للصحفيين — كما سيُناقَش في هذا الفصل — في تقرير ما تعنيه الحقيقة في سياق الصحافة اليومية.

ثمة قدر أقل من الاتفاق بشأن التوقع الثاني للجمهور. يعتبر غالبية الأمريكيين أنه من المهم أن يكون الصحفيون موضوعيين، ولعل من المؤشرات على هذا تلك الطريقة التي تجد بها شعارات شبكة فوكس الإخبارية — مثل «نحن ننقل الخبر، وأنت تقرر» و«عادلة ومتوازنة» — تجاوبًا من الأمريكيين. مع ذلك، تدور نقاشات ساخنة بين الصحفيين والأكاديميين حول هل الموضوعية ممكنة، وما تعنيه، بل هل هي في صالح الصحافة؟

مسألة الموضوعية تشوبها غيوم مطلب آخر يضعه الكثيرون على كاهل الصحفيين، وهو أن الصحفيين يلقون تشجيعًا على أن يكونوا سبَّاقين في مجتمعاتهم؛ فمن المفترض أن «يصوبوا الأخطاء»، وأن «يضطلعوا بدور الرقيب»، وأن «يريحوا المنكوب، وينكبوا المرتاح.» كما قال أحد الصحفيين متفاخرًا؛ ذلك يضع الصحفيين في موقف لا يُحسَدون عليه؛ فمن المفترض أن يحاربوا أشكال الظلم في المجتمع، وفي نفس الوقت ألا يكونوا متسرعين في إصدار الأحكام، وألا ينحازوا إلى طرف على حساب آخر. وصف إي جيه دايون من صحيفة «ذا واشنطن بوست» مأزق المراسلين الصحفيين على النحو التالي:

كن حياديًّا ومع ذلك استقصائيًّا. كن منفصلًا ولكن ليكن لك تأثير. كن مُنصِفًا ولكن مختلفًا في الوقت نفسه. في ذلك يكمن لُب علاقتنا المتوترة مع الموضوعية. قد يزعم قليلون أن الموضوعية الكاملة ممكنة، ومع ذلك نتخذ موقفًا جامدًا عندما يُلمح أحدهم إلى أننا لسنا موضوعيين — أو عادلين أو متوازنين — وكأن الجميع يتفق على كل ما يقصدونه.

سيبحث هذا الفصل في منبع هذه المُثُل العليا الثلاث وفي العلاقة المتبادلة بينها: الالتزام بالموضوعية، والسعي إلى الحقيقة، وتصويب الأخطاء.

(١) ما الحقيقة على أي حال؟

قد يبدو سؤالًا بسيطًا، ولكن كما يقول التعبير المأثور: الشيطان يكمن في التفاصيل. تجادل الفلاسفة الإغريق القدامى حول ما تعنيه الحقيقة؛ زعم بعضهم أن الناس يمكن أن يدركوا الحقيقة باستخدام حواسهم التي تشمل البصر والشم واللمس والسمع؛ إذا رأيت كلبًا يجري في الطريق، فأنت تعرف أنه يوجد كلب وطريق وفعل يُسمى الجري. الأناس الذين يصنعون هذه الحُجة يُدعَوْن تجريبيين.

جادل آخرون بأن الأمر ليس بهذه البساطة؛ فقالوا إن أعيننا يمكن أن تتعرض للخداع بحيل السحرة بل بالوقائع اليومية. إذا ما أقحمت عصًا في الماء، فستبدو وكأنها انثنت؛ ومع ذلك، أنت لا تصدق أن العصا قد انثنت عندما أُدخِلت في الماء مثلما لا تصدق أن الساحر أخرج أرنبًا من قبعةٍ فارغةٍ. قال هؤلاء الفلاسفة — الذين كان يُطلق عليهم العقلانيون — بأن حواسنا عُرضة لأن تُخطئ. استخدام المنطق والتجربة وسيلة أفضل للحصول على الحقيقة.

حاول أفلاطون وأرسطو أن يبتكرا نظامًا يجمع بين الاثنين؛ فأسفرت جهودهما عن فلسفتين مختلفتين تمامًا: اعتقد أفلاطون أن الاتصال مع العالم المادي يثمر حقائق مؤقتة وحسب، ويمكن إدراك الحقائق الحقيقية أو الحقائق الدائمة عبر التنوير من خلال البحث واستخدام العقل. انصب تركيز أرسطو على أمور مختلفة؛ فاعتقد أنه بملاحظة وتصنيف العالم الحقيقي، يمكنه أن ينشئ حقائق، ويمكن له وللعلماء الآخرين أن يثبتوها بالاختبار. طور أرسطو قواعد للمنطق، وابتكر صيغة أولية للمنهج العلمي.

مال الصحفيون الأمريكيون الأوائل إلى النظر إلى العالم استنادًا على أفكارهم وفلسفاتهم الخاصة. كانت صحفهم متحزبة للغاية، واعتمد الكثيرون على تمويل من أحزاب سياسية. واعتقد المحررون أن آراءهم هي الحقيقة، وهكذا كان ذلك هو ما عبروا عنه في صحفهم. كان تناول الجانب الآخر من الجدال فكرة سخيفة. ذكر أحد المحررين أنه سيكون مثل التبشير بالمسيحية في الصباح وبالوثنية في الليل.

بدءًا من منتصف القرن التاسع عشر واستمرارًا خلال جزء كبير من القرن العشرين، اجتاز المجتمع الأمريكي تطورات علمية وتكنولوجية عميقة؛ اخْتُرِعَت السيارات والقطارات والأدوية والتقنيات الجراحية والطائرات والهواتف والأفلام والمذياع والتبريد والسفر في الفضاء، وأُدخلت عليها جميعًا تحسينات أثناء تلك الحقبة. كان العلماء يعيدون تعريف المادة بواسطة نظريتهم الذرية. وكان علماء النفس، مثل سيجموند فرويد، يحاولون تحديد مسببات السلوك البشري ودوافعه. وكان أينشتاين يثبت أن كل الأشياء نسبية. كان العلماء موضع تقدير، وبدأ الكثير من الأمريكيين في المساواة بين الحقيقة والتجريب والمنهج العلمي.

أطلق العلماء على هذا الاعتناق للتجريب والعلم اسم «الوضعية المنطقية»، بينما في الأدب والفنون وعلم الاجتماع كان يُطلَق عليه اسم «الحداثة». كان بعض مبادئه الأساسية:
  • السبيل لفهم العالم هو بملاحظته عن قرب وتصنيف وتحليل ما يُرى.

  • الوقائع والآراء هي أمور منفصلة، والوقائع هي أساس الحقيقة.

  • يمكن للناس الحصول على الوقائع بموضوعية؛ على سبيل المثال، يمكن الوثوق بعالِم في قراءة ميزان حرارة وتسجيل درجة الحرارة تسجيلًا صحيحًا.

  • التطورات العلمية تجعل من العالم مكانًا أفضل.

ومع تغير المِزاج العام الأمريكي، كانت آلات الطباعة العالية السرعة تغير الشئون المالية للصحف. أمكن للمُلَّاك طباعة الكثير من الصحف وأرادوا بيعها لجمهور أكبر بكثير دون الاقتصار على الناس الذين يشاطرونهم رأيهم؛ فقد وظفوا مراسلين وكلفوهم بنقل الأخبار التي من شأنها أن تجتذب القراء، وعادة ما تكون تقارير عن الجريمة والمحاكم. هذه الأخبار استدعت أن يُجري المراسلون مقابلات مع الناس، وأن يكونوا حاضرين في قلب الحدث. كان الصحفيون يطورون مقياسًا جديدًا لاكتشاف الحقيقة، وهو مقياس تشكَّل بواسطة الوضعية المنطقية.

بمرور الزمن، بدأ الصحفيون يرَوْن أنفسهم في صورة باحثين موضوعيين عن الحقيقة، وهو ما يشبه إلى حد كبير العلماء. بحلول منتصف القرن العشرين، صاروا يتقبلون مسألة أن الرأي والوقائع أمران مختلفان: كانت أعمدة الأخبار مخصصة للوقائع، وكانت المقالات الافتتاحية مخصصة للرأي. كان يُفترض في المراسلين أن يحصلوا على الوقائع على نحو صحيح، وأن يبقوا آراءهم بعيدًا عما يكتبون. من الناحية العملية، عادةً ما كان هذا يعني إجراءهم لمقابلة مع مصدر رسمي واحد ونقلهم لتعليقات ذلك الشخص بأعلى قدر ممكن من الدقة. وإذا كان هذا المصدر مخطئًا أو كانت المعلومات منقوصة، كان الصحفيون يفترضون أن مصادر أخرى ستتقدم لإبلاغهم. وعليه، كان المراسل يكتب خبرًا آخر مستندًا على هذه الوقائع الجديدة.

اختلف بعض الباحثين في أربعينيات القرن العشرين مع الفكرة القائلة بأن الصحفي لا ينبغي أن يقوم بأكثر من جمع الوقائع؛ فأسسوا لجنة حرية الصحافة، برئاسة روبرت هتشينز، رئيس جامعة شيكاجو. قالت اللجنة إن مهمة الصحافة هي تقديم «بيان صادق وشامل وذكي لأحداث اليوم في سياق يعطيها معنًى.» وكتبت: «لم يعد كافيًا نقل الواقعة نقلًا صادقًا؛ من الضروري الآن نقل الحقيقة حول الواقعة.» على سبيل المثال، إدلاء سيناتور ما بتصريح معين هو واقعة، والشاغل الحقيقي للصحافة — حسب مخيلة اللجنة — لم يكن مجرد نقل الواقعة بدقة، بل ينبغي على الصحافة تقديم سياقٍ كافٍ حتى يكون ممكنًا للمواطنين فهم المشكلة والحكم على تعليقات السيناتور.2
لم يكن لآراء اللجنة أثر مباشر كبير على الصحافة؛ فقد استمرت الصحف في متابعة ممارساتها نفسها. تحول نقل الأخبار إلى مَهَمَّة لا تنطوي على إصدار أحكام، حتى إن محرر صحيفة «ذا واشنطن بوست» قال ذات مرة إنه يفضل أن يوظف مراسلين لا يفكرون على الإطلاق. صنعت الصحف صنمًا من هذا التجرد، بحسب ثيودور بيترسن عميد كلية الاتصالات بجامعة إلينوي.3 روى صحفيو هذه الحقبة حكايات عن اتصالهم بمكاتب صحيفتهم وسط إعصار وأمر محررين لهم أن يجلبوا مصادر مثل رؤساء فرق إطفاء أو ضباط شرطة ليؤكدوا أن الريح تعصف بقوة. لم يكن ليكون موضوعيًّا أن يعطي المراسلون آراءهم الشخصية.

(١-١) المراسل الغافل

تلقت الصحافة درسًا مهمًّا فيما يختص بعيب واحد من عيوب هذا النوع من الموضوعية؛ فقد فاز السيناتور جوزيف مكارثي من ولاية وسكنسن بانتخابات مجلس الشيوخ في وقت كان الكثير من الأمريكيين يعتقدون أن الشيوعيين كانوا يستولون شيئًا فشيئًا على أمريكا عن طريق التسلل بسرية إلى قيادة حكومتنا وجيشنا وأحزابنا السياسية ووسائل الإعلام. ربحت أمريكا الحرب العالمية الثانية، ولكن كانت تخسر على ما يبدو أثناء السلام الذي أعقب ذلك. أدرك مكارثي أنه في ظل هذه الظروف المحيطة، إذا ما وجَّه تهمةً مُثيرةً للمشاعر بشأن الشيوعيين في الحكومة، فسيكون من شأن الصحف أن تنقل ما قاله نقلًا شبه حرفي، وحتى لو تشكك المراسلون فيما قاله، فستكرر أخبارهم اتهاماته. أعلن مكارثي أنه كشف شيوعيين أو متعاطفين مع الشيوعيين في وزارة الخارجية والجيش ومحطة صوت أمريكا الإذاعية ووسائل الإعلام الإخبارية ومكاتب المحاماة، وهَلُمَّ جرًّا. قبل أن تبدأ حملة مكارثي، كان أهم أسباب شهرته أنه انتُخِب «أسوأ سيناتور» بواسطة الهيئات الصحفية في أحد الأعوام، وسرعان ما أصبح من الشخصيات المؤثرة الرئيسية في سياسات الحزب الجمهوري، وواحدًا من أكثر الرجال الذين يُخشى جانبهم في واشنطن.

السطحية في هذا النقل للأخبار أغضبت صحفيين كُثرًا؛ إذ عرفوا أنه كان يجري استغلالهم. طالب البعض بأن يُبعَد عن نقل الأخبار المتعلقة بمكارثي. استمر آخرون في نقل جلسات الاستماع التالية، لكنهم أُصيبوا بالإحباط التام. في كتاب «أصحاب النفوذ»، وصف ديفيد هالبرستام مأزق فيل بوتر، المراسل الصحفي لصحيفة «ذا صن» في مدينة بالتيمور:

أثناء جلسات استماع مكارثي المتعددة، كان «بوتر» يُذْهِل الزملاء المعجبين به من خلال العودة إلى مكتب صحيفة «ذا صن» وكتابة مسودة أولية لخبر كان يصب فيه جام غضبه وكل حنقه على ما كان يفعله مكارثي: «جوزيف مكارثي، ابن العاهرة عديم القيمة الكذاب من ولاية وسكنسن …»

ثمَّ، بعد أن ينفِّس عن غيظه ويصب جام غضبه، كان من شأنه أن يمزق الخبر ويهدأ ويستأنف عمله. عادةً عندما كان بوتر ينتهي من عمله لهذا اليوم كان يذهب إلى نادي الصحافة الوطني، حيث كان يجد بعض زملائه ويخبرهم أنه يجب عليهم أن يبدءوا في تغطية أخبار مكارثي، محاولًا أن يبين لهم كيف كانت شخصية مكارثي، وما كان يفعله. كان — حسب اعتقاده — يؤدي رسالةً. اعتقد معظم زملائه أنه ببساطة أقحم نفسه في الأمر أكثر من اللازم؛ فالخبر الصحفي لا يزيد عن كونه خبرًا صحفيًّا. إذا ما أدلى جو بشيء ما، ونقلته؛ فذلك كل ما يستدعيه الأمر.4
لحسن الحظ، لم يرَ كل صحفيي تلك الحقبة مهماتهم على أنها تكرار لأي اتهامات وجهها مكارثي؛ فبعض الصحف هاجمته، واستحدثت صحيفة «ذا واشنطن بوست» مصطلح «المكارثية» للإشارة إلى ممارساته. بَيْد أن التحدي الأكبر لمصداقية مكارثي أتى من وسيلة إخبارية كانت آنذاك في بداية عهدها، وهي التليفزيون. كشف صحفي محطة «سي بي إس» ذو الشعبية الكبيرة إدوارد روسكو مورو بعضًا من أساليب مكارثي في برنامجه «سي إت ناو». ساهم تقرير مورو الإخباري في سقوط مكارثي. بعد تصويت مجلس الشيوخ عام ١٩٥٤م بسبعة وستين صوتًا ضد اثنين وعشرين صوتًا لتوجيه اللوم له على سلوكه الأهوج والمتعسف، ألقى الكثير من المشتغلين بالصحافة نظرة فاحصة على كيفية استغلالهم من قِبَل هذا المنتهك البارع للحقيقة.5
كان من نتائج حقبة مكارثي أن الكثير من المراسلين الصحفيين تبينوا أن قول الحقيقة لا يقتصر على تجميع ما قاله المسئولون؛ فبدءوا في السعي لإيجاد مصادر إضافية لتقاريرهم الصحفية. وَثَّقَ الباحث ليون سيجال هذا عندما دقق في أخبار الصفحة الأولى في صحيفتَيْ «ذا نيويورك تايمز» و«ذا واشنطن بوست». وجد أن المراسلين في خمسينيات القرن العشرين استخدموا عادةً مصدرًا واحدًا فقط، غالبًا أحد كبار المسئولين. وبحلول السبعينيات من القرن العشرين كانوا يستخدمون مصادر أكثر كثيرًا، تشمل بعض الذين اختلفوا مع الرواية الرسمية أو قدموا تأويلًا آخر للمعلومات.6 غالبًا ما كان المراسلون يبحثون عن التوازن. إذا ما أدلى سيناتور ديمقراطي بتصريح، كان من شأن المراسلين أن يتعقبوا أحد قادة الحزب الجمهوري للحصول على رد الحزب الكبير القديم. بعد ذلك كان المراسل يكتب خبرًا مُقتبسًا من كلا الجانبين.

كانت إحدى النتائج التي لم يكن من الممكن تجنبها لهذا التحول أن الأخبار أصبحت، بطرق شتى، أكثر ذاتية؛ فبدلًا من كون المراسلين قنوات موصلة للمعلومات، بدءوا في ممارسة دور نشط في تشكيل الأخبار، وبدءوا يقررون أي التصريحات يجب الطعن فيها وأي المصادر يستدعي الأمر الاتصال بها لتحقيق التوازن. حتى وإن كان المراسلون يحاولون أن يكونوا عادلين ودقيقين، فإن تغطية اثنين من المراسلين لنفس الحدث يمكن أن ينتُج عنها خبران مختلفان للغاية.

(١-٢) هل يمكن أن يخلق التوازن صحافة كسولة؟

قد يقدم عرض وجهتَيْ نظر كلا الجانبين خبرًا أكثر تكاملًا من أخبار الماضي ذات المصدر الواحد، إلا أنه قد لا يساعد المجتمع في الوصول إلى الحقيقة في المسائل المعقدة. عوضًا عن ذلك، قد يكتفي المراسلون بأخبار تتسم بسهولة إنجازها وبتوازنها عندما يكون ثمة حاجة إلى نقل أكثر تفصيلًا للأخبار وفكرٍ أكثر تعمقًا. طرح دانتي تشيني الذي يكتب في صحيفة «ذا كريستشيان ساينس مونيتور» هذه الفرضية: لنفترض أن فريق بوسطن ريد سوكس تغلَّب على فريق نيويورك يانكيز، بنتيجة ٨-٠،7 ويريد المراسل أن يكتشف الأسباب التي من أجلها كانت المباراة مفتقرة بشدة إلى التوازن؛ فيُجري مقابلةً مع أحد مشجعي فريق بوسطن الذي يخبره أن السبب كان الركلات البارعة لفريق ريد سوكس، ثم يتحدث مع مشجعٍ لفريق يانكيز يتملكه شعور بخيبة الأمل والذي يلقي باللائمة كلها على الرمي السيئ لفريق اليانكيز. يمكن للمراسل أن يُعِدَّ خبرًا متوازنًا يتضمن تعليقات من مشجعي كل من فريقي اليانكيز والريد سوكس، إلا أن الخبر — حسب رأي تشيني — لن يصل إلى السؤال الحقيقي: لماذا كانت المباراة مفتقرة بشدة إلى التوازن؟ يزعم تشيني أن الإجابة لا يمكن إيجادها بتحقيق توازن في وجهات النظر، ولكن عن طريق دراسة استمارة تسجيل النتائج ومعاينة المباراة بعناية وإجراء مقابلات مع المشاركين الذين هم في وضع يمكنهم من تقديم ملاحظات تتسم بالحكمة؛ فتحديد السبب الذي من أجله كانت المباراة غير متوازنة يتطلب جهدًا. واستنتج ما يلي:
ويصح القول نفسه على أي عدد من الأخبار … عندما لا يبذل المراسلون الجهد اللازم لفرز الأدلة، ويركنون ببساطة إلى: «هذا الطرف يقول كذا، وذلك الطرف يقول كذا وكذا»؛ فإنهم يصبحون كسالى.8
أخبر ستيفن آر ويزمان كبير المراسلين الدبلوماسيين لصحيفة «ذا نيويورك تايمز» مجلة «كولومبيا جورناليزم ريفيو» أنه عندما يضغط المراسلون للوصول إلى جوهر موضوع ما، فإنهم ينتجون صحافة أفضل. وأشار إلى أنه عندما كان كاتب مقالات رأي وليس مراسلًا موضوعيًّا، «كنت أمارس المزيد من الضغط في نقل الأخبار لأني لم أكن أتمتع بترف أن أقول الشخص «أ» قال كذا والشخص «ب» قال كذا وكذا، وأنتم — يا قرائي الأعزاء — يمكنكم أن تقرروا من هو المُحِق.»9
وفي كثير من الأحيان، يكون من الآثار الجانبية للأخبار المتوازنة ميلها إلى جعل كل المعلقين يبدون بنفس القدر من المصداقية. بحلول أواخر تسعينيات القرن العشرين، اتفق علماء المُناخ بأغلبية ساحقة أن الاحترار العالمي كان ظاهرة حقيقية، ولم يخالف هذا إلا عدد قليل. ومع ذلك، لاحظ الباحثون أن الموضوعات الإخبارية مالت إلى إعطاء كل من الموقفين ثقلًا متكافئًا. أوضح رئيس التحرير التنفيذي لمجلة «ساينس» دونالد كينيدي أنه «ثمة العديد من المراسلين الموقرين في الوسط الإعلامي الذين يعتقدون أنه لكي تقدم خبرًا متوازنًا، ينبغي عليك أن تنتقي معلقًا من الجانب «أ» ومعلقًا من الجانب «ب».»10 النتيجة، حسب الباحثين، هي أن «الجمهور الأمريكي وواضعي السياسات قد قُدِّم لهم السيناريو المضلل الزاعم بأن ثمة نقاشًا محتدمًا بين علماء التغير المُناخي فيما يتعلق بدور البشرية في تغير المُناخ.»11 ولهذا السبب، انخفضت أعداد الأمريكيين الذين يعتقدون أن الاحترار العالمي قد يكون مشكلة أثناء تسعينيات القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين مع ازدياد كمِّ الأدلة العلمية القائلة بأنه مشكلة.12
هذه الملاحظات لا تعني أن الصحفيين ينبغي أن يرفضوا أهمية التوازن في الأخبار برمته. ويؤكد الفائز بجائزة بوليتزر روس جيلبسبان:
الوقت الذي يصبح فيه التوازن عنصرًا مهمًّا هو عندما يتمحور محتوى القصة الخبرية إلى حد بعيد حول الرأي: هل ينبغي على المجتمع أن يقر زواج المثليين؟ هل ينبغي أن يكون مشروعًا؟ في هذه النوعية من التغطيات يكون الصحفي ملزمًا أخلاقيًّا بأن يتيح مساحة متكافئة لأكثر العروض التقديمية بلاغة في التعبير عن أهم التوجهات المتنافسة. حينما يُركز الخبر على مسألة تتضمن العديد من الوقائع المعروفة، فإن مسئولية المراسل هي أن يكتشف ماهية تلك الوقائع.13

(١-٣) مشكلات تحديد التوازن

خلال أواخر القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين، علم المحررون أن الأخبار التي تتناول الشرق الأوسط من المرجح أن تجتذب العديد من الانتقادات. رأى بعض القراء تحيزًا في وسائل الإعلام لصالح إسرائيل؛ البعض كان متيقنًا أن غالبية الأخبار انحازت لجانب الفلسطينيين. جرى مثالٌ على هذا في عام ٢٠٠٦م، عندما اختُطِف جنديان إسرائيليان على يد حزب الله، وهو فصيل عسكري في لبنان؛ ردًّا على الاختطاف، قصفت إسرائيل مدنًا لبنانيةً، ورد حزب الله بإطلاق صواريخ نحو مدن إسرائيلية. كان لدى الصحفيين العديد من الصور ومقاطع الفيديو للموت والدمار. حاولت بعض الشبكات التليفزيونية والصحف عن قصد أن تعرض عددًا متساويًا لصور القتلى اللبنانيين والإسرائيليين. ورفض آخرون ذلك النوع من التوازن الحسابي. قال بيل كيلر، رئيس التحرير التنفيذي لصحيفة «ذا نيويورك تايمز»، أن محرريه استقر رأيهم على الصور التي تُنشر في الصفحة الأولى استنادًا على الحكم على جودة الصور والإبداع فيها وارتباطها بالأحداث. وقال: «المرء لا يقول: «بالأمس نشرنا في الصفحة الأولى صورًا لأبرياء لبنانيين قُتلوا، لذا فاليوم يجب علينا أن ننشر في الصفحة الأولى صورًا لأبرياء إسرائيليين قُتلوا.» ولكنك تهدف بمرور الوقت إلى رسم صورة كاملة النطاق لآثار الحرب.»14
محاولة رسم صورة كاملة النطاق لتبعات الصراع لم تكن سهلة. احتج البعض بالقول إنه ينبغي أن يكون ثمة صور أكثر للقتلى اللبنانيين؛ لأن عدد اللبنانيين الذين قُتلوا كان ثمانية أضعاف الإسرائيليين. ويشير آخرون إلى أن غالبية القتلى اللبنانيين كانوا مدنيين أبرياء وغالبية القتلى الإسرائيليين كانوا عسكريين. رأى البعض أن قتل المدنيين — بما في ذلك الأطفال — ينبغي أن ينال تغطية أكبر. وعلق آخرون بأن العسكريين كانوا يبذلون حياتهم في سبيل بلدهم؛ فهم استحقوا احترامًا وتغطية إضافية بسبب شجاعتهم.15 اللافت للنظر أن كل حُجة من هذه الحُجج سيقت باسم «التوازن». ومع ذلك فقد أسفرت كل حجة عن صفحة أولى أو نشرة إخبارية شديدة الاختلاف عن الأخرى.

لعله لا توجد أي مساحة من التغطية الإخبارية الأمريكية تتعرض لتدقيق أكثر من المرشحين لشغل المناصب الرسمية؛ فيرى الكثير من الناس انحيازًا سياسيًّا، وهم متيقنون من أن آثام السياسي «أ» يجري التغاضي عنها بينما تنال الأفعال الطائشة الطفيفة للسياسي «ب» ضجة إعلامية هائلة، أو تحصل حملة السياسي «ﺟ» على كل الاهتمام من وسائل الإعلام، أو أن يكون المراسلون كالعجين الطيع في يد السياسي «د».

يزعم البعض أن هذه الاتهامات تقريبًا لا مناص منها. لاحظ إريك سيفاريد أحد الصحفيين القدامى الذي يعمل معلقًا أيضًا في شبكة «سي بي إس» أن ثمة الكثير من «القراءة والاستماع المتحيزين»؛ فكثير من الناس يرى انحيازًا في وسائل الإعلام عندما لا تتوافق الوقائع في خبر ما مع الطريقة التي يريدون أن يكون عليها العالم. وينطبق هذا بخاصةٍ على المؤمنين بصدق بقضية أو بمرشح ما. صادف مراسل صحيفة «لوس أنجلوس تايمز» المختص بوسائل الإعلام ديفيد شاو هذا عندما راجع كتابين في نقد وسائل الإعلام؛ أحدهما كُتب من منظور ليبرالي والآخر من وجهة نظر محافظة؛ فذكر أن قراءة الكتابين واحدًا تلو الآخر «يشبه نوعًا ما الاستماع إلى وصف شخصين لمباراة كرة قدم أمريكية ينتمي فيها كل واحد منهما للطرف المضاد.» فقد رأى أحد المؤلفَين انحيازًا ليبراليًّا في نفس التقارير الإخبارية التي رأى فيها المؤلف الآخر انحيازًا محافظًا.16

تصدى الباحثون في مجال الإعلام لتحدي تحديد هل الانحياز الإعلامي بالفعل موجود. يُحدد البعض التوازن بقياس مقدار المساحة الصحفية أو عدد الدقائق في النشرات الإخبارية التي يحصل عليها كل مرشح. ويكون الافتراض أنه إذا ما كانت التغطية متوازنة، فإن المرشحين سيحصلون على نفس القدر تقريبًا من المساحة أو الوقت. قد يكون هذا مفيدًا في بعض الحملات عندما يكون المرشحون متكافئين في الشهرة. إلا أنه في حملات أخرى، يكون شاغلو المنصب الحاليون متقدمين تقدمًا كبيرًا في الاستطلاعات الأولية مما يدعوهم إلى إدارة حملات مأمونة؛ فيتحدثون فقط إلى مجموعات من الموالين للحزب حول موضوعات غير مثيرة للجدل. غير أن المنافس قد يدير حملة نشطة تطرح قضايا حقيقية. ويذهب البعض إلى القول بأن حملة المنافس هي ذات أهمية إخبارية أكبر ويرَوْن أنها ينبغي أن تحصل على تغطية أكثر.

وإدراكًا من الباحثين أن مجرد إحصاء الأخبار والدقائق قد لا يكون وسيلة فعالة للحكم على تغطية الحملات الانتخابية؛ فقد حاولوا الحكم على لهجة الأخبار. ويحاولون تصنيف الأخبار «الداعمة» و«الرافضة» أو التوصيفات «الإيجابية» و«السلبية». تعريف هذه المصطلحات يمكن أن يكون صعبًا، وحتى عندما يتفق الناس على تعريفات لمصطلحات مثل «إيجابي» و«سلبي»، فإن تطبيقها يمكن أن يمثل إشكالية. كما أشار الباحث مايكل روبنسون، قال بعض النقاد إنه عندما أحرز رونالد ريجان انتصارًا ساحقًا في انتخابات عام ١٩٨٤م، كان عليه أن يتغلب على تغطية سلبية ساحقة من جانب الشبكات التليفزيونية. وقال آخرون إن حملته تلقت دفعة قوية من الشبكات التليفزيونية بسبب أن «تغطيتهم السطحية القائمة على الصورة تلائم طريقته المُحكمة في إدارة العلاقة مع الإعلام.» وأشار فريق ثالث إلى أن الكلمات التي قيلت عن ريجان في الرسائل الصوتية للمراسلين كانت بدرجة كبيرة سلبيةً، بينما أعطاه التصوير التليفزيوني صورة إيجابية كقائد قوي ووسيم يشعر معه المواطن الأمريكي العادي بالراحة.17

وحتى عندما يَخْلُص الباحثون إلى أن أحد المرشحين تعرَّض للانتقاد في وسائل الإعلام بقدر أكبر بكثير، فقد لا يكون السبب في التفاوت هو التحيز. عرف القائمون على المرشح الرئاسي الديمقراطي مايكل دوكاكيس أن الكثير من الناخبين اعتقدوا أنه يتسم بشخصية واهنة جبانة. من أجل تحسين صورته، رتبوا مناسبةً لالتقاط الصور ينخرط أثناءها في نشاط ذكوري وهو قيادة دبابة حربية. للأسف، لم يلاحظ القائمون حتى فوات الأوان أن سائق الدبابة لا يجلس أعلى برج المدفع مثل مشاهِد جورج سي سكوت في فيلم «باتون». بدلًا من ذلك، يبقى السائق بداخل الدبابة، ويجب عليه أن يضع رأسه خلال فتحة أو أن يستخدم منظار أفق ليرى ما بالخارج. وبدلًا من أن يظهر بصورة المرشح الذكوري، ظهر دوكاكيس في نشرات الأخبار ورأسه يتأرجح بعنف من جانب إلى آخر. أحدثت الواقعة قدرًا كبيرًا من التغطية الإعلامية حول السبب في تنظيم دوكاكيس لحملة انتخابية بهذا السوء. إذا ما درس أحد الباحثين الحملة أثناء هذه الفترة قد يستخلص أنه كان ثمة انحياز ضد الديمقراطي الليبرالي، رغم أن التغطية السلبية — في هذه الحالة — قد لا تحمل دلالة على أي انحياز لمراسل صحفي.

(٢) مسألة الموضوعية

كتب برنت كننجهام، مدير تحرير مجلة «كولومبيا جورناليزم ريفيو»، أنه لو سأل عشرة صحفيين عما تعنيه الموضوعية، فإنه سيحصل في تقديره على عشر إجابات مختلفة. وكل واحدة منها ستكون مختلفة اختلافًا هائلًا. عندما أعادت جمعية الصحفيين المحترفين كتابة مدونة قواعد السلوك الخاصة بها منذ بضعة أعوام، أُسقِطت كلمة «موضوعية» تمامًا من الوثيقة.

ستزعم قلة من الناس أن تقريرًا ما يندرج تحت تصنيف الخبر هو موضوعي بالمعنى الذي عليه الرياضيات. لنستمع إلى الكيفية التي قرر بها محرر إحدى الصحف الكبرى في الجنوب الغربي للولايات المتحدة ما اعتقد أنه ينتمي إلى الصفحة الأولى: «في رأيي، الأمر يتعلق بسؤالين: هل هذا الخبر ممل أم مشوق؟ هل هذا الخبر ذو صلة أم ليس ذا صلة بقرائنا؟» وأضاف: «بعض الأخبار قد تكون مملة ولكن يظل يتعين نقلها لأنها ذات أهمية.» بعبارة أخرى هي أخبار مشوقة ومناسبة ومهمة. من الواضح أن تلك القرارات تُصاغ عبر تدريب المحررين، وفهمهم لجمهورهم، وخبراتهم الحياتية الشخصية. يعرف أي شخص تواجد في غرفة أخبار أن المحررين والمراسلين غالبًا ما يختلفون بشدة حول ما هو ذو أهمية إخبارية. في معظم الصحف، يجتمع كبار المحررين ليقرروا أي الأخبار ستُنشر في الصفحة الأولى. وحتى فيما بين هؤلاء الصحفيين ذوي الخبرة الكبيرة، غالبًا ما تكون المناقشات سببًا للنزاع.

كتب كننجهام أن مايكل بوجيجا، الذي يشغل حاليًّا منصب أستاذ بجامعة ولاية آيوا، قدم تعريفًا أفضل للموضوعية الصحفية: «الموضوعية هي رؤية العالم على حاله، وليس كما تريده أن يكون.»18
تلك أيضًا الطريقة التي ينظر بها ستيفن بيري — الذي نال جائزة بوليتزر قبل أن يصبح أستاذًا بجامعة آيوا — إلى الموضوعية. ذهب بيري في دورية «نيمان ريبورتس» إلى أنه من السهل رفض الموضوعية إذا ما عُرِّفَت فقط على أنها تكليف المراسلين بانتزاع اقتباسات من كلا الجانبين قبل أن يكتبوا أخبارهم. ودفع بيري بأن: «الموضوعية هي قاعدة تتطلب من الصحفيين أن يحاولوا أن ينحُّوا جانبًا المشاعر والأحكام المسبقة، بما في ذلك تلك التي رسخها الملفقون والمتلاعبون.» وفي حين أنه أقر أنه لا يوجد إطلاقًا صحفي يصل إلى الموضوعية الخالصة، فإن الموضوعية «من الأمور المثالية التي لا يتوقف السعي وراءها قط.» واستشهد بقول والتر ليبمان، الأب الفكري للصحافة الموضوعية: إن الموضوعية لم تُشكِّل أي تضاربٍ «للمحللين والمفسرين الذين يتسمون بالجرأة». كتب بيري أن الهدف كان يتمثل في أن يتعامل المراسلون مع التحيزات الشخصية «لمساعدة الصحفيين على رؤية الحقائق بالدقة المتاحة في حدود القدرة البشرية.»19
ذهب تيم ماجواير، المحرر السابق لصحيفة «ستار تريبيون» في مدينة مينيابوليس، إلى أنه إن قُدِّر للصحف أن تستمر في النجاح، يجب عليها أن تتخلى عن الموضوعية. وقال إنه حينما درَّس لصف في إحدى الكليات، دُهِش من أن الطلبة رأوا تحيزًا في أخبارٍ ما كان المراسلون ليتصوروا أبدًا أن أحدًا قد ينعتها بالتحيز. وقال إن التجربة أقنعته بأنه:
يجب على الصحف أن تستمر في خدمة المجتمع بأكمله لتكون ناجحة. يجب أن تكون الصحف بمنزلة ما أدعوه «متجر المعلومات العام» الذي يشعر فيه كل فرد من جمهور القراء بأنه موضع ترحيب.20

(٢-١) هل يزعم كل الصحفيين أنهم موضوعيون؟

يتداخل الاعتقاد القائل بأن الأخبار ينبغي أن تكون موضوعية تداخلًا كبيرًا مع تصور أمريكا للصحافة حتى إن غالبية الناس في الولايات المتحدة — بما في ذلك الكثير من الصحفيين — يشعرون بالدهشة حين يعلمون أن تلك في الأصل غاية تختص بها أمريكا الشمالية؛ فغالبًا ما تسمح الصحف الأوروبية بأن تتضمن أخبارها ميولًا سياسية واضحة. في المملكة المتحدة، يعرف قراء «ذا جارديان» أن الصحيفة ستُقَدِّم قراءةً ليبراليةً للأخبار، في حين ستقدم صحيفتا «ذا تليجراف» و«ذا صن» آراءً مُحافِظةً. وكما يوحي اسمها، لا تنحصر صحيفة «ذا إندبندنت» (وتعني المستقلة) في توجه سياسي واحد، ومع ذلك يُسمَح لمراسليها بفسحة أكبر كثيرًا مما هو معتاد في الإعلام الأمريكي، بل إن الصحف الفرنسية والإيطالية والألمانية هي أكثر انفتاحًا في مزجها بين الأخبار والتحليلات. تمثِّل هذه الصحف طيفًا من الفكر السياسي أكثر رحابة مما تمثله الصحف الأمريكية. أشار ديفيد شاو من صحيفة «لوس أنجلوس تايمز» أنه في أوروبا «قد يطرح سبعة صحفيين سبعة تأويلات مختلفة لخبر واحد.»21
تميل قلة قليلة من المنافذ الإخبارية الأمريكية نحو النموذج الأوروبي. «ذا واشنطن تايمز» هي صحيفة تمتلكها كنيسة التوحيد التي أسسها القس صن ميونج مون، وتتنافس مع واحدة من أرفع الصحف اليومية الأمريكية، وهي صحيفة «ذا واشنطن بوست». قال أحد محرري صحيفة «ذا واشنطن تايمز» في موقع جمعية الصحفيين المحترفين: «إننا معروفون بأننا صحيفة مُحافِظة؛ لذا فاختيار خبرنا يعتمد على نوعية المحافظين الذين قد يكونون مهتمين بها.»22 ومن المرجح أن تكون المؤسسات الإخبارية التي تمتلكها مجموعة روبرت مردوخ الإخبارية هي أيضًا مُحافِظة. تشمل ممتلكاته الإخبارية شبكة فوكس نيوز وصحيفة «نيويورك بوست» في أمريكا، وصحيفتي «ذا صن» و«ذا تايمز»، وقناة سكاي نيوز في المملكة المتحدة، وعشرات الصحف والمنافذ التليفزيونية الإخبارية في بلدان أخرى.

(٢-٢) المدونات والحقيقة والموضوعية

يَشْغَل الإنترنت آلافُ المدونات. طبيعة المدونات هي التغير الدائم، ومن غير المتيقَّن ما سوف تكون عليه بعد عَقدٍ من الآن. الكثير من المدونات هي كتابات شخصية غير مترابطة تشبه كثيرًا اليوميات التي يتشارك فيها الناس تفاصيل حياتهم اليومية. تشتمل وسائل الإعلام الإخبارية الرئيسية أيضًا على مدونات؛ فمواقع الويب الخاصة به تُبرِز مدونات يكتبها مراسلون منتظمون يقدمون رؤًى متعمقة في الوقائع الإخبارية، وفي عمليه جمع الأخبار نفسها في الغالب. وعادةً ما تتضمن المدونات مساحةً للقراء ليقدموا آراءهم ويطرحوا أسئلتهم. في السنوات الأخيرة، حظي نوع آخر من المدونات ذات الوجهة الإخبارية بآلاف من القراء المخلصين، وبعضها يمتلك موظفين يشبهون كثيرًا المؤسسات الإخبارية الاعتيادية، وأغلبها يديرها فرد واحد. ويأخذ الغالبية أخبارًا من مصادر تقليدية، ويعيد كتابتها ثم يحللها، بتوجه واضح عادةً. قلة من المدونات تتضمن أيضًا تقارير إخبارية من ابتكار القائمين على المدونة. الأرجح أن هذه المدونات متعطشة إلى معايير للحقيقة تختلف عن معايير وسائل الإعلام الأمريكية الرئيسية.

يُقَدِّر الكثير من المدونين طابع الفورية؛ فهي تنقل ما سمعته دون فحص الخبر من خلال محررين. سمحت هذه العملية للمدونات بأن تحصل على السبق في نقل الأخبار المهمة التي كانت وسائل الإعلام الرئيسية بطيئة في تغطيتها لها. هذا يعني أيضًا أن المدونين يجب أن يكونوا أكثر رغبة في قبول احتمال كونهم على خطأ. ذات مرة قال مات درودج — الذي ابتكر واحدة من أوائل المدونات الإخبارية رغم أنه لا يحب هذا المصطلح — إنه ظن أن نحو ٨٠ بالمائة من أخباره كانت دقيقة. قلة من وسائل الإعلام الرئيسية هي التي من شأنها قبول معدل خطأ بهذا الارتفاع. ومع ذلك يحظى درودج بقدر هائل من المتابعة، واعْتُبِرَ واحدًا من المائة «شخص الذين يشكلون عالمنا» من قِبَل مجلة «تايم» في عام ٢٠٠٦م.23
يبدو أن قراء المدونات يفهمون هذا التصور للحقيقة؛ فقد توصل أحد الاستقصاءات إلى أن نحو ٦١ بالمائة من قراء المُدونات وجدوا أن المدونات «أكثر نزاهة» من المنافذ الإعلامية الأخرى، وقالوا إنهم وثقوا في المدونات لأن أفضل المدونات تتمتع بالميزات التالية:
  • كثيرًا ما تقصر المدونات نفسها على جانب محدد من الخبرة؛ فبينما تحاول الصحف تغطية العالم بأكمله، كثيرًا ما يصبح المدونون خبراء في موضوعاتهم؛ لهذا السبب يعتبرهم بعض القراء أكثر جدارة بالثقة.

  • المدونون منفتحون بشأن دوافعهم، ولكونهم يتيحون لقرائهم معرفة تحيزاتهم وتوجهاتهم الذاتية، فلديهم حرية أكبر في التحدث من القلب والتعبير عن أنفسهم. يجد الكثير من القراء المدونين أكثر صدقًا من مراسلي الصحافة التقليدية الذين يؤدي بهم إيمانهم بالموضوعية إلى حجب مشاعرهم؛ حتى لا يعرف القراء أبدًا بحقيقة آرائهم إزاء القضايا المختلفة.

  • المدونون يتسمون بالشفافية بشأن الاستعانة بمصادر والإشارة إليها، ولكونهم يربطون أخبارهم بمستندات ومصادر وأدلة داعمة لتعزيز حُجتِهم، يعتقد القراء أن توقع دقة المدونين أسهل لديهم من توقع دقة مراسلي الصحافة التقليدية.

  • عندما يرتكب المدونون خطأً، يتحمل الذين يتمتعون بالمصداقية المسئوليةَ وينشرون المعلومات المُصححة جنبًا إلى جنب مع أخبارهم المغلوطة. يعتبر الكثير من قراء المدونات أن هذا الاستعداد للاعتراف بالأخطاء يبرر ثقتهم بالمدونين.24
يرى كاتب المقالات في صحيفة «شيكاجو صن تايمز» ريتشارد رويبر شيئًا من المفارقة في حقيقة أن بعض الناس يولون ثقة في المدونين أكثر من وسائل الإعلام الرئيسية، وأوضح أن المدونين غالبًا ما «يستقون أخبارهم من وكالات الأنباء وموقع Time.com، وموقع Newsweek.com وما يقارب ٥٠ موقعًا تابعًا لمؤسسات وسائل الإعلام الإخبارية الرئيسية، قبل أن يطلقوا العنان لآرائهم.»25 لن يخالف جيف جارفيز — وهو مسئول تنفيذي إعلامي ومدون — هذا الرأي؛ فهو يعتقد أن الأخبار ينبغي أن تكون حوارًا أكثر من كونها محاضرة؛ «الخبر لا ينتهي عندما نطبعه.» حسب قول جارفيز. «ذلك هو الوقت الذي يستطيع عنده الجمهور أن يضيف أسئلة وتصحيحات ورؤية. هذا من شأنه أن يُحسن ويغير كذلك علاقتنا بالجمهور.»26

تطبق الكثير من الصحف فكرة تشبه كثيرًا ما يقترحه جارفيز؛ فهي تتيح للقراء أن يضيفوا تعليقات إلى نسخ الأخبار على الإنترنت، مع ظهور هذه التعليقات في نفس الصفحة غالبًا. وعلى العكس من الرسائل التقليدية إلى المحرر، لا تُحرَّر هذه التعليقات، وأيًّا كان ما يكتبه القارئ سيظهر. يُسَر بعض المحررين بالإطار الحواري الذي أعطاه هذا لإصداراتهم على الإنترنت، ويجد آخرون تعليقات القراء غير مقبولة، وربما افترائية. يبحث هؤلاء المحررون عما يأملون أن يصبح بمنزلة وسائل أكثر مسئولية لتسمح بآراء القارئ على صفحات الويب الخاصة بهم.

(٣) هل ينبغي أن تتخلى الصحافة عن الموضوعية؟

جنيفا أوفرهولسر، المحررة السابقة لصحيفة «ذا دي موين ريجيستر» التي تُدرِّس الصحافة الآن في جامعة ميزوري، هي مناصرة عتيدة للتحول بعيدًا عن الموضوعية. «في أكثر الأحيان، الخبر الذي يخلو من أي شائبة للرأي الشخصي هو خبر انْتُزِع منه كامل جوهره.» حسبما قالت. «يمثل هذا التقديس للموضوعية جزءًا كبيرًا من السبب في أن الكثير من تقارير الأخبار اليوم مملة إلى أقصى درجة. إن استبعاد الرأي من الخبر يعني في أغلب الأحيان أن يكون المرء كاتب اختزال ممتاز.» ورغم قولها إنها تتفهم مخاوف المحررين الذين يعتقدون أن الابتعاد عن الموضوعية «سوف يفتح الباب على مصراعيه أمام كتابة الرأي»، فإنها ذهبت إلى القول بأن ثمة خطرًا أكبرَ يشكله الملل من «الكتابة بطريقةِ «إما أن تقبله برُمَّته أو تنبذه برُمَّته» الواهنةِ التي تتسم بالموضوعية الكاملة.»27
في مقال في دورية «نيمان ريبورتس»، رأت أوفرهولسر أن ثمة ثلاث نتائج إيجابية قد تتحقق لو كانت وسائل الإعلام أقل التزامًا بتعهدات الموضوعية؛ فأولًا: زعمت أن الإعلام الإخباري قد يجتذب قراءً ومشاهدين أكثر. وأوضحت أن «أسرع القطاعات نموًّا — وهي وسائل الإعلام البديلة والإثنية التي تعتمد على الإنترنت — تُعرَف بأن لديها وجهة نظر. من الواضح أن تلك الوسائل تشبع تعطشًا ما، بل احتياجًا عامًّا. وكذلك تفعل وسائل الإعلام «التقليدي» المنحازة، وهو ما تمثله قناة «فوكس نيوز». ثانيًا: أشارت إلى أن الشغف بالسياسة ومشاركة الناخبين هي أعلى في الدول التي تكون فيها الصحافة أكثر علنية في تحزبها، وكانت أعلى في الولايات المتحدة قبل حقبة «الصحافة الموضوعية». وثالثًا: تساءلت عما لو أن جانبًا كبيرًا من النقد كان سيختفي لو قَلَّت احتمالات اختباء الصحفيين وراء لواء الموضوعية، وأصبحوا أكثر استعدادًا للإقرار بمرجعياتهم. «ليست النزعات الأيديولوجية هي التي تُلْحِق الأذى بحد ذاتها — حسب قولها — بل إن الأمر الخاطئ هو الخداع؛ إظهار صورة زائفة لنوايا المرء.» «خداع متلقي الأخبار» لا يفي بالتزام الموضوعية.28
تساءل توماس ميتشل، محرر صحيفة «لاس فيجاس ريفيو جورنال»، هو الآخر عما إذا كان النقل الموضوعي للأخبار يبعد الناس عن الاهتمام بالنظام السياسي. وأشار إلى استقصاءات تبين أن اهتمام الأمريكيين بالأخبار السياسية محدود؛ فكتب في أحد الأعمدة:
وهذا ما أرد عليه بالقول إن القضية قد لا تتعلق بكون الجمهور لا يهتم بالسياسة؛ فربما يتعلق الأمر بحقيقة أنك تغطي السياسة بطريقة مملة، تسلك طريقًا وسطًا، وتفتقر إلى الالتزام، وهو ما يبعث على التثاؤب بدلًا من النباح. لمَ لا تدافع بقوة من وجهة نظر لا تعرف الخجل؟ تَحلَّ بالتمييز. اتخذ موقفًا. تحدَّ التصورات المسبقة.29
أعرب جاري جيلسون، المدير التنفيذي لمجلس أخبار مينيسوتا، عن أسفه لأن الصحف كانت تتحدث دومًا عن ترك المراسلين يكتبون بطريقة تتسم باتجاه ما، ولكنه نادرًا ما كان يلحظ هذا حتى قرأ ملف تعريف شخصية في صحيفة «ذا نيويورك تايمز» لديفيد كار. أبرز التقرير فطنة الكاتب ورؤيته المتعمقة. كتب جيلسون:
ما أحببته في سرد كار للأخبار هو أنه أقنعني أنه «عرف» ما كان يتحدث عنه و«أخبرنا به، بدلًا من الاختباء خلف التقليد الصحفي القائل بوجوب إسناد كل فكرة إلى مصدر ما موثوق به. استمر الجدال لأعوام حول إذا ما كان ينبغي على المؤسسات الإخبارية أن تسمح للمراسلين بأن يكتبوا ما يعرفونه. لربما يُلَوِّح هذا التخفيف الظاهري للقواعد في صحيفة ذا نيويورك تايمز» بتغيير تام بالنسبة إلى الصحيفة ومجال الأخبار عمومًا.30
ويبدو أن المعادلة تعمل على نحو جيد في دولٍ كثيرةٍ. يعتبر البعض الجمهور البريطاني أكثر الشعوب اطِّلاعًا في العالم،31 وبلا شك هم ضمن أكثر قراء الصحف نهمًا في العالم؛ ففي حين أن ما يزيد على نصف الأمريكيين فقط يقرءون صحفًا كل يومٍ، ما يقرب من ٧٠ بالمائة من البريطانيين يشترون واحدة من الإحدى عشرة صحيفة اليومية الوطنية كل يوم، ونحو ٨٣ بالمائة يشترون صحيفتهم المحلية. إجمالًا، وطبقًا لرابطة الصحف البريطانية، قرابة اثنين من ثلاثة يشترون على الأقل صحيفتين كل يوم. الجنسيات الأخرى مخلصة بنفس الدرجة للصحف؛ فأكثر من ٨٠ بالمائة من سكان السويد وسنغافورة والنرويج وفنلندا وأيسلندا يشترون صحيفة يوميًّا، وكذلك يفعل ثلاثة من كل أربعة ألمان. تُعنى هذه الصحف بأن تكون أكثر جدية من صحف أمريكا.

يرى البعض أن التحول عن الموضوعية قد دعم نسب المشاهدة لبعض شبكات الكابل الإخبارية الأمريكية؛ فقد انتزعت قناة فوكس نيوز — التي تعتبر صوتًا مُحافِظًا — المرتبة الأولى من شبكة «سي إن إن». وقاومت شبكة «سي إن إن» وبرنامج أخبار «سي إن إن» العاجلة عبر السماح لمعلقيها بأن يأخذوا مواقف سياسية أكثر حدة.

(٣-١) «صحافة الارتباط»

يدعو مارتن بيل الذي يعمل مراسلًا حربيًّا لحساب اﻟ «بي بي سي» إلى ما يُطلِق عليه «صحافة الارتباط». كان بيل يصف نفسه بأنه أحد صحفيي اﻟ «بي بي سي» التقليديين حتى غطى الحرب في البوسنة والهرسك. كتب أنه في البوسنة اكتشف أنه:
يمكنك أن تكون مُنْصِفًا مع الجميع، ولكن لا يمكنك أن تأخذ موقفًا محايدًا بين الخير والشر. لا يمكنك أن تقول حسنًا، قتل هتلر ستة ملايين يهودي، ولكن أقول إنه ضبط الكثير من الأمور؛ لأنك لا تتعامل مع أطراف متكافئة أخلاقيًّا.32
طبَّقت كريستشيان آمانبور من شبكة «سي إن إن» فهمًا مماثلًا للإنصاف حينما غطت تلك الحرب، وكتبت في مجلة «كويل»:

لقد أصبحتُ مقتنعةً بأن الموضوعية تعني إعطاء كل الأطراف فرصة عادلة للدفاع عن موقفهم، ولكن ليس معاملة كل الأطراف بالمثل؛ فبمجرد أن تُعامِل كل الأطراف نفس المعاملة في حالة كحالة البوسنة، أنت تصنع مساواة اعتبارية بين الضحية والمعتدي.

استشهدت آمانبور بمثال: عندما سقطت قذيفة في سوق في سراييفو مودِية بحياة ٦٨ شخصًا، غالبيتهم مسلمون، قال المسلمون إن الصرب قد أطلقوها. إلا أن الصرب قالوا إن المسلمين أنفسهم هم من أطلقوا القذيفة ليكسبوا تعاطفًا. بدلًا من أن تنقل آمانبور من كلا الطرفين على نحو متكافئ، حاولت آمانبور أن تضع القصف في السياق بأن أوردت نقلًا عن شخصيات من الأمم المتحدة أن «الرقم الساحق من قذائف الهاون ونيران القناصة باتجاه المدينة كان من الجانب الصربي.» ووصفت فكرة قتل المسلمين لبني جِلْدتهم بأنها «مقززة».33
فهمت آمانبور أنها يمكن أن تُتهم بأنها ليست موضوعية بالمعنى التقليدي؛ فكتبت:
هذا يزيد من العبء الواقع علينا نحن الصحفيين العاملين بالمجال لأن نتصرف بشكل مسئول، ولأن نزن ما نفعل أو نقول، ولأن نفهم أنه في هذه الأوضاع الخطرة، الكلمات التي ننطق بها لها تأثير، ويمكن أن يكون لها عواقب … كم مرة سمعتَ صحفيين تليفزيونيين عجائز نَكِدين يقولون: «إن الأمر ليس بجراحة مخ، إنه مجرد تليفزيون.» إلا أننا إذا رجعنا إلى المقدمة المنطقية الأصلية القائلة بأن التليفزيون قد صار أقوى وسيلة إعلامية في عصرنا، فإنه إذن في مثل أهمية جراحة المخ. إنه يتعلق بتغذية العقول.34

(٤) سيناريوهات للمناقشة

هذه السيناريوهات تعتمد على خبرات المراسلين والمحررين، ولقد عُدِّلَت من أجل المساحة والتأثير. في غالبية هذه المواقف، سيلتمس المراسل المشورة من محررٍ، وسيكون من شأن المحررين أن يتخذوا القرار النهائي. بَيْد أن المُدخَلات الرئيسية ستأتي من المراسل، والمحررون الجيدون سيستمعون مليًّا للمراسلين قبل اتخاذ قرار. في بعض الحالات، يمكنك أن تتحقق مما فعله المحررون الحقيقيون؛ ذلك لا يعني أنهم فعلوا الصواب، ولكن يمكنك مقارنة أفكارك بأفكارهم.

(٤-١) سيناريو الحقيقة الأول: مدرب التلفيق

باعتبارك كاتبًا رياضيًّا، أنت تبذل الكثير من الوقت في المجمع الرياضي للجامعة المحلية. معظم المدربين يُنادى عليهم بلقب «كابتن» أو بأسمائهم. إلا أن مدرب كرة القدم الأمريكية يُخاطَب دائمًا بالدكتور. تجيب سكرتيرته على الهاتف بتلك الطريقة، ولاعبوه والعاملون معه يختصرونها إلى «دوك». تسأل مدربًا آخر عن الأمر فيقول: «إذا كنت تعمل بذلك الكد، فأنت تستحق اللقب.» فتوافقه على قوله.

كان برنامج كرة القدم الأمريكية ضعيفًا لسنوات؛ فقرر مسئولو الجامعة أن يخوضوا المجازفة مع «الدوك»، الذي كان مدربًا مساعدًا في مدرسة أصغر لسنتين والذي اكتسب سمعة أنه مُستقدِم عظيم للاعبين. وأتت المقامرة بثمارها؛ تولَّى الدوك فريقًا فاز بمباراة واحدة وخسر ١٠ مباريات في الموسم الذي سبق تعيينه. الآن، وبعد مضي عامين، من المرجح أن يفوز الفريق بلقب الاتحاد. العناوين الرئيسية للصحف تدعوه «دكتور الفوز»، والخريجون يخشَوْن بالفعل أن تسعى الجامعات الأخرى لخطب وده.

أنت في حفلة وبعض أصدقائك يمزحون بشأن المقررات التي سيأخذها شخص ما ليحصل على درجة الدكتوراه في التربية الرياضية. في اليوم التالي، تتساءل عما تدرسه لتحصل على دكتوراه في التربية الرياضية؛ فتعرف أن المدرب التحق بجامعة مرموقة؛ فتتحقق من صفحة الويب الخاصة بها، لكن لا يمكنك أن تجد معلومات عن برنامج تخرُّج في التربية الرياضية. لعله يُدعى باسم آخر؛ لذا تقوم بعدد من عمليات البحث ولا يمكنك أن تجد أي مقررات تخرُّج في أي موضوع له صلة بالأغراض الترفيهية أو التربية الرياضية؛ فتُقَدِّر أنك مخطئ بشأن المكان الذي نال منه المدرب درجة الدكتوراه؛ فتتحقق من السيرة الذاتية التي أصدرها مكتب المعلومات الرياضية. إن لديك بالفعل اسم المدرسة الصحيح، لربما أوقفت البرنامج؛ فتتصل بمكتب العلاقات العامة للجامعة، ويقال لك إن الجامعة لم تمنح مطلقًا درجات تخرج في التربية الرياضية.

فتحصل على موعد للتحدث مع الدوك، وتخبره بما عرفته. في بادئ الأمر يبدو متفاجئًا، وبعد ذلك يبدأ في الضحك، ويقول: «حقًّا إنه ليس أمرًا ذا بال. كل هذا بدأ كنوع من المزاح.» ويوضح أنه بعد تخرجه من المدرسة الثانوية، أُصيبت ركبته أثناء التحضير لتجربة في الدوري الوطني لكرة القدم الأمريكية. انتهى مستقبله الرياضي، وكان يتعين عليه سداد فواتير للمستشفى. وهكذا عرض عليه مدربه القديم عملًا، وأدرجه مساعدًا أكاديميًّا، ودفع له أعلى مرتب يمكنه دفعه، وجعله مؤهلًا للاستفادة من التأمين الصحي بالجامعة. في أول اجتماع للفريق قدَّمه المدرب، وقال مازحًا إنه كان بصدد الحصول على دكتوراه في الهندسة النووية. «منذ ذلك الحين فصاعدًا، دعاني اللاعبون دوك؛ التصق الاسم بي. أعتقد أن شخصًا ما بعد ذلك في مكتب المعلومات الرياضية أخذ المزحة بجدية، ووضع ذلك في سيرتي الذاتية.» وقال إنه سيعمل على تصحيحها.

بدا ذلك ممكنًا، وقوانين السجلات العامة في ولايتك جيدة؛ لذا تفحص ملفه مع إدارة الجامعة؛ فتجد أنه أدرج الدرجة العلمية في طلب العمل الخاص به، وأن اللجنة التي توصي به للوظيفة اعتبرت أن حصوله على الدكتوراه من جامعة مرموقة بهذا القدر هو ميزة إضافية.

لا تستطيع أن تقرر إذا ما كان هذا خبرًا، أنت تعلم أنه في الألعاب الرياضية الجامعية يوَظَّف المدرب أو يُعزَل حسب سجل الفوز والخسارة الخاص به، وليس حسب مؤهله التعليمي؛ فإذا كان يفوز بالمباريات الكبرى، فمن المحتمل أنه كان يخفق في المدرسة الابتدائية. مع ذلك، تتذكر أيضًا ما قرأته عن توظيف جامعة نوتردام لمدرب كرة قدم أمريكية، وبعد ذلك ببضعة أيام عزلته عندما تبين أنه كذب في سيرته الذاتية.

عندما تواجه الدوك بالمعلومات الجديدة، يسأل: «وما المشكلة هنا؟ أنا لا أحتاج إلى درجة دكتوراه لأُدرِّب، وتوظيفهم لي لم يأتِ بسبب حصولي على درجة الدكتوراه. إن ذلك حتى ليس في التوصيف الوظيفي. إنهم وظفوني لأفوز بمباريات كرة القدم الأمريكية، وذلك ما نحن نفعله. كل ما ستفعله هو أنك ستتسبب في الحرج لبعض الناس الطيبين في الجامعة، وستثبت أنك لا تمتلك قدرًا كبيرًا من حس الدعابة.»

طَبِّقْ صندوق بوتر، وقرر إذا ما كنت ستستخدم هذا الخبر.

(٤-٢) سيناريو الحقيقة الثاني: لا أحد كامل

أنت محرر مقالات في صحيفة بحجم جيد، ولديك وظيفة تحبها حقًّا، وتكتب عمودًا يستعرض ملامح حقيقية مأخوذة من حياة أشخاص يكافحون من أجل تأمين لقمة عيشهم في مجتمعك. تستحوذ أخبارك على تعاطف القراء، وينتج عنها عروض لتقديم مال ووظائف لأولئك الذين تصفهم، للعمود شعبيته لدى القراء الذين كثيرًا ما ينبهونك إلى أشخاص يمكن أن تكتب لمحة عن حياتهم.

لقد قضيتَ اليوم تعمل على عمودين سيُنشران في الصحيفة في الأسبوع المقبل، وتلقيت الكثير من الإفادات حول رجل وحيد على كرسيٍّ متحرك ينهمك مع الناس في حوارات ودية بينما ينتظرون الحافلات أو يمرون به في طريقهم إلى العمل. يبدو أن الناس يستمتعون بتبادل المزاح معه. إنه ليس متسولًا ولا يقبل عروض الهبات.

الآخران هما زوجان واجها صعوبات العثور على عمل في المدينة. عمل الزوج كعامل يدوي لكنه لا يحصل على الكثير من مهام العمل. هما يعيشان في سيارة مهمَلة، مصدرهما الرئيسي للدخل يأتي من زوجته، التي تبيع دمها في بنك دم محلي. بدون ذلك المال، لكان من الممكن أن يتضوَّرا جوعًا.

تُلْزِم صحيفتك المحررين أن يُجروا فحصًا مبدئيًّا عن خلفية الأشخاص؛ فتكتشف أن الرجل على الكرسيِّ المتحرك لديه سجل طويل من الشكاوى المقدمة للشرطة. تشمل الكثير من شكاوى بشأن تحرشه بشابات صغيرات. نعتته أحد البلاغات بأنه «منحرف على الكرسيِّ المتحرك.» العامل اليدوي أيضًا لديه سجل توقيف يشتمل على توصيل المخدرات والسطو، وصديقته سُجِنَت مرتين على خلفية الإدانة بتهم الإغواء.

أنت ترجو لو كان ممكنًا أن يكون لكل شخصيات موضوعاتك سجلات بلا شوائب، إلا أن الكثير من الناس في هذه الظروف يُضطَرون إلى اللجوء إلى الجريمة. الغرض من العمود هو خلق التعاطف ورواية خبر جيد. إذا ما أدرجت الخلفيات الجنائية، فسيتوقف التدفق السردي ولن يتعاطف أي أحدٍ مع شخصياتك. تتساءل إن كان من الأفضل في بعض الأحيان أن تبرز الجوانب الجيدة في الناس بدلًا من أن تنبش من أجل إظهار سواءتهم. وهكذا تكتب ملامح الشخصيات، مشددًا على جهودهم الإيجابية للتعامل مع ظروف مؤسفة.

هل تتفق أم تختلف مع محرر المقالات؟ (قرار الصحيفة موجود في نهاية الكتاب.)

هوامش

(1) An interesting account of the news coverage of the early medical findings about cancer and tobacco can be found in Karen Miller, “Smoking up a storm,” Journalism Monographs, December 1992. Also see Morton Mintz, “Judge says tobacco industry hid risks,” The Washington Post, April 22, 1988; Carol Leonnig, “U.S. trial against tobacco industry opens,” The Washington Post, September 22, 2004; John Stauber and Sheldon Rampton, “How the American tobacco industry employs PR scum to continue its murderous assault on human lives,” Tucson Weekly, November 22, 1995; and “Science, Tobacco and You,” a Web site at Florida State University, http://scienceu.magnet.fsu.edu/content/tobaccohistory/docs/civilwarstud.html.
(2) A Free and Responsible Press: Report of the Commission on Freedom of the Press. University of Chicago Press, 1947 (Midway Reprint, 1974), pp. 20–29. Also see Theodore Peterson, “The Social Responsibility Theory of the Press,” in Fred Siebert, Theodore Peterson, and Wilbur Schramm, Four Theories of the Press, University of Illinois Press, 1956 (pb edn 1973), pp. 73–104.
(3) Peterson, op. cit.
(4) David Halberstam, The Powers That Be, New York: Alfred A. Knopf, 1979, p. 194.
(5) McCarthy and McCarthyism have been the subject of many books, including Richard H. Rovere’s Senator Joe McCarthy, a 1959 book reprinted by the University of California Press in 1996, and Robert Griffith, The Politics of Fear: Joseph R McCarthy and the Senate, Amherst: University of Massachusetts Press, 1987. A few more recent books have presented McCarthy in a more favorable light, including Ann Coulter, Treason; Liberal Treachery from the Cold War to the War on Terrorism, New York: Three Rivers Press, 2003. Some mistakenly confuse McCarthy’s Senate committee with the House Committee on Un-American Activities, which blacklisted Hollywood writers and investigated the Ku Klux Klan and the anti-Vietnam War protests.
(6) Leon Sigal, Reporters and Officials, Lanham, MD: Lexington Books, 1973.
(7) It should be noted that The Christian Science Monitor’s office are in Boston.
(8) Dante Chinni, “When media aims for balance, some views and facts get lost,” The Christian Science Monitor, July 11, 2006.
(9) Brent Cunningham, “Re-thinking objectivity,” Columbia Journalism Review, July/August 2003.
(10) Chris Mooney, “Blinded by science,” Columbia Journalism Review, November/December 2004.
(11) Max Boykoff, “The disconnect of news reporting from scientific evidence,” Nieman Reports, Winter 2005.
(12) Cunningham, op. cit.
(13) Ross Gelbspan, “Disinformation, financial pressures and misplaced balance,” Nieman Reports, Winter 2005.
(14) Lorne Manly, “In wars, quest for media balance is also a battlefield,” The New York Times, August 14, 2006.
(15) Lorne Manly, “In wars, quest for media balance is also a battlefield,” The New York Times, August 14, 2006.
(16) David Shaw, “Of isms and prisms,” Columbia Journalism Review, January/February 1991, pp. 56-57.
(17) Michael Robinson and Maura E. Clancey, “Network news, 15 years after Agnew,” Channels, January/February 1986.
(18) Cunningham, op. cit.
(19) Stephen Berry, “Why objectivity still matters,” Nieman Reports, Summer 2005.
(20) Tim McGuire, “Two perspectives: Reporting with attitude,” Newsworthy, Winter 2004.
(21) David Shaw, “How media gives stories same ‘spin,’” Los Angeles Times, August 25, 1989.
(22) Robert Buckman, “Editors explain the ethical process they go through when determining story content and placement,” Society of Professional Journalists Web site at www.spj.org, posted 2005.
(23) Ana Marie Cox, “Matt Drudge: Redefining what’s news,” Time, April 30, 2006.
(24) J. D. Lasica, “Transparency begets trust in the ever-expanding blogoshere,” Online Journalism Review, August 12, 2004.
(25) Richard Roeper, “What’s old is news: Media finalists for online honors,” Chicago Sun-Times, August 31, 2006.
(26) Steve Outing, “What journalists can learn from bloggers,” Poynter Online, December 20, 2004.
(27) From her remarks in the 13th annual Otis Chandler lecture at the University of Southern California School of Journalism, quoted in M. L. Stein, “Here we go again!” Editor & Publisher, November 28, 1992.
(28) Geneva Overholser, “The inadequacy of objectivity as a touchstone,” Nieman Reports, Winter 2004.
(29) Thomas Mitchell, “Professional introspection or radical heresy?” Las Vegas Review-Journal, December 1, 2002.
(30) Gary Gilson, “Breaking the rule of objectivity,” Minnesota News Council Web site, www.news-council.org, posted March 3, 2006.
(31) Statistics from the November 2006 audit can be found at Web sites of the Newspaper Society, www.newspapersoc.org.uk, and The Times (London), www.timesonline.co.uk.
(32) Zoe Smith, “If you ask me: Martin Bell,” onlinepresgazette.co.uk, November 13, 2006.
(33) Christiane Amanpour, “Television’s role in foreign policy,” Quill, April 1996. Also see Sherry Ricchiardi, “Over the line?” American Journalism Review, September 1996.
(34) Information in this section was drawn from Christiane Amanpour, op. cit, and Sherry Ricchiardi, op. cit.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤