الفصل الرابع

الأشكال الحديثة لرغائب الشعب

لو نظرنا إلى نتائج اعتصاب موظفي البريد المباشرة لعددناه من الاعتصابات الاعتيادية، ولكننا إذا نظرنا إلى علله البعيدة رأيناه من الحوادث التي تفتح دورًا جديدًا في تاريخ الشعب.

حقًّا لقد شاهد الناس أول مرة شروع المجتمع في الانحلال والانقسام إلى زمر صغيرة متجانسة مستعدة للتضحية بالمصلحة العامة عندما تلوح لها بارقة منفعة خاصة، وحقًّا لقد رأى العالم المتمدن موظفي البريد يعاملون بقية الأمة كمدينة حاصرها العدو لعزلها عن العالم وإكراهها على التسليم جوعًا.

جلبت تلك الأثرة نظر كثير من الأجانب، فإليك ما جاء في (التايمس) التي هي أهم صحف إنكلترة: «إنا لنحزن من المنظر المشؤوم الذي طرأ من جراء الاعتصاب الحاضر على بعض مقومات الحياة في فرنسا، فلو أن الأزمة الأوربية انتهت في هذه الأيام بشهر الحرب لأصاب قوة فرنسا العسكرية شلل في وقت قصير، ولبُلِيت بنكبة قومية حتمًا، فجماعة من الموظفين لا تلتفت إلى هذه الأمور في وقت تجتاز فيه أوربا ساعة عسر وضيق إما أن تكون سلبية العقل والذكاء، أو تكون مجردة من كل عاطفة وطنية.»

وليس استخفاف زمرة من أبناء البلاد بالمنفعة العامة سوى مظهر من مظاهر ذلك الاعتصاب. فقد كان حدوثه فجأة نتيجة تكوين زمر اجتماعية قوية خافية منذ عهد طويل، ولما شعرت إحدى هذه الزمر بقوتها انتصبت أمام حكومة البلاد الدستورية، وأثبتت للملأ ما سوف يكون لها من الشأن، وتقوم تلك الزمرة في وجه الاشتراكية التي هي بنت المذهب الحكومي قيامها في وجه الحكومة، فلهذا يخطئ الاشتراكيون بفرحهم بنجاح اعتصاب لا يعرفون مداه.

ومما أوجب نجاح موظفي البريد مقت الناس برلمانًا لم يفعل سوى وضع قوانين متناقضة، واضطهاد طبقات برمتها من أبناء البلاد، وقد أوجب حكاية الجابية في مصلحة البريد التي طلب أحد المديرين عزلها لمواظبتها على القداس استياء الجمهور وعطفه على المعتصبين.

ويسوقنا التطور الجديد في رغبات الشعب إلى دور الفوضى والتقهقر، فمع إقامة الثورة الفرنسوية الحرية مقام طوائف العمال نرى تلك الطوائف تبعث، ومع إلغائها الضريبة الشخصية درءًا للاضطهاد الأميري نسعى في فرض ضريبة أثقل من كل اضطهاد، إذًا تظهر أنواع الاستبداد السابق مسمَّاة بأسماء جديدة، وستكون الحرية في المستقبل كناية عن تباغض أبناء الوطن وتضاغنهم.

مفاجأة اعتصاب موظفي البريد بلا مبرر تثبت لنا أنه وليد نفسية الجماعات، ومن حين إعلانه لم يجد له هؤلاء الموظفون سببًا مقبولًا، فقد جاء في بيان نشرته لجنة الاعتصاب المركزية في عدد جريدة (الماتان) الصادر في ١٩ مارس سنة ١٩٠٩ ما يأتي: «لم نقم بالاعتصاب لندافع عن مصالحنا المهنية، بل إن شتائم الموسيو (سيميان) لزميلاتنا هي التي أوجبت سخط موظفي البريد جميعهم.»

غير أن المعتصبين لم يلبثوا أن أدركوا أن ذلك السبب لا يكفي لتبرير وقف حياة البلاد، فأخذوا يبحثون عن أسباب أخرى فعثروا على سبب مبهم، وهو أن الحكومة حابت بعض الموظفين فرقَّتهم قبل المدة المعينة بثلاثة أشهر.

والحق أن للاعتصاب المذكور عللًا أخرى، وأنه ليس في موقف موظفي البريد ما يزكيه ويجعله صوابًا، فقد كان هؤلاء في حال ممتازة، ولا سيما بعد أن أجيبوا إلى جميع مطاليبهم منذ خمس عشرة سنة، وصاروا يقبضون رواتب أكبر من رواتب كثير من الموظفين الآخرين وصفوة العمال الذين يساوونهم تعلمًا ويفوقونهم عملًا.

كان الموظف الذي أدار الاعتصاب يقبض راتب ستة آلاف فرنك، والموظف ذو العلامات السيئة لا محالة نائل بعد مرور خمس وأربعين سنة راتب ٤٤٠٠ فرنك إذا كان مستخدمًا في قلم ثابت و٥٥٠٠ فرنك إذا كان متنقلًا، ولا يقل راتب تقاعد الموظفين عن ثلثي راتبهم أيام قيامهم بأمور وظائفهم، ويتقدم أولو الكفاءة كل ثلاثة سنوات، ويتأخر تقدم الذين أقل منهم أهلية ثلاثة أشهر، وقد انتقدت الصحف أيام نشرت تعليمات تقدم الموظفين تساهل الإدارة في ترقيتهم بحسب القدم مهما ساءت علاماتهم.

إذًا ما هي علة ذلك الاعتصاب؟ علته نوبة زهو في زمرة من الموظفين الشاعرين بقدرتهم التي أغمضت الحكومة عن اكتسابهم لها، جاء في جريدة الطان «أن الوزراء ومستشاريهم الذين قبضوا على أعنة الحكم منذ اثنتي عشرة سنة ساروا على سياسة استعطاف مرؤوسيهم، فأصغوا إلى جميع مطاليبهم واعتبروها سهلة التنفيذ غافلين عن القالب الذي أفرغت فيه».

والسلطة كانت تتملق بتذلل وكلاء جميع الموظفين، فقد ثبت «أن رئيسها كان يتغدى في كل أسبوع مع مستشار الدولة الذي كان يأخذ رأيه في جدول ترقي الموظفين وتعيين المديرين».

وعلى أثر مناقشة وقعت توترت العلائق بين الطرفين فجأة بسبب عدم كفاية الميزانية لتلبية المطاليب الزائدة، ونظرًا لتعود أولئك الوكلاء أن يخاطبوا الرؤساء مخاطبة الآمر الناهي استشاطوا غيظًا من مقاومتهم لهم، وأخذوا يهددونهم، ومن البديهي أن يقع الخصام بينهم عندما ترفض السلطة الرخوة مطاليبهم أول مرة.

وقع الخصام على الوجه الآتي:

لما رجع وفد رجال البريد في ١٣ مارس من غير أن ينال من الوزير مطلوبه القائل بعدم الترقية على الخيار ذهب إلى دائرة البرق المركزية صاخبًا ناشرًا عدم النظام، وفي اليوم الثاني من ذلك التاريخ اجتمع موظفو البريد والبرق في (تيفولي فوهال)، فقرروا الاعتصاب باتفاق الآراء.

وماذا حدث بعد ذلك؟ بعد أن قاومت الحكومة مقاومة ضعيفة استمرت بضعة أيام، ألقت السلاح على رغم تأييد مجلس النواب إياها راكبة ظهر الخزي والعار، وقد علم مفوض رجال البريد كيف يصف هزيمة الحكومة لزملائه — الذين تغلبت الحماسة عليهم — بالعبارة الآتية وهي:

وقتما رأيت ولاة الأمور في غرفة رئيس الوزراء، يلتمسون ختام الخصام وهم جاثون على ركبهم شعرت بأننا أقوياء حازمون.

ولم يحتجِ المعتصبون إلى كبير زمن ليستنبطوا نتائج ظفرهم، فقد أشار إليها أحد مفوضيهم في قوله: «إننا باعتصابنا علمنا قيمة كلمة سيد، فليس في نظرنا من هو سيد بعد، ولن نكون مرؤوسين في المستقبل، فكلنا معاونون.»

هذا المفوض متواضع في كلامه، ولو قال: «نحن السادة، وقد أثبتنا ذلك وسنثبته فيما بعد» لكان كلامه أقرب إلى الواقع والصواب.

وأي زاجر أدبي يستطيع اليوم أن يكبح جماح موظفين يعلمون أنه ليس عليهم إلا أن يأتوا بضروب الوعيد والتهديد لينالوا مطاليبهم؟ وكل في هذه الأوقات يزيد مطاليبه ويبالغ في رغائبه، وما شذت شرط المدن عن هؤلاء قط.

ويظهر أن رئيس منتسبي النقابات (ب) عالم بأحوال الناس النفسية علمًا عمليًّا، فقد استنبط من ذلك الاعتصاب المحزن درسًا كبيرًا، فقال: «اقترف ولاة الأمور سيئة عظيمة بجعلهم المأمورين يشعرون بما كان لا يخطر ببالهم من قوة كامنة فيهم»، ولا يجهل (ب) قيمة النظام، فهو يعرف كيف يطاع من الموظفين الذين لا تؤثر الحكومة فيهم، وقد صرح على رؤوس الأشهاد أنه لو أمر برمي جميع موظفي البريد في القدور لنفذ أمره حالًا.

وقد لاحظت صحف الاشتراكيين نتائج نجاح ذلك الاعتصاب أيضًا، فإليك ما جاء في أهمها: «يمكن الصعاليك أن يشعروا من الآن بقوتهم الناشئة عن كون وسائل المخابرات البريدية والبرقية والتلفونية بأيديهم لا في اعتصاب كالاعتصاب الحاضر الذي يعني مطاليب خاصة أو عزل مستشار في الوزارة، بل في تنازع عام يحدث لتحريرهم.»

ومتى سلك سبيل منح الامتيازات المنحدر عن جبن وجب التدرج إلى أسفل نقطة فيه، وهذا ما يقع؛ فلقد أشارت الصحف إلى كبيرة يكاد العقل لا يصدقها، وهي أن مجلس إدارة سكك الدولة الحديدية قرر أن يضم إليه أحد كاتمي أسرار جمعية اتحاد العمال الثورية الذي لم يكتم عزمه على تقويض دعائم المجتمع بعنف، وبهذا ترى ماذا يكون مصير رؤساء لا يتكلون على غير رحمة مرؤوسيهم.

ومع أن نجاح عصاة الموظفين موقت نرى له نتائج بعيدة المدى، وإني لا أبحث هنا في غير أقربها: نكاد نشاهد استفحال الفوضى العامة التي أبصرنا وقوعها منذ زمن طويل، وعلى ما في سقوط مالية الدولة ومصالحها العامة من بطء لا بد من تمام هذا السقوط، والذي يتداعى اليوم تداعيًا ظاهرًا هو المقومات الأدبية، أي أركان المجتمع، وأمر مثل هذا لا يكون ابن يومه، فلم يقصر زعماء الأحزاب ورجال السياسة منذ كثير من السنين في إفعام قلوب الناخبين بوعود لا تتحق وفي امتداح أحط غرائزهم لنيل أصواتهم في المعارك الانتخابية.

وهكذا أصبح أعضاء اللجان الانتخابية ومعلمو المدارس الابتدائية وأصحاب الحانات سادتنا الحقيقيين، وأي مثل أعلى ينشأ عن ذلك؟ ينشأ عنه قضاء تدريجي على سلسلة المراتب والنظام والإخلاص للمصلحة العامة.

إذًا الفوضى التي نشاهد حدوثها أمر لا مناص منه، وقد أوشك الوقت الذي تفيدنا فيه عبر التاريخ أن ينقضي، ومنها أن الفوضى في جميع البلدان تؤدي إلى الحكم المطلق الجائر، كما أدت إليه في روما وأثينا والجمهوريات الإيطالية.

•••

لا ننكر أن ولاة الأمور بحثوا عن دواء لمعالجة الحالة التي نشأت عن اعتصاب موظفي البريد، غير أنهم لما كانوا مشبعين من الوهم اللاتيني القائل إن القوانين قادرة على فعل كل شيء رأوا أن يقاتلوا الفوضى بوضع الأنظمة، فأسرعت الحكومة في سن قانون في واجبات الموظفين يجازي من يعتصب منهم، وبذلك دلت على بساطتها الداعية للاستغراب، وإلا فهل من الرأي أن يقال بإمكان عزل عشرة آلاف موظف أو سجنهم عندما يعتصبون دفعة واحدة؟ وها إن الحكومة هددتهم بالعزل في أثناء الاعتصاب الأخير، فماذا كان تأثير التهديد فيهم؟ لم يؤثر قط.

ولم يكن هذا التدبير وحده هو الذي اقترح، فقد قيل في أثناء المناقشة التي دارت في البرلمان آراء سخيفة أيضًا، أي إن نائبًا بسيط القلب ذكر مؤكدًا في مجلس النواب أن الأمور تجري في مجاريها، والنظام يسود إذا حولت مصلحة البريد إلى وزارة!

ولا نرى بعد الاعتصاب الثاني غير دواء واحد لمعالجة الحالة، أي إن على الحكومة أن تسير حسب ما رأته في اعتصاب عمال الكهرباء الذين شجع جبن مديريهم موظفي البريد على الاعتصاب.

لا وسيلة للهرب متى تقابل الجيشان، فيجب على أحدهما أن يختار أحد الأمرين: فإما أن يلقي السلاح ويقع أسيرًا وإما أن يحارب، فإذا وقع أسيرًا أصبح تحت رحمة الغالب الذي يملي عليه شروطه، وإذا حارب فقد يتم له النصر وقد يغلب على أمره مع إنقاذ شرفه.

إذًا القرار الشافي الذي كان واجبًا هو أن تعارك الحكومة المستندة إلى البرلمان جميع القوى المتحالفة ضدها، نعم كان من الممكن أن ينضم إلى موظفي البريد عمال الكهرباء ومستخدمو السكك الحديدية وغيرهم، وأن يقع شيء من الهوش في شوارع باريس التي قد تصيبها المجاعة بضعة أيام، غير أنه لا بد من ظفر الحكومة في ذلك، وأما إلقاء الحكومة السلاح بنذالة وخنوع فقد جعل العراك في المستقبل أمرًا محتمًا، ولا أحد يفهم من ينال النصر فيه، فالجيش وإن كان يؤيد الحكومة في هذا الزمن قد لا يدعمها بعد قليل من السنين.

وعلى ذلك من الضروري اجتياز فترة صعبة من الزمن لاجتناب فترات أكثر منها حرجًا، وهنالك مبدآن متناقضان لا يكونان في آن واحد وهما: النظام والثورة ولقد عانت الشعوب انقلابات كثيرة، ولكننا لا نتذكر أنها عاشت ولو مرة واحدة في دور ثوري مستمر كالذي يظهر أننا داخلون فيه.

ولا فائدة من الإسهاب في أمر صحيح لم تجرؤ على اتباعه حكومة أثار أكبر وزرائها اعتصابات عديدة، وتواطأوا مع رجالها قبل أن يقبضوا على زمام الأمور، وإنا لنكتفي بإيراد الملاحظات الفلسفية الخالصة، وإن كان ذلك يذهب عبثًا.

أوَلا يؤلف بين ما تقابل من القوى الاجتماعية المتناقضة؟ ذلك ممكن من الوجهة النظرية، ولا يمكن عمليًّا؛ لأنه لا سلطان للعقل على القوى المتزاحمة المشتقة من المشاعر، فالحقد والحسد وسحر الألفاظ والصيغ هي قوى لا يؤثر فيها المنطق.

والنفوس لا النظم السياسية هي التي يقتضي تعديلها، ولا عمل لنا في هذه الأخيرة لصدورها عن مقتضيات الاقتصاد، وليس من السهل تغيير الصور النفسية المختلة التي تظنها الجماعات حقائق، فنحن لا نزال بعيدين من اليوم الذي يفهم فيه المشتغلون بالسياسة أن المجتمع لا يقوم كما يرغبون، وأن الحكومة ليست من القدرة بحيث تستطيع تحويل كل شيء، وأن ترقي الأمة يتم برقي أحوال الأفراد النفسية الذين تتألف منهم.

والمذهب النقابي الذي نعد اعتصاب موظفي البريد أحد مظاهره خطر لا بمقاصده الوهمية، بل بانتظام أمره ونشاطه اللذين لم يبدِ البرلمان ذو الاعتبار القليل أمامهما سوى الجبن وعدم الارتباط.

وقد أثبتت تجارب الماضي أن العالم يخضع لأولي الجرأة حينما يكونون ذوي مثل أعلى مهما تكن قيمته، فأصحاب العزم القوي والإيمان الراسخ هم الذين قضوا على أعظم الدول وأقاموا ديانات كبيرة استعبدت النفوس.

إذًا مناقضة المذاهب الجديدة للعقل لا تحول دون انتشارها، وتصبح هذه المذاهب بأولي العزم والنشاط الذين يناضلون عنها عظيمة الشأن كثيرة الخطر، ويكفي أن يستقيم أمرها لإيجاد حق جديد، فالحق ليس سوى قوة مستمرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤