الفصل السادس

تفاقم الاستبداد

من مميزات الوقت الحاضر تطور الاشتراكية والنقابية على شكل استبدادي، وقد أوردت إحدى الصحف الكبيرة المثال الآتي من بين ألوف الأمثلة المتشابهة وهو:

حدث في (سيت) مظهر من مظاهر الاستبداد النقابي المستكره، وهو أن النقابة جعلت اثني عشر عاملًا في حال لا يقدرون بها على كسب عيشهم، وما هو ذنبهم؟ ذنبهم استمرارهم على عملهم في أثناء الاعتصاب الجديد الذي لم يستحسنوا وقوعه.

ولم يوجب الاستبداد النقابي خرابًا وإتلافًا في مكان إيجابه في مدينة (سيت) المنهوكة بالأزمة الاقتصادية التي وقعت منذ زمن قليل، ولم يألُ عمال هذه المدينة جهدًا في تقويض ما بقي من حياتها بما يأتون به من رغبات مفرطة واعتصابات مستمرة، فالفقر فيها يزيد، وكذلك الشقاء. وقد بلغت من البؤس مبلغًا أصبحت فيه لا ترى أكثر من باخرة واحدة تقصدها من وقت إلى آخر مع أنها تعد مرفأنا الثاني على شواطئ البحر الأبيض المتوسط.

ولا يقع ذلك في مدينة (سيت) وحدها بل في جميع أنحاء فرنسا، فبعد أن كان حدوثه أمرًا شاذًّا أصبح قاعدة، ولهذا أسباب بعيدة:

أعلن خطباؤنا السياسيون منذ بدء الثورة الفرنسوية حتى اليوم حقدهم على الاستبداد، وحبهم للحرية مع أن تاريخ هذا الدور يدلنا على مقت الناس للحرية وشوقهم إلى الاستبداد، ولم نتغير منذ عهد لويس الرابع عشر، فالدولة كانت في عهده تضطهد البروتستان وأنصار (جانسينيوس)، فصارت اليوم تجور على من لم يفكر مثلها سالبة أمواله.

إن جميع الأحزاب في فرنسا مشبعة من الميل إلى القهر وعدم التسامح، وأول ما يتعلمه الأولاد في البلاد هو كما بين (فاغيه) ازدراء طبقات من الأمة والحقد عليهم، وليست الهمة التي يبذلها معلمو المدارس لإدخال هذه المشاعر إلى نفوس العامة بشيء مجهول.

ولما كان الشوق إلى الاستبداد، ومقت التساهل من المشاعر التي يبديها مختلف الطبقات في الأمة وجب احتمالها ومكابدة وطأتهما، وقد تذرع الإشراف والملوك بالاستبداد فجاء أبناء الطبقة الوسطى وتذرعوا به أيضًا واليوم تتعاطاه صنوف العوام، ومن الطبيعي أن يمازج تعاطي هذه الصنوف له ما تتصف به من العنف والقسوة، ثم إن القسوة لا تغيظ الاشتراكيين، فهم لا يفتأون يتملقون سادتهم كأرقاء الزنوج الذين كانوا يتملقون ملوكهم.

يُصغَى باحترام إلى المقررات التي يضعها بعض الزعماء في الحانات، وتطاع بخضوع وبما أن الزعماء والجموع التي تتبعهم شديدو الاندفاع لا يسهل إرضاؤهم، ولو بالركوع أمامهم على الدوام، فالنفوس الساذجة لا تعرف الحيف والعقيم والمستحيل، ولا معدل عن مكابدة أوطار الجموع التي يعبر عنها عبادها لتألف أغلبية الأمة من الجموع، وبتأثير الجموع يسن برلماننا أكثر القوانين تناقضًا، ويجحد التقاليد ويستخف بمقتضيات الاقتصاد، ويناهض نواميس الطبيعة ولا يذعن إلا لمنافع الساعة الراهنة واندفاعاتها.

وتلك الاندفاعات هي عنوان عزائم النقابيين والشيوعيين الثوريين، ونرى بين أعظم الزعماء تأثيرًا رؤساء جمعية اتحاد العمال، فعلى ما في نفسيتهم من الانحطاط أضعفت سلطتهم المطلقة سلطة زعماء الاشتراكيين، وقد أبان الموسيو (ديشانيل) حقيقة تلك النفسية في خطبة جاء فيها:

أولئك الزعماء قيصريون أريستوقراطيون متدينون، هم قيصريون لازدرائهم النظم الدستورية ولإدارتهم جمعية اتحاد العمال إدارة مطلقة، وهم أريستوقراطيون لاحتقارهم الانتخاب العام والديمقراطية، وهم متدينون لاعتقادهم انقلابًا يخرج منه عالم جديد، هم يفتخرون بإنكارهم الأساطير مع تمسكهم بأسطورة من فصيلة أساطير القرون الأولى، فالخوارق عندهم بدلت شكلها فقط، أي أنها تبدو لهم على وجه قادر على تغيير طبيعة البشر وتجديد المجتمعات فجأة.

والمثل الأعلى لأولئك الرجال الفطريين عبارة عن قهقرة سياسية اجتماعية، وعودة إلى همجية القرون الخالية حيث كانت تسود شيوعية خالصة لم يتفلت البشر من حكمها إلا بعد أن قاسى كثيرًا من الصعوبات، وهنالك وجه شبه بينهم وبين قدماء النصارى من حيث المزاج النفسي والمقاصد، فقد كان أنبياء بني إسرائيل يتوعدون الأغنياء ويبشرون بملكوت العدل والمساواة، وكان آباء الكنيسة يقولون مع القديس (بازيل) والقديس (جان كريزوستوم) إن الأغنياء لصوص، والثروة عند القديس (جيروم) نتيجة الاختلاس والسرقة، وجميع هؤلاء يرون رد الأموال إلى المجتمع وتوزيعها بين الناس على السواء.

•••

الحاجة إلى الاستبداد عاطفة قومية ملازمة لمزاجنا النفسي، ويسهل إثبات ذلك ببيان نتائج النظم الواحدة في مختلف الشعوب، فلو نظرنا إلى النظام النقابي الذي هو وليد طوائف العمال في جميع البلاد لرأيناه أصبح في فرنسا آلة عنف وتمرد وحقد وعدم اكتراث للوطن والتجنيد وانحلال اجتماعي مهدد حياة الأمة، وأصبح في إنكلترة نظامًا سليمًا مفيدًا في تنظيم العلاقات بين أرباب العمل والعمال رادعًا عن الحقد والتمرد على أي إنسان، وقد أثر هذا الأمر في وفد أرسله العمال حديثًا إلى إنكلترة؛ ليدرس فيها نظام العمل فإليك بعض ما جاء في تقريره:

استوقفت الروح القومية في زملائنا في إنكلترة نظرنا كثيرًا، فكل فيها كان يحدثنا بما يغلي في صدره من مشاعر الإخاء العام، ولم يرَ أحد هنالك ما يعبر به عن خصومة ضد الحكومة، وفي محال كثيرة — ولا سيما في مصفق العمل في مانشستر — شرب المنتسبون إلى النقابات نخب الملك.

ولا أعلم هل يشاهد الجيل الحاضر ظهور ديانة جديدة، كما يدل على ذلك بعض الإمارات، وستكون هذه الديانة محلًّا لإعجابنا إذا استطاعت أن تحبب إلينا روح التسامح وتبغض إلينا الاستبداد.

ولا تظهر نتائج استبداد زعماء العمال إلا إذا تجلت على شكل اعتصابات وتمرد كما وقع في (درافي)، وأشدها خطرًا لا يبدو للعيان، فتجمع النتائج الخفية يؤدي إلى انحلال المصالح العامة والصناعة، وجميع عناصر الحياة الاجتماعية ببطء.

اليوم يسلم بعض الرؤساء والزعماء الذين لم تحمهم الحكومة بجميع رغبات العمال، ويرضون بخفض إنتاجهم خفضًا متصلًا قائلين إن جماعة الموظفين وخزينة الدولة هما اللتان تتحملان ذلك في نتيجة الأمر، والذي يوجب نقص العمل ومن ثَمَّ زيادة النفقة هو الخوف، فالخوف قد استحوذ على فروع الكهرباء في باريس، وليس في استطاعة أحد أن يتخذ تدبيرًا في هذه الفروع من غير أن يأخذ رأي أمين سر النقابة الذي اعتصب عمال الكهرباء بأمره، وقد صار الإنتاج في دور الصناعة من النقص بحيث يقتضي شغل خمس سنوات لصنع مدرعة يكفي لعمل مثلها في إنكلترة شغل سنتين ونفقة أقل.

وقد أصاب الوهن السلطة بتأثير العدوى، ولاعتقاد رؤساء السلطة عجزهم تراهم لا يبالون بالأمور العامة، ولا يفكرون إلا في منافعهم الشخصية، ومن وقت إلى آخر تنشأ عن هذا التخلي وتلك الفوضى نكبة جديدة، فليس غرق سفن مهمة من أسطولنا الحربي مثل ينا وسوللي وجانبار وشانزي ونيف واللبرته في بضع سنوات بأمر حدث عرضًا.

ويضاف إلى الاستبداد الشعبي أنواع أخرى، فلم يكن استبداد الاشتراكيين اليعقوبي أقل حيفًا من ذلك، ويزيد كل يوم تفاقمًا، ونعد من نتائجه الاضطهاد الديني الهمجي، ونزع أموال طبقة من الأمة والقوانين المتجبرة التي لا تلائم التجارة والصناعة … إلخ.

واليوم يهيئ اليعاقبة آلة ظلم لا عهد لفرنسا بمثلها منذ قرون، وأعني بها ضريبة الدخل، فقد أكد جميع علماء الاقتصاد وبين (پول دولومبر) في كثير من مقالاته أنها ستضعف ماليتنا، ومع أن الاشتراكيين الحكوميين يعلمون ذلك تراهم فرحين من فرضها لسببين: أولهما كونها تؤدي إلى اضطهاد مَن ليس من حزبهم، وثانيهما كونها توجب معرفة ثروات الناس حتى يتم نزعها إما بالتدريج وإما دفعة واحدة، وريثما يقع ما يرمي إليه الاشتراكيون يكون قانون ضريبة الدخل واسطة لإثقال كاهل الخصوم والتخفيف عن الأصدقاء والأصحاب، وما درى الاشتراكيون أن هذا النظام الجائر لا يلبث أن يصبح ممقوتًا، وينشأ عنه تمرد كثير لا ينتهي إلا بانتهاء الجمهورية، فالضأن تخلع الطاعة في آخر الأمر، غير أن حب الاستبداد هو من الاستيلاء على بعض النفوس بحيث يعميها عن إدراك حقائق الأمور.

•••

وإذا كان الميل إلى الاستبداد واحتقار الحرية عامًّا في فرنسا، فإننا لا ننكر أن فيها عددًا من الأحرار الذين لا يشعرون بحاجة إلى اضطهاد مَن ليس على رأيهم، غير أن قلة عددهم يجعلهم ضئيلي التأثير، وهنا نطرح هذه الأسئلة وهي: لماذا يتناقص عدد أولئك الخواص؟ وكيف نجد بين النواب والناخبين أساتذة وأطباء ومهندسين اتصفوا بالحكمة والمسالمة، فأصبحوا بعد انتخابهم مدافعين عن أشد المذاهب تخريبًا وهدمًا؟ ولماذا تجمع مبادئ الشيوعية الثورة والمبادئ التي لا تلائم منافع الوطن، ولا تستحسن نظام الجندية رؤساءها وأقطابها بين رجال الجامعات؟

لا تكفي الإجابة عن هذه الأسئلة بأن يقال إن الذوق السليم ليس وليد التعليم في كل وقت، وإنما هنالك أسباب توجب حدوث تلك الحال الذهنية، ونعد منها الخوف، والخوف قد صار فاعلًا أصليًّا في الانتخابات البرلمانية كما أشرنا إلى ذلك آنفًا.

فلما كان صراخ لجان الانتخابات يهول النائب يخشى النائب عدم الظهور بمظهر الجريء الجسور، أي بمظهر المستحسن لأوطار الجموع فيكد في تحقيقها، وهو لكي يصبح مسموع الكلمة يزعق أكثر من منافسيه، ولا يلبث بفعل التكرار أن يعتقد صحة خطبه الخاصة.

ونعد بجانب الخوف سببًا آخر وهو: الوهم اللاتيني القديم القائل إن من الممكنات أن تتحول المجتمعات بفعل الشرائع والقوانين، ولما كانت جميع الأحزاب قانعة بأن المراسيم قادرة على معالجة الشرور والأمراض الاجتماعية التي نقاسي أمرها يجد النائب في الإتيان بعمل، وهو لجهله ما في مقتضيات الاجتماع من تعقد كما كان يجهل الأطباء تعقد البنية الجثمانية يداوي البنيان الاجتماعي كما كان الطبيب يداوي المرضى بالفصد والمسهلات على غير هدى، وقد مضى على الأطباء قرون كثيرة حتى اكتشفوا أن الأفضل أن لا يتعرضوا للمريض، وأن يتركوا السنن الطبيعية تجري في مجراها مجتنبين مس بنية معقدة معروفة قليلًا.

ولم تستطع الأدلة والبراهين أن تضعف الإيمان الفرنسوي القائل إن الحكومة بوضعها القوانين قادرة على فعل كل شيء، وقد أضحى ذلك الإيمان في العقائد الدينية التي لا يجادل أنصارها في صحتها، ومن هذا القبيل ما دلت عليه مقالة الموسيو (بوردو) التي فحص فيها كتاب أحد أساتذة الجامعة، فعلى الحكومة عنده أن تتكفل بسعادة الأمة وبنجاتها في الحياة الدنيا، وأن تسير سيرًا مماثلًا لسير الكنيسة في القرون الوسطى، فما أشد خطر رجال التربية الذين ولدهم نظامنا الديمقراطي! وما أشأم أولئك المعلمين الغائصين في بحار الأوهام والبعيدين من الحقائق التي تقود العالم!

وقد تأصل مبدأ سلطان الحكومة المطلق في نفوس الاشتراكيين تأصلًا جعلهم يرون الحكومة غير مكلفة باحترام العهود والحقوق، ولم تشاهد هذه الذهنية حتى الآن في ملوك الزنوج في أفريقية، ومع أن هؤلاء الملوك كانوا يتمسكون بأقوالهم في بعض الأحيان يعتبر الاشتراكيون الحكومة غير مكرهة على حفظ كلامها، ولم يتردد رئيس الحزب الاشتراكي عن التصريح بذلك في مناقشة دارت في البرلمان، إلا أن أحد الوزراء أجابه عن كلامه بما يأتي:

كيف تريد أن تفسر الحكومة وحدها نصوص صك وقعت عليه مع إحدى الشركات؟ وماذا يكون شرف الدولة إذا أنكرت العقود التي عقدتها باسم البلاد بعد توقيعها؟

وبديهيات مثل هذه من الأمور التي لا تحتاج إلى مناقشة، فضرورة الدفاع عنها تثبت لنا درجة إغواء المذاهب الاستبدادية لكثير من النفوس.

تدلنا الملاحظات السابقة على نفسية المشترعين وتوضحها لنا، فمن أين أتت مناحي ابن الطبقة الوسطى الثورية؟ بما أن هذا الابن عاجز عن التأمل والتمييز بوجه عام يسلم بفعل التقليد ببضع صيغ دارجة يخفي بها سخافة أفكاره، ومن هذه الصيغ: «على المرء أن يسير مع الزمن، وعلى الرجل أن يتكيف بحسب الأحوال» وهلم جرًّا، وهو لا يفقه ماذا ينطوي تحت الصيغ المذكورة ولا يدرك سامعوه لها معنى.

ثم إن ذلك الابن كجميع الفرنسيين حكومي من كل وجه، وهذا سر اتفاق أحزاب الطبقة الوسطى — إكليروسية كانت أم اشتراكية أم ملكية — على مطالبة الحكومة بوضع قوانين لتجديد العالم، والاشتراكية لكونها خلاصة هذه الرغبة العامة تنتشر بسرعة بين أبناء الطبقة الوسطى، وإن كانت عبارة عن رجوع إلى طور الهمجية الأولى، وكانت تهددنا باستبداد لا عهد للتاريخ بمثله.

ويضاف إلى الأسباب التي ذكرناها كره أبناء الطبقة الوسطى الظاهري للتقاليد. فما من طبقة حنت التقاليد ظهورها كهذه الطبقة، وما من طبقة أبغضتها مثلها، وهي في بغضائها للتقاليد كبغضاء الرقيق لسيده الذي لا مفر له من إطاعته.

ولتلك الأسباب نرى أناسًا متعلمين على قدر الإمكان يركعون أمام زعماء الكنائس الجديدة بذلة كركوع البطائن أمام ملوك الشرق المطلقين، ومع هذا كله نشاهد بعض ذوي الاستقلال الفكري يعدلون عن خدمة أمثال أولئك السادة، فإليك ما يقوله الموسيو (إدمون بيكار) أحد أعضاء مجلس الشيوخ في بلجيكا عن ارتداده عن الحزب الاشتراكي: «إنني لا أترك حزب العمال بل حزب المتعصبين الكثيري الشغب والعربدة، والذين تجري المزايدة الانتخابية حكمها عليهم، فيخافون من الظهور بمظهر العاقل المتأني، إنني أمقت عدم التسامح وأرفض الإذعان للمبادئ المتجبرة، فلتبحث الاشتراكية عن عباد لها غيري.»

ولا يحتاج قساوسة الاشتراكية إلى عناء كبير لإيجاد من يعبد مذهبهم، فتطور الأحوال النفسية في الوقت الحاضر يسهل أمر ظهور أناس مستعدين لمعاناة استبداد أشد من استبداد قدماء الملوك، نعم إن للحرية أنصارًا من أصحاب العلوم النظرية، ولكن الاستبداد هو الذي يستهوي الجماعات وقادتها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤