فوق السحب

حضر إليَّ ذات صباح مندوب إحدى الصحف، وأخبرني أن مكاني محجوزٌ في الطيارة الذاهبة إلى الإسكندرية في اليوم الذي أختاره، والساعة التي أحددها فترددت … ولكنه أسرع يقول لي: إن سفر الأستاذ بالطيارة له قيمته من الوجهة الصحفية!

فنظرت إلي بذهن شارد وقلت كالمخاطب لنفسي: وإذا سقطت الطيارة بالأستاذ؟!

فأسرع يقول دون أن يتبصَّر في قوله: يكون أحسن وأتمَّ، فهو كذلك خبر له قيمته من الوجهة الصحفية!

فأفقتُ في الحال: شيء جميل!

وتنبه الصحفي لزلة لسانه وارتبكَ واعتذر: غرضي يا أستاذ …

– غرضك ظاهرٌ من أوله.

– من يعلم؟ … ربما عدتَ إلينا بالسلامة.

– ربما؟!

قصدي أقول إنك إن شاء الله راجع بالسلامة منشرح الصدر غير نادم على المخاطرة، وما فاز باللذة إلا الجسور!

ومضى هذا الإبليس العصري يزين إليَّ لا الهبوط من السماء إلى الأرض، بل ترك الأرض والصعود إلى السماء! ويتحدث عن جمال الرحلة الجوية في ذاتها بغض النظر عن المقال المطلوب. وتمَّت الغواية وقبلت آخر الأمر، وانصرف عني الصحفي راضيًا ظافرًا في الحالين مقالتي أو حياتي!

وجلستُ أفكر قليلًا. لقد كان عليَّ أن أسافر حقيقة إلى الإسكندرية بعد يومين لحضور عقد زواج أحد الأصدقاء. وكان عليَّ أن أصاحِب «العريس» من القاهرة إلى الإسكندرية. فقلت في نفسي: فكرة. لماذا لا أغري «العريس» بالسفر معي في الطيارة؟

ولم أضِع وقتًا. وذهبتُ من فوري إلى ذلك الصديق السعيد؛ فأنبأته الخبر واقترحت عليه هذا السفر فاصفرَّ وجهه: طيارة؟!

وأطرق يفكر في «حُجج» يتذرع بها دفعًا لهذا البلاء! وكأنه اهتدى إلى إحداها فقال: أنسيتَ أن معي حقيبة كبيرة بها «الفراك» والقمصان المنشَّاة وملابس أخرى داخلية وخارجية.

– اطمئن! لكل راكبٍ الحق في ١٥ كيلو زيادة على وزنه.

فقال في لهجة العزم القاطع: مستحيل.

– خِفتَ؟!

– ليس الخوف. لكني لا أرى معنًى للسفر بالطيارة.

– المعنى كل المعنى في سفرك الآن بالطيارة. فأنت ذاهب إلى عروسك التي تنتظرك. وليس أحبُّ إلى قلبها من أن تعرف أنك ذاهب إليها طائرًا من فرط الشوق. أنسيتَ قول ذلك الأعرابي الولهان:

أسربَ القطا هل من يعير جناحه
لعلِّي إلى من قد هويت أطير

عذر ذلك الأعرابي واضح. أما أنت فما عذرك يا مَن تجد في هذا العصر سربًا من «قطا»، شركة مصر ذات الأجنحة القوية والمحركات الكهربائية.

فلمعَت عينُ صاحبي وأعجبته فكرة الطيران إلى عروسه، ووجد فيها شعرًا وخيالًا. فأذعنَ وقال: غلبتني.

وانصرف يُعِد العُدة. وبقيت أنا أمتع نفسي بلذة الظفر بنجاح الإغراء، ولا أنكر أني قد أحسست الاطمئنان يجري في دمي. فأنا أخشى دائمًا أن ينفرد بي «القدَر» وجهًا لوجه. ويخيَّل إليَّ أن بيننا مبارزة خفية سلاحها السخرية الخطرة. وأعتقد أنه ينبغي لي أن أختفي دائمًا وراء منكبَي رجلٍ كُتب له السعادة، تلك هي «التميمة» التي تقيني شرَّ القدر. إن من الأمثال الشعبية التي أحفظها مثلًا وأومن به: «ضع قدمك في «مركوب» السعيد تسعد». وهذا «العريس» رجل سعيد، طيب القلب والسريرة، ممتلئ الجسم صحة وقوة وإيمانًا بالحياة، ولا أظن ساعة مثله قد حانت. ويخيل إليَّ أن من الناس من يشيح الموت عنهم بوجهه كما يشيح إبليس عن المصحف أو الصليب. من أجل ذلك حرصت كل الحرص أن أكون في رِكاب هذا «السعيد» حتى لا يراني القدر ولا يجرؤ على النظر إليَّ بسوء.

وجاء يوم السفر وذهبت إلى المطار، وجعلَت عيناي الزائغتان تبحثان عن «العريس» في كل مكان، ودقَّ الجرس ووقفت الطيارة المسافرة تأخذ مئونتها من الزيت والبنزين. وتمَّ وزني مع عصاي «ستين» كيلو لا أكثر ولا أقل. وطلب إليَّ موظفو الشركة المبادرة بالركوب، فالتفتُ يمينًا وشمالًا. فقال لي أحدهم: أتنتظر أحدًا؟

فأومأت بالإيجاب، فقال: فات الوقت، ولن يأتي أحد والطيارة قائمة فتفضل!

عندئذ أدركت أن العريس قد هرب. وحدثَتني نفسي أن أتخلف أنا أيضًا وأعود أدراجي ولكن موظف المطار استعجلني قائلًا: من حسن حظكَ أنه ليس اليوم في الطيارة غيركَ.

وجذبني من ذراعي في رفق، ومشينا حتى دنونا من السلم المدلى من باب الطيارة وليس بها أحد حقيقة. ولكن قد خُيِّل إليَّ أني أرى فيها شخصًا وهو لا شك «القدَر» أو «الشيطان» في شبه بذلة رسمية سوداء وهو يبتسم لي ابتسامة صفراء. فما تمالكتُ وقلتُ للموظف في ذعر: أنا وحدي في الطيارة.

– نعم من حسن الحظ فأنتَ كأنك قائم بطائرة خاصة.

– لا … لا … أشكركم جدًّا. لا ضرورة لقيام طائرة خاصة من أجلي … هذا شرف عظيم.

وأردتُ أن أبتعد عن السلَّم وأن أهرب من المطار … ولكن … فجأة ظهرت سيارة تأتي مسرعة لمحت فيها الصحفي وكان قد أخبرني أنه ربما جاء المطار لتوديعي. ولعله في واقع الأمر ما جاء إلا ليطمئن ويراني بعينه صاعدًا في الجو. فلم أجد مفرًّا. وعدت إلى السلَّم صاغرًا وأنا ألوح له بيدي في غير حماس ردًّا على تحيته الخالصة وتوديعي الحار. وأجلسني الموظف المختص في آخر مقعد قرب الذيل، وأراني مكان القطن أضعه في أذني إذا أزعجني صوت المحركات، وأراني آنية من الورق تنفعني إذا أصابني دوار وقيء وأقفل عليَّ الباب. ورُفع السلَّم وأدِيرَت المحركات وارتفعت وأنا أقول في نفسي: إذا سقطت الطيارة فإن الجرائد ستنشر الخبر تحت عنوان «ولكن الله سلَّم». وستُزفُّ التهاني إذ لم يكن بالطيارة من حُسن الحظ ركَّاب. فما أجمل هذه النهاية!

ولم تلبث الطائرة أن امتطَت الجو، وثبتَت عليه، ومخرَت فيه، ولم يعد يخيَّل إليَّ أني معلق في الفضاء، بل إن فكرة الفضاء نفسها قد ذهبت من عالم إحساسي. وقلت في نفسي عجبًا. كم من الأخطاء تسبح في أذهاننا كأنها جراثيم. كلمة «الفضاء» واحدة منها. ليس هناك فضاء. وإن الطيارة لتسير على شيء هو أثبتُ مادة من الأرض تحت عجلات القطار … ونظرتُ من النافذة فإذا منظرٌ لن أنساه. رأيتُ القُطر المصري تحت كأنه خريطة جغرافية كبيرة مصنوعة من الجبس الملوَّن. وما أنا إلا ذبابة أو مخلوق وهمي كمخلوقات «سويفت» يركب جناح بعوضة هائمة فوق هذه الخريطة. فهذا النيل العظيم بفروعه ورياحاته ليس إلا قنوات صغيرة كقنوات الحارات في اليوم المطير، يلعب فيها الصبيان، ويقيمون عليها السدود من الوحل والطين، وهذه المدن الصغيرة أو الكبيرة ليست إلا خلايا نحل وأعشاش عصافير، وهذه الحقول والغيطان فهي عجبٌ آخر؛ كل أرض مصر الخصبة ليست إلا سجادة «مودرن» برسومات ذات الخطوط المربعة والمثلثة والمستطيلة، وقد صُبغت بالأصفر والأخضر والأسود، ألوان ثلاثة هي وحدها التي تلعب وتجري وتتوزع في أنحاء هذه السجادة كأنها أنغام ثلاث في قطعة موسيقية. ولم أشعر قط أني أتحرك، ولكني كنت أشعر أن أحدًا يحرِّك قليلًا تحت أنظاري هذه السجادة … هي التي تتغير في أوضاعها، وتكشف لي عن بعض حدودها ودقائقها. أما أنا فشيء ثابت ينظر من علٍ كأنه إله. وأمعنتُ النظر من الجهتين ومن النافذتين، فرأيتُ طرف السجادة الغربي قد تهدل على شبه رمال … إنها قد وُضعت من غير شك في صحراء، كما يضع الناسك سجادة الصلاة في الخلاء.

ولم يمضِ قليل حتى جذبت يد خفية هذه السجادة؛ فإذا بي لا أرى غير الصحراء تحت أنظاري، كأنها بحر قد عبث النسيم بوجهه الصافي، وأثار فيه تموُّجات خفيفة رقيقة لم تمسَّها بعد أصبع.

تلك بقاعٌ بِكْر من الصحراء لا يمكن أن تفاجئها غير عين الله وعين بعض الطيور النادرة، أنا الآن أحدُها بفضل هذه الأجنحة المصنوعة من القطن والخشب!

وذهب هذا البحر الأصفر. وبدأت عيني ترى أطراف ذلك البحر الأزرق يبرق عن بعدٍ كأنه فصُّ فيروز في كف الكون. وأطلت النظر واقترب مني البحر حتى انطرح تحت أقدامي عاريًا كتمثال امرأة … من البلور. ورأيت فيه الثغر صغيرًا كأنه يضحك … عن بضع سفن شراعية بيضاء وبخارية كألاعيب الأطفال. فعلمتُ أني قد وصلتُ سالمًا.

وهبط بي ذلك الجناح السحري. فإذا أنا في مطار الدخيلة وإذا الوقت الذي مضى بين القاهرة والإسكندرية لحظة كالحُلم لم أفكر أثناءها في موت ولا في حياة.

لقد كنت في عالم لا يعرف الموت والحياة: لقد كنت فوق السحب!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤