أمام حوض المرمر!

في ليلة من ليالي وحدتي الطويلة، تاقت نفسي إلى أنيس. فذكرت الملكة «شهرزاد». وهي أيضًا من مخلوقاتي الجميلات. فقلت: لا يؤنسني الليلة غيرها. فهبطت إلى قصرها. كما هبطت إلى الأميرة «بريسكا» من قبل. نعم! وهل يؤنِس مثلي إلا الملكات والأميرات؟ إن عالمي الزاخر باللآلئ والحلي والتيجان هو دائمًا في خدمتي! هذا كل عزاء مثلي من «الخالقين» المتدثرين في سحب «عزلتهم» الباردة!

•••

ذهبت إلى «شهرزاد»، فوجدتها متكئة على الوسائد تنظر باسمة في حوض من المرمر، قد انعكست أشعة عينَيها الذهبيتَين على مائه، فاتخذت صفحته الهادئة لونًا غريبًا … وجلس بين يديها الوزير الجميل «قمر» في إطراقه وحيائه ونفسه الزاخرة بألوان العواطف الجميلة المكتومة. وكان بينهما هذا الحديث:

شهرزاد (في مكر) : أراك يا قمر تسرف في إطرائي وتبخس قدر صديقك شهريار.
الوزير : لم أبخس قدره.
شهرزاد (في مكر) : يخيَّل إليَّ أنك نسيت ما بينكما من ودٍّ عجيب.
الوزير (في حدَّة) : لم أنسَ شيئًا.
شهرزاد (في خبث) : بلى!
الوزير (في حدَّة عمياء) : إني لم أنسَ شيئًا. إنما أبيِّن لك لماذا أنت تحبينه أسمى الحب. فلا تزعمي لي غير هذا مرة أخرى. إني لست أُخدع. لست أُخدع. لست أُخدع!
شهرزاد (هادئة) : قمر؟ ماذا دهاك؟
الوزير (يثوب إلى رشده) : مولاتي مغفرة. إني …
شهرزاد : إنك أحيانًا لا تملك نفسك.
الوزير : إني … أردت أن أقول إنك غيرتِه، وإنه انقلب إنسانًا جديدًا منذ عرَفك.
شهرزاد : إنه لم يعرفني.

(وهنا يسمعان طرقًا شديدًا فقد طرقتُ أنا عليهما الباب.)

الوزير (يرهف السمع) : هذا هو.
شهرزاد : إن شهريار يحمل دائمًا مفتاحه ولا يدخل القصر إلا من سردابه.
الوزير : من الطارق إذن؟
شهرزاد : اذهب وجِئني بالخبر

(الوزير يخرج مسرعًا.)

شهرزاد (كالمخاطبة لنفسها) : مسكين أنت يا قمر!

(الوزير يعود على عجَل.)

قمر : مولاتي! أتدرين من الطارق؟ رجل عجيب الزي، يقول إنه المؤلف، ويلتمس المثول بين يديك.
شهرزاد (في عجب) : المؤلف؟ أي مؤلف؟
قمر : لم أفهم مراده. إنما هذا ما قاله لي
شهرزاد : أدخِله لنتبيَّن أمره.
قمر : أفي مثل هذه الساعة من الليل؟
شهرزاد : وماذا يضير؟ إنكَ معي.
قمر : نعم سألبث معكِ.

(يخرج قمر في الحال.)

شهرزاد (كالمخاطبة لنفسها) : المؤلف؟ أتُراه أحد السحرة قد أرسل في طلبه شهريار؟

وقادني قمر إلى شهرزاد، فدخلتُ أتأمل المكان وأنظر إلى عجائب القصر. ورأَتني شهرزاد وتأملَت زِيي قليلًا، ولكن حسنها وهيبتها لهما عين السحر في نفوس الخالقين والمخلوقين فوقفتُ أقول مأخوذًا: مولاتي …

– ماذا بك؟

– أأنا بين يدي شهرزاد؟

فهمس في أذني الوزير الجميل: نعم أنت في حضرة الملكة العظيمة.

فقلتُ كالمخاطب لنفسي: نعم، لا يمكن لهذا الجمال أن يكون لغيرها.

ورأت الملكة الجميلة ما بي فقالت لي: بم تهمس كمَن به مس؟

– مغفرة أيتها الملكة، إني …

– لماذا تنظر إليَّ هكذا؟

– هذا الجمال …

فالتفتَت شهرزاد إلى وزيرها قائلة: أرأيت يا قمر؟ إنك قد جئتني آخر الليل بمعجب مفتون.

فنظر إليَّ قمر قائلًا في شيء من الحدَّة: ماذا جئتَ تصنع هنا أيها الرجل؟

فقلت هامسًا: لست أدري.

ثم عدت إلى تأمل شهرزاد. فقالت: أرجو منك أن لا تطيل النظر إليَّ هكذا.

فقلت: مولاتي! لا أستطيع.

فقالت وهي تبحث بعينيها الفاتنتين: أين الجلاد؟

فقلت: نعم، خير لك أن تأمري بي فتُطاح رأسي من أن تطلبي إليَّ أن لا أعجب بك.

– أتراني حقًّا جميلة؟

– نعم.

– إن لي جسدًا جميلًا! أليس لي جسد جميل؟

– ليس الجسد وحده.

– اقترب.

– كلا.

– لماذا؟

فأشرت إلى حوض المرمر: هذا الحوض …

– أيُخيفكَ هذا الحوض؟

– أخشى أن تزل قدمي فأسقط وأنا لا أحسن السباحة.

– إنه قليل الغور.

– لا شيء عندك قليل الغور.

فتفرَّست شهرزاد في وجهي وقالت: عجبًا إنك تتكلم كما يتكلم شهريار! من أنت؟

– خادمك توفيق الحكيم.

– أتعني أنك صاحب توفيق أم أنك صاحب حكمة؟

– لا هذا ولا ذاك، ولكنه اسم من الأسماء.

– وما صناعتك؟

– أؤلف القصص.

– مثلي؟

– لم أبلغ شأوك، وليس لي ذكاؤك ولا خيالك.

– إنك تسرف في إطرائي وتبخس قدر نفسك.

– قدر نفسي؟ وما أدراك به؟ وهل عرفت لي قصصًا على الأقل أيتها الملكة؟

– كلا. ماذا صنعتَ أنتَ من القصص؟

– قصة «شهرزاد».

فظهر العجب على وجه الملكة:

– أنا؟

– نعم أنت.

– متى صنعتها؟

– ليس يعني الزمن الذي صنعت فيه.

– أصنعتها في الماضي؟

– بل في المستقبل.

– فهمت. هذا الزي العجيب …

– نعم. إني أهبط إليك الساعة من المستقبل الذي أعيش فيه لألقاك في الماضي الذي فيه الآن تعيشين، كما يهبط الطائر من الشمال إلى الجنوب في غابة متسعة الأرجاء.

– يا للعجب! كلامك هذا يذكرني بشهريار.

– أترين هذا؟

– لكنك أهدأُ نفسًا منه.

– نعم، الآن.

ونظرت شهرزاد إليَّ مليًّا: إني أعجب كيف أن القدَر لم يجمع بيننا قبل الآن!

– لقد جمع بيننا دائمًا.

– أين؟

فأشرتُ إلى قلبي وقلت: هنا.

فقالت في عجب وهي تشير إلى قلبي: هنا؟

– نعم. ومن هنا خرجتِ أنتِ إلى الوجود فما أنتِ إلا صنع النار والنور الكائنَين هنا.

وأشرت مرة أخرى إلى قلبي. فقالت باسمة: هذا جميل.

– أرأيتِ من أي مادة أنت مصنوعة يا مخلوقتي العزيزة؟

وتململ قمر، فقال مشيرًا إليَّ في عنف:

– من هذا الرجل؟

فقلتُ في الحال: صه أيها الوزير. فكِّر في شأنك أنت، ودعني فيما أنا فيه. فما جئتُ الليلة إلا من أجل شهرزاد.

فقالت شهرزاد في ابتسامة عذبة: جئتَ من أجلي؟

– نعم.

– وماذا تريد مني؟

– أريد أن أعيش إلى جانبك.

وهنا ثار غضب قمر فصاح بي: أيها الرجل! من أنت أيها الرجل؟

فقلت له هادئًا: أنا كائن أشقى منك حالًا.

فقالت شهرزاد: لماذا؟

– لأني أشعر ببرد الوحدة يكتنفني في تلك السماء ذات السحب.

فقالت باسمة: ويل للخالقين!

– صدقتِ، أجل يا شهرزاد لو لم يعِش الخالق في مخلوقاته لقتله برد الوحدة.

– تريد إذن أن تهبط إلى الأرض؟

– لقد قلتِها أنتِ مرة يا شهرزاد: لا شيء غير الأرض.

– أين شهريار يسمع منك؟ وهو الذي هجر الأرض يريد السماء؟

– لا تخشي عليه من بأس. سوف يعود إليك.

– متى؟

– يوم يعلم أن السماء في الأرض.

– يا هذا … أريد منك شيئًا.

– ماذا؟

– أمنحُك قُبلة!

– تمنحينني قُبلة؟

– نعم.

– وهبتُها قمرًا.

فنظر قمر إلى شهرزاد مستنكرًا قولي وصاح: مولاتي!

فقلتُ له: خذها أيها الأبله. من ذا الذي يرفض قُبلةً من شهرزاد؟

فلم يحتمل قمر الرقيق أكثر من ذلك؛ فخرج سريعًا.

فقلت: هرب الأحمق.

وعندئذ نظرت إليَّ شهرزاد مليًّا، وقالت: عرَفتُك أخيرًا.

– عرفتِني؟ من أنا؟

– أأنتَ هو؟ أم أنكَ تعيش فيه؟

– من هو؟

– شهريار!

فقلت مضطربًا: لستُ أدري … هذا سؤال لا ينبغي أن يوضع، ولا ينبغي أن يلقَى عليَّ.

فقالت: إذن ارتفع. فما أنت إلا شبح من الأشباح.

– شبحُ من؟

– شبح شهريار!

– لا تقولي هذا. إنما هو الشبح وأنا الحقيقة.

فقالت:

– أمام الأبد هو الحقيقة التي ستبقى وهو خالقك وهو مخلدك، وما أنت إلا خيال سوف تتبعه صاغرًا على مرِّ الأيام. وإن ذكِر اسمك على الدهر فإنما يُذكَر خلف اسمه. إنك تزعم الآن أنك صانعنا وخالقنا أمام ذلك الزمن المحدود، وإنما نحن في الحقيقة صانعوك وخالقوك في الغد أمام الخلود.

– ويلٌّ لي.

– ماذا بكَ؟

– أأنا عندكِ شبح؟ تلك هي السخرية الكبرى! في وحدتي ينخر في نفسي الشك. فإذا هبطتُ بينكم ألتمس اليقين، علمتُ أني شبح لا حقيقة، وأني صنعكم أنتم أمام الدهور.

فقالت: كل شيء يصنع كل شيء.

– نعم.

– ليس هناك إلا حقيقة واحدة.

– ما هي؟

– إننا جميعًا لسنا حقيقة.

– وأنا معكم؟

– وأنتَ معنا لا فرق بينك وبيننا.

فتأملتُ قولها لحظة ثم قلت: صدقت! ولا أمل لي مع ذلك في أن أعيش إلى جانبك؟

فقالت: اليوم كلَّا.

– ومتى إذن؟

فقالت: في الغد، يوم تصبح من مادتنا، لو أن لنا اليوم مادةً.

فأطرقتُ قائلًا: فهمتُ. وداعًا يا شهرزاد.

– إلى الملتقى!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤