الفصل الأول

مبادئنا الاستعمارية

سيكون النزاع الاقتصادي بين الشرق والغرب من أشد ما يهتم به البشر في القرن العشرين، فسيؤدي حتمًا إلى تخريب وسفك دماء أكثر مما أدت إليه حروب الماضي، ولما سيكون للمستعمرات من الشأن العظيم فيه لا يجادل في فائدة محافظتنا على مستعمراتنا.

تقوم إدارة ما لمختلف الأمم الأوربية من المستعمرات على بضعة مبادئ معينة، ومع أنه يجب أن تكون هذه المبادئ التي هي بنت التجربة عامة، فإنها تختلف باختلاف الأمم، ولربما كان في القول بأن هذه المبادئ تختلف باختلاف الأمم شيء من المبالغة، فيمكن تمييز نوعين بين دول أوربا من حيث مبادئ الاستعمار، فالنوع الأول يشتمل على فرنسا وحدها تقريبًا. ويشتمل النوع الثاني على أكثر الأمم الأخرى.

تبني هذه الأمم لنفسها مستعمرات كي تستفيد منها، وأما نحن فلما كنا نترفع عن مثل ذلك وكنا لا ننسى أن شأننا في العالم هو أن نحمل إلى أمم الأرض نعم الحضارة نود أن نحكم الشعوب بأنظمتنا ومبادئنا، ومع أن تلك الأنظمة والمبادئ لم تلبث أن ردت بالإجماع يدفعنا اعتقادنا أننا على الحق إلى الاستمرار على سيرنا حتى يثبت لنا مختلف المصائب أن مبادئنا الاستعمارية عبارة عن أغلاط محزنة نظريًّا وعمليًّا.

ولقد بينت في كتابي «حضارة الهند» المبادئ التي سارت عليها إنكلترة لفتح مستعمراتها وإدارتها، وكيف أنها دوخت الهند بمال الهند ورجال الهند ودرجة الحكمة التي أدارت بها هذه المستعمرة العظيمة، وأنها ربما تخسرها يومًا ما لتطبيقها عليها في الآونة الأخيرة مبدأً نفسيًّا مختلًّا.

وسأقتصر — لضيق المجال هنا — على البحث في المبادئ التي تسير عليها فرنسا لإدارة بلاد الجزائر، التي هي أقرب مستعمراتنا وفي ما قد ينشأ عن تطبيقها من النتائج.

وما كتب عن الجزائر من المباحث فكثير إلى الغاية، إلا أن اثنين منها كتبهما مؤلفان جديران بالموضوع فتجلى فيهما معدل الأفكار التي قيلت فيه، والمؤلفان هما الموسيو (لروا بوليو) وهو من العلماء المدرسين في كلية فرنسا (كوليج دو فرانس) والموسيو (فينيون) وهو من القناصل السابقين.

ولا أتوخى في هذا الفصل أن أبحث مفصلًا في نتائج استعمارنا في بلاد الجزائر، بل أرى أن أبين قيمة المبادئ النفسية الأساسية التي سيرت إدارتنا والتي ستسيرها زمنًا طويلًا على ما يظهر، إذًا أنتقد المبادئ لا الرجال الذين يطبقونها، فمقتضيات السياسة لا النظريات هي التي تسوق ولاة الأمور، ومقتضيات السياسة هي بنت المبدأ كما هو معلوم، وعلى ذلك فالمبدأ هو الذي تجب مؤاخذته لا الأشخاص الذين ليسوا من القدرة بحيث يستطيعون أن يحكموا بدونه، ومن الصعب تبديل ذلك المبدأ، فإذا كان الشعب الفرنسوي أكثر الأمم نزوعًا إلى الثورات في الظاهر فهو بالحقيقة أشدها محافظة.

إن الجزائر التي تعدل فرنسا مساحة قليلة السكان، فيسكنها خمسة ملايين من المسلمين المخلصين لأنظمتنا كما يجيء في التقارير الرسمية، وإن كان إثبات هذا الإخلاص يحتاج إلى جيش مؤلف من ستين ألف جندي، أي إلى جيش قريب من الذي يستعين به الإنكليز على إخضاع ٢٥٠ مليونًا من الهندوس وخمسين مليونًا من المسلمين الذين يفوقون سكان الجزائر خطرًا وصعوبة في الانقياد.١

ونرى في الجزائر — ما عدا المسلمين — أوربيين بلغ عددهم ٨٠٠٠٠٠ شخص نصفهم إفرنسيون والنصف الآخر من الإسبان والطليان والمالطيين … إلخ، فهذه العناصر الأوربية المختلفة بأنسابها المتوالدة فيما بينها لا تتوالد والمسلمين، وليس اليوم الذي ينشأ فيه عن ذلك التوالد شعب ذو أخلاق ومنافع تختلف عن أخلاق فرنسا ومنافعها ببعيد، والآن أخذت فرنسا تبدو لهؤلاء الأوربيين مثل (ميسين السخي) دولة معدة لمنح الجزائر مجانًا سككًا حديدية، ومؤسسات خيرية وكثيرًا من المساعدات الأخرى.

إن مسلمي الجزائر — ومنهم تتألف الأغلبية الساحقة في بلاد الجزائر — من ذرية جميع الفاتحين الذين افتتحوا شمال أفريقية، ولو نظرنا اليوم إلى الأساس لرأينا ثلثيهم من البربر وثلثهم من العرب، والفرق بين القومين ضئيل جدًّا، فأحسن فارق لمسلمي الجزائر هو تقسيمهم إلى سكان بدو وسكان حضر، وسنرى خلافًا لأحد الآراء السائدة أنه لا فرق في انتساب العرب والبربر إلى هاتين الطبقتين.

ويمكن تلخيص كتاب الموسيو (لروا بوليو) بكلمة واحدة وهي «حمل المسلمين على التفرنس»، وبهذه الكلمة يعبر عن الآراء السائدة لفرنسا في أمر الجزائر، فالنهج السياسي الذي اتبعناه حتى الآن لحمل المسلمين على التفرنس يشبه في همجيته النهج الذي اتخذ من قبل الأميركيين الأولين لإبادة أصحاب الجلود الحمراء، فقد كان أولئك ينزعون من أيدي هؤلاء أراضي الصيد تاركين لهم حرية الموت جوعًا.

هذه هي سبيلنا الإدارية في دحر المسلمين، وقد أجاد الموسيو (فينيون) في وصفها حيث يقول:

كان حكام الجزائر ينزعون قسمًا من أراضي القبائل عند كل عصيان ويسلمونه إلى المستعمرين ويطردون أبناء البلاد الأصليين إلى الصحراء، وكلما كان العنصر الأوربي يزيد عددًا كان يُحرَم أولئك الأبناء تراث آبائهم، وتُقصَى القبائل من البقاع القاطنة فيها، فكانت نتائج هذه السياسة التي اتبعت ثلاثين سنة: أن العربي الذي كان يدحر إلى الصحراء، ويشك في اقتطافه ثمرة عمله صار لا يفكر في تحسين زراعته وإصلاح أرضه، وأنه لما صار العربي الذي حرم أراضي قبيلته الصالحة للفلاحة والتمتع بالوصول إلى مجاري المياه عاجزًا عن مقاومة القحط واليبوسة أصبح لا يحصد القمح الضروري لغذائه، وأضحى يرى مواشيه تقل أو تزول، وأن ألوف الآلام والمحن التي هي من هذا النوع زادت ابن الجزائر الأصلي حقدًا على المستعمرين، وجعلت الهوة بين العرقين أبعد وأعمق.

ولم يقض مرسوم سنة ١٨٦٣ الذي صرح بأن القبائل مالكة للأراضي التي تتمتع بها على طريقة «الدحر»، وإنما بدل شكل هذه الطريقة واسمها، فصارت تسمى «طريقة التملك لأجل المنفعة العامة»، وتتصف الطريقة المذكورة بصفتين: أولًا أنها لا تجود على المستعمرين بأرض إلا من أرض العرب، ثانيًا أنها تؤسس دوائر للأوربيين محرمة على العرب المحكوم عليهم بالفقر والبؤس، ويعوض بحسب هذه الطريقة على مالك الأرض بمبلغ تقدره المحاكم، ويتراوح هذا التعويض عادة بين ٥٠ فرنكًا و٦٠ فرنكًا تلقاء كل هكتار، فالجزائري الذي يملك ثلاثين هكتارًا أو أربعين هكتارًا، أي ما يقوم دخله بعيشه وعيش عائلته طول الحياة يعوض عليه بمبلغ متراوح بين ١٫٥٠٠ فرنك و٢٫٠٠٠ فرنك، أي بمبلغ لا يكفيه سوى سنة أو سنتين.

ومن أغرب ما رأيناه في مداخلة الحكومة مداخلة مطلقة في بلاد الجزائر هو الاستعمار الرسمي، فعلى القارئ أن يطالع الكتاب الذي أشرت إليه آنفًا ليطلع على قصة ذلك الاستعمار المحزنة، إذ يرى فيه نتائج توزيع الأراضي مجانًا على زمر المنحطين الذين هم أقرب أن يدرسوا لغة البراهمة المقدسة من أن يحسنوا حرثًا أو زرعًا، ويرى فيه كيف أصبحت القرى الرسمية مقفرة دارسة المعالم، ولم تكف تلك التجربة الخطرة وما أدت إليه من النفقات العظيمة لتنوير رجال إدارتنا، فلقد طلب حاكم الجزائر العام إعطاء خمسين مليونًا من الفرنكات لنزع أملاك العرب، وإيجاد قرى غير التي نالتها يد الإخفاق، فلحسن الحظ رفض البرلمان هذا الاقتراح الذي لو تم أمره لثار المسلمون في الجزائر، وجشمنا ذلك إنفاق كثير من الملايين، ويثبت لنا الاقتراح المذكور والمناقشة فيه ثم احتمال قبوله درجة سذاجة الفرنسويين في مادة الاستعمار.

ولا نعجب من أن تلك التجارب تجعل الجزائر تكلفنا ثمنًا غاليًا، ويقدر العارفون أننا أنفقنا عليها أكثر من أربعة مليارات ما عدا دخلها الذاتي، فهل بعد هذه التضحية أخمدنا ثائرها، ووطدنا فيها دعائم السلام؟ ذلك ما نرجوه، ولكن لا يغيبن عن بالنا أن حفظنا للنظام في تلك الربوع حفظًا نسبيًّا استلزم — ولا يزال يستلزم — جيشًا عظيمًا.

•••

لقد سرنا منذ فتحنا الجزائر على مبدأين سياسيين أحدهما نزع أملاك العرب ودحرهم إلى الصحراء، والثاني حملهم على التفرنس بإكراههم على قبول أنظمتنا، ولم نفلح في دحر العرب إلى الصحراء حيث لا شيء يغتذون به، ولا ريب في أن ملايين كثيرة لا ترضى بالموت جوعًا قبل أن تبدي شيئًا من المقاومة، وكذلك لم يقبل العرب أن يتفرنسوا، فما استطاعت أمة أن تبدل مزاجها النفسي لتعتنق مزاج أمة غيرها.

إذًا فالمبدآن فاسدان، ولم يوجب انتقالنا من أحدهما إلى الآخر رغبة في تعديلهما، فسنواظب على تجاربنا الخطرة حتى يجيء اليوم الذي يدرك فيه قادتنا أنَّ تركنا للبلاد المفتتحة نظمها وعاداتها وطرق معايشها ومعتقداتها — كما تفعل دول الاستعمار، ولا سيما إنكلترة وهولندا — أبسط الأساليب الاستعمارية وأكثرها حكمة وأقلها نفقة.

ويتعذر اتخاذ هذا الوجه في الزمن الحالي لمخالفة الرأي العام له، يؤيد ذلك سير رجال إدارتنا، وما ينشر في الجرائد والكتب من الآراء.

وما كدنا نتخلص في الغرب من تأثير المعتقدات الدينية حتى ظننا أن الأمر كذلك في أنحاء العالم، والكتاب الأوربيون الذين أدركوا مسألة الدين في الشرق فوق جميع المسائل قليلون إلى الغاية، فالدين عند أتباع محمد كما عند أتباع (سيفا) أو (بوذا) يسيطر على النظم المدنية والسياسية، وعلى الحياة العامة والخاصة، وليست أمور الأكل والشرب والنوم والزرع والحصاد عند الشرقيين سوى أعمال دينية، وقد أدرك الإنكليز ذلك على ما في بروتستانيتهم من تشدد، فأحيوا معابد الهند وحافظوا على كهنة (سيفا) و(فيشنو) ولم يندفعوا في ترويج مبشريهم، ومن يبحث تحت سماء إنكلترة لا يجد محامين يقولون إنه أجدر بالمستعمرة أن تبيد من أن يبيد أحد المبادئ.

كان على سياستنا أن تسعى في حماية الدين الإسلامي، وأن تستند إلى أصحاب الطرق عند المسلمين، وأن تقوي علماء المسلمين وشيوخهم بدلًا من أن تناهضهم وتضعف شأنهم، وقد دل المفوض الفرنسوي الأول في تونس على مقدرته، وعلى معرفته أمور الشرق عندما كان يدفع بَاي تونس إلى إصدار مراسيم دينية يبرر بها تدابيره في عيون المسلمين، ولكن ما العمل وقد كافأناه باستعجالنا في عزله من وظيفته.

ومن يود أن يحترم عادات العرب الدينية فليحترم جميع أنظمتهم؛ لأن هذه تشتق من تلك، ويستهجن الموسيو (لروا بوليو) هذه السياسة التي يسميها «سياسة التمنع»، ثم يقول: «إن احترام عادات ما يسمونه القومية العربية وتقاليدها وطبائعها يتضمن ترك جيشنا ومستعمرينا أفريقية.»

ولماذا يؤدي احترام طبائع العرب وعاداتهم إلى انسحاب جيشنا ومستعمرينا؟

فلقد سها ذلك المؤلف أن يجيبنا عن ذلك، وإني لأراه يعجز عن دعم رأيه بسبب معقول، وأما السياسة التي أناضل عنها فهي السياسة التي يتخذها الإنكليز نحو مسلمي الهند، ولم يتركوا بها تلك الإمبراطورية العظيمة.

تلائم التدابير التي يشير إليها الموسيو (لروا بوليو) مبادئنا في المساواة العامة، فهي تقول «بإدغام العنصر العربي في العنصر الأوربي»، والإدغام عبارة عن «إخضاع جيلين مختلفين من الآدميين لنظام اقتصادي واحد ونظام اجتماعي واحد وقوانين عامة واحدة وطرز إنتاج واحد».

ويرى المؤلف المذكور في سياسة الإدغام بعض الموانع، غير أنه يقتحمها بسهولة، فهو يزعم «أن البربر لا يختلفون عن الأوربيين إلا بالدين»، فيا له من خطأ فاضح! ويكون الأمر أقرب إلى الحقيقة إذا قلنا إن الفرق بين الأوربي المتمدن وبين البربري في هذا الزمن كالفرق بين الغولوي أيام (برينوس) وبين الباريسي في أيامنا.

ولما كان البربر عند الموسيو (لروا بوليو) مماثلين للأوربيين أوصى بحمل عرب الجزائر وحدهم على التفرنس، ولا يرى صعوبة في ذلك، فهو يقول: «يجب للوصول إلى هذا الغرض أن نبدل نظام القبيلة والملكية المشتركة وتعدد الزوجات، وما يبقى من التفرعات فيعالج بتعاقب الزمن.»

وقد بدا للمؤلف المشار إليه أن تحقيق تلك التبدلات — التي تسر الاشتراكيين الخلص — من الأمور السهلة، وإني بالعكس أعتقد — ككل إنسان درس مزاج العرب النفسي — أن ذلك التحقيق لا يقل صعوبة عن تحويل زنجي أسترالي إلى أستاذ في كلية فرنسا (كوليج دو فرانس) أو تعليم الضفادع الطيران.

وليس الموسيو (لروا بوليو) رؤوفًا في حكمه على العرب الذين يظهر أنه يعدهم جمعًا من الهمج، فنظامهم عنده «كنظام شعوب الرعاة الأقدمين»، ويعتقد أن العرب سكان بدو وأن البربر سكان حضر، وقد ضل في اعتقاده؛ فكلا الشعبين في الحقيقة أهل بدو وأهل حضر، ومن يقرأ ما كتبه ابن خلدون في القرن الرابع عشر يعلم أن تقسيم البربر إلى أهل بدو وأهل حضر لا يختص بزماننا.٢

وما أتى به بعض المؤلفين من التفريق بين العرب والبربر في الاستعداد للتمدن فيستند إلى ملاحظات سطحية لا يعتمد عليها في الوقت الحاضر، فبين البربر — كما قلت — أهل حضر وأهل بدو كما بين العرب، وبما أن طراز المعايش يكون بحسب البيئة يصدر ذانك الطرزان عن طبيعة الأرض لا عن العرق، ففي الصحاري الكثيرة الرمال نرى العرب والبربر أهل بدو، وفي البقاع المخصبة نراهم أهل حضر، ولا فرق بين عرب الجزائر وبين عرب مصر وسورية وجزيرة العرب من هذه الجهة.

ولا أرى أي الرجلين يفوق الثاني في الرقي العقلي: العرب الحضري أم البربري الحضري، ولو اقتضى أن نميل إلى أحدهما لملنا إلى العربي ذي الحضارة الرفيعة في التاريخ لا إلى البربري الذي لم تتفق له سوى حضارة ابتدائية.٣

وأهم إصلاح يراه الموسيو (لروا بوليو) هو تحريم تعدد الزوجات، وقد أسهب في بيان فوائد الاقتصار على زوجة واحدة فقال: «إن تدبير المنزل يقوم على الزوجة الواحدة فقط، فبتعدد الزوجات تزول روح العائلة وهناء البيت وينحط المجتمع العربي.»

ولا أريد أن أبين هنا الأسباب التي جعلت الشرقيين يقولون بتعدد الزوجات وأن أذكر أن تعدد الزوجات الشرعي عند الشرقيين خير من تعدد الزوجات الخبيث المؤدي إلى زيادة اللقطاء في أوربا، فعلى القارئ أن يطالع كتابي «حضارة العرب»، ففيه يجد إيضاحًا كافيًا لهذه المسائل وغيرها، ويرى أنه ظهر أيام سلطان العرب نساء فاضلات عالمات، كما يظهر عندنا في هذه الأزمنة.

وقد ثبت في أيامنا أن توقف المسلمين لم ينشأ عن تعدد الزوجات، وهل من الضروري أن أذكر أن العرب وحدهم هم الذين أطلعونا على العالم الإغريقي الروماني، وأن جامعات أوربا — منها جامعة باريس — لم تعرف في ستة قرون لها موردًا علميًّا غير مؤلفات العرب وتطبيق مناهجهم؟ فحضارة العرب هي إحدى الحضارات التي لم يعرف التاريخ ما هو أكثر منها نضارة، ولا ننكر أنها ماتت ككثير من أخواتها، غير أننا نرى من السذاجة أن نعزو إلى مبدأ تعدد الزوجات نتائج صادرة عن عوامل أكثر أهمية.

ولا ندرك السبب في حقد ذلك الأستاذ الفاضل على مبدأ تعدد الزوجات، وهو الذي يخبرنا باقتصاره على عائلات العرب المثرية، وبأن ظله يتقلص بالتدريج، وإذا كان الرجوع إليه نادرًا، فلماذا يراد إلغاؤه وكيف يكون «من الأسباب الكبيرة في انحطاط المجتمع العربي»؟

ويعد المسيو (لروا بوليو) تربيتنا اللاتينية من أحسن الوسائل للتأثير في العرب، وقد بقيت من أنصار هذا الرأي حتى جعلتني سياحاتي العديدة وتأملاتي الكثيرة أضرب به عرض الحائط، ومع أنني لا آمل أن أبدل عقيدة أحد من قراء كتابي أرى من الصواب أن أقول رأيي في الموضوع لأهميته وسأشرحه في فصل آتٍ، فهنالك يرى القارئ أن التربية الأوربية بدلًا من أن تحسن أحوال أبناء المستعمرات تزيد شقاءهم الأدبي والمادي.

ولا يتعذر علينا إدراك الأسباب النفسية لتأثير التربية الأوربية المحزن في الشعوب المتأخرة، أو التي تختلف عن شعوب أوربا اختلافًا تامًّا، فهذه التربية التي لاءمت مشاعرنا واحتياجاتنا بعد تحولات استمرت قرونًا كثيرة لا تناسب مشاعر واحتياجات تختلف عن تلك، ومن نتائجها الأولى تجريد العرب أو الهند أو أي شرقي بغتة من مبادئه الموروثة التي تستند إليها نظمه ومعتقداته، أي مقومات حياته، ولو أن حلم الموسيو (لروا بوليو) وجميع المؤلفين الذين يقولون بترتبية العرب تربية أوربية تحقق لأصبحت الجزائر بالنسبة إلينا كما كانت البندقية بالنسبة إلى النمسا وكايرلندا بالنسبة إلى إنكلترة وكالالزاس بالنسبة إلى ألمانيا.

وفي بعض الأحيان يتلهف مؤرخونا في مؤلفاتهم على فقدنا الهند التي افتتح (دوبليكس) الكبير قسمًا منها في الماضي، وعندي أنه لا شيء يوجب الأسف في ذلك، فلو بقيت في أيدينا لتسلطنا عليها بما تتسلط على (پونديشيري)، وغيرها من المستعمرات، أي بالمبادئ التي ذكرها الموسيو (لورا بوليو)، ولما لبثت من جراء ذلك أن تخلصت منا بعد ثورات عنيفة.

وقد ارتكبنا في الهند الصينية٤ نظير تلك الزلات التي تجعل حكمنا في كل مكان مخربًا لا يطيقه أحد، فنحن نرسل إلى الشرقيين الذي ألقيت مقاليد أمورهم إلينا مفوضين سياسيين كي يديروا أمورهم بواسطة جحفل من الموظفين الفرنسويين الذين لا يفقهون شيئًا من عادات الشرقيين وطبائعهم. ومع أنه يجب على تلك المستعمرة الكبيرة أن تعود على فرنسا بمئتي مليون فرنك كل سنة كما يقول الموسيو (هارمان) لا نزال مثابرين على إرسال كثير من المال والرجال إليها، غير نائلين نتيجة سوى إيقادنا فيها نار الحقد علينا وضياعنا فيها كل نفوذ وإتياننا بدليل آخر على عجزنا عن إدراك حاجات الشعوب الأجنبية، ومشاعرها وأفكارها ومن ثم عن حكمها.

•••

إذًا الخطر كله في عزمنا على إلزام أبناء المستعمرات أناظيم ومبادئ واحتياجات تختص بأمم مختلفة عنهم، ثم إن تلك الجهود غير مجدية فقلما يبدل طلاء التربية الأوربية شيئًا من جوهر أبناء المستعمرات، حادثوا قليلًا أدباء الهند الذين تخرجوا على المدارس الإنكليزية الهندية لتروا درجة الهوة الموجودة بيننا وبينهم على رغم معلوماتهم التي تعادل معلومات خريجي المدارس العالية والثانوية في أوربا، فلقد احتاج البرابرة إلى قرون كثيرة ليقيموا على أنقاض العالم الروماني حضارة ولغة وفنونًا ملائمة لاحتياجاتهم، وبهذا أعني أن الزمان وحده هو الذي يقدر على إتمام الانقلابات الكبيرة.

والتاريخ يثبت أن حضارتين متباينتين لا تمتزجان عند المصاقبة، فالأمم الفاتحة التي قدرت على التأثير في الأمم الأخرى هي التي لا تختلف عن هذه كثيرًا في المشاعر والأفكار والنظم والمعتقدات.

بذلك نفسر تأثير العرب العظيم في الشرق أيام دولتهم، وتأثيرهم الآن في أفريقيا والهند والصين، فقد أفلح العرب في جعل الأمم التي اختلطوا بها تعتنق مقومات حضارتهم، أي دينهم ولغتهم وفنونهم، ويظهر أن الحضارة العربية ترسخ أينما حلت، فأمامها تقهقرت أديان الهند القديمة، وجعلت مصر الفراعنة التي لم يؤثر فيها الفرس والإغريق والرومان بلادًا عربية من كل وجه، والآن نرى في الهند خمسين مليونًا وفي الصين عشرين مليونًا من المسلمين، ويزيد هذا العدد كل يوم، ومع أنه يصيب زمر المبشرين الأوربيين إخفاق عظيم في أفريقية يفتتحها الإسلام برمتها، فالسائح الأوربي الذي يصل بشق النفس إلى وسط أفريقية يرى قوافل العرب ناشرة خلفها دينها ولغتها.

قد يكون الأوربيون مستعمرين ماهرين، ولكن الأمة التي استطاعت بعد الرومان أن تمدن الشعوب الأخرى هي الأمة العربية، فالعرب وحدهم هم الذين استطاعوا بالحقيقة أن يجعلوا شعوبًا أخرى تعتنق عناصر حضارة أمة غريبة عنها، أي دينها ونظمها وفنونها.

وقد يسهل على الأوربيين أن يحكموا شعبًا متأخرًا كما يسهل ذلك على الإنكليز في الهند، غير أنه لا يخطرن ببالهم أن يبدلوا مزاجه النفسي، والاختلاف بين مشاعرنا واحتياجاتنا وبين مشاعر الشرقيين واحتياجاتهم عظيم إلى الغاية؛ فلذا يتعذر تذليله فجأة. وحضاراتنا المطابقة لاحتياجاتنا لا تلائم احتياجاتهم، فهم لا يفتنون بحياتنا المفتعلة وهمومنا الدائمة وثوراتنا الكثيرة وحاجاتنا المصنوعة، وبما توجبه من عمل مستمر ولا بعيش عمالنا الموثقين في عمل صعب والذين لا يعرفون من الحرية غير اسمها، ومما استمال نظري في أثناء سياحاتي أن شاهدت متعلمي الشرق أقل الناس افتتانًا بحضارتنا حينما يزورون أوربا، ورأيت الجميع يعدون الشرقي أكثر سعادة وأكبر شرفًا وأحسن أخلاقًا من الأوربي ما دام بعيدًا منه، والنتيجة الوحيدة التي تنجم عن تأثير حضارتنا في الشرقيين هو أنها تفسدهم وتجعلهم تعساء.

ولا أسهب في بيان الحقائق التي عرضتها آنفًا، ففي هذا الفصل لا يمكنني سوى إيجاز أفكار يتطلب تفصيلها مجلدًا كبيرًا، وإني لأرجو أن ينعم الموسيو (لروا بوليو) النظر في الأمر، فيعترف معنا أن مبدأ حمل شعب متأخر على التفرنس بواسطة تربيتنا لا يليق بعالم مثله أن يدافع عنه، فلنترك أمثال هذا المبدأ للاشتراكيين المشاغبين، ولا يحق لأي مفكر في الوقت الحاضر أن يجهل أن نظم الشعب الواحد مرتبط بعضها ببعض ارتباطًا ضروريًّا، وأن هذا الشعب لا يقدر على اختيارها حسب ما يريد، بل عليه أن يعاني أمرها، ومن اللغو أن يبحث عن الحضارة التي هي نظريًّا أفضل حضارة يتخذها الشعب، بل يجب البحث عن التي تلائم مزاج هذا الشعب.

وما فتئت منذ عشرين سنة أكرر بيان تلك الحقائق، وقد أخذت تصير معلومة وإن كان ذلك على مهل، ففي كتاب مهم وضعه السفير (جول هارمان) — وهو من الثقات المطلعين على أمور الشرق — وسماه «الاستيلاء والاستعمار» جاء ما يأتي:

إن من الأغلاط الكبيرة المشؤومة على الفاتح ورعيته أن لا يعترف بوجود شعوب ومجتمعات راقية بطبيعة الأمر، وتأثير الأحوال وبوجود شعوب متأخرة، وبأنه كلما كان الفرق بين الطرفين عظيمًا تعذر التقريب بينهما بقوانين مشتركة وثقافة واحدة.

ينبغي أن تكون هذه القواعد دليلًا للأوربيين في توسعهم الاستعماري واستيلائهم على الأمم المختلفة عنهم، فإذا طبقها المستعمرون فابتعدوا من سياسة الإدغام والتمثيل، واحترموا مزاج الشعوب النفسي وأنظمتها السياسية والاجتماعية الناشئة عن احتياجاتها المادية والأدبية عاد عليهم وعلى رعاياهم خير عميم.

ولا يزال ساستنا بعيدين من تلك الأفكار، فلا يكل رجال إدارتنا في البلدان المتأخرة التي يحكمونها من ترجمة «بيان حقوق الإنسان»، وإعلانه فيها ليجعلوا أبناءها يقدرون نِعَم أناظيمنا، وبهذه النفسية الصبيانية نقف على عجزنا في مادة الاستعمار.

•••

يضاف إلى سياسة الإدغام الإلزامي التي نتخذها طرقٌ استبدادية شديدة نلجأ إليها في مستعمراتنا القاصية، وبهذه الطرق نجعل الإقامة فيها أمرًا لا يطيقه الأوربيون، ففيها يظن أصغر موظفينا أنه حاكم مطلق، فيسير كأنه من ملوك آسيا المستبدين.

وإليك ما جاء في رسالة أرسلها أحد السياح في (الكويان) إلى جريدة (الماتن)، فنشرتها في عددها الصادر في ٢٩ مارس سنة ١٩١٠:

لا يلبث كبار موظفينا الذين يرسلون من فرنسا أن يصيبهم هوس الاستبداد المطلق، فينشرون مراسيم طائشة ويقبضون على الناس ويسجنونهم ويطردونهم من البلاد حسب أهوائهم، وهم بذلك يهولون السكان فيدفعونهم إلى التحفز والاستيفاز، ومتى يطفح الكيل تستدع حكومة فرنسا أولئك الموظفين لتعينهم لمناصب في أمكنة أخرى.

وأما الكولون — أي المستعمر — فلا شيء يوجب طمأنينته، إذ هو يعامل معاملة جورية في أموره التجارية، فالحكام بتفسيرهم تعريفة الجمارك تفسيرًا متحولًا يهلكون بطرس في سبيل بولس، ولا ضمان لأي مشروع يقام هنالك، فإذا اشتريتم أرضًا لتزرعوها لوزرًا هنديًّا ووعدتم بإعطاء ثمانين سنتيما مكافأة على كل مقدار تنتجونه ثم جئتم بعد أن أتممتم مشروعكم تطالبون بالمكافأة ترون نسبة المكافأة نزلت إلى ثلاثين سنتيما، وحينما تجيء ساعة الدفع يقال لكم إن الميزانية ليست في حال تقدر بها على إنجاز ما وعدتم به، وإن الإدارة لم تبحث عنكم في فرنسا، فلماذا أتيتم إلى هنا؟

بينت في فصل سابق — عندما نقلت عبارات من منشور حاكم (شاطئ العاج) الحالي — همجية أساليبنا الاستعمارية ودرجة إيغارها صدور السكان، وقد أصابت جريدة (أفريقن ميل) الإنكليزية في قولها إنه لا بد من عصيان أولئك السكان الذين نود إلزامهم قسرًا نعم حضارتنا. فإليك ما جاء فيها:

آلت المعارك التي وقعت منذ سنتين في شاطئ العاج إلى حال لا نظير لها في تاريخ أفريقية الغربية الحديث، وقد نستنبط مما يقع الآن في شاطئ العاج عبرًا كثيرة أهمها خطل فرض الضرائب على قبائل الغابات الذين لم يفدهم الفتح الأوربي شيئًا، فسياسة مالية مثل هذه لا يتم تطبيقها إلا بأساليب ظالمة، كحرق القرى والإمعان في الغزو والقتل وكل عمل فاضح.

وإننا لا نعجب من تأهب أبناء المستعمرات للتضحية بكل عزيز لديهم كي يخلعوا نير الأجنبي الممقوت عنهم عندما يرون رجال الإدارة المتمدنين يعرضون على رؤوس الرماح هامات زعمائهم، ويرتهنون محاصيلهم حتى يؤدوا الضرائب المفروضة عليهم.

وإننا على سبيل إزالة الغم الذي استحوذ علينا من جراء فشلنا في الاستعمار نقول إن الألمان ليسوا أسعد منا في ذلك، وقد اتخذت البلجيك طرقًا جائرة في الاستعمار كطرقنا، غير أن إتقانها للأمور جعلها تبتز من مستعمرة الكونغو الكبيرة ثروات وافرة، وهي لبعدها من مثل زعمنا الكاذب الذي ندعي به أننا نحسن إلى الإنسانية تحسن إلى نفسها، وإحسان الشعب إلى نفسه لا إلى غيره هو أصلح منهاج في مادة الاستعمار.

١  إن كثيرًا من مسلمي الهند من العرب الخلَّص، وأكثر ما يشاهَدون في دولة نظام حيدر آباد، وقد بلغ تعصبهم وخطرهم في حيدر آباد مبلغًا جعل الحكومة الإنكليزية تحظر على الأوربيين اجتياز شوارعها بدون جواز وحرس، على أن منع اختلاط الهنود بالأوربيين أمرُّ عام، فكل مدينة في الهند تحتوى على حيين منفصلين في الغالب بكثير من الكيلومترات: أحدهما حيُّ الهنود والثاني حيُّ الفرنج.
٢  قال ابن خلدون عندما بحث في البربر: «هذا الجيل من الآدميين هم سكان المغرب القديم، ملأوا البسائط والجبال من تلوله وأريافه وضواحيه وأمصاره، ويتخذون البيوت من الحجارة والطين ومن الخوص والشجر ومن الشعر والوبر، ويظعن أهل العز منهم والغلبة لانتجاع المراعي فيما قرب من الرحلة لا يجاوزون فيها الريف إلى الصحراء والقفار الأملس، ومكاسبهم الشاء والبقر، والخيل في الغالب للركوب والنتاج، وربما كانت الإبل من مكاسب أهل النجعة منهم. شأن العرب ومعاش المستضعفين منهم بالفلح ودواجن السائمة، ومعاش المعتزين أهل الانتجاع والإظعان في نتاج الإبل وظلال الرماح وقطع السابلة.»
٣  البربر دون العرب أخلاقًا، فلقد اشتهروا منذ القرون القديمة بالختر، ولا ريب في أن كثرة عددهم في جيوش قرطاجة أوجب اشتهار حروب البون بالغدر، وعندما سأل أحد خلفاء بني أمية موسى بن نصير فاتح إسبانيا العربي عن البربر القاطنين في الأقاليم التي يتألف منها قطر الجزائر الآن، أجابه أنه ليس من يدانيهم في الخديعة والخيانة ونكث العهود.
٤  نشر الدكتور (كولين) بضع مقالات بحث فيها عن بلاد السنغال والسودان، فأثبت فيها نتائج عزمنا على إلزام جميع الشعوب أنظمتنا حيث قال: «إننا بهجومنا قبل الأوان على نظام المجتمع الزنجي سنخوض غمار حرب طاحنة يحاربنا فيها مسلمو الزنوج ووثنيوهم.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤