حقوقي على نفسي

في ذات صباح دخل عليَّ حارس بابي وقدَّم إليَّ خطابًا، قال إن صاحبه ينتظر الإذن ﺑ «المثول». وفضضتُ الغلاف وقرأتُ الخطاب؛ فإذا هو معجب متحمس قد ذهب الإعجاب برأسه؛ فجاء من بلدته وتحمل نفقات السفر؛ كي يظفر بخمس دقائق يرى فيها ذلك التمثال من الحكمة فوق عرش من الذهب، أو ذلك المخلوق العجيب الذي تتساقط من فمه درر الفن والأدب، فتملأ أحواضًا حوله يسبح فيها بطٌّ وإوز من الفضة والماس، وتنبتُ فيها أزهار من النور والبلور. إلى آخر هذا الخيال الذي لمحتَ أثره بين السطور. وكان عندي وقتئذٍ أديب معروف اطَّلع على الخطاب وقال: هذا يذكرني بأحد الموسيقيين في القرن الماضي، مشى من بلده على قدميه ليرى «ريتشارد فاجنر»، فلما بلغ حيث يقيم اكتفى بمشاهدة خيال الأستاذ قائمًا خلف زجاج نافذته، وقفل إلى بلده غانمًا باسمًا.

فقلت لصديقي: لا محل هنا للمقارنة. فأنا لست «ريتشارد فاجنر»، وصاحب الخطاب لن يقنع مني فيما يظهر بشبح مارٍّ خلف نافذة.

لا تنسَ أنه دفع نفقات السفر ليرى مناظر قد صورها خياله منذ أيام وشهور، وليعيش تلك الدقائق الخمس في جو عُبِّق بأحلام وأوهام ساورته في ليالٍ طوال، وهو يقرأ ذلك «الهراء» الذي ملأنا به كتبًا ذات ورق صقيل وطبع أنيق. أي خيبة أمل ستصدم نفس هذا المسكين إذ يجتاز الساعة عتبة هذا الباب.

وترددت قليلًا. ولاحظ صاحبي ترددي فقال: ائذن له على كل حال.

فأذنت، وليس في مقدوري أن أفعل غير ذلك. فإن رفْض المقابلة في مثل هذه الحال قسوة وسوء أدب. ودخل الزائر، فإذا شاب يتقدم في حياء واضطراب. سلَّم في احترام، وجلس حيث أشرت إليه. ولبث صامتًا مطرقًا ينتظر مني أن أبدأ الحديث. ولم أجد أنا ما أقول. وطال صمتنا. ورأى صديقي الأديب أن الموقف قد فتر وبرد إلى حدٍّ أخجل الشاب فوق خجله، فافتتح الكلام في لباقة قائلًا للشاب: أنت قرأت للأستاذ طبعًا …

فاندفع الشاب يقول في قوة وتحمُّس: كل شيء. كل شيء من «أهل الكهف» الخالدة إلى آخر مقال ظهر في الصحف للأستاذ.

فلم أنظر إلى الزائر، والتفت إلى صديقي الأديب وقلت: ألم تدركها الوفاة بعد «أهل الكهف الخالدة»؟ … إن هذه «الخالدة» جديرة أن تموت «حرقًا» كما تموت الساحرات الكاذبات.

فاحمرَّ وجه الشاب وأراد أن يقول شيئًا. لكني مضيت في كلامي: إني أرجو ممن يسبغ مثل هذه الصفات على مثل هذه القصة أن يقرأها بعد عشرة أعوام. فإن استطاعت أن تحتفظ بسحرها عشرة أعوام فقط حُقَّ لك أن تعجب وأن تغتبط.

فلم يُطق الشاب صبرًا وصاح بي: لا تقل ذلك … لا تقل ذلك أنت ولا شك لم تقرأ …

ولم يتم. فقد قاطعه صاحبي الأديب بقهقهة عالية وهو ينظر إليَّ: أسمعت؟ إنك لم تقرأها … وإنك لتحكم على شيء ليس لك به علم.

وخجل الفتى الزائر قليلًا، وتمتم باعتذار خافت وقال: إني قرأتها كثيرًا. لا أذكر كم من المرات. فإذا لم تكن هذه القصة خالدة فما هي القصة الخالدة؟

– إنها «خالدة» إذا هبطنا بسعر «الخلود» إلى خمسة أعوام!

فاحتجَّ الشاب وحرَّك يده على نحو عنيف؛ فلم ألتفت إليه، واتجهت شطر صديقي الأديب وقلت: إني لن أنسى يوم شاهدت هذه «القصة» تمثَّل للمرة الأولى. لقد خرجت من إطارها الساحر. هذا الطبع الأنيق والورق الفاخر. فإذا هي شيء هزيل لا يكاد يقف على قدميه. وإذا سحرها الوهمي الكاذب قد طار عنها كما يطير الريش الملون عن الطاووس الجميل فلا يبقى منه غير شبه جيفة من اللحم الأزرق والعصب الضئيل. هذه القصة التي لم تثبت ﻟ «التمثيل» أتستطيع أن تثبت ﻟ «الزمن»؟

فتململ الشاب ونظر إلى صاحبي الأديب نظرة المستنجد وقال له: إني لم آتِ اليوم لأسمع هذا الكلام من الأستاذ.

فأجابه صاحبي باسمًا: إن الأستاذ أدرى بعمله منا …

فقاطعه الفتى قائلًا: لا … لا … أبدًا.

فنظر إليه صديقي دهشًا: ماذا تعني؟

فصاح الشاب في حماسة: إن أعمال الأستاذ خالدة جميعًا.

فلم أستطع كتمان ضحكي وقلت من فوري: أقسم أن الأستاذ الذي تتحدثون عنه لم يكتب سطرًا خالدًا.

فنهض الشاب على قدميه منفعلًا وقال بصوت متهدج: إني لا أسمح لك … إني لا أسمح …

فأسرع صاحبي الأديب وهمس في أذني: الزم الصمت. إني ألمح الشر في عينيه. وليس بمستبعَد أن يهجم عليك ويشبعك ضربًا.

فابتسمت وقلت للشاب في هدوء ورفق: سنتفق على كل حال ذات يوم. وربما في يوم قريب. وسترى بعينيك أني أنا الذي كنت على حق.

فهدأ الفتى قليلًا، ثم نظر إليَّ وقال في نبرة الأسف: لماذا تريد أن تهدم عملك؟

– لأنه لا يساوي الآن شيئًا. لقد قام بمهمته وانتهى الأمر. إن الفن طويل والعمر قصير، وإن هذا الهراء الذي نكتبه ليس إلا محطات صغيرة نجتازها أثناء السفر في طريق الفن، لا ينبغي أن نقف عندها ولا أن نرجع البصر إليها. إن ما يهمني الآن هو المحطة التي بلغتها اليوم والمحطة التي أريد أن أبلغها غدًا. إني في كل محطة يخيل إليَّ أني في مبدأ الطريق.

– إنه لتواضع.

– لا. إنه ليس كذلك. ينبغي أن تكون معي في هذا السفر الطويل حتى تدرك أن «أهل الكهف» شيء قد مات ودُفن منذ أعوام.

– إنها لم تمُت.

– الكلام معك أيها الشاب لا فائدة منه.

– معذرة يا أستاذ. إني لن أصدق أن «بريسكا» ميتة الآن. مهما تقل ومهما تفعل، إني أسمع كلامها وأعيش معها، وأكاد أراها الآن. إن ملامحها وتقاطيع وجهها وقوامها الرشيق وخصرها النحيل … كل هذا حيٌّ في رأسي وقلبي، كل هذا مصور في مخيلتي تصويرًا لا تمحوه كلماتك التي قلتها اليوم ولا أضعافها. إني كنت قد جئت لأحدثك حديثًا طويلًا عن «بريسكا» وأستزيد من خبرها ولكن … أرجو أن تأذن لي الآن في الانصراف.

ومدَّ لي يده فجأة وودعني في صمت وذهب سريعًا وأنا أنظر إليه حتى اختفى وحال بيني وبينه الباب. وأطرقت لحظة ثم رفعت رأسي ونظرت إلى صاحبي الأديب فإذا هو كذلك مطرق مفكر. وأخيرًا التفت إليَّ وقال: ما كان ينبغي لك أن تقول كل هذا الكلام لهذا الشاب المسكين.

– أوَكان ينبغي أن أتركه في وهمه مخدوعًا في خلود كاذب؟

– ليس من حقك أن تصدر على نفسك أحكامًا أمام الناس. إنك ما دمتَ قد استطعت أن تخلق للناس أوهامًا جميلة وأحلامًا حلوة يعيشون في جوِّها؛ فإن من الإثم أن تخرجهم منها بكلمة. ومع ذلك فكن على ثقة بأنهم لن يصدِّقوا كلامك، وأن حرصهم على هذه الأوهام التي ألِفوها لأشدُّ من حرصهم عليك أنت وعلى حقيقتك التي تزعمها. أترى لو بُعث نبي من الأنبياء اليوم وجاء يهدم دينه الذي أتى به قديمًا، ماذا يكون شأنه؟ أيصدقه الناس بسهولة أم تراهم يرجمونه بالحجارة ويرمونه بالكذب والجنون؟! إن تمسُّك الناس بالوهم الذي اعتادوه لأقوى من كل حقيقة.

– يا للعجب! أليس لي الحق إذن أن أهدم نفسي. إنه الجنون أن أتصور أن ليس في استطاعتي أن أهدم نفسي.

– نعم، وإنها لنعمة حُرِمها المؤلف فيما حُرم من أشياء. إن حقوقه على نفسه ليست محفوظة له كحقوق الطبع والتأليف!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤